بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي أنزل الكتاب المبين، على أشرف الأنبياء والمرسلين، وقص عليه أخبار المتقدمين والمتأخرين، وعلمه ما كان وما يكون إلى يوم الدين، نحمده إذ جعلنا من أمته، ونشكره على عطائه ومنته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إذ من علينا بمعرفة أحوال من مضى من الأمم، ولم يكشف عنا ستره إذا زل بنا القدم، وجعلنا أمة عدولا وسطا، وشهد لنا بذلك في الكتاب المعظم المكرم، فقال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر "، فظهر الفضل بما جاد به وتكرم، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الذي قال: " أدبني ربي فأحسن تأديبي "، فساد على جميع الأنبياء وعليهم تقدم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد، فيقول العبد الفقير الضعيف ذو العجز: والتفريط في أيامه، وكثير التخليط وزيادة آثامه، محمد يعرف بدياب الأتليدي من إقليم المنية الخصيبية، سألني بعض الإخوان الموفقين ممن لا يسعني مخالفته، أن أجمع له شيئا مما وقع في زمن الخلفاء المتقدمين من بني أمية، والخلفاء العباسيين. فأجبته لذلك مع علمي أني لست أهلا لذلك، فقد قالوا: الامتثال خير من الأدب، وسميته: إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس ". وابتدأت في ذلك ب
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
، رضي الله عنه، تبركا به وبذكره.
صفحه ۹
عمر والعجوز المدينية
قيل: لما رجع عمر، رضي الله عنه، من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها فقصدها.
فقالت: ما فعل عمر رضي الله عنه؟ قال: قد أقبل من الشام سالما.
فقالت: يا هذا! لا جزاه الله خيرا عني! وقال: ولم؟ قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين دينارا ولا درهما.
فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحدا يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها.
فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: وا عمراه، كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر.
ثم قال لها: يا أمة الله! بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله.
فقال عمر: لست أهزأ بك.
ولم يزل حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارا.
فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه؟ فقال لها عمر رضي الله عنه: لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا، بخمسة وعشرين دينارا. فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على ذلك علي وابن مسعود.
ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي.
صفحه ۱۰
عمر والشاب القاتل وأبو ذر
قال شرف الدين حسين بن ريان: أغرب ما سمعته من الأخبار، وأعجب ما نقلته عن الأخيار، ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، ويسمع كلامه قال: بينما الإمام جالس في بعض الأيام، وعنده أكابر الصحابة، وأهل الرأي والإصابة، وهو يقول في القضايا، ويحكم بين الرعايا، إذ أقبل شاب نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشبان، نظيفا الثياب، قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين، ولبباه. فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهما وإليه، فأمرهما بالكف عنه. فأدنياه منه وقالا: يا أمير المؤمنين، نحن أخوان شقيقان، جديران باتباع الحق حقيقان. كان لنا أب شيخ كبير، حسن التدبير، معظم في قبائله، منزه عن الرذائل، معروف بفضائله، ربانا صغارا، وأعزنا كبارا، وأولانا نعما غزارا، كما قيل:
لنا والد لو كان للناس مثله ... أب آخر أغناهم بالمناقب
خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقطف يانع ثمارها ، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب. ونسألك القصاص بما جناه، والحكم فيه بما أراك الله.
قال الراوي: فنظر عمر إلى الشاب وقال له: قد سمعت، فما الجواب؟
والغلام مع ذلك ثابت الجأش، خال من الاستيحاش، قد خلع ثياب الهلع، ونزع جلباب الجزع، فتبسم عن مثل الجمان، وتكلم بأفصح لسان، وحياه بكلمات حسان ثم قال: يا أمير المؤمنين، والله لقد وعيا ما ادعيا، وصدقا فيما نطقا وخبرا بما جرى، وعبرا بما ترى، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك: اعلم، يا أمير المؤمنين، أني من العرب العرباء، أبيت في منزل البادية، وأصيح على أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعض طرائقها، إلى المسير بين حدائقها، بنياق حبيبات إلي، عزيزات علي، بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج. فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولته بمشفرها، فطردتها من تلك الحديقة.
صفحه ۱۱
فإذا شيخ قد زمجر، وزفر، وتسور الحائط، وظهر وفي يده اليمنى حجر، يتهادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذلك الحجر، فقتله وأصاب مقتله. فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب، توقدت في جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه، فضربته به، فكان سبب حينه، ولقي سوء منقلبه، والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين، فأمسكاني وأحضراني كما تراني.
فقال عمر: قد اعترفت بما اقترفت، وتعذر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص.
فقال الشاب: سمعا لما حكم به الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، لكن لي أخ صغير، كان له أب كبير، خصه قبل وفاته بمال جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وأسلم أمره إلي، وأشهد الله علي، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخذت لذلك مدفنا، ووضعته فيه، ولا يعلم به إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي، ذهب الذهب، وكنت أنت السبب، وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن أنظرتني ثلاثة أيام، أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافيا بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام.
