اعتقاد أئمة الحديث - أبو بكر الإسماعيلي
قال ابن قدامة أخبرنا الشريف أبو العباس مسعود بن عبد الواحد بن مطر الهاشمي، قال أنبأ أبو الحسن على بن محمد الجرجاني، أنبأ أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي، أنبأ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي (١) قال:
_________
(١) قال الحاكم عن الإمام الإسماعيلي: (كان الإسماعيلي واحد عصره وشيخ المحدثين والفقهاء وأجلهم في الرئاسة والمروءة والسخاء) (سير أعلام النبلاء ١٦ / ٢٩٤) . وقال عنه السمعاني: (إمام أهل جرجان والمرجوع إليه في الحديث والفقه. . وهو أشهر من أن يذكر) (الأنساب ١ / ١٣٩) . وقال عنه الذهبي: (الإمام الحافظ الفقيه شيخ الإسلام) (سير أعلام النبلاء ١٦ / ٢٩٢) وقال في موضع آخر: (الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام) (تذكرة الحفاظ ٣ / ٩٤٧) . وقال عنه الصفدي: (الإمام. . الفقيه الشافعي الحافظ) (الوافي بالوفيات ٦ / ٢١٣) . وقال عنه الأناباكي: (الحافظ. . كان إماما طاف البلاد ولقي الشيوخ) (النجوم الزاهرة ٤ / ١٤٠) . وقال عنه ابن كثير: (الحافظ الكبير الرحال الجوال سمع الكثير وحدث وخرج وصنف فأفاد وأجاد وأحسن الانتقاد والاعتقاد) (البداية والنهاية ١١ / ٣١٧) . وقال عنه ابن عبد الهادي: (الإمام الحافظ الكبير أحد الأئمة الأعلام. . كبير الشافعية بناحيته) (طبقات علماء الحديث ٣ / ١٤٠) . وقال عنه ابن ناصر الدين: (الإمام. . أحد الحفاظ الأعيان كان شيخ المحدثين والفقهاء وأجلهم في المروءة والسخاء) (شذرات الذهب ٣ / ٧٢) .
1 / 48
[أصول الاعتقاد عند أهل الحديث]
اعلموا رحمنا الله وإياكم أن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله تعالى، وصحت به الرواية عن رسول الله ﷺ، لا معدل عن ما ورد به ولا سبيل إلى رده، إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة، مضمونا لهم الهدى فيهما، مشهودا لهم بأن نبيهم ﷺ يهدي إلى صراط مستقيم، محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم.
[القول في الأسماء والصفات]
ويعتقدون أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى وموصوف
1 / 49
بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه ﷺ، خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، بلا اعتقاد كيف، وأنه ﷿ استوى على العرش، بلا كيف، فإن الله تعالى انتهى من ذلك إلى أنه استوى على العرش ولم يذكر كيف كان استواؤه.
[ذكر بعض خصائص الربوبية]
وأنه مالك خلقه وأنشأهم لا عن حاجة إلى ما خلق ولا معنى دعاه إلى أن خلقهم، لكنه فعال لما يشاء
1 / 50
ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل، والخلق مسؤولون عما يفعلون.
[إثبات أسماء الله الحسنى وصفاته العلا]
وأنه مدعو بأسمائه، موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، وسماه ووصفه بها نبيه ﵊، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يوصف بنقص أو عيب أو آفة، فإنه ﷿ تعالى عن ذلك.
[إثبات صفة اليدين]
وخلق آدم ﵇ بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف شاء، بلا اعتقاد كيف يداه، إذ لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف.
