إهداء
المقدمة
الجزء الأول
الحب الأول
عذاب الفقد
مرارة التعود
وتمضي الحياة
الأفراح تدق بابنا
همسات الحب
هدية عيد الميلاد
طعم السعادة
الجزء الثاني
المواجهة
إلى ابنتي
الغفران
وتتوالى الأحزان
ميلاد جديد
الحب الحقيقي
إهداء
المقدمة
الجزء الأول
الحب الأول
عذاب الفقد
مرارة التعود
وتمضي الحياة
الأفراح تدق بابنا
همسات الحب
هدية عيد الميلاد
طعم السعادة
الجزء الثاني
المواجهة
إلى ابنتي
الغفران
وتتوالى الأحزان
ميلاد جديد
الحب الحقيقي
إلى أبي
إلى أبي
تأليف
نجلاء لطفي
إهداء
إلى كل أب
كن لابنتك أبا وصديقا وسندا قبل أن تكون ممولا لاحتياجاتها؛ فهي تحتاج لحضنك قبل مالك، وتحتاج للإحساس بالأمان معك لا للخوف منك، لا تخجل من أن تظهر لها حبك؛ فذلك هو أهم وأقوى حب في حياتها لتكون قوية في مواجهة الحياة.
المقدمة
إلى كل أب قبل أن تفكر في خطوة الانفصال عن زوجتك، فكر أولا في تداعيات ذلك على أولادك، ولا بد أن تفرق بين انفصالك عن زوجتك وحق أولادك؛ فلا تحرمهم من عطفك وحنانك واهتمامك ووجودك في حياتهم، ولا من مالك؛ فهم ليسوا مسئولين عن سوء اختيارك، لكنك مسئول عن نشأتهم أسوياء.
الجزء الأول
أبي العزيز، لا أعلم كيف أبدأ رسالتي إليك - التي ربما تكون الأخيرة حيث لم يعد أمامي الكثير - ولكني أعلم لم قررت أن أكتبها الآن لك؛ لأريح قلبي من عبء ثقيل يرزح تحته ويثقله، وأنا أحب أن أتخلص من أعباء القلب في تلك المرحلة، كما أني أردت أن أطلب منك أن تسامحني على سوء الظن بك حينا، وعلى فورات الغضب التي كانت تجتاحني عندما كنت مراهقة غضوبة، فكنت أخاصمك لفترات طويلة، وكنت أحملك مسئولية كل الكوارث التي تقع لي.
لكني الآن وأنا أجلس بمفردي بهدوء بعد مرور سنوات عديدة على كل شيء صرت أرى الصورة بشكل أوضح؛ لذا قررت أن أرسل لك رسالتي تلك؛ لأوضح لك الكثير، وأستوضح منك كل شيء.
الحب الأول
دعنا نبدأ من البداية تماما لا أعلم متى أحببتك، هل عندما تكونت كجنين في بطن أمي؟ أم قبلها عندما كنت مجرد روح؟ أم بعد ميلادي؟ لا أعلم لكن كل ما أعلمه أني كنت دوما أحبك، لا بل أعشقك، وكنت مدللتك التي لا ترفض لها طلبا أبدا. كنت صغيرة جدا يا أبي، لكني ما زلت أتذكر عندما تعود من عملك متعبا وتخلع جاكيت البدلة والحذاء فأسرع لأرتديهما، وبالطبع كان جاكيت البدلة أكبر مني بعشرات المرات، وكذلك الحذاء، لكنك كنت تضحك أنت وإخوتي عندما أقول: «أنا بابا أنا كبيرة»، ثم تمسكني بيدك لتمنعني من السقوط بعد تعثري في هذا الحذاء الكبير، فكنت أشعر أن تلك اليد الكبيرة ستحميني دوما من السقوط.
كم كنت أسعد عندما تأخذني معك عندما تخرج لملاقاة أصحابك، وأجلس بجوارك في السيارة وتطلب مني أن أغني لك وتضحك على غنائي، بل وتغني معي، وكنت أشعر بالأمان عندما تقبع كفي الصغيرة في دفء كفك الكبيرة وأنت تمسك بيدي ونحن نسير معا في الطريق، حينها كنت أشعر أني أقوى شخص في الكون، كنت قوية بك يا أبي وبوجودك بجواري، كنت حينها أشعر ألا أحد في هذا الكون يستطيع إيذائي؛ لأنك كنت بطلي الذي سيدافع عني ويحميني. وزاد من ذلك الشعور ربما ضآلة جسدي كطفلة حينها، وضخامة جسدك؛ فقد كنت طويلا وعريضا بشعر أسود مجعد وعيون عسلية وابتسامة حنونة أعشقها وأخاف عندما تختفي من وجهك.
كنت تصطحبني معك كثيرا في كل مشاويرك لزيارة أصدقائك الذين كانوا يحبونني ويغمرونني بالهدايا والتدليل، كما كنت أسعد كثيرا عندما تصطحبنا لزيارة أقاربك في بلدتك الصغيرة؛ فقد كنت دائما واصلا للرحم، وكنت تشجعني وإخوتي دائما على صلة الرحم.
ولا أنسى مغامرتنا السرية التي كنا نخفيها عن أمي عندما ذهبنا مرة مع أحد أصدقائك؛ لنخطب له فتاة جميلة ما زلت أتذكرها حتى الآن، وقلت لي: «لا تخبري أمك.» وعندما سألتني أمي «أين كنتم؟» قلت لها بمكر: «لا أعلم، اسألي أبي.» فكانت تغضب وكنا نضحك معا، كما أنك مرة أتيت لمدرستي وأخرجتني من اليوم الدراسي أنا وجاراتي اللاتي كن معي في نفس المدرسة ، وأخذتنا لنتنزه وأحضرت لنا الأيس كريم، ثم أعدتنا للبيت دون أن تخبر أحدا بما فعلت، كنت فرحة جدا بتلك المفاجآت التي تخصني بها والتي تشعرني بأني حبيبتك المميزة، كما كنت أنت بطلي المميز الذي لا مثيل له في الكون.
ولا أنسى رقة قلبك تجاهي؛ فلم تكن تحتمل دموعي أو غضبي، فكنت تسرع لمصالحتي فورا، وفي الشتاء كنت أرتجف من البرد بسبب ضعف بنيتي، فكنت تفرك بيديك قدمي حتى تدفئهما، كما كنت تضمني لصدرك بقوة لتمنحني دفء جسدك، فكانت تلك أسعد لحظات حياتي؛ فأنا في حضنك لن يمسني سوء أبدا.
كان تدليلك لي محل حسد صديقاتي، وربما أشعر إخوتي بقليل من الغيرة، لكنك كنت تقول دائما: «أدللها لأنها صغيرة كما كنت أفعل معكم.» كنت تمنحني مصروفا كبيرا أكبر من كل صديقاتي، كما كنت أنال أحيانا بعض المكافآت الاستثنائية عندما أقوم لك ببعض الخدمات، كأن ألمع لك حذاءك، أو أحضر لك جاكيت البدلة، كانت أعمالا محببة لقلبي، لا لأني أنال المال مقابلها فقط، إنما لأني أنال رضاك، وتلك الابتسامة الحنون.
كنت تحرص على الاحتفال بعيد ميلادي، وكان ذلك اليوم بمثابة العيد بالنسبة لي، حيث أشتري فستانا جديدا لتلك المناسبة، وأدعو كل أصحابي وأقاربنا، ونقيم احتفالا مبهجا يتحدث عنه الجميع، وكان أجمل ما في ذلك اليوم صورتنا معا وأنت تقبلني وتحتضنني، كانت أياما جميلة يا أبي ما زالت محفورة ذكرياتها على جدار الروح والقلب.
كنت صغيرة جدا لم أتجاوز الست سنوات، لكني ما زلت أتذكر كيف كنت تجمعنا أنا وإخوتي وتحدثنا عن الصدقات، وإسعاد الفقراء، وكنت لا تكتفي بالحديث، بل كنت تطبق ذلك عمليا، فكنت تمنح الفقراء مالا، أو تجعلنا نحن من نعطيهم المال أو بعض الطعام الجيد حتى تعلمنا العطاء، كنت تحثنا دائما على صلة الرحم، فكنا نزور أقرباءك وأقارب أمي، وكان بيتنا مفتوحا للجميع؛ الأهل والأصدقاء والجيران، وكنت تكرم الكل.
ألم أقل لك كنت بطلي، ولم تكن ككل الأبطال يخرجون من الأساطير والحكايات، لكنك كنت واقعا متجسدا أمامنا، فكلما كبرت وفهمت واستوعبت ما كنت تفعله، كنت أزداد لك عشقا يا أبي. لم أكن أرى بك أية عيوب، ربما بسبب صغر سني وشدة تعلقي بك، وربما لأنك كنت تدللني فقط ولم تعاقبني يوما ولم تعنفني على خطأ ارتكبته، وربما لأني كنت أراك - ككل المحبين - بعيون قلبي فقط.
كنت تعشق عملك وتقضي معظم وقتك فيه؛ لذا في الإجازات كنت تصطحبنا لزيارة أخوالي وخالاتي وتقضي معنا عدة ساعات ثم تعود لعملك، وكذلك في الإسكندرية كنت تأتي معنا في اليوم الأول وتنزل معنا البحر وأنت تحملني - لأني كنت خائفة من الأمواج جدا ولم أشعر بالأمان إلا في وجودك معي - ثم تتناول معنا الغداء وتتركنا وتعود لعملك؛ فقد اعتدنا أن نقضي الإجازات بدونك، وكنت دوما تقول لنا: «أنا مشغول بعملي لأحضر لكم ما تحتاجون من مال.» ورغم استمتاعي بالإجازة لكني كنت أفتقد وجودك معي.
عذاب الفقد
لا أحب أن أتذكر تلك المرحلة؛ فقد كانت قاسية على قلبي جدا وبعثرت روحي لأشلاء، وما زلت حتى اللحظة أحاول لملمتها ولم أفلح. كنت في زيارة لبيت خالي أنا وأمي وإخوتي بمفردنا كعادتنا، وكنت أنت في البيت وحدك كعادتك بحجة عملك، ووصلنا ذلك الخطاب اللعين - فقد كانت الخطابات هي الوسيلة الوحيدة للتواصل في تلك الفترة - ذلك الخطاب الذي أثار اضطرابا عظيما بين الجميع، كان خطابا منك موجها لأمي فأحزنها كثيرا وأخفى الجميع فحواه عني، لكني شعرت من همساتهم ومن دموع أمي أن به خطبا عظيما، لكني لم أتخيل يوما أنه سيزلزل كل كياننا ويهدم سعادتنا ويحولنا لأشخاص لم نكن نتخيلهم. كان ذلك الخطاب نقطة تحول خطيرة في حياتنا جميعا الذي عرفت فحواه من ابنة خالي وصديقتي التي قالت لي: «والدك تزوج بأخرى وطلق والدتك.» لم أستوعب كلماتها في البداية، ولم أفهم ماذا تعني، لكني كنت مذهولة وأشعر أنه خطب عظيم لأن أمي لم تكف عن البكاء وخالي، لم يكف عن الوعيد، وأخي وأختي الأكبر مني ضائعان، فانتظرت حتى هدأ الجميع وتسللت إلى جوار أمي في سريرها التي ضمتني وهي تبكي فقلت لها: «أنا أعرف كل شيء وأعرف أنه تركنا وذهب لغيرنا لكنني لن أسكت، سأخاصمه ولن أكلمه أبدا.» قلتها من خلال دموعي وأنا غير مستوعبة لما حدث وغير مصدقة أنك بإمكانك أن تتركني وتتخلى عني من أجل أخرى.
نعم يا أبي حينها لم تكن قضيتي هي قضية أمي وأخوتي، بل كانت قضيتي أنا، هل هنت عليك؟ هل تستطيع حقا أن تتركني بسهولة؟ هل ستقدر على بعدك عني؟ ألن نمرح سويا مرة أخرى؟ ألن نخرج معا وتكون لنا أسرارنا؟ ألن أكون مدللتك وحبيبتك؟ أسئلة كادت أن تطيح برأسي الصغير الذي لم يكن قادرا على استيعاب ما حدث ولا يعرف لم هجرتني، هل فعلت شيئا يغضبك؟ سأعتذر لك عشرات المرات وأعدك ألا أفعل إلا ما يرضيك، ولن أرهقك بطلباتي ولا شكوتي من إخوتي وشدة أمي، لا أحتاج لأعياد ميلاد ولا فساتين ولا حتى دمى، ولكني فقط أحتاجك معي، أرجوك إن كنت أخطأت أنا أو أمي وإخوتي فسامحنا فلن نغضبك مرة أخرى، فقط لا تهجرنا وعد إلينا، فأنا لا أتخيل حياتي بدونك، فأنت محورها وأساسها، أنت لست أبي فقط، بل أنت حبيبي وملكي أنا وحدي، نعم قد أسمح لأمي وإخوتي بمشاركتي في حبك واهتمامك لكنني لن أسمح لتلك الغريبة بأن تشاركني فيك، بل إنها ستأخذك مني تماما، أرجوك يا أبي قل لي إن هذا كابوس، وسأفيق منه لأجدك بجواري تمسك بكفي الصغيرة بين يديك وتقول: «لا تخافي، فأنا بجوارك.»
ليته كان كابوسا وسينتهي، لكنه كان واقعا وسيستمر للأبد أقررته أنت عندما جئت لزيارتنا بعد عودتنا من السفر، وجلست بيننا لتخبرنا أنك لن تبتعد عنا، بل ستزورنا مرتين أو ثلاثا أسبوعيا، وأن لا شيء سيتغير في حياتنا، بل سنعيش كما كنا وأنك لن تتخلى عنا مهما حدث، وأنك تكن لأمي كل التقدير ولكنكما اختلفتما ولا مجال لاستئناف الحياة بينكما، فكان لا بد من انفصالكما. سكت أخي وأختي وبكيت أنا فضممتني إليك وقلت: «لا تخافي لن أتركك.» وقلت لأخي الغارق في مشاكل مراهقته إنه صار رجلا وسيحل في البيت محلك، وعليه أن يتحمل مسئوليتنا، وطلبت منا طاعته. كان قلبي يصدق كل كلمة تقولها ويتمنى أن تكون حقيقة لكن عقلي الصغير ظل يرددها حتى كادت أن تخنقني «لقد هجرك للأبد»، كنت أردد لنفسي لأطمئنها أنك لن تقدر على فراقي ولا بعدي عنك، لكنك قدرت.
مرت الأيام التالية كأسوأ ما يكون حيث غضب أخوالي لما فعلته بأمي، وقرروا أن يجلسوا معك لتحصل أمي على كل حقوقها، فكان كل ما يهمهم حقوقها المالية، وأن يعاقبوك على فعلتك حتى إن أحدهم قال: «فليأخذ أولاده معه، ونأخذ أختنا معنا.» ورغم ضعف أمي وانكسارها الشديد إلا أنها قالت بقوة وبحسم: «بل سأبقى مع أولادي في بيتي ولن أتركهم، لكن عليه أن يتعهد بأن ينفق عليهم ولا يتخلى عن مسئولياته.»
جئت لتحضر تلك الجلسة العاصفة، وكنت أظنك ستعتذر عما حدث وتعود إلينا، لكنك عدت لتحقق لأمي وأخوالي كل مطالبهم، فأعطيت أمي حقوقها كاملة وتعهدت بالإنفاق علينا وعليها لآخر لحظة في حياتك، وأنك لن تتخلى عن مسئولياتنا أبدا. انتهت الجلسة العاصفة وانصرف كل فرد لحياته، وبقينا نحن نلملم شتات أنفسنا التي تحطمت على صخرة الرغبات، ولم يبال أحد بالشرخ الذي حدث في نفوسنا.
في أول أسبوعين نفذت وعدك والتزمت بزيارتنا، ولكن بعد ذلك تباعدت زيارتك حتى صارت مرة كل أسبوع ثم مرة كل عشرة أيام، ثم صارت حسب هواك، وفي كل مرة كانت أمي تدخل حجرتها وتغلقها عليها كأنها ترفض أن تراك أو حتى تسمع صوتك، ورغم عشقي لك إلا أني كنت متعاطفة معها بشدة حيث كانت تدعي التماسك أمامنا وتقول لنا إن الحياة لا بد أن تمضي بحلوها ومرها، لكنها كانت تبوح لوسادتها فقط بدموعها. أنت أيضا تغيرت أكثر فأكثر، فلم تعد تأتي لزيارتنا إلا نادرا إنما كنت تطلب منا أن نأتي لزيارتك في بيتك الجديد، وكنت تصر على أن نلتقي بزوجتك ونحبها، حقا لم نستطع أن نحب من سلبتنا أبانا لكننا كنا نعاملها باحترام خاصة بعدما أنجبت منه إخوة لنا.
تغيرت أكثر وأكثر يا أبي عندما أنجبت أطفالا وصار لك أبناء غيرنا، فكأن مشاعرك تجاهنا قد جفت، بل وتجمدت، فصرنا بالنسبة لك مجرد مسئولية وأعباء مادية تؤديها على أكمل وجه.
تغيرنا جميعا يا أبي بعد ذلك، وكنت أنت أول من تغير، فلم أعد نهلة مدللتك وحبيبتك وكاتمة أسرارك، إنما صرت أحد القيود المطوقة لرقبتك، لم تعد لديك تلك اللهفة ولم أعد أرى تلك الابتسامة الحنون، إنما تبدلت بنظرة باهتة فاقدة لكل المشاعر التي كانت بيننا، لم تعد تسعد برؤيتي ولا تتلهف على ضمي وتقبيلي كما كنت دائما، إنما صرت تكتفي بالسلام باليد، حتى يداك فقدتا دفئهما، ولم أعد أشعر بهما كما كنت من قبل.
أنا أيضا تغيرت كثيرا؛ فقد عرفت الحزن ومرارة الفقد في سن صغيرة ومزقت قلبي الصغير الآلام، كنت أتألم في بعدك وغيابك عني، كنت أفتقد حبك واهتمامك وتدليلك لي، كنت أشعر أنك يوم هجرتني نزعت السعادة من حياتي وتركت لي فقط الأحزان، سلبت روحي من جسدي وتركتني جسدا يدعي أنه يحيا حتى إنني في الثامنة من عمري كنت أدعو الله أن أموت، فأنا لم أعد أحب تلك الحياة، وظلت تلك دعوتي، ويبدو أن الله استجاب لي أخيرا. تغيرت يا أبي وصرت أتحكم في لهفتي ومشاعري؛ فلم أعد أجري تجاهك لأحتضنك وأقبلك لأنك ستقابلني بصد وجفاء وتقول لي: «لقد كبرتي على ذلك.» ومن قال إن الفتاة تكبر على حبها واحتياجها لأبيها؟ من قال لك يا أبي إن المشاعر لها عمر؟ هل كانت تلك حجتك لتبرر جفاف مشاعرك تجاهي؟ أم إنك لم تعد تحبني؟ تعلمت من يومها ألا أتسول الحب وألا أبوح بمشاعري لأحد، تعلمت أن كتمان الحب والحزن صيانة لكرامة المرء. تغيرت يا أبي لكني يوما لم أستطع التغلب على ذلك الحنين الذي طالما أرقني وآلمني، ولم أجد يوما إجابة على سؤالي لم هجرتني؟
أمي أيضا تغيرت؛ فقد تغلبت على أحزانها وقررت أن تتأقلم مع وضعها الجديد كمطلقة عليها أن تقوم بتربية ثلاثة أطفال بمفردها، حقا أنك لم تقصر ماديا في طلباتنا واحتياجاتنا، بل كنت تجعلنا نعيش في مستوى مادي أعلى من كل من حولنا، لكن حمل أمي كان ثقيلا جدا؛ فهي تحمل عبء شاب في سن المراهقة وفتاة على أعتاب المراهقة وطفلة صغيرة، فكان عليها أن تكون أما وأبا في آن واحد، كان عليها أن تواجه كلام الناس وسوء ظنونهم بمفردها. لقد واجهت - كما فهمت عندما كبرت - طمع الطامعين في جمالها وشبابها حيث كانت في بداية الأربعينيات من عمرها، وصدمها تخلي بعض الجارات والصديقات عنها خوفا على أزواجهن منها؛ لأن المطلقة في نظر المجتمع امرأة تبحث عن تعويض في رجل آخر.
