ابراهیم ابو الانبیا

عباس محمود العقاد d. 1383 AH
74

ابراهیم ابو الانبیا

إبراهيم أبو الأنبياء

ژانرها

ولهم أقوال في تنزيه العقل الإلهي تشبه أقوال الفلاسفة، ومنهم من يحرم الطعام الذي حرمه أتباع فيثاغورس كالبصل، ويضيفون إليه أنواعا من الخضر كالكرنب ولحوم الحيوان ذي الذنب؛ لأنهم يستوحون الغيب في الرؤيا، وهذه الأطعمة تمنع الرؤيا الصادقة.

والغالب أنهم عرفوا شيئا من أقوال حكماء اليونان من طريق القساوسة النسطوريين، الذين هاجروا إلى جنوب العراق في صدر المسيحية هربا من الاضطهاد، وكان أكثرهم يعرفون اليونانية ويقرءون الفلسفة، ولا سيما الرواقية والفيثاغورية، ولكن اتصال اليونان ببلاد الكلدان أقدم من المسيحية ومن اليهودية. ومن الكلدانيين أخذ اليونانيون خصائص الكواكب المعبودة، وحرمات المعابد التي تقام لها، وشعائر الطواف بها وحماية الضحايا التي ترسل في حرم المعبد، وما إلى ذلك من العادات والعبادات، التي اندثرت بين الصابئة المحدثين ضرورة لا حيلة لهم فيها؛ لأن إقامة الحرم في مكان مطروق إنما يقوم بقوة الحاكم، وبناء المعابد إنما يقوم بوفرة المال وكثرة العدد، وهم قلائل متفرقون لا يملكون الثروة ولا السلطان. •••

والمشهور عن الصابئة أنهم يوقرون الكعبة في مكة، ويعتقدون أنها بناء هرمس أو إدريس عليه السلام، وأنها بيت زحل أعلى الكواكب السيارة، وينقل عنهم عارفوهم أنهم قرءوا صفة محمد عليه السلام في كتبهم، ويسمونه عندهم ملك العرب؛ لأن الشائع فيهم أنهم لا يؤمنون بالأنبياء، إلا فرقة واحدة تذكر شيثا وإدريس وإبراهيم ويحيى المغتسل، ويحسبونهم تارة من الأنبياء، وتارة من عباد الله الخلص الذين وصلوا بالرياضة والعبادة إلى مقام الزلفى والإلهام.

وقد كان الباحثون يعجبون لتنويه القرآن الكريم بهذه الملة مع قلة عددها، وخفاء أمرها، ولكن الدراسات الحديثة بينت للباحثين العصريين شأن هذه الملة في دراسات الأديان كافة، فعادوا يبحثون عن عقائدها الآن وعقائدها في عصر الدعوة الإسلامية، وثبت لهم أنها تؤمن بالله واليوم الآخر، وتؤمن بالحساب والعقاب، وأن الأبرار يذهبون بعد الموت إلى عالم النور «آلمي دنهورو»، وأن المذنبين يذهبون إلى عالم الظلام «آلمي دهشوخا»، ويلبثون فيه زمنا على حسب ذنوبهم، ثم ينقلون منه إلى عالم النور.

ولهم كتاب يسمونه «كنزة »، ولعله من مادة الكنز التي تفيد معنى النفاسة والكتمان؛ لأنهم يقدسونه ويخفونه فلا يطلعون أحدا على أسراره.

إلا أن المتفق عليه أن اللغة التي كتب بها كتاب الكنزة وغيره من الكتب المقدسة عندهم هي لغة سامية الأصل قريبة من السريانية، وتكفي نظرة في مصطلحاتهم للجزم بهذه الصلة الوثيقة بين لغتهم واللغة العربية الحديثة، فضلا عن القديمة المهجورة. •••

فمن كلماتهم ومصطلحاتهم «آلمي» بمعنى عالم، و«شماس» بمعنى شمس، و«هي» بمعنى حي، و«روحايا» بمعنى روح، و«موشيهه» بمعنى المسيح، و«يهيه» بمعنى يحيى، و«قدموي» بمعنى القديم، وحران «سفلايي» بمعنى السفلي، و«ترميد» بمعنى تلميذ، و«أسفر» بمعنى سفر، «تنيائي» بمعنى الثاني، و«تليثائي» بمعنى الثالث، واسم الصابئة نفسه على ما يقول بعضهم مأخوذ من السابحة؛ سموا به لكثرة الاغتسال في شعائرهم، وملازمتهم شواطئ الأنهار من أجل ذلك، ولكنهم يطلقون على ملتهم اسم «مندالي» ولا يعرف من أين مأخذه القديم، واشتقاق اسمهم من السبح أرجح من نسبة الاسم إلى السبأوث العبرية بمعنى الجنود - جنود السماء - أي الكواكب، التي اشتهروا بعبادتها.

والأبجدية عندهم قريبة من أبجدية حساب الجمل على حسب ترتيبها في أبجد هوز حطي كلمن إلخ؛ وهي: «آ، با، كا، دا، ها، وا، زا، ها، طا، ها، يا، كا، لا، ما، نا، سا، أي، يا، صا، قا، را، شا، تا.»

ومن هذه الحروف ما يقارب مخارج الحروف التي تقابله في اللغة الفارسية؛ لأنهم تعودوا نطقها منذ زمن قديم.

ولم يتيسر حتى اليوم كشف الستار عن بواطن معتقداتهم وشعائرهم؛ لأنهم يصطنعون التقية ويوجبونها، ومن ذاك أنهم يحرمون الصيام باطنا كما اشتهر عنهم، ولكنهم يصومون جهرا، ويروي ابن النديم في الفهرست أنهم يصومون ثلاثين يوما مفرقة على أشهر السنة، وقد ينتفلون بصيام أيام النسيء الخمسة، ويروى عنهم أيضا أنهم يصومون خمسة أسابيع يأكلون فيها الطعام نهارا وليلا، ويجتنبون أكل اللحوم المباحة لهم، وهي غير ذات الذنب، ويقال: إن الصيام بنوعيه قديم عندهم يرجع إلى أيام البابليين.

صفحه نامشخص