============================================================
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدتا محمد وآله وسلم ، الحمد لله ، مصرف الأمور بحكمته، ومجريها كيف يشاء بقدرته ، انعم على قوم فأوقفهم على ما خفى من بديع صنعته، ووفقهم لاتباع ما درس من شريعته ، وأتاهم بيانا وحكما ، وألهمهم معارف وعلما ، وأيدهم فى اقوالهم ، وسددهم فى أفعالهم ، حتى بينوا للناس أسباب ما تزل من المحن ، وعرفهم كيف االخلاص مما حل بهم من جليل الفتن ، وأضل آخرين فأكثروا في الأرض الفساد ، وأملى لهم حتى أهلكوا بطغيانهم العباد واليلاد ، واستدرجهم من حيث لا يشعرون ، فهم فى ضلالهم مهون، وبباطلهم يفرحون ، ولعباد الله يذلون ، وعن عبادة ريهم يستكبرون .
أححده حمد عيد قدر انعم الله عليه فعجز عن شكرها ، وعلم أن الأمور من الله ومرجعها الى الله ، فاععمد عليه فى تيسير عسرها .
وصلى الله على تيينا مححد الذى هدى الله يه العباد ، وأزال بشرعته الجور والفساد ، وعلى آله وأصحابه ، وأوليائه وأحبابه ، صلاة لا ينقطع مددها ولا يحصى عددها .
ويعد فإنه لما طال أمر هذا البلاء المبين ، وحل فيه بالخلق أنواع العذاب المهين ، ظن اكثير من التاس أن هذه المحن لم يكن فيما مضى مثلها ولا مر فى زمن شبهها . وتجاوزوا الحد فقالوا لا يمكن زوالها ولا يكون أبدا عن الحق انفصالها ، وذلك أنهم قوم لا يفقهون ، ويأسباب
صفحه ۷۷
============================================================
الحوادث جاهلون ، ومع العوائد واقفون ، ومن روح الله أيسون . ومن تأمل هذا الحادث من يدايته إلى نهايته ، وعرفه من أوله إلى غايته ، علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظرقى مصالح العياد ، إلا أنه كما مر من الفلوات ، وانقضى من السنوات المهلكات. إلا أن ذلك يحتاج إلى إيضاح وبيان ل ويقتضى إلى شرح وتبيان . فمزمت على ذكر الأسباب التى نشأ منها هذا الأمر الفظيع ل وكيف تمادى بالبلاد والعباد هذا المصاب الشنيع ، وأختم القول بذكر ما يزيل هذا الداء ويرفع البلاء . مع الإلماع بطرف من أسعار هذا الزمن ، وإيراد تيذ ما غبر عن الغلاء والمحن ، راجيا من الله سبحانه أن يوقق من أستد إليه أمور عياده ، وملكه مقاليد أرضه وبلاده ، إلى ما فيه سداد الأمور ، وصلاح الجمهور ، إذ [ الأمور] كلها - [قلها] وجلها - إذا عزفت أسبابها سهل على الخبير صلاحها . وبالله المستعان على كل ما عز وهان ، [ وهو يقول الحق ويهدى إلى سواء السبيل] .
صفحه ۷۸
============================================================
مقدمة حكمية تشتمل على قاعدة كلية
اعلم ، أيدك الله بروح منه ، ووفقك إلى الفهم عته ، أنه لم تزل الأمور السالفة كلما كانت أصعب على من شاهدها ، كانت أظرف عند [من] سمعها . وكذلك لا تزال الحال المستقبلة تصور في الوهم غيرا من الحالة الحاضرة ، لأن ملالة الحالة الحاضرة تزين فى الوهم الحالة المستقلة . فلذلك لا يزال الحاضر أيدا منقوصا حقه ، مجحودا قدره ، لأن القليل من شره يرى كثيرا ، إذ القليل من المشاهدة أرسخ من الكثير من الخبر ، وإذ مقاساة اليسير من الشدة أشق على النفس من تذكر الكثير مما سلف منها . مثال ذلك شخص أرقته البراغيث ليلة ، فتذكر بذلك ليالى ماضية أرقته فيها حرارة الحمى : فغير ذى شك أن توهم تلك الحمى ، وتذكر تلك الأيام الماضية ، أخف عليه من دبيب البراغيث علي جمسه ف وقته ذلك . ولا جرم أن هذا االحال ، وإن كان هكذا موقعه في الوقت الحاضر من الحس ، فليس كذلك حكمه فى الحقيقة، لأنه لا يقدر أحد أن يثبت القول بأن دبيب البراغيث على الجسم وقرصها أنكى من حرارة الحمى ، وأن السهر في حال الصحة أشد من السهر على أسباب المنية .
