اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى
ابن رجب الحنبلي
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
خرّج الإمام أحمد ﵀ من حديث معاذ بن جبل ﵁ قال: احتُبِس عنا رسول الله (ذات غداة في صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج رسول الله (سريعًا فثوّب بالصلاة وصلى وتجوّز في صلاته، فلما سلم قال: " كما أنتم على مصافكم ". ثم أقبل إلينا فقال: " إن سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي ﷿ في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟. قلت: لا أدري رب. قال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟. قلت: لا أدري رب. قال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟. قلت: لا أدري رب. فرأيته وضع كفّه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله في صدري، وتجلّى لي كل شيء
1 / 33
وعرفت، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟. قلت: في الكفّارات والدرجات. قال: وما الكفارات؟. قلت: نقل الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على الكريهات. فقال: وما الدرجات؟. قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سلْ. قلت: " اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر أي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفَّني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك ". وقال رسول الله (: " إنها حقّ، فادرسوها وتعلموها ".
1 / 34
وخرّجه الترمذي، وقال: " حديث حسن صحيح "، قال: وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا، فقال: " هذا حديث حسن صحيح ".
قلت: وفي إسناده اختلاف، وله طرق متعددة، وفي بعضها زيادة وفي بعضها نقصان، وقد ذكرت عامة أسانيده وبعض ألفاظه المختلفة في كتاب شرح الترمذي.
وفي بعض ألفاظه عند الإمام أحمد والترمذي أيضًا: " المشي على الأقدام إلى الجماعات " بدل " الجمعات "، وفيه أيضًا عندهما بعد ذكر الكفارات زيادة: " ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه "، وفيه أيضًا عندهما: " والدرجات: إفشاء السلام ... " بدل " لين الكلام ".
وفي بعض رواياته: " ... فعلمت ما في السماء والأرض ". ثم تلى: (وكذلك نُري إبراهيمَ ملكوتَ السموات والأرضِ وليمونَ من المُوقِنينَ) . وفي رواية أخرى: " ... فتجلّى له ما بين السماء والأرض "، وفي رواية: " ... ما بين المشرق والمغرب ".
وفي بعضها زيادة في الدعاء، وهي: " ... وتتوب عليّ "، وفي بعضها: " إسباغ الوضوء في السبرات "، وفي بعضها: " وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات ... " فذكره.
والمقصود هنا: شرح الحديث وما يستنبط منه من المعارف والأحكام وغير ذلك.
1 / 37
ففي الحديث دلالة على أن النبي (لم يكن من عادته تأخير صلاة الصبح إلى قريب طلوع الشمس، وإنما كانت عادته التغليس بها، وكان أحيانًا يسفر بها عند انتشار الضوء على وجه الأرض، وأما تأخيرها إلى قريب طلوع الشمس فلم يكن من عادته، ولهذا اعتذر عنهم في هذا الحديث.
وقد قيل: إن تأخيرها إلى هذا الإسفار الفاحش لا يجوز لغير عذر، وأنه وقت ضرورة كتأخير العصر إلى بعد اصفرار الشمس، وهو قول القاضي من أصحابنا في بعض كتبه، وقد أومأ إليه الإمام أحمد، وقال: " هذه صلاة مفرِّط، إنما الإسفار أن ينتشر الضوء على الأرض ".
وفي الحديث: دلالة على أن من أخر الصلاة إلى آخر الوقت لعذر أو غيره وخاف خروج الوقت في الصلاة إن طوّلها أن يخففها حتى يدركها كلها في الوقت.
