[chapter 1]
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقى إلا بالله
كتاب الإيضاح لأرسطوطاليس فى الخير المحض
— ١ —
قال: كل علة أولية فهى أكثر فيضا على معلولها من العلة الكلية الثانية. فإذا رفعت 〈العلة〉 الكلية الثانية قوتها عن الشىء، فإن العلة الكلية الأولى لا ترفع قوتها عنه، وذلك أن 〈العلة〉 الكلية الأولى تفعل فى معلول العلة الثانية قبل أن تفعل فيه العلة الكلية الثانية التى تليه. فإذا فعلت العلة الثانية التى تلى المعلول لم يستغن فعلها عن العلة الأولى التى فوقها. وإذا فارقت 〈العلة〉 الثانية المعلول الذى يليها لم تفارقه العلة الأولى التى فوقها، لأنها علة لعلته. فالعلة الأولى إذن أشد علة للشىء من علته القريبة التى تليه.
صفحه ۳
ونحن ممثلون ذلك بالأنية والحى والإنسان، وذلك أنه ينبغى أن يكون للشىء أنية أولا ثم 〈يكون〉 حيا ثم إنسانا. «فالحى» هو علة الإنسان القريبة، و«الأنية» هى علته البعيدة: «فالأنية» أشد علة للإنسان من «الحى»، لأنها علة لل«حى» الذى هو علة للإنسان. وكذلك إذا جعلت النطق علة للإنسان، كانت الأنية أشد علة للإنسان من النطق لأنها علة لعلته. والدليل على ذلك 〈أنه〉 إذا رفعت «القوة الناطقة» عن الإنسان لم يبق إنسانا وبقى حيا متنفا حساسا؛ وإذا رفعت عنه «الحى» لم يبق حيا ويبقى أنيا، لأن الأنية لا ترتفع عنه، ويرتفع «الحى» لأن العلة لا ترتفع بارتفاع معلولها؛ فيبقى الإنسان أنيا: فإذا لم يكن الشخص إنسانا كان حيوانا، وإن لم يكن حيوانا كان أنيا فقط.
فقد بان ووضح أن العلة الأولى البعيدة أكثر إحاطة وأشد علة للشىء من علته القريبة. من أجل ذلك صار فعلها أشد لزوما للشىء من فعل علته القريبة. وإنما صار هذا على هذا لأن الشىء إنما ينفعل أولا من القوة البعيدة، ثم ينفعل ثانيا من القوة التى هى دون الأولى، والعلة 〈الأولى〉 قد تعين العلة الثانية على فعلها، لأن كل معلول علة تفعله العلة الثانية والعلة الأولى أيضا لكنها تفعله بنوع آخر أعلى وأرفع. وإذا رفعت العلة الثانية 〈عن〉 معلولها لم تفارقه العلة الأولى، لأن فعل العلة الأولى أعظم وأشد لزوما للشىء من فعل علته القريبة. وإنما ثبت معلول العلة الثانية بقوة العلة الأولى، وذلك أن العلة الثانية إذا فعلت شيئا أفاضت العلة الأولى التى فوقها 〈على ذلك الشىء من قوتها، فتلزمه〉 لزوما شديدا وتحفظه.
فقد بان ووضح أن العلة الأولى هى أشد علة للشىء من علتهن القريبة التى تليه، وأنها تفيض قوتها عليه وتحفظه، ولا تفارقه مفارقة علته القريبة، وقد تبقى فيه وتلزمه لزوما شديدا على ما بينا وأوضحنا.
[chapter 2] ٢ — باب آخر
صفحه ۴
كل أنية بحق إما تكون أعلى من الدهر وقبله، وإما مع الدهر، وإما بعد الدهر وفوق الزمان. أما الأنية التى قبل الدهر فهى العلة الأولى لأنها علة له؛ وأما 〈الأنية〉 التى مع الدهر فهى العقل، لأنه الأنية الثانية؛ وأما الأنية التى بعد الدهر وفوق الزمان فهى النفس، لأنها فى أفق الدهر سفلا وفوق الزمان. — والدليل على أن العلة الأولى قبل الدهر بين، وذلك أن الأنية فيه مستفادة؛ ونقول: كل دهر أنية، وليس كل أنية دهرا — فالأنية أكثر 〈سعة〉 من الدهر. والعلة الأولى فوق الدهر، لأن الدهر معلول منها، والعقل يحاذى الدهر، لأنه ممتد معه ولا يتغير ولا يستحيل. والنفس لاصقة مع الدهر سفلا، لأنها أسفل تأثيرا من العقل، ومن فوق الزمان لأنها علة الزمان.
