ابراهیم ثانی
إبراهيم الثاني
ژانرها
ولكن الأمر لم يكن من السهولة بالمكان الذى يتصوره المرء من حديث إبراهيم مع صاحبته. فقد جمح به الخيال، فراح يتكلم كأنما كشف له عن الغيب. وكان امرأ تستغرقه اللحظة التى هو فيها ما دام فيها، ويفتنه المعنى الذى يخطر له فيسترسل فيه ويصفيه، ويذهله سحر ذلك أو حلاوته عما عداه. وكان لهذا يبدو لعارفيه كأنه أكثر من إنسان واحد. فهو فى سيرته رجل عملى حازم سريع البت، يتناول الأمور من حيث هى أقرب ويمضى إلى غايته من أوجز الطرق وأسهلها وأسلسها. وإذا اعترضته الموانع تدبرها ووزنها وقاس قوتها إلى ما يتقاضاه تخطيها أو تذليلها من جهد. فإذا أيقن إنها هينة أو إذا رأى أن الأمر يستحق العناء، أقدم مصمما وإلا تحول، غير أسف، إلى ما هو أولى وأرشد. فما كان أبغض إليه من بعثرة الجهد وتبديد القوة فى غير طائل، وتكلف ما هو عبث أو محال استحياء من أن يقال انهزم أو ضعف. ويعرف من يعرفونه أنه رجل عاطفة ووجدان، واحساس مرهف وأعصاب كالأوتار المشدودة. ولكنهم كثيرا ما كان يخفى عليهم أن عقله مسيطر على عاطفته، وأن زمام نفسه لا يفلت من إرادته، وأن العواطف تتحول عنده إلى فكرة، فهى غذاء لعقله، كما يتحول الطعام قوة فى بدنه. وقد اعتاد أن يراجع نفسه ويدير عينه فى كل ما فى نفسه من خوالج. وما من عاطفة تستطيع أن تحتفظ بقوة العصف مع هذا «الأجترار» المتواصل. وكان إذا قرأ، أو كتب، يغيب عن الدنيا وما فيها، ومن فيها، ولا يعود له إحساس إلا بما يعالج، فيبدو للناظر رجل خيال لا يعرف الدنيا ولا تعنيه حقائق الحياة لفرط انصرافه عن ذلك كله، وتمام استيلاء ما هو فيه عليه. وكان يكره الضجات وينفر من الأصوات العالية. وكان خافت الصوت يحوج السامع إلى حسن الإصغاء وإرهاف الأذن، ولم يكن هذا عن ضعف، بل لأنه كان يسمع صوته يدوى فى جوانب رأسه من الباطن، فلا يزال يخفضه ويهوى بطبقته حتى تفتر هذه الأصداء الباطنية وينقطع إزعاجها. وأعانه على رياضة نفسه على خفوت الصوت، أنه يرى أن الحديث له لذته وإمتاعه، ولزومه أيضا. ولكنه جهد معظمه ضائع فى الهواء وذاهب مع الرياح الأربع، فلا داعى لتكليف النفس فوق ما يقتضيه الأمر من جهد. وأحجى أن يدخر المرء كل ما يستطيع إدخاره من قوته، وأن لا ينفقه فى باطل لا خير فيه. وكان لهذا، على كونه ثرثارة، يطول صمته أحيانا حتى ليثقل على جليسه. وكان إذا مرض أطبق فمه واستغنى بالإشارة عن اللسان، وأبى أن يعوده أو يدخل عليه أحد، حتى لا يتكلف جهد الكلام أو الإصغاء، وليحتفظ بجهد نفسه كله لمغالبة الوعك. ومع ذلك كان يتفق وهو فى بيته ومع زوجته وبين ضيوفه أن يغيب عنهم جميعا، وينطوى على نفسه فلا يعود يسمع ما يقال، أو يحفل ضجة الحديث فكأنه فى خلوة تامة، أو كأنه فى غيبوبة، لولا أن الوعى لم يفارقه. وكانت تحية تعرف فيه هذه القدرة - وما كان يسعها إلا أن تعرفها - وكانت ربما مازحت ضيوفها وراهنتهم على أن ليس فى وسع أكبر ضجة أن ترده إلى الدنيا إذا غاب بنفسه عنها. فكانت تفتح «الراديو» ولا تزال ترفع طبقة الصوت شيئا فشيئا، حتى يبلغ أقصى قوته وهو كأنه دمية، أو ليس من بنى الإنسان أو أصم أو مذهوب بسمعه، فيضحك الضيوف ويستغربون. ويبلغ من عجبهم ودهشتهم أن يخافتوا بحديثهم، حتى يصير همسا، ويكون أبعث على تعجبهم أن الهمس يوقظه ويرده إليهم، كما ينام المرء وهو فى «القطار» على ضجته حتى إذا بلغ المحطة وسكنت الضوضاء استيقظ.