وأما قول أبي بكر الصديق ﵁ لما طوّل في صلاة الفجر وقرأ بالبقرة فقيل له: كادت الشمس أن تطلع! فقال: " لو طلعت لم
1 / 38
تجدنا غافلين ". فإن أبا بكر ﵁ لم يعتمد التأخير إلى طلوع الشمس ولا أن يمدها ويطيلها حتى تطلع الشمس لأنه دخل فيها يغلس، وأطال القراءة وربما كان قد استغرق في تلاوته فلو طلعت الشمس حينئذ لم يضره لأنه لم يكن متعمدًا لذلك. وهذا يرى على أنه كان يرى صحة الصلاة لمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاته كما أمر النبي (من طلعت عليه الشمس وقد صلى ركعة من الفجر أن يضيف إليها أخرى.
وفي حديث معاذ: دليل على أن من رأى رؤيا تسره فإنه يقصها على أصحابه وإخوانه المحبين له، ولا سيما إن تضمنت رؤياه بشارة لهم، وتعليمًا لما ينفعهم، وقد كان النبي (إذا صلى الفجر يقول لأصحابه: " من رأى منكم الليلة رؤيا؟ ".
وفيه أيضًا: أن من استثقل نومه في تهجده بالليل حتى رأى رؤيا تسره فإن في ذلك بشرى له، وفي مراسيل الحسن: " إذا نام العبد وهو ساجد باهى الله به الملائكة، يقول: (يا ملائكتي انظروا إلى عبدي: جسده في
1 / 39
طاعتي وروحه عندي) .
وفيه دلالة على شرف النبي (وتفضيله بتعليمه ما في السموات والأرض، وتجلى ذلك له مما تختصم فيه الملائكة في السماء وغير ذلك، كما أري إبراهيم ملكوت السموات ولأرض وقد ورد في غير حديث مرفوعًا وموقوفًا أنه (أُعطي علم كل شيء خلا مفاتيح الغيب الخمس التي اختص الله ﷿ بعلمها، وهي المذكورة في قوله ﷿: (إن الله عندَه علمُ الساعَةِ ويُنزِّلُ الغيثَ ويعلمُ ما في الأرحامِ وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غدًا وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموتُ إن الله عليمٌ خبيرٌ) .
وأما وصف النبي (لربه ﷿ بما وصفه به فكل ما وصف النبي (به ربه ﷿ فهو حق وصدق يجب الإيمان والتصديق
1 / 40
به كما وصف الله ﷿ به نفسه مع نهي التمثيل عنه، ومن أشكل عليه فهم شيء من ذلك واستبه عليه فليقل كما مدح الله تعالى به الراسخين في العلم وأخبر عنهم أنه يقولون عند المتشابه: (آمنّا به كُلٌّ من عند ربِّنا) وكما قال النبي (في القرآن: " وما جهلتهم منه فكلوه إلى عالمه ". خرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، ولا يتكلف ما لا علم له فإنه يُخشى عليه من ذلك الهلكة.
1 / 41
سمع ابن عباس يومًا من يروي عن النبي (شيئًا من هذه الأحاديث فانتفض رجل استنكارًا لذلك، فقال ابن عباس: " ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقةً عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه! " خرجه عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباسرضي الله عنهما.
فكلما سمع المؤمنون شيئًا من هذا الكلام قالوا: هذا ما أخبرنا الله ورسوله (وصدقَ الله ورسولُه وما زادَهُم إلاّ إيمانًا وتسليمًا) .
وفيه دلالة على أن الملأ الأعلى وهم الملائكة أو المقربون منهم يختصمون فيما بينهم، ويتراجعون القول في الأعمال التي تقرّب بني آدم إلى الله ﷿ وتكفّر بها عنهم خطاياهم، وقد أخبر الله عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا ويدعون لهم.
وفي الحديث الصحيح: " إن الله إذا أحب عبدًا نادى: " يا جبريل إني أحب فلانًا فأحبه "، فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض ".
1 / 42
وقال أبو هريرة ﵁: " إذا مات ابن آدم قال الناس: ما خلّف؟. وقالت الملائكة: ما قدّم؟ ".
فالملائكة يسألون عن أعمال بني آدم ولهم اعتناء بذلك واهتمام به.