[chapter 3] ٣ — باب آخر
كل نفس شريفة فهى ذات ثلاثة أفاعيل: فعل نفسانى، وفعل عقلى، وفعل إلهى. فأما الفعل الإلهى فإنها تدبر الطبيعة بالقوة التى فيها من العلة الأولى. وأما فعلها العقلى فإنها تعلم الأشياء بقوة العقل التى فيها. وأما الفعل النفسانى فإنها تحرك الجرم الأول وجميع الأجرام الطبيعية لأنها هى علة حركة الأجرام وفعل الطبيعة. وإنما فعلت النفس هذه الأفاعيل لأنها مثال من القوة العالية، وذلك أن العلة الأولى أبدعت أنية النفس بتوسط العقل، ولذلك صارت النفس تفعل فعلا إلهيا. فلما أبدعت العلة الأولى أنية النفس صيرتها كسياق العقل يفعل العقل فيها أفاعيله، فلذلك صارت النفس العقلية تفعل فعلا عقليا.
صفحه ۵
فلما قبلت النفس تأثير العقل صارت أدنى فعلا منه فى تأثيرها فيما تحتها، وذلك لأنها لا تؤثر فى الأشياء إلا بحركة، أعنى أنه لا يقبل ما تحتها فعلها إلا أن تحركه؛ فلهذه العلة صارت النفس تحرك الأجرام، فإن من خاصة النفس أن تحيى الأجسام إذا فاضت عليها قوتها وتسددها أيضا إلى فعل الصواب.
فقد وضح الآن أن النفس ذات أفاعيل ثلاثة، لأنها ذات قوى ثلاثة: قوة إلهية، وقوة عقلية، وقوة ذاتية — على ما وصفنا وبينا.
[chapter 4] ٤ — باب آخر
صفحه ۶
إن أول الأشياء المبتدعة الأنية، وليس من ورائها مبتدع آخر، وذلك أن الأنية فوق الحس وفوق النفس وفوق العقل. وليس بعد العلة الأولى أوسع ولا أكثر معلولات منها، ولذلك صارت أعلى الأشياء المبتدعة كلها وأشدها اتحادا. وإنما صارت كذلك لقربها من الأنية المحضة الواحد الحق الدى ليس فيه كثرة الجهات. والأنية المبتدعة — وإن كانت واحدة — فإنها تتكثر أعنى أنها تقبل الكثير؛ وإنما صارت كثيرة لأنها، وإن كانت بسيطة ليس فى المبتدعات أبسط منها، فإنها مركبة من نهاية ولانهاية؛ وذلك أن كل ما كان منها يلى العلة الأولى فهو عقل تام كامل غاية فى القوة، وسائر الفضائل والصور العقلية فيه أوسع وأشد كلية، والأسفل منه فهو عقل أيضا، إلا أنه دون ذلك العقل فى التمام والقوة والفضائل. وليست الصور العقلية فيه أوسع كسعتها فى ذلك العقل. والأنية المبتدعة الأولى عقل كلها، إلا أن العقل فيها يختلف بالنوع الذى ذكرنا، فلما اختلف العقل، صار هناك صور عقلية مختلفة. وكما أن الصورة الواحدة إذا اختلفت فى العالم السفلى حدث منها أشخاص لا نهاية لها فى الكثرة — كذلك الأنية الأولى المبتدعة: لما اختلفت ظهرت الصور التى لا نهاية لها، إلا أنها وإن اختلفت فإنها لا يتباين بعضها من بعض كمباينة الأشخاص، وذلك أنها تتحد من غير تفاسد، وتتفرق من غير تباين، لأنها واحد ذات كثرة وكثرة واحدانية.
صفحه ۷
والعقول الأول تفيض على العقول الثوانى الفضائل التى تنال من العلة الأولى، 〈و〉 تنسلك الفضائل فيها إلى أن تبلغ آخرها. والعقول العالية الأول التى تلى العلة الأولى تؤثر الصور الثابتة القائمة التى لا تدثر فلا تحتاج إلى إعادتها مرة أخرى. وأما العقول الثوانى 〈فتؤثر الصور المائلة الزائلة كالنفس فإنها من تأثير العقول الثوانى〉 التى تلى الأنية المبتدعة سفلا. وإنما كثرت الأنفس بالنوع بالذى به تكثرت العقول، وذلك أن أنية النفس أيضا ذات نهاية؛ وما كان منها سفلا فغير متناه. فالأنفس التى تلى العقل تامة كاملة [قليلة الميل والزوال]. والأنفس التى تلى 〈الأنية〉 سفلا هى فى التمام والميلان دون 〈الأنفس〉 العالية. والأنفس العالية تفيض بالفضائل، التى تقبل من العقل، على النفس 〈السفلية〉. وكل نفس تقبل من العقل قوة أكثر فهى على التأثير أقوى، ويكون المؤثر فيها ثابتا باقيا، وتكون حركته حركة مستديرة متصلة. وما كان منها قوة العقل فيه أقل، يكون فى التأثير دون الأنفس الأول، ويكون المؤثر منها ضعيفا مستحيلا داثرا. إلا أنه، وإن كان كذلك، فإنه يدوم بالكون. فقد استبان لم صارت الصور العقلية كثيرة، وإنما هى أنية واحدة مبسوطة، ولم صارت الأنفس كثيرة، بعضها أقوى من بعض، وأنيتها واحدة مبسوطة لا خلاف فيها.
