وهذا المقدار من هذا الاقتصاص كافٍ فإني وإن كنت قد أسهبت أعتقد أني قد قصّرت.
وأما القتل والفتك في النواحي فكثيرٌ فاشٍ في كلِّ فجٍّ ولا سيّما طريق الفيوم والإسكندرية، وقد كان بطريق الفيّوم ناس في مراكب يرخِّصون الأجرة على الركاب فإذا توسَّطوا بهم الطرق ذبحوهم وتساهموا أسلابهم، وظفر الوالي منهم
بجماعة فمثَّل بهم، وأقرَّ بعضهم عندما أُوجع ضربًا أنّ الذي خصّه دون رفقائه ستة آلاف دينار.
وأما موت الفقراء هزلًا وجوعًا، فأمرٌ لا يطيق عمله إلّا الله ﷾ وإنّما نذكر منه كالأنموذج يستدلُّ به اللبيبُ على فظاعة الأمر.
فالذي شاهدناه بمصر والقاهرة وما تاخم ذلك أن الماشي أين كان لا يزال يقع قدمه أو بصره على ميتٍ ومن هو في السياق أو على جمعٍ كثير بهذا الحال، وكان يرفع عن القاهرة خاصة إلى الميضأة كل يوم ما بين مائة إلى خمسمائة، وأما مصر فليس لموتاها عدد ويُرمَونَ ولا يوارون، ثم بآخرة عجز عن رميهم فبقوا في الأسواق بين البيوت والدكاكين وفيها الميت منهم قد تقطع وإلى جانبه الشوّاء والخبّاز ونحوه.
وأما الضواحي والقُرى، فإنه هلك أهلها قاطبةً إلّا ما شاء الله، وبعضهم انجلى عنها اللهمَّ إلّا الأمهات والقرى الكبار كقوص والاشمونين والمحلّة ونحو ذلك، ومع هذا أيضا فلم يبق فيها إلّا محلة القسم وإنّ المسافر ليمر بالبلدة فلا يجد فيها نافخُ ضرمة ويجد البيوت مفتَّحة وأهلها موتى متقابلين، بعضهم قد رَمّ وبعضهم طري وربما وجد في البيت أثاثه وليس له من يأخذه.
حدثني بذلك غير واحد كل منهم حكى ما يعضدُ به قول الآخر، قال أحدهم: دخلنا مدينة فلم نجد فيها حيوانًا في الأرض ولا طائرًا في السماء فتخللنا البيوت، فألفينا أهلها كما قال الله ﷿: [جعلناهم حصيدا خامدين] فتجد ساكني كل دار موتى فيها الرجل وزوجته وأولاده، قال: ثم انتقلنا إلى بلدٍ آخر ذكر لنا أنه كان فيه أربعمائة دكّان للحياكة فوجدناها كالتي قبلها في الخراب، وأنَّ الحائك ميتٌ وأهله موتى حوله،
1 / 53