* بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتعالي عن صفات المخلوقين المنزه عن نعوت الناعتين المبرأ مما لا يليق بوحدانيته المرتفع عن الزوال والفناء بوجوب إلهيته الذي استعبد الخلائق بحمد ما تواتر عليهم من نعمائه وترادف لديهم من حسن بلائه وتتابع من أياديه وعواطفه وتفاقم من مواهبه وعوارفه جم عن الإحصاء عددها وفاق عن الإحاطة بها مددها وخرست ألسن الناطقين بالشكر عليها عن أداء ما وجب من حقها لديها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يثقل بها ميزان العارفين وتبيض بها وجوههم يوم الدين وأشهد أن محمدا عبده المصطفى ورسوله المجتبى خاتم الرسل والأنبياء وسيد الخلائق كلهم والأصفياء وأن وصيه علي بن أبي طالب عليه السلام خير وصي وخير إمام ولي وأن عترته الطاهرة خير العتر الأئمة الهادية الاثنا عشر أمناء الله في بلاده وحججه على عباده بهم تمت علينا نعمته وعلت كلمته اختارهم للبرية إظهارا للطفه وحكمته وإنارة لأعلام عدله ورحمته فانزاحت بهم علة العبيد وزهق باطل كل مستكبر عنيد بأن عصمهم من الذنوب وبرأهم من العيوب حفظا منه للشرائع والأحكام وسياسة لهم وهيبة لأهل المعاصي والآثام وزجرا عن التغاشم والتكالب وردعا عن التظالم والتواثب وتأديبا بهم لأهل العتو والعدوان ورفعا لما تدعو إليه دواعي الشيطان ولم يمهلهم سدى بلا حجة فيهم معصوم إما ظاهر مشهور أو غائب مكتوم ( لئلا يكون للناس على الله حجة ) بعد الحجة ولا يلتبس عليهم في دينه المحجة ولم يجعل إليهم اختياره لعلمه بأنهم لا يعلمون أسراره ولأنه عز وجل متعال عن فعل شيء لا يجوز عليه مثل تكليف ما لا يهتدي العباد إليه وقد نزه نفسه عن أن يشرك به أحدا في الاختيار حيث قال ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ) القصص / 68.
ثم إن الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب عدول جماعة من الأصحاب عن طريق الحجاج جدا وعن سبيل الجدال وإن كان حقا وقولهم إن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام لم يجادلوا قط ولا استعملوه ولا للشيعة فيه إجازة بل نهوهم عنه وعابوه فرأيت عمل كتاب يحتوي على ذكر جمل من محاوراتهم في الفروع والأصول مع أهل الخلاف وذوي الفضول قد جادلوا فيها بالحق من الكلام وبلغوا غاية كل مرام.
وإنهم عليهم السلام إنما نهوا عن ذلك الضعفاء والمساكين من أهل القصور عن بيان الدين دون المبرزين في الاحتجاج الغالبين لأهل اللجاج فإنهم كانوا مأمورين من قبلهم بمقاومة الخصوم ومداواة الكلوم (1) فعلت بذلك منازلهم وارتفعت درجاتهم وانتشرت فضائلهم.
صفحه ۱۳
وأنا أبتدئ في صدر الكتاب بفصل ينطوي على ذكر آيات من القرآن التي أمر الله تعالى بذلك أنبياءه بمحاجة ذوي العدوان ويشتمل أيضا على عدة أخبار في فضل الذابين عن دين الله القويم وصراطه المستقيم بالحجج القاهرة والبراهين الباهرة.
ثم نشرع في ذكر طرف من مجادلات النبي والأئمة عليه و عليهم السلام وربما يأتي في أثناء كلامهم كلام جماعة من الشيعة حيث تقتضي الحال ذكره ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه أو موافقته لما دلت العقول إليه أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف إلا ما أوردته عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام فإنه ليس في الاشتهار على حد ما سواه وإن كان مشتملا على مثل الذي قدمناه فلأجل ذلك ذكرت إسناده في أول جزء من ذلك دون غيره لأن جميع ما رويت عنه صلى الله عليه وآله إنما رويته بإسناد واحد من جملة الأخبار التي ذكرها عليه السلام في تفسيره.
والله المستعان فيما قصدناه وهو حسبي ونعم الوكيل
صفحه ۱۴
فصل
قال الله تبارك وتعالى في كتابه مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) النحل / 125.
وقال عز من قائل : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) العنكبوت / 46.
وقال الله تعالى : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ) الآية البقر ة / 258.
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام أيضا لما احتج على عبدة الكوكب المعروف بالزهرة وعبدة الشمس والقمر جميعا بزوالها وانتقالها وطلوعها وأفولها وعلى حدوثها وإثبات محدث لها وفاطر إياها : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ) إلى قوله تعالى ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) الأنعام / 75 83 ، وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالاحتجاج وسيأتي ذكر شرحها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : نحن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيا.
