ابن السلطان: وقصص أخرى
ابن السلطان: وقصص أخرى
ژانرها
فتكمل قائلة كأنها تتلقف الخيط من يده وتجذبه بشدة: يوم تسعة شهر تسعة سنة تسعة وتسعين ...
ويضحك الكمساري وهو يربت على كتفها: يعني النهاردة يا حاجة. حتى اسألي الناس كلها !
فترفع ذقنها وتميل برأسها إلى اليمين ويعود صوتها يرن كالنحلة: وأمه وأبوه قدام المحكمة منتظرين. راحوا للقاضي لأجل يشوف الطالع ويعد النجوم. يوم تسعة شهر تسعة سنة ...
فيضحك الكمسارية وهم يجيبون على ناظر المحطة الذي ينادي عليهم: حاضر يا ريس ... والله يا شيخة يوم تسعة بتاعك عمره ما هو جاي.
وليس بالطبع موقف بقية الناس من الحاجة - الله وحده يعلم متى وأين حجت - مثل موقف هذا الكمساري منها، بل إننا نستطيع أن نقول إن موقف كل واحد من هؤلاء الكمسارية يختلف بغير شك عن موقف زميله منها. صحيح أنهم تعودوا عليها كل يوم، أصبحوا وأمسوا عليها، وسمعوا قضيتها ألف مرة ومرة، ونادوا عليها وداعبوها وضحكوا معها وأشفقوا عليها ونسوها ويئسوا منها في وقت واحد. ولكنها على كل حال كانت شيئا ثابتا في حياة الذين يعملون منهم على نفس الخط، كالأشجار والعمارات والتماثيل والميادين التي يمرون عليها كل يوم، ظاهرة يبتسمون لها وقد يرثون من أجلها أو يضحكون عليها، ولكنهم مع الزمن ينسون ابتسامتهم وضحكهم ورثاءهم ولا يلتفتون إليها إلا بقدر ما يلتفتون إلى العمارات والتماثيل والميادين والحدائق والوجوه العجوزة التي رأوها ألف مرة ومرة. وطبيعي أن هذا يختلف عن موقف الأطفال - خصوصا الأطفال - من الحاجة؛ فهم في الصباح عندما يكونون في طريقهم إلى المدارس لا ينسون أن يلتفتوا إليها باستغراب حتى ولو كان الواحد منهم قد سمع صوتها قبل ذلك، وعندما ينزلون في الميدان في طريقهم إلى بيوتهم أو في انتظار ترام آخر يتحلقون حولها ويندهشون ويتطلعون في فمها المفتوح المتحرك على الدوام كأنهم ينتظرون أن يروا صوتها، ويستمعوا إلى حكايتها التي ربما يكونون قد سمعوها عشرات المرات. وبالطبع ينتظر الإنسان أيضا أن يكون موقف الفلاحين القادمين من الأرياف أيام المولد لزيارة الست الطاهرة مختلفا عن موقف الأطفال منها؛ فهم يسمعون صوتها من بعيد، ويطوفون حولها في دهشة لا تلبث أن تتحول إلى عطف فرثاء فاشمئزاز فدعاء للست الطاهرة ولأولياء الله الصالحين أن يشفي الله عقلها ويشفي مرضانا نحن وجميع المسلمين. ومن المنتظر أيضا أن يضع الواحد منهم يده في جيبه ويلقي في حجرها بما قسم، وأن يحس بشيء من خيبة الأمل لأنها لا تأبه له، ولا ترفع صوتها بالدعاء ولا تضم يدها على عطيته بل تواصل الصياح الأزلي كثور لاهث معصوب العينين يدور في الساقية فلا هو يمل من الدوران ولا الساقية تمتلئ: الولد أخذوه من أمه وأبوه. السياسية والجاسوسية والإنجليز واليهود، قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوا الولد من أمه وأبوه. الملائكة وبتوع السيما والتمثيل والسكة الحديد. أخذوا الولد من أمه وأبوه ...