[chapter 5] ٥ — باب آخر
صفحه ۸
إن العلة الأولى أعلى من الصفة. وإنما عجزت الألسن عن صفتها من أجل وصف أنيتها لأنها فوق كل علة واحدة. وإنما وصفت العلل الثوانى التى استنارت من نور العلة الأولى، وذلك أن العلة التى تنير أولا تنير معلولها، وهى لا تستنير من نور آخر لأنها هى النور المحض الذى ليس فوقه نور. فمن ذلك صار الأول وحده يفوت الصفة. وإنما كان كذلك لأنه ليس فوقه علة يعرف بها. وكل شىء إنما يعرف ويوصف من تلقاء علته. فإذا كان الشىء علة فقط وليس بمعلول، لم يعلم بعلة أولى ولا يوصف لأنه أعلى من الصفات؛ وليس يبلغه المنطق، وذلك أن الصفة إنما تكون بالمنطق، والمنطق بالعقل، والعقل بالفكر، والفكر بالوهم، والوهم بالحواس — والعلة الأولى فوق الأشياء كلها لأنها علة لها، فلذلك صارت لا تقع تحت الحس والوهم والفكر والعقل والمنطق؛ فليست إذا بموصوفة.
وأقول أيضا: إن الشىء إما أن يكون محسوسا فيقع تحت الحواس؛ وإما أن يكون متوهما فيقع تحت الوهم؛ وإما أن يكون ثابتا قائما على حال واحدة لا يتغير فيكون معقولا؛ وإما أن يكون متغيرا داثرا واقعا تحت الكون والفساد فيكون واقعا تحت الفكرة. والعلة الأولى فوق الأشياء العقلية الدائمة، وفوق الأشياء الداثرة ولذلك لا تقع عليها الحواس ولا الوهم ولا الفكرة ولا العقل؛ وإنما يستدل عليها من العلة الثانية وهى العقل. وإنما تسمى باسم معلولها 〈الأول〉 بنوع أرفع وأفضل، لأن الذى للمعلول هو للعلة أيضا إلا أنه بنوع أرفع وأفضل وأكرم، كما بينا.
[chapter 6] ٦ — باب آخر
صفحه ۹
العقل جوهر لا يتجزأ. وذلك أنه إن كان ليس بعظم ولا بجسم ولا يتحرك — فلا محالة أنه لا يتجزأ. وأيضا فإن كل متجزئ إما أن يتجزأ بالكثرة، وإما فى العظم، وإما فى حركته؛ فإذا كان الشىء على هذه الحال، كان تحت الزمان، لأنه إنما يقبل التجزئة فى زمان. وليس العقل داخلا تحت الزمان، بل هو مع الدهر، فلذلك صار أرفع وأعلى من كل جسم وكل كثرة. فإن ألفيت فيه كثرة فإنما تلفى فيه موحدة كأنها شىء واحد. فإذا كان العقل على هذه الصفة لم يقبل التجزئة ألبتة. والدليل على ذلك رجوعه إلى ذاته، أعنى أنه لا يميز مع الشىء المميز، فيكون أحد طرفيه نابيا من الآخر. وذلك أنه إذا أراد علم الشىء الجسمانى الممتد امتد معه وهو ثابت قائم على حاله لأنها صورة لا يضيق عنها شىء، وليست الأجرام كذلك.
والدليل أيضا على أن العقل ليس بجرم ولا يتجزأ — جوهره وفعله: فإنهما شىء واحد. والعقل كثير من تلقاء الفضائل الآتية إليه من العلة الأولى. وهو، وإن تكثر بهذا النوع، فإنه ما قرب من الواحد صار واحدا لا ينقسم. والعقل لا يقبل التقسيم لأنه أول مبدع أبدع من العلة الأولى: فالوحدانية أولى به من الانقسام.
