أما رأيت هذا في حلم يا ديجنه؟ أيمكن أن يكون مثل هذا صحيحا؟
وكنت وأنا أدفع بهذا الهذيان أشعر بالغضب يساورني حتى استولت علي هزة عنيفة اضطرتني إلى القعود ويداي ترتعشان.
وقال ديجنه: مالك ولهذه المهزلة تقابلها بالجد، يا أوكتاف؟ لقد أرهقتك هذه العزلة منذ ثلاثة أشهر، والأمر ظاهر، فأنت بحاجة إلى التسلية. تعال لتناول العشاء سوية، وغدا نذهب للتنزه في الضواحي.
وكان يقول هذه الكلمات بلهجة فعلت في نفسي ما لم تفعله أوجاعي؛ إذ شعرت بأنه يعاملني معاملة طفل عليل.
وبقيت ساكنا أحاول التغلب على ذاتي بمناجاتها قائلا: لقد خدعتني هذه المرأة فجاءت بعدها النصائح السيئة تعلل قلبي، وما وجدت لي ملجأ لا في العمل ولا في إرهاق قواي، فلم يبق لي وأنا في العشرين من ربيع الحياة ما يقيني التدهور في القنوط أو الفساد إلا ذخيرة آلامي المريعة أستعيذ بها، وقد جاءني الآن من يريد تحطيمها بين يدي. إنهم لا يوجهون الإهانة إلى حبي الآن، بل إلى يأسي. لقد أصبحت سخرية، وتلك المرأة نفسها تهزأ بي ... وأنا أبكي.
وما كنت لأصدق بوقوع مثل هذه الفرية، فكان الماضي بأسره يجتاح تذكاري؛ فأرى ليالي غرامنا القديم تمر أمامي كأشباح تتوالى مترامية على شفير جرف لا قرار له غير صخور مظلمة كالعدم.
وكنت أسمع قهقهة تتجاوب أصداؤها فوق هذه الهاوية السحيقة تهتف هازئة: هذا هو جزاؤك.
لو جاء هؤلاء الصحاب فقالوا: إن الناس يهزءون بك لكنت أجيبهم: مالي وللناس؟ ولكنهم جاءوا يقولون: إن خليلتك لا زمام لها ولا عهد.
إذن لقد اشتهرت الفضيحة، وثبتت بشهادتين ما كان يمكن لمؤدييها أن يعلنا وجودي على ما كنت عليه دون أن يحدثا بما كانا هما عليه أيضا، فبماذا أكذب الناس؟ وما بوسعي أن أقول لهم؟ وأين أجد لي ملجأ وقد أصبح قلبي - وهو مركز حياتي - طللا متهدما؟ وهل لي ما أقول إذا كانت المرأة التي ما كنت لأتردد في اقتحام أية سخرية وأية ملامة من أجلها، واحتمال جبال المصائب تنهار علي في سبيلها: هذه المرأة التي أحببتها فأحبت سواي، فما طالبتها بالنور المنطفئ، بل قنعت بأن أقف باكيا أمام بابها، لا لشيء إلا لألمح فيها وأنا بعيد عنها شبابي المضيع وقد استحال إلى أطياف تذكار، ولأحفر اسمها دون سواه على لوح قبر دفنت فيه جميع آمالي ...؟ هل لي ما أقول إذا كانت هذه المرأة هي نفسها أول من أشار إلي ببنانه، قاضيا علي بالتشهير أمام من لا عمل لهم إلا الاندفاع إلى الاستهزاء بمن يحتقرهم ...؟
أجل، هي نفسها من رمى بالإهانة إلي خارجة من شفتين طالما التصقتا بشفتي، ومن جسد كان روحا لحياتي، بل دما من دمي، ولحما من لحمي، وهل إهانة أفظع من هذه الإهانة؟ وما هي إلا قهقهة لا رحمة فيها تصفع الجبين الوجيع برشاش نفثاتها ...
صفحه نامشخص