وراح إبراهيم بعد ذلك الحديث الذى ألح فيه على ميمى بأنها تحب صادقا وهى لا تدرى، يسأل نفسه، على عادته فى مراجعتها، ألا يمكن أن تكون فراسته قد خانته؟ ولماذا لج فى قوله لها إنها تحب صادقا؟ أتراه اندفع، بقوة شعوره بالرضى الجديد بتحية وعنها؟ أتراه يريد أن يخرج من ورطة علاقته بميمى؟ ولكن هل هذه ورطة؟ إنها صداقة أفاد منها متعة لا تنسى ولا تستقل . ولكن الأمر لم يبلغ حد التورط فى شىء، وقد سقاها ما يشبه كئوسا من خمر الحب، ولكنها فى رأيه خمر لها نشوة ولا شك. غير أنها لا تشتد لها سورة، ولا يأخذ فى شاربها دبيبها، ولا يعنف به تمشيها. غير أنه من يدرى؟ إن القليل الهين فى ظنه قد يكون كثيرا فى إحساس ميمى. أليست قد قالت له إنها تحبه؟ ولقد أمسكت وصدت نفسها عن إتمام الجملة. ولكن الجملة الناقصة كانت أفصح وأقوى. وما ردت لسانها إلا لعلمها أنه يستثقل دوران اللسان بألفاظ الحب، ويستهجن اللغط به ويؤثر حقيقته على وصفه، أو لعلها خافت أن لا يصدقها. فقد قال لها مرارا إنه لا يصدق أن امرأة يمكن أن تحبه لما يعرف من النقص فى نفسه، والقصور عما يجعل المرء جديرا بالحب، وأنه من أجل هذا يؤمن بالصداقة ولا يؤمن بالحب. ولكن من يدرى مع ذلك؟ إن هؤلاء النساء أمرهن عجيب والذى يستطيع أن يعرفهن ويفهمهن على حقيقتهن، لم يخلق بعد. ولقد قيل إن المرأة خلقت من أحد أضلاع الرجل. فليكن ... فما يدل هذا إلا على أنها قريبة منه، ولكن خلقها غير خلقه وبدنها غير بدنه. واختلاف التكوين يؤدى إلى اختلاف الوظائف فاختلاف أساليب التفكير والإحساس.. ولكن ماذا يكون إذا صح أن ميمى تحبه؟ هل يتفق الحب والقناعة وانعدام الغيرة؟ إن ميمى قانعة راضية لا تطمع فى غير ما هى فيه ولا تتطلع إلى خلافه أو مزيد عليه، ولا تبدو عليها رغبة فى الاستئثار به، أو غيرة من امرأة أخرى، أو امتعاض من الحظ الأوفر المذخور لتحية من قلبه وحياته. بل إنه لينزل تحية منزلة القداسة ويجعلها فوق أن يجرى حديث عنها بينهما، أو بينه وبين إنسان آخر - رجلا كان أو امرأة - ومع ذلك لا يثقل عليها أنه يضعها فى هذا المحل الأدنى، وأنه يرفع تحية هذا المقام الكريم الذى لا يتسامى إليه اللحظ. فأى حب يكون هذا الذى تحبه ميمى، إذا كانت تحبه؟ أتراه يمكن أن يكون من ذلك الضرب الخيالى الذى يعز فى الحياة والذى تكون فيه التضحية بالذات، وإنكار النفس بل فناؤها، لذة ما بعدها لذة؟ وحدث نفسه أن هذا كلام فارغ، وأن الأقرب إلى العقل، والأرجح فى الظن، هو أن ميمى لا تنطوى له على أكثر من صداقة كريمة لا تبلغ درجة الحب المستغرق الاخذ بالكليتين. ولكن هبها.. هبها تحبه؟ إنها إذن تكون مسكينة فما يستطيع أن ينيلها فوق ما تنال من وده إلا بخيانة تحية. وهو لا ينوى ولا يستمرئ أن يخونها، ولا موجب لأن يعنى نفسه بهذا. ولكل شىء أوانه، ولكنه مع ذلك لم يسترح، ولم يكف عن تقليب الأمر على كل وجه.