وأما الأخبار في فضل العلماء فهي أكثر من أن تعد أو تحصى لكنا نذكر طرفا منها :
** فمن ذلك
(1) رضي الله عنه قال حدثني الشيخ الصدوق أبو عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد الدوريستي (2) رحمة الله عليه قال حدثني أبي
صفحه ۱۵
محمد بن أحمد (1) قال حدثني الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (2) رحمه الله قال حدثني أبو الحسن محمد بن القاسم المفسر الأسترآبادي (3) قال حدثني أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار (4) وكانا من الشيعة الإمامية قالا :
حدثنا أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام قال حدثني أبي عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : أشد من يتم اليتيم الذي انقطع عن أمه وأبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى (5)
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال قال علي بن أبي طالب عليه السلام من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به (6) جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يضيء لجميع أهل العرصات وحلة لا تقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها ثم ينادي مناد يا عباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة الجنان فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيرا أو فتح عن قلبه من الجهل قفلا أو أوضح له عن شبهة
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام قال قال الحسين بن علي (7): فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل (8) يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري قال قال الحسين بن علي عليه السلام : ( من كفل لنا يتيما قطعته عنا محبتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه قال الله عز وجل أيها العبد الكريم المواسي لأخيه أنا أولى بالكرم منك اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف
صفحه ۱۶
قصر وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعيم ).
وبهذا الإسناد عنه عليه السلام قال قال محمد بن علي الباقر عليهما السلام العالم كمن معه شمعة تضيء للناس فكل من أبصر بشمعته دعا بخير كذلك العالم معه شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا بها من جهل فهو من عتقائه من النار والله يعوضه عن ذلك بكل شعرة لمن أعتقه ما هو أفضل له من الصدقة بمائة ألف قنطار (1) على الوجه الذي أمر الله عز وجل به بل تلك الصدقة وبال على صاحبها لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف ركعة يصليها من بين يدي الكعبة
وبهذا الإسناد عنه عليه السلام قال قال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته يمنعوهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم
وعنه عليه السلام بالإسناد المتقدم قال قال موسى بن جعفر عليه السلام : فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف (2) عابد لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته فلذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد وألف ألف عابدة
وعنه عليه السلام قال قال علي بن موسى الرضا عليه السلام : يقال للعابد يوم القيامة نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت مئونتك فادخل الجنة ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم ووفر عليهم نعم جنان الله تعالى وحصل لهم رضوان الله تعالى ويقال للفقيه يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك أو تعلم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاما وفئاما وفئاما (3) حتى قال عشرا وهم الذين أخذوا عنه علومه وأخذوا عمن أخذ عنه وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة فانظروا كم صرف ما بين المنزلتين (4)
وعنه عليه السلام قال قال محمد بن علي الجواد عليه السلام : من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسارى في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم ليحفظوا عهد الله على العباد بأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء.
صفحه ۱۷
وعنه عليه السلام قال : قال علي بن محمد عليه السلام لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل
وعنه عليه السلام قال يأتي علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنا يوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم على رأس كل واحد منهم تاج بهاء قد انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة فشعاع تيجانهم ينبث فيها كلها فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه ومن ظلمة الجهل علموه ومن حيرة التيه أخرجوه إلا تعلق بشعبة من أنوارهم فرفعتهم إلى العلو حتى تحاذي بهم فوق الجنان ثم ينزلهم على منازلهم المعدة في جوار أستاديهم ومعلميهم وبحضرة أئمتهم الذين كانوا إليهم يدعون ولا يبقى ناصب من النواصب يصيبه من شعاع تلك التيجان إلا عميت عينه وأصمت أذنه وأخرس لسانه وتحول عليه أشد من لهب النيران فيحملهم حتى يدفعهم إلى الزبانية فيدعونهم (1) إلى سواء الجحيم
وقال أيضا أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام إن محبي آل محمد عليهم السلام مساكين مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقراء وهم الذين سكنت جوارحهم وضعفت قواهم من مقاتلة أعداء الله الذين يعيرونهم بدينهم ويسفهون أحلامهم ألا فمن قواهم بفقهه وعلمهم حتى أزال مسكنتهم ثم يسلطهم على الأعداء الظاهرين النواصب وعلى الأعداء الباطنين إبليس ومردته حتى يهزموهم عن دين الله يذودوهم (2) عن أولياء آل رسول الله صلى الله عليه وآله حول الله تعالى تلك المسكنة إلى شياطينهم فأعجزهم عن إضلالهم قضى الله تعالى بذلك قضاء حقا على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله .
وقال أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام قال علي بن أبي طالب عليه السلام من قوى مسكينا في دينه ضعيفا في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه (3) لقنه الله تعالى يوم يدلى في قبره أن يقول الله ربي ومحمد نبيي وعلي وليي والكعبة قبلتي والقرآن بهجتي وعدتي والمؤمنون إخواني فيقول الله أدليت بالحجة (4) فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة.