ولا يعتقد فيه الأعضاء، (١) والجوارح، ولا الطول والعرض، والغلظ، والدقة، ونحو هذا مما يكون
_________
(١) هذه الكلمات ليست من الألفاظ المعروفة عند أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة، بل هي من الكلمات المبتدعة المخترعة، والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية هو سبيل أهل السنة والجماعة، فلا ينبغي لطالب الحق الالتفات إلى مثل هذه الألفاظ والتعويل عليها، وما كان أغنى الإمام المصنف ﵀ عن مثل هذه الكلمات فإن الله سبحانه موصوف بصفات الكمال منعوت بنعوت الجلال، وعلى كل حال فالباطل مردود على قائله كائنا من كان، والقاعدة السلفية في مثل هذه الكلمات أنه لا يجوز نفيها ولا إثباتها إلا بعد التفصيل وتبيين مراد قائلها، وكان على المؤلف أن يجمل في النفي غير أنه أراد بهذا النفي أن يسد الطريق على المعطلة لئلا يكون لهم مدخل في رمي أهل الحديث بالتشبيه، لكنه لو امسك ﵀ عن مثل هذه العبارات لكان أجدى.
1 / 51
مثله في الخلق، وأنه ليس كمثله شيء تبارك وجه ربنا ذو الجلال والإكرام.
ولا يقولون إن أسماء الله ﷿ كما تقوله المعتزلة (١)
_________
(١) المعتزلة: فرقة كلامية ظهرت في أول القرن الثاني الهجري، وبلغت شانها في العصر العباسي الأول، يرجع اسمها إلى اعتزال إمامها واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري لقول واصل بان مرتكب الكبيرة ليس كافرا ولا مؤمنا بل هو في منزلة بين المنزلتين، ولما اعتزل واصل مجلس الحسن وجلس عمرو بن عبيد إلى واصل وتبعهما أنصارهما قيل لهم معتزلة، وهذه الفرقة تعتد بالعقل وتغلو فيه وتقدمه على النقل.
1 / 52
والخوارج (١) وطوائف من أهل الأهواء
_________
(١) الخوارج: جمع خارجة، أي فرقة خارجة، واشتهر بهذا اللقب جماعة خرجوا على علي ﵁ ممن كان معه في حرب صفين، وقد افترق الخوارج إلى عدة فرق يجمعهم القول بتكفير عثمان وعلي وأصحاب الجمل ومن رضي بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما، وتكفير صاحب الكبيرة، انظر الملل والنحل ١ / ١١٤ والفرق بين الفرق ٧٢ / ٧٣ ومقالات الإسلاميين ١ / ١٦٧ ومجموع الفتاوى ٣ / ٢٧٩.
1 / 53
مخلوقة. (١) .
_________
(١) هذه من حماقات الجهمية والمعتزلة ومن تابعهم، وهي مبنية على قولهم بخلق القرآن، قال الدارمي في الرد على المريسي: (وقد كان للمريسي في أسماء الله مذهب كمذهبه في القرآن، كان القرآن عنده مخلوقا من قول البشر لم يتكلم الله بحرف منه في دعواه، وكذلك أسماء الله عنده من ابتداع البشر) إلى أن قال: (فهذا الذي ادّعوا في أسماء الله أصل كبير من أصول الجهمية التي بنوا عليها محنتهم وأسسوا عليها ضلالاتهم، غالطوا بها الأغمار والسفهاء) وشبهتهم: (أنهم لو أثبتوا لله تسعة وتسعين اسما لأثبتوا تسعة وتسعين إلها) انظر شرح أصول الاعتقاد ٢ / ٢١٥، وقد كفرهم جماعة من السلف، يقول إسحاق بن راهويه: (أفضوا -الجهمية- إلى أن قالوا أسماء الله مخلوقة. . وهذا الكفر المحض)، وقال الإمام أحمد بن حنبل: (من زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ٢ / ٢١٤. وقال خلف بن هشام المقري: (من قال إن أسماء الله مخلوقة فكفره عندي أوضح من هذه الشمس) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ٢ / ٢٠٧.
1 / 54
[قولهم في صفة الوجه والسمع والبصر والعلم والقدرة والكلام]
ويثبتون أن له وجها، وسمعا، وبصرا، وعلما، وقدرة، وقوة، وكلاما، لا على ما يقوله أهل الزيغ من المعتزلة وغيرهم، ولكن كما قال تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] وقال: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ [النساء: ١٦٦] وقال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة: ٢٥٥]
1 / 55
وقال: ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر: ١٠] وقال: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات: ٤٧] وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت: ١٥] وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: ٥٨]
فهو تعالى ذو العلم، والقوة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، كما قال تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: ٣٩] ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [هود: ٣٧] وقال: ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٦] وقال: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] وقال: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢]
1 / 56
[إثبات المشيئة]
ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: (ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون)، كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠]
[علم الله]
ويقولون لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله ولا أن يغلب فعله وإرادته مشيئة الله ولا أن يبدل علم الله، فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو، والقادر لا يغلب.
