فتتجاوز بك اصطلاحهم، ونقول: إن المنادى إذا لم يكن مضافا كان المنتظر أن يدخله التنوين؛ إذ لا مانع منه، ولكن التنوين يدل على التنكير، وقد يراد أن ينادى معين يقصد إليه فيدعى باسمه أو بإحدى صفاته، كيا محمد ويا رجل، فيحذف التنوين ، والعلة في حذفه إرادة التعريف والقصد إلى معين.
ولا يقبل النحاة أن يكون التنوين في باب النداء للتنكير وحذفه للتعيين، ولكن لفظهم يشهد به فيقولون: تنون النكرة غير المقصودة، ولا تنون النكرة المقصودة، وهل معنى القصد في النداء إلا أن تكون مريدا إلى معين؟ وكل ما عمله النحاة أنهم فروا من وصف النكرة بالتعيين أو التعريف، وقالوا: نكرة مقصودة؛ ولا نريد أن يخدعنا هذا الاصطلاح عن الحقيقة، فالمنادى المعين أو المعرف يمنع التنوين لتعيينه، فإذا بقي للاسم بعد حذف التنوين حكمه وهو النصب، اشتبه بالمضاف إلى ياء المتكلم، لأنها تقلب في باب النداء ألفا؛ تقول: يا غلامي، ويا غلاما؛ وقد تحذف وتبقى الحركة القصيرة مشيرة إليها، فيقال: يا غلام ويا غلام. وفي الخلاصة:
واجعل منادى صح إن يضف ليا
كعبد عبدي عبد عبدا عبديا
ففروا في هذا الباب من النصب والجر إلى الضم، حيث لا شبهة بياء المتكلم.
وقد نقل سيبويه أن العرب قد يستروحون إلى مد آخر الكلمة ومط حركاتها، فذلك أصل آخر للاشتباه.
ويمكن صوغ هذه القاعدة في وضع أصح وأوضح من كلام النحاة، وأغنى عن تجديد اصطلاح خاص بهذا الباب، وهو: «متى أريد بالمنادى المنون معين، حرم التنوين الذي هو علامة التنكير؛ ومتى حرم التنوين ضم آخره فرارا من شبهة الإضافة إلى ضمير المتكلم»، وكانت قاعدة صحيحة دالة على روح العربية، ووجه إبانتها عن المعاني، واحتياطها لبعض اللبس.
وقد وفق النحاة حين جعلوا هذه الحركة ضمة بناء لا حركة الإعراب.
ونرى من كلام العرب نظيرا لهذا في الاسم الذي لا ينصرف، فإنهم حين حرموه التنوين لأسباب مبينة في مواضعها - وسيجيء لنا بحث في مناقشتها - خافوا أن يلتبس بالمضاف إلى ياء المتكلم حين يكسر غير منون، فعدلوا عن الكسرة إلى الفتحة، فاتقاؤهم الشبهة بياء المتكلم في الممنوع من الصرف منعهم الكسر وحده؛ لأن ضمير المتكلم لا يكون هنا إلا ياء واتقاؤهم الشبهة نفسها في المنادى ألزمه الضم؛ لأن ضمير المتكلم فيه يكون ألفا كما يكون ياء.
فقد رأيت أن هذا الموضع الذي بدا في الأول مخالفا لأصلنا، ناقضا له، قد انتهى بنا درسه إلى أنه مؤيد لرأينا، لا معارض له، وكشف عن سر من أسرار العربية في وضع الحركات بحساب، وبإيحاء إلى معنى يراد.
صفحه نامشخص