بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ،،،
"أما بعد" فقد أمر من أمره عز وغنم ، وطاعته فرض وحتم - وهو المقر الشريف العالي المولوي الأميري الكبيري الكافلي الزعيمي الغيائي المجاهدي المرابطي المثاغري السيفي (منجك) نائب السلطنة المعظمة ( بالشام المحروسة ) أعز الله أنصاره وأدام ملك سلطانه واقتداره - أن أكتب ما تيسر من الكتاب والسنة والآثار الحسنة ( في المرابطة بالثغور المحروسة الإسلامية ) ليرغب أهلها في ثواب ما أهلهم الله له ، من الرباط في الثغور الإسلامية ، التي هي (¬1) حفظ حوزة الإسلام ، وأمان الأنام ، في جميع المعاقل والأمصار ، في سائر الليالي والأيام .
"فأجبته " إلى ما أمر ، لأنه نائب الإمام ، وفيما أمر طاعة لله ولرسوله عليه أفضل الصلاة والسلام .
صفحه ۴
وقد كنت جمعت في ذلك( مجلدا بسيطا ) فاختصرت منه منهجا وسطا وسيطا ، فأقول متوكلا على العزيز الرحيم القوي المتين ، مقتديا برسوله المبين ، الصادق المصدوق الأمين ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، إلى (¬2) جميع المكلفين من الأميين والأعجمين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ورضي الله عن جميع الصحابة والتابعين ، الآيات
1- قال الله تعالى وهو أصدق القائلين (¬1) " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم (¬2) من الكفار وليجدوا فيكم غلظة (¬3) واعلموا أن الله مع المتقين (¬4) "
2- وقال تعالى (¬5) " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر (¬6) ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله (¬7) ولا يدينون دين الحق (¬8) من الذين أوتوا الكتاب (¬9) حتى يعطوا الجزية عن يد (¬10) وهم صاغرون (¬11) "
3- وقال تعالى (¬12) "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم "
صفحه ۵
4- وقال تعالى (¬13) "الذين كفروا وصدوا (¬14) عن سبيل الله (¬15) أضل أعمالهم * والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم (¬16) * ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم * فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم (¬17) فشدوا الوثاق (¬18) فإما منا بعد (¬19) وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها (¬20) ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو (¬1) بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم (¬2) * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم * يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم * والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم * ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم "
5- وقال تعالى (¬3) "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم {10} تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون {11} يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن (¬4) ذلك الفوز العظيم {12} وأخرى تحبونها (¬5) نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين "
6- وقال تعالى (¬6) "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون (¬7) الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين "
7- وقال تعالى (¬8) "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون (¬9) عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم "
صفحه ۶
الأحاديث
1- ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه (( لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود )) رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه (¬1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك .
2- وروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( رباط (¬2) يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها )) .
3- وفي صحيح مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( رباط يوم (¬3) في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه )).
4- وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله ، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر )) رواه الإمام احمد وهذا لفظه ، وأبو داوود والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا .
5- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله ، يجري عليه عمله حتى يبعث ويؤمن من الفتان (¬4) ) رواه الإمام أحمد .
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمل ، وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان ، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع )) رواه ابن ماجه (¬5) .
صفحه ۷
7- وعن أم الدرداء رضي الله عنها ترفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة )) رواه الإمام أحمد (¬1) .
8- وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو يخطب الناس على المنبر : سمعت رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول : (( رباط يوم في سبيل الله أفضل من - أو قال خير - من صيام شهر وقيامه ، ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونمي عمله إلى يوم القيامة )) وقال هذا حديث حسن (¬2) .
9- وروى بن ماجه بإسناد فيه غرابة وضعف (¬3) - ولكن قد اغتفروا رواية الحديث الضعيف في الترغيبات (¬4) - عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا في شهر رمضان أعظم من مائة سنة صيامها وقيامها ، ورباط يوم في سبل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا في شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم - أو قال من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها - فإن رده الله على أهله سالما لم تكتب عليه سيئة ألف سنة ، وكتبت له الحسنات ، ويجري عليه الرباط إلى يوم القيامة )) .
10- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام الرجل وقيامه في أهله ألف سنة ، السنة ثلاثمائة وستون يوما ، اليوم كألف سنة )) رواه بن ماجه بإسناد غريب (¬5) .
11- وروى بن ماجه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( رحم الله حارس الحرس )).