فأطرق عمر، ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه؟ قال: فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين، وقال: هذا يكفلني ويضمنني.
قال عمر: يا أبا ذر، تضمنه على هذا الكلام؟ قال: نعم، أضمنه إلى ثلاثة أيام.
فرضي الشابان بضمانة أبي ذر وأنظراه ذلك القدر. فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذر قد حضر والخصم ينتظر. فقالا: أين الغريم يا أبا ذر؟ كيف يرجع من فر، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا.
فقال أبو ذر: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي، وبالله المستعان.
صفحه ۱۲
فقال عمر: والله، إن تأخر الغلام، لأمضين في أبي ذر، ما اقتضته شريعة الإسلام.
فهمت عبرات الناظرين إليه، وعلت زفرات الحاضرين عليه، وعظم الضجيج وتزايد النشيج، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول.
فبينما الناس يموجون تلهفا لما مر، ويضجون تأسفا على أبي ذر إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقا ويتكلل عرقا وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر.
فعجب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه.
فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى، رحمه الطالب وعفا، وتحققت أن الموت إذا حضر، لم ينج منه احتراس، كيلا يقال: ذهب الوفاء من الناس.
فقال أبو ذر: والله، يا أمير المؤمنين، لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم. ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني، فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس، كيلا يقال: ذهب الفضل من الناس.
فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا، فبدل وحشته بإيناس، كيلا يقال: ذهب المعروف من الناس.
فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه، واستفزر مروءة أبي ذر دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثنائه. وتمثل بهذا البيت:
من يصنع الخير لم يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما. فقالا: إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه منا ولا أذى.
صفحه ۱۳
قال الراوي: فأثبتها في ديوان الغرائب، وسطرتها في عنوان العجائب.
عمر والهرمزان
وأحضر الهرمزان بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه مأسورا فدعاه إلى الإسلام، فأبى، فأمر بضرب عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، قبل أن تقتلني اسقني شربة من الماء، ولا تقتلني ظمآن.
فأمر له عمر بقدح مملوء ماء، فلما صار القدح في يد الهرمزان، قال: أنا آمن حتى أشربه؟ قال: نعم لك الأمان.
فألقى الهرمزان الإناء من يده فأراقه، ثم قال: الوفاء يا أمير المؤمنين.
فقال عمر رضي الله عنه: دعوه حتى أنظر في أمره.
فلما رفع السيف عنه، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
قال عمر، رضي الله عنه: لقد أسلمت خير الإسلام فما أخرك؟ قال: خشيت أن يقال إني أسلمت خوفا من السيف.
فقال عمر: إنك لفارس حكيم، استحققت ما كنت فيه من الملك.
ثم إن عمر رضي الله عنه، بعد ذلك كان يشاوره في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه.
وسيأتي نظير ذلك في أخذ الأمان بالحيلة.
صفحه ۱۴
خبر جبلة بن الأيهم
لما هرب من عمر إلى هرقل وتنصر
جبلة بن الأيهم وتنصره
ومما ذكره عبد الملك بن بدرون، شارح قصيدة عبد المجيد بن عبدون، عما وقع لجبلة بن الأيهم حين لطم الفزاري على وجهه لما داس على ردائه، وقال له عمر رضي الله عنه: دعه يقتص منك، أو ما هذا معناه، فقال لعمر: وهل استوي أنا وهو في ذلك؟ فقال له: نعم، الإسلام ساوى بينكما. فقال: أجلني إلى غد. فلما أصبح مضى إلى قيصر ملك الروم، وارتد ثم ندم وقال أبياتا، وهي هذه:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة ... فبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ولما تنصر جبلة بن الأيهم ولحق بهرقل، صاحب القسطنطينية، أقطعه هرقل الأموال والضياع، وبقي ما شاء الله.
ثم أن عمر رضي الله عنه بعث إلى قيصر رسولا يدعوه إلى الإسلام أو إلى الجزية. فلما أراد الانصراف قال هرقل للرسول: ألقيت ابن عمك هذا الذي عندنا؟ يعني جبلة الذي أتانا راغبا في ديننا.
قال: لا! قال: فالقه ثم ائتني أعطك جواب كتابك.
قال الرسول: فذهبت إلى دار جبلة فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثرة الجمع مثل ما على باب هرقل فلم أزل أتلطف بالإذن حتى أذن لي فدخلت عليه، فرأيته أصهب اللحية ذا سبال، وكان عهدي به أسود اللحية والرأس، فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب، فذرها على لحيته حتى أصهبت، وهو قاعد على سرير من قوارير على قوائمه أربعة أسود من ذهب. فلما عرفني رفعني معه على السرير، فجعل يسألني عن المسلمين، فذكرت له خيرا وقلت له: قد أضعفوا أضعافا على ما تعرف. فقال: وكيف عمر بن الخطاب؟ قلت: بخير. قال: فرأيت الغم في وجهه لما ذكرت له منه سلامة عمر.