فقد صح أن العقل جوهر، ليس بعظم ولا جسم، ولا يتحرك بنوع من أنواع الحركة الجسمانية. ولذلك صار فوق الزمان، كما بينا.
[chapter 7] ٧ — باب آخر
صفحه ۱۰
كل عقل يعلم ما فوقه وما تحته. إلا أنة يعلم ما تحته بأنه علة له، ويعلم ما فوقه لأنه يستفيد منه الفضائل. والعقل جوهر عقلى. فعلى نحو جوهره يعلم الأشياء التى يستفيدها من فوق، والأشياء التى هو لها علة: فهو مميز ما فوقه وما تحته، ويعلم أن ما فوقه علة له، وما تحته معلول منه. ويعرف علته ومعلوله بالنوع الذى هو عليه، أعنى بنوع جوهره. وكذلك كل عالم: إنما يعلم الشىء الأفضل والشىء الأدنى الأرذل على نحو جوهره وذاته، لا على نحو ما عليه الأشياء. فإن كان هذا هكذا، فلا محالة إذن أن الفضائل التى تتنزل على العقل من العلة الأولى تكون فيه عقلية، 〈وكذلك الأشياء الجسمانية المحسوسة تكون فى العقل عقلية〉. وذلك أن الأشياء التى فى العقل ليست الآثار بعينها، بل هى علل الآثار. والدليل على ذلك أن العقل بعينه علة الأشياء التى تحته بأنه عقل فقط. فإذا كان العقل علة الأشياء بأنه عقل، فلا محالة أن علل الأشياء فى العقل عقلية أيضا.
فقد استبان أن الأشياء فوق العقل وتحته قوة عقلية لأنه علة لها. وكذلك الأشياء الجسمانية مع العقل عقلية، والأشياء العقلية فى العقل عقلية، لأنه علة لعلتها، ولأنه إنما يدرك الأشياء بنوع جوهره: وهو أنه عقل — فيدرك الأشياء إدراكا عقليا — عقلية كانت الأشياء أم جسمانية.
[chapter 8] ٨ — باب آخر
صفحه ۱۱
كل عقل إنما ثباته وقوامه فى الخير المحض، وهى العلة الأولى. وقوة العقل أشد وحدانية من الأشياء الثوانى التى بعده لأنها لا تنال معرفته. وإنما صار كذلك لأنه علة لما تحته. والدليل على ذلك ما نحن ذاكرون: أن العقل مدبر لجميع الأشياء التى تحته بالقوة الإلهية التى فيه، وبها يمسك الأشياء لأنه بها كان علة الأشياء. وهو يمسك جميع الأشياء التى تحته ويحيط بها، وذلك أن كل ما كان أولا للأشياء وعلة لها فهو ماسك لتلك الأشياء ومدبر لها ولا يفوته منها شىء من أجل قوته العالية.
فالعقل إذن رئيس جميع الأشياء التى تحته وممسكها ومدبرها، كما أن الطبيعة تدبر الأشياء التى تحتها بقوة العقل؛ وكذلك العقل يدبر الطبيعة بالقوة الإلهية. وإنما صار العقل يمسك الأشياء التى بعده ويدبر لها وتعلو قوته عليها لأنها ليست بقوة جوهرية له، بل هى قوة القوى الجوهرية لأنه علة لها. والعقل يحيط بالأكوان الطبيعية وما فوق الطبيعة — أعنى النفس فإنها فوق الطبيعة، وذلك أن الطبيعة تحيط بالكون والنفس تحيط بالطبيعة، والعقل يحيط بالنفس، فالعقل إذن يحيط بالأشياء كلها. وإنما صار العقل كذلك من أجل العلة الأولى التى تعلو الأشياء كلها لأنها علة العقل والنفس والطبيعة وسائر الأشياء. والعلة الأولى ليست بعقل ولا نفس ولا طبيعة، بلى هى فوق العقل والنفس والطبيعة لأنها مبدعة لجميع الأشياء، إلا أنها مبدعة العقل بلا توسط، ومبدعة النفس والطبيعة وسائر الأشياء بتوسط العقل. — والعلم الإلهى ليس كالعلم العقلى ولا كعلم النفس، بل هو فوق علم العقل وعلم النفس، لأنه مبدع العلوم. والقوة الإلهية فوق كل قوة عقلية ونفسانية وطبيعية لأنها علة لكل قوة؛ والعقل ذو كلية لأنه أنية وصورة، وكذلك النفس ذات كلية، والطبيعة ذات كلية. وليس للعلة الأولى كلية، لأنها أنية فقط. فإن قال قائل: لا بد من أن تكون لها كلية — قلنا: كليتها لا نهايتها، وشخصها الخير المحض المفيض على العقل جميع الخيرات، وعلى سائر الأشياء بتوسط العقل.