وقال أبو محمد عليه السلام قالت فاطمة عليها السلام وقد اختصم إليها امرأتان فتنازعتا في شيء من أمر الدين إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا فقالت فاطمة إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها وإن الله عز وجل قال للملائكة أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف مما كنت أعددت لها واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معاندا مثل ألف ألف ما كان له معدا من الجنان
وقال أبو محمد عليه السلام قال الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام وقد حمل إليه رجل هدية فقال له أيما أحب إليك أن أرد عليك بدلها عشرين ضعفا يعني عشرين ألف درهم أو أفتح لك بابا من العلم تقهر فلانا الناصبي
صفحه ۱۸
في قريتك تنقذ به ضعفاء أهل قريتك إن أحسنت الاختيار جمعت لك الأمرين وإن أسأت الاختيار خيرتك لتأخذ أيهما شئت.
فقال يا ابن رسول الله فثوابي في قهري ذلك الناصب واستنقاذي لأولئك الضعفاء من يده قدره عشرون ألف درهم قال أكثر من الدنيا عشرين ألف ألف مرة.
قال يا ابن رسول الله فكيف أختار الأدون بل أختار الأفضل الكلمة التي أقهر بها عدو الله وأذوده عن أوليائه فقال الحسن بن علي عليهما السلام قد أحسنت الاختيار وعلمه الكلمة وأعطاه عشرين ألف درهم فذهب فأفحم الرجل فاتصل خبره به فقال له حين حضر معه يا عبد الله ما ربح أحد مثل ربحك ولا اكتسب أحد من الأوداء مثل ما اكتسبت مودة الله أولا ومودة محمد وعلي ثانيا ومودة الطيبين من آلهما ثالثا ومودة ملائكة الله تعالى المقربين رابعا ومودة إخوانك المؤمنين خامسا واكتسبت بعدد كل مؤمن وكافر ما هو أفضل من الدنيا ألف مرة فهنيئا لك هنيئا.
وقال أبو محمد عليه السلام قال جعفر بن محمد عليهما السلام : من كان همه في كسر النواصب عن المساكين من شيعتنا الموالين حمية لنا أهل البيت يكسرهم عنهم ويكشف عن مخازيهم ويبين عوارهم (1) ويفخم أمر محمد وآله جعل الله تعالى همة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره يستعمل بكل حرف من حروف حججه على أعداء الله أكثر من عدد أهل الدنيا أملاكا قوة كل واحد يفضل عن حمل السماوات والأرضين فكم من بناء وكم من نعمة وكم من قصور لا يعرف قدرها إلا رب العالمين.
وقال أبو محمد عليه السلام قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته وذله ومسكنته أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله يقوم من قبره والملائكة صفوف من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله فيحملونه على أجنحتهم يقولون له مرحبا طوباك (2) يا دافع الكلاب عن الأبرار ويا أيها المتعصب للأئمة الأخيار.
وقال أبو محمد لبعض تلامذته لما اجتمع إليه قوم من مواليه والمحبين لآل محمد رسول الله بحضرته وقالوا يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله إن لنا جارا من النصاب يؤذينا ويحتج علينا في تفضيل الأول والثاني والثالث على أمير المؤمنين عليه السلام ويورد علينا حججا لا ندري كيف الجواب عنها والخروج منها مر بهؤلاء إذا كانوا مجتمعين يتكلمون فتستمع عليهم فيستدعون منك الكلام فتكلم وأفحم صاحبهم واكسر عربه (3) وفل حده (4) ولا تبق له باقية فذهب الرجل وحضر الموضع وحضروا وكلم الرجل فأفحمه وصيره لا يدري في السماء هو أو في الأرض.
قالوا ووقع علينا من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى وعلى الرجل والمتعصبين له من الغم والحزن
صفحه ۱۹
مثل ما لحقنا من السرور فلما رجعنا إلى الإمام قال لنا إن الذين في السماوات لحقهم من الفرح والطرب بكسر هذا العدو لله كان أكثر مما كان بحضرتكم والذي كان بحضرة إبليس وعتاة مردته من الشياطين من الحزن والغم أشد مما كان بحضرتهم ولقد صلى على هذا العبد الكاسر له ملائكة السماء والحجب والعرش والكرسي وقابلها الله تعالى بالإجابة فأكرم إيابه وعظم ثوابه ولقد لعنت تلك الأملاك عدو الله المكسور وقابلها الله بالإجابة فشدد حسابه وأطال عذابه.
صفحه ۲۰
فصل
والمناظرة وما يجري مجرى ذلك مع من خالف الإسلام وغيرهم|
قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام ذكر عند الصادق عليه السلام الجدال في الدين وأن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام قد نهوا عنه فقال الصادق عليه السلام لم ينه عنه مطلقا ولكنه نهي عن الجدال بغير التي هي أحسن أما تسمعون الله يقول : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (1) وقوله ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (2) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله على شيعتنا وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) (3) وقال الله تعالى ( تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (3) فجعل الله علم الصدق والإيمان بالبرهان وهل يؤتى ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن.