صفحه ۱۵
ثم انحدرت عن السرير فقال: لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. فقال: نعم! نهى صلى الله عليه وسلم ولكن نق قلبك ولا تبال على ما قعدت.
فلما سمعته يقول ما قاله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيه فقلت له: ويحك يا جبلة، ألا تسلم، وقد عرفت الإسلام وفضله؟ فقال: أبعد ما كان مني؟ قلت: نعم، قد فعل رجل من فزارة أكثر مما فعلت، ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف ثم رجع إلى الإسلام وقبل منه وخلفته بالمدينة مسلما.
وإنما ذكرت له أن الذي فعل هذه الفعلة من فزارة، وأنه ضرب وجوه المسلمين بالسيف وارتد ورجع إلى الإسلام لأن الرجل الذي كان تنصر جبلة من أجله لما لطمه وأراد عمر أن يقتص منه كان فزاريا أيضا. فقلت له: أمرك أخف من أمره إن رجعت إلى الإسلام، فإنك لم تضرب وجوه المسلمين بالسيف كما فعل. فقال: ذرني من هذا إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام.
فضمنت له التزويج ولم أضمن له تولية الأمر.
قال: ثم أومأ إلى خادم كان على رأسه واقفا فذهب مسرعا، فإذا خدم قد جاؤوا يحملون الصناديق فيها طعام. فوضعت ونصبت موائد الذهب وصحائف الفضة، وقال لي: كل؛ فقبضت يدي، وقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة.
قال: نعم! نهى صلى الله عليه وسلم ولكن نق قلبك وكل فيما أحببت.
قال: فأكل في الذهب، وأكلت أنا في الخلنج، ثم دعا بطسوت الذهب وأباريق الفضة، فغسل يديه في الذهب، وغسلت في الصفر. ثم أومأ إلى خادم بين يديه فمر مسرعا. فسمعت حسا، فإذا خدم معهم كراسي مرصعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن شماله، ثم جاءت الجواري وعليهم تيجان الذهب، فقعدن عن يمنيه وعن يساره على تلك الكراسي، ثم جاءت جارية أيضا كأنها الشمس حسنا على رأسها تاج، وعلى ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها جامة فيها مسك فتيت، وفي يدها الأخرى جامة فيها ماء ورد، فأومأت تلك الجارية وصفرت بالطائر الذي على تاجها فوقع في جامة المسك، فاضطرب فيها، ثم صفرت به ثانيا فوقع في جامة ماء الورد فاضطرب فيها، ثم أومأت إليه فطار، ثم نزل على صليب في تاج على جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما في ريشه عليه. فضحك جبلة من شدة السرور حتى بدت أنيابه، ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه. فقال
صفحه ۱۶
لهن: أضحكننا، فاندفعن يغنين فجعلن يخفقن عيدانهن ويقلن:
لله در عصابة نادمتهم ... يوما بجلق في الزمان الأول
إلى قوله:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
قال: فضحك جبلة حتى بدت أنيابه، ثم قال: أتدري من يقول هذا؟ قلت: لا، قال: حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى الجواري اللواتي عن يساره، وقال: أبكيننا، فاندفعنا يغنين وتخفق عيدانهن ويقلن:
لمن الدار أوحت بمعان ... بين أعلى اليرموك فالجمان
إلى قوله:
ذاك مغنى من آل جفنة في الده؟ ... ر وحق تعاقب الأزمان
قال: فبكى جبلة حتى سالت دموعه على لحيته، ثم قال: أتدري من يقول هذا؟ قلت: لا، قال: حسان. ثم أنشد الأبيات التي أولها: تنصرت الأشراف إلى آخرها. ثم سألني عن حسان: أحي هو؟ قلت: نعم فأمر له بكسوة ولي أيضا كذلك. ثم أمر لحسان بمال ونوق موقرة برا، ثم قال لي: إن وجدته حيا فادفع إليه الهدية واقرئه مني السلام؛ وإن وجدته ميتا فادفعها إلى أهله وانحر النوق على قبره.
قال: فلما أخبرت عمر، رضي الله عنه، بخبره وما اشترطه علي وما ضمنت له. قال: فهلا ضمنت له الأمر؟ فإذا أفاء الله بحكمه وقضى علينا بحكمته ما كان إلا ما أراد.
ثم جهزني عمر ثانيا إلى هرقل وأمرني أن أضمن له، أي لجبلة، ما اشترط. فلما دخلت القسطنطينية وجدت الناس منصرفين من جنازته فعلمت أن الشقاء غلب عليه في أم الكتاب.