وبقي الكلام على المقصود من الحديث، وهو: ذكر الكفارات والدرجات والدعوات، ونعقد لكل واحدة منها فصلًا منفردًا.
1 / 43
الفصل الأول في ذكر الكفّارات
وهي إسباغ الوضوء في الكريهات، ونقل الأقدام إلى الجُمُعات أو الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات. وسميت هذه كفارات لأنها تكفر الخطايا والسيئات، ولذلك جاء في بعض الروايات: " من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه ". وهذه الخصال المذكورة الأغلب عليها تكفير السيئات، ويحصل بها أيضًا رفع الدرجات كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي (قال: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟! ". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ".
وقد روي في هذا المعنى عن النبي (من وجوه متعددة. فهذه ثلاثة أسباب تكفر بها الذنوب،
أحدها: الوضوء، وقد دلّ القرآن على تكفيره الذنوب في قوله ﷿: (يا أيها الذين آمنوا إذا قُمْتُم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وُجوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ وامسحوا برؤوسِكُمْ وأرجُلَكُمْ إلى الكعبين) إلى قوله: (ما يُريدُ الله ليجعلَ عليكم من حَرَجٍ ولكن يُريدُ ليُطَهِّرَكم وليُتِمَّ نعمتَهُ عليكُم) فقوله تعالى: (ليُطَهِّركُم) يشمل
1 / 45
طهارة ظاهر البدن بالماء، وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمام النعمة إنما يحصل بمغفرة الذنوب والخطايا وتكفيرها، كما قال تعالى لنبيه (: (ليغفرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر ويُتِمَّ نعمتَه عليك)، وقد استنبط هذا المعنى محمد بن كعب القرظي، ويشهد له الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره عن معاذ أن النبي (سمع رجلًا يدعو، يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة. فقال له: " أتدري ما تمام النعمة؟ ". قال: دعوةٌ دعوت بها، أرجو بها الخير. فقال النبي (: " إن تمام النعمة: النجاة من النار، ودخول الجنة ". فلا تتم نعمة الله على عبده إلا بتكفير سيئاته.
وقد تكاثرت النصوص عن النبي (بتكفير الخطايا بالوضوء كما في صحيح مسلم عن عثمان ﵁ أنه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله (توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: " من توضأ هكذا غُفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة ".
وفيه أيضًا عن النبي (قال: " من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره ".
1 / 46
وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن النبي (قال: " إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يديه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيًا من الذنوب ". وفيه أيضًا عن عمرو بن عنبسة عن النبي (قال: " ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرّت خطاياه وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرّغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه ".
وفي الموطأ ومسند الإمام أحمد وسنن النسائي وابن ماجة عن الصُّنابحيّ عن النبي (قال: " إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت
1 / 47
الخطايا حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له.
وفي المسند عن أبي أمامة عن النبي (قال: " ما من مسلم يتوضأ فيغسل يديه ويمضمض فاه ويتوضأ كما أمر إلا حطّ الله عنه ما أصاب يومئذ: ما نطق به فمه، وما مس بيده، وما مشى إليه، حتى إن الخطايا تحاذر من أطرافه، ثم هو إذا مشى إلى المسجد فرجل تكتب حسنة، وأخرى تمحو سيئة ".
وفيه أيضًا عن النبي (قال: " أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه، نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة، فإذا مضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه نزلت خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له، وكان من لك خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه، فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته، وإن قعد قعد سالمًا ".
1 / 48
وفي المعنى أحاديث أخر، وفيما ذكرناه كفاية ولله الحمد والمنة. وقد وردت النصوص أيضًا بحصول الثواب على الوضوء، وهذا زيادة على تكفير السيئات به:
ففي صحيح مسلم عن عمر ﵁ عن النبي (قال: " من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله "، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء ".
وفيه أيضًا: عن أبي هريرة عن النبي (: " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ".
وفيه أيضًا: عن أبي هريرة عن النبي (قال: " أنتم الغرّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء ".