صفحه ۸
12- وعن أبي ريحانة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حرمت النار على عين دمعت أو - بكت - من خشية الله ، وحرمت على عين سهرت في سبيل الله )) رواه أحمد والنسائي .
13- وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تعس (¬1) عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة (¬2) إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس (¬3) وإذا شيك (¬4) فلا انتقش (¬5) ، طوبى (¬6) لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه . إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع )).
فصل (¬7)
صفحه ۹
ولما هجم (¬8) هؤلاء الكفرة من الفرنج لعنهم الله ، ( في محرم سنة سبع وستين وسبعمائة ) على ثغر ( الإسكندرية ) على حين غفلة من أهلها ، وغيبة من نائبها (¬9) وجيشها ، وحراس بلادها وحزنها وسهلها ، (( فجاسوا حلال الديار وكان وعدا مفعولا )) وقدرا مقدورا ، فحازوا من الأموال ، وقتلوا من الرجال وسبوا من النساء والأطفال ، ممن تخلف بها عن الهرب وكان معذورا ، واحتملوا من المتاجر قناطير مقنطرة ، وساء لهم يوم القيامة حملا ، وبادروا إلى إحراز ذلك في مراكبهم التي ملئت غصبا وغضبا ، واستدرجهم القدر المقدور وأملى .
( فبينما) هم في غيهم وإفسادهم وكفرهم وعنادهم ( إذ أقبلت) رايات الإسلام وآيات العز والنصر عليهم تتلى ، فعندما تحقق اللعين المخذول قدوم السلطان ، فر كما يفر الشيطان من سماع الأذان ، وأبق إلى ملكه وولى ، وأقسم لو أقام حتى يدركه ومن معه من أوائل الجيش المحمدي لرشفتهم القداح ، وشجرتهم الرماح وقطعتهم الصفاح ، وصيرتهم كأمس الذاهب صرعى وقتلى ، ولكنه فر-كما ذكرنا - فرار العبيد إذا أبقوا ، وهرب عندما عاين فترة (¬1) الجيش الإسلامي هرب الخونة إذا سرقوا (¬2) .
صفحه ۱۰
ثم إنه لعنه الله خدعته نفسه اللعينة ، ومنته المهينة ، واغتر بما أصاب من الإسكندرية واعتقد أن كل بيضاء شحمة ، وأن كل حمراء لحمة ، فطرق ثغر (اطرابلس) (¬3) المحروس ( في أوائل سنة تسع وستين وسبعمائة ) وقد كان بعض منافقيها - ممن هو على دينه ويخادع المسلمين - أعلمه أن نائبها (¬4) ليس بها ، وقد عزل منها أيضا حاجبها ، وتفرق جيشها في القسم ، ولم يبق منها إلا الرسم ، فأقبل المدبر في شواني ، مملوءة بكل لعين نصراني ، ( تزيد على المائة والثلاثين ) فلعنة الله على من فبها أجمعين ( فنازلوها ) فلم يكن بها من المقاتلة من يحول بينهم وبين مقاصدهم التي حاولوها ، فنفضوا (¬5) إليها من المراكب ، وصارت جماعتهم فيها مواكب ، فعاثوا فيها فسادا ، ولكن لم يقضوا منها مرادا ، ( فبينما ) هم فيها ، وقد حلت الكلاب في خيس الأسود ، وتبدلت الوجوه المباركة النيرة بالوجوه الملعونة السود ، ( إذ جاءهم ) جنود من ( التراكمين )متراكمين ، كانوا لجيش الإسلام كالكمين ، ( فحملوا عليهم ) مكبرين ، وعلت الأصوات ، وارتفعت الدعوات ، إلى رب الأرض والسموات ، فنزل النصر ، وانخفض الكفر ، وانقلبوا هاربين وخرجوا منها صاغرين خاسئين خاسرين وقتل منهم المسلمون خلقا لا يحصون ، ولله الحمد والمنة .
