ومع هذا، فإنني رجعت ليلة من أحد المراقص وفي قلبي من الألم ما أشعرني بعودة الحب إليه؛ لأنني كنت جلست إلى المائدة بقرب سيدة لها من الجمال والأدب الجم ما لا قبل لي بنسيانه. وعندما أغمضت عيني لأنام انتصب خيالها أمامي، فحسبتني مقضيا علي بالهلاك؛ ولذلك صممت على أن أجتنب أية فرصة تمكنني من الاجتماع بها، وبقيت أغالب نفسي خمسة عشر يوما ما بارحت فيها مقعدي، فكنت أنطرح عليه ساهيا فتمر في مخيلتي جميع حركات هذه المرأة وكلماتها.
وما طال الأمر حتى ذاع صيتي في باريس؛ حيث يترصد الناس سكنات الناس وحركاتهم بأنني سيد الخلعاء، وكان ذكاء العالم في هذا مدعاة لإعجابي به؛ لأنني بعد أن كنت في عينه أشد الناس حماقة عندما وقعت لي حادثة خليلتي، أصبحت الآن الرجل المتصلب الذي يتحكم في شعوره، وذهب البعض إلى القول بأنني ما كنت عاشقا لهذه المرأة، بل كنت ألعب دوري بمهارة، فكان ذلك خير ثناء يوجهه هؤلاء الناس إلي.
والأنكى من هذا أنني أصبحت أنا نفسي أنتفخ غرورا بهذا الشرف المكين، وأتلذذ بغروري.
وكنت موجها كل جهدي إلى أن يراني الناس واصلا إلى مقام من تحجرت عواطفهم، في حين أنني كنت أشتعل بالشهوات، وتذهب تخيلاتي الجامحة بي كل مذهب.
بدأت أعلن أن ليس للمرأة أقل شأن في نظري، وكنت أبذل الجهد لخلق أوهام أعلنها للناس وأقول إنني أفضلها على الحقائق، فكأنني لم أكن أرى لذة إلا في تشويه ذاتي، وكان يكفيني أن تلوح لي فكرة تصدم الرأي العام لأتطوع للدفاع عنها مهما كلفني الأمر.
وهكذا بليت بأعظم النقائص والعيوب: بليت بتقليد كل ما كان يستوقف انتباهي، لا لجماله بل لغرابته، وبما أنني لم أكن أرضى أن أظهر في مظهر المقلد التابع كنت أندفع إلى المغالاة لأثبت أنني مبتدع لا تابع مقلد، فلم أكن أرى شيئا حسنا حتى ولا مقبولا، فأبدي عجبي ممن يفقدون رزانتهم في إعجابهم، ومع ذلك لم أكن أتورع في حماستي عندما كنت أدافع عن نظرية أريد أن آخذ بها، فكنت أندفع في بياني حتى تضيق اللغة عن إمدادي بالتعابير اللازمة لإبداء إعجابي، وكان يكفي أن يسلم أخصامي بما أرمي إليه لأفقد كل فصاحة وكل حماس.
وما كانت هذه الحال الفكرية إلا نتيجة ملازمة لحياتي التي كرهتها، وما قدرت على تبديل خطتي فيها، فكنت أعذب تفكيري كأنني أنتقم منه، وأتخذ كل وجهة طلبا للتهرب من نفسي.
ولكن بينما كان غروري يداعب ذاته على هذه الوتيرة، كان فؤادي يتقلب على أوجاعه، فكأنني كنت أنطوي على رجلين أحدهما ضاحك والآخر باك، وكان الصراع مستمرا بين دماغي وقلبي، فكان مزاحي يدفعني إلى الحزن المفرط كما كان حزني يثير مزاحي فأستغرق في ضحكي.
وسمعت ذات يوم رجلا يتبجح بأنه لا يعتقد بأية خرافة، وأنه يسخر بكل تفاؤل وكل تشاؤم، فجاء أصحابه إلى غرفته، ومددوا على فراشه هيكل رمة بشرية، وكمنوا في غرفة مجاورة، ودخل الرجل إلى غرفته في ساعة متأخرة، فلم يسمع الكامنون أية حركة حتى الصباح؛ إذ شاهدوا صديقهم جالسا على فراشه وهو يلعب بالعظام. وكان الرجل قد جن.
لقد كان في داخلي شيء يشبه هذا الرجل يلعب بعظام رمة محبوبة، وما تلك الرمة إلا أنقاض غرامي، وهي كل ما تبقى لي من سالف أيامي.
صفحه نامشخص