لقد كان المظنون أن تكونوا أسعد حالا، وأهدأ بالا وأكثر اغتباطا بالحياة، فإن المدنية الحديثة قدمت إلى جيلكم من متع الحياة وترف العيش ووسائل الترفيه عن النفس أضعاف أضعاف ما كنا نجده في جيلنا. فلم يكن عندنا راديو، ولا سينما، ولا تمثيل، ولا سفور، ولا موسيقى، ولا رقص، كالذي لكم في زمانكم. ولم يكن يتدفق المال علينا كما تدفق عليكم، ولا اتصلنا بالعالم وما فيه من لذائذ مثل اتصالكم، بل ولا نعمنا بالحرية كما نعمتم، ولا حققنا أنفسنا كما حققتم، فما الذي حيركم؟
لعل أهم ما حيركم وطمأننا، أننا كنا نركن إلى مبادئ وعقائد نؤمن بها كل الإيمان، ونسير عليها في حياتنا من غير شك، ونشجع السير عليها كل التشجيع، ونحتقر من خرج عليها كل التحقير ... فكانت أعمالنا تصدر عنا كما يصدر العمل عن عادة، ليس يحتاج الإتيان به إلى إلى روية ولا تفكير. ثم أتى جيلكم - خضوعا للمدنية الحديثة - فطوح بهذه المبادئ والعقائد والعادات والتقاليد، ولم ينشئ مكانها ما يسد مسدها ... فكان من ذلك فراغ لم يملأ، ومبادئ زالت ولم تعوض، وعقائد تهدمت ولم يبن مكانها؛ والطبيعة تكره الفراغ، وتكره السير على غير هدى، وتكره الهدم من غير بنيان، فكانت الحيرة والقلق والاضطراب.
قد كانت السلوة الكبرى للناس في جيلنا دينهم، فكانوا يؤمنون بالله، يعرفونه في الرخاء ويلجأون إليه في الضراء والسراء، ويركنون إليه إذا اشتد الخطب، ويفزعون إليه إذا نزل الكرب ... فيجدون في ذلك كله راحة من عناء، وعونا على الخير، وصيانة من الشر، وعزاء عند الشدائد. فلما نبت جيلكم وازدهر شبابكم عصفت عليه عاصفة من المدنية الحديثة، فذهبت بدينكم، وجردتكم من عقيدتكم، فلم تجدوا أرضا ترتكزون عليها ولا ركنا شديدا تأوون إليه.
والأنس بالدين طبيعة النفس وراحة الروح، فإذا سلبت من تأنس به أحست بالوحشة وتململت من الفراق. إن الناس يعدون الحواس خمسا، ولكني أعتقد أن هناك في كل إنسان حاسة سادسة هي حاسة الدين ... من فقدها فقد عنصرا هاما من عناصره، وركنا عظيما من أركان حياته؛ ولذلك هدأ المؤمن واضطرب الملحد، وهذا هو الشأن في الشرق والغرب، والمدنية القديمة والمدنية الحديثة.
لقد مر على العالم الغربي نحو قرنين، آمن الناس فيهما بالعلم كل الإيمان، واعتقدوا أن النظم السياسية والاقتصادية قادرة على إسعاد العالم ... فلما تقدم العلم وتقدمت النظم السياسية والاقتصادية ولم يروا سعادة، بل شقاء تلو شقاء، وحربا هائلة بعد حرب فاجعة، بدأ يتزلزل إيمانهم بأن العلم وحده كاف لإسعاد الناس، وأيقن كثير من العلماء بأن العلم في حاجة إلى الدين، وأن العقل في حاجة إلى القلب، وأن المنطق في حاجة إلى الحكمة.
وقد حكي أستاذ أنه سأل طلبة متقدمين في جامعات مختلفة حول سنة 1930: ماذا يؤملون في مستقبل العالم؟ فكانت أكثر إجابتهم مبنية على الأمل في العلم. فلما اضطربت الدنيا وتأهب العالم للحرب الثانية أعاد السؤال على أمثالهم، فكانت أكثر إجاباتهم أن لا أمل إلا بعون من الله.
أي بني!
إن الإيمان بالله يملأ فراغ النفس، ويحوي بالطمأنينة، ويوثق الصلة بين الفرد وأهله ووطنه، كما يوثق الصلة بينهم جميعا وبين الله.
فنصيحتي لك أن تؤمن ولو ألحد الناس، وتوثق الصلة بينك وبين الله ولو قطعها الناس.
أي بني!
صفحه نامشخص