فصل
ثم بعد ما حل بهم هذا كله من الخزي والنكال ، غرتهم أمانيهم الكاذبة الخائبة والآمال ، فساروا بمن بقي معهم من الجيش المخذول ، والجمع المرذول ، حتى نزلوا مدينة ( اياس ) وقد حال بينهم وبين ما حاولوه منها الياس ، فقيض الله تعالى مرور بعض أمراء الإسلام هنالك ، ولم يكن عنده علم بذلك - وهو المقر الشريف السيفي ( منجك ) المشير بتأليفه (¬1) ، أعز الله أنصاره ، ووكل بقهر للعدا مقامه وأسفاره - فعطف عليها ، فلما وصل إليها ، إذ الشواني المشحونة ، بالمقاتلة الملعونة ، قد أحدقت بها ، من ناحية بحرها ، فمانعهم أعز الله أنصاره عن الوصول إلى السواحل فلم يقدر على ذلك منهم فارس ولا راجل ، هذا وليس معه من مماليكه سوى خمسة وثلاثين ، وجماعة دون المائتين من التراكمين ، حسبما أخبرني به أدام الله عافيته ، وأحسن عاقبته ، آمين ،
صفحه ۱۱
ونادى في البلد أن ترفع النساء والذرية ، إلى القلعة المنصورة المحمية ، فعدل جمع الفرنج المخذول عن مواجهة المقر المشار إليه إلى موضع آخر ، فنفضوا إلى الساحل حيث لا يصل إليهم ركابه الشريف ثم ساروا إلى ربض البلد (¬2) وحاصروا القلعة ، فواقعهم أعز الله أنصاره ( فكسرهم ) في أماكن متعددة ، ومازال مصاولا لهم مصابرا مرابطا مثاغرا ، حتى قدم ( الجيش الحلبي ) يقده المقر العالي السيفي ( منكل بغا (¬3) في خاصة مماليكه ، وأخبرني أنه حال ما وصل إليهم وجدهم ثلاثة كراديس سودا والصلبان مرفوعة على رؤوسهم لعنهم الله ، وكردوسا آخر دونهم في السواد ، وإذ هو من التراكمين المنافقين الذين يخفون الشرك ، يقاتلون المسلمين معهم ، ( فلما تحققوا ) قدوم المقر السيفي ( منكل بغا ) تحيزت الكراديس الأربعة المذكورة المخذولة وصارت كردوسا واحدا ، واجتمع المقر الشريف السيفي ( منجك ) إلى المقر الشريف السيفي ( منكل بغا ) ، فأخبرني المقر السيفي (منكل بغا ) أن الفرنج رشقوهم بالنبال إلى أن تواري وجه الأرض بها فلا يرى منها شيء لكثرتها ، وكثرت الجروح (¬1) من تلك الجروح في الجيش الإسلامي ، ورشقهم المسلمون بالنبال رشقا منكيا حتى أن من الأمراء المسلمين من كان يرمي الفرنجي فيصيب بركبته وعليها غلاف من حديد ، فينتظم الغلاف مع الركبة (¬2) بسهمه ، ثم انهزم الفرنج من بين أيديهم فلبسوا (¬3) تلا هناك ثم رشقوا المسلمين بالحجارة أعظم مما رشقوهم بالنبال أولا ، ثم أخذ عليهم المقر السيفي ( منكل بغا ) طريقهم إلى مركبهم وقتل شيئا كثيرا من خيولهم ففروا إلى البحر لا يلوي أحد منهم على أحد ، فرشقهم المسلمون رشقا عظيما بالنبال وقتلوا منهم خلقا عظيما ، وغرق منهم أكثر ممن قتل ، وقتل ( صاحب جزيرة رودس ) وجرح ( صاحب قبرس ) وهلك منهم خلق كثير ورجعوا خائبين خاسرين أعظم خيبة من خيبتهم في ( اطرابلس ) ((ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا )) سورة الأحزاب
وكانوا حسبوا أن بجمعهم الكثير يحصلون على شيء ، والقدر يتلوا عليهم مما هو محكم في كتاب الله العزيز المقتدر قوله تعالى (( سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (( سورة القمر
وراموا أنهم يحصلون على شيء من تلك المعاقل والحصون ((وحيل بينهم وبين ما يشتهون )) سورة سبأ
صفحه ۱۲
وهذه عوائد نصر الله جميع المسلمين وإن كانوا قليلا ، وما هو بأول موطن نصر الله فيه المسلمين مع قلتهم ، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، وأنى لهم ذلك وفي كل ثغر من ثغور السواحل الإسلامية ، من الجيوش السلطانية ، والرحال المحمدية ، الذي قد أخلص كل منهم النية ، لرب البرية ، أمم تحملهم على نصر الله نفوسهم الأبية ، وصحبتهم ما أمر به رب الأرباب ، على لسان سيد الأولين والآخرين الأعاجم والأعارب ، من إعداد العدد التي أصنافها الرماح الخطية (¬1) والسيوف الهندية ، والسهام المفوقة عن القسي العربية - إلى غير ذلك مما يطول وصفه ، ويقرب به على العدو حتفه - والعزيمة الصارمة وهي كفاية ، والنية الصادقة التي أعلى منازل الجنة لها نهاية .