أكثر ما أعجبني في أمي أنها صارت أقوى ولم تبال بكلام الناس وقررت أن تعيش الباقي من عمرها كما يحلو لها ما دامت لا تغضب الله؛ فكنا نخرج معها للسينما أحيانا ونسافر المصيف ونذهب لزيارة أقاربها، في حين انقطع عنا بعض أقاربك وكأن قرابتنا تنتهي بغيابك، لم تهتم أمي بأحد، بل كان كل اهتمامها بسعادتنا وسعادتها فقط. تغيرت أمي، فبعد أن كانت تدور في فلكك لعدة سنوات تحررت من جاذبيتك التي استنزفت أجمل سنوات عمرها لتتركها بحجة أنها كبرت ولم تعد تلبي مطالبك، تحررت منك وعاشت حياتها لا تدور في فلك أحد إنما صار لها فلكها الخاص بها.
تغلبت أمي على أحزانها وصرت بالنسبة لها مجرد ذكرى حب مؤلمة لا تريد أن تتوقف عندها، وعرض عليها الكثيرون الزواج، لكنها لم توافق لأنها رفضت أن تكون زوجة ثانية وتذيق امرأة لا ذنب لها مرارة ما ذاقته هي، وكانت تبرر رفضها ضاحكة وتقول: «من تلك البلهاء التي تأتيها الحرية على طبق من فضة وتفرط فيها بسهولة وتعود لتقيد نفسها بسلاسل رجل آخر؟ حريتي لن أفرط فيها.»
وتغير أخي سليم أيضا يا أبي، فقد كان مجرد مراهق يعيش حياته ولا يحمل لها هما، فجئت أنت في لحظة واحدة فهدمت المعبد على رأسه وأمرته أن يكون أبا لأخواته البنات، وأن يكون مسئولا عنهن وهو لم يكن حتى مسئولا عن نفسه، تخليت أنت عن مسئولياتك المعنوية التي اخترتها بإرادتك وحملتها فوق كتفي أخي الهزيلتين فكان حملا ينوء به الأقوياء فما بالك بشاب مراهق؟! في أول عامين كان يتخبط ولا يعرف ماذا يفعل ولا كيف يؤدي دوره، ثم بعد ذلك تحمل العبء كاملا وما زال يحمله حتى الآن، أنضجته الهموم والمسئولية قبل أوانه، فكنت أرى في عينيه مسحة حزن، وكلمات مكبوتة في صدره لا يبوح بها لأحد، لكني كنت أرى نظرة عطف وحب لنا، وكان حقا يبذل كل جهده ليعوضنا غيابك، لكن من يعوضه هو غيابك؟ لقد تركته يتخبط في هذا العالم بمفرده.
تغيرت أيضا أختي سلوى؛ فتلك الفتاة اللبقة الذكية صارت متمردة على كل شيء وتفعل ما يحلو لها وهي تعرف أن أحدا لن يعاقبها، وكانت تتعمد مشاكسة أمي كأنها تعاقبها لأنها سبب تركك لنا، وكانت تفعل كل ما هو ممنوع ومرفوض، ربما لتجذب الانتباه أو ربما لتقول للجميع أنا لم أعد أبالي بكم كما لم تبالوا بي، كان تمردها مزعجا لأمي كثيرا وتسبب في العديد من المشاكل والعداوة بينها وبين أخي الذي كان يرى نفسه مسئولا عنها وعليه تقويمها، وكانت ترى أنه مثلها ولا يحق له أن يمارس أية سلطات عليها، فكان البيت في فترة مراهقتها التي طالت مشتعلا دائما والكل منشغل بها.
تغيرنا كلنا بعد هجرك لنا، ولم نعد كما كنا من قبل؛ فهناك أحداث تمر في حياة الإنسان تكون بمثابة ميلاد جديد له، وأحداث تكون بمثابة انقلاب فتغير كل حياتنا، وأحداث تكون كالزلزال تهدم كل ما قبلها ليبنى من جديد. فكان هجرك لنا مزيجا من كل هذا، فتغيرت أنت كما تغيرنا، تغيرت شخصياتنا بتغير مسار حياتنا، وتغيرت مشاعرنا وأفكارنا، حتى ملامحنا تغيرت، فقد صارت أقسى، فما اكتسبناه جميعا أن نضع قناعا صلبا على وجوهنا حتى لا يعرف الآخرون ما نكابد من آلام، فلا نريد شماتة ولا شفقة من أحد، وكذلك أحطنا قلوبنا بأسوار وحصون حتى لا يسهل الدخول لها، فلن نسمح لأحد مرة أخرى أن يحطمنا كما فعلت أنت بقلوبنا الخضراء التي كانت مجرد براعم تتفتح على الحياة، فدهستها بقدميك ومضيت في طريقك.
تغيرنا جميعا يا أبي وتغيرت أنت معنا، فلم تعد بعد أن هجرتنا سعيدا مبتهجا كما كنت معنا، فقدت روحك شيئا ما، وفقدت عيناك لمعتهما، وفقدت ابتسامتك الحنون التي كانت تبهجني، لكن يبدو يا أبي أن الفقد قدرنا وعلينا أن نرضى به ونتعايش معه، وقد علمنا أن نكون أقوياء.
الفقد يا أبي إحساس قاتل للقلوب حقا، وخاصة فقد الأب فعندما نفقده بالموت يكون قاسيا، لكننا نظل نحلم لو كان حيا لفعل كذا وكذا من أجلنا، لكن الأشد قساوة فقد الأب وهو على قيد الحياة، فهو يفعل الكثير من أجل الآخرين، لكنه لا يفعل إلا القليل من أجل أبنائه، بل ويحرمهم من الكثير.
مرارة التعود
تعودنا نعم يا أبي تعودنا غيابك كما يعتاد الإنسان على كل شيء مؤلم أو مبهج في حياته فيفقد أثره في الوجع أو الفرح، مضت بنا الحياة ولم تعد تؤلمنا تعليقات الناس السخيفة ولا ذمهم فيك لهجرك إيانا، ولكن لأصدقك القول، كانت تؤلمنا ولكننا تعودنا حتى أن نخفي آلامنا عن كل العيون. حل أخي محلك، فكان الأب والأخ والصديق، وحاول بقدر استطاعته تعويضنا، وصارت أمي أقل حزنا وأكثر بهجة عما قبل، أما أنا وأختي فكنا ككل أختين نتشاحن ونتصافى ونعيش الحياة ببهجتها ونقتنص منها لحظات المرح؛ لنتزود بها قبل أن تداهمنا لحظات الحزن مرة أخرى. هل تعلم ماذا فعل بنا الاعتياد؟ جعل أي حزن أو مشكلة ينكسر على صخرة برودنا ولا مبالاتنا، بل ونتغلب عليها بالسخرية، صرنا نحول كل مشاكلنا وأحزاننا لموضوع مثير للسخرية ونظل نضحك أنا وإخوتي ولا نحمل للدنيا هما، فماذا ستفعل بنا أكثر من انتزاعك منا، وسلب راحتنا واستقرارنا؟ لا شيء.
تعودنا الغياب ومضينا في طريقنا، فاختار أخي طريق التجارة مثلك من خلال دراسته في كلية التجارة، واخترته أنت ليعمل معك في شركة المقاولات كموظف مثله مثل غيره حتى يعتمد على نفسه، فرفض وفضل العمل في بنك ليستقل بنفسه بعيدا عنك . واختارت أختي دراسة التاريخ لتعمل كمرشدة سياحية، حيث كانت تحلم بالسفر دائما والتحليق بعيدا عن حياتنا لتخلق حياتها الخاصة بها بلا قيود ولا تحكمات من أمي وأخي.
أما أنا فاخترت أن أكون متميزة في سلوكي وفي تعليمي من أجل أمي حتى لا تسمع الكلمة المعتادة «المطلقة تفشل في تربية أبنائها بمفردها بلا رجل»، أردت أن تفتخر بي أمي وألا يعيرها أحد بتربيتنا، وفي أعماقي كانت هناك رغبتان تتصارعان؛ الأولى أن تفخر بي أنت أيضا، والثانية أن تشعر بالندم على هجرك لي وأنك لم تكن معي وأنا أحقق نجاحي.
حتى زوجتك اعتدنا عليها ولم نعد نكرهها كما كنا من قبل، اعتدنا وجودها في حياتنا كأمر واقع لم يعد يزعجنا، خاصة بعد أن أنجبت إخوتنا الصغار، كما أنك لم تعد تأتي لزيارتنا وصار علينا أن نلتقي بك في بيتها، وأن نحكي كل ما يخصنا في حضورها، فكنا نحكي الضروري فقط، ونحجب عنك باقي تفاصيل حياتنا التي لم تعد تهمك في شيء، ولم تعد تريد سماعها. اعتدنا عليها واعتدنا على الصغار الذين أحببناهم بالفطرة لأنهم دمنا وشركاؤنا فيك، لأنهم لا ناقة لهم ولا جمل في كل الأحداث، لأنهم مثلنا مفعول بهم، أحببنا الصغار وخاصة الطفلة الوسطى بين الولدين لأن حقها كان مهضوما بين الكبير الذي تفضله لأنه يشبهك وبين الصغير الذي تغدق عليه أمه بتدليلها، فكانت تلك الطفلة تشبهنا، فهي تائهة مثلنا لا تدري لمن تنتمي ومن يبالي بها، فكنت أشفق عليها بل وأحبها لأنها جميلة وبريئة جدا، حتى هي اعتادت على الإهمال والتجاهل، ألم أقل لك يا أبي إن كل الأحزان تخف وطأتها مع التعود؛ فهو قادر على التغلب على الآلام والأفراح وحتى المشاعر، فكل شيء بالتعود يفقد أثره.
وأنت يا أبي اعتدت أن ترانا في أول كل شهر عندما نحضر إليك لنأخذ مصروفاتنا الشهرية، فاعتدت غيابنا، واعتدت تجاهل كل شيء عنا، ولم تعد تبالي سوى بنجاحنا الدراسي فقط وكأنك تدفع المال مقابل النجاح، واعتدت على برود مشاعرك تجاهنا وبرود مشاعرنا أيضا ، اعتدت على الغياب فلم تعد تسأل عن أحوالنا، ولم تعد تبالي من حضر ومن غاب، اعتدت أيضا أننا مجرد عبء عليك تحمله فقط بلا مشاعر وبلا اهتمام حقيقي، كنا فقط حاضرين في كل المناسبات العائلية لتثبت للجميع أنك لا تقصر في حقنا.
كان التعود في البداية بالنسبة لي صعبا جدا ومؤلما، لكن مع تكرار المواقف تعودت، لكني أيضا تعودت كتمان مشاعري ومخاوفي، بل وأحلامي، كنت أحتفظ بكل ذلك لنفسي ولا أشارك به أحدا. أنا أيضا اعتدت أن صحبة الكتب أفضل من صحبة البشر، لكن ليس معنى هذا أني لم يكن لي صديقات، بل كان لي من الجيران ومن الأقارب، وكذلك من سنوات الدراسة، وكن كلهن يحسدنني على غيابك، وأني ليس لي من يتحكم في خروجي أو ملابسي أو أصدقائي مثلهن، بل ويحسدنني على المال الذي تغدقنا به، فكانت إجابتي دائما: «خذوا المال والحرية وأعيدوا لي أبي أو أعطوني والد إحداكن.» في البداية كانت تغضبني تلك المزحات، لكني اعتدت عليها أيضا، بل كنت أضيف ساخرة لصديقاتي: «سأتزوج والدك وأصبح زوجة أب وأعذبك.» فكنا نضحك جميعا. كما كانت صديقاتي يحسدنني على جمالي وتميزي عنهن بالعيون الزرقاء، لكني اعتدت على ذلك الجمال الذي أطالعه كل يوم في المرآة ولم أجده فاتنا كما كانوا يقولون، لكن من حولي كانوا يرون تميزي في جمالي وثراؤك فقط، فقررت أن أجعل تميزي في نجاحي لا في شكلي، فجمال الشكل يفقد أثره بالتعود - ككل شيء - لكن النجاح يدفع للمزيد من النجاح.
قررت أن أتغاضى عن كل رغبات المراهقة الجامحة في أن ألفت انتباه الشباب وأن أكون محبوبة - رغم أني كنت أتوق لذلك، لكن في الوقت المناسب - وأن أهتم بدراستي لأحقق نجاحا لم يحققه أحد، فكنت أكرس وقتي للدراسة والقراءة، فالعلم والاطلاع هما من يخلقان الإنسان الناجح ويدعمان ذلك النجاح، وكل هذا يحتاج لإرادة قوية. في رحلتي نحو النجاح اعتدت على تعليقات زميلاتي وقريباتي بأني معقدة أحيانا ومغرورة أحيانا، كما اعتدت على تعليقات الكثيرين بأني جادة جدا في نمط حياتي، وحادة جدا في التعامل مع الجنس الآخر. حقا كنت معقدة إلى حد ما، لا أستطيع إنكار ذلك، فكان إحساسي بأني مهجورة يتغلب علي كثيرا، لكني لم أكن يوما مغرورة إنما كنت منغلقة على ذاتي لا أبوح بمكنون نفسي سوى لوريقاتي، فهي الوحيدة التي أثق أنها لن تفشي أسراري أو تسخر مني، ولن تستطيع هجري كما فعلت أنت، وكما فعلت صديقة الطفولة التي كنت أشاركها آمالي وأحلامي وأحزاني، وكنت أظنها نصفي الآخر حتى أفقت على واقع مرير، أنها كانت تستغلني وتدعي حبي والإنصات لي والاهتمام بي؛ لتنفذ إلى عالمنا وتستمتع بثرائنا فتقترض ملابسي وأدوات الزينة والحلي الذهبية التي كنت أملكها لتبدو في وضع اجتماعي مخالف لحقيقة وضعها، وظهرت حقيقتها أمامي عندما رفض أحد جيراننا حبها مصرحا لها أنه يحبني أنا ويريدها أن تقرب بيننا، فحكت له عني وعن أسرتي أكاذيب لتجعله يكرهني؛ ولتشوه صورتي في نظره، ولم أعلم بذلك شيئا إلا عندما حكت إحدى الجارات لأمي عن الأكاذيب التي تروجها صديقتي عني وعن أسرتنا، فلم أصدق وواجهتها، فقالت بمنتهى الغل: «أنت تملكين كل شيء، المال والجمال والمستوى الاجتماعي، والكل يراك جديرة بالحب والاحترام، لكن لا أحد يراني، ولا أحد يهتم بي، لماذا؟ لماذا تحظين بكل شيء ولا أحظى بشيء؟ لماذا يحبك الجميع رغم أنك لا تتحدثين مع أحد، بينما يرفضونني أنا الاجتماعية اللبقة الأكثر ذكاء منك؟ أنا من أستحق كل شيء وأنت لا تستحقين شيئا؛ لذا هجرك أبوك لأنك لا تستحقين الحب.» كانت كلماتها الضربة القاضية التي أتت على قلبي ومزقته إربا بعد أن قضيت سنوات ألملمه، فلفظتها من حياتي للأبد، ولم أقبل اعتذاراتها المتتالية ولا وساطة من وسطتهم بيننا، وبنيت حول قلبي ألف جدار وأغلقت عليه بألف مفتاح لأحميه من الألم.
لقد اعتدت كل شيء في حياتي يا أبي، لكني لم أستطع التعود لا على الغدر ولا على الهجر أبدا، فكلاهما كان يقتلني ألف مرة ويمزق نياط قلبي. لكني اعتدت الوحدة بسهولة، بل فرضتها على قلبي بسهولة، فكان لي العديد من الزميلات، لكني لم أسمح لأي شخص أن يحتل مساحة خاصة في قلبي حتى لا يتمكن من جرحه بسهولة، فجراح الغرباء تلتئم بسهولة، لكن جراح الأحبة لا تلتئم أبدا لأنهم يعلمون كيف يقتلوننا بدم بارد.
اعتدت أيضا أن أتحمل سخافات الناس بلا مبالاة؛ فكثير من الناس قد يجرحك بكلامه بدون قصد أو متعمدا، وهو لا يعلم ما تفعله الكلمات في القلوب وأظل أفكر كثيرا هل أبادله جرحا بجرح وألما بألم؟ في البداية كنت أفعل ذلك لكني لم أكن أشعر بالارتياح؛ لذا قررت أن أسلك الطريق الأصعب وهو كظم الغيظ ومقابلة سخافات الناس بابتسامة باهتة أو بتجاهل، وخاصة تلك الملاحظات التي تتعلق بك وبتركك لنا وبعدك عنا، حتى ألم تلك الملاحظات اعتدت عليه، لكني كنت دائما أتساءل ماذا يفيد الناس من تدخلهم في حياة الآخرين؟ وهل يستمتعون بإيذائهم؟
كما سبق أن قلت لك يا أبي إني اعتدت الوحدة، لكن هل تعلم أني لم أكن أبدا وحيدة، فقد علمتني الوحدة وآلام الحياة أن أكون في معية الله فاقتربت منه كثيرا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن ساعدتني أمي على ذلك بالقول والفعل، فقد استطاعت التغلب على آلامها باللجوء لله، وأكملت مشوارها الثقيل وحدها وهي مستعينة به وحده، تعلمت من أمي أن ألجأ في كل أحوالي لله وحده. لم تكن وحدتي سوى لجوء إليه أو تعبد وتأمل في ملكوته، فكنت أعشق وحدتي لأني أبوح له وحده بما في قلبي وأطلب منه وحده العون والهداية، فأحببت وحدتي كثيرا.
حتى في قربي من الله لم أسلم من تدخل الناس بل وسخريتهم، فأطلقوا علي لقب «ست الشيخة»، فلم أغضب من اللقب بل أحببته واعتدت عليه، وكنت أدعو الله دائما أن يثبتني ويهديني.
ألم أقل لك إن للتعود تأثير السحر على كل الأشياء، وله القدرة على أن يفقدها قيمتها؟!
وتمضي الحياة
نعم يا أبي تمضي الحياة بحلوها ومرها، بإرادتنا أو رغما عنا ستمضي وقد مضت حياتنا وكانت فيها لحظات فرح كثيرة، كلحظة تخرج أخي الذي أصررت أن يعمل معك ثم اختلفتما بعد فترة وترك العمل معك في شركتك وعمل كمحاسب في بنك. وكانت هناك لحظة فرح أخرى وهي تخرج سلوى من الجامعة بعد عدة سنوات رسوب، ولكنها أخيرا تخرجت ففرحت أمي بذلك كثيرا، لكن سرعان ما تبددت تلك الفرحة بسبب رغبة سلوى بالعمل كمرشدة سياحية ورفض أمي الشديد لذلك ومع إصرار سلوى احتدم الخلاف بينهما وتفاقمت المشكلة فلجأت أمي إليك لأول مرة، فقلت لها: خليها تشتغل في المجال اللي هي عايزاه وسيبيها تشوف الدنيا وتتعلم، أنا واثق في تربيتي لبنتي.
فقالت أمي بسخرية: تربيتك؟! - أقصد تربيتك لها، وأنا عارف أخلاق بنتي، سيبيها ومتخافيش عليها، مش البنت اللي مقفول عليها هي اللي لازم تبقى محترمة، بالعكس البنت اللي متربية كويس وعندها ثقة في نفسها مهما عاشت بطريقة منفتحة هي بس اللي تقدر تحافظ على نفسها أو تفرط فيها، وممكن البنت المقفول عليها تعمل بلاوي ومحدش داري بيها. - اتفقنا هاسيبها تشتغل مرشدة بس على مسئوليتك. - موافق.
وبالطبع تحملت أمي وحدها المسئولية والقلق كعادتها، لكن ما طمأنها قليلا أن سلوى أثبتت جدارتها في فترة قليلة.