[chapter 9] ٩ — باب آخر
صفحه ۱۲
كل عقل فإنه مملوء صورا، إلا أن من العقول ما يحيط بصور أكثر كلية، ومنها ما يحيط بصور أقل كلية. وذلك أن الصور التى فى العقول الثوانى السفلية بنوع جزئى هى فى العقول الاول بنوع كلى. والصور التى هى للعقول الأول بنوع كلى هى فى العقول الثوانى بنوع جزئى. وللعقول الأول قوى عظيمة لأنها أشد وحدانية من العقول الثوانى السفلية. وللعقول الثوانى السفلية قوى ضعيفة لأنها أقل وحدانية وأكثر تكثيرا وذلك أن العقول القريبة من الواحد الحق المحض أقل كمية وأعظم قوة. والعقول التى هى أبعد من الواحد الحق المحض أكثر كمية وأضعف. فلما كانت العقول القريبة من الواحد الحق المحض أقل كمية عرض من ذلك أن تكون الصور التى تنبجس من العقول الأول انبجاسا كليا متوحدا تنبجس من العقول الثوانى انبجاسا جزئيا متفرقا.
ونختصر فنقول: إن الصور التى تأتى من العقول الثوانى هى أصعب انبجاسا وأشد تفرقا؛ فلذلك صارت العقول الثوانى تلقى أنوارها على الصور الكلية التى فى العقول الكلية فتجزئها وتفرقها لأنها لا تقوى أن تنال تلك الصور على حقيقتها وصورتها إلا بالنوع الذى يقوى على نيلها، أعنى بالتفريق والتجزئة. وكذلك كل شىء من الأشياء إنما ينال ما فوقه بالنوع الذى يقوى على نيله، 〈لا〉 بالنوع الذى عليه الشىء المنال.
[chapter 10] ١٠ — باب آخر
صفحه ۱۳
كل عقل يعقل أشياء دائمة لا تدثر ولا تقع تحت الزمان، وذلك أنه إن كان العقل دائما لا يتحرك، فإنه علة لأشياء دائمة لا تستحيل ولا تقع تحت الكون والفساد. وإنما صار العقل كذلك لأنه يعقل بأنيته، وأنيته دائمة لا تستحيل ولا تتغير. فإن كان هذا هكذا، قلنا إن علة الأشياء المستحيلة الواقعة تحت الكون والفساد من علة جرمية زمانية، لا من علة عقلية دهرية.
[chapter 11] ١١ — باب آخر
الأوائل كلها بعضها فى بعض بالنوع الذى يليق أن يكون أحدها فى الآخر، وذلك أن فى الأنية الحياة والعقل، وفى الحياة الأنية والعقل، وفى العقل الأنية والحياة. إلا أن الأنية والحياة فى العقل عقلان، والأنية والعقل فى الحياة حياتان، والعقل والحياة فى الأنية أنيتان. وإنما كان ذلك كذلك لأن كل أول من الأوائل إما أن يكون علة، وإما أن يكون معلولا. فالمعلول فى العلة بنوع العلة، والعلة فى المعلول بنوع المعلول.
ونحن موجزون وقائلون: إن الشىء الكائن فى الشىء بنوع علة إنما يكون فيه بالنوع الذى هو عليه: مثل الحس فإنه فى النفس بنوع نفسانى، والنفس فى العقل بنوع عقلى، والعقل فى الأنية بنوع أنى، والأنية الأولى فى العقل بنوع عقلى، والعقل فى النفس بنوع نفسانى، والنفس فى الحس بنوع حسى. ونرجع فنقول: إن الحس والنفس فى العقل والعلة الأولى بنوع 〈وبنوع〉 على ما بينا.
[chapter 12] ١٢ — باب آخر
صفحه ۱۴
كل عقل 〈بالفعل 〉 فإنه يعقل ذاته، وذلك أنه عاقل ومعقول معا. فإذا كان العقل عاقلا ومعقولا، فلا محالة أنه يرى ذاته. 〈فإذا رأى ذاته〉 علم أنه عقل يعقل ذاته. فإذا علم ذاته علم سائر الأشياء التى تحته لأنها منه، إلا أنها فيه بنوع عقلى. فالعقل والأشياء المعقولة واحد. وذلك أنه إن كان جميع الأشياء المعقولة فى العقل، والعقل يعلم ذاته، فلا محالة أنه إذا علم 〈ذاته علم سائر الأشياء. وإذا علم〉 سائر الأشياء علم ذاته. وإذا علم الأشياء فإنما يعلمها لأنها معقولة. فالعقل إذن يعلم ذاته ويعلم الأشياء المعقولة معا، كما بينا.
