ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

بولس مسعد d. 1307 AH
58

ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

ژانرها

هذا هو الفرق القائم بين العقل والوحي، وهذه هي الحدود التي تفصل بين الفلسفة والدين، أما أكثر فلاسفة العرب فإنهم مع كل أتعابهم لم يتوصلوا إلى هاته النتائج الحكيمة. •••

إن فلسفة ابن سينا بمجمل تقسيمها لا تختلف أبدا عن تقسيم أرسطو؛ ولذا نراها آخذة بعضها برقاب بعض، ولكن إذا أخذت كل نظرية بمفردها فقلما تلمس تشابكا محكما بينها وبين تاليتها.

يدرس الرئيس أولا المنطق فيحلله بحسب خطة أرسطو والشارح بورفير، ثم يبدأ بالطبيعيات فيلقي عليها نظرات سطحية تلائم معارف بيئته وعصره، وعلم النفس عند الشيخ لا ينقل عن الطبيعيات؛ بل هو جزء من أجزائها، وفيه يتكلم عن الأنفس النباتية والحيوانية والعاقلة، متطرقا إلى قواها وميزاتها، ويتلو درس النفس تحليل للعقل وسائر الإدراكات، ورغم الدرس العميق فإننا لم نجد تمييزا أساسيا بين النفس والعقل كما أشار كارا دي فو في كتابه أساطين الفكر الإسلامي (ص33)، وبعد أن يدرس العقل البشري ينتقل إلى الموجود أو العلم الكلي، فيبحث فيه الموجود المطلق والموجود النسبي بطريقة مطلقة والعقول الصادرة عن الأول ببراهين وبينات استقرائية بصورة تقرب من الأسلوب الرياضي، وأخيرا يكلل فلسفته بالأبحاث الزهدية التي لم يمارس منها شيئا، ولم يكتبها إلا حبا للكتابة فقط.

إن فضل ابن سينا الوحيد على العلم هو أنه جمع في صدره شتات الحكمة والطب، وهضم نتاج المفكرين الأقدمين بقدر ما سمحت له الظروف، وزاد عليها ورقاها كما رأيت فيما قلناه سابقا.

جاء الشيخ الوجود في منتصف ازدهار العلوم العربية؛ فأفرغ ما ولدته العقول العربية، وما نقلوه عن الأمم الغربية من الآراء والاختبارات في العلم والفلسفة والطب، ورتبها في موسوعات وكتب ورسائل منظمة تنظيما منطقيا دقيقا لا غبار عليه في أكثر الأوقات، فعاشت تعاليمه أدهارا، وذاع ذكره بين علماء المشرق والمغرب، ودرست مؤلفاته ومحصت، وحكم عليها الشهرستاني بما يلي:

طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة، ونظره في الحقائق أغوص.

1

نحن لا ننكر أن ابن سينا قد أخذ معظم نظرياته الفلسفية عن الفارابي، إلا أن الفارابي قد أجمل القول إجمال الممهدين، والرئيس فصل كلامه تفصيل الشارحين؛ فزاده وضوحا وتقريبا من الأذهان وصقلا ونحتا، حتى إنه بهذه المحسنات الخارجية حجب بصيته وشهرته اسم السابق والممهد، واستحق أن يسميه الشهرستاني «علامة فلاسفة العرب». •••

وقبل أن أمسح القلم لا أرى بدا من الإشارة إلى حكم على ابن سينا تجرأ عليه به ابن سبعين الأندلسي، مع أن هذا الحكم بمجمله بعيد عن الحقيقة؛ فإننا نورده هنا تفكهة للمطالع؛ وليعرف ما يولده التحامل، قال:

إن ابن سينا مموه مسفسط كثير الطنطنة قليل الفائدة، وما له من التأليف لا يصلح لشيء، ويزعم أنه أدرك الفلسفة المشرقية ولو أدركها لتضوع ريحها عليه ... والشفاء أجل كتبه، وهو كثير التخبط، مخالف للحكيم، وأن خلافه له لمما يشكر عليه؛ فإنه بين ما كتبه الحكيم ، وأحسن ما له في الإلهيات «التنبيهات والإشارات»، وما رمزه في «حي بن يقظان»، وما ذكره فيها هو من مفهوم النواميس لأفلاطون وكلام الصوفية.

صفحه نامشخص