كانت هناك لحظاتي الخاصة التي اعتدت غيابك عنها، لكني كنت أتمنى أن تشاركني فيها بقلبك لا بمالك، مثل لحظة نجاحي بتفوق في الثانوية العامة ومكافأتك المالية السخية، لكنها لم تسعدني كما أسعدتني فرحة أمي واحتفال إخوتي والأقارب والجيران بي، وكلحظة تخرجي من كلية الألسن في قسم اللغة الإنجليزية بتقدير جيد جدا التي قابلتها بمنتهى الجمود وكأنني شخص غريب عنك. كنت غائبا بقلبك عن لحظات سعادتي، لكن ذلك لم يمنعني من الشعور بالسعادة مع أمي وإخوتي.
كما اختارت سلوى وسليم طريقهما اخترت أنا أيضا طريقي، فعملت في إحدى الشركات الكبرى للترجمة براتب ضخم، ولكنه كان عملا منهكا للغاية ولم أهتم بتعبه بقدر ما اهتممت بتحقيق النجاح وإثبات كفاءتي. كان مجتمع العمل جديدا علي يختلف عن الجامعة تماما؛ فالكل هنا يتعامل بلا حدود في الضحك وتبادل الأخبار والأسرار الشخصية؛ لذا فقد كنت شخصية غريبة عنهم؛ فأنا دائما صامتة لا أتكلم إلا في حدود العمل فقط، فلم يكن لي أصدقاء، والكل يتجنبني حتى زملائي وزميلاتي في المكتب، كنت معتادة على الوحدة فلم أهتم بتجنبهم لي.
حتى ظهر هو، عصام ذلك الشاب الجريء، أو كما يسمونه بالشركة الدنجوان بسبب تعدد علاقته بالفتيات وسهولة وقوعهن في حبه؛ لأنه يجيد التلاعب بقلوبهن كما يجيد الكلام المعسول، ولأنه أيضا وسيم بقامته الطويلة وقوامه المعتدل وبشرته الخمرية وعيونه العسلية الواسعة وابتسامته الساحرة. لم أكن أعلم أن عصام دخل في تحد مع الجميع أني لن أصمد أمامه، ولكنه دخل المكتب وجلس على طرف مكتبي يحمل وردة حمراء وقال بهمس: صباح الورد على أجمل وردة في الشركة. - أفندم؟ إنت إزاي تتكلم معايا بالطريقة دي؟ ومين سمحلك تقعد على مكتبي؟ اتفضل قوم ماتعطلنيش. - بس بالراحة أنا جاي أصبح على الزميلة الجديدة وأعرفك بنفسي. - مش عايزة أتعرف ولا بحب أصبح على حد، عن إذنك بقى! - يا ساتر يا رب إيه دا كله؟ معقولة الجمال دا كله يطلع منه العنف دا؟! - اسمع يا أستاذ، واضح إنك فاضي وأنا مش فاضية لك، ممكن تبعد عن مكتبي عشان أشوف شغلي؟ - واضح إنك هتتعبيني معاكي. - واضح إنك ما بتفهمش عربي! أنا دلوقتي باتكلم بذوق، بعد كده هاروح أشتكيك للمدير! - لأ على إيه، أنا ماشي بس راجع تاني.
لم أجبه أو ألتفت إليه؛ فقد قابلت أمثاله كثيرا في الجامعة، ولكنهم سرعان ما يملون مني ويتركونني لحالي، فبرغم رغبتي الشديدة في حب يحتويني ويعوضني غيابك إلا أنني كنت مرعوبة من فكرة الهجر والغدر مرة أخرى؛ لذا فضلت أن أغلق على قلبي بألف مفتاح حتى لا يتعرض لآلام لا قبل له بها، وحتى لا يتمكن أحد من طعنه في الصميم، فضلت الحرمان من الحب على عذاب الغدر والهجر.
لم ييأس عصام مني، إنما كان يحاول بشتى الطرق تجاذب الحديث معي، ولم يفلح، فكنت أصده كل مرة، ولكني أتعجب من إصراره على التعرف بي، وقلت لنفسي ربما أراد أن يثبت للجميع أنه لا توجد الفتاة التي تصده، ورغم أن ملاحقته لي أرضت غروري الأنثوي إلا أني لم أغير موقفي تجاهه.
ذات يوم دخل عصام فوجدني أتحدث مع أحمد زميلي بالمكتب، ذاك الشاب الخجول الذي يكبرني بعامين وتحمر وجنته كلما تناقشنا في موضوعات العمل بمفردنا أو كلما تلاقت نظراتنا، كانت ملامحه بريئة وتحمل طيبة تريح القلب؛ فبشرته بيضاء، وشعره بني، وعيناه لوزيتان، لم أكن أتجنبه كالباقين؛ لأنه كان مهذبا ولم يحاول الحديث معي خارج نطاق العمل، ولم يتجاوز في الحديث أبدا؛ لذا كنت مندمجة معه في حديث بخصوص العمل، وعندما رآنا عصام قال بسخرية: ما الليدي نهلة أهي بتتكلم مع زمايلها بلطف! أمال معايا عاملة فيها الشاويش عطية ليه؟!
لم أجبه ولم أعره اهتماما، فقال أحمد غاضبا: عيب يا عصام! الآنسة نهلة محترمة ومش زي اللي إنت تعرفهم. - هو أنا قلت حاجة؟ أنا بس عايز أتعرف عشان أغير نمط الناس اللي أعرفهم، ولا إيه رأيك يا آنسة؟
فقلت بغضب: هو احنا مش هنخلص من موال كل يوم دا؟ - اشمعنى أحمد؟ - لأنه محترم وبيتكلم في حدود الشغل وبس. - قصدك إني مش محترم؟ - افهمها زي ما أنت عايز! - دي آخر مرة هتشوفي وشي أو هاكلمك فيها.
خرج غاضبا وظننته سيعود ككل مرة، لكنه فعلا انقطع عن المكتب، لا أعلم لم شعرت بالضيق، يبدو أني اعتدت على مشاكساته واهتمامه بي الذي كان يسعدني، لكني لم أفكر في تغيير موقفي أو حتى الاعتذار له. وسألتني لبنى زميلتي بفضول: صحيح إنتي طردتي عصام وهزأتيه؟ - لبنى كبري دماغك وسيبيني أشتغل. - يا بنتي دا خبر الموسم في الشركة نهلة اللي طرقعت للدنجوان، عملتيها ازاي يا جبارة! دا كل البنات بتتمنى رضاه ونظرة بس منه. - لأنهم هايفين، أنا لا شايفاه دنجوان ولا حاجة، دا بهلوان بيتنطط في كل حتة شوية وبيضحك على كل بنت بكلمتين، ودي واضحة جدا، دا عمره ما حب حد غير نفسه وبس. - لأ دا انتي باين عليكي مش سهلة، وأنا اللي كنت فاكراكي عبيطة، دا أنا لازم أتعلم منك. - يبقى هتفضلي خايبة وقاعدة جنبي. - طبعا هافضل جنبك، يمكن يجي ويشوفني ويتكلم معايا وأنول رضاه. - هبلة.
غاب عصام وشعرت بفراغ، وأصبحت حياتي روتينية مرة أخرى، وقلت لنفسي: «أفيقي من أوهامك، أنت مجرد دمية جديدة لم يلعب بمثلها من قبل ويريدها بشدة، وبعد فترة سيملها.»
ذات يوم أثناء انتهاء عملي وقبل توجهي لركوب أتوبيس الشركة سمعت صوتا يناديني. - نهلة.
التفت فوجدته أكمل أخي الأصغر - من زوجة أبي - فدهشت لأنه لم تكن بيننا صلات قوية، بل علاقة رسمية ليس أكثر، حيث ربتهم أمهم على أننا أعداؤهم الذين نتربص بهم لننقض على مال أبي ونحرمهم منه؛ لذا تعجبت كيف عرف مكان عملي ولم جاء، فذهبت إليه ملهوفة وقلت: أكمل؟ فيه إيه؟ بابا كويس؟ - أه متخافيش. - أمال جاي ليه؟ - عايزك في موضوع مهم. - بس الأتوبيس هيفوتني والمكان هنا مقطوع. - تعالي معايا عربيتي هاوصلك وندردش في السكة. - أكمل طريقي غير طريقك، خليني أروح ونبقى نتكلم في التليفون، هات رقمك.
فجذبني من يدي بقوة وقال: يالا يا بنتي اركبي بلاش رغي كتير، دا كلام ما ينفعش في تليفونات، أمال أنا جاي ليه كل المشوار دا؟
في تلك الأثناء رآه عصام وهو يجذبني من يدي فقال بحدة: فيه إيه، بتشدها كده ليه، وانت مين؟
ذهلت من دفاع عصام عني فقلت له: مافيش حاجة يا أستاذ عصام، دا أكمل أخويا وجاي ياخدني. - أنا آسف يا أستاذ أكمل، افتكرتك حد بيضايقها.
فقال أكمل ببرود: وانت بقى البودي جارد بتاعها؟
فقلت بحدة: أكمل كفاية ... أنا متشكرة لاهتمامك يا أستاذ عصام، عن إذنك.
ركبت مع أكمل سيارته والذي انطلق بسرعة جنونية، فقلت له بخوف: هدي السرعة شوية، هنعمل حادثة.
فنظر إلي وقال: إنتي عارفة أبوكي عايز يعمل إيه؟ - لا، خير؟! - عايز يوزع الورث علينا وهو عايش. - وإيه اللي خلاه يفكر في كده؟ - خايف حد مننا يظلم التاني، وطبعا الحد دا انتم. - إحنا مين؟ - إنتي واخواتك. - واخواتي دول مش اخواتك؟ - سيبك من كل دا، إنت إيه رأيك؟ - رأيي لا هيودي ولا يجيب، أبوك بيعمل اللي في دماغه من غير ما يسمع كلام حد. - يبقى فعلا انتي واخواتك اللي ورا الفكرة دي، عايزين تقشطوا الراجل وتاخدوا كل حاجة وتسيبوا لنا ملاليم. - المفروض إن انتم اللي عايشين معاه، يعني أقرب له مننا، وانت كمان دراعه اليمين في الشغل، يعني اللي عارف كل أسراره، يبقى مين يخاف من مين؟ - لا يا حلوة، سليم هو كاتم أسراره ومستشاره مش أنا، رغم إنه مش بيشتغل معاه، وهو أكيد اللي ورا الفكرة دي. - والمطلوب مني؟ - تخلي سليم يكلم أبوكي يلغي الفكرة دي ويسيب الورث يتقسم شرعي.
نظرت إلى ملامحه القاسية حقا هو نسخة من أبي لكنه لا يشبهه في الطباع إنما هو قاسي القلب وجاف في كلامه دائما، عيونه تشع بالكراهية للكل وخاصة أنا وإخوتي رغم أنه يملك ما لم نملكه يوما؛ فسليم عانى حتى ادخر ثمن أول سيارة وكانت مستعملة، أما أكمل فيركب سيارة حديثة فخمة، يا للبشر لا يرضون بعطاء الله مهما نالوا منه، أفقت على صوت أكمل يقول بحدة: قلتي إيه؟ - حاضر هاكلمه.
أوقف السيارة بشكل مفاجئ وقال بلا مبالاة: يالا انزلي.
نظرت حولي وقلت بذعر: أنزل فين؟ دي حتة مقطوعة! وصلني لأي مكان فيه مواصلات. - مش فاضي، انزلي أنا افتكرت مشوار وهالف وأرجع له.
فتحت الباب ودموعي تنحدر على وجنتي، وبمجرد نزولي انطلق مسرعا ولم يبال بي، نظرت حولي فوجدت الطريق خاليا من البشر والسيارات، والشمس تقترب من المغيب، فمسحت دموعي ومشيت وأنا أدعو الله أن يسترني. بعد عدة دقائق سمعت صوت سيارة تتوقف بجواري فشعرت بالرعب وأسرعت في السير حتى سمعت صوته. - آنسة نهلة.
التفت فوجدته عصام، فشعرت براحة، فقال متعجبا: ماشية لوحدك ليه؟ فين أخوكي؟ - اتخانقت معاه وسبته ونزلت. - طيب تعالي أوصلك.
ترددت قليلا ولكنه قال: ماتخافيش، بس الطريق هنا مقطوع خطر عليكي، والدنيا قربت تليل.
ركبت معه وأنا خائفة فقال ضاحكا: حتى أخوكي ما رحمتيهوش؟ حد ينزل في حتة مقطوعة زي دي؟ طب استحمليه لحد ما توصلي لحتة أمان.
لم أستطع أن أقول له إن أخي تخلى عني ولم يهتم بما يحدث لي، فلاحظ سكوتي والدموع المتجمعة في عيني فقال: على فكرة، فيه رحلة تبع الشركة الجمعة الجاية للإسماعيلية، تحبي تيجي؟ أنا اللي منظم الرحلة، لو فكرتي تيجي قوليلي، ولو حابة تجيبي حد معاكي مافيش مشكلة. - ماشي. - ولا أنت ما بتحبيش الرحلات؟ - لأ عادي باطلع مع إخواتي رحلات كتير. - بس أكمل مش شكل رحلات خالص، دا شكل خناقات، ماتزعليش من صراحتي.
ضحكت وقلت: لا، مش باطلع مع أكمل، باطلع مع إخواتي الكبار. - ويا ترى هم زيك ولا زي أكمل؟ - لا، دول طرف تالت حاجة لوحدهم.
ضحك وقال: كده تمام، هاتيهم معاكي، دا لو قررتي تيجي. - هافكر، أنا ممكن أنزل هنا وآخد المترو، متشكرة جدا على ذوقك وتعبك. - أنا ممكن أوصلك للبيت. - متشكرة جدا ماتتعبش نفسك. - مافيش تعب ولا حاجة. - هنا مناسب عن إذنك. - آنسة نهلة، احنا بدأنا تعارفنا بطريقة غلط، ممكن نعتبر النهاردة بداية تعارف بيننا؟ - ممكن، بشرط تعتبرني أخت وزميلة مش أكتر. - ممكن زميلة، لكن أخت ما أوعدكيش.
ابتسمت وقلت: اتفقنا، بس لو ما التزمتش بوعدك هاقلب على الوش التاني. - لأ أرجوكي، أوعدك هالتزم. - أشوفك على خير سلام. - مش هتاخدي رقمي؟ عشان تبلغيني عن الرحلة. - هابقى أقولك في الشغل، مش احنا زملا؟
تركته وذهبت وأنا لا أعلم لم أشعر بالارتياح معه ولم أخف منه، بل انطلقت معه في الكلام كما لم أفعل من قبل، طوال الطريق أتذكر كلماته وابتسامته وحتى ملامحه، وفكرت هل أوافق على الذهاب معه تلك الرحلة أم سيظن أنني كنت أمثل عليه حتى أجتذبه لي وأوقعه في شباكي؟ شعرت بحيرة بين رغبتي في الذهاب وتغيير الجو والاندماج أكثر مع الناس وبين خوفي من ظنون عصام ومن كلام الزملاء.
الأفراح تدق بابنا
عدت للبيت فوجدت سليم يجلس مع أمي وسلوى يتحدثون، فقالت أمي: اتأخرتي ليه؟
فلم تمهلني سلوى حتى قالت بلهفتها المعتادة: سمعتي مفاجأة الموسم؟ فاكرة الواد الطيار الغلس اللي كان هيخبطني بعربيته من شهر لما كنا سوا وبهدلته؟ روحت أعمل اختبار عشان أشتغل مضيفة لقيته في وشي، وطبعا سقطني في الامتحان عشان ينتقم مني، قوم إيه ألاقيه كلم سليم عشان عايز يتقدم لي، شوفتي بجاحة أكتر من كده؟
ضحكت وقلت: دا وقع في شر أعماله. - قصدك إيه؟ دا أنا قمر، هو يطول! بس فعلا هاطلع البلا على جتته عشان يحرم يغلس علي.
ضحكنا كلنا وقلت لماما: ماما، أنا واقعة من الجوع عايزة أكل.
فقامت أمي لتحضير الطعام وقالت سلوى: أنا هانزل أشتري فستان كان عاجبني في المحل اللي على الناصية.
فقلت: واضح إن الطيار الغلس مش عاجبك. - لا يا بطة، دا مش عشانه، دا عشان الفستان نزل سعره في الأوكازيون، سلام.
قلت لسليم بصوت منخفض: أكمل جالي الشغل. - ليه؟ - حكيت له بصوت منخفض كل ما حدث، فقال غاضبا: الواطي يسيب أخته في حتة مقطوعة ويمشي؟ الواد دا مش هيسترجل غير لما أضربه علقة موت، ما عندوش دم دا؟ ما بيغيرش على لحمه ودمه؟ - أنا مش باقولك عشان تتخانق معاه، أنا باقولك عشان موضوع الورث. - سيبيني أفكر بهدوء وأنا هاعرف أتصرف. - وهتعمل إيه في عريس المجنونة دي؟ - شكلها هترفضه. - أقولك سر؟ أنا حاسة إنه عاجبها. - دي مجنونة، حد عارف هي عايزة إيه؟ ولا حتى هي عارفة هي عايزة إيه. - ربنا يهديها ويسعدها، بس اسأل عنه أنت كويس وشوفه محترم ولا لأ. - طبعا. - هتقول لبابا؟ - لأ لما أشوفه وأتأكد إنه حد كويس، وبعدين مش يمكن يمشي زي اللي قبله لما يعرف ظروفنا.
دخلت أمي أثناء ذلك فقالت بهدوء: اللي مش عاجباه ظروفنا يخبط رأسه في الحيط ومايلزمناش، ناس متخلفة.
سكتنا وتناولت طعامي حتى عادت سلوى بصخبها، وعندما دخلنا غرفتنا حكيت لها ما فعله بي أكمل، فظلت تكيل له الشتائم، فقلت لها: هو مابيعتبرناش أخواته أصلا، عشان كده مش بيخاف علينا. - عبيط ومش عارف يعني إيه أخوات يحبوه ويخافوا عليه، بس انتي هبلة برضه إنك نزلتي، لو أنا كنت شتمته وبهدلته وكلمت أبويا وأخليه يوصلني للبيت غصب عنه. - صعبت علي نفسي أوي إن اللي المفروض يحميني هو اللي يفرط في، وزميلي الغريب هو اللي يخاف علي. - وإيه حكاية الشهامة المفاجأة دي؟ - أبدا، واحد من زمايلي شافني ماشية في حتة مقطوعة فعرض يوصلني مش أكتر. - ما هي بتبدأ بالشهامة، خلي بالك يا بطة.
جاء طارق عريس سلوى في اليوم التالي فتزينت وجلست هادئة وتتحدث بصوت منخفض مع أمه وأخته حتى ظنتا أنه اختار ملاكا، فكانتا في قمة السعادة، وكنا جميعا نكتم ضحكاتنا حتى استأذن طارق ليجلس معها بمفردهما فقال له سليم: تعالى نقعد أنا وإنت لوحدنا الأول وبعد كده اقعد معاها.
خرج معه طارق وجلسا في الصالة، فحكى له سليم عن ظروفنا وقال له: يا ترى ظروفنا هتناسبك؟ - أه عادي، أنا والدي توفي وأنا عمري 6 سنين وأمي اللي ربتني أنا وأختي ولا كان معانا لا خال ولا عم ولا أي حد، يعني ظروفنا متشابهة. - كده هاندهلك سلوى تتكلم معاها.
دخل سليم للصالون ونادى لسلوى لتجلس مع طارق فقالت بهمس: أنت إيه اللي جابك؟ - أيوه كده، أنا كنت خايف لا تكوني سخنة ولا عيانة وانتي عاملة عاقلة؟ - قصدك إني مجنونة؟ - وهو جابني على ملا وشي غير الجنان دا؟
احمرت وجنتا سلوى، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها وقالت: أنا لي شروط. - وماله. - عايزة أفضل أشتغل، وياريت لو تشغلني مضيفة معاك. - طيب أنا عندي اقتراح، أنا طبعا معظم الوقت مسافر فما ينفعش أنا وانتي نكون مش موجودين، مين هيربي العيال؟ أنا هاسيبك تشتغلي لحد ما نخلف وتقعدي تربيهم، ولما يكبروا شوية ارجعي شغلك، لكن مضيفة انسي، كدة العيال هيتربوا في ملجأ. - بس أنا كان نفسي أسافر وأشوف الدنيا. - بس كده! أوعدك هاخليكي تسافري وتتفسحي وتلفي العالم. - إشطا. - يعني اتفقنا. - اتفقنا يا برنس. - يا بنتي إنتي مرشدة سياحية ولا سواق توكتوك؟ - تصدق بافكر أجرب مهنة سواق توكتوك دي، هاعمل مغامرات إنما إيه!