صفحه ۱۷
القوي الفاجر
وقيل: إنه قدم أهل الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص، فقال: من يعذرني من أهل الكوفة؟ إن وليتهم التقي ضعفوه، وإن وليتهم القوي فجروه. فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقاه ولك ضعفه، وإن القوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره. قال: صدقت أنت القوي الفاجر فاخرج إليهم.
فلم يزل عليهم أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما وأيام معاوية حتى مات المغيرة، انتهى.
أجبن وأحيل وأشجع من لقي
وقيل: دخل عمر بن معد يكرب الزبيدي على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فقال عمر: أخبرني عن أجبن من لقيت وأحيل من لقيت وأشجع من لقيت. قال: نعم يا أمير المؤمنين.
خرجت مرة أريد الغارة، فبينما أنا سائر إذا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس كأعظم ما يكون من الرجال خلقا، وهو محتب بحمائل سيفه، فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك. فقال: ومن أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، فشهق شهقة فمات. فهذا يا أمير المؤمنين أجبن من رأيت.
وخرجت مرة حتى انتهيت إلى حي فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا صاحبه في وهدة يقضي حاجته، فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك. فقال: ومن أنت؟ فأعلمته بي، فقال: يا أبا ثور ما أنصفتني أنت على ظهر فرسك وأنا على الأرض، فأعطني عهدا أنك لا تقتلني حتى أركب فرسي. فأعطيته عهدا فخرج من الموضع الذي كان فيه واحتبى بحمائل سيفه، وجلس. فقلت: ما هذا؟ فقال: ما أنا براكب فرسي ولا بمقاتلك فإن نكثت عهدك فأنت أعلم بناكث العهد. فتركته ومضيت. فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت.
صفحه ۱۸
وخرجت مرة حتى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه الطريق فلم أر أحدا، فأجريت فرسي يمينا وشمالا وإذا أنا بفارس، فلما دنا مني، فإذا هو غلام حسن نبت عذاره من أجمل من رأيت من الفتيان، وأحسنهم. وإذا هو قد أقبل من نحو اليمامة، فلما قرب مني سلم علي ورددت عليه السلام وقلت: من الفتى؟ قال: الحرث بن سعد فارس الشهباء.
فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك! فقال: الويل لك، فمن أنت ؟ قلت: عمرو بن معد يكرب الزبيدي.
قال: الذليل الحقير، والله ما يمنعني من قاتلك إلا استصغارك.
فتصاغرت نفسي، يا أمير المؤمنين، وعظم عندي ما استقبلني به. فقلت له: دع هذا وخذ حذرك فإني قتلك، والله لا ينصرف إلا أحدنا.
فقال: اذهب، ثكلتك أمك، فأنا من أهل بيت ما أثكلنا فارس قط.
قلت: هو الذي تسمعه.
قال: اختر لنفسك فإما أن تطرد لي، وإما أن أطرد لك.
فاغتنمتها منه فقلت له: أطرد لي.
فأطرد وحملت عليه فظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه فإذا هو صار حزاما لفرسه ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: يا عمرو خذها إليك واحدة، ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك.
قال: فتصاغرت نفسي عندي، وكان الموت، يا أمير المؤمنين أحب إلي مما رأيت، فقلت له: والله لا ينصرف إلا أحدنا. فعرض علي مقالته الأولى فقلت له: أطرد لي، فأطرد فظننت أني تمكنت منه فاتبعته حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه. فإذا هو صار لببا لفرسه، ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: خذها إليك يا عمرو ثانية.
فتصاغرت علي نفسي جدا، وقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا فاطرد لي، فاطرد حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه فوثب عن فرسه، فإذا هو على الأرض فأخطأته فاستوى على فرسه واتبعني حتى قنع بالقناة رأسي! وقال: خذها إليك يا عمرو ثالثة، ولولا كراهتي لقتل مثلك لقتلتك.
فقلت: اقتلني أحب إلي ولا تسمع فرسان العرب بهذا.
فقال: يا عمرو، إنما العفو عن ثلاث، وإذا استمكنت منك في الرابعة قتلتك وأنشد
صفحه ۱۹
يقول:
وكدت إغلاظا من الإيمان ... إن عدت يا عمرو إلى الطعان
لتجدن لهب السنان ... أولا فلست من بني شيبان
فهبته هيبة شديدة، وقلت له: إن لي إليك حاجة.
قال: وما هي؟ قلت: أكون صاحبا لك.
قال: لست من أصحابي.
فكان ذلك أشد علي وأعظم مما صنع، فلم أزل أطلب صحبته حتى قال: ويحك أتدري أين أريد؟ قلت: لا والله.
قال: أريد الموت الأحمر عيانا.
قلت: أريد الموت معك .
قال: امض بنا.
