وأعجب من جميع ما اقتصصناهُ أنّ الناسَ مع ترادفِ هذه الآيات عاكفون على أصنامِ شهواتِهم لا يرعوُون منغمسون في بحر ضلالاتهم، كأنهم هم المستثنون، فمن ذلك اتخاذهم بيع الأحرار مُتَّجرا ومكتسبا، ومنه عهارتهم بهؤلاء النسوة حتى أن منهم من يزعُم أنه افتضَّ خمسين بِكرًا ومنهم من يقول سبعين كلّ ذلك بالكسر.
وأما خراب البلاد والقُرى وخلوّ المساكن والدكاكين، فهو مما يلزم هذه الجملة التي اقتصصناها وناهيك أن القرية التي كانت تشتمل على زهاء عشرة آلاف نسمة تمرُّ عليها فتراها دمنة وربما وجد فيها وربما لم يوجد، وأما مصر فخلا معظمها وأما بيوت الخليج وزقاق البركة وحلب والمقس وما تاخم ذلك، فلم يبقَ فيها بيتٌ مسكونٌ أصلا بعد ما كان كلّ قطرٍ منها قدر مدينةٍ زحمةٍ من الناس، حتّى أنّ الرباع والمساكن والدكاكين التي في سرة القاهرة وخيارها أكثرها حال خراب، وإن ربعًا في أعمر موضع بالقاهرة فيه نيِّفٌ وخمسون بيتا كلّها خالية سوى أربعة بيوت أَسكنت من يحرس الموضع.
ولم يبق لأهل المدينة وقود في تنانيرهم وأفرانهم وبيوتهم إلّا خشب السقوف والأبواب والزروب.
ومما يقضي منه العجب أن جماعة من الدين ما زالوا مجدودين سعدوا في دنياهم هذه السنة فمنهم من أثرى بسبب متجره في القمح، ومنهم من أثرى بسبب مال انتقل اليه بالإرث، ومنهم من حسنت حاله لا بسبب معروف، فتبارك من بيده القبض والبسط ولكلِّ مخلوق من عنايته قسط.
وأما خبر النيل في هذه السنة، فإنه احترق في برمودة احتراقًا كثيرًا وصار المقياس في أرضٍ جزر وانحسر الماء عنه نحو الجيزة، وظهر في وسطه جزيرة
عظيمة طويلة ومقطعات أبنية وتغيّر الماءُ في ريحه وطعمه ثم تزايد التغير ثم انكشف أمره عن خضرة طحلبية كلّما تطاولت الأيام ظهرت وثرت كالتي ظهرت في أبيب السنة الخالية، ولم تزل الخضرة تتزايد إلى آخر شعبان، ثم تناقصت إلى أن ذهبت وبقي في الماء أخيرًا نباتية منبثّة فقط، وطاب طعمه وريحه ثم أخذت في رمضان تنمى وتقوى جريته إلى اليوم السادس عشر منه، فقاس فيه ابن أبي الرداد قاع البركة فكان ذراعين وأخذ في زيادةٍ ضعيفة بأضعف من
1 / 55