دخلت لأقدم لهما العصير وقلت مبتسمة: أعتقد كفاية تعارف كده.
فقالت سلوى: ليه بقى؟
فقلت لها بهمس: عشان الجوازة تكمل.
فضحك طارق فقلت: عشان سليم عايز يتكلم معاكم.
دخلا للصالون وقال سليم: إحنا اتشرفنا بمعرفتكم يا طارق، إديني مهلة لآخر الأسبوع وردي هيوصلك. - أنا مسافر ومش هارجع غير يوم السبت. - مافيش مشكلة، لما ترجع اتصل بي. - طيب نستأذن إحنا.
فسلمنا عليهم وسمعته يقول لسلوى. - أجيب لك إيه من إيطاليا؟ - أيس كريم طبعا. - أنا قلت دي مجنونة رسمي.
وافق سليم على طارق وحدد له موعدا لمقابلة أبي في مكتبه وذهب معه سليم، فرحب أبي به وأعلن موافقته وتم تحديد الجمعة القادمة لإعلان الخطبة، وأصرت سلوى على أن تقام الخطبة في أحد المراكب العائمة، وحاولنا أن نعترض بأن من سيأتي متأخرا لن يحضر الخطوبة، فقالت: اللي يتأخر يتفلق، أنا عايزة أتبسط بطريقتي.
وافقها طارق وشدد على الجميع بضرورة الحضور في الموعد المحدد، وأقيم الحفل ولم تحضر يا أبي، وقلنا للجميع إنك تعرضت لوعكة صحية؛ لذا لم تحضر أنت ولا إخوتي، كم شعرت بالألم من أجل سلوى، فكل فتاة تحلم بأن يكون أبوها معها يشاركها فرحتها ويكون سندها أمام الجميع، لكنك كالعادة تخليت عنا وظلت فرحتنا منقوصة. لم تظهر سلوى ألمها لأحد، لكني كنت أشعر به، إنما غطته بصخبها وضحكاتها، وأكثر ما عوضنا وقوف أخوالي وأبنائهم وبناتهم معنا، ورقصت سلوى وطارق وسليم وكل الأصدقاء والأقارب، بينما بقيت مع أمي نرحب بالضيوف من أهلنا وأهل طارق. مرت الليلة بسلام وتمنيت أن يكون طارق تعويضا من الله لسلوى، تلك الصاخبة التي تداري آلامها بجنونها وضحكها.
في اليوم التالي وأثناء ركوبي أتوبيس الشركة فوجئت بعصام يركب معنا، فقال لي مبتسما: ماجيتيش الرحلة ليه؟ - كانت خطوبة أختي إمبارح. - مبروك عقبالك. - أمال زوبة فين؟ - زوبة مين؟ - عربيتك. - عيانة. - ألف سلامة.
وعندها نادته بعض الزميلات ليجلس معهن، فذهب وعم الضحك والصخب في الأتوبيس، لا أدري لم شعرت بالضيق، فأنا لا أهتم به وأعرف أن هذا سلوكه الدائم فلم أشعر بالضيق؟ هل ظننت أنه سيتغير من أجلي؟ ولم يتغير من أجلي وليس بيننا شيء؟! أفيقي من أحلامك وعيشي الواقع.
وضعت سماعات الموبايل في أذني واستمعت لفيروز بينما كنت أكمل قراءة إحدى الروايات، وعندما وصلنا قال عصام مشيرا للرواية: بتقري إيه؟ - رواية.
فأخذها من يدي وقال متعجبا: واو! ورومانسية كمان؟! - وفيها إيه؟ - شكلك مايديش رومانسي خالص، أنا قلت بتقري كتاب في علم النفس أو التنمية البشرية، بصراحة كل يوم بتدهشيني.
ابتسمت ولم أجبه، إنما تركته ومشيت وأنا أخشى على قلبي من تأثيره الطاغي؛ فقد أدركت لم يسمونه الدنجوان، ليس لوسامته ولا لكلامه المعسول، إنما لقدرته الفائقة على التسلل للنفس دون أن يشعر به أحد، وأن يشغل القلوب بابتسامته الساحرة.
همسات الحب
في الأيام التالية كنت أراه على فترات متقطعة، وكانت بيننا مجرد كلمات عابرة أو سلامات ليس أكثر، لكنها كانت كافية ليزداد تعلقي به، وكنت أبرر ذلك لنفسي أنه مجرد تعود على زميل عمل ليس أكثر، لكنه لم يكن بالنسبة لقلبي مجرد زميل، إنما كان من أحب وجودي معه وأشعر أني مختلفة، سعيدة ربما، كنت معه أنسى كل آلامي وأحزاني، كنت - رغم خوفي من شخصيته وسلوكه مع الأخريات - أشعر أني في عينيه أختلف عن كل الأخريات وفعلا كان دائما يقول لي: «ماقابلتش في حياتي حد زيك.» فسرت ذلك على أني شخصية مميزة فأسعدني ذلك كثيرا، إلا أن عقلي ما زال خائفا منه ومن ألاعيبه وخبرته الواسعة في عالم النساء، كان دائما يقول لي: «الحب خدعة فلا تقعي فيها، ألم تكتفي من العذاب؟ هل ما زال في قلبك مكان جديد للجراح؟»
بين قلبي ورغبته في الحب والاهتمام ككل البشر وبين عقلي المتخوف دائما والذي يرفض الانصياع لمشاعر قلبي، بل ويحذرني من ذلك الدونجوان، فالقرب منه خطر على قلبي، بل وسيضاعف جراحه.
فاجأنا سليم بأنه قرر أن يخطب زميلته في البنك ويتخلى عن عزوبيته التي كان متمسكا بها، فقلت له بمشاكسة: قلبك دق أخيرا.
فابتسم وقال: ولا دق ولا حاجة، كل الحكاية إنها إنسانة محترمة ودماغنا زي بعض. - أوعى تظلم واحدة معاك وانت مش مرتاح لها على الأقل. - إنتي عارفة عني كده؟ أنا بخاف ربنا، وكمان بخاف يتعمل في اخواتي اللي باعمله في بنات الناس. - ربنا يسعدك يا حبيبي. - يالا عقبالك، بس يكون حد يستاهلك عشان يصونك. - إن شاء الله.
رفضت يا أبي أن تساعد سليم بأي مبلغ لتأثيث شقته التي يستنزف قسطها كل راتبه والتي باعت أمي جزءا من مصاغها الذهبي لتكمل له مقدمها وقلت له: اعتمد على نفسك، ولو عايز فلوس اشتغل بيها عندي.
فوافق سليم على أن يعمل لديك في مراجعة الحسابات يومي الجمعة والسبت حتى يستطيع تقليل الوقت الذي ستستغرقه الخطبة، خاصة أن والد هدى أصر على أن تكون الخطبة مدتها عام واحد.
تحدد موعد الخطبة وذهبنا جميعا ومعنا سلوى ببطنها المنتفخة من الحمل وزوجها، بينما لم تحضر أنت وإخوتي كعادتكم، واعتذرنا عنك بأنك مسافر، فقالت والدة هدى: هو والدك مش راضي عن الجوازة، ولا احنا مش أد المقام؟
فقال سليم: أبدا، هو موافق طبعا، وأنا مش هاعمل حاجة ضد إرادته، بس هو مسافر خارج مصر وأنا مارضيتش أستنى لما يرجع بعد ما حددت الميعاد مع عمي. - يعني سفره أهم ولا خطوبة ابنه؟
هنا قالت أمي: هو احنا كلنا مش كفاية ولا إيه؟ وبعدين سليم ابني راجل وشايل نفسه ومش محتاج حد يتكلم عنه، ولا هو مش مالي عينيكم؟ والله دي ظروفنا ودي حياتنا، وانتم عارفين كل التفاصيل عننا من البداية، ولو ظروفنا مش مناسبة ليكم يبقى فرصة سعيدة.
ونهضت أمي بعصبية وتوتر الجو، فقال أبو هدى بابتسامة: صلي على النبي يا حاجة، دا مجرد استفسار مش أكتر، وسليم يشرف أي عيلة يدخلها، وطبعا وجودكم كفاية وزيادة كمان، الفاتحة للنبي.
جلست أمي وقرأنا جميعا الفاتحة، وأخرجت أمي من حقيبتها شبكة هدى، فقد اختارت هي وسليم الدبل، بينما أهدتها أمي سلسلة وخاتما من الذهب وقالت لها: مبروك يا بنتي، من النهاردة إنتي بقيتي زي نهلة وسلوى، واللي يحبه سليم أشيله في عيني. - الله يبارك في حضرتك يا طنط، وميرسي على هديتك الجميلة.
هنأها الجميع ووزعت أمها الشربات على الجميع، وكانت لغة العيون بين سليم وهدى تقول الكثير، فأدركت أن قلبيهما اشتعلت بهما شرارة الحب، فسعدت من أجل سليم الذي غمرته الأحزان في سن صغير فكفر بالحب والمشاعر، وربما زاد من ذلك تحمله مسئوليتنا في سن صغيرة؛ فقد كان لنا الأب والأخ، لذا أراد الله أن يكافئه بفتاة رقيقة مثل هدى تحبه وتعوضه سنوات عجافا بلا حب حقيقي سوى قصة حب فاشلة مع ابنة عمي التي بمجرد علمها أنك لن تغمره بمالك وأنه لن يعمل معك تخلت عنه، فكانت صدمة قاسية على قلبه الذي أغلقه لسنوات حتى جاءت هدى بحيائها وحبها الظاهر في عيونها، فاستطاعت أن تقتحم حصونه، وما أجمله من اقتحام يا أبي!
بعد الخطبة كان سليم مشغولا في عمله في البنك طوال الأسبوع وفي شركتك يا أبي يومي الجمعة والسبت، فتوقعنا أن تتذمر هدى من غيابه، وقلنا له لو فعلت فإنها معذورة، فكل الفتيات يردن الاستمتاع بتلك الفترة في التنزه وسماع كلمات الحب، فقال إنه شرح لها ظروفه. فوجئنا جميعا أنها صارت تذهب معه للشركة يوم الجمعة وتعمل معه لينهي عمله سريعا حتى يتمكن من أخذ يوم السبت كراحة له، فكان يخصص لها مساء السبت كله.
هكذا الحب فعلا يا أبي ليس مجرد كلمات معسولة تأسر القلب فقط، إنما هو أفعال تثبت ذلك الحب.
عدت لعملي بعد يومي الإجازة بسبب استعدادنا لخطبة سليم، ففوجئت بترحيب عصام وقال ضاحكا: هل هلالك، كنتي فين شغلتينا عليكي؟ - أبدا، أخدت أجازة عشان خطوبة أخويا. - ألف مبروك وعقبالنا ... أقصد عقبال كل اللي ما اتجوزوش.
ابتسم وانصرف وتركني أتخبط في حيرتي، هل هو يعنيني معه أم حقا يعني كل من لم يتزوج؟ هكذا كانت علاقتي بعصام كلاما عاما يحمل بين طياته كلاما يحتمل أكثر من معنى، مما يزيد حيرتي ويدفع قلبي للتعلق به ضاربا عرض الحائط بكل تحذيرات العقل، ورغم ذلك كنت ألتزم في كلامي وعلاقتي بعصام حدود الزمالة، ولا أسمح له أن يتخطاها. ذات يوم كنت على موعد مع هدى لنخرج معا للتسوق، فقالت لي إنها ستمر علي بعد انتهاء العمل لنذهب معا للمول المجاور لعملي فوافقت، وبمجرد وصولها طلبت منها أن تبقى قليلا حتى أنتهي من عملي، وعندها دخل عصام المكتب بحجة واهية كعادته، فجلست هدى تتحدث مع سليم هاتفيا حتى نخرج وعرفت منه أنه لم يذهب للعمل بسبب مرضه، فأصرت على الذهاب لرؤيته فقلت لها: يا بنتي ماتخافيش، دول شوية سخونية بسبب البرد، وتلاقي ماما قامت بالواجب وبقى زي القرد. - إخص عليكي يا نهلة، أنا هاتجنن عليه وانتي كده هادية؟ وكمان بتقولي عليه قرد؟ - ماتزعليش هو قمر، بس صدقيني بقى كويس، بس ماما أول ما حد مننا يتعب لازم تعتقله يومين لحد ما تتأكد أن صحته بقت تمام. - بجد يا ناني ولا بتضحكي علي؟ - هأكد لك دا لما نخلص شرا حاجتنا وأخدك البيت تطمني عليه بنفسك، بس عدي الجمايل، سيبيني بقى أخلص عشان ننزل.
خرجت هدى تحدثه مرة أخرى، فاقترب عصام وقال: واضح إنها بتحبه أوي. - طبعا سليم أخويا يتحب. - وانتي؟ - أنا إيه؟ - جربتي الحب؟ - لأ. - ليه بتخافي؟ - لأ، بس ما أحبش أسلم زمام حياتي لقلبي وأضيع. - ما يمكن ما تضيعيش وتلاقي نفسك وسعادتك.
نظرت إليه وقلت بارتباك: عن إذنك، هدى مستنياني.
وجمعت أشيائي وهربت من عينيه اللتين كادتا تعرفان سر قلبي، فقال هامسا خلفي: هتفضلي تهربي لإمتى؟
لم ألتفت إليه ولم أجبه، إنما خرجت مسرعة وكأني أخشى مواجهته حتى لا أعترف له بحبي، نعم أنا أحبه يا أبي، أحب اهتمامه بي، ملاحقته لي، أحب لهفته علي ورغبته في إرضائي، أحب فيه كل ما لم تمنحه أنت لي، ربما لو كنت أشبعتني من حبك واهتمامك لم أكن أبالي به، لكني كنت أحتاج ما يغمرني به، فوقعت صريعة هواه وأنا أعلم أنه متعدد العلاقات وصياد ماهر.
هدية عيد الميلاد
كان يوم مولدي عندما كنت مدللتك يوما بهيجا أنتظره لتحتفي بي أنت وكل الأسرة والأصدقاء، وعندما غبت حرصت أمي على أن تحتفل به حتى لا أشعر بالفارق، ورغم كل جهدها كان هناك فارق بالطبع، فلم تكن أنت هنا، لكن سليم وسلوى كانا ينشران البهجة في ذلك اليوم، ومنذ زواج سلوى غابت البهجة عن البيت ونسي الجميع أن يحتفلوا بيوم مولدي، فسليم مطحون في مسئولياته، وأنا أعذره طبعا، وأمي أنهكتها سنوات المسئولية والمرض. الوحيد الذي تذكر يوم مولدي كان عصام، حيث غاب اليوم كله لم أره، وفي نهاية اليوم عندما خرجت من المكتب للصلاة وانصرف جميع الزملاء، عدت فوجدت علبة كبيرة مغلفة وعليها بطاقة مكتوب عليها «كل عام وأنت كما أنت بكل طهرك وبراءتك» ولم تحمل أي توقيع، ففتحت العلبة فلم أجد بها سوى قلب صغير أحمر مكتوب عليه «أحبك»، وقفت للحظات مصعوقة من هول المفاجأة ومتعجبة ولا أعرف من صاحب الهدية، أيعقل أن يكون عصام؟ بقدر سعادتي بالهدية كنت أشعر بالخوف من القادم، ليتك كنت معي يا أبي لترشدني وتكون سندا لي في خطوتي القادمة.
خرجت من مكتبي وأنا أحمل الهدية ووصلت لغرفتي فأخرجتها ورحت أتأملها مرات عديدة، فاحتفظت بالبطاقة في أشيائي الخاصة جدا في دولابي، ووضعت القلب على وسادتي، وبينما أنا في صراع رهيب بين قلبي العاشق وعقلي الرافض لكل هذا الحب لذاك الصياد الماهر، وهو يقول لي: «إنه ليس حبا، بل فخا محكما.» فإذا بموبايلي يعلن عن وصول رسالة على الواتس أب من رقم مجهول ففتحتها، فوجدت من يتساءل «عجبتك الهدية؟»
فقلت: إنت مين؟ - حقيقي مش عارفاني؟ - لا. - خمني. - لو ماقلتش إنت مين هاعملك بلوك. - أكيد قلبك قالك إني ...
لحظات صمت يخفق قلبي فيها بجنون وأنا أتأمل الموبايل في انتظار إجابته، حتى كتب: عصام.
سكت للحظات ثم استجمعت شجاعتي وقلت: أستاذ عصام أنت عارف إني ما بحبش الهزار بالطريقة دي، ولا علاقة الزمالة بيننا تسمح بالكلام دا. - أمال أخدتي الهدية ليه؟ - لأني ما كنتش عارفة أرجعها لمين. - بس أنا مش باهزر. - إنت ماتعرفش غير الهزار وصحوبية البنات وأنا ماليش في الاتنين. - طيب لكي في الحب؟ - الحب اللي أنت تعرفه لأ. - طيب إيه الحب اللي انتي تعرفيه وتقبليه؟ - واضح إنك مش فتك زي ما بيقولوا عنك، وإلا كنت فهمت لوحدك، الصبح هديتك هتكون على مكتبك، واعتبر اللي بيننا من زمالة انتهى.
أغلقت موبايلي وأنا أرتجف من فرط اضطرابي وقلبي يلومني على تفريطي في الحب الذي طالما انتظرته، وعقلي يقول لي أنني فعلت الصواب. دخلت المطبخ لأصنع كوبا من الشاي لأشغل نفسي عن أفكاري فوجدت أمي تصنع كعكة، وبمجرد أن رأتني قالت: كده بوظتي المفاجأة؟ كنت باعملك تورتة لعيد ميلادك.
فقبلت يدها وقلت: تسلم إيدك يا ماما، بس كنتي ارتاحي؟ إنتي تعبانة. - أنا لي مين غيركم؟ - خلاص هي حلوة كده، تعالي ناكلها مع الشاي. - يا بنتي استني أزوقها. - لأ كده حلوة ومناسبة للريجيم، خوديها وأنا هاعمل الشاي وجاية.
تناسيت كل شيء وأنا أجلس بجوار أمي حيث الأمان والدفء، وجلسنا لنأكل الكعكة حينما دخل سليم وقال ضاحكا: بتحتفلوا بعيد ميلاد أبو الفصاد من غيري؟ خيااانة.
ضحكت وقلت: هو الاحتفال يحلى من غيرك يا حبيبي؟ اقعد وأعملك شاي.
قمت لأصنع الشاي فسمعته يتحدث مع أمي، لكني لم أفسر كلامهما، فلما خرجت قال: أنا كنت ناوي أجيب لك هدية لكن ربنا رزقك بهديتين؛ الأولى الرواية اللي كنتي هاتجيبيها أول الشهر لما تقبضي جبتهالك.
لم أتمالك نفسي وقفزت تجاهه وقلت: يا حبيبي يا سوسو، دايما كده فاكرني؟ - مش هتبطلي سوسو دي؟ طب مش هاقول الهدية التانية.
قبلته في وجنته وقلت بدلال: أهون عليك دا أنا حبيبتك؟
فابتسم وقال: الهدية التانية عريس.
نظرت له للحظات ثم فتشت جيوبه فقال بدهشة: بتدوري على إيه؟ - العريس حاطه فين؟ - ظريفة! أنا عارف عاجبه فيكي إيه؟ عموما اجهزي، هو جاي الساعة 7 النهاردة. - إنت بتتكلم جد؟ ما أنت عارف إني ما بحبش الطريقة دي في الجواز، باحس إني جارية وبتتعرض على الناس. - بس هو حد تعرفيه. - مين؟ - عصام زميلك.
لم أصدق أذني، وظننت أني سمعت ما يوده قلبي لا ما قاله سليم الذي تعجب من ذهولي فقال: هو مش زميلك؟
فأومأت برأسي أن نعم، فقال: أومال مالك؟ لو مش عايزاه نقابله النهاردة وبعدها نعتذر له.
