وإليك الأولى:
أسألك أولا عما يمكن أن تئول إليه عاملة بالخياطة لها من العمر ثمانية عشر ربيعا، تتدفق شهوة الصبا من إهابها الغض، وعلى خوان عملها رواية كل صفحاتها صبابة وغرام، وهي لم تتلقن علما، ولا تعرف عن الآداب والأخلاق شيئا، فتقضي حياتها تخيط الأثواب أمام نافذتها؛ حيث تمتد طريق منع رجال الشرطة المرور عليها؛ ليجيئها عند المساء رهط من بنات الهوى الحاملات الإجازات يخطرن عليها ذهابا وإيابا ، ما تفعل هذه الفتاة بعد أن تكون قطعت أصابعها، واستنفدت نور عينيها منذ الصباح حتى المساء، عاملة في رداء أو في قبعة، إذا هي اتكأت عند الغسق إلى نافذتها فرأت ما عملت فيه يداها الشريفتان لكسب قوت من حولها يرتديه قوام فاجرة ورأس عاهرة؟
ولكم من عربة تقف أمام بابها كل يوم فتترجل منها فتاة لها رقمها كالعربة التي تستقلها! وتدخل على هذه العاملة المسكينة لتحدجها بلفتات الاحتقار، وتقف أمام مرآتها لتجرب مرارا الرداء الذي انكبت عليه سواد الليالي لإنجازه، وتخرج العاهرة من كيسها ستة دنانير يتوهج ذهبها، وهي العاملة لا تكسب إلا دينارا طوال أسبوعها، فلا تملك نفسها من التفرس فيها، والتأمل فيما تلبس من حلي، ثم تتبعها بأنظارها حتى تركب عربتها وتتوارى.
ويجيء يوم ينقطع فيه العمل عنها، ويسود الظلام على البيت الذي تظلله الفاقة، وقد انطرحت في إحدى زواياه الأم المريضة، فتفتح العاملة البائسة بابها، وتمد يدها قابضة على مجهول يمر على الطريق ...
هذه هي حكاية الفتاة التي تعرفت إليها، وكانت تحسن العزف قليلا على البيانو، وتعرف شيئا من فن الرسم، ومن التاريخ والصرف، فكانت كل معارفها على هذا النحو شيئا يسيرا من كل شيء، ولكم كنت أنعم النظر في هذه المخلوقة والأسى يرين على قلبي؛ إذ أتمثل فيها بداية عمل الطبيعة، ونهاية ما يأتيه المجتمع من التشويه! ولكم شخصت بشخوصي أمامها إلى ليل مدلهم تلوح فيه شرارات ضئيلة من نور عليل!
ولكم حاولت أن أشعل بعض الجمرات الخامدة تحت هذا الرماد، وقد كانت حلة شعرها بلونه، فكنا ندعوها «ساندريون»!
وما كانت ثروتي تسمح لي بأن أعين لها معلمين، فتولى ديجنه الإنفاق على تعليمها، ولكنها عجزت عن بلوغ أي نجاح، فما كان المعلم يتوارى عن نظرها حتى تكتف يديها وتبقى الساعات الطويلة محدقة بما وراء نافذتها. وكانت تمر الأيام على هذه الوتيرة، فتهددتها يوما بأنني سأقطع عنها المال إذا هي لم تجتهد، فبدأت بالعمل دون إبداء أية مقاومة، ولكني عرفت بعد ذلك أنها كانت تخرج خلسة من البيت، ولا يعلم إلا الله إلى أين كانت تذهب، فرجوتها قبل أن أسرحها أن تطرز لي كيسا، وقد احتفظت بهذا الكيس مدة طويلة كذخيرة حزينة، وأبقيته معلقا على جدار غرفتي كأنه رسم لكل طلل عاف في هذه الحياة.
أما الثانية فهذه قصتها:
وكانت الساعة العاشرة مساء، وكنا قضينا نهارنا في الرياضة المتبعة، فتوجهنا إلى منزل ديجنه، وكان هو قد سبقنا إليه لإعداد ما يلزم لليلة راقصة، ولما دخلنا البهو رأيناه مزدحما بالمدعوين، وبينهم عدد وفير من الممثلات، وقد بين لي الصحاب السبب في دعوتهن إلى الحفلات فقالوا: إن الرجال يتزاحمون عليهن.
وما وصلت إلى القاعة حتى اندفعت مع تيار الراقصين، وكنت شديد الميل إلى رقصة «الفالس»؛ إذ ليس بين أنواع الرقص ما يماثلها خفة ورشاقة، وليس غيرها إلا حركات لا معنى لها يقصد منها انتهاز الفرصة للأخذ بأحاديث لا طائل تحتها. أما «الفالس» فرقصة تتيح لك أن تتمتع بالمرأة التي تضمها نصف ساعة بين ذراعيك، وتسير بها بين تصادم الراقصين وهي خفاقة الجوارح، فتكاد لا تعلم إذا كنت تغتصب إرادتها أو تحمي ضعفها، وكم بين الراقصات من يستسلمن إلى قيادتك بخفر تتدفق الشهوة منه، فلا تعلم ما يدور في خلدك: أشهوة هو أم حذر، وتقف مرتابا في نفسك فلا تدري حين تشد بالراقصة إلى قلبك: أتترنح ثملة أم تنقصف كالقصبة الضعيفة بين يديك.
صفحه نامشخص