لما قرأت النعي في جرائد الصباح كذبت عيني؛ فقد وقفت عند هذه السطور:
أنعي إلى أصدقائنا أمي العزيزة «نعمى» التي سعدت بحياتها ثلاثين سنة، وسأسعد بذكراها إلى يوم وفاتي. «رؤيا»
وكنت أعرفهما، وأعرف السيدة المتوفاة نعمى، لم تكن والدة رؤيا وإنما كانت حماتها، وأعرف أيضا أن عمر رؤيا لا يقل عن خمسين سنة، ولو كانت السيدة نعمى والدتها لقالت إنها هنأت بحياتها خمسين سنة بدلا من ثلاثين.
وجعلت أتأمل النعي وأعود إلى قراءته، وقلت: ما أغرب هذه الحياة! الناس يقولون إن الزوجة تفرح عندما تموت حماتها، ولكن رؤيا تصف حماتها في النعي بأنها أمها!
ولا بد أن القارئ قد استغرب هذين الاسمين: نعمى ورؤيا؛ فإننا قلما نجد الاسم الأول في مصر، أما الثاني فلا نعرفه، ولا نذكر أنه يطلق على فتاة مصرية.
والواقع أنهما كانتا غريبتين؛ فإن السيدة نعمى كانت فلسطينية، وكانت قد جاءت مع زوجها وولديها إلى مصر قبل خمسين أو ستين سنة، ولما كبر ابناها وبلغا سن العشرين، أو حوالي ذلك، فكرت أمهما في زواجهما، وكان أبوهما قد مات، وقصد الشابان إلى فلسطين كي يتزوجا من أقارب عائلتهما، ولكنهما لم يجدا في أقاربهما الفتاتين المنشودتين.
وبينما هما يهمان بالرحيل للعودة إلى مصر وجدا جمالا وخياما بالقرب من القرية التي كانت وطن أبويهما، فقصدا إليها للتفرج، وعرفا أن إحدى القبائل التي تضرب في جنوب فلسطين قد حضرت للنجعة، وأنها هي التي تملك هذه الجمال والخيام، فجعلا يتخللان الخيام ويتصفحان الوجوه، وكانت وجوها سافرة صريحة للرجال والنساء.
ورأى كلاهما فتنة وجمالا في هؤلاء النساء البدويات، فجعلا يتحدثان إليهن، ويعجبان برقتهن، ويجدان حلاوة في لهجتهن العربية؛ فقد كان فيها من اللحن والغنة والمد ما يشبه الدلال والغنج.
ولم يبرحا فلسطين إلا بعد أن تزوج كل منهما فتاة من هذه القبيلة، وعادوا جميعا إلى مصر.
وفرحت أمهما بزواجهما، ووجدت في تعليم هاتين الفتاتين أساليب المتمدنين ما ملأ فراغها بالضحك والسرور؛ فقد كانت أخطاؤهما بدوية: أخطاء الفطرة التي لا تعرف شيئا من التمدن ومركباته في السلوك والتصرف.
صفحه نامشخص