ولم تكن ميمى أقل منه حيرة، وقد عادت بعد هذا اللقاء الأخير، وهى تحس كأنها تمشى على رأسها. فقد باغتها إبراهيم وألح عليها ولم يترفق بها. فكانت كالسابح الذى فاجأته موجة عظيمة، وغمرته ودفعته، فهمه أن يرفع رأسه فوق الماء ليتنفس وينظر أين هو. وكانت قبل اليوم لا تفكر فى أمرها معه، ولا تحاول أن تتبين حالها ومكانها وموقفها. وكانت تذهب إلى لقائه، كما تذهب إلى مدرستها بطبيعة الحال، أو كما تستيقظ من النوم، لأن هذا هو الذى يكون ولا يكون سواه، سواء أفكر أم لم يفكر فيه الإنسان. وكان التعليم ربما ثقل عليها أحيانا، وشعرت بالزهادة فيه، والرغبة فى الانقطاع عنه، والقعود فى البيت والانصراف إلى شئونه. وكانت تحسن الطهو، وتدبير أمور المنزل، ولا تكف عن العمل فيه فى أيام البطالة، مؤثرة ذلك على الخروج إلا فى اليوم الذى تلقى فيه إبراهيم. فقد كانت تنفض يدها من كل شىء وتتخلى لموعدها معه. ولا تفعل ذلك وهى مضطربة، أو متطلعة، أو متلهفة، بل كأن هذا بعض عملها اليومى. وكان الذى تعرفه أمها، وناظرة مدرستها، وزميلاتها المعلمات، أنها فى ذلك اليوم المعين للقاء إبراهيم تذهب لإعطاء «درس خصوصى» لإحدى البنات فى بيتها. وكانت الناظرة تحمد لها حسن إقبالها على عملها وإخلاصها فيه، وعنايتها به، وندرة تخلفها، فأخلتها فى ذلك اليوم من العمل بعد الظهر، ورتبت لها جدول دروسها على نحو يتيسر لها معه أن تتغدى فى بيتها، ثم تذهب إلى «درسها». وكانت زميلاتها المعلمات ربما عابثنها مازحات وسألنها عن هذا الدرس العجيب الذى استمر سنتين، ولم يختلف موعده مرة واحدة؟ ولكنهن كن يرين جدها واحتشامها، وعدم اختلاف حالها عن المعهود من إشراق ديباجة الوجه، وافترار الثغر، وحسن الأدب، وسكينة النفس، فلا يخالجهن شك، ولا يستربن. وقد ائتمرن بها مرة مع الناظرة، وأوهمنها أن إحدى زميلاتهن مرضت فجأة، وأن عملها بعد الظهر لابد من توزيعه على الباقيات الخاليات وهى فى جملتهن. وكان ظنهن أنها ستمتعض أو تعتذر، ولكنها تقبلت «الحصة» الإضافية الموهومة بابتسام، وزادت فسألت عن عنوان المعلمة لتعودها، فارتبكن ثم أنبأنها بالحقيقة، فلم يبد عليها أن إعفاءها من هذا التكليف أدخل على نفسها سرورا خاصا. وكان الذى سهل الأمر على ميمى أن هذا التكليف لا يؤخرها عن موعدها، وإن كان يحرمها الغداء فى بيتها، وليس هذا الحرمان بالذى يشق احتماله. ولكن زميلاتها ما كن يعرفن هذا، ولا كن يدرين أنها إنما تحرص على الخروج قبلهن، لتلقى إبراهيم وهى فى أمان من عيونهن وفضولهن. فقد تحب إحداهن أن تصحبها، أو تسايرها، فلا تأمن حينئذ أن تطلع على سرها ولو اتفاقا ومصادفة.
ولو سئلت ميمى عن المدرسة، وماذا يحببها إليها لقالت إنها تحب إحدى تلميذاتها، وهى فتاة فى الرابعة عشرة، دميمة معروقة، إلا أنها خفيفة الروح كبيرة القلب. وكانت هذه الفتاة شديدة التعلق بميمى - أبله ميمى، وكانت تهجم عليها وتقبلها كل صباح وعلى مرأى من التلميذات جميعا. وكانت ميمى تكل إليها بعض عملها، وتستعين بها فى رسم الخرائط، وحمل الكراسات إلى خزانتها، أو درجها، وتلقى إليها بمفاتيحها وتتركها معها. فهى تتولى عنها أمر الخزانة وما فيها من معطف أبيض ومثبنة، ومناديل وصابون وفوط وغير ذلك.