[chapter 13] ١٣ — باب آخر
كل نفس فإن الأشياء الحسية فيها لأنها مثال لها، والأشياء العقلية فيها لأنها علم لها. وإنما صارت كذلك لأنها متوسطة بين الأشياء العقلية التى لا تتحرك، وبين الأشياء الحسية المتحركة. فلما كانت النفس كذلك، صارت تؤثر الأشياء الجرمية، فلذلك صارت علة الأجرام وصارت معلولة من العقل الذى قبلها. فالاشياء التى أثرت من النفس 〈هى〉 فى النفس بمعنى مثال، أعنى أن الأشياء الحسية مثلت على مثال النفس، والأشياء التى تقع فوق النفس هى فى النفس بنوع مستفاد.
فإذا كان هذا هكذا، عدنا فقلنا إن الأشياء الحسية كلها فى النفس بنوع علة، غير أن النفس علة مثالية. وأعنى بالنفس القوة الفاعلة للأشياء الحسية. إلا أن القوة الفاعلة فى النفس ليست هيولية، والقوة الجرمية فى النفس روحانية، والقوة المؤثرة فى الأشياء ذوات الأبعاد بلا بعد. وأما الأشياء العقلية فى النفس فإنها بنوع عرضى، أعنى أن الأشياء العقلية التى لا تتجزأ هى فى النفس بنوع يتجزأ، والأشياء العقلية والوحدانية هى فى النفس بنوع تكثير، والأشياء العقلية التى لا تتحرك هى فى النفس بنوع حركة.
صفحه ۱۵
فقد استبان أن الأشياء كلها — العقلية والحسية — فى النفس، إلا أن الأشياء الحسية الجرمية المتحركة هى فى النفس بنوع نفسانى روحانى وحدانى، وأن الأشياء العقلية المتوحدة الساكنة هى فى النفس بنوع تكثير متحركة، كما بينا.
[chapter 14] ١٤ — باب آخر
كل عالم يعلم ذاته هو راجع إلى ذاته رجوعا تاما . وذلك أن العلم إنما هو فعل 〈عقلى〉. فإذا علم العالم ذاته، فقد رجع بعلمه إلى ذاته، وإنما يكون هذا هكذا، إذا كان العالم والمعلوم شيئا واحدا، لأن علم العالم لذاته يكون منه وإليه: يكون منه بأنه عالم، وإليه بأنه معلوم. وذلك أنه لما كان العلم علم العالم، وكان العالم يعلم ذاته — كان فعله راجعا إلى ذاته، فجوهره راجع إلى ذاته أيضا. وإنما نعنى برجوع الجوهر إلى ذاته أنه قائم ثابت بنفسه لا يحتاج فى ثباته وقيامه إلى شىء آخر يقيمه، لأنه جوهر بسيط مكتف بنفسه.
[chapter 15] ١٥ — باب آخر
صفحه ۱۶
كل القوى التى لا نهاية لها متعلقة باللانهاية الأولى التى هى قوة القوى، لأنها لا مستفادة أو ثابتة قائمة فى الأشياء الهوية، بل هى قوة الأشياء الهوية ذوات الثبات. فإن قال قائل بأن الهوية الأولى المبتدعة، أعنى العقل، قوة لا نهاية لها — قلنا: ليست الهوية المبتدعة قوة، بل لها قوة ما. وإنما صارت قوتها غير متناهية سفلا لا علوا لأنها ليست بالقوة المحضة التى إنما هى قوة بأنها قوة، وهى الأشياء التى لا تتناهى نهاية سفلا ولا علوا. فأما الهوية الأولى المبتدعة، أعنى العقل، فلها نهاية ولقوتها نهاية أيضا ببقاء علتها. وأما الهوية الأولى المبتدعة فهى اللانهاية الأولى المحضة. وذلك أنه إن كانت الهويات القريبة لا نهاية لها من أجل استفادتها 〈من〉 اللانهاية الأولى المحضة التى من أجلها كانت الهويات، وإن كانت الهوية الأولى هى التى جعلت الأشياء 〈التى〉 لا نهاية لها، فلا محالة أنها فوق اللانهاية. وأما الهوية المبتدعة الأولى، أعنى العقل، فليست لا نهائية، بل يقال إنها غير متناهية، ولا يقال إنها هى التى لا نهاية بعينها. فالهوية الأولى إذن هى مقدار الهويات الأولى العقليات والهويات الثوانى الحسيات، أعنى أنها هى التى ابتدعت الهويات وقدرتها مقدارا ملائما لكل هوية.