قيل يا ابن رسول الله فما الجدال ( بالتي هي أحسن ) وبالتي ليست بأحسن؟
قال أما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل به مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد بذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجة له على باطله وأما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم (4) لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل.
وأما الجدال ( بالتي هي أحسن ) فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له فقال الله له حاكيا عنه : ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم ) فقال الله تعالى في الرد عليه : ( قل ) يا محمد ( يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ) (5) إلى آخر السورة.
فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم فقال الله تعالى :
صفحه ۲۱
( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) أفيعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته ثم قال ( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ) أي إذا أكمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب ثم يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما بلي أقدر ثم قال ( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ) (1) أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.
قال الصادق عليه السلام فهو الجدال ( بالتي هي أحسن ) لأن فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم وأما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق فهذا هو المحرم لأنك مثله جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر.
وقال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام فقام إليه رجل آخر وقال يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله أفجادل رسول الله؟
فقال الصادق عليه السلام مهما ظننت برسول الله من شيء فلا تظنن به مخالفة الله أليس الله قد قال : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) و ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) لمن ضرب الله مثلا أفتظن أن رسول الله صلى الله عليه وآله خالف ما أمر الله به فلم يجادل بما أمره الله به ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به ولقد حدثني أبي الباقر عن جدي علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنه اجتمع يوما عند رسول الله صلى الله عليه وآله أهل خمسة أديان اليهود والنصارى والدهرية والثنوية ومشركو العرب (2).
فقالت اليهود نحن نقول ( عزير ابن الله ) وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت النصارى نحن نقول إن المسيح ابن الله اتحد به وقد جئناك لننظر ما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت الدهرية نحن نقول إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة وقد جئناك لننظر فيما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت الثنوية نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبران وقد جئناك لننظر فيما تقول فإن اتبعتنا فنحن
صفحه ۲۲
أسبق إلى الصواب منك وإن خالفتنا خصمناك.
وقال مشركو العرب نحن نقول إن أوثاننا آلهة وقد جئناك لننظر فيما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خصمناك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله آمنت بالله وحده لا شريك له وكفرت [ بالجبت والطاغوت ] (1) بكل معبود سواه.
ثم قال لهم إن الله تعالى قد بعثني ( كافة للناس بشيرا ونذيرا ) وحجة على العالمين وسيرد كيد من يكيد دينه في نحره.
ثم قال لليهود أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة؟ قالوا لا قال فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيرا ابن الله؟ قالوا لأنه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله فكيف صار عزير ابن الله دون موسى وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورئي منه من المعجزات ما قد علمتم ولئن كان عزير ابن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة؟ فلقد كان موسى بالنبوة أولى وأحق ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب له أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من النبوة لأنكم إن كنتم إنما تريدون بالنبوة الدلالة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة الأمهات الأولاد بوطء آبائهم لهن فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه وأوجبتم فيه صفات المحدثين فوجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا وأن يكون له خالق صنعه وابتدعه.
قالوا لسنا نعني هذا فإن هذا كفر كما دللت لكنا نعني أنه ابنه على معنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره يا بني وإنه ابني لا على إثبات ولادته منه لأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب له بينه وبينه وكذلك لما فعل الله تعالى بعزير ما فعل كان قد اتخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله فهذا ما قلته لكم إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه فإن هذه المنزلة بموسى أولى وإن الله يفضح كل مبطل بإقراره ويقلب عليه حجته إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر مما ذكرته لكم لأنكم قلتم إن عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه يا بني وهذا ابني لا على طريق الولادة فقد تجدون أيضا هذا العظيم يقول لأجنبي هذا أخي ولآخر هذا شيخي وأبي ولآخر هذا أخي ولآخر هذا سيدي ويا سيدي على سبيل الإكرام وإن من زاده في الكرامة زاده مثل هذا القول فإذا يجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا له أو أبا أو سيدا لأنه قد زاده في الإكرام مما لعزير كما أن من زاد رجلا في الإكرام فقال له يا سيدي ويا شيخي ويا عمي ويا رئيسي على طريق الإكرام وأن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا أو عما أو رئيسا أو سيدا أو أميرا لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له يا شيخي أو يا سيدي أو يا عمي أو يا رئيسي أو يا أميري؟
قال فبهت القوم وتحيروا وقالوا يا محمد أجلنا نتفكر فيما قد قلته لنا فقال انظروا فيه بقلوب معتقدة
صفحه ۲۳
للإنصاف يهدكم الله.