وخرجه البخاري، ولفظه: " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجّلين من آثار الوضوء ".
1 / 49
واعلم أن حديث معاذ بن جبل في المنام إنما فيه ذكر إسباغ الوضوء على الكريهات، وكذا في حديث أبي هريرة المبدوء بذكره في هذا الفصل، فها هنا أمران: أحدهما: إسباغ الوضوء، وهو إتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية كالثوب السابغ المُغطي للبدن كله، وفي مسند الزّار عن عثمان مرفوعًا: " من توضأ فأسبغ الوضوء غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ". وإسناده لا بأس به، وأخرجه ابن عاصم من وجهٍ آخر عن عثمان.
وخرج النسائي وابن ماجة من حديث أبي مالك الأشعري عن النبي (قال: " إسباغ الوضوء شطر الإيمان "، وخرجه مسلم، ولفظه: " الطهور شطر الإيمان ".
وثانيهما: أن يكون إسباغه على الكريهات، والمراد أن يكون على حالةٍ تكره النفس فيها الوضوء، وقد فسر بحال نزول المصائب فإن النفس حينئذ تطلب الجزع فالاشتغال عنه بالصبر والمبادرة إلى الوضوء والصلاة من علامة الإيمان كما قال ﷿: (استعينوا بالصبر والصلاة وإنَّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين) وقال تعالى (يا أيُّها الذين آمنوا استعينوا بالصبرِ
1 / 50
والصلاةِ إن الله مع الصابرين)، والوضوء مفتاح الصلاة، وقد يطفأ به حرارة القلب الناشئة عن ألم المصائب، كما يؤمر من غضب بإطفاء غضبه بالوضوء.
وفسرت الكريهات بالبرد الشديد، ويشهد له أن في بعض روايات حديث معاذ: " ... إسباغ الوضوء على السبرات "، والسبرة: شدة البرد، ولا ريب أن إسباغ الوضوء في شدة البرد يشق على النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفس ويشق عليها فإنه كفارة للذنوب وإن لم يكن للإنسان فيه صنع ولا تسبب كالمرض ونحوه كما دلت النصوص الكثيرة على ذلك.
وأما إن كان ناشئًا عن فعل هو طاعة لله فإنه يكتب لصاحبه به أجر، وترفع به درجاته كالألم الحاصل للمجاهد في سبيل الله تعالى، قال الله ﷿: (ذلك بأنَّهم لا يُصيبُهُم ظَمأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سبيل الله ولا يَطئُون مَوطِئًا يَغيظُ الكُفّارَ ولا يَنالون من عدوٍّ نَيلًا إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ إنَّ الله لا يُضِيعُ أجرَ المحسنين)، وكذلك ألم الجوع والعطش الذي يحصل للصائم، فكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد. ويجب الصبر على الألم بذلك، فإن حصل به رضىً فذلك مقام خواص العارفين المحبين، وينشأ الرضى بذلك عن ملاحظة أمور: أحدها: تذكر فضل الوضوء من حطّه الخطايا، ورفعه للدرجات وحصول الغرّة والتحجيل به، وبلوغ الحلية في الجنة إلى حيث يبلغ، وهذا كما انكسر ظفر بعض الصالحات من عثرةٍ عثرتها فضحكت وقالت: أنساني حلاوة
1 / 51
ثوابه مرارة وجعه. وقال بعض العارفين: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه في جميع الأحوال.
الثاني: تذكر ما أعده الله ﷿ لمن عصاه بالبرد والزمهرير، فإن شدة برد الدنيا يذكر بزمهرير جهنم، وفي الحديث الصحيح: " إن أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم "، فملاحظة هذا الألم الموعود يهوّن الإحساس بألم برد الماء كما روي عن زُبيد اليامي أنه قام ليلة للتهجد، وكان البرد شديدًا، فلما أدخل يده في الإناء وجد شدة برده فذكر زمهرير جهنم فلم يشعر ببرد الماء بعد ذلك، وبقيت يده في الماء حتى أصبح، فقالت له جاريته: مالك لم تصل الليلة كما كنت تصلي؟!. فقال: إن لما وجدت شدة برد الماء ذكرت زمهرير جهنم فما شعرت به حتى أصبحت، فلا تخبري بهذا أحدًا ما دمت حيًا.