فسرنا يومنا أجمع حتى أتانا الليل ومضى شطره. فوردنا على حي من أحياء العرب، فقال لي: يا عمرو في هذا الحي الموت الأحمر فإما أن تمسك علي فرسي فأنزل وآتي بحاجتي، وإما أن تنزل وأمسك فرسك فتأتيني بحاجتي.
فقلت: بل أنزلت أنت. فأنت أخبر بحاجتك مني.
فرمى إلي بعنان فرسه ورضيت والله يا أمير المؤمنين بأن أكون له سائسا، ثم مضى إلى قبة فأخرج منها جارية لم تر عيناي أحسن منها حسنا وجمالا، فحملها على ناقة ثم قال: يا عمرو، فقلت: لبيك! قال: إما أن تحميني وأقود الناقة أو أحميك وتقودها أنت؟ قلت: لا بل أقودها وتحميني أنت.
فرمى إلي بزمام الناقة ثم سرنا حتى أصبحنا. قال: يا عمرو قلت: ما تشاء؟ قال: التفت فانظر هل ترى أحدا؟
فالتفت فرأيت رجالا فقلت: اغذذ السير. ثم قال: يا عمرو انظر إن كانوا قليلا فالجلد والقوة وهو الموت الأحمر. وإن كانوا كثيرا فليسوا بشيء.
فالتفت وقلت: وهم أربعة أو خمسة.
قال: اغذذ السير.
صفحه ۲۰
ففعلت. ووقف وسمع وقع حوافر الخيل عن قرب فقال: يا عمرو. كن عن يمين الطريق وقف وحول وجه دوابنا إلى الطريق.
ففعلت ووقفت عن يمين الراحلة ووقف عن يسارها ودنا القوم منا وإذا هم ثلاثة أنفار: شابان وشيخ كبير، وهو أبو الجارية والشابان أخواها. فسلموا فرددنا السلام. فقال الشيخ: خل عن الجارية يا ابن أخي.
فقال: ما كنت لأخليها ولا لهذا أخذتها.
فقال لأحد ابنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجر رمحه فحمل عليه الحرث وهو يقول:
من دون ما ترجوه خضب الذابل ... من فارس ملثم مقاتل
ينمي إلى شيبان خير وائل ... ما كان يسري نحوها بباطل
ثم شد على ابن الشيخ بطعنة قد منها صلبه، فسقط ميتا، فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه فلا خير في الحياة على الذل، فأقبل الحرث وهو يقول:
لقد رأيت كيف كانت طعنتي ... والطعن للقرم الشديد الهمة
والموت خير من فراق خلتي ... فقتلتي اليوم ولا مذلتي
ثم شد على ابن الشيخ بطعنة سقط منها ميتا، فقال له الشيخ: خل عن الظعينة يا ابن أخي، فإني لست كمن رأيت، فقال: ما كنت لأخليها، ولا لهذا قصدت.
فقال الشيخ: يا ابن أخي اختر لنفسك فإن شئت نازلتك وإن شئت طاردتك فاغتنمها الفتى ونزل فنزل الشيخ وهو يقول:
ما أرتجي عند فناء عمري ... سأجعل التسعين مثل شهر
تخافني الشجعان طول دهري ... إن استباح البيض قصم الظهر
فأقبل الحرث وهو ينشد ويقول:
بعد ارتحالي ومطال سفري ... وقد ظفرت وشفيت صدري
فالموت خير من لباس الغدر ... والعار أهديه لحي بكر
ثم دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخي إن شئت ضربتك، فإن أبقيت فيك بقية في فاضربني، وإن شئت فاضربني. فإن أبقيت بقية ضربتك.
فاغتنمها الفتى وقال: أنا أبدأ.
فقال الشيخ: هات.
صفحه ۲۱
فرفع الحرث يده بالسيف فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى رأسه ضرب بطنه بطعنة قد منها أمعاءه ووقعت ضربة الفتى على رأس الشيخ فسقطا ميتين. فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أفراس وأربعة أسياف ثم أقبلت إلى الناقة فقالت الجارية: يا عمرو: إلى أين ولست بصاحبتك ولست لي بصاحب ولست كمن رأيت. فقلت: اسكتي.
قالت: إن كنت لي صاحبا فأعطني سيفا أو رمحا فإن غلبتني فأنا لك وإن غلبتك قتلتك.
فقلت: ما أنا بمعط ذلك. وقد عرفت أهلك وجراءة قومك وشجاعتهم.
فرمت نفسها عن البعير ثم أقبلت تقول:
أبعد شيخي ثم بعد أخوتي ... يطيب عيشي بعدهم ولذتي
وأصحبن من لم يكن ذا همة ... هلا تكون قبل ذا منيتي
ثم أهوت إلى الرمح وكادت تنزعه من يدي. فلما رأيت ذلك منها خفت إن ظفرت بي قتلتني. فقتلتها. فهذا يا أمير المؤمنين أشجع من رأيت.