ثم أقبل على النصارى فقال لهم وأنتم قلتم إن القديم عز وجل اتحد بالمسيح ابنه فما الذي أردتموه بهذا القول أردتم أن القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما كوجود القديم الذي هو الله أو معنى قولكم إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه.
فإن أردتم أن القديم صار محدثا فقد أبطلتم لأن القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا وإن أردتم أن المحدث صار قديما فقد أحلتم لأن المحدث أيضا محال أن يصير قديما وإن أردتم أنه اتحد به بأنه اختصه واصطفاه على سائر عباده فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله لأنه إذا كان عيسى محدثا وكان الله اتحد به بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه.
فقالت النصارى يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر فقد اتخذه ولدا على جهة الكرامة.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه ثم أعاد صلى الله عليه وآله ذلك كله فسكتوا إلا رجلا واحدا منهم فقال له يا محمد أولستم تقولون إن إبراهيم خليل الله؟ قال قد قلنا ذلك قال فإذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول إن عيسى ابن الله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وآله إنهما لن يشتبها لأن قولنا إبراهيم خليل الله فإنما هو مشتق من الخلة والخلة إنما معناها الفقر والفاقة فقد كان خليلا إلى ربه فقيرا وإليه منقطعا وعن غيره متعففا معرضا مستغنيا وذلك لما أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله جبرئيل فقال له أدرك عبدي فجاء فلقيه في الهواء فقال له كلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك فقال إبراهيم حسبي ( الله ونعم الوكيل ) إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه.
وإذا جعل معنى ذلك من الخلة وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره كان الخليل معناه العالم به وبأموره ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله وإن من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده لأن معنى الولادة قائم به.
ثم إن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا بأن عيسى ابنه وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى إنه ابنه فإن الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى فقولوا إن موسى أيضا ابنه وأن يجوز أن تقولوا على هذا المعنى إنه شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته لليهود.
فقال بعضهم لبعض وفي الكتب المنزلة أن عيسى قال أذهب إلى أبي وأبيكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله فإن كنتم بذلك الكتاب تعلمون فإن فيه أذهب إلى أبي وأبيكم فقولوا إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه ثم إن في هذا الكتاب مبطل عليكم هذا الذي زعمتم أن عيسى من وجهة الاختصاص كان ابنا له لأنكم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصه
صفحه ۲۴
بما لم يختص به غيره وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى أذهب إلى أبي وأبيكم فبطل أن يكون الاختصاص لعيسى لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها لأنه إذا قال أذهب إلى أبي وأبيكم فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه وما يدريكم لعله عنى أذهب إلى آدم أو إلى نوح وأن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم وآدم أبي وأبيكم وكذلك نوح بل ما أراد غير هذا.
قال فسكت النصارى وقالوا ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما مثلك وسننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله على الدهرية فقال وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟
فقالوا لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشياء حدثا فحكمنا بأنها لم تزل ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنا بأنها لا تزال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أفوجدتم لها قدما أم وجدتم لها بقاء أبد الآبد فإن قلتم إنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون والذين يشاهدونكم.
قالوا بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما لأنكم لم تشاهدوا حدوثها وانقضاءها أولى من تارك التميز لها مثلكم فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنه لم يشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد أولستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر؟ فقالوا نعم.
فقال أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ فقالوا نعم فقال أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ فقالوا لا.
فقال صلى الله عليه وآله فإذا منقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريا بعده؟ قالوا كذلك هو.
فقال قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار لم تشاهدوهما فلا تنكروا لله قدرته.
ثم قال صلى الله عليه وآله أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه؟ فإن قلتم إنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله وإن قلتم متناه فقد كان ولا شيء منهما قالوا نعم.
قال لهم أقلتم إن العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه؟ قالوا نعم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لا قوام للبعض إلا بما يتصل به كما نرى البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم وكذلك سائر ما نرى.
وقال أيضا فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديم فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون وما ذا كانت تكون صفته؟
صفحه ۲۵
قال فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم فوجموا وقالوا سننظر في أمرنا.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الثنوية الذين قالوا النور والظلمة هما المدبران فقال وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟
فقالوا لأنا وجدنا العالم صنفين خيرا وشرا ووجدنا الخير ضدا للشر فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشيء وضده بل لكل واحد منهما فاعل ألا ترى أن الثلج محال أن يسخن كما أن النار محال أن تبرد فأثبتنا لذلك صانعين قديمين ظلمة ونورا؟
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله أفلستم قد وجدتم سوادا وبياضا وحمرة وصفرة وخضرة وزرقة وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلين منهما في محل واحد كما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد؟ قالوا نعم.
قال فهلا أثبتم بعدد كل لون صانعا قديما ليكون فاعل كل ضد من هذه الألوان غير فاعل الضد الآخر؟ قال فسكتوا.
ثم قال فكيف اختلط النور والظلمة وهذا من طبعه الصعود وهذه من طبعها النزول أرأيتم لو أن رجلا أخذ شرقا يمشي إليه والآخر غربا أكان يجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرين على وجههما قالوا لا.
