ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته
ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته
ژانرها
بيئة ابن سينا
المكان الذي يولد فيه الإنسان وينشأ ويتربى، والحال التي يسير عليها وتطبع في نفسه ميزات خاصة من البيئة، ولقد أقر علماء البيولوجية على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم أن للبيئة في حياة أبناء آدم أثرا بالغا لا توصف محاسنه إذا كان حسنا، ولا تحصى مساوئه إذا كان سيئا حتى قيل: «المرء ابن بيئته.» لذا نرى الدول الراقية قد سنت القوانين الصارمة للقضاء على البيئة الفاجرة الخاملة، وشيدت المدارس والمعاهد لمكافحة الجهل والغواية، فرفعت بذلك مستوى شبانها صحة وعقلا؛ لهذا إذا شئنا أن نفهم حياة الشيخ الرئيس العامة والخاصة، يلزمنا أن نقول كلمة ولو وجيزة في بيئته مقسمينها قسمين: البيئة السياسية، والبيئة العقلية. (1) البيئة السياسية
إن أردنا بإسهاب تصوير البيئة التي وجد فيها أرسطو الإسلام؛ لاقتضى ذلك مجلدا برأسه؛ لذلك نكتفي بما يدل على الجوهر، ويعطي الدارس فكرة واضحة.
كانت العناصر الأجنبية قد عصفت بالدولة العباسية يوم أطل ابن سينا في جو الوجود، وأهم هذه العناصر التي ضعضعت أركان الإمبراطورية العربية هي الفارسي والتركي.
إن تدخل العنصر الفارسي في الدولة العباسية يرجع إلى مقتل الأمين 198ه وانتصار المأمون، وقد كان للفضل بن سهل اليد الطولى بذلك، وظل الفرس يستبدون بالدولة، وهم من وزرائها المشاهير حتى تلاشى أمر الشيعة من بغداد، ثم بخلافة المتوكل ينقضي العصر الفارسي الأول.
ما كاد يتقلص ظل هذا العصر الثقيل عن الدولة العربية حتى منيت بالعصر التركي الأول. ومظالم الأتراك في الدولة، واستبدادهم بشئون الخلفاء قد فاق الفرس بدرجات؛ مع أنه ليس بين هذين العصرين حد فاصل ينتهي إليه الواحد ويبتدئ منه الآخر؛ بل هما تعاصرا مدة كان الأول في أواخره، والآخر في أوائله.
إن أول من استخدم الأتراك في الجندية من الخلفاء كان المنصور العباسي، إلا أنهم في بادئ أمرهم كانوا ثلة لا يعبأ بها، وإنما كانت السيطرة آنذاك للفرس والعرب، ولما اشتد التنافس بين العرب والفرس في أيام الرشيد، واتسعت شقة الخلاف بينهما، وذهبت سطوة العرب بذهاب دولة الأمين، وتسلط الفرس أنصار المأمون وأخواله. ضعفت العصبية العربية بسبب توغل العرب في الحضارة والترف، ونأت عن عقليتهم محبة الجهاد والتغلب والفتح، ففكر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه، وكانت أمه تركية وفيه كثير من طبائع الأتراك، مع الميل إليهم لأنهم أخواله، كما كان يميل المأمون إلى الفرس. وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل أخيه الأمين حتى أصبح يخافهم على نفسه، ولم يكن له ثقة بالعرب وقد ذهبت عصبيتهم، وأخلدوا إلى الحضارة والترفه، وانكسرت شوكتهم، فرأى أن يتقوى بالأتراك، وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش، مع الجرأة على الحرب، والصبر على شظف العيش، فجعل يتخير منهم الأشداء يبتاعهم بالمال من مواليهم بالعراق، أو يبعث في طلبهم من تركستان وغيرها، فاجتمع لديه عدة آلاف وفيهم جمال وصحة، فألبسهم أثواب الديباج والمناطق والحلي المذهبة، وميزهم بالزي عن سائر الجنود.
فلما أفضت الخلافة إليه كان الأتراك عونا له، وتكاثروا حتى ضاقت بغداد عنهم، وصاروا يؤذون العوام في الأسواق فينال الضعفاء والصبيان من ذلك أذى كثير، وربما رأوا الواحد بعد الواحد قتيلا على قارعة الطريق. وكان المعتصم ينظم المماليك فرقا، عليهم القواد منهم مثل نظام الجند في ذلك الزمان، ولم يكتف بجمع المماليك والأتراك بالشراء أو المهاداة، ولكنه رغب أمراء الأتراك وأولاد ملوكهم بالقدوم إليه والإقامة في ظله، وممن جاء منهم على هذه الصورة جف بن بلتكين من أولاد ملوك فرغانة، وكانوا قد وصفوه له بالشجاعة والتقدم في الحروب، وأحضر غيره من أبناء الأمراء، وبالغ في إكرامهم.
وكان المعتصم شديد الرغبة في استبقاء أتراكه على فطرتهم، ويخاف تحضرهم واختلاطهم بالأمم الأخرى؛ فتذهب عصبيتهم، وتضعف نجدتهم؛ فابتاع لهم الجواري التركيات فزوجهم منهن، ومنعهم أن يتزوجوا أو يصاهروا أحدا من المولدين إلى أن ينشأ لهم الولد؛ فيتزوج بعضهم من بعض، وأجرى للجواري أرزاقا قائمة، وأثبت أسماءهن في الدواوين، فلم يكن يقدر أحد منهم أن يطلق امرأته أو يفارقها. فاشتد ساعد الأتراك بذلك، وقويت شوكتهم، وتغلبوا على أمور الدولة، وخصوصا بعد أن أنقذوا المملكة من بابك الخرمي، وفتحوا عمورية ونصروا الإسلام، فتحول النفوذ إليهم، وبعد أن كانت أمور الدولة في قبضة الوزراء الفرس أصبحت في أيدي القواد الأتراك، أو صار النفوذ فوضى بين الوزراء والقواد، وكان كل فريق يسابق الآخر في ابتزاز الأموال بالمصادرات ونحوها.
وكانت الدولة قد تجاوزت طور الشباب، وأخذت في التقهقر، وانغمس الخلفاء في الترف والقصف، وعجزوا عن القيام بشئون الحكومة، فأصبحوا لا يبلغون منصب الخلافة إلا بالجند الأتراك، وهؤلاء لا يعملون عملا إلا بالمال، فمن استطاع استخدام الجند ملك، ولا عصبية هناك، ولا جنسية، ولا جامعة دينية، ولا رابطة وطنية، فأضحى الأتراك محور تلك الحركة، وهم أهل شجاعة وحرب كما تقدم، وأمسى البطش والفتك من أكبر عوامل السيادة.
صفحه نامشخص