يقتلع ذنب البعير
قيل: أتى رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يستحمله فقال له: خذ لك بعيرا من إبل الصدقة فتناول ذنب بعير فجذبه فاقتلعه. فتعجب عمر رضي الله عنه من شدته وقوته، فقال له: هل رأيت أقوى منك من أحد؟ قال: نعم. خرجت بامرأة من أهلي أريد بها زوجها فنزلت على حوض، فأقبل رجل معه ذود، فضرب ذوده إلى الحوض فساورها. يعني المرأة، فنادتني فما انتهيت إليها حتى خالطها. فجئت لأدفعه عنها فأخذ رأسي بين عضديه وجنبه. فما استطعت التحرك حتى قضى وطره منها. فقلت: أي فحل هذا لو كنت منيحة فأمهلته حتى امتلأ نوما. فقمت له بالسيف فضربت ساقه، فانتبه، فتناول رجله فرماني بها فأخطأني، أي فاتني، وأصاب رأس بعير فقتله.
فقال عمر رضي الله عنه: ما فعلت بالمرأة؟ فقلت: هذا حديث الرجل.
فكرر عليه السؤال فلم يزده على هذا ففطن أنه قتلها. انتهى.
صفحه ۲۲
عبد الله بن رواحة وجاريته
ويحكى أن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه كان عنده جارية جميلة. وكان يحبها محبة شديدة. ولم يتمكن منها خوفا من زوجته. فمضت يوما زوجته لحاجة ثم عادت فوجدته هو والجارية معتنقين نائمين، فقالت: أفعلتها؟ قال: لم أكن فاعلها. قالت: فاقرأ! فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ثم قال:
علمت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مسومينا
قالت: صدقت وكذبت عيناي. قال: فذهبت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه وصار يكررها ويقول كيف قلت. انتهى.
صفحه ۲۳
أول دولة بني أمية
معاوية بن أبي سفيان
رضي الله عنه
جلس يوما في مجلس كان له بدمشق، وكان الموضع مفتح الجوانب الأربعة يدخل فيه النسيم من كل جانب. قال: فبينما هو جالس ينظر إلى بعض الجهات وكان يوما شديد الحر لا نسيم فيه. قال: وكان وسط النهار، وقد لفحت الهواجر، إذ نظر إلى رجل يمشي نحوه، وهو يتلظى من حر التراب، ويحجل في مشيته حافيا، فتأمله، وقال لجلسائه: هل خلق الله سبحانه وتعالى أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في هذا الوقت، وفي مثل هذه الساعة؟ فقال بعضهم: لعله يقصد أمير المؤمنين.
فقال: والله لئن كان قاصدي لأجل شيء لأعطينه وأستجلب الأجر به أو مظلوما لأنصرنه يا غلام! قف بالباب، فإن طلبني هذا الأعرابي، فلا تمنعه من الدخول علي.
فخرج فوافاه، فقال: ما تريد؟ قال: أمير المؤمنين.
قال: ادخل.
فدخل، فسلم فقال له معاوية: ممن الرجل؟ قال: من تميم.
قال: فما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ قال: جئتك مشتكيا وبك متسجيرا.
قال: ممن؟ قال: من مروان بن الحكم عاملك، وأنشد يقول:
معاوي! يا ذا الجود والحلم والبذل ... ويا ذا الندى والعلم والرشد والنبل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي ... فيا غوث! لا تقطع رجائي من العدل
وجد لي بإنصاف من الجائر الذي ... بلاني بشيء كان أيسره قتلي
سباني سعادا وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل وأغصبني أهلي
وهم بقتلي غير أن منيتي ... تأنت، ولم أستكمل الرزق من أجلي
قال: فلما سمع معاوية كلامه، والنار تتوقد من فيه، قال له: مهلا يا أخا العرب! اذكر قصتك وأبن لي عن أمرك، فقال: يا أمير المؤمنين، كانت لي زوجة وكنت لها محبا وبها كلفا، وكنت بها قرير العين طيب النفس، وكانت لي جذعة من الإبل كنت أستعين بها على قوام حالي وكفاية أودي، فأصابتنا سنة أذهبت الخف والحافر، فبقيت لا أملك
صفحه ۲۴