فصل
كانت( بلاد الشام) بكمالها ، ( وبلاد الجزيرة وبلاد الروم إلى القسطنطينية ) وتلك التخوم وسائر بلاد البحور ( كجزيرة قبرس ، ورودس ، وجزيرة الأندلس ، والجزيرة الخضراء ) كلها مشحونة قبل الإسلام بالنصارى على اختلاف أجناسهم وأصنافهم ومذاهبهم من الملكية واليعقوبية والنسطورية ، فلما جاء الإسلام على يدي (سيد الأنام ) عليه أفضل الصلاة والسلام ، فأدى الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده ومهد الله على يديه جزيرة العرب بكمالها وبلاد اليمن والبحرين وما قارب تلك النواحي وركب في ( ثلاثين ألفا) من أصحابه لدخول الشام ، امتثالا لقوله تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين )){123}
ولقوله تعالى : ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) سورة التوبة
صفحه ۱۳
(فسار عليه السلام ) حتى وصل إلى تبوك من أرض الشام ومن عزمه عليه السلام أن يقاتل هرقل الذي هو يومئذ قيصر الشام - أي ملكها - فوجد الزمان حرا شديدا مع ما قلة ما معهم من الزاد والظهر (¬1) فرجع عامه ذلك ، من هنالك ، فحج عليه السلام حجة الوداع ( سنة عشر من الهجرة ) ثم عاد من مكة إلى المدينة فاختار له الله له ما عنده من المنزلة الرفيعة العالية التي هي أعلى منازل الجنة ، والمسماة بالوسيلة .
وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم ( يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة ).
فقام بالأمر من بعده خليفته( أبو بكر الصديق) رضي الله عنه فجهز الجيوش الإسلامية إلى العراق لقتال ( كسرى ) ملك الفرس مع ( خالد بن الوليد ) وإلى الشام لقتال ( قيصر ) ملك النصارى بها ، صحبه ( الأمراء الأربعة ) وهم أمير العراء ( أبو عبيدة ) عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري ، ( ويزيد ) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموي - وهو أول أمير ناب بدمشق - والأمير الثالث ( شرحبيل ) بن حسنة ، والأمير الرابع ( عمرو ) بن العاص السهمي ويسمون أمراء الأرباع لأن كل واحد منهم معه ربع الجيش .
فلما سمع هرقل ملك الشام بقدومهم قال (( والله لأبعثن عليهم جيشا ينسي أبا بكر صلاته ) فلما بلغ ذلك أبا بكر قال (( والله لأبعثن غليه رجالا يحبون الموت كما تحب النصارى الخمر )) فسار الأمراء الأربعة حتى دخلوا الشام ، فأول مدينة حاصروها مدينة ( بصرى) فكتب الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد - وقد وصل في الفتوحات التي بالعراق على مدينة ( الأنبار ) - (( أن استخلف على الجيش الذي معك أميرا ، وأقدم أنت ببعض الجيش إلى الشام وكن أنت الأمير عليهم )) فاخترق المهامه والقفار ما بين العراق إلى ( بيان الشام )
صفحه ۱۴
في أربعة أيام ، وأصبح في اليوم الخامس على ( ثنية العقاب ) شرقي ( دمشق ) فنصب عليها راية رسول الله صلى الله عليه وسلم السوداء المسماة بالعقاب فمن ثم سميت هذه الثنية ثنية العقاب ، ثم نزل فأغار على سرح النصارى وكان يوم عيد لهم ، فسبى وأخذ اموالا كثيرة ، ثم سار إلى الأمراء على بصرى ، فحالما وصل إليها ( فتحها صلحا ) وأخذ الجيوش وجاء إلى دمشق وحاصرها فكان موقفه ومقامه عند الباب الشرقي منها ، ووقف أبو عبيدة عند باب الجابية الكبير الغربي ، ويزيد بن أبي سفيان عند باب الجابية الصغير ، وإليه باب كيسان أيضا ( ففتح خالد) رضي الله عنه البلد من الباب الشرقي قهرا ، فذهبت النصارى إلى أبي عبيدة واخذوا منه الأمان خديعة منهم ومكرا ، فجعلت الصحابة البلد نصفين نصفا صلحا ونصفا عنوة ، ( ثم فتحوا ) بقية الشام : حمص ، وحماة ، وحلب ، وقنسرين ، والعواصم ، وإنطاكية ، واطرابلس ، وجميع السواحل .
