قلت: وأنا أيضا كنت أحبه.
قال صديقي: إن لموته قصة تحب أن تسمعها؛ ففي ذات يوم من 1908، وكنت أنا في العاشرة من عمري، وكانت أمي لا تزال حية، استيقظ في الصباح وقال إنه رأى الشيخ سلامة حجازي في نومه، وإنه وبخه وعتب عليه أن يوافي الموت قبل أن يودعه، ثم بكى.
قلت: خرف الشيخوخة؛ المسنون يبكون بسهولة لأقل الأسباب.
فقال صديقي: أبي لم يخرف بتاتا، بل مات وهو في كامل عقله وسلامة تفكيره؛ فإنه مسح دموعه وقال مثلما قلت أنت إن بكاءه خرف، ولكنه في صباح اليوم التالي استيقظ وهو يقول: لم أعد أطيق هذا، ولما سألناه عاد إلى البكاء وهو يقول: الشيخ سلامة حجازي جاءني مرة أخرى في الحلم وقال لي: كيف تموت قبل أن تراني؟ أهذا وفاء؟!
ومع أني، أنا وأمي، كنا قد تلقينا الحلم الأول بالإهمال والاستهتار فإن هذا الحلم الثاني قد أثار فينا الاضطراب، فقالت أمي لي: اسمع يا إسماعيل، هذا المساء تذهب مع أبيك لحضور الشيخ سلامة.
وفي المساء ذهبنا، ونحن لا نعرف أية «رواية» سنسمع، ودخلنا، وقعدنا في صف أمامي، وقعد أبي وكله آذان يستمع لأغاني الشيخ.
وانطلق الشيخ سلامة يغني وكأنه عصفور قد خرج وانطلق من القفص الذي كان محبوسا فيه وصار يغرد، وصرت أحس كأن الجدران والسقف والأرض كلها تغني، وكانت قلوبنا تخفق ونحن في طرب يهزنا جميعا، وقال لي أبي: في حلقي بكاء، ولكني لن أبكي. وتماسك أبي حتى خرجنا، وركبنا الحنطور وهو يقول: الحمد لله، الآن أموت مرتاحا!
وانطلق الحنطور بنا إلى البيت، وكنا في منتصف الليل، والقاهرة هادئة نائمة مظلمة، والجو بارد طري، فانطلق أبي بالبكاء، وكانت دموعه غزيرة حتى لأحسست كأنه يريد أن يخرج كل ما في نفسه من حزن ويسكبه على صدره.
فقلت له: أبي سنذهب غدا ونرى رواية أخرى للشيخ سلامة.
ولكن أبي قال: لا، حسبي هذا، لقد شبعت، الله يطيل عمرك يا شيخ سلامة! وتنهد واستراح وكف عن البكاء.
صفحه نامشخص