[القرآن كلام الله]
ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنما كيفما يصرف بقراءة القارئ له، وبلفظه، ومحفوظا في الصدور، متلوًا بالألسن، مكتوبًا في المصاحف، غير مخلوق، ومن قال بخلق (١)
_________
(١) زعم كثير من أهل الأهواء أن الإمام البخاري قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ولكن بعد التحقيق تبين أن نسبة هذا القول للإمام البخاري ﵀ من قبل شهادة الزور عليه وانه براء من هذه المقالة، قال نصر بن محمد: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: (من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله) طبقات الحنابلة ١ / ٢٧٧، سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٧. وقال أبو عمر والخفاف: (أتيت البخاري فناظرته في الأحاديث حتى طابت نفسي، فقلت: يا أبا عبد الله هاهنا أحد يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة. فقال: يا أبا عمرو أحفظ ما أقول لك: من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت أفعال العباد مخلوقة) تاريخ بغداد ٢ / ٣٢ مقدمة فتح الباري ٤٩٢، سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٧-٤٥٨.
1 / 57
اللفظ بالقرآن يريد به القرآن، فهو قد قال بخلق القرآن.
[أفعال العباد مخلوقة لله]
ويقولون إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله ﷿، وأن أكساب العباد كلها مخلوقة لله، وأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا حجة لمن أضله الله ﷿، ولا عذر، كما قاله الله ﷿: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٩] وقال: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ - فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ [الأعراف: ٢٩ - ٣٠]
1 / 60
وقال: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ [الأعراف: ١٧٩] وقال: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: ٢٢] ومعنى "نبرأها" أي نخلقها وبلا خلاف في اللغة، وقال مخبرًا عن أهل الجنة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٤٣] وقال: ﴿أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [الرعد: ٣١] وقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [هود: ١١٨ - ١١٩]
[الخير والشر بقضاء الله]
ويقولون إن الخير والشر والحلو والمر، بقضاء من الله ﷿، أمضاه وقدره، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا
1 / 61
نفعا إلا ما شاء الله، وإنهم فقراء إلى الله ﷿، لا غنى لهم عنه في كل وقت.
[النزول إلى السماء الدنيا]
وأنه ﷿ ينزل إلى السماء الدنيا على ما صح به الخبر (١) عن رسول الله ﷺ، بلا اعتقاد كيف فيه (٢) .
[رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة]
ويعتقدون جواز الرؤية من العباد المتقين لله ﷿
_________
(١) في عقيدة السلف أصحاب الحديث: (على ما صح به الخبر عن الرسول ﷺ، وقد قال ﷿: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وقال: وجاء ربك والملك صفا صفا ونؤمن بذلك كله على ما جاء) .
(٢) في عقيدة السلف أصحاب الحديث: (بلا كيف، فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل، فانتهينا إلى ما أحكم وكففنا عن الذي يتشابه، إذ كنا قد أمرنا به في قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) .
1 / 62
في القيامة، دون الدنيا، ووجوبها لمن جعل الله ذلك ثوابًا له في الآخرة، كما قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣] وقال في الكفار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥] فلو كان المؤمنون كلهم والكافرون كلهم لا يرونه، كانوا جميعا عنه محجوبين، وذلك من غير اعتقاد التجسيم (١) في الله ﷿ ولا التحديد له، ولكن يرونه جل وعز بأعينهم على ما يشاء هو بلا كيف.
[حقيقة الإيمان]
ويقولون إن الإيمان قول وعمل (٢) ومعرفة، يزيد
_________
(١) التجسيم من الألفاظ المجملة المحدثة التي أحدثها أهل الكلام، فلم ترد في الكتاب والسنة ولم تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، فلذلك لا يجوز إطلاقها نفيا ولا إثباتا، فإن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ نفيا أو إثباتا.