ولما كانت الحالتان هكذا في التمثيل ، وجب علينا أن تسلم للقائلين الذين ضاقوا ذرعا بحوادث زمنهم على ما زعسوه من آن هذه الحوادث صعبة عليهم ، ولا تسلم [لهم4 ما جاوزوا به الحد ، من [ادعائهم أتها في المقارنة والقياس أصعب من التى مضت مشاله] لو أن رجلا قام من فراشه ، وهو بمصر فى أيام الشتاء سحرا ، وبرز إلى رحاب داره فرأى الأمطار نازلة والأرض بالماء قد امتلأت فقال هذا يوم شديد البرد لكان ذلك من قوله غير مردود ولا منكر لأنه قال بما وجد في نفسه بما جرت عازة الناس أن يقولوه
صفحه ۷۹
============================================================
فإن عجز عن أحتمال ما وصل إلى جسحه من اليرد ، ورجع إلى فراشه فالتحف ، وقال هذا اليوم برده أشد من البرد الواقع ببلاد الروم والترك ، لم تجز هذه المقالة ، وعد قائلها فى الضعف واللين والغرارة بمنزلة بنيات الخدور ، وربات الحجول . بل تخرجه عن حافه، ونريه الأطفال وكيف يمرون فى تلك المياه ويلعيون بها ، فيعلم إذا رأى ذلك أن الذى أطنب فيه من الشكاية لزمانه ليس لافراط شدة الزمان ، لكته لضعف صيره وقلة احتماله .
وسأذكر ، إن شاء الله تعالى ، من الغلوات الماضية ما يتضح به أنها كانت أشد وأصعب من هذه المحن التى تزلت بالناس فى هذا الزمان بأضعاف مضاعفة ، وإن كاتت هذه المحتة مشاهدة ، وتلك خبرا.
واعلم أن المسموع الماضى لا يكون أبدا موقعه من القلب موقع الموجود الحاضر فى شىء من الأشياء ، وإن كان الماضى كبيرا والحاضر صغيرا ، لأن القليل من المشاهدة أكثر من الكثير بالسماع . والله يؤتى الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا ، وما يذكر الا أولو الألياب، [والله يقول الحق وهو يهدى السبيل] .
صفحه ۸۰
============================================================
الفصل الاول في ايراد ما حل بمصر من الغلوات وحكايات يسيرة من أنباء تلك الستوات
اعلم (حاط] الله نعمتك وتولى عصمتك ، أن الغلاء والرخاء مازالا يتعاقيان فى عالم الكون وألفساد ، منذ برأ الله الخليقة في سائر الأقطار وجميع البلدان والأمصار ، وقد دون نقلة الأخبار ذلك ، وسطوا خبره فى كتب التاريخ ، وعزمى إن شاء الله تعالى ، أن افرد كتابا يتضمن ما حل بهذا النوع الإنسانى من المحن والكوارث المجيحة ، منذ آدم عليه السلام ، وإلى هذا الزمن الحاضر ، فإنى لم أر لأحد فى ذلك شيئا مفردا . وأذكر هنا جليل ما حل بمصر خاصة من الغلاء فقط ، على سبيل الاختصار ، والإضراب عن التطويل والإكثار، فأقول وبالله أستعين فهو المعين :
غلاء في زمن أفروس بن متاوش
قد ذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه فى كتاب* أخبار مصر0 لما قيل الإسلام - وهو كتاب جليل الفائدة رقيع القدر- أن أول غلاء وقع بمصركان فى زمن الملك السابع عشر من
صفحه ۸۱
============================================================
ملوك مصر قبل الطوفان، [ واسمه أفروس بن مناوش الذى كان طوفان) نوح عليه الصلاة والسلام فى زمنه ، على قول ابن هرجيب بن شهلوف . وكان سبب الغلاء ارتفاع الأمطار، وقلة ماء النيل ، فعقمت أرحام اليهائم ، ووقع الموت فيها لما أراده الله سبحانه وتعالى من هلاك العالم بالطوفان.