فقالت أمي: يا بنتي خلينا نشوفه أنا وأخوكي ونحكم عليه، وبعد كده نقولك رأينا، العمر بيجري وإخواتك كل واحد هينشغل بحاله، وأنا مش هاعيشلك العمر كله، عايزة أطمن عليكي قبل ما أموت.
فقلت بلهفة: بعيد الشر عنك يا ماما، حاضر هاقابله.
وهنا دق جرس الباب فخفق قلبي ونظرت في ساعتي فوجدت أمامنا نحو ساعة على موعده، وعندما فتح سليم وجدناها سلوى بصخبها وبطنها المنتفخة وتحمل معها تورتة وتقول: رغم إني خلاص هافرقع من التقل، لكن مش ممكن أفوت عيد ميلاد أبو الفصاد، ههههه.
فقلت لها وأنا أقبلها: يعني مافيش حاجة هتقصر لسانك دا أبدا؟ - ما أبقاش سلوى، يالا كل سنة وانتي طيبة، والسنة الجاية نخلص منك عشان أجي أنا وطلبة نعاكس ماما؟
فقال سليم وهو يضحك: طلبة مين؟ - ابني، قررت أسميه طلبة. - الله يكون في عون جوزك.
فقالت أمي وهي تقبلها: اقعدي يا حبيبتي، عاملة إيه؟ - خلاص على أخري يا ماما، وتعبانة على طول، وقلت لما أنزل وأهيص معاكم يمكن أنسى تعبي. - كويس إنك جيتي، أختك جاي لها عريس النهاردة، خديها وخليها تهتم بنفسها زي البنات.
فجذبتني من يدي وقالت: جيتي للعنوان الصح يا حلوة.
دخلنا حجرتنا، وراحت تختار لي الملابس وهي تتكلم وتضحك وتتأوه في وقت واحد، وأنا مضطربة ولا أعرف ما الذي دفع عصام لتلك الخطوة؟ أهو يريد الإيقاع بي في فخه من خلال الخطبة؟ أم إنه يحبني حقا؟ هل يتلاعب بقلبي؟ أم إنه جاد في مشاعره؟ أفقت على صوت سلوى وهي تقول بسخرية: اللي واخد عقلك، مش هتقولي اتعرفتي عليه إزاي؟ واضح إن القصة كبيرة. - أبدا، زميلي في الشغل وواخد الدنيا ضحك وهزار، فأنا صديته من البداية، لكن عمل معايا حركة الجدعنة مع أكمل، فاكرة؟ وعجبني فبقيت أتكلم معاه كلام عام، بس دي كل الحكاية. - وده يخليه يتقدملك؟ الحكاية فيها إن، ولازم أعرفها.
هنا دق جرس الباب، فخفق قلبي بشدة وشحب وجهي، فضحكت سلوى وقالت: على ما تخلصي لف الطرحة هاطلع أشوف عريس الغفلة.
جلست أمام المرآة وأنا أحاول أن أستجمع شجاعتي وأقول لنفسي لو كنت أنت معي لواجهت الكون كله بلا خوف، حتى لو أسأت الاختيار كنت أعرف دائما أنك ستساندني، لكني اليوم علي أن أختار وحدي وأتحمل نتيجة اختياري وحدي، يا رب كن معي وأنر بصيرتي.
جاءت سلوى تقول: يا بنت الإيه لقيتي القمر دا فين؟ صحيح هو مش أحلى من جوزي، بس حلو. - بس بطلي هزار، أنا مرتبكة أوي. - مش بتقولي زميلك! يعني في وشك ليل نهار، معقولة مش عارفة إنه جاي. - لأ، أصلي ... لسه مبهدلاه الصبح. - يا خراشي عليكي! طب الحقيه قبل ما يطفش يا فوزية، وأنا هامدد على سريرك شوية لأني تعبانة أوي.
خرجت وأنا أرتجف خجلا واضطرابا، واقتربت من الصالون فنادتني أمي لأحمل صينية العصير فقلت لها: لو شيلتها هتدلق عليه، فبلاش فضايح.
دخلت وألقيت التحية عليه دون أن أنظر إليه، وجلست على أبعد كرسي عنه، وظل سليم يتحدث معه في الموضوعات التي يعلم أني لا بد أن أشترك فيها وأنا صامتة، ومكتفية بمشاهدة السجادة التي تغطي الأرض وكأني أراها لأول مرة، وانتبهت على صوت سليم وهو يقول: نهلة، الأستاذ عصام بيسألك بتحبي تقري إيه؟ - أنا؟ أه، كل أنواع الروايات والكتب التاريخية وكتب علم النفس، وانت بتحب القراءة؟ - مش أوي، مش دايما ألاقي الكتاب اللي بيشدني، لكن لو ساعدتيني ورشحتي لي كتب ممكن نقراها ونتناقش فيها.
احمرت وجنتاي وفوجئت بانسحاب سليم ليجيب على موبايله، بينما قامت أمي لعمل الشاي مع الجاتوه وفقا لبروتوكولها في استقبال العرسان، فابتسم عصام وقال: اللي يشوفك في الشغل وانتي بتتكلمي ولا على الموبايل وانتي بتبهدليني ما يشوفكيش حالا وانتي ما بتتكلميش كلمتين على بعض.
استجمعت شجاعتي ورفعت رأسي وقلت: جاي ليه؟ - أخوكي ما قالكيش؟ عاوز أخطبك. - ليه أنا؟ - لأنك مختلفة عن كل اللي عرفتهم قبل كده، محترمة وعاقلة وطموحة ومثقفة. - ويا ترى كل واحدة بتعجبك بتروح تخطبها؟ - مش فاهمك. - يعني كل واحدة ما بتعرفش توصل لها بتعمل موضوع الخطوبة دا لعبتك عشان توصلها؟
فغضب وقال: أنا عمري ما خطبت قبل كده، ومش أنا اللي أدخل بيوت الناس عشان أستغل بناتهم، إنتي فاكراني إيه، سافل؟ ولا ما بافهمش إن البيوت لها حرمة؟ - برضه ما جاوبتنيش ليه أنا؟
سكت قليلا ثم قال برقة: أعتقد الإجابة كانت على قلبي اللي بعتهولك.
احمرت وجنتاي وخفق قلبي بقوة ولم أستطع النظر في عينيه، وقبل أن أتكلم فوجئنا بصراخ سلوى، فجريت بسرعة تجاهها، فقالت أمي لسليم بسرعة هات تاكسي أختك بتولد.
فقال عصام: أنا معايا عربيتي تحت هادورها على ماتنزلوا.
نزلنا مسرعين، ومن حسن الحظ أن سلوى كانت أعدت حقيبة الولادة الخاصة بها وأحضرتها معها، فحملتها بينما أمسكها سليم ونزلنا وركبنا سيارة عصام وتوجهنا للمستشفى ودخلنا بها أنا وأمي، وبقي عصام مع سليم، وعندما أتى زوج سلوى انصرف عصام وترك رقمه مع سليم الذي شكره كثيرا. أرسل لي بعد ساعتين على الواتس يسألني عن سلوى، فأخبرته أنها أنجبت ولدا فهنأني، فاعتذرت له عن الموقف الذي وضعناه فيه، فقال إنه لأول مرة يشهد ولادة لأن إخوته كلهم ذكور، والآن فقط أدرك كم تعبت أمه فيهم. حصلت في اليومين التاليين على إجازة لأعتني بسلوى مع أمي، فلم أر عصام، وبعد يومين قال لي سليم: عصام بيسأل عن ردك. - إنت رأيك فيه إيه؟ - حسب اللي عرفته كويس، بس لسه مسألتش عنه. - وحكيت له عن بابا؟ - لأ، أنا فاكره عارف. - لأ طبعا ما باحكيش لحد، يبقى تقابله لوحدكم في أي مكان وتشرح له ظروفنا، واديله فرصة يفكر، وانت كمان تسأل عنه، بس ... - مالك؟ - خايفة منه لأنه معروف عنه في الشغل إنه دونجوان، وخايفة يفضل كده. - كل الشباب بيبقوا كده، ولما بيتجوزوا ويشيلوا المسئولية بيعقلوا. - هنشوف، بس اعمل اللي اتفقنا عليه، مش يمكن لما يعرف ظروفنا يغير رأيه؟
عرفت من سليم أنهما تقابلا، وحكى له سليم ظروفنا وعصام يستمع بصمت حتى قال له سليم في النهاية: فكر براحتك، ولو ظروفنا تناسبك كلمني، ولو ما تناسبكش كأنك ما سمعتش حاجة.
مر يومان وأحمد الله أنهما كانا الجمعة والسبت، فلم أذهب للعمل، وفي مساء السبت جاءتني رسالة من عصام يقول فيها: خايفة تواجهيني بظروفك؟ فاكرة إنها ممكن تخليني أغير رأيي؟ - مش أي حد بيقبل يرتبط بواحدة ظروفها زيي. - مالها ظروفك؟ أنا شايفها عادية وما يغركيش البيوت اللي شكلها سعيدة وهي مقفولة على بلاوي من جوه. - كل واحد مختلف في حكمه وتفكيره، فحبيت أوفر عليك الإحراج. - اللي يحبك مستحيل يحس بالإحراج، إنما هيحس بس بالفخر.
سكت ولم أجبه فقال: سكتي ليه؟ عموما أنا هاتصل بعصام حالا.
كدت أطير فرحا، فلأول مرة يصدق قلبي، وها هو عصام يحبني حقا ويتقبلني كما أنا، أخيرا يا أبي شعرت أني جديرة بالحب، وأن من حقي الاستمتاع بالحياة كغيري، أخيرا شعرت أني مرغوبة وممن؟ من شخص عرف العشرات وتركهن من أجلي، بل وفضلني عليهن، لكن ترى هل سيحن لهن يوما؟ هل سيهجرني - كما فعلت أنت - من أجل أخرى؟ لا لن أترك خوفي يقف في سبيل سعادتي، فلأغامر فربما تلك تكون فرصتي للحياة، وإن ضاعت ضعت معها.
طعم السعادة
لأول مرة يا أبي بعد غيابك أتذوق طعم السعادة، ولأني محرومة منها لم أكتف بالتذوق، بل نهلت منها بشراهة لأعوض ما فاتني. أبلغ عصام سليم برغبته في إتمام الخطبة، فاتفق معه على موعد لمقابلتك في بيتك الآخر، تمت المقابلة والاتفاق على كل الأساسيات وتحدد يوم قراءة الفاتحة، وكنت أحلق في سماوات السعادة، ولم يجذبني لأعماق الأرض سوى غيابك الذي علقت عليه والدة عصام التي كانت تبدو غير راضية - لرغبتها في زواجه من ابنة أختها كما عرفت فيما بعد - فردت أمي بأن أبي مريض، وأن سليم يحل محله، فتمت قراءة الفاتحة في حضور أبويه وأخيه الصغير وأمي وسليم وهدى وسلوى وزوجها طارق الذي كان متواجدا في القاهرة في ذلك الوقت لتكتمل صورة أسرتي أمامك. بعد انتهاء الحفل وانصراف الجميع بقي عصام معي في الصالون وغمرني بكلمات الحب الجميلة التي لم أتخيل أني سأسمعها في يوم ما وأنا خجلى لا أعرف بم أجيبه حتى سألني: حبيتي قبل كده؟
فأومأت برأسي أن لا. فقال : ولا حب مراهقة؟ - لأ. - يعني أنا أول حب في حياتك؟
احمرت وجنتاي وخفق قلبي بشدة، ولكني تمالكت نفسي وقلت: طبعا مش هاسألك نفس السؤال، لكن هاطلب منك إنك توعدني ما يكونش في حياتك غيري. - أنا عرفت كتير، لكن ما حبيتش حد قبل كده، وأوعدك إن حياتي مش هايكون فيها غيرك. - لو خلفت وعدك هاسيبك مهما كانت الظروف فاهم؟ أنا ما أقدرش أقبل بالغدر ولا الخيانة؟ - مش هاخلف وعدي، بس بشرط إنك تفضلي تحبيني العمر كله. - أنت مغرور أوي، ومين قالك إني ... بحبك. - عينيكي قالت اللي لسانك مش راضي يقوله، لكن بكرة مش هتخافي أبدا إنك تعترفي بحبي.
نعم أعترف يا أبي أني أحبه، أحبه كل الحب الذي حرمتني منه، كل الحب الذي ادخرته في قلبي لمن يستحق، وها هو جاء من يستحق، حقا لم أعترف له بحبي لكن نظراتي ولهفتي وغيرتي وسعادتي بقربه كانوا يقولون إني أحبه. عشت عاما من السعادة الخالصة وعرفت في أيام الخطوبة معه مشاعر لم أعرفها من قبل، وشعرت أن الله عوضني بعصام عن كل الآلام والأحزان التي عشتها من قبل. اكتملت سعادتي عندما قرر عصام وسليم أن نقيم زفافنا في يوم واحد، ورغم رفض أمي لخوفها علينا من الحسد إلا أننا نفذنا ذلك، كنا سعداء جميعا.
حولني عصام بعصا حبه السحرية من فتاة حزينة منغلقة على نفسها لامرأة عاشقة له محبة للحياة، عشقته وأحببت حياتي لأول مرة لأنه فيها ولأني أعيشها من أجله؛ فقد تركت عملي بناء على رغبته لأتفرغ له، وسكنا في منطقة بعيدة عن أمي وإخوتي ليكون بالقرب من عمله ولأنها تناسب إمكانياته المتواضعة، ورضيت بشبكة بسيطة وأثاث بسيط تقديرا لظروفه المالية، ولأنه وعدني عندما يتحسن حاله بأن يجلب لي كل ما أريده، فقلت له: «إني لا أريد سواه»؛ فقد اكتفيت به عن الدنيا كلها.
بدأنا مواجهة الواقع معا، وكنا اتفقنا على تأخير الإنجاب لعامين حتى يستطيع عصام سداد الأقساط نتيجة للزواج، رجوته كثيرا أن يتركني أعمل لأساعده، فيرفض رفضا قاطعا بحجة غيرته الشديدة، فاكتفيت بالعمل من خلال الإنترنت، وكان يدر دخلا معقولا كنت أنفقه كله على البيت. لم أبال يوما بكل ما ينقصني، فكان حب عصام واهتمامه يغنيني عن العالم كله. كنت أجتمع مع إخوتي عند أمي يوم الجمعة، فكان عصام يبقى معي لبعد الغداء ثم ينصرف ويعود لي السبت صباحا لاصطحابي حيث يبيت عند أمه لبعد بيتنا عن والدينا. دعته أمي كثيرا ليبيت معي، لكنه كان يرفض لأن سلوى أحيانا كثيرة ما تبيت معي ويتحجج بأنه يريد أن يتركنا على راحتنا، وأن أمه أيضا لها حق عليه، فاحترمنا رغبته، وكان يغمرني برسائل حبه وشوقه كأنه غائب منذ عامين لا ساعتين، فكنت أسعد الناس بذلك الحب الذي ملأ علي حياتي. ورغم عملي من خلال الإنترنت إلا أني كنت أشعر بالملل والفراغ في ذلك البيت، وخاصة أن عصام لا يعود قبل السادسة مساء، وإما أن يقضي باقي الوقت أمام التليفزيون حتى ينام من التعب أو أن يخرج لملاقاة أصحابه، فأعاني الفراغ أكثر في غيابه، وكم ألححت عليه أن ننجب طفلا؛ ليملأ علي فراغ حياته، لكنه كان يرفض بحجة أن ظروفه المالية لا تحتمل مصاريف طفل، ثم يقبلني ويقول لي إنه لا يريد أن يشاركني فيه أحد، فهو شديد الغيرة.
مر عامان على زواجنا وأنا أعيش مع عصام قصة حب وسعادة لا مثيل لهما، مما أنساني كل أحزاني السابقة. وأردت أن أعبر لعصام عن حبي بشكل مختلف، وأن يكون احتفالنا متميزا، فبعد أن تناولت الغداء مع أسرتي يوم الجمعة طلبت من سليم أن يعيدني لشقتي لأرتب لعصام مفاجأة تسعده وتعبر له عن حبي وامتناني، فوافق سليم حيث إن لديه موعدا مع صديق له قريب من بيتي، وأمهلني ساعتين ليعود ويصطحبني فوافقت. كنت نويت تغيير شكل غرفتنا كما رأيت بعض الصور على الإنترنت، صعدت لشقتنا وفتحت الباب بالمفتاح فوجدت نورا يخرج من غرفتي، فظننت أني نسيته كعادتي قبل نزولي، وعند دخولي الغرفة فوجئت بامرأة ممددة على سريري وترتدي قميص نوم عاريا، وظهرها موجه لي وهي تقول بدلال: أخدت الدوش يا صومه؟ ماتعرفش أد إيه أنا مشتاقة لك.
ألجمتني الصدمة وشلت حركتي وتفكيري، وفي نفس اللحظة خرج عصام من الحمام عاريا يلف نصفه الأسفل بفوطة كبيرة، ودخل الغرفة وهو يجفف شعره بأخرى، وأنا ما زلت على وقفتي المصدومة، وبمجرد أن قذف بالفوطة ورآني أصابه الذهول فقال هامسا: إيه اللي جابك؟
لم أجبه، وإنما نظرت لها، فقد اعتدلت في نومها فانكشف معظم جسدها وأصابها الذهول عندما رأتني، وكتمت شهقتها وغطت جسدها، أمسك عصام بيدي وهو يقول: نهلة أرجوكي اتكلمي أنا ...
لم أستمع لما قاله، فقد انهار جسدي كله متهالكا تحت وطأة الصدمة رافضا أن يستمع لصوته ومبرراته الواهية، وغبت عن العالم وحلقت في عالم آخر كنت أراك فيه يا أبي تضمني لصدرك وتعتذر لي عن غيابك وتعدني ألا تتركني، وأنا متعلقة برقبتك ومتشبثة بك وهناك الكثيرون الذين يجذبونني ليبعدوني عنك، فأصرخ وأقاومهم بقوة، ولكني في النهاية أفقدك، تتركني وحدي في صحراء قاحلة، كان الحلم يتكرر بأشكال مختلفة حتى في النهاية وجدتك أنت تتركني بإرادتك وأنا أرجوك ألا تذهب، ولكنك ذهبت.
أفقت بصعوبة لأتخلص من ذلك الحلم الموجع لأجد أمي بجواري تمسك بيدي باكية، وتأملت المكان من حولي فأدركت أني في مستشفى، وبذلت جهدي لأتذكر سبب وجودي هنا حتى تذكرت غدر عصام وخيانته فانهرت باكية، انتبهت أمي لإفاقتي قبلت يدي ورأسي وضمتني لصدرها وراحت تمسح رأسي وتتلو آيات القرآن، فازدادت دموعي التي كانت تهز كل كياني، وكان جسدي ما زال ضعيفا غير قادر على المقاومة، فخافت أمي علي فطلبت الطبيب الذي جاء ليفحصني، وعندما وجدني منهارة أعطاني حقنة مهدئة أفقت منها بعد عدة ساعات وذهني مشوش، فوجدت سليم بجواري فتشبثت بيده وأنا أبكي فطمأنني وقال: متخافيش أنا معاكي ومش هاسيبك، بس قوليلي مالك.
أشحت بوجهي ورفضت الكلام، فمسح بيده على رأسي وقال: مش أنا أخوكي اللي ما بتخبيش عنه حاجة؟ احكيلي مالك.
سكت ودموعي تنهمر، فقال بهدوء: وقت ما تحبي تتكلمي أنا هاسمعك واعملك اللي يريحك.
فقلت بوهن : الطلاق.