صفحه ۱۷
ونعود فنقول: إن الهوية الأولى المبتدعة فوق اللانهاية. فأما الهوية الثانية المبتدعة فإنها غير متناهية. والذى بين الهوية الأولى المبتدعة وبين الهوية الثانية المبتدعة لا نهاية. وسائر الفضائل المفردة — 〈مثل〉 الحياة والضياء وما أشبههما — فإنها علل الأشياء كلها ذوات الفضائل، أعنى أن اللانهاية التى هى من العلة الأولى والمعلول الأول هى علة كل حياة، وكذلك سائر الفضائل المتنزلة من العلة الأولى على المعلول الأول أولا وهو العقل، ثم تتنزل على سائر المعلولات العقلية والجسمانية بتوسط العقل.
[chapter 16] ١٦ — باب آخر
كل قوة وحدانية فهى أكثر〈فى〉 اللانهاية من القوة المتكثرة، وذلك أن اللانهاية الأولى 〈التى〉 هى العقل قريبة من الواحد الحق المحض. فمن أجل ذلك صارت كل قوة قريبة من الواحد الحق المحض فاللانهاية فيها أكثر من القوة البعيدة منه. وذلك أن القوة إذا بدأت تتكثر، فإنها تهلك وحدانيتها. فإذا هلكت وحدانيتها، هلكت لانهايتها التى كانت فيها. وإنما تفقد القوة اللانهاية من أجل تجزئتها. والدليل على ذلك القوة المتجزئة وأنها كلما اجتمعت وتوحدت، عظمت واشتدت وفعلت أفاعيل عجيبة؛ وكلما تجزأت وانقسمت، صغرت وضعفت وفعلت أفاعيل خسيسة.
فقد بان إذن ووضح أن القوة كلما قربت من الواحد الحق المحض اشتدت وحدانيتها؛ وكلما اشتدت وحدانيتها كانت اللانهاية فيها أظهر وأبين، وكانت أفاعيلها أفاعيل عظيمة عجيبة شريفة.
صفحه ۱۸
[chapter 17] ١٧ — باب آخر
الأشياء كلها ذات هويات من أجل الهوية الأولى. والأشياء الحية كلها متحركة بذاتها من أجل الحياة الأولى. والأشياء العقلية كلها ذوات علم، من أجل العقل الأول. وذلك أنه إن كانت كل علة تعطى معلولها شيئا، فلا محالة أن الهوية الأولى تعطى معلولاتها كلها الهوية. وكذلك الحياة تعطى معلولاتها الحركة، لأن الحياة هى انبجاس ينبجس من الهوية الأولى الساكنة الدائمة وأول حركة. وكذلك العقل يعطى معلولاته العلم، وذلك أن كل علم حق إنما هو من العقل، والعقل هو أول عالم كان، وهو المفيض العلم على سائر العلامة.
ونعود فنقول: إن الهوية الأولى ساكنة وهى علة العلل، وإن كانت تعطى الأشياء كلها الهوية فإنها تعطيها بنوع إبداع. وأما الحياة الأولى فإنها تعطى ما تحتها الحياة لا بنوع إبداع، بل بنوع صورة. وكذلك العقل: إنما يعطى ما تحته — من العلم وسائر الأشياء بنوع صورة، لا بنوع إبداع، لأن نوع الأبداع إنما هو للعلة الأولى وحدها.
[chapter 18] ١٨ — باب آخر
إن من العقول ما هو عقل إلهى لأنه يقبل من الفضائل الأول التى تنبجس من العلة الأولى قبولا كثيرا، ومنها ما هو عقل فقط لأنه لا يقبل من الفضائل الأول إلا بتوسط العقل الأول.
صفحه ۱۹
ومن النفس ما هى نفس عقلية لأنها متعلقة بالعقل، ومنها ما هى نفس فقط. ومن الأجرام الطبيعية ما لها نفس تدبرها وتقوم عليها، ومنها ما هى أجرام طبيعية 〈فقط〉 لا نفس لها. وإنما صار هذا هكذا، لأنه ليس الشرح العقلى كله ولا النفسانى كله ولا الجرمى كله متعلقا بالعلة التى فوقه، إلا ما كان منه تاما كاملا فإنه هو الذى يتعلق بالعلة التى فوقه، أعنى أنه ليس كل عقل متعلقا بالفضائل الآتية من العلة الأولى إلا ما كان منها عقلا تاما أولا كاملا، فإنه يقوى على قبول الفضائل المتنزلة من العلة 〈الأولى〉 والتعلق بها لشدة وحدانيته. وكذلك أيضا ليست كل نفس متعلقة بالعقل إلا ما كان منها تاما كاملا 〈وأشد مع العقل فإنها تتعلق بالعقل وهو العقل التام〉. وكذلك أيضا ليس كل جرم طبيعى ذا نفس إلا ما كان منها تاما كاملا كأنه منطقى. وعلى هذه الصفة تكون سائر المراتب العقلية وبهذا القياس.