غلاء في زمن فرعان بن مسور
ثم وقع فى زمن فرعان بن مسور ، وهو التاسع عشر من ملوك مصر قيل الطوفان .
وسببه أن الظلم والهرج كثرا حتى لم ينكرهما أحد ، فأجدبت الأرض ، وفسدت الزروع ل وجاء بعقب ذلك الطوفان ، فهلك الملك فرعان وهو سكران . وهو أول من يسحى [باسم4 فرعان .
صفحه ۸۲
============================================================
غلاء في زمن أتريب بن مصريم
ثم وقع غلاء في زمن أتريبل بن مصريم ، ثالث عشر ملوك مصر بعد الطوفان . وكان سببه أن ماء النيل توقف جريه مدة [مائة] وأربعين سنة ، فأكل الناس اليهائم حتى فتيت كلها ، وصار الملك . أتريب، ماشيا ، ثم أضعفه الجوع حتى لم يبق به حركة سوى أن ييسط كفيه ويقبضهسا من الجوع . فلما اشتد الأمر عليه ، وطال احتباس النيل ، وشمل الموت أهل الإقليم ، كتب. أتريب، إلى* لاذو بن سام بن نوح عليه السلام . بذلك ، فكتب" لاذو الى أخيه ، أرقخشد بن سام 0 فلم يجيه بشىء ، حتى بعث الله* هودا عليه السلام، فكتب إليه، أتريب . يلتمس منه الدعاء برفع ما نزل يأرض*مصر0 . فأجابه هود عليه السلام* : إنى أدعو لكم فى يوم كذا فاتتظروا فيه جرى النيل . فلما كان ذلك االيوم جمع* أتريب، من بقى بمصر من الرجال والنساء، وهم قليل عدهم ، فدعوا الله تعالى، وضجوا واستفائوا إليه ، وكان ذلك عند انتصاف النهار فى يوم الجسعة . فأجرى الله سبحانه وتعالى النيل فى تلك الساعة ، إلا أنه لم يكن عندهم ما يزرعونه ، فأوحى الله سيحانه وتعالى إلى هود عليه السلام . أن ابعث إلى* أتريب" بمصر أن يأتى لحف جيلها ، وليحفر بمكان كذا . فكتب * هود. إلى. آتريب ، بعمله ، فجمع قومه وحفروا ، فإذا عقود قد عقدت بالرصاص ، وتحتها غلال كأنها وضعت حينيذ ، وهى باقية فى سنبلها لم تدرس .
فكشوا ثمانيةشهورفي نقلها ، وزرعرامنها وتقوتوا تحوخمس سنين ، فأخيره أخوه
صفحه ۸۳
============================================================
صا بن مصريم " أن أولاد قابيل بن آدم عليه السلام لما اتتشروا فى الأرض وملكوها علموا أن حادثة ستحدث فى الأرض ، فينوا هذا البناء ، ووضعوا فيه هذه الغلال ، فزرعت مصر وأخصبت حتى بيع كل أردب بداتق ، ودام الرخاء مدة مائتى سنة .
غلاء في زمن نهراوس .. وقيل اسمه الريان بن الوليد بن درمع العمليقى
ثم وقع الغلاء في زمن الملك الثانى والثلاثين من ملوك مصر بعد الطوفان . وهو الثانى من ملوك العمالقة ، والثالث من الفراعنة فى قول مؤرخى القيط . واختلف في اسم الملك ، فقيل ا ا ل ا ا لا ال وتضمنته التوراة ، واشتهر ذكره في كتب الأمم الماضية والخالية ، فأغنى عن ذكره .