عندها دخل عصام وبمجرد رؤيته صرت أصرخ بهيستيريا حتى حضر الطبيب وأعطاني حقنة مهدئة ومنع الزيارة تماما. أفقت بعد عدة ساعات وكنت بمفردي تلفت حولي فوجدت مشرطا خاصا بفتح أمبولات الحقن على المنضدة، فأخذته وخبأته بعد أن قررت أن أتخلص من حياتي التي كلها كذب وخداع وخذلان من أقرب الناس إلي، فلمن أعيش بعد الآن؟! لأبي الذي خذلني وأنا ما زلت طفلة وتخلى عني وتركني أعاني مرارة الفقد والحرمان وهو موجود؟ أم لزوج ظننته مكافأتي من الدنيا فمنحته قلبي وروحي وحبي بلا حدود ليجزيني بخيانته لي في بيتي وعلى سريري؟ زوج ضحيت من أجله بكل شيء ولم أطلب مقابلا سوى حبه وإخلاصه، أما حبه فكان سرابا خادعا، ولم يكن مخلصا لي، وربما تلك لم تكن أول مرة، فمن أجل من أعيش؟
لقد قررت يا أبي أن أتخلص من حياتي ومن عذابي؛ فلم تعد لدي القدرة على تحمل المزيد من جراح الروح التي لا تلتئم، ولا آلام القلب التي لا تنتهي، لقد تعبت وسئمت تلك الحياة، فهي مناسبة للقساة المخادعين، ولا تلائم الصادقين والمخلصين في الحب أمثالي، سأغادر حياتكم لعلي أجد الراحة في الحياة الأخرى، وأنا أرجو من الله أن يغفر لي، فهو وحده يعلم كم قاسيت وكم قتلتني طعنات الغدر وبعثرت أشلائي، فوداعا يا أبي يا أغلى من أحببت.
من كانت يوما ابنتك ومدللتك وحبيبتك.
نهلة.
تركت نهلة دفتر أوراقها الذي أحضره لها سليم بجوارها ومدت يدها أسفل الوسادة والتقطت المشرط وأمسكته بيدها للحظات، فشعرت بالخوف وفكرت في التراجع لكنها تذكرت مشهد أمها وانهيارها بعد زواج أبيها، وتذكرت مشهد خيانة زوجها، من وثقت به فخان عهدها وذبحها ولم يهتم بآلامها، فقررت المضي فيما اعتزمت عليه ووضعت المشرط فوق شريان يدها واغمضت عينيها وشعرت بالآلام والدم اللزج ينساب من شريانها، فأغمضت عينيها وظلت تهمس: سامحني يا رب، أنت وحدك عالم أنا تعبت أد إيه، عارفة إن اللي باعمله دا غلط، لكني طمعانة في كرمك ورحمتك، سامحني يا رب.
ظلت ترددها حتى غابت عن الوعي.
الجزء الثاني
يا لها من شخصية غريبة تحمل بداخلها عوامل الضعف والقوة في آن واحد! كنت في البداية أراها إحدى النساء المدللات اللاتي يصبن بالصدمة من مجرد مشكلة بسيطة في حياتهن، لكن عندما قرأت ما كتبته في دفترها بعد أن أنقذت حياتها، أدركت حينها أنها تمر بأزمة فقدان ثقة بنفسها وبكل من حولها، قررت التخلص من حياتها في لحظة ضعف. تعاطفت معها، ولكن جزءا مني ناقم عليها؛ فلقد تقابلت مع شخصيات تعرضت لآلام أكثر بكثير منها وتحملت ولم يفكروا في الانتحار. أنا مثلا طبيب ممارس عام لكن ظروفي كانت تدفعني بقوة لأكون منحرفا أو مدمنا للمخدرات، لكني سعيت بقوة لتحقيق حلمي لأكون طبيبا وأتخصص في علاج الأورام لأنقذ المرضى، فأمي ماتت بالسرطان وحرمت من حبها وأنا طفل في الثامنة وتزوج أبي بامرأة لم تتحمل وجودي، فتركني لجدتي لأمي لتعتني بي، وفي الحقيقة كنت أنا من اعتنى بها، فهي كبيرة في السن وهدها المرض والحزن على وفاة أمي. كنت أرى أبي كل أول شهر عندما يأتي ليترك لنا بضعة قروش كمصروف لي ولنفقاتي، وكنت أعاني من الذل عندما أطلب منه مبلغا إضافيا بسبب الدروس. كنت في أعماق نفسي أكرهه لتخليه عني ولتقتيره علي؛ لذا قررت أن أعمل وأنا لم أتجاوز العشر سنوات عند أصحاب المحلات المجاورة حتى يتوفر لدي مال فلا أتذلل لأبي، ورغم ظروفي تلك من عمل وعناية بجدتي - الحضن الوحيد الذي يضمني بحب وحنان ليمسح عني آثار قسوة الزمن - فقد كنت من المتفوقين دراسيا، فكان أمامي هدف واحد هو كلية الطب ولن أحيد عنه؛ لذلك لم أسقط في براثن غوايات مرحلة المراهقة وأصدقاء السوء حتى لا أضل عن طريقي الذي حددته. حصلت في الثانوية على مجموع يؤهلني لدخول كلية الطب، وعندها ماتت جدتي وفقدت الحضن الدافئ الذي طالما احتواني وخفف عني همومي، وكأنها سلمت أمانتها بمجرد اطمئنانها أني خطوت أول خطوة في طريق الحلم. كانت نفقات الكلية باهظة وتكفل أبي بنصفها فقط، فكان علي أن أعمل لأسدد باقي النفقات، فعملت في الصيدلية التي كان صاحبها صديقا لخالي المهاجر لأستراليا، وكثيرا ما ساعدته جدتي وأمي لاستكمال دراسته، فأراد أن يرد الجميل بعملي معه في الوقت الذي تسمح به ظروف دراستي، كما كان يمدني بالكتب والمراجع من أصدقائه الأطباء، وحينما حاولت الرفض قال: دا دين في رقبتي باسدده، كان خالك مصطفى بيخليني أذاكر معاه في كتبه، وأمك الله يرحمها كانت بتصور لي الأجزاء المهمة على حسابها، وجدتك كانت بتديني مصروف في السر من ورا الكل؛ لأن معاش والدي الله يرحمه كان يدوب مكفينا أكل وبس، وكان حلم أمي أبقى دكتور، فساعدوني أبقى دكتور صيدلي، أنا مهما عملت ما أردش جميلهم يا نادر.
وقبل تخرجي بعامين توفي والدي وانقطع عني حتى القليل الذي كان يمنحه لي، وقالت لي زوجته إنها لا تريد أن تراني أو أن يكون لي صلة بها أو بأولادها، وأن أبي تركهم مدينين، وممتلكاته ستخصص لتسديد الديون.
ضاقت بي الدنيا، وفكرت في الانتحار مثل نهلة، لكني فوجئت بخالي مصطفى يتصل بي - بعد أن عرف ما جرى لي من صديقه - ووعدني أن يتكفل بكل نفقات دراستي حتى التخرج، عندها سجدت لله شكرا، وأدركت أنه لن يتخلى عني. بذلت كل جهدي حتى تخرجت، وبجوار عملي الحكومي فأنا أعمل في مستشفى خاص ملك لأحد أساتذتي المقدر لنجاحي وتفوقي. لو كل إنسان ضعف أمام الابتلاءات القوية لما بقي أحد على قيد الحياة.
المواجهة
كنت في عالم مختلف أرى فيه أشخاصا غابوا عن حياتنا، وكل من يقابلني يسألني نفس السؤال: عملتي كده ليه؟ حرام عليكي. - أنا تعبت. - ويا ترى ارتحتي؟ - مش عارفة.
هل حقا ارتحت من التعب أم ما زالت روحي متعبة؟ ترى هل سيغفر لي ربي ذنبي؟ وكيف سأواجهه؟ لماذا لم أتحمل كغيري؟ لم لم أحتمل وأنتظر الثواب من الله؟ هل أنا آثمة حقا؟ يا رب ليس لي سواك، فارحمني برحمتك.
شعرت بيد سليم تمتد إلي وهو يبتسم ويجذبني ويقول لي: تعالي، لسه قدامك فرصة.
فأمسكت بيده وذهبت معه ، فتحت عيني لأرى أني ما زلت بنفس حجرتي بالمستشفى والممرضة تبتسم لي وتقول: حمد الله على السلامة خوفتينا عليكي، دا دكتور نادر كان مراهنا إنك هتقومي واحنا نقوله لأ، فقال هي قوية وهتقاوم. - مين دكتور نادر؟ - الممارس العام اللي كان بيمر على العيانين ساعة ما أخوكي اتصل وقال إنه بيكلمك ما بترديش وإنه قلقان عليكي، قام دكتور نادر دخل لاقاكي ... قام أنقذك بسرعة، بس كنتي نزفتي كمية دم كبيرة، فطلب أخوكي وقاله محتاجين دم، فجه بسرعة واتبرع لك بدمه لأنكم نفس الفصيلة، بس كانت حالتك صعبة، لكن الحمد لله ربنا نجاكي، هابلغ أهلك ودكتور نادر.
خرجت وتركتني، وبعد عدة دقائق دخل طبيب بمعطفه الأبيض المماثل لبشرته، وقامته الطويلة الرشيقة، وعينيه العسليتين اللتين تفيضان بغضب ناري، وبعد أن انتهى من فحصي قال بحدة: أنا هاحطك تحت المراقبة اليومين الجايين؛ لأن واضح إنك بتمري بمرحلة مراهقة متأخرة مخلياكي مش عارفة تفكري وبتتصرفي بجنون. - إنت مين عشان تحاكمني وتحكم علي؟ إنت ما تعرفش عني حاجة. - كل اللي أعرفه إنك عرضتي صحة والدتك للخطر بسبب تهورك، وإن أخواتك كانوا هيتجننوا عشانك، خصوصا الأستاذ سليم اللي كان بيبكي زي الأطفال، اللي أعرفه إني لو عندي عيلة زي دول هاحارب الكون كله عشان أفضل معاهم وأسعدهم، مش أكون أناني زيك ومع أول مشكلة صعبة أفكر في الانتحار. - إنت جاي تعالجني ولا تحاسبني؟ - ولا أحاسبك ولا تحاسبيني، بس واضح إنك من الناس اللي بتنسى النعم اللي عندها وبتفضل تبكي وتدور على اللي ناقصها، عموما أنا بعت دفتر مذكراتك لوالدك مع الأستاذ سليم، ووالدك كان هنا النهارده وساب لك الرسالة دي، بس قبل أي حاجة لازم تاكلي كويس وتاخدي الدوا.
سكت للحظات ثم قلت وأنا أشعر بالخجل: شكرا يا دكتور على تعبك معايا، تسمحلي أكلم أهلي. - طبعا، الموبايل عندك، بس الانفعال ممنوع.
اتصلت بأمي وأخبرتها أني بخير، واعتذرت لها عما سببته لها، ورفضت أن تأتي لرؤيتي بسبب تأخر الوقت، وطلبت منها أن تنتظر للصباح، لكن سليم لم ينتظر إنما جاء لرؤيتي وقبل جبيني وقال: خضتيني عليكي، ينفع كده؟ - سامحني كانت لحظة ضعف، بس صحيح اتبرعت لي بدمك؟ - أه، يعني من هنا ورايح دمك هيبقى خفيف.
ابتسمت وقلت له: عايزة أخرج من هنا. - الدكتور قال هتتحطي يومين تحت الملاحظة وبعدين تخرجي. - خرجني بكرة وأوعدك مش هاعمل في نفسي حاجة، بالعكس أنا هارجع أقوى من الأول. - طيب هاتكلم مع الدكتور وأشوف رأيه، نامي شوية وارتاحي وربنا يسهل.
إلى ابنتي
في البداية أعترف بتقصيري تجاهك أنت وأخوتك، لكن أقسم بالله ما كففت عن حبكم يوما ولن أكف حتى آخر لحظة في حياتي، ولكن ربما لأني لم أتعلم البوح بمشاعري بقوة. سأحكي لك حكايتي من البداية حتى تحكمي علي بشكل صحيح؛ فقدت أمي وأنا في الرابعة من عمري حيث طلقها والدي وتزوج بأخرى وعشت معها، لم تحبني ولم تكرهني إنما كانت تتعامل معي كشخص يجب أن تتعامل معه، فكانت تخدمني ولكن بلا مشاعر، فتقوقعت على نفسي حتى أتجنبها، وكنت في المناسبات أذهب لزيارة والدتي في بيت زوجها الذي كان رجلا صالحا يعاملني بحب، فكنت أسعد بوجودي معه أكثر من أبي الذي يعاملني بقسوة لأصبح رجلا - كما يرى - لكن وجودي في بيت أمي كان مؤقتا لأن أبي يرفض أن يربيني رجلا غريبا. مضت الحياة بحلوها ومرها حتى حصلت على شهادتي من معهد تجاري - حيث كنت أكره التعليم والمذاكرة - وبدأت العمل في شركة مقاولات كبرى كموظف بسيط بواسطة زوج أمي الذي كان قريبا لأحد موظفي الشركة الكبار، حلمت أن تكون لي يوما شركة كهذه، ورغم أني لا أملك إلا راتبي لكن ذلك لم يمنعني من الحلم. تعرفت بخالك عند زوج أمي، حيث كانت بينهما أعمال تجارية، وعرفت أنه موظف في بنك، ورغم ذلك يؤجر أحد محلات والده لزوج أمي، وعندما توطدت بيننا الصلات عرضت عليه مشروعي، حيث أرغب في عمل مقاولات خاصة بي لأني صرت بالخبرة أعرف كل أسرار المهنة، وكذلك أنا على صلة جيدة بأمهر العمال، لكن ينقصني رأس المال، فوافق أن يشاركني بالنصف، هو بالمال وأنا بالجهد. بدأت العمل بالإضافة لوظيفتي، فكنت أتولى تشطيب بعض الشقق، ثم تطورت لتشطيب عمارات بأكملها. بعد عامين تحقق لنا ربح جيد وتعرفت على أسرته، وشاهدت أمك لأول مرة، فتاة جميلة من أسرة طيبة لكنها تتفوق على أسرتي ماليا واجتماعيا، ورغم ذلك لم تتزوج بعد لأنها تم عقد قرانها مرتين، ثم انفصلت قبل الزواج، فأصبح الخطاب ينفرون من الزواج منها.
حلمت أن تكون زوجتي، لكن هل سيقبل أهلها وأنا أقل منهم في كل شيء؟ نفضت الفكرة من رأسي حتى لا أخسر خالك أحمد. استأجرت شقة صغيرة لتكون مقرا لشركتنا بعد أن تقدمت بطلب إجازة من عملي، بدأ عملنا يحقق نجاحا بسبب سمعتي الطيبة والتزامي، عندها لمحت لي جدتك أنها تحلم برجل يصون ابنتها ولا تهتم بالفروق الاجتماعية، فتشجعت وطلبت يدها من أحمد، فوافقوا وتم الزواج. لا أستطيع أن أنكر أني أحببت عشرتها الحلوة وطيبة قلبها وحبها لأهلي وترحيبها بهم، لكن كان هناك دائما ذلك الفارق بيننا الذي تذكرني به في كل مناسبة، وفضل أخيها علي الذي لولاه لكنت ما أزال موظفا صغيرا، لم تتذكر جهدي وتعبي حتى كونت اسما وسمعة طيبة. كل رجل يا ابنتي يحلم بأن يكون بطلا في عين زوجته لا ترى في الدنيا سواه، ولكني لم أكن يوما بطلها إنما بطلها كان أخاها دائما؛ فهو من تفتخر به ومن تشيد بنجاحاته، ومن تستشيره في كل شيء. لم تكتف بذلك إنما جعلت دوري في البيت يقتصر على تمويلكم، فهي المسئولة الوحيدة عن كل شيء، ملابسكم، مدارسكم، مصروفاتكم، حتى نوع العقاب هي من تحدده، ولم يكن مسموحا لي بالتدخل بحجة أني دائما خارج البيت ولا أعرف عنكم شيئا.
لم أكن أتذمر في البداية لأني كنت أجري وراء لقمة العيش لأوفر لكم حياة تليق بكم ولأحقق مالا ومركزا ربما يجعلان أمك تفتخر بي كأخيها، لكن ذلك لم يحدث. حتى المشاعر بيننا بدأت تجف وصارت تتباعد عني بحجة أننا كبرنا في السن وأنكم كبرتم ولا يصح أن تدركوا طبيعة العلاقة بيننا، تباعدت عني في أكثر فترة أحتاج لها فيها، تلك الفترة التي بدأت فيها أشعر بالاستقرار وأرغب في اللحاق ببقايا الشباب وتعويض ما فاتني من مشاعر. حاولت كثيرا أن أفهمها احتياجاتي لكنها كانت تراها مجرد تفاهة كبرنا عليها.
لم تكن تعلم أن حولي ألف امرأة ما زالت تراني صغيرا وتحلم بأن أكون لها، حاولت أن أقاوم كثيرا، ولكن هل أستطيع الصوم للأبد وأشهى أنواع الطعام تحيط بي من كل جهة؟ حتى جاءت نرمين السكرتيرة تلك المرأة الثلاثينية التي تفيض أنوثة، لكن أكثر ما جذبني إليها هو ضعفها وحاجتها الدائمة إلي، وأنها تراني فارسا لأحلامها لم تقابل مثله يوما، فكنت بطلها الذي تبهرها كل تصرفاته، بعكس أمك التي كانت تراني عاديا مقارنة بأخيها ذلك الرجل الخارق - كما كانت تسميه - فاستطاعت نرمين أن تجذبني تجاهها وخاصة عندما طلبت مني مساعدتها وهي تبكي، فهي تحتاج لمحام لا يستغلها لكي تطالب طليقها بنفقة ابنها الذي لم يتجاوز الثلاث سنوات، وهي لا تثق بغيري كي يساعدها. وقعت أسير ضعفها واحتياجها لي وانبهارها بي، ولأني لا يمكن أن أغضب الله قررت أن أتزوجها وألا أنفصل عن والدتك لأن مكانها في قلبي ما زال كبيرا، ولأني لا أستطيع الاستغناء عنكم، فقررت أن أخفي الخبر عن أمك وأهلها حتى لا أجرح مشاعرها، لكن الخبر لم يظل سرا لفترة طويلة فاعترفت لأمك بزواجي وبرغبتي أن تكمل معي كزوجتي وأم أولادي، لكنها رفضت بشدة وأصرت على الطلاق حتى لو طلقت نرمين فأنا في نظرها ونظر أهلها خائن للعشرة ولا أستحق كل ما فعلوه من أجلي، بل إن أحمد قرر تصفية الشركة بيننا كعقاب لي ولأنه لم يعد يأتمنني على ماله. لم يؤلمني ما فعلوه، لكن آلمني أن يتهموني بالخيانة والغدر، وأن أمك حتى تكبرت عن العتاب أو اللوم، وأن أحدا من أسرتها لم يحاول إصلاح ما بيننا أو معرفة السبب، بل اكتفوا باتهامي حتى أن قرر أحمد تصفية الشركة فورا مما تسبب لي في خسائر كبيرة، لكني لم أهتم، إنما التزمت بنفقاتكم لأضمن لكم مستوى معيشيا ثابتا لا يتأثر بما حدث، وعاهدت نفسي ألا أبتعد عنكم.
أعترف أني لم ألتزم بوعدي، لكني كنت دائما أقول لنفسي إنكم لا تحتاجون لي، فمعكم أمكم وأهلها، أما نرمين فليس لها سواي، كما أنها أنجبت لي ثلاثة أطفال في ثلاثة أعوام متتالية كأنها خائفة من تركي لها وعودتي إليكم، فصارت مسئولياتي أكبر وخاصة أنها لم تكن كأمكم تحمل عني بعض المسئوليات، إنما كانت تلقي على كاهلي بكل صغيرة وكبيرة، ورغم أنها غمرتني بحبها ومشاعرها الفياضة إلا أن غيرتها كانت تخنقني، فقد كانت تغار حتى منكم، ولأني مشغول بعملي كنت أتجنب غيرتها حتى وجدت نفسي بعيدا عنكم تماما.
كبرت يا ابنتي ومرضت، وكبر الأبناء وزوجتي الضعيفة المعتمدة علي صارت تتدخل في كل شيء وتتحكم في كل شيء، في عملي وحياتي وحتى علاقاتي بالآخرين فأفسدت معظمها حتى أكون لها وحدها ولا يشاركها حبي ومالي سوى أولادها فقط، ولأني صرت أحتاجهم أكثر مما يحتاجونني استسلمت لرغباتها حتى إني حرمت نفسي من أجمل لحظة يحلم بها كل أب وهي لحظة زواجكم؛ فقد أصرت على ألا أحضرها بحجة أنكم لا تحتاجون لي، لكنها لم تدرك أني أنا من كنت أحتاج لتلك اللحظات التي تروي ظمأ الروح بعد سير طويل في صحاري الحياة القاحلة.