وكانت ميمى فخورة مزهوة بحب هذه الفتاة الصغيرة لها. وكانت ربما شعرت أنها تتطلع إلى لقاء إبراهيم فى موعده، كما تذهب إلى المدرسة كل يوم متطلعة إلى قبلة هذه الفتاة المحبة المخلصة. ولكن إبراهيم ليس بفتاة، ولا هو بصغير. اذا كانت لا تظهر لهفة على لقائه، ولا تبدو معه عليها اضطراب، فإنها تدرك - ولا تكتم نفسها - حرصها على ما تفيد منه، ورغبتها فيه. وكزهوها بالفتاة الصغيرة وحبها، زهوها بأن لها صديقا وامقا له منزلة إبراهيم وعلمه وأدبه وفضله وسنه وتجربته.
ولكن هل هى تحبه حب المرأة للرجل؟ ولو سئلت عن هذا قبل أن يدير لها رأسها بكلامه عن صادق، وإصراره على أنها تحبه وهى غير دارية لما كان جوابها إلا: «نعم، على التحقيق». ومازال الجواب: «نعم»، ولكنه لم يعد بعد هذه الزلزلة: «على التحقيق»، وشعرت أنها تستطيع أن تقول: «لا. على التحقيق»، وبلا أدنى شك إذا سئلت: «هل تستطيعين أن تستغنى عنه وتكفى عن لقائه؟» بل شعرت أنها لا تقول إلا؟ «لا. على التحقيق». وإذا سئلت: «هل تستطيعين إذا تزوجت أن تفارقيه وتبتى صلتك به؟» لا، بل هى تضمر إذا تزوجت صادقا أو غيره - فما لهذا قيمة - أن تحافظ على صلتها به، كما هى الآن بكل ما تنطوى عليه.
وخطر لها أن لعل إبراهيم لا يود ذلك. فإن له لشذوذا.. وغاب عنها أن من الشذوذ أن تود هى استمرار هذه الصلة بعد زواجها إذا كتب لها الزواج. أو لعله أراد بحديثه أن يمهد للفراق. ولكنها نفت هذا الخاطر، وأبت أن تطيل الوقوف عنده، وقالت لنفسها إن إبراهيم لا ينطوى على خبث أو غدر. وذكرت نفسها بأنه قال لها إنه لا يريد التخلص منها ولا يود معاناة ذلك، وأنه يضن بصداقتها أن يعتريها فتور أو ملال.
وحكاية صادق هذه التى طلع عليها إبراهيم بها فجأة، ما الرأى فيها؟ أيمكن أن يكون صحيحا ما قاله من أنها تحبه وهى لا تدرى؟ وأضحكها أنها يمكن أن تكون عاشقة غير دارية. وهزت رأسها منكرة ذلك. وودت لو استطاعت أن تنتزع قلبها وتضعه أمامها وتعكف عليه فاحصة منقبة مستقصية. وقالت لنفسها إن صادقا قريبها، وإنها تحبه لهذا. ولكن حبها لقريب لا يمكن أن يشبه حب امرأة لرجل. وهو لا يخلو من مزايا وصفات تحببه إليها، ولكنه طائش وجموح، وعاطل، وخائب. ثم إنه أصغر منها، وهى أسن منه.. تكبره بسنتين، فهى أشبه بأخت كبيرة له. وقد جربت منه ما يفزع وينفر. فهل يمكن أن يكون صحيحا قول إبراهيم إنه لو انتفى عامل الفزع لبان المستور؟ وهل صحيح قوله إن النفس فى حالة الفزع تكون شبيهة بالماء المضطرب، فلا يستطاع أن يرى ما فى قاعه ما دام مربدا ولكن ذلك يتسنى إذا سكن وصفا؟ ربما. ولكن كيف يتيسر ذلك؟ أترانى لو أقبل صادق الآن وهو ساكن وادع لا يثير مخاوفى بكلمة أو إشارة، أو نظرة أو حركة، أستطيع أن أتبين حقيقة هذا الشعور الذى يقول لى إبراهيم إنه مستور، تحجبه الخشية والرغبة الطبيعية فى الدفاع عن النفس؟
وملت هذا الحوار الذى لا يفيدها الاستقرار، وكانت بطبيعتها تؤثر الراحة وتنفر من الاضطراب، وتتقى بواعثه، وتهرب من المثيرات، فكفت وقالت لنفسها إن لها الساعة التى هى فيها، وإن المستقبل غيب، وسيتسع الوقت للتفكير فيه حين يجىء، بما يجىء به، وكل ما أعرفه الان أن إبراهيم صاحبى الذى أضن به على الدهر.
أما صادق ...
صفحه نامشخص