الثالث: ملاحظة جلال من أمر بالوضوء، ومطالعة عظمته وكبريائه، وتذكر التهيؤ للقيام بين يديه ومناجاته في الصلاة فذلك يهون كل ألم ينال العبد في طلب مرضاته من برد الماء وغيره، وربما لم يشعر بالماء بالكلية كما قال بعض العارفين: بالمعرفة هانت على العاملين العبادة.
قال سعيد بن عامر: بلغني إن إبراهيم الخليل (كان إذا توضأ سُمع لعظامه قعقعة. وكان علي بن الحسين إذا توضأ اصفرّ، فيقال له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟!. فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم له؟.
وكان منصور بن زاذان إذا فرغ من وضوئه يبكي حتى يرتفع صوته، فقيل له: ما شأنك؟! فقال: وأي شيء أعظم من شأني، إني أريد أن أقوم بين
1 / 52
يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم، فلعله يرضى عني. وكان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه ارتعد وانتفض وبكى بكاءً شديدًا، فقيل له في ذلك، فقال: إني أريد أن أتقدم إلى أمر عظيم: إني أريد أن أقوم بين يدي الله ﷿.
الرابع: استحضار اطلاع الله ﷿ على عبده في حال العمل له، وتحمل المشاق لأجله، فمن تيقنّ أن البلاء بعين من يحبه هان عليه الألم كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله ﷿ لنبيه (: (واصبر لحُكمِ ربِّكَ فإنَّكَ بأعْيُنِنا)، وقوله تعالى لموسى وهارون ﵉: (لا تخافآ إنَّني مَعَكُمآ أسمعُ وأرى)، وقال (: " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك ". قال أبو سليمان: قرأت في بعض الكتب: يقول الله ﷿: " بعيني ما تحمل المتحملون من أجلي وكابد المتكبدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم وقد صاروا في جواري، وتبحبحوا في رياض خُلدي؟ فهنالك فليبشر المصفُّون لله أعمالهم بالمنظر العجيب من الحبيب القريب، أترون أني أضيع لهم عملًا؟ فكيف وأنا أجود على المولين عني، فكيف بالمُقبلين عليّ؟! ".
فإسباغ الوضوء في البرد لا سيما في الليل يطلع الله عليه، ويرضى به، ويباهي به الملائكة، فاستحضار ذلك يهون ألم برد الماء، وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عقبة بن عامر عن النبي (قال: " رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقد فيتوضأ، فإذا وضّأ يديه
1 / 53
انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلّت عقدة، وإذا مسح برأسه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ رجليه انحلّت عُقدة، فيقول الرب ﷿ للذي وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه يسألني، ما سألني عبدي هذا فهو له ... " وذكر بقية الحديث.
وروى عطية عن أبي سعيد عن النبي (: " إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر: رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور ... " وذكر الحديث. وكان بعض السلف له ورد بالليل ففتر عنه، فهتف به هاتف: بعين الله في الليل لما يصنع خُدّامه، إذا قاموا وحثّتهم على الخدمة أحكامه.
الخامس: الاستغراق من أمر بمحبة هذه الطاعة، وأنه يرضى بها ويحبها كما قال تعالى (إنَّ الله يُحِبُّ التَّوابينَ ويُحِبُّ المُتطهِّرينَ)، فمن امتلأ قلبه من محبة الله ﷿ أحب ما يحبه وإن شق على النفس وتألمت به، كما يقال: المحبة تهوّن الأثقال. وقال بعض السلف في مرضه: أحبه إليّ أَحبه إليه؟
1 / 54