قال فوجب أن لا يختلط النور والظلمة لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر فكيف وجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن يمتزج بل هما مدبران جميعا مخلوقان فقالوا سننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على مشركي العرب فقال وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله فقالوا نتقرب بذلك إلى الله تعالى.
فقال لهم أوهي سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله؟ قالوا لا.
قال فأنتم الذين نحتموها بأيديكم؟ قالوا نعم. `
قال فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم.
قال فلما قال رسول الله صلى الله عليه وآله هذا القول اختلفوا فقال بعضهم إن الله قد حل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حل فيها ربنا.
وقال آخرون منهم إن هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا فمثلنا صورهم وعبدناها تعظيما لله.
وقال آخرون منهم إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له كنا نحن أحق بالسجود لآدم من الملائكة ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنا لها تقربا إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى وكما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب (1) سجدتم إليها وقصدتم
صفحه ۲۶
الكعبة لا محاريبكم وقصدتم بالكعبة إلى الله عز وجل لا إليها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أخطأتم الطريق وضللتم أما أنتم ( وهو صلى الله عليه وآله يخاطب الذين قالوا إن الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصور التي صورناها فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا ) فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات أويحل ربكم في شيء حتى يحيط به ذاك الشيء فأي فرق بينه إذا وبين سائر ما يحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفته ولم صار هذا المحلول فيه محدثا وذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال وهو عز وجل كان لم يزل وإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال وما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء لأن ذلك أجمع من صفات الحال والمحلول فيه وجميع ذلك متغير الذات فإن كان لم يتغير ذات الباري تعالى بحلوله في شيء جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيض ويحمر ويصفر وتحله الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ويكون محدثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحل في شيء فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم.
قال فسكت القوم وقالوا سننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الفريق الثاني فقال أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها فما الذي أبقيتم لرب العالمين؟
أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوي به عبده أرأيتم ملكا أو عظيما إذا سويتموه بعبده في التعظيم والخضوع والخشوع أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير؟ فقالوا نعم.
قال أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون (1) على رب العالمين؟
قال فسكت القوم بعد أن قالوا سننظر في أمرنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله للفريق الثالث لقد ضربتم لنا مثلا وشبهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء وذلك أنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا وننزجر عما زجرنا ونعبده من حيث يريده منا فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا لأنا لا ندري لعله إن أراد منا الأول فهو يكره الثاني وقد نهانا أن نتقدم بين يديه فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعناه ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون بها فأطعناه ولم نخرج في شيء من ذلك من اتباع أمره.
والله حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره فليس لكم أن تقيسوا ذلك
صفحه ۲۷
عليه لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.
ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينه ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره أو لكم أن تدخلوا دارا له أخرى مثلها بغير أمره أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه أو عبدا من عبيده أو دابة من دوابه ألكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا نعم.
قال فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله قالوا لا لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأول
قال صلى الله عليه وآله فأخبروني الله أولى بأن لا يتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين قالوا بل الله أولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه.
قال فلم فعلتم ومتى أمركم بالسجود أن تسجدوا لهذه الصور؟
قال فقال القوم سننظر في أمورنا وسكتوا.
وقال الصادق عليه السلام فو الذي بعثه بالحق نبيا ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثة أيام حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلموا وكانوا خمسة وعشرين رجلا من كل فرقة خمسة وقالوا ما رأينا مثل حجتك يا محمد نشهد أنك رسول الله.
احتجاج النبي صلى الله عليه وآله على جماعة من المشركين
وقال الصادق عليه السلام قال أمير المؤمنين عليه السلام أنزل الله ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) (1) الآية وكان في هذه الآية رد على ثلاثة أصناف منهم لما قال ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) فكان ردا على الدهرية الذين قالوا إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة.
ثم قال ( وجعل الظلمات والنور ) فكان ردا على الثنوية الذين قالوا إن النور والظلمة هما مدبران.
ثم قال ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) فكان ردا على مشركي العرب الذين قالوا إن أوثاننا آلهة.
ثم أنزل الله ( قل هو الله أحد ) إلى آخرها فكان ردا على من ادعى من دون الله ضدا أو ندا.
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه قولوا ( إياك نعبد ) أي نعبد واحدا لا نقول كما قالت الدهرية إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة ولا كما قالت الثنوية إن النور والظلمة هما المدبران ولا كما قال مشركو العرب إن أوثاننا آلهة فلا نشرك بك شيئا ولا ندعو من دونك إلها كما يقول هؤلاء الكفار ولا نقول كما قالت اليهود والنصارى إن لك ولدا تعاليت عن ذلك.