وجاء( عمر بن الخطاب ) رضي الله عنه في ( سنة سبع عشرة ) ففتح بيت المقدس ، وفتح ( عمرو بن العاص ) رضي الله عنه جميع بلاد ( مصر في سنة عشرين من الهجرة ) وولي ( معاوية ) رضي الله عنه أمرة( الشام ) بكماله ، بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان المذكور في الدولة العمرية ( وفتح ) معاوية رضي الله عنه جزيرة ( قبرس سنة سبع وعشرين ) من الهجرة في الدولة العثمانية (¬1) وغنم منها أموالا جزيلة وسبايا كثيرة فقسمها بين المسلمين على الوجه الشرعي واستمرت الجزيرة المذكورة مقهورة بعز الإسلام نحوا من ( ثلاثمائة سنة ) يحملون الجزية والخراج إلى المسلمين ، ويؤخذ من تجارتهم العشر .
( وبعث معاوية ) رضي الله عنه ابنه ( يزيد ) في جيش كثيف ( سنة اثنتين وخمسين (¬2) من الهجرة ) فحاصروا مدينة القسطنطينية حصارا عظيما ، وقتلوا خلقا كثيرا من النصارى فكانوا أول جيش طرقها من المسلمين .
( وفتح المسلمون ) في أيام الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق وفي أيام أخيه سليمان (¬3) جميع جزيرة الأندلس ، والجزيرة الخضراء غربيها (¬4) وجميع بلاد المغرب إلى سواحل المحيط الغربي (¬5) .
صفحه ۱۵
( واستوسقت (¬1) الممالك الإسلامية على جميع البلاد شرقا وغربا وبعدا وقربا ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إن الله زوى (¬2) لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها )) رواه مسلم . وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده . والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ))
( واستقرت ) هذه الممالك في أيدي المسلمين إلى( حدود الخمسمائة من الهجرة ) فلما كان في ( سنة بضع وتسعين وأربعمائة ) (¬3) وقد ضعفت الدول الشامية والمصرية في ( الدولة الفاطمية ) تدنت (¬4) الفرنج لعنهم الله إلى بعض السواحل فملكوها ، فمن ذلك مدينة ( إنطاكية ، واطرابلس ، وتلك السواحل المتاخمة للبحر ) ودخل ملكهم ( كندهري (¬5) لعنهم الله فأخذ ( بيت المقدس ) المطهر يوم جمعة (¬6) فجمع ممن فيه من العباد والزهاد والقاطنين به من المسلمين نحوا من سبعين ألفا فقتلهم في صبيحة واحدة رحمهم الله ولعن كندهري وقومه واستمر بيت المقدس في أيديهم نحوا من ( تسعين سنة ) حتى انتزعه من أيديهم الملك الناصر ( صلاح الدين يوسف بن أيوب ) رحمه الله ( سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ) واسترجع ما كانوا استحوذوا عليه - من بلاد غزة ونابلس وعجلون والغور وبلاد الكرك والشوبك وما إليه من البلاد ، واسترد منهم ( صفد) وأكثر السواحل البحرية إلا ( عكا وصور ) ، فاقتدى به الملوك بعده ، فاستنقذوا منهم بقية السواحل ، حتى كان آخرها ( عكا ) التي فتحها الملك ( الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور قلاوون رحمه الله ) وذلك في سنة ( تسعين وستمائة ) فلم يبق للفرنج في السواحل جليل ولا حقير ولا مقدار قطمير ، ولا فتيل ولا نقير ، ولله الحمد والمنة ، وبه التأييد والعصمة .
صفحه ۱۶
فزعم الذين كفروا من هؤلاء الفرنج - لعنهم الله بما حدثتهم به أمانيهم الكاذبة - أنهم يسترجعون ما كان بأيدي أسلافهم لعنهم الله من هذه السواحل المذكورة ، وهيهات ، كذبت والله الظنون ، وخزي الكافرون ، والله حائل بينهم وبين ما يشتهون . ليست هذه الدول كمن تقدم ذكرهم من الدول الضعيفة التي استحوذوا في أيامها على ما ذكرناه من السواحل ، هؤلاء أكثر عددا وعددا ، وأعز ملكا وأشد بأسا وتنكيلا .
وزعم صاحب قبرس لعنه الله أنه سيعود ملك بيت المقدس إليهم ( ولا سبيل لهم على ذلك مرة أخرى ) أبد الآبدين ودهر الداهرين .