شيئا، فلما قل ما بيدي وذهب ما لي وفسد حالي بقيت مهانا ثقيلا على الذي يألفني، وأبعدني من كان يشتهي قربي وأزور من لا يرغب في زيارتي، فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وشر المال أخذها مني وجحدني وطردني وأغلظ علي، فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم راجيا لنصرتي، فلما أحضر أباها وسأله عن حالي قال: ما أعرفه قط. فقلت: أصلح الله الأمير إن رأى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها ففعل، وبعث خلفها. فلما حضرت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب، فصار لي خصما وعلي منكرا، وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء، أو استهوت بي الريح في مكان سحيق. ثم قال لأبيها: هل لك أن تزوجنيها على ألف دينار وعشرة آلاف درهم، وأنا ضامن خلاصها من هذا الأعرابي؟ فرغب أبوها في البذل وأجابه إلى ذلك. فلما كان من الغد بعث إلي وأحضرني ونظر إلي كالأسد الغضبان، وقال: طلق سعاد! فقلت: لا، فسلط علي جماعة من غلمانه فأخذوا يعذبوني بأنواع العذاب فلم أجد لي بدا من طلاقها ففعلت. فأعادني إلى السجن، فمكثت فيه إلى أن انقضت عدتها فتزوجها وأطلقني، وقد أتيتك راجيا وبك مستجيرا وإليك ملتجئا، وأنشد يقول:
في القلب مني غرام للنار فيه ... استعار والجسم مرمى بسهم
فيه الطبيب يحار وفي فؤادي ... جمر والجمر فيه شرار
والعين تهطل دمعا ... فدمعها مدرار
وليس إلا بربي ... وبالأمير انتصار
قال: ثم اضطرب واصطكت لهاته وصار مغشيا عليه. وأخذ يتلوى كالحية. قال: فلما سمع معاوية كلامه وإنشاده، قال: تعدى ابن الحكم في حدود الدين وظلم واجترأ على حرم المسلمين. ثم قال: لقد أتيتني يا أعرابي بحديث لم أسمع بمثله قط. ثم دعا بدواة وقرطاس وكتب إلى مروان ابن الحكم كتابا يقول فيه: أنه قد بلغني أنك تعديت على رعيتك في حدود الدين، وينبغي لمن كان واليا أن يكف بصره عن شهواته ويزجر نفسه عن لذاته، ثم كتب بعده كلاما طويلا اختصرته، وأنشد يقول:
وليت أمرا عظيما لست تدركه ... فاستغفر الله من فعل امرئ زاني
صفحه ۲۵
وقد أتانا الفتى المسكين منتخبا ... يشكو إلينا ببث ثم أحزان
أعطي الإله يمينا لا يكفرها ... شيء، وأبرأ من ديني وإيماني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنك لحما بين عقبان
طلق سعاد وعجلها مجهزة ... مع الكميت ومع نصر بن ذبيان
ثم طوى الكتاب وطبعه واستدعى بالكميت ونصر بن ذبيان، وكان يستنهضهما في المهمات لأمانتهما، فأخذا الكتاب وسارا حتى قدما المدينة، فدخلا على مروان بن الحكم، وسلما عليه، وسلما إليه الكتاب، وأعلماه بصورة الحال، فصار مروان يقرأ ويبكي؛ ثم قام إلى سعاد وأعلمها ولم يسعه مخالفة معاوية فطلقها بمحضر الكميت ونصر بن ذبيان، وجهزهما وصحبتهما سعاد. ثم كتب مروان كتابا يقول فيه هذه الأبيات:
لا تعجلن أمير المؤمنين فقد ... أوفي بنذرك في سر وإعلان
وما أتيت حراما حين أعجبني ... فكيف أدعى باسم الخائن الزاني؟
أعذر، فإنك لو أبصرتها لجرت ... فيك الأماني على تمثال إنسان
فسوف يأتيك شمس ليس يدركها ... عند الخليفة من إنس ومن جان
ثم ختم الكتاب ودفعه إلى الرسولين، وسارا حتى وصلا إلى معاوية وسلما إليه الكتاب فقرأه وقال لقد أحسن في الطاعة وأطنب في ذكر الجارية. ثم أمر بإحضارها فلما رآها رأى صورة حسناء لم ير أحسن منها ولا مثلها في الحسن والجمال والقد والاعتدال، فخاطبها فوجدها فصيحة اللسان حسنة البيان، فقال: علي بالأعرابي. فأتي به وهو في غاية من تغير الحال، فقال: يا أعرابي! هل لك عنها من سلوة وأعوضك عنها ثلاث جوار نهد أبكار، كأنهن الأقمار، مع كل جارية ألف دينار، وأقسم لك في بيت المال كل سنة ما يكفيك وما يغنيك.
قال: فلما سمع الأعرابي كلام معاوية شهق شهقة ظن معاوية أنه مات بها فقال له معاوية: ما بالك بشر بال، وسوء حال؟ فقال الأعرابي: استجرت بعدلك من جور بن الحكم، فبمن أستجير من جورك وأنشد يقول:
لا تجعلني، فداك الله من ملك ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
اردد سعاد على حيران مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتذكار
أطلق وثاقي، ولا تبخل علي بها ... فإن فعلت فإني غير كفار
صفحه ۲۶
ثم قال: يا أمير المؤمنين، لو أعطيتني الخلافة ما أخذتها دون سعاد، وأنشد يقول:
أبى القلب إلا حب سعدى، وبغضت ... إلي نساء، ما لهن ذنوب
فقال له معاوية: إنك مقر بأنك طلقتها، ومروان مقر بأنه طلقها، ونحن نخيرها، فإن اختارت سواك تزوجناها، وإن اختارتك حولناها إليك. قال: افعل.