وبالطبع أيضا يسأل بعض الناس أنفسهم عن أصلها وفصلها، عن البيت الذي تسكن فيه والعيشة التي تعيشها، وإن كان هناك في الدنيا من يسأل عنها ويأخذ باله من فرشتها ولقمتها وهدمتها التي أصبحت مثل الهباب والطين. لكن الجميع، وهم معذورون، سيظلون في حيرة من هذا التمثال الحي الذي يظهر فجأة في أيام غير معلومة، فيتربع على الرصيف، وينطلق لسانه تحت تأثير زمبرك خفي تملؤه أيد خفية، ويظل ينبح في حسه وينادي الحاضرين والغائبين دون أن ينتظر أو يكترث بأن يرد عليه أحد، ويخاطب العيون والوجوه بغير أن يهتم بأن تنظر إليه عين أو يستجيب له وجه، ويردد في صوت يدور كأنه يخرج عن أسطوانة قديمة ومشروخة ومن سنين لم ينفض عنها التراب: الولد أخذوه من أمه وأبوه. السياسية والجاسوسية والإنجليز واليهود. قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوه من أمه وأبوه. والملائكة والشياطين وبتوع السيما والتمثيل والسكة الحديد. وأخوه وأبوه راحوا للقاضي وقال لهم القضية يوم تسعة شهر تسعة سنة تسعة وتسعين.
1964م
اليتيم
في ليلة من ليالي وحدتي الطويلة هبطت إلى «مصنعي». ومصنعي هذا منطقة قائمة في نفسي، مجهولة لا يلم بها سواي. هي فلك صغير في ذاته، لا يكف عن الحركة والدوران. تأتي عليه ليال يتلألأ فيها بالنجوم، فأنتشي بفرحة عامرة مسكرة، ثم لا يلبث أن يلفه الضباب، ويصير كالسديم المتدثر بالغيوم. ومع أنني لا أملك شيئا من عبقرية «بيراندللو» ولا من فن «توفيق الحكيم» فقد قلت في نفسي: لأقض الليلة مع «مخلوقاتي» التي تعذبني منذ أمد طويل. ومخلوقاتي هذه هي شخصيات قصصي المقبلة. وهي على تواضعها وشدة حيائها لا تنفك تؤرق نومي، وتعذب يقظتي، وتطالبني بالحياة.
نفضت التراب المتراكم على كتبي، وأدرت آلة «الجراموفون» ببضع مقطوعات من الموسيقى التي تحبها نفسي، ثم استويت جالسا أمام مكتبي. كان رأسي يدور، وقلبي يكاد ينشق من شدة الخفقان. والحق أنني كلما التقيت بهذه الوجوه النحيلة الشاحبة تتملكني رعدة قاسية، ويختلج كياني كله كالمحموم. وشخصياتي دائما ما تكون ثائرة ساخطة، وأنا لذلك ألقاها بوجه باسم، وأستمع إلى شكواها بصدر رحب، وأتقبل همومها بقلب رحيم. ولا تخلو صحبتنا التي تزدحم فيها الوجوه، وتتعالى الصيحات، ويشتد اللغط، من واحد أو اثنين يستولي عليهما الملل، فيشقان طريقهما وسط الجمع الثائر، ويمضيان في سبيلهما حانقين فلا أعود أراهما بعد ذلك أبدا. أنا دائما سجين هؤلاء الضيوف الأعزاء، تنهال علي اتهاماتهم من كل جانب، وتدوي صرخاتهم في أذني! ما أكثر ما انفجرت بالبكاء وأنا أحاول أن أبعدهم عني، وأسترحمهم، وأقسم لهم الأيمان بأني رجل طيب القلب لا أضمر لهم شرا، فما يخلصني منهم إلا النوم يعقد أجفاني، ويريحني منهم إلى حين.
صفحه نامشخص