( وهذه بشارة ) أيشر بها جميع المؤمنين لشيء استنبطته من الكتاب العزيز المبين ، وسنة سيد المرسلين ، صلى الله عليه وعلى آله أجمعين :-
((أما الكتاب )) فقوله تعالى : ((وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا {4} فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا {5} ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا {6} إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا {7} عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ))
فذكر تبارك وتعالى أنه سلط على بني إسرائيل بذنوبهم عدوا من سواهم فقتل من المقاتلة خلقا كثيرا وسبى من الذرية جما غفيرا . وهذا المسلط عليهم - فيما ذكره أكثر المفسرين ( بختنصر ) صاحب العراق ، وقيل نائبه . هذه في المرة الأولى كما قال تعالى (( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ))
صفحه ۱۷
ثم ذكر تعالى أن في المرة الثانية أراد الأعداء أن يفعلوا معهم كما فعلوه أول مرة ، فذكر تعالى أنه رحمهم ولم يسلط عليهم عدوهم ، بل أجارهم من ذلك وأدالهم على أعدائهم ( فنحن أيضا أيتها الأمة المحمدية ) قد ابتلينا في بيت المقدس باستحواذ الأعداء عليه في حدود ( الخمسمائة سنة ) وأنه استمر في أيديهم ( تسعين سنة ) حتى أنقذه الله من أيديهم على يد الملك الناصر( صلاح الدين يوسف ) كما تقدم فليس لهم إليه بعد ذلك سبيل (¬1) إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان ، لأن هذه الأمة أحق بكل خير وعز ونصر من جميع الأمم المتقدمة لشرفها بشرف نبيها على سائر النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهذه الأمة اكثر عددا وعددا وأعز جندا وأعظم مملكة وأوسع بلادا ممن تقدمهم بكثير .
( وأما السنة ) فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث النواس بن سمعان وغيره رضي الله عنهم في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان من السماء على المنارة الشرقية بدمشق وهي محاصرة بجيوش الدجال وقت صلاة الفجر وقد أقيمت الصلاة ، فيقول له إمام المسلمين (( تقدم يا روح الله )) فيقول (( لا ، إنما أقيمت الصلاة لك )) فيصلي وراء إمام المسلمين ، تكرمة الله هذه الأمة ، ثم يكون عيسى عليه السلام في هذه الأمة بمنزلة الإمام الأعظم ، كما ثبت في الصحيحين : (( لينزلن فيكم عيسى بن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا ، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام )) بمعنى أنه لا يقبل من غير مسلم جزية ، ولا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف ، وهذا إخبار رسول الله صلى الله عليه عما يفعله عيسى عليه السلام وتشريع وتسويغ (¬2) .
( ثم ينهض ) عيسى عليه السلام بمن معه من المسلمين نحو الدجال فيفر منه ، فيتبعه حتى يدركه ( بباب لد (¬3) فيقتله بحربته كما بسطنا ذلك في كتاب( الفتن والملاحم ).
صفحه ۱۸
( والمقصود ) أنه قال في حديث النواس بن سمعان : (( فيوحي الله إلى عيسى بن مريم أني قد أخرجت عبادا لا يدان (¬4) لأحد بقتالهم فحصن عبادي في جبل الخمر (¬5) - يعني جبل بيت المقدس - فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله فيهم فيصبحون فرسى (¬1) كموت رجل واحد )) الحديث .
( فهذا دليل ) على بقاء بيت المقدس في أيدي المسلمين إلى ذلك الحي (¬2) ن ليكون موثلا ومعقلا لهم عند خروج يأجوج ومأجوج ولله الحمد والمنة .
( وكذلك في ما ذكرنا دليل ) على أن مدينة دمشق لا تزال دار إيمان وأمان وقرار حتى ينزل عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه فيها على منارتها الشرقية البيضاء ، المعمورة بتوحيد الله الشاهقة المنيرة الزهراء ، وذلك بعد فتح المسلمين مدينة القسطنطينية التي هي أعظم معاقل الروم وقرار ملكهم الأكبر ، بعد ملاحم كثيرة بين المسلمين وبني الأصفر ، كما هو مبسوط في غير ما حديث عن أفضل من سبح الله وحمده وهلل وكبر ، محمد بن عبد الله الصادق المصدوق رسول الله إلى الأسود والأحمر ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى سائر الصالحين ، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين .
صفحه ۱۹
( تم )
صفحه نامشخص