[chapter 19] ١٩ — باب آخر
إن العلة الأولى تدبر الأشياء المبتدعة كلها من غير أن تحيط بها وذلك أن التدبير لا يضعف وحدانيتها العالية على كل شىء، ولا يوهنها، ولا تمنعها وحدانيتها المباينة للأشياء من أن تدبر الأشياء. وذلك أن العلة الأولى ثابتة قائمة بواحدانيتها المحضة دائما، وهى تدبر الأشياء المبتدعة كلها وتفيض عليها القوة والحياة والخيرات على نحو قوتها واستطاعتها.
صفحه ۲۰
وأما الخير الأول فإنه يفيض الخيرات على الأشياء كلها فيضا واحدا؛ إلا أن كل واحد من الأشياء يقبل من ذلك الفيضان على نحو كونه وأنيته. والخير الأول إنما صار يفيض الخيرات على الأشياء كلها بنوع واحد، لأنه إنما هو خير بأنيته وهويته وقوته بأنه خير، والخير والهوية شىء واحد. فكما صارت الهوية الأولى هوية وخيرا نوعا واحدا، صارت تفيض الخير على الأشياء فيضانا واحدا، ولا تفيض على بعض الأشياء أقل وعلى بعضها أكثر، وإنما اختلفت الخيرات والفضائل من تلقاء القابل. وذلك أن القوابل للخيرات لا تقبل الخيرات بالسواء، بل بعضها يقبل أكثر من بعض، 〈وذلك من أجل عظم جودها〉.
ونعود فنقول: إن كل فاعل يفعل بأنيته فقط فليس بينه وبين مفعوله وصلة ولا شىء آخر متوسط. وإنما كانت الوصلة بين الفاعل والمفعول زيادة على الأنية؛ أعنى أنه إذا كان الفاعل والمفعول بآلة ولا يفعل بأنيته وببعض صفاته، وكانت أنيته مركبة — فذلك الفاعل يفعل بوصلة بينه وبين مفعوله ويكون حد الفاعل مباينا لفعله ولا يدبره تدبيرا صحيحا ولا مستقصيا. فأما الفاعل الذى ليس بينه وبين فعله وصلة ألبتة — فذلك الفاعل فاعل حقا ومدبر حقا يفعل الأشياء بغاية الإحكام الذى لا يمكن أن يكون من ورائه إحكام آخر، ويدبر فعله بغاية التدبير، وذلك أنه يدبر الشىء بالنوع الذى يفعل، وإنما يفعل بهويته 〈فبهويته〉 أيضا يدبر. من أجل ذلك صار يدبر ويفعل بغاية الفعل والتدبير الذى لا اختلاف فيه ولا اعوجاج.
وإنما اختلفت الأفاعيل والتدبير من قبل العلل الأولى 〈بحسب استحقاق القابل〉.
صفحه ۲۱
[chapter 20] ٢٠ — باب آخر
العلة الأولى مستغنية بنفسها وهى الغناء الأكبر؛ والدليل على ذلك وحدانيتها لأنها لا وحدانية مبثوثة فيها، بل هى وحدانية محضة لأنها بسيطة فى غاية البسط. فإن أراد مريد أن يعلم أن العلة الأولى هى الغناء الأكبر — فليلق وهمه على الأشياء المركبة وليفحص عنها فحصا مستقصيا، فإنه سيجد كل مركب ناقصا محتاجا: إما إلى غيره، وإما إلى الأشياء التى تركب منها. فأما الشىء المبسوط — أعنى الواحد الذى هو خير — فإنه واحد ووحدانيته خير، والخير والواحد شىء واحد، فذلك الشىء هو الغناء الأكبر، يفيض ولا يفاض عليه بنوع من الأنواع؛ فأما سائر الأشياء — عقلية كانت أو حسية — فإنها غير مستغنية بأنفسها، بل تحتاج إلى الواحد الحق المفيض عليها بالفضائل وجميع الخيرات.
[chapter 21] ٢١ — باب آخر
صفحه ۲۲