ابراهیم ثانی
إبراهيم الثاني
ژانرها
فتقول: «ولم لا؟ إن لكل سن مزيتها، ولكل امرأة من يطلبها فى سنها. دعنا من هذا، خلنا فى الحاضر، فإن الغد غيب..».
وكان لتلف أعصابه يتطير أحيانا من هذا الكلام، ويذكر أن فتاة أخرى كانت لا تنفك تبدئ وتعيد فى أنها لن تتزوج، وقد صدقت وما تزوجت لأنها ماتت. فكان يحدث نفسه أن لعل هذا يحدث له أو لصاحبته فيموت أو تموت. وكانت تضحك من كلامه هذا وتصرفه عن هذا اللون الثقيل من التفكير وتقول له: «وماذا إذا مت أنا؟ أليس خيرا أن أموت سعيدة فى شبابى؟ أم تراك تريد أن ترانى شمطاء تشيح عنها الوجوه وتتحول عنها العيون نافرة، وتجفوها القلوب؟ لا يا سيدى..».
فيقول: «ولكن أنا؟ أنا؟ إنى أخب إلى الشيخوخة..».
فتقول: «يمكنك أن تثق أنى سأظل صديقة وفية ولا ألومك على شيخوخة لم تجنها على نفسك، ولم تدركك بفعلك، ولم تتعمد أن تبلغها لتكايدنى».
ولم يجد جدوى فى مثل هذا الحوار الذى كان ينتهى فى كل مرة إلى غير نتيجة يحسن السكوت عليها، أو يمكن الاقتناع بها. وراح يطفو معها على متن التيار، وكان تيارا رقيقا لا يطغى به ولا يعنف. وكانت هى قريرة العين، صريحة البشر في غير تعمل. وظلا سنتين على هذا الحال، لم يقع بينهما خلاف مرة، ولم تنظر إليه قط بغير الابتسام والبشاشة، وخلت حياتهما معا من العتاب والغيرة. وكان خير ما يسره منها أنها لا تعرف قولة «لا»، فما سمعها منها ولامرة واحدة فى عامين طويلين. وكانت تكل إليه أمرها واثقة مطمئنة، فكان لهذا حفيا بها، متحرزا من أجلها ساهرا عليها، لا هم له إلا أن يذيقها أقصى ما يدخل فى الطوق البشرى المحدود من السعادة الميسورة، وكانت كأنها على يقين من هذا.
إلى أن كان يوم وقعت فيه بينهما جفوة لسبب سخيف. وكانا قد استأجرا سيارة «تاكسى» ومضيا فى الطريق الزراعى الذى ينتهى إلى الإسماعيلية، لينعما بنضارة الخضرة على جانبيه.
فلما صارا على مسافة فراسخ من القاهرة، انثقبت إحدى العجلات، فوقف السائق ليضع مكانها العجلة الاحتياطية فإذا هى فارغة من الهواء. ولم يكن معه منفاخ، فحمل المسكين العجلتين وذهب بهما ليصلحهما. وبقيا على الطريق ينتظران ويتحدثان، ويتضاحكان. ولكن الانتظار طال فثقل عليها واربد وجهها. وحاول أن يسرى عنها ويعيد إلى محياها البشر المألوف الذى لم يعهد سواه فأخفق.
وبعد ساعات عاد السائق المسكين يحمل عجلة ويدحرج أخرى. ورجع بهما إلى القاهرة. فلما بلغاها أبت أن يصحبها وأصرت على ركوب الترام وحدها، وكانت مقطبة. وكثيرا ما عاد بها الترام وحدها فليس فى هذا جديد، ولكن الجديد هو التعبيس الذى يراه أول مرة فى عامين. ولم ير أن له ذنبا، أو أنه يستحق هذا التقطيب، وثارت نفسه على الظلم، وكره أن يفضى بهما الأمر إلى الشجار والنقار السخيفين، وعجز عن فهم البواعث التى جاءت بهذه السحب وعكرت صفاء وجهها ونفسها، فانصرف ناقما ساخطا، أثقل ما يعانيه أنه غير فاهم شيئا.
2
وظل بضعة أيام يحدث نفسه كالموسوس بتعبيس صاحبته «ميمى». وكان امرأ فى أصل طباعه الجد الصارم، وإن كان قد عود نفسه، ابتغاء الراحة، أن يأخذ الأمور من ماخذها السهلة، القريبة، وأن ينظر إلى الحياة من ناحيتها المشرقة الوضاءة، من غير أن تغيب عنه نواحيها الحالكة الكالحة. وكان مما راض به نفسه على ذلك قوله لها وهو يناجيها حين يخلو بها: «إن الدنيا ليست بالجنة، ولم تخلق على هوانا، ولا كان لنا رأى فى خلقنا نحن. وإنما جئنا لأن نواميس الحياة اقتضت أن نجىء، فغير عجيب أن يكون ثم ما يسخطنا ولا يرضينا. ولو ذهبنا نتسخط كل ما لا يرضينا لما عادت الحياة محتملة. فالصبر والحلم وتناول الأمور برفق وتسهل، أوجب ما يجب، وأدل شىء على حسن الفهم وحصة الإدراك. وليس هذا من قبيل قولهم ليس فى الإمكان أبدع مما كان، فإن كل ما فى الدنيا قابل لتحسين وإصلاح وتهذيب، وإن لم يكن فى ذاته غاية فى السوء والفساد».
صفحه نامشخص