فأجبت: «صحيح. ولكن قولي لي أولا كيف أنت؟ هل نستطيع التكلم؟»
فقالت باسمة: «يا صديقي العزيز، أنت تعلم أن صحتي غير جيدة؛ فإذا زعمتها متحسنة فعلت حبا بطبيبي الذي أنا مدينة لعلمه وعطفه بحياتي منذ حداثتي القصوى. وقد وقفت حركة قلبي في إحدى الليالي قبل مغادرتي المدينة فعانيت ألما شديدا وحسبت تلك الحركة واقفة دواما فراعه ذلك ولكنه أمر مضى فلماذا نذكره؟ شيء واحد يؤلمني: كنت أرجو أن يعانقني الموت بلا وجع والآن أعلم أن الأوجاع ستعذبني ساعة الرحيل وتفعم تلك الساعة مرارة.» ثم وضعت يدها على قلبها، وتابعت: «ولكن، قل أين هذه الغيبة الطويلة؟ ولماذا قطعت عني أخبارك؟ لقد أورد لي الطبيب جملة أسباب لسفرك الفجائي، فصارحته القول أني لا أصدقه في واحد منها. فذكرني أخيرا سببا هو أدنى تلك الأسباب إلى الغرابة. أتعلم ما هو؟»
فقاطعتها خوفا من أن أسمع كلمة تؤلمني وقلت: «قد يخال السبب وهميا وهو ليس بوهمي. وهذا مضى أيضا فلماذا نذكره؟»
قالت: «لماذا مضى يا صديقي؟ عندما ذكر السبب الأخير قلت له إني لا أفهم ما تعنيان؟ أنا فتاة عليلة بائسة وحياة جسدي موت بطيء، وقد أرسلت السماء صديقين يرثيان لحالي أو يحبانني - على زعم الدكتور - فأي شيء في ذلك يقلق راحتي أو راحتهما؟ كنت أقرأ قصائد شاعري المحبوب «وردسورث» قبيل محادثة الطبيب فقلت له: «يا طبيبي العزيز إن الأفكار كثيرة متنوعة والكلام المعبر عنها قليل فنرغم على تصديق ما لا نقصد ولا يفهم الآخرون ماذا نريد باستعمال كلمة واحدة فيؤلونها ما شاء الوهم والخيال. فلو سمع من يجهلنا أنني أحب صديقي الفتى وإنه هو الآخر يحبني لخالنا شبيهين بروميو وجولييت، ولو كان الأمر كذلك لوافقتك على وجوب ملاشاته. ولكن أليس إنك تحبني أنت أيضا يا طبيبي الشيخ كما أحبك؟ ولقد أحببتك أعواما طوالا ولا أدري هل بحت لك بذلك قبل الآن، فما أنا بيائسة ولا أنا بشقية. وأقول لك إنك خصصتني بمودة شديدة وإنك تغار من صديقي الفتى. ألا تأتيني كل صباح متفقدا حالي وأنت تعلم أنه لم يجد شيء؟ ألا تقدم لي أجمل أزهار حديقتك؟ ألم تحملني على إهداء صورتي إليك؟ وهناك أمر آخر قد يحسن كتمانه، ألم تدخل علي يوم الأحد الماضي فجلست قربي وأنت تحسبني مستغرقة في النوم، وحدقت في طويلا فكانت نظراتك كأشعة الشمس تلثم وجهي. ثم بكيت وأخفيت وجهك براحتيك وقلت بصوت يقطعه الشهيق «ماري! ماري»! آه، يا طبيبي العزيز! صديقنا الفتى لم يأت أمرا كهذا فلماذا أقصيته عني؟» قلت ذلك بلهجة جمعت بين الجد والمزاح كما اعتدت مخاطبته فتورد وجهه خجلا وأسفت لإيلام عواطفه. ثم أخذت كتاب وردسورث وقلت: «هذا رجل آخر أحبه بكل قلبي، أفهمه ويفهمني مع أني لم أره في حياتي. وأريد أن أتلو على مسامعك إحدى قصائده لتعلم كيف يحب البشر ويحبون وإن الحب بركة إلهية ينزلها المحب على المحبوب فيفرش طريقه بالورد والرياحين.» ثم قرأت له قصيدة «فتاة الجبال». والآن يا صديقي الصغير، أدن السراج واتل لي هذه القصيدة ذات المعاني المنعشة. إن روح الجمال الخفية تلامسها كما يلامس احمرار الشفق رءوس الجبال المكللة بالثلوج البيضاء.»
تكلمت فصارت عواطفي هادئة رضية جليلة. انتهت العاصفة وانعكس طيف البنية كصفحة البدر على بحيرة حبي، بل على بحر الحب الشامل الذي يدعيه كل لنفسه بينا هو ينتشر في كل مكان لأن منه حياة بني الإنسان. الحب بحر الحياة الهادئ الثائر معا في كل قلب، المفرق بين القلوب والجامع بينها بعاطفة واحدة ووله واحد. وددت أن ألزم الصمت كالطبيعة المنبسطة أمامنا. غير أن الكونتس دفعت إلي الكتاب فقرأت.
الفصل الثامن
فتاة الجبال
يا فتاة الجبال العذبة، جمالك هو غناك الوحيد: أربعة عشر ربيعا سكبت على وجهك بهاءها فحسبك هي ثروة وجاها.
هذه الصخور الرمادية، وتلك الأشجار الشبيهة بستار أسفر عن نصف وجه السماء، وذياك الشلال المهمهم في أذن البحيرة المنصتة، وذيالك الخليج الصغير، وهذه الطريق الضيقة المؤدية إلى مسكنك، جميعها تخال مرسومة بخطوط الأحلام وألوانها. وأنا أباركك من أعماق قلبي، يا فتاة يبعث جمالها في هذا النور الأرضي نورا سماويا.
ليكن الله في عونك حتى اليوم الأخير! أنا لا أعرفك ولا أعرف ذويك على أن العبرات تجول في عيني. سأذكرك في صلواتي بخشوع بعد ذهابي لأني لم أر حتى اليوم وجها كوجهك بدت فيه الرقة في حشمة واللطف في طهر تام.
صفحه نامشخص