ابراهیم ثانی
إبراهيم الثاني
ژانرها
فأصر على الإباء أنفة منه أن يسلك هذه السبيل العوجاء، وأنفة - لم يصارحها بها - من أن يكل إلى امرأة تدبير أمره. فعرفت له ذلك، ولكنها هى أيضا أصرت على رأيها. ولما رأته لا يقتنع أنذرته أنها لا تملك إذن إلا أن تتحامل على نفسها وتضحى بها، وتتزوج حامدا إذا طلبها، وخيرته بين الإذعان لرأيها وركوبها هذا المركب الصعب، فلم ير سبيلا إلى غير الإذعان.
ولكنه قال لها: «سأرحل فى الصباح على أول قطار، فما أرانى أطيق أن ألقاهم وفى قلبى هذا السر».
وأصبح الصباح فسافر من غير أن يعلم بسفره غير «عم ادم».
وبعد شهور وشهور - كأنها الأحقاب طولا - تزوج تحية، وعاشا فى «تبات ونبات»، ولكنهما لم يرزقا ما يرزق الأزواج، من صبيان وبنات.
4
وعاش إبراهيم مع تحية سنوات، وفيا لها بالعين والقلب. وكان يطوف ويعمل ويكد، ويعود إلى البيت فيلقى إليها بما أفاد من مال. وكان ما يكسب من الرزق يجيئه من هنا وههنا، وبين بعضه والبعض الآخر فترات تطول وتقصر. ولكنه فى جملته - وبفضل تدبير أمه ثم تحية - واف بالحاجة، كاف لستر المظهر. وكانت أمه هى ربة بيته، وظلت كذلك زمنا بعد زواجه؛ فلما آنست من تحية الرشد وشامت من سيرتها الخير، ألقت إليها بالزمام امنة مطمئنة، ولم تجشم نفسها حتى عناء الإيحاء والتوجيه، ووكلت كل شىء إلى ذكائها وفطنتها وعقلها وحكمتها.
وكانت كبيرة السن ضعيفة القلب، فأتيحت لها الراحة التى تعذرت قبل زواجه، ووسعها أن تقول لتحية يوما: (الآن أستطيع أن أودعكما، وأنا سعيدة قريرة العين. فإنك كنز ظفر به، ووقع عليه إبراهيم، وأرجو أن يكون رأيك أنه أهل له. على أن فى يديك أن تجعليه كذلك، وكما تحبين. والرجال يحبون أن يكونوا سادة، ولكنهم يكونون بين يدى المرأة الحكيمة أطفالا رضعا، وأنا أحب أن يطول عمرى فأسعد بسعادتكما، ولكن وجودك أغنانى عن البقاء والتلبث، وأشعرنى أنى كنت متعبة مرهقة، وأفقدنى الباعث على التشدد، فأنا أنهد بسرعة. وليس لى إلا رجاء واحد إليك، فقد كنت لابنى أما وصديقا، وأخشى أن لا يهون عليه أن يفقدهما جميعا بعد طول الإلفة، فيتغير وتنكرى منه ما لا عهد لك به، فلا تحملى ذلك منه على غير محمله ورديه إلى ما عرفتك، لا إلى ما عسى أن يطوف برأسك من البواعث، وآثرى معه الحسنى - في كل حال - وطول الإناة، ولا تنسى أنه إنسان مخلوق من طين، وثقى إذا فعلت ذلك أنه سيعود إليك - كما كان يعود إلى - فيفتح لك مغاليق قلبه. وقد يكلفك هذا شططا، ولكنك حقيقة أن تحمدى المغبة إذا رضت نفسك على أن تكونى صديقته لا زوجته فقط. لا تجعليه يشعر أنه فقد أمه؟ أى صديقته، فإنه يتعزى عن فقد الأم ولا يتعزى عن فقد الصديقة. والذنب لى فقد أنسيته الأم لما صرت له صديقة. لقد كان يفضى إلى بما لا تسمعه أم من بنيها أو بناتها لأنه كان يثق أنى أفهم وأعذر. فى حجرى هذا كان يدفن وجهه ويبكى كالطفل فيتفطر قلبى. فليس أقسى ولا أوجع من بكاء رجل ... نحن النساء يا بنتى دموعنا قريبة، وإن ذلك لمن رحمة الله بنا. ولكن الرجل لايبكى.. لم يخلق للبكاء مهما بلغ من لوعة الحزن.. فهل تدرين ماذا كنت أصنع؟ كان يرتد بين يدى طفلا فأرتد أول الأمر أما، ولا نخجل - لا هو ولا أنا، فما يستطيع أن ينسى، ولا أستطيع أن أنسى أنه رضع من ثديي هذين، ثم أعود فأصير له صديقا. لقد كان الأمر أسهل على لأنه رضع من ثديي، ولم يرضع منك، ولكنك تستطيعين أن تعوضى ذلك إذا استطعت أن تكونى صديقة قبل أن تكونى زوجة. دعى الحقوق والواجبات ... تناسيها ... نحيها، وغضى عنها، فإنها قيود لك وله.. وصدقينى فقد جربت.. لم يكن أبوه مثال الوفاء والقناعة فى نظر الزوجة، فقد كان مزواجا.. وقد شقيت به زمنا وكدت أخسره، ولكنى استعدت وفاءه وثقته وحبه واحترامه لما أنسيته أن لى حقوقا عليه، وأن عليه واجبات لى، وأن بيننا هذا الحساب الذى لا ينقضى، فصرت بذلك امرأة جديدة عنده وتكشفت له جوانب لم يكن يفطن إليها أو يراها.. وإنها لفى كل امرأة. ولكن النساء اللواتى تزوج لم يبدينها له كما أبديتها ولم يقدرن على ما قدرت، فعاد لى بقلبه وعقله جميعا. ووصيتى الأخيرة يا تحية أن تجعلى دأبك ووكدك أن تجددى نفسك له؛ فإنى أخشى فتور الألفة. لا تكونى له فى يومك كما كنت فى أمسك، ولا تظهرى له فى مباذلك أبدا. ولا تقولى إنه زوجى ويعرفنى معرفتى نفسى فما داعى التكلف؟ لا.. ينبغى أن تكونى له فى كل يوم امرأة جديدة تتصدى له وتغريه وتفتنه. وإنه لعناء يا بنتى ولكنها لعنة جنسنا، ولا حيلة لنا إلا أن نتكلف العناء إذا أردنا أن نحتفظ ببعولنا.. وسامحينى يا تحية واغفرى. لى أنى أنصح لك كأنى أسىء الظن بعقلك فإنها تجربتى، ومن أنفع بها إذا لم أنفعكما؟»
فقالت تحية، وهى ترد الدمع بجهد: «أخشى يا نينا - أى يا أم وكانت هكذا تدعوها - أن أكون خيبت أملك»، تشير إلى أنها لم تجئها بذرية وإلى الخوف من أن تكون أعقمت.
قالت: «لا تقولى لى هذا فإنها إرادة الله. فإن تكن خيبة أمل فهى لك قبل أن تكون لى. وإنى كون جاحدة فضل الله على إذا لم أشكره، فقد كان لى ولد فصار لى ولد وبنت. ولا أتكلف التواضع فأقول إنى لا أستحق هذه النعمة، فقد أنعم الله على بها، فلابد أنى عنده أهل لها. نعم، لقد رضى الله عنى حين رزقنى بك، ولا قنوط يا بنتى من رحمة الله فاصبرى تؤجرى».
قالت: «إنما أسفى من أجله لا من أجلى، فإنى راضية قريرة العين، ولكن أكبر خوفى أن يثقل عليه هذا الحرمان».
صفحه نامشخص