أليس هذا كله خليقا أن يصرفني إلى الكتاب عن صاحبه؟! ولكن صاحب الكتاب كما قلت ملائم أشد الملاءمة لكتابه؛ لا ترى في الكتاب خصلة إلا وهي مستمدة من نفس صاحبه، ملائمة لطبعه، مشتقة من مزاجه، فهو أبعد الناس عن التكلف، وأبغضهم للتصنع، وأشدهم ترفعا عن الرياء.
ما في الكتاب من صدق اللهجة صورة ما في صاحبه من صدق الخلق، وما في الكتاب من الدقة والأمانة، صورة ما في صاحبه من الدقة والوفاء، وما في الكتاب من القصد والاعتدال، صورة ما في نفس صاحبه من التواضع الذي يكرم به الرجل، ويملأ قلوب الذين يعرفونه حبا وإكبارا ووفاء.
أقبل علي إبراهيم ذات يوم فقرأ علي فصولا من كتابه هذا، فأبيت عليه إلا أن يمضي في القراءة من الغد، وما زلنا كذلك، يقرأ وأسمع وأناقش، حتى فرغنا من قراءة الكتاب، ولم يكن يعرف له اسما، فاقترحت عليه هذا الاسم الذي رسمه به «إحياء النحو» فأكبره واستكثره وأشفق منه، وألححت أنه فيه، فلم يستطع لي خلافا.
وأنا أتصور إحياء النحو على وجهين؛ أحدهما: أن يقربه النحويون من العقل الحديث ليفهمه ويسيغه ويتمثله، ويجري على تفكيره إذا فكر، ولسانه إذا تكلم، وقلمه إذا كتب. والآخر: أن تشيع فيه هذه القوة التي تحبب إلى النفوس درسه ومناقشة مسائله، والجدال في أصوله وفروعه، وتضطر الناس إلى أن يعنوا به بعد أن أهملوه، ويخوضوا فيه بعد أن أعرضوا عنه.
وأشهد لقد وفق إبراهيم إلى إحياء النحو على هذين الوجيهن، فانظر في هذا الكتاب فسترى أن إبراهيم لا يعرض عليك علما ميتا، وإنما يعرض عليك علما حيا يبعث الحياة في الذوق.
ثم سترى إبراهيم لا يعرض عليك مسائل جامدة هامدة، ولكنه يفتح للنحويين طريقا إن سلكوها فلن يحيوا النحو وحده، ولكنهم سيحيون معه الأدب العربي أيضا.
ثم انتظر بهذا الكتاب وقتا قصيرا فسترى أني لم أغل ولم أسرف، حين زعمت في أول هذا الحديث أنه سيحفظ قوما، وسيدفعهم إلى الخصومة والجدال دفعا.
فالكتاب كما ترى، يحيي النحو لأنه يصلحه، ويحيي النحو لأنه ينبه إليه من اطمأنوا إلى الغفلة عنه، وحسبك بهذا إحياء.
أرأيت أني كنت خليقا أن أقف موقف الحائر؟! لا أدري أأتحدث عن الكتاب أم عن صاحبه، وأني خليق الآن بعد أن بينت لك مصدر هذه الحيرة أن أكتفي من تقديم هذا الكتاب إليك، بأن أسجل بهذه الكلمة القصيرة القاصرة ما يملأ قلبي من حب لإبراهيم، وما يملأ عقلي من إعجاب بكتاب إبراهيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحه نامشخص