ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته
ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته
ژانرها
كان فلاسفة العرب يجلون أرسطو ويلقبونه بالمعلم الأول والحكيم المطلق، حتى إن أكثرهم قد سلكوا طريقته في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين،
1
وكانوا يعتقدون، على حق، أن أرسطو هو واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل، فلا لوم إذن ولا عذل على ابن سينا إذا اعتمد مذهب الفيلسوف وطبع على غراره في العلوم المنطقية. (1) ما هو المنطق؟
يعتبر ابن سينا المنطق بأنه الآلة العاصمة للذهن عن الخطأ فيما نتصوره ونصدق به، والموصلة إلى الاعتقاد الحق بإعطاء أسبابه ونهج سبله. ونسبة المنطق إلى المعاني والصور العقلية نسبة النحو إلى الكلام والعروض إلى الشعر، فهو من هذا القبيل كالميزان يرجع إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ والحق بالباطل. (2) غرض المنطق
المعرفة هي إما تصور وإما تصديق؛ فالتصور هو أن ندرك أمرا ساذجا من غير أن نحكم عليه بنفي أو إثبات؛ مثل تصورنا ماهية الحيوان، والتصديق هو أن ندرك أمرا ثم نتمكن من الحكم عليه بالنفي أو الإثبات؛ مثل قولنا بأن الكل أكبر من الجزء. وكل من التصور والتصديق يقسم إلى أولي ومكتسب؛ فالأولي نحصل عليه بدون أدنى تعب، ولا نخطئ بالحكم عليه؛ كشروق الشمس، وطلوع القمر. أما التصور المكتسب فنستحصله بالحد وما يجري مجراه، والتصديق المكتسب إنما يستحصل بالقياس وما يشابهه؛ إذن فالحد والقياس هما آلتان بهما تحصل المعلومات التي لم تكن حاصلة فتصير معلومة بالرؤية، إلا أن كل واحد منهما، منه ما هو حقيقي ومنه ما هو دون الحقيقي، ولكنه نافع منفعة بحسبه، ومنه ما هو باطل مشبه بالحقيقي. والفطرة الإنسانية غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف، إلا أن تكون مؤيدة من عند الله، فلا بد إذن للناظر من آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يضل في تفكيره وانتقاداته، وذلك هو الغرض من علم المنطق، وبعبارة أوضح: إن علم المنطق يجعل الإنسان مفكرا حقيقيا لا يتلكأ، ويخوله التمييز بين الغث والسمين في آراء البشر وأقوالهم ونظرياتهم، فهو من هذا القبيل أساس العلوم ودليل المثقفين الهادي. (3) فائدة المنطق
عرفنا أن التصور والتصديق المكتسبين يستحصلان بالحد والقياس، وكل منهما مؤلف من معان معقولة بتأليف محدود، فيكون له منها مادة ألفت وصورة بها التأليف. وقد يعرض الفساد من إحدى الجهتين، وقد يعرض من جهتيهما معا؛ فالمنطق هو الذي يدلنا على المواد والصور التي هي أصل للحد الصحيح، وعلى القياس السديد الذي يوقع يقينا، وعلى القياس الذي يوقع شبيها باليقين أو ظنا غالبا أو مغالطة وجهلا، وهذه هي فائدة المنطق.
قال ابن سينا: «إن المنطق هو الصناعة النظرية التي تعرف أنه من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدا، والقياس الصحيح الذي يسمى بالحقيقة برهانا ، وتعرف أنه عن أي الصور والمواد يكون الحد الإقناعي الذي يسمى رسما، وعن أي الصور والمواد يكون القياس الإقناعي الذي يسمى ما قوي منه وأوقع تصديقا شبيها باليقين جدليا، وما ضعف منه وأوقع ظنا غالبا خطابيا ... إلخ.»
2
وكما أن