فقال: ما تقولين يا سعدى، أيما أحب إليك، أمير المؤمنين في عزه وشرفه وقصوره وسلطانه وأمواله وما أبصرته عنده، أو مروان بن الحكم في تعسفه وجوره، أو هذا الأعرابي في جوعه وفقره، فأنشدت تقول:
هذا وإن كان في جوع وأضرار ... أعز عندي من قومي ومن جاري
وصاحب التاج، أو مروان عامله ... وكل ذي درهم عندي ودينار
ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان، ولا لغدرات الأيام، وإن له صحبة قديمة لا تسنى، ومحبة لا تبلى، وأنا أحق من يصبر معه في الضراء كما تنعمت معه في السراء.
فتعجب معاوية من عقلها ومودتها له، وموافاتها، فدفع لها عشرة آلاف درهم، ودفع مثلها للأعرابي وأخذها وانصرف.
الأجوبة الهاشمية
ومن ثمرات الأوراق عن الأجوبة الهاشمية وبلاغتها في المحل الرفيع؛ فمن أجل ذلك أنه اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص، رضي الله عنه، والوليد بن عقبة، وعتبة بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ابعث إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما يحضر لدينا، قال لهم: ولم؟ قالوا: كي نوبخه ونعرفه أن أباه قتل عثمان. فقال لهم معاوية: إنكم لن تطيقوه ولن تنتصفوا منه، ولا تقولوا له شيئا إلا كذبكم ولا يقول لكم ببلاغته شيئا إلا صدقه الناس. فقالوا: أرسل إليه فإنا نكفيه.
صفحه ۲۷
فأرسل له معاوية، فلما حضر قال: يا حسن! إني لم أرسل إليك، ولكن هؤلاء أرسلوا إليك، فاسمع مقالتهم.
فقال الحسن رضي الله عنه: فليتكلموا ونحن نسمع.
فقام عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا حسن، هل تعلم أن أباك أول من أثار الفتنة وطلب الملك، فكيف رأيت صنع الله تعالى به؟ ثم قام الوليد بن عقبة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا بني هاشم! كنتم أصهار عثمان بن عفان، فنعم الصهر كان لكم لقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقربكم ويفضلكم، ثم بغيتم عليه وقتلتموه، وقد أردنا قتل أبيك فأنقذنا الله منه، ولو قتلناه ما كان علينا ذنب.
ثم قام عتبة بن أبي سفيان فقال: يا حسن، إن أباك قد تعدى على عثمان فقتله حسدا على الملك والدنيا، فسلبهما الله منه، ولقد أردنا قتل أبيك، حتى قتله الله تعالى.
ثم قام المغيرة بن شعبة، وقال كلاما سبا لعلي وتعظيما لعثمان.
فقام الحسن، رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: بك أبدأ يا معاوية! لم يشتمني هؤلاء ولكن أنت تشتمني بغضا وعداوة وخلافا لجدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت إلى الناس، وقال: أنشدكم الله إن الذي شتمه هؤلاء أما كان أبي، وهو أول من آمن بالله وصلى إلى القبلتين، وأنت يا معاوية كافر تشرك بالله؟ وكان مع أبي لواء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ولواء المشركين مع معاوية؛ ثم قال: أنشدكم الله تعالى، أما كان معاوية يكتب لجدي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه يوما فرجع الرسول، وقال: هو يأكل. فرد إليه الرسول ثلاث مرات، كل ذلك يقول هو يأكل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أشبع الله بطنه، يا معاوية! أما تعرف ذلك من بطنك؟ ثم قال: وأنشدكم الله أما تعلمون أن معاوية كان يقود بأبيه، وهو على جمل، وأخوه هذا يسوقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، وأنت تعلم ذلك. هذا كله لك يا معاوية.
وأما أنت يا عمرو. فقد تنازعك خمسة من قريش. فغلب عليك شبه الأبهم، وهو أقلهم حسبا وأسوأهم منصبا، ثم قمت وسط قريش فقلت: إني شانيء محمدا بثلاثين بيتا من الشعر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني لا أحسن الشعر. اللهم العن عمرو بن العاص بكل بيت لعنة، ثم انطلقت إلى النجاشي بما عملت وعلمت. فكذبك وردك خائبا، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام. فلا نلومك على بغضك الآن.
وأما أنت يا ابن أبي معيط فكيف نلومك على سبك لأبي، وقد جلدك أبي في الخمر ثمانين جلدة، وقتل أباك صبرا بأمر جدي، وقتله جدي بأمر ربي، ولما قدمه للقتل قال:
صفحه ۲۸