وأفقت من أنانيتي وتقصيري على خبر مرضك، محاولة انتحارك، فكاد قلبي أن يتوقف، فنوارة قلبي ومدللتي فقدت رغبتها بالحياة وأنا لا أعرف لم، بل وأقف عاجزا عن فعل أي شيء لها، وزاد إحساسي بالعجز والألم تلك الكلمات التي تركتها لي، لم أكن أعرف أني تسببت لك ولإخوتك في كل هذا الألم، وأني بأنانيتي أفسدت حياتكم، لو أملك أن تعود بي عقارب الزمن لأعدتها لأتخلى عن كل رغباتي وأظل بجواركم العمر كله، لكن من منا يملك أن يغير ماضيه وحاضره؟ لكن أعدك يا حبيبتي أن أبذل قصارى جهدي لأغير المستقبل وأجعله أفضل.
لي عندك طلب صغير، هلا سامحتي أباك العجوز الذي أساء إليك بدون قصد ويتمنى لو أن يفعل أي شيء لتغفري له؟ فأنت جزء من قلبي وروحي، ومهما ابتعدت عنك بجسدي فستبقين أنت في قلب قلبي وروحي.
أبوك المعذب بذنبه
الغفران
بكيت وأنا أقرأ الرسالة؛ فقد أدركت كم كنت أنانية في حكمي، فلم أكن أرى سوى آلامي أنا وجراحي أنا، ولم أدرك أن هناك حقائق غائبة وراء كل موقف لا نفهمها حقا إلا بعد أن يحكي كل طرف ما حدث. لقد آلمت أبي بكلامي الجارح وبتحميلي له كل مسئولية ما حدث لي، كما آلمت أمي وإخوتي بتهوري ومحاولة انتحاري، لم أفكر فيمن حولي، حيث كنت أتمحور حول ذاتي فقط، وحقا كما قال الطبيب، كنت أبحث عما ينقصني لأغضب، ولم أحمد الله على ما لدي، وهو أكثر بكثير مما فقدته.
فكرت كثيرا في كل حياتي، فقررت ألا أستطيع العودة لعصام، فما فعله لم يكن هينا، وإن منحته فرصة أخرى فسأظل أراقبه وأتربص به، وسأحيل حياتنا لجحيم، لقد انكسر بداخلي حبي واحترامي له والأهم ثقتي به، وأية علاقة تفشل إن فقدت الثقة والاحترام. سأصر على الطلاق وأبدأ حياتي من جديد، حياة لا أمنح فيها كل حبي أو ثقتي لأحد، حياة أحب فيها ذاتي لأني أستحق ذلك، حياة لا أفني فيها نفسي في أحد ولا أضحي تماما من أجل أحد، سأكون فيها معتدلة في كل شيء حتى مشاعري، هذا إن بقيت لي مشاعر تجاه أحد.
في الصباح مر علي طبيب غير نادر، فطلبت منه أن يكتب لي الخروج لأن أمي مريضة ولن تحتمل غيابي أكثر من هذا، فوافق مع نصيحته بالمتابعة مع طبيب نفسي، وعند حدوث أية مضاعفات الاتصال به أو بدكتور نادر لأنهما المتابعان لحالتي، فوافقت وارتديت ملابسي وعندما حضر سليم وأمي فوجئا بي أستعد للخروج فاحتضنتني أمي وقالت: البيت كان وحش من غيرك. - ماتخافيش يا حاجة، راجعة لك نناكف في بعض.
فقال سليم ضاحكا: ربنا يستر.
خرجنا معا واستقبلتني سلوى في بيتنا بكل حب وود، شعرت بالدفء والأمان وأنا في بيتي بين أسرتي. بعد عودتي بيومين اتصل بي أبي وبعد الاطمئنان علي وعلى صحتي سألني: عصام جالي وبيعتذر وبيطلب فرصة تانية، يا ترى إيه رأيك؟ - ما أقدرش أرجع له تاني من فضلك يا بابا، أنا مصممة على الطلاق، وتكون طلقة بائنة عشان مايردنيش تاني لعصمته، دي صفحة من حياتي محتاجة أطويها. - هاعملك اللي انتي عايزاه، وهاحاول أصلح كل حاجة بيني وبينك وبين أخواتك، وأرجوكي يا بنتي سامحيني، وحاولي انتي وسليم وسلوى تقربوا من أخواتكم وتكونوا سندا لهم بعد موتي. - بعيد الشر عنك يا بابا. - الموت حقيقة، توعديني؟ - أوعدك يا بابا.
بعد أسبوع حصلت على الطلاق وطويت قصة حب خادعة؛ فهو كان يبحث عن فتاة خام لم تعرف غيره، وأنا كنت أبحث عن قصة حب تغير حياتي، فكانت النتيجة الطبيعية الفشل لتلك القصة التي يبحث فيها كل طرف عما يسعده ولا يفكر في سعادة الآخر.
كانت أول مرة أخرج فيها من البيت ذهبت فيها للمستشفى، حيث حملت بعض الهدايا للممرضات اللاتي اعتنين بي وشكرتهن على تعبهن معي، فقالت لي إحداهن: دكتور نادر هنا مش عايزة تسلمي عليه؟ - طبعا عايزة.
طرقت باب غرفته، ولما أذن لي دخلت وأنا أتعثر في خجلي، فنظر لي بلا مبالاة وقال ببرود: أهلا مدام نهلة، خير بتشتكي من حاجة؟ - لا، الحمد لله أنا كويسة، بس كنت جاية أشكر الممرضات، ولما عرفت إنك هنا جيت أشكرك. - دا واجبي وشغلي اللي باخد عليه مرتبي، أنا ما عملتش حاجة مخصوص.
جفاء كلماته زاد من ارتباكي، فقلت: عموما أنا متشكرة وآسفة إن كنت عطلتك، عن إذنك. - استني ... فيه حاجة بتاعتك معايا.
قام وفتح حقيبته وأخرج منها بعض الأوراق التي أدركت أنها رسالة والدي، فاحمرت وجنتاي وقلت بغضب: مش ملاحظ إنك متطفل زيادة عن اللازم! الأول تقرأ الكلام اللي وجهته لوالدي وتعرف عني كل خصوصياتي من غير إذني، وبعد كده تسمح لنفسك تحتفظ برسالة بابا، وأكيد قريتها برضه من غير إذن. - أولا مذكراتك كانت مرمية جنبك متلطخة بدمك، وبعدما عالجتك كان لازم أفهم إيه اللي خلاكي تعملي كده عشان أقدر أساعدك، وفعلا لما قريتها لقيت إن والدك لازم يقراها، والرسالة التانية لقيتها واحدة من الممرضات تحت مخدتك واديتهالي لأني عارف رقم أخوكي وعلى تواصل معاه، وأنا أصلا نسيتها وما افتكرتهاش غير لما شوفتك ومافتحتهاش، لأني مش فضولي، ولأن خصوصياتك ما تهمنيش.
ساد الصمت بيننا للحظات، وقطعه بقوله: طمنيني، صحتك عاملة إيه دلوقتي؟ - كويسة. - طيب ممكن تيجي أشوف النبض وأقيسلك الضغط. - لأ شكرا. - أنا شايف وشك أصفر، إنتي ما بتاكليش كويس ولا لسه زعلانة على الجنين؟ - جنين إيه؟ - هو انتي ماتعرفيش إنك كنتي حامل، ولما وقعتي حصلك نزيف وإجهاض؟
شعرت بذهول ودارت بي الأرض، فاستندت على المكتب فقال لي: اقعدي من فضلك، واضح إنك زعلتي، بس ما تخافيش إنتي لسه صغيرة وتقدروا تخلفوا تاني. - إحنا اتطلقنا. - أنا آسف، في البداية كنت فاكر إن جوزك ضربك وكان السبب في نزول الجنين، وبعد إنقاذك كنت مصمم أعمل له محضر، بس أخوكي رفض وقال مش عايزين فضايح، ولما قريت مذكراتك عرفت إن السبب خيانته، بس كنت فاكر إنك عارفة بالحمل وكنتي عايزاها مفاجأة.
سكت للحظات ثم قلت: أنا هامشي. - بس إنتي شكلك تعبان، ممكن أكلم أخوكي يجي ياخدك، أو استنيني ساعة أخلص شغلي وأوصلك. - لا شكرا، أنا هاخد تاكسي. - طيب دا رقمي هنا وفي العيادة ورقم موبايلي، من فضلك أول ما توصلي طمنيني عليكي، ولو تعبتي أي وقت كلميني. - حاضر عن إذنك.
خرجت وأنا أتعجب من ترتيب القدر، فلو كنت عرفت بحملي لكنت بقيت من أجل طفلي مع عصام، لكني فقدت الطفل حتى لا أظل مرتبطة به لأي سبب. عدت للبيت وأنا أشعر بالصداع الرهيب فاتصلت بنادر وطمأنته، فطلب مني أن ألتزم بالراحة وأن أستشير طبيب نفسي وأشار علي ببعض الأكفاء منهم، فوعدته أن أذهب. كنت أمضي أيامي التالية بين النوم والقراءة ولا أرغب في عمل أي شيء، فأصرت أمي على زيارتي للطبيب النفسي، واستجبت لها. بعد عدة جلسات مع الطبيب النفسي تحسنت حالتي واستعدت رغبتي في الحياة، حتى إخوتي من أبي بدأت أتواصل معهم رغم جفائهم في معاملتي، لكني لم أهتم، إنما كنت أهتم بسعادة أبي بذلك التواصل. أصر الطبيب النفسي على عودتي للعمل لتأثير ذلك الإيجابي على نفسيتي، لكنه طلب مني الاستعانة بطبيب متخصص لمعرفة سبب الصداع المستمر الملازم لي.
اتصلت بدكتور نادر وأخبرته بطلب الطبيب فقال: عدي علي بكرة في المستشفى ونشوف رأي الدكاترة الكبار إيه.
في اليوم التالي بينما أستعد لعمل الفحص تلقينا فاجعة موت أبي المفاجئ، كان الخبر صدمة بالنسبة لي، فما إن تحسنت العلاقات بيننا يتدخل القدر ليحرمني من أبي، وكأنني كلما أخذت خطوة في طريق السعادة، تبتعد عني هي بعشر خطوات. شعرت أني طفلة صغيرة تاهت عن والدها، وبمجرد أن وجدته خطفه القدر من بين يديها، فبكيت يتما كتب علي عمري كله، ومشاعر أفتقدها ولن أجدها، بكيت أبا لم يكن موجودا في حياتي سوى بالاسم وعندما عاد لي كاملا فقدته مجددا. كنت أتخبط في مشاعري تائهة حتى ضمتني أمي لصدرها وقالت: الله يرحمه، ادعيله ربنا يغفر له. - إنتي اللي بتقولي كده؟ - يا بنتي كلنا بشر لنا ميزاتنا وعيوبنا، وزي ما شفت مع أبوكي الوحش شفت معاه الحلو، وولاد الأصول اللي ساعة الفراق بينسوا كل الوحش وما يفتكروش غير العمل الطيب. - الله يرحمه ويغفر له.
شعرت ببعض التعزية لأني حاولت إسعاده قبل وفاته بمسامحته والتواصل مع إخوتي وأهله الذين أوصانا على وصلهم دائما.
اتصل بي نادر كثيرا ولكني لم أجبه، فظن أن مكروها أصابني فاتصل بسليم، فلما عرف بوفاة والدي حضر العزاء، وبعد عدة أيام اتصل بي؛ ليجدد موعدي للفحص الطبي. ذهبت في اليوم التالي وأجريت عدة تحاليل وأشعة، وبعد يومين قال لي: أنا عايزك تيجيلي بكرة المستشفى. - ليه! نتيجة التحاليل فيها إيه؟ - الغريب إن مافيهاش حاجة، فعايزين نعمل أشعة مقطعية على المخ. - ليه؟ - ممكن الوقعة اللي وقعتيها سببت كدمة وهي اللي عاملة الصداع دا. - بس أنا بكرة كنت رايحة أعمل مقابلة شغل جديد. - هتخلصي إمتى؟ - تقريبا الساعة 3. - هاستناكي بس متتأخريش. - طيب ما أنا ممكن أعملها في أي مركز بره وأبقى أجيبهالك. - زي ما تحبي، واضح إن متابعتي لكي مضايقاكي. - لا أبدا، أنا بس مش عايزة أعطلك. - لا متخافيش، مافيش أي تعطيل، أنا بكرة ماعنديش حاجة بعد المستشفى. - متشكرة يا دكتور.
تساءلت، هل هذا اهتمام عادي من طبيب بحالة يتابعها، أم إنه اهتمام خاص بشخصي؟ لا بد ألا أقع فريسة الأوهام؛ فهو مجرد طبيب مجتهد يتابع مريضة، كما أن طريقة تعامله وكلامه كلها لا تدل على غير ذلك. ذهبت لإجراء المقابلة، والحمد لله تم قبولي في العمل، فذهبت مسرعة للمستشفى والتقيت بنادر الذي اصطحبني لإجراء الأشعة، وبعدها سألني عن المقابلة فأخبرته بقبولي فهنأني ببروده المعتاد، فودعته وانصرفت.
وتتوالى الأحزان
في الصباح وجدت على هاتفي رسالة من نادر مختصرة وجافة: «لما تصحي كلميني.» فقمت وتوضأت وصليت وتناولت إفطاري، ثم اتصلت به فقال: عايز أتكلم معاكي لوحدنا، ينفع نتقابل فين؟ - ليه إيه السبب؟ - مش هينفع في التليفون. - وأنا ما أقدرش أقابلك غير في المستشفى، أنا مطلقة، وكل تحركاتي محسوبة علي من الناس. - خلاص تمام، هاستناكي في المستشفى.
تعجبت لطلبه، فلم يرغب في مقابلتي بعيدا عن البيت والعمل؟ هل يظنني امرأة سهلة؟ هل سيحاول استغلال احتياجي العاطفي؟ أيرغب في علاقة معي؟ لا أعتقد، فنادر مختلف، ولماذا هو مختلف! أليس برجل كباقي الرجال وأنا مطلقة؛ أي مطمع لكل رجل؟ لا بد أنه طامع في علاقة معي، لن أذهب، لا بل سأذهب لألقنه درسا لن ينساه وأقطع علاقتي به.
ذهبت للمستشفى وأنا متحفزة له، وعندما دخلت المكتب فوجئت بوجود دكتور إيهاب - من كان يتابع حالتي مع نادر - الذي رحب بي، وعندها دخل نادر ومعه الأشعة وقال: أهلا مدام نهلة. - خير يا دكتور نادر، كنت عايزني ليه؟
فقال إيهاب: بصراحة الأشعة بتاعتك بينت إن عندك مشكلة. - مشكلة إيه؟
فقال نادر بهدوء: كتلة ضاغطة على المخ، ومش عارفين دي إيه، تجمع دموي مكان الوقعة، ولا ... - ولا إيه؟ مش فاهمة!
فقال إيهاب بحذر: ولا ورم، بس ماتتخضيش، مش كل ورم حاجة وحشة، ممكن يكون ورم حميد.
فقال نادر: وعشان نعرف هو إيه ونعالجه صح محتاجين نفتح ونستأصله.
تخيلت كل شيء لكني لم أتخيل أبدا أن يطلبني نادر من أجل هذا السبب. ورم! أي أني أواجه الموت، على بعد عدة خطوات طالت أو قصرت؛ فهو مرض شرس يلتهم مرضاه بضراوة. أفقت من شرودي على صوت نادر يقول: متخافيش، وأهم حاجة هنعرض كل الأشعة والتحاليل على دكتور كبير متخصص، وهو يوجهنا نعمل إيه. - أنا اللي كنت باسعى ورا الموت، ولما اقتنعت إن الحياة حلوة ولازم نعيشها ألاقي الموت هو اللي بيسعى ورايا، الدنيا دي غريبة. - أهم حاجة لازم تعرفيها إن اللي معنوياتهم عالية هم اللي بيقاوموا ويصمدوا، واحنا لسه مش متأكدين إحنا بنواجه إيه. - أنا مش خايفة من الموت، لو دا قدري إيه المطلوب مني؟
فقال إيهاب: الأول هتعرفي أهلك بهدوء، وبعد كده ناخد خطواتنا مع الدكاترة المتخصصين.
فنظرت لنادر وقلت: ممكن أطلب منك خدمة؟ - طبعا. - أنا ممكن أقول لسليم وهيفهم ويصدقني، لكن ماما مش هتصدق غيرك.
فابتسم لأول مرة وقال: أنا موافق، بس تعزموني على فنجان قهوة. - متشكرة جدا يا دكتور نادر، وشكرا يا دكتور إيهاب على تعبك معايا.
فقال إيهاب: لا شكر على واجب، وما تخافيش إن شاء الله خير.
انصرفت والأفكار تصارعني وتزيد من وطأة الصداع وعدت للبيت، واتصلت بي مسئولة التوظيف في الشركة التي قبلتني للعمل بها، فاعتذرت لها عن العمل لظروف صحية، وقلت لنفسي أنا لا أعلم ماذا تدخر لي الأقدار. نمت قليلا وبعد الظهر اتصلت بسليم وحكيت له كل ما حدث فطمأنني، عرفت بعد ذلك أنه اتصل بنادر ليتأكد من كل ما قلته، وهو مفزوع من فكرة فقدي، فطمأنه نادر وطلب منه أن يأتي لمقابلة والدتي في وجوده؛ ليشرح لها حالتي حتى نبدأ رحلة العلاج.
جاء نادر وجلس مع والدتي وقال لها إن هناك تجمعا دمويا في رأسي بسبب وقوعي، وإنه يجب إزالته حتى لا يتحول لورم، فوافقت والدتي على الفور وقالت له: اللي تشوفوه صح اعملوه، المهم بنتي تعيش سليمة.
بدأنا الإجراءات والتحضير للعملية وأنا لا أشعر بالخوف، بل بالطمأنينة لأني على يقين بأن الله لن يفعل لي سوى ما فيه الخير لنا جميعا، كما أني لست راغبة في الحياة بقوة، بل أعيشها لأنها مفروضة علي. دخلت المستشفى ومر علي الطبيب الكبير الذي سيجري لي العملية وقال مازحا: ماتخافيش، إيدي خفيفة مش هتحسي بيها. - مش خايفة، بس أهم حاجة تسيبولي عقلي سليم وحتة واحدة.
فضحك، وبعد أن تابع كل التحاليل واطمأن على مؤشراتي الحيوية انصرف، وفي الصباح جاء نادر وقال مبتسما: جاهزة؟ - لما أشوف سليم هابقى جاهزة.
عندها دخل سليم واحتضنني وقال: متخافيش أنا معاكي ومش هاسيبك. - وده اللي مطمني.
ثم قال لنادر: حافظ على دمي اللي عندها، ولو احتجت تاني أنا موجود. - ماما فين؟ - مارضيتش أجيبها ولا قلت لها على الميعاد، هي وسلوى فاكرين العملية بكرة، وماما عمالة تدعي لك.
فقال نادر: كفاية عواطف، وسيبنا نشوف شغلنا.
دخلت غرفة العمليات وقال لي طبيب التخدير: عدي لحد 10. - لا، أنا هاقرأ قرآن، ولما تلاقيني لخبطت اعرف أني اتخدرت.
ذهبت في عالم آخر، ورأيت أبي يبتسم لي ويضمني بشوق وأنا سعيدة بين أحضانه، ثم رأيت من بعيد طفلا صغيرا يبتسم لي ويمد لي يده، لكن أبي قال لي: دا مش وقتك، ارجعي لأمك يا حبيبتي.
انتهى الحلم، وأفقت على أصوات من بعيد وخيالات تتحرك أمامي وصوت ينادي اسمي أعرفه جيدا ولكني لا أتذكر صوت من هذا، حتى أفقت تماما، فوجدت نادر وسليم بجواري، وابتسم لي نادر وقال: حمد الله على سلامتك. - الله يسلمك.
فقال سليم: إنتي كويسة؟ - أه يا حبيبي ماتخافش، بس دماغي تقيلة.