قال فذلك قوله : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) وقالت طائفة غيرهم من هؤلاء
صفحه ۲۸
الكفار ما قالوا قال الله تعالى يا محمد ( تلك أمانيهم ) التي يمنونها بلا حجة : ( قل هاتوا برهانكم ) وحجتكم على دعواكم : ( إن كنتم صادقين ) كما أتى محمد ببراهينه التي سمعتموها.
ثم قال ( بلى من أسلم وجهه لله ) تعالى يعني كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله لما سمعوا براهينه وحجته : ( وهو محسن ) في عمله ( فله أجره ) وثوابه ( عند ربه ) يوم فصل القضاء : ( ولا خوف عليهم ) حين يخاف الكافرون مما يشاهدونه من العقاب : ( ولا هم يحزنون ) (1) عند الموت لأن البشارة بالجنان تأتيهم
احتجاج النبي صلى الله عليه وآله على جماعة من المشركين
عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال قلت لأبي علي بن محمد عليه السلام هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال بلى مرارا كثيرة.
منها ما حكى الله من قولهم : ( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك؟ ) إلى قوله ( رجلا مسحورا ) (2) وقالوا : ( لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) (3) وقوله عز وجل : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) إلى قوله ( كتابا نقرؤه ) (4) ثم قيل له في آخر ذلك لو كنت نبيا كموسى أنزلت علينا كسفا من السماء ونزلت علينا الصاعقة في مسألتنا إليك لأن مسألتنا أشد من مسائل قوم موسى لموسى عليه السلام .
قال وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي وأبو البختري بن هشام وأبو جهل والعاص بن وائل السهمي وعبد الله بن أبي أمية المخزومي وكان معهم جمع ممن يليهم كثير ورسول الله صلى الله عليه وآله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه.
فقال المشركون بعضهم لبعض لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ويصغر قدره عندهم فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر.
قال أبو جهل فمن ذا الذي يلي كلامه ومجادلته؟ قال عبد الله بن أبي أمية المخزومي أنا إلى ذلك أفما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيا.
قال أبو جهل بلى فأتوه بأجمعهم فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال :
يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا زعمت أنك رسول الله رب العالمين وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشر مثلنا تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي!
صفحه ۲۹
فهذا ملك الروم وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده.
ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ما أنت يا محمد ( إلا رجلا مسحورا ) ولست بنبي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله هل بقي من كلامك شيء؟
قال بلى لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا أكثره مالا وأحسنه حالا فهلا أنزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولا ( على رجل من القريتين عظيم ) إما الوليد بن المغيرة بمكة وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله هل بقي من كلامك شيء يا عبد الله؟
فقال بلى ( لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) بمكة هذه فإنها ذات أحجار وعرة وجبال تكسح أرضها (1) وتحفرها وتجري فيها العيون فإننا إلى ذلك محتاجون ( أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ) فتأكل منها وتطعمنا وتفجر ( الأنهار خلالها ) خلال تلك النخيل والأعناب ( تفجيرا ) ( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) (2) فإنك قلت لنا ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ) (3) فلعلنا نقول ذلك.
ثم قال ( أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ) تأتي به وبهم وهم لنا مقابلون ( أو يكون لك بيت من زخرف ) تعطينا منه وتغنينا به فلعلنا نطغى وإنك قلت لنا : ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) (4).
ثم قال ( أو ترقى في السماء ) أي تصعد في السماء ( ولن نؤمن لرقيك ) أي لصعودك ( حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي أمية المخزومي ومن معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فإنه رسولي وصدقوه في مقاله إنه من عندي ثم لا أدري يا محمد إذا فعلت هذا كله أومن بك أو لا أومن بك بل لو رفعتنا إلى السماء وفتحت أبوابها وأدخلتناها لقلنا ( إنما سكرت أبصارنا ) (5) وسحرتنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله يا عبد الله أبقي شيء من كلامك قال يا محمد أوليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ ما بقي شيء فقل ما بدا لك وأفصح عن نفسك إن كان لك حجة وائتنا بما سألناك به.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله اللهم أنت السامع لكل صوت والعالم بكل شيء تعلم ما قاله عبادك فأنزل الله عليه يا محمد ( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ) إلى قوله ( رجلا مسحورا ) (6) ثم قال الله تعالى : ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) (7) ثم قال يا محمد ( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا
صفحه ۳۰
من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ) (1) وأنزل عليه يا محمد ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ) (2) الآية وأنزل الله عليه يا محمد ( وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ) إلى قوله ( وللبسنا عليهم ما يلبسون ) (3).
