قد نهدا في صدر الديار المصرية وهما متقاربان جدا ومبنيان بالحجارة البيض، وأما الثالث فينقص عنهما بنحو الربع لكنه مبني بحجارة الصوان الأحمر المنقط الشديد الصلابة ولا يؤثر فيه الحديد إلّا في الزمن الطويل وتجده صغيرا بالقياس إلى ذينيك، فإذا قربت منه وأفردته بالنظر هالك مرآه وحَسرَ الطرف عند تأمُّله، وقد سُلك في بناية الأهرام طريق عجيب من الشكل والإتقان، ولذلك صبرت على مر الزمان بل على مرِّها صبر الزمان، فأنك إذا تبحّرتها وجدت إلاذهان الشريفة قد استهلكت فيها والعقول الصافية قد أفرَغت عليها مجهودها، والأنفس النيِّرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها والملَكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثلا هي غاية إمكانها، حتى أنها تكاد تحدث عن قومها وتُخبر بحالهم وتنطق عن علومِهم وأذهانهم، وتترجم عن سيرهم وأخبارهم، وذلك أنَّ وضعها على شكل مخروط يبتدىء من قاعدة مربعة وينتهي إلى نقطة، ومن خواص الشكل المخروط أن مركز ثقله في وسطه وهو يتساند على نفسه ويتواقع على ذاته ويتحامل بعضه على بعض فليس له جهة أخرى خارجة عنه يتساقط عليها، ومن عجيب وضعه أنه شكل مربع قد قوبل بزواياه مهاب الرياح
الأربع، فإنَّ الريح تنكسر سَورتها عند مصادمتها الزاوية وليست كذلك عندما تلقى السطح، ولنرجع إلى ذكر الهرمين العظيمين فإنّ المُسّاح ذكروا أنَّ قاعدة كلذٍ منهما أربعمائة ذراع طولا في مثلها عرضا، وارتفاع عمودها أربعمائة ذراع وذلك كله بالذراع السوداء وينقطع المخروط في أعلاه عند سطح مساحته عشر أذرع في مثلها، وأما الذي شاهدته من حالهما فإنَّ راميًا كان معنا رمى سهما في قطر أحدهما وفي سمكه فسقط السهم دون نصف المسافة، وخبّرنا أن في القرية المجاورة لها قومًا قد اعتادوا ارتقاء الهرم بلا كلفة، فاستدعينا رجلا منهم ورضخنا له بشيء فجعل يصعد فيها كما يرقى أحدنا في الدرج بل أسرع، ورقى بنعليه وأتوا به، وكانت سابقة كنت أمرته أنه إذا استوى على سطحه قاسه بعمامته، فلما نزل ذرعنا من عمامته مقدار ما كان قاس فكان إحدى عشرة ذراعا بذراع اليد، ورأيت بعض أرباب القياس قال: ارتفاع عمودها ثلثمائة ذراع ونحو سبع عشرة ذراعا يحيط به أربعة سطوح مثلثات الأضلاع، طول كل ضلعٍ منها أربعمائة ذراع
1 / 24