فقال نادر: امشي انت النهاردة، وأنا نباطشي معاها وهاطمنك عليها.
خلال عدة أيام تحسنت حالتي كثيرا، وسمحوا لي بالخروج بعد أن تلقينا جميعا ومعنا نادر توبيخا من والدتي. على إخفاء موعد العملية عنها، فقلت لها وأنا أقبل يدها: كلنا كنا خايفين عليكي من التوتر وانتي ضغطك عالي، ماتزعليش حقك علي. - مش زعلانة يا حبيبتي، الحمد لله إنك قمتي بالسلامة.
حان موعد خروجي وجاء دكتور إيهاب للاطمئنان علي وقال: هناخد الأدوية بانتظام، وأي شكوى تكلميني أنا أو نادر على طول، وممنوع أي مجهود أو انفعال. - حاضر يا دكتور وشكرا على تعبكم، بس هاعرف نتيجة العينة امتى؟ - أول ماتظهر هنكلمك.
ميلاد جديد
لم يتوقف نادر عن زيارتنا أو التحدث إلي هاتفيا بحجة الاطمئنان علي، وكانت المحادثات بيننا تدور حول كل ما يخصنا، هواياتنا وطفولتنا ومشاكلنا، فخلال فترة بسيطة صرنا أصدقاء ونعرف عن بعضنا كل شيء. كنت أشعر معه بالراحة، ولا أخاف منه ولا أتكلف وأنا أتحدث معه، استمعت منه لأحلامه وطموحاته، وعرفت كم نحن متشابهون؛ فهو مثلي يخشى التعلق والفقد. جاء نادر ذات ليلة مع سليم لبيتنا وقال لأمي: أنا جاي النهاردة لسببين؛ الأول أبشركم إن نتيجة العينة كويسة ومافيش فيها حاجة.
قالت أمي: عينة إيه؟ - التجمع الدموي، كان لازم نفحصه ونتأكد إنه ماعملش ورم. - الحمد لله.
فقال سليم بخبث: والسبب التاني أكيد عوز حلاوة الخبر دا عشرين جنيه.
فقال نادر متلعثما: هو ... أنا ... عاوز حاجة تانية غير العشرين جنيه.
فسكت، فقال سليم ضاحكا: لازم طمعان في خمسين. - لا، طمعان في نهلة. - نعم؟ - عاوز أتجوز نهلة.
سكتنا جميعا واحمرت وجنتاي حتى قالت أمي: وماله يا حبيبي، احنا هنلاقي أحسن منك، بس مش يمكن أهلك يرفضوا بسبب ظروفها؟
حكى نادر لهم ظروفه العائلية، ثم قال: أنا عارف إن إمكانياتي المالية أقل منكم، لكن أنا بابذل كل جهدي عشان دخلي يتحسن.
فقال سليم بجدية: الفلوس وسيلة عشان الناس تعيش مرتاحة، لكنها مش كل حاجة في الحياة، المهم إنك تحافظ عليها وتصونها. - أوعدك إني هاتقي الله فيها. - وأنا مش عاوز أكتر من كده، وانتي إيه رأيك يا نهلة؟
سكت ولم أجب، فقالت أمي: أنا هاعمل لكم الشاي، تعالى يا سليم عاوزاك.
خرجا وتركاني معه، فقال نادر: ما قولتيش إيه رأيك؟ - ليه أنا؟ شفقة وعطف؟ - لأ، إنما لأننا متشابهون في ظروفنا كتير، مش هاقولك بحبك وبافكر فيكي طول الليل، لكن هاقولك عجبتيني بأخلاقك وتفكيرك وشخصيتك، أنا وحيد ومحتاج واحدة مخلصة تكون جنبي في حياتي ونعمل عيلة تملا علي الدنيا، وانتي الوحيدة اللي فكرت إنها تشاركني حياتي. - ومش هتعايرني بطلاقي، ولا هتغير إني كنت متجوزة قبلك؟ - أنا عارف ظروفك كويس جدا، وعارف نفسي مش أنا الراجل اللي يعاير واحدة ست بظروف مالهاش دخل بيها. - أنا خايفة أفشل تاني. - فشلك الأولاني لأنك جريتي ورا عواطفك بس ولغيتي عقلك، وبعدين في فترة الخطوبة من حقك تقرري هتكملي ولا لأ. - سيبني أفكر وأستخير ربنا. - وأنا منتظر ردك.
أبدت أمي وسليم ارتياحهما له مع تخوف سليم من ظروفه المالية، فقالت له أمي: بلاش نعقدها معاه، وماتنساش إنها مطلقة. - إنتي يا ماما اللي بتقولي كده؟ - لا، كلام الناس والمنطق اللي بيقول كده.
فقلت: أنا هافكر بعقلي وهاستخير ربنا، وبعد كدة أقرر أقبل ولا أرفض.
بعد أسبوع أخبرت سليم بموافقتي المبدئية، وأريد أن أتحدث مع نادر لأعرف كل ظروفه، فأخبر نادر الذي أتى إلينا وجلس معنا، فقلت له بعد الترحيب: أنا عاوزة أعرف كل ظروفك. - أنا مقيم في شقة جدتي القديمة، وبعد ماحوشت مبلغ حولت عقد الإيجار باسمي، الشقه 3 أوض كبيرة وصالة واسعة ومكانها في المنيل، باشتغل الصبح في مستشفى حكومي ولسه واخد الماجستير وهاحضر للدكتوراه، كمان باشتغل في المستشفى اللي أنتم عارفينه وباحلم في يوم تكون عندي مستشفى كبيرة بتاعتي، عندي عربية صغيرة مش قديمة أوي ومش أحدث موديل لكن بتخلص مشاويري، الخلاصة عايش في مستوى متوسط، ولو اتجوزنا هتعيشي معايا في نفس المستوى.
فقالت أمي: واللي ينقصها عندك نكمله إحنا. - كتر خيركم، بس أنا ما اسمحش حد يصرف على بيتي ومراتي مليم غيري، لو ظروفي تناسبها يبقى اتفقنا، ولو ماتناسبهاش يبقى مافيش نصيب.
سكت الجميع فقلت: موافقة بس لي شرط، ماتمنعنيش عن شغلي. - وأمنعك ليه، أنا معظم الوقت بره البيت، يبقى انتي لازم تملي فراغك بحاجة تحبيها، بس في حالة وجود أطفال أتمنى تتفرغي لهم.
احمرت وجنتاي خجلا، فقالت أمي: على بركة الله.
فقال سليم: وبالنسبة للعفش والشبكة. - أنا محوش قرشين، وتعالوا شوفوا الشقة، وشوفوا هتعملوا إيه فيها.
اتفقنا على كل التفاصيل وقرأنا الفاتحة، وحددنا الأسبوع المقبل موعدا للخطبة التي ستقتصر على الأهل فقط.
لا أعرف لم هي دونا عن غيرها التي جذبتني إليها، وشعرت أني أرغب أن أكمل حياتي معها، فهي ليست أجمل من قابلت ولا أكثرهم ثراء، لكن بها شيئا يجعل قلبي سعيدا عندما يراها، وأستمتع بالحديث معها ولا أريده أن ينتهي، كما أني أتلهف لرؤيتها بل كنت أخترع الأسباب لأراها وأبدل وردياتي لأكون بجوارها أطول وقت ممكن، هل هذا هو الحب الذي طالما خفت أن أقع في شباكه طالما حلمت به؟ لا أعلم، لكني سعيد بأنها صارت لي وبعد خطوات ستكون معي للأبد. أفقت من أفكاري على اتصال من دكتور إيهاب الذي قال: شفت إيه اللي حصل؟ - لو خبر حلو قول، لو وحش لأ عشان ماتبوظش مزاجي. - نهلة. - مالها؟ - نتايج العينة بتاعتها كان فيها لخبطة وجاتلي دلوقتي النتيجة السليمة. - اتكلم على طول فيها إيه؟ - ورم.
سكت للحظات وقد أصابتني صدمة، ثم تمالكت نفسي وقلت: وقلت لها؟ - لأ أنا باقولك أنت، بس ... - اتكلم فيه إيه تاني. - مالك عصبي ليه، هي تهمك للدرجة دي؟ - أنا لسه قاري فاتحتها. - يا خاين من ورايا، طب وهتعمل إيه دلوقتي؟ - ولا حاجة، هاكمل الجواز، ولما تبقى مراتي أبقى أعرف أعالجها وهتكون تحت رعايتي. - وعليك من دا كله بإيه؟ ما تسيبها وتتجوز واحدة سليمة. - إنت يا دكتور اللي بتقول كده؟ ومين فينا ضامن إنه يفضل سليم؟ ومين فينا أصلا ضامن عمره؟ - دا انت غرقان لشوشتك يا عم، طيب عموما أنا عرفت إنك خطبتها من سليم وحبيت أباركلك وأطمنك إنه ورم حميد. - تصدق إنك بارد وتستاهل اللي مراتك وحماتك بيعملوه فيك. - حرام عليك دا أنا غلبان، عموما ألف مبروك وربنا يسعدك.
أدركت بعد تلك المحادثة أن ما أشعر به ليس إعجابا فقط، بل هو أكبر من ذلك، فخوفي عليها ورعبي من فقدها جعلاني أدرك كم هي مهمه في حياتي.
الحب الحقيقي
تمت الخطبة في حفل عائلي بسيط، وبعدها بدأنا تجهيز شقة الزوجية واتفقنا من البداية على تجهيز غرفة النوم والصالة بأثاث جديد، بينما سنكتفي بإعادة طلاء غرفتي المكتب والغرفة التي سنخصصها للأطفال، وسيحتفظ بمكتبه القديم، بينما غرفة الأطفال سنضع بها أثاث غرفته القديم حتى يرزقنا الله بأطفال، وذلك توفيرا للنفقات. ورغم وجود الكثير من أثاث شقتي السابقة في شقة خالي المغلقة إلا أني لم أستخدمه، بل أصررت على بيعه كله وشراء أثاث جديد يناسب حياتي الجديدة. استنفد كل ذلك مدخرات نادر، فاضطررنا لتأجيل الزواج خاصة بعد أن رفض أية مساعدة بأي شكل من أي أحد، وخاصة أنا، وعندما عرف خاله بتأجيل موعد الزفاف - الذي أصر على حضوره - بسبب نفاد مدخراته أرسل له مبلغا كبيرا وقال له إن تلك هدية زواجه، فهو مثل أبنائه، فقبله نادر شاكرا. انتهينا من تجهيز الشقة وحددنا موعد الزفاف، وحضر خاله وهنأنا ودعانا لزيارته لقضاء شهر العسل، وأهدانا طارق زوج أختي تذكرتي سفر مجانا لأي مكان في العالم في أي وقت، فقال لي نادر: تسافري؟ - لو تحب. - أحب، بس الشهر دا عندي شغل مهم، هتزعلي لو أجلناه شوية؟ - لأ، زي ما تحب.
بدأت حياتي معه وأنا أشعر بالاطمئنان والسكينة بجواره؛ فقد كان إنسانا هادئا جدا ومتفاهما وعقلانيا جدا، لم يجبرني على شيء ولم يمنعني من شيء، إنما كان يناقشني إما أقنعه أو يقنعني، ورغم أني افتقدت المشاعر المتدفقة والرغبات المشتعلة إلا أني كنت أشعر بالأمان أكثر معه. بدأت بيننا بالعشرة مشاعر هادئة تنمو بالتدريج لم نتعجلها، ولم يضغط أحدنا على الآخر؛ ليعترف بحبه أو ليمنحه اهتماما أكبر. اتفقنا على تأجيل الإنجاب لمدة عام حتى نختبر حياتنا معا، هل سننجح في الحياة معا أم لا، وأيضا لأن إمكانياتنا المالية الحالية لا تحتمل وجود طفل. كنت أعمل ورغم ذلك كان يرفض أن أنفق راتبي في البيت، إنما سمح لي بإنفاقه على ما أحتاجه فقط، وبالطبع لم يستطع الوفاء بوعده لي لنسافر للخارج بسبب ظروفنا المالية، وكان ذلك يضايقه كثيرا، حتى عاد في يوم للبيت مبكرا عن موعده، ولأول مرة يحتضنني بقوة ويغمرني بقبلاته، وقال لي: عاملك مفاجأة. - خير. - هنسافر زي ما وعدتك. - بجد؟ - طبعا، والتذاكر أهي. - وهنقعد أد إيه؟ - سنتين. - إيه؟ - لما خالي عزمني أقضي شهر العسل عنده قلت له الأحسن تشوفلي شغل عندك، فوعدني لكن ماردش فقلت نسي، لحد ما لقيته بعتلي عقد العمل، وعملت الإجراءات وحجزت التذاكر. - بس دي أول مرة تاخد قرار مهم زي دا من غير ما تاخد رأيي. - ودي محتاجة رأي؟ هنسافر برة وأشتغل بمرتب كبير وممكن كمان أحضر الدكتوراه من هناك، عارفة دا معناه إيه؟ يعني لما نرجع مكانة كبيرة والمستشفيات هي اللي هتجري ورايا، وممكن أحقق حلمي ويبقى عندي مستشفى كبير للأورام، وأعمل جزء منه مجانا. - يعني انت فكرت في نفسك ومصلحتك، وافترضت إن موافقتي موجودة أو اعتبرتها تحصيل حاصل؟ - إنتي مش عاوزة تسافري؟ - عاوزة أسافر رحلة، لكن فكرة السفر لمدة دي ما اتكلمناش فيها، ولا انت ناسي إننا شركاء في حياتنا، وأي قرار حد فينا ياخده هيأثر على الطرف التاني؟
جلس حزينا وقد تلاشت الفرحة من عينيه وقال: أنا مافكرتش فيها كده، أنا فكرت إنها هتبقى مفاجأة حلوة لكي. - عشان تبقى مفاجأة حلوة لازم نكون اتكلمنا فيها، وتعرف أنا بحلم بالسفر بره ولا لأ. - قصدك إنك مش عاوزة تسافري معايا؟ ولا ألغي السفر من أساسه؟ - مش عارفة، بس هي زي ما قلت مفاجأة فعلا، وسيبني أفكر بهدوء. - بس أنا حجزت التذاكر كمان 10 أيام. - ما تضغطش علي من فضلك. - خلاص براحتك.
لأول مرة أراه حائرا ومنكسرا وليس قويا كما اعتدته، هل حقا يهتم لغضبي لتلك الدرجة؟ هل سيفتقدني إن سافر بمفرده؟ هل سأقوى على الحياة بدونه أو بعيدا عن أهلي؟ ومن الواضح أنها الفرصة التي يحلم بها، لكني لا أستطيع العيش بعيدا عن أهلي وخاصة أمي التي كبرت وتحتاجنا بجوارها، أنا حائرة لا أدري أيهم أختار. كان اليوم التالي هو يوم الجمعة حيث نجتمع على الغداء عند أمي، فذهبت مع نادر الذي ظل صامتا طوال الطريق وبعد أن تناول الغداء استأذن بحجة متابعة حالة في المستشفى، وبعد أن غادر قالت أمي: جوزك ماله! إنتم متخانقين؟ - لا يا ماما، أنا هاحكيلكم وانتم احكموا.
وبدأت في سرد ما حدث، فقالت لي أمي: يا بنتي أنا زمان غلطت لما فضلت عيلتي على جوزي، وكانت النتيجة إني خسرته وعشت بطولي شايلة حمل تقيل لوحدي، ما تغلطيش غلطتي وتضيعي راجل بيحبك.
وقالت هدى زوجة أخي التي نادرا ما تتدخل في الحديث: بصي يا نهلة، بلدك مكان ما يكون جوزك، لكن دا ما يمنعش إنك تبري أهلك وتنزلي لهم في الإجازات مثلا.
فقال سليم: سافري، ولو تعبتي هناك ابعتيلي، وساعتها أبعتلك تذكرة سفر تقعدي لحد ما ترتاحي وبعدين ترجعي لجوزك.
ثم قالت سلوى: وأنا أخلي جوزي يجيبلك تخفيض على التذاكر، وبعدين النت قرب الدنيا من بعضها، دا جوزي طول ما هو مسافر بافضل أكلمه فيديو لحد ما يرجع.
ضحك سليم وقال: إنتي فظيعة، سيبيه يتنفس. - أبدا، هافضل كاتمة على نفسه لآخر لحظة.
ضحكنا كلنا وقالت أمي: سافري مع جوزك يا حبيبتي، وماتخافيش أخوكي وأختك معايا.
عدت لبيتي مبكرا لأصالح نادر وأبشره بموافقتي وأنا سعيدة أني توصلت لحل سيسعدنا معا، وبمجرد أن فتحت باب الشقة وجدت نور غرفة نومي مضاء، فارتجفت بشدة فقد استعدت نفس مشهد خيانة عصام، مما جعلني أتسمر مكاني ولا أقوى على الحركة لمدة دقيقة، وتجمعت الدموع في مقلتي، ودعوت الله ألا يتكرر ذلك المشهد مرة أخرى، فأنا لن أحتمل تلك المرة مرارة الغدر، استجمعت نفسي، وأنا أشعر بثقل جسمي وتحركت صوب حجرتي، ومع خفقات قلبي المجنونة صار جسدي يرتجف بشدة، وفتحت الباب ففوجئت بمشهد لم أتخيله، فنادر ساجد يصلي ويبكي وهو يقول بصوت مرتفع من خلال دموعه: يا رب زي ما رزقتني بيها وزرعت حبها في قلبي وأسعدتني بيها، ماتحرمنيش منها، يا رب لو سفري هيتعسها أو هيبعدها عني هاتخلى عنه وعن حلمي، بس خليها تفضل معايا ماتسيبنيش يا رب، أنت وحدك عارف أنا اتعذبت أد إيه وهي الوحيدة اللي قدرت تعوضني عن كل اللي فات، فما تحرمنيش منها. يا رب واجمعنا على حبك وطاعتك.
لم أستطع منع دموعي ولا شهقاتي، فسقطت على الأرض جالسة وجسدي كله يرتجف، فختم نادر صلاته وأسرع إلي وضمني لصدره وقال بلهفة: نهلة مالك؟ - أنا كويسة، أنا بس مش مصدقة إن ربنا عوضني بيك، وعمري ما تخيلت إنك بتحبني كده. - أنا ما باعرفش أقول كلام حلو، وده عيب في، لكن على استعداد أعمل أي حاجة ترضيكي. - أنا أكتر حاجة ترضيني إني أكون جنبك لآخر عمري.
ضمني لصدره بقوة، فتمسكت به لأني أنا من أخشى أن يتركني كما تركني غيره، نظر في عيني ومسح دموعي وقال: إيه لازمتها الدموع دي؟ - أنا كده، أفرح أبكي، أزعل أبكي، أحب أبكي، نكد بعيد عنك.
ضحكنا معا، فقلت له: عندي حاجة عايزة أطلبها منك. - عيوني عشانك. - تسلم عيونك، بس أنا عاوزة حاجة تانية، عاوزة بنوتة. - بنوتة إيه، مش فاهم؟ - عايزة أخلف منك بنوتة لما نسافر إن شاء الله. - ولو ولد هنرجعه؟ - أنا باتكلم جد. - وأنا جد أكتر منك، أنا بقى عاوز ست عيال، باقولك إيه تعالي نعمل بروفة. - إنت قليل الأدب. - أنا بحبك رغم إني طول عمري خايف أحب لأني باخاف من آلام الفقد جدا، فحرمت الحب على قلبي عشان ما يتوجعش، جيتي انتي لخبطتي كل كياني وخلتيني مش بس بحبك، لا باموت فيكي وبتمنى رضاكي، وهاموت لو بعدتي عني. - أنا كنت فاكرة إن قلبي نسي الحب، جيت انت وعرفتني إني ماعرفتش الحب قبلك، أنا بحبك بعقلي قبل قلبي، بحب احترامك لي، بحب إحساسي بالأمان معاك، بحب وجودك في حياتي، بحب كل تفاصيلك حتى تكشيرتك، اوعدني إنك هتفضل تحبني طول عمرك. - أوعدك إني هافضل أحبك، وحتى لو مشاعري اتغيرت هافضل أحترمك وأصونك وأتقي الله فيكي.
صفحه نامشخص