صفحه ۸۴
============================================================
غلاء عند مبعت موسى عليه السلام الى فرعون.
ثم وقع غلاء وجدب هلكت فيه الزروع والأشجار ، وفقدت فيه الحبوب والشصار ، وعم الموت الحيوانات كلها ، وذلك عند مبعث موسى عليه الصلاة والسلام إلى فرعون . وغير هذا الغلاء مشهور فى كتب الإسرائيليين وغيرهم ، وكفى إشارة إليه ، ودلالة عليه ، قوله سبحانه وتعالى ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون]، وقوله [ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون).
ثم وقع بالأرض ، قبل مبعث النيى ل ، أنواع من البلاء والمحن عمت المعصورة من الأرض، وخص مصر منها كثير من الغلاء ، ذكرناه في موضعه .
غلاء في زمن إمارة عبد الله بن عبد الملك ين مروان.
ثم جاء الله سيحانه بالإسلام ، فكان أول غلاء وقع بمصر في سنة سبع وثمانين من الهجرة . والأمير يومئذ بمصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان ، من قبل أييه ، فتشاعم به الناس ، لأته أول غلاء ، وأول شدة رآها المسلمون بمصر.
صفحه ۸۵
============================================================
غلاء في زمن إمارة أوتوجور بن الإخشيد
ثم وقع غلاء في الدولة الإخشيدية في محرم سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة ، والأمير يومئذ أبو القاسم وأوتوجور بن الإخشيد ، فشارت الرعية ، ومنعوه من صلاة العتمة فى الجامع العتيق .
ثم وقع غلاء في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة ، فكثر الفار فى أعمال مصر ، وأتلف الغلات والكروم وغيرها . ثم قصر[ مد) النيل ، فتزع السعر فى شهر رمضان . وفى سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة ، عظم الفلاء ، حتى بيع القمح كل ويبتين وتصف بدينار ، ثم طلب قلم يوجد ، وثارت الرعية وكسروا مثبر الجامع بمصر.
صفحه ۸۶
============================================================
غلاء في زمن إمارة على بن الإخشيد
ثم وقع الغلاء في الدولة الإخشيدية أيضا ، واستمر تسع سنين متتابعة . وابتدأ في سنة أنتين وخمسين وثلاثمائة . والأمير إذ ذاك على بن الإخشيد ، وتدبير الأمور إلى الأستاذ ابى المسك كافور الإخشيدى] . وكان سبب الفلاء أن ماء النيل انتهت زيادته إلى ضمسة عشر ذراعا وأربعة أصابع ، فنزع السعر بعد رخص ، فما كان بديتار واحد صار بثلاثة دنانير ، وعز الخبز قلم يوجد ، وزاد الغلاء حتى بلغ القمح كل ويبتين بديتار . وقصر صد النيل فى سنة ثلاث وخمسين ، فلم يبلغ سوى خمسة عشر ذراعا ( وأربعة) أصابع ، واضطرب فزاد مرة ونقص أخرى هتى صار [فى التصف) من [شهر) بابه إلى قريب من ثلاثة عشر ذراعا. ثم زاد قليلا وانحط سريعا ، فعظم البلاء ، واتتقضت الأعمال لكثرة الفتن ، وتهبت الضياع والفلات وماج الناس فى مصر بسبب السعر ، فدخلوا الجامع العتيق بالفسطاط فى يوم جمعة ، وازدحموا عند المحراب ، قمات رجل وامرأة فى الزحام ، ولم تصل الجمعة يومئذ وتمادى الفلاء إلى سنة أربع وخمسين ، وكان مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وأصابع ، [وفى سنة أربع وخمسين نفسها كان مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأصابع ) . وفى سنة خمس خمسين كان مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وأصابع . وقصر مده وقلت
صفحه ۸۷
============================================================
جريته . وفى سنة ست وخمسين لم يبلغ النيل سوى أثنى عشر ذراعا وأصابع ، ولم يقع مثل ذلك فى الدولة الإسلامية ، وكان على إمارة مصر حينئذ الأستاذ كافور الأخشيدى ، فعظم الأمر من شدة الغلاء .