(٢) العمل قسمان: عمل القلب وهو الإخلاص والنية، وعمل الجوارح وهي الأعضاء ويدخل في ذلك اللسان.
1 / 63
بالطاعة وينقص بالمعصية، من كثرت طاعته أزيد إيمانًا ممن هو دونه في الطاعة.
[قولهم في مرتكب الكبيرة]
ويقولون إن أحدًا من أهل التوحيد ومن يصلي إلى قبلة المسلمين، لو ارتكب ذنبًا، أو ذنوبًا كثيرة، صغائر، أو كبائر، مع الإقامة على التوحيد لله والإقرار بما التزمه وقبله الله، فإنه لا يكفر به، ويرجون له المغفرة، قال تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨]
[حكم تارك الصلاة عمدًا] واختلفوا في متعمدي ترك الصلاة المفروضة حتى يذهب وقتها من غير عذر، فكفره جماعة (١) لما روي
_________
(١) منهم عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء ﵃، ومن التابعين إبراهيم النخعي وعبد الله بن المبارك وأيوب السختياني وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم ﵏، انظر المحلى لابن حزم ٢ / ٢٤٢، ومعالم السنن للخطابي ٥ / ٥٨، وكتب الصلاة لابن القيم ص ٣٧.
1 / 64
عن النبي ﷺ أنه قال: «(بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)» وقوله: «(من ترك الصلاة فقد كفر)» و: «(من ترك الصلاة فقد برأت منه ذمة الله)» وتأول
1 / 65
جماعة منهم. . . بذلك من تركها جاحدًا لها، كما قال يوسف ﵇: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [يوسف: ٣٧] ترك (١) جحود الكفر.
_________
(١) معلوم أن النبي يوسف ﵇ لم يكن تلبس بملة الكفر، ولكن أعرض عن الكفر جاحدا له، ومعلوم أن ترك الشيء لا يستلزم الوقوع فيه أولا.
1 / 66
[أقوال أهل العلم في الفرق بين الإسلام والإيمان]
وقال منهم: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله، إذا ذكر كل اسم مضمومًا إلى الآخر، فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعا مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد بالآخر، وإن ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم.
وكثير منهم (١) قالوا: الإسلام والإيمان واحد، قال ﷿: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] فلو أن الإيمان غيره لم يقبل منه، وقال: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٥ - ٣٦]
_________
(١) منهم محمد بن نصر المروزي وسفيان الثوري والبخاري والمزني وابن عبد البر، انظر جامع العلوم والحكم ص١٧٠، وروي عن الشافعي، انظر فتح الباري ١ / ١١٤-١١٥.
1 / 67
ومنهم من ذهب إلى أن الإسلام مختص بالاستسلام لله والخضوع له والانقياد لحكمه فيما هو مؤمن به، كما قال: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤] وقال: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: ١٧] وهذا أيضًا دليل لمن قال هما واحد.
[الشفاعة والحوض والمعاد والحساب]
ويقولون إن الله يخرج من النار قوما من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين، وأن الشفاعة حق، والحوض حق، والمعاد حق، والحساب حق.
[ترك الشهادة لأحد من الموحدين بالجنة أو النار]
ولا يقطعون على أحد من أهل الملة أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، لأن علم ذلك يغيب عنهم، لا
1 / 68
يدرون على ماذا الموت؟ أعلى الإسلام؟ أم على الكفر؟ ولكن يقولون إن من مات على الإسلام مجتنبا للكبائر والأهواء والآثام، فهو من أهل الجنة، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البينة: ٧] ولم يذكر عنهم ذنبا ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ - جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ [البينة: ٧ - ٨] ومن شهد له النبي ﷺ بعينه وصح له ذلك عنه، فإنهم يشهدون له بذلك، اتباعا لرسول الله ﷺ وتصديقا لقوله.
[عذاب القبر]
ويقولون إن عذاب القبر حق، يعذب الله من استحقه إن شاء، وإن شاء عفى عنه، لقوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: ٤٦] فأثبت لهم ما بقيت الدنيا عذابا بالغدو والعشي دون ما بينهما، حتى إذا قامت القيامة عذبوا أشد
1 / 69