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله يا عبد الله أما ما ذكرت من أني آكل الطعام كما تأكلون وزعمت أنه لا يجوز لأجل هذا أن أكون لله رسولا فإنما الأمر لله تعالى ( يفعل ما يشاء ) و ( يحكم ما يريد ) وهو محمود وليس لك ولا لأحد الاعتراض عليه بلم وكيف ألا ترى أن الله كيف أفقر بعضا وأغنى بعضا وأعز بعضا وأذل بعضا وأصح بعضا وأسقم بعضا وشرف بعضا ووضع بعضا وكلهم ممن يأكل الطعام ثم ليس للفقراء أن يقولوا لم أفقرتنا وأغنيتهم ولا للوضعاء أن يقولوا لم وضعتنا وشرفتهم ولا للزمنى (4) والضعفاء أن يقولوا لم أزمنتنا وأضعفتنا وصححتهم ولا للأذلاء أن يقولوا لم أذللتنا وأعززتهم ولا لقباح الصور أن يقولوا لم قبحتنا وجملتهم.
بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادين وله في أحكامه منازعين وبه كافرين ولكان جوابه لهم أنا الملك الخافض الرافع المغني المفقر المعز المذل المصحح المسقم وأنتم العبيد ليس لكم إلا التسليم لي والانقياد لحكمي فإن سلمتم كنتم عبادا مؤمنين وإن أبيتم كنتم بي كافرين وبعقوباتي من الهالكين.
ثم أنزل الله عليه يا محمد ( قل إنما أنا بشر مثلكم ) يعني آكل الطعام و ( يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) (5) يعني قل لهم أنا في البشرية مثلكم ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال دون بعض من البشر فلا تنكروا أن يخصني أيضا بالنبوة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وأما قولك هذا ملك الروم وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده فإن الله له التدبير والحكم لا يفعل على ظنك وحسبانك ولا باقتراحك بل ( يفعل ما يشاء ) و ( يحكم ما يريد ) وهو محمود يا عبد الله إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى ربهم ويكد (6) نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها وعبيد وخدم يسترونه عن الناس أليس كانت الرسالة تضيع والأمور تتباطأ أوما ترى الملوك إذا احتجبوا كيف يجري الفساد والقبائح من حيث لا يعلمون به ولا يشعرون.
يا عبد الله إنما بعثني الله ولا مال لي ليعرفكم قدرته وقوته وأنه هو الناصر لرسوله ولا تقدرون على قتله ولا منعه في رسالاته فهذا بين في قدرته وفي عجزكم وسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلا وأسرا ثم يظفرني الله ببلادكم ويستولي عليها المؤمنون من دونكم ودون من يوافقكم على دينكم.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وأما قولك لي لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث ملكا لا بشرا مثلنا فالملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لا عيان منه ولو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر ،
صفحه ۳۱
لأنه إنما كان يظهر لكم بصورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقالته وتعرفوا خطابه ومراده فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وأن ما يقوله حق بل إنما بعث الله بشرا وأظهر على يده المعجزات التي ليست في طبائع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبهم فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة وأن ذلك شهادة من الله بالصدق له ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما يعجز عنه البشر لم يكن في ذلك ما يدلكم أن ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتى يصير ذلك معجزا ألا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منها بمعجز لأن لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها ولو أن آدميا طار كطيرانها كان ذلك معجزا فإن الله عز وجل سهل عليكم الأمر وجعله بحيث تقوم عليكم حجته وأنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا حجة فيه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وأما قولك ما أنت إلا رجل مسحور فكيف أكون كذلك وقد تعلمون أني في صحة التمييز والعقل فوقكم فهل جربتم علي منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خزية (1) أو زلة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأي أتظنون أن رجلا يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه وقوتها أو بحول الله وقوته وذلك ما قال الله : ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجة أكثر من دعاويهم الباطلة التي تبين عليك تحصيل بطلانها.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وأما قولك : ( لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بالطائف فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء وليس قسمة الله إليك بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه وليس هو عز وجل ممن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله وحاله فعرفته بالنبوة لذلك ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت فتخصه بالنبوة لذلك ولا ممن يحب أحدا محبة الهواء كما تحب أنت فتقدم من لا يستحق التقديم وإنما معاملته بالعدل فلا يؤثر إلا بالعدل لأفضل مراتب الدين وجلاله إلا الأفضل في طاعته والأجدى في خدمته وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين وجلاله إلا أشدهم تباطؤا عن طاعته.
وإذا كان هذا صفته لم ينظر إلى مال ولا إلى حال بل هذا المال والحال من تفضله وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب (2)، فلا يقال له إذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضا لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ولا إلزامه تفضلا لأنه تفضل قبله بنعمه.
ألا ترى يا عبد الله كيف أغنى واحدا وقبح صورته وكيف حسن صورة واحد وأفقره وكيف شرف واحدا وأفقره وكيف أغنى واحدا ووضعه ثم ليس لهذا الغني أن يقول هلا أضيف إلى يساري جمال فلان ولا للجميل أن يقول هلا أضيف إلى جمالي مال فلان ولا للشريف أن يقول هلا أضيف إلى شرفي مال فلان ولا للوضيع أن يقول هلا أضيف إلى ضعتي شرف فلان ولكن الحكم لله يقسم كيف يشاء
صفحه ۳۲