ثم مات كافور ، فكثر الاضطراب وتعددت الفتن . وكانت حروب كثيرة بين الجند والأمراء تل فيها خلق كثير ، وانتهبت أسواق البلد، وأحرقت مواضع عديدة ، فاشتد خوف التاس وضاعت أموالهم ، وتغيرت نياتهم ، وارتفع السعر ، وتعذر وجود الأقوات حتى بيع القمح كل وبية بدينار ، واختلف العسكر ، فلحق الكثير منهم بالمحسن بن عبد الله بن طفج وهو يومئذ بالرملة. وكاتب الكثير منهم المعز لدين الله الفاطمى . وعظم الإرجاف بمسير القرامطة إلى مصر . وتوترت الأخبار بمجى عساكر المعز من المغرب وإلى أن دخلت سنة ثمان و خمسين وثلاثماية . ودخل القائد جوهر بعساكر الإمام المعز لدين الله ، وينى القاهرة
صفحه ۸۸
============================================================
المعزية ، وكان مما نظر قيه أمر الأسعار ، فضرب جماعة من الطحاتين وطيف بهم ، وجمع سماسرة الغلات بمكان واحد ، وتقدم ألا تياع الفلات إلا هناك فقط ، ولم يجعل لمكان اليي ير طريق واحدة . فكان لا يخرج قدح قمح إلا ويقف عليه سليمان بن عزة المحتسب ، واستمر الغلاء إلى سنة ستين ، فاشتد فيها الوباء ، وفشت الأمراض ، وكثر الموت حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم ، فكان من مات يطرح فى النيل ، قلما دخلت سنة إحدى وستين انحل السعر فيها ، وأخصبت الأرض ، وحصل الرخاء .
غلاء في زمن الحاكم بأمر الله
ثم وقع الغلاء في أيام الحاكم بأمر الله ، وتدبير [ أبى محمد] الحسن بن عمار ، وفذلك في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة . وكان سببه قصور النيل . فإن الزيادة بلغت ستة عشر ذراعا وأصايع ، فنزع السعر ، وطلب القمح قلم يقدر عليه . واشتد خوف الناس ، وأخذت النساء من الطرق ، وعظم الأمر ، وانتهى سعر الخبز إلى أربعة أرطال بدرهم . ومشت الأحوال بانحطاط السعر بعد ذلك.
فلما كانت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، توقف النيل حتى كسر الخليج فى أخر مسرى ، والماء على خمسة عشر ذراعا وسبعة أصابع ، وانتهت الزيادة في ستة عشر
صفحه ۸۹
============================================================
ذراعا وأصابع ، فارتفعت الأسعار ، ووقفت الأحوال في الصرف. فإن الدراهم المعاملة كانت مى يومئذ بالدراهم المزايدة والقطع . فتعنت الناس فيها، وكان صرف الدينار بستة عشرين درهما منها . فتزايد سعر الدينار [ إلى أن كان قى سنة سبع وتسعين كل أربعة وثلاثين درهما بدينار) ، وارتفع السعر ، وزاد اضطراب الناس ، وكثر عنتهم فى الصرف ، وتوقفت الأحوال من أجل ذلك . فتقدم الأمر بانزال عشرين صندوقا من بيت المال لوءة دراهم فرقت قى الصيارف ، وتودى فى الناس بالمنع من المعاملة بالدراهم القطع والمزايدة، وأن يحملوا ما بأيديهم منها إلى دار الضرب، وأجلوا ثلاثا . فشق ذلك على
صفحه ۹۰
============================================================
الناس لإتلاف أموالهم ، فإنه كان يدفع فى الدرهم الواحد من الدراهم الجدد أربعة دراهم من الدراهم القطع والمزايدة . وأمر أن يكون الخبز ، كل اثنى عشر رطلا بدرهم من الدراهم الجدد، وأن يصرف الدينار بثمانية عشر درهما [منها] . وضرب عدة من الطحانين والخبازين بالسياط . وشهروا من أجل ازدحام الناس على الخبز ، فكان لا يباع إلا مبلولا وقصر مد النيل حتى انتهت الزيادة إلى ثلاثة عشر ذراعا وأصابع ، فارتفعت الأسعار .
ورزت الأوامر لمسعود الصقلبى ، متولى الستر ، بالنظر فى أمر الأسعار ، فجمع خزآن الغلال والطحاتين والخبازين . وقبض على ما بالساحل من الفلال ، وأمر أن لا تباع [إلا] الطحانين ، وسعر القمح كل تليس بدينار إلا قيراط ، والشعير عشر ويبات بدينار ، واطب عشر ححلات بديتار ، وسعر سائر احيوب والمبيعات ، وضرب جصاعة بالسياط شهرهم ، نسكن الناس بوجرد الخبز، ثم كثر ازدحامهم عليه ، وتعذر وجوده في العشايا .
أمر أن لا يباع القمح إلا للطحانين ، وشدد في ذلك ، وكبست عدة حواصل ، وفرق ما فيها من القمح على الطحانين بالسعر ، واشتد الأمر ، فبلغ الدقيق كل حملة بدينار ونصف ، والخبز ستة أرطال بدرهم . وتوقف النيل عن الزيادة ، فاستسقى الناس مرتين ؛ وارتفع السعر ، فبلغت الحملة من الدقيق ستة دنانير . وكسر الخليج ، والماء على خمسة عشر ذراعا فاشتد أمر وبلغ القمع كل تليس أربعة دنانير ، والأرز كل ويبة بدينار ، ولحم البقر رطل ونصف بدرهم ، ولحم الضأن رطل بدرهم ، والبصل عشرة أرطال بدرهم ، والجبن ثمانى أواق بدرهم وزيت الاكل ثمانى أوراق بدرهم ، وزيت الوقود رطل بدرهم .
صفحه ۹۱
============================================================
وبلغت زيادة النيل في سنة ثمان وتسعين ( أربعة عشر ذراعا وأصابع فلحقت الناس من ذلك شدائد . وتمادى الحال إلى سنة تسع وتسعين) . قكسر الخليج فى خامس عشرتوت ، والماء في خمسة عشر ذراعا ، فنقص فى تاسع عشر توت وانحط . فعظم الأمر ، وكظ الناس الجوع ، فاجتمعوا بين القصرين ، واستغائوا بالحاكم قى أن ينظر لهم ، وسآلوه أن لا هصل أمرهم ، فركب حماره وخرج من ياب اليحر ، ووقف وقال : " أنا ماض إلى جامع رأشدة، فأقسم بالله لثن عدت فوجدت فى الطريق موضعا يطؤه حمارى مكشوفا من الغلة أضرين رقية كل من يقال لى أن عنده شيئا منها ، ولأحرقن داره وأنهين ماله " ثم توجه وتأخر الى أخر النهار ، فما بقى أحد من أهل مصر والقاهرة وعنده غلة حتى حملها من بيته أو منزله وشونها في الطرقات ، وبلغت أجرة الحمار فى حمل النقلة الواحدة دينارا ، فامتلأت عيون الناس ، وشبحت نفوسهم .
وأمر الحاكم بما يحتاج إليه فى كل يوم ، فقرضه على أرياب الغلات بالنسيئة ، وخيرهم فى أن يبيعوا بالسعر الذى يقرره بما فيه الفائدة المحتملة لهم ، ويين أن يمتنعوا فيختم على فلاتهم ولا يمكنهم من بيع شىء منها إلى حين دخول الجديدة ، فاستجابوا لقوله ، وأطاعوا أمره ، وانحل السعر ، وارتفع الضرر ، ولله عاقية الأمور .
غلاه في زمن المخليفة المستتصر.
ثم وقع غلاء في خلافة المستنصر ، ووزارة الوزير الناصر لدين الله أبى محمد الحسن بن
صفحه ۹۲
============================================================
على بن عبد الرحمن اليازورى ، وسببه قصر النيل ، فى سنة أربع وأربعين وأربعمائة وليس بالمخازن السلطانية شيء من الغلات . فاشتدت المسغبة . وكان سبب خلو المخازن أن الوزير لما أضيف إليه القضاء فى وزارة أبى اليركات ، كان ينزل إلى الجامع ال بصر فى يومى السبت والثلاثاء من كل جمعة ، فيجلس فى الزيادة منه للحكم ، على رسم من تقدمه ، وإذا صلى العصر رجع إلى القاهرة .
وكان في كل سوق من أسواق مصر ، على آرباب كل صنعة من الصنائع عريف يتولى أمرهم . والأخبار بمصر فى أزمتة المساغب متى بردت لم يرجع منها إلى شىء لكثرة ما يفش بها ، وكان لعريف الخبازين دكان يييع الخبز بها ، ومحاذيها دكان آخر لصعلوك يبيع الخبز بها أيخا ، وسعره يومئذ أربعة أرطال بدرهم وثمن ، فرأى الصعلوك أن خبزه قد كاد ييرو ، فأشفق من كساده ، فتادى عليه أربعة أرطال بدرهم ، ليرغب الناس فيه ، فانشال الناس عليه حتى بيع كله لتسامحه ، ويقى خبز العريف كاسدا ، فحنق العريف لذلك ، ووكل به عونين من الحسبة أغرماه عشرة دراهم ، فلما مر قاضى القضاة أبو محمد اليازورى إلى الجامع استغاث به ، فأحضر المحتسب وأنكر عليه ما فعل بالرجل . فذكر المحتسب أن
صفحه ۹۳
============================================================
العادة جارية باستخدام عرفاء فى الأسواق على أرباب اليضائع ، ويقيل قولهم فيما يذكرونه فحضر عريف الخبازين بسوق كذا ، واستدعى عونين من الحسية ، [ فوقع الظن أته أنكر شيئا اقتضى ذلك ) ، فأحضر الوزير الخباز وأنكر عليه ما فعله ، وأمر بصرفه عن العرافة .
ودقع إلى الصعلوك ثلاثين رباعيا من الذهب ، فكاد عقله يختلط من الفرح . ثم عاد الصعلوك إلى حانوته ، فإذا عجنته قد خبزت ، فتادى عليها خمسة أرطال بدرهم ، فمال االزبون إليه ، وخاف من سواه من الخبازين برد أخبازهم فباعوا كبيعه ، فنادى ستة أرطال بدرهم فآدتهم الضرورة إلى أتياعه . فلما رأى أتباعهم له قصد نكاية العريف وغيظه بما يرخص من سعر الخبز ، فأقبل يزيد رطلا رطلا ، والخبازون يتبعونه في بيعه خوفا من اليوار ، حتى بلغ النداء عشرة أرطال بدرهم . واتتشر ذلك في البلد جميعه ، وتسامع الناس به ، فتسارعوا إليه . فلم يحرج قاضى القضاة من الجامع إلا والخبز في جميع البلد عشرة أرطال يدرهم . وكان يبتاع للسلطان في كل سنة غلة بمائة ألف دينار وتجعل متجرا ، فلما رجع اليازورى إلى القاهرة وداره بها ، مثل بحضرة السلطان ، وعرقه ما من الله به فى يومه من أرخاص السعر، وتوفر الناس على الدعاءله ، وأن الله - جلت قدرته - فعل ف لك وحل أسعارهم بحسن نيته فى عبيده ورعيته ، وإن ذلك بغير موجب ولا قاعلله ، بل لطفه تعالى واتفاق غريب ، وأن المتجر الذي يقام بالغلة فيه مضرة على المسلمين ، ريما انحط السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها ، فتتغير بالمخازن وتتلف ، وأنه يقيم متجرا لا كلفة على الناس قيه ، ويفيد أضعاف فائدة الغلة ، ولا يخشى عليه من تغير ولا اتحطاط سعر ، وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل ، وشبه ذلك ، فأمضى السلطان له ما رآه ، واستمر ذلك ، ودام الرخاء [مدة سنين].
صفحه ۹۴
============================================================
ثم قصر النيل بعد خمس سنوات من نظره ، فى سنة سبع وأربعين ، وليس فى المخازن الا جرايات من في القصور ، ومطيخ السلطان ، وحواشيه لا غير . فورد على الوزير أبى محمد ما كثر به فكره ، ونزع السعر إلى ثمانية دتانير التليس ، واشتد الأمر على الناس ، وصار الخبز طرفة . فدبر الوزير البلد بما أمسك به رمق الناس ، وهو أن التجار حين إعسار المعاملين، وضيق الحال عليهم في القيام للديوان بما يجب عليهم من الخراج ، ومطالية الفلاحين بالقيام به ، وصاروا يبتاعون متهم غلاتهم قيل إدراكها بسعر فيه ريح لهم ، ثم يحضرون إلى الديوان ويقومون للجهبذ عنهم بما عليهم ، ويثبت ذلك في روزنامج الجهبذ مع مبلغ الغلة وما قاموا به . فإذا صارت الغلال في البيادر حملها التجار إلى مخازنهم فسنع الوزير أبو محمد من ذلك ، وكتب إلى عمال عامة النواحى باستعراض روزنامجات الجهابذة ، وتحرير ما قام به التجار عن المعاملين ومبلغ الغلة الذى وقع الابتياع عليه ، وأن يقوموا للتجاربما وزنوه للديوان ، ويربحونهم في كل دينار ثمن دينار تطييا لنفوسهم ، وأن
صفحه ۹۵
============================================================
ضعوا ختومهم على المخازن ، ويطالعوا بمبلغ ما يحصل تحت أيديهم فيها ، فلما حصل عنده علم ذلك ، جهز المراكب ، وحصل الغلال من النواحى إلى المخازن السلطاتية بمصر ، وقرر ثمن التليس ثلاثة دنانير بعد أن كان بشساتية دنانير . وسلم إلى الخبازين ما يبتاعونه لعمارة الأسواق ، ووظف ما يحتاج إليه البلدان القاهرة وصصر ، وكان الف تليس دوار في كل يوم، لمصر سبعمائة وللقاهرة ثلاثمائة. فقام بالتدبير أحسن قيام، مدة عشرين شهرا ، إلى أن أدركت غلة السنة الثانية ، فتوسع الناس بها ، وزال عنهم الغلاء ، وما كادوا يتألمون لحسن التدبير.
فقلما قتل الوزير أبو محمد لم ترالدولة صلاحا ، ولا استقام لها أمر وتناقضت عليها امورها ، ولم يستقر لها وزير تحمد طريقته ، ولا يرضى تدبيره ، وكثرت السعاية فيها ، فما هو إلا أن يستخدم الوزير حتى يجعلوه سوقهم ويوقعوا به الظن ، حتى ينصرف ولم تطل مدته، وخالط السلطان الناس ، وداخلوه بكثرة المكاتية . فكان لا ينكر على أحد مكاتبته .
فتقدم منه سفساف ، وحلى عنده عدة أوغاد . وكشروا حتىكانت رقاعهم أرقع من رقاع الرؤساء والجلة . وتنقلوا في المكاتبة إلى كل قن ، حتى أنه كان يصل إلى السلطان فى كل يوم ثمانمائة رقعة ، فتشبهت عليه الأمور ، وانتقضت الأحوال ، ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة ، وضعفت قوى الوزراء عن تدبيرهم لقصر مدتهم . وأن الوزير ، منذ يخلع عليه إلى أن ينصرف ، لا يفيق من التحرز من يسعى عليه عند السلطان ، وتقف عليه الرجال ، فما كون فيه فضل عن الدفاع عن نفسه ، فخربت أعمال الدولة ، وقل ارتفاعها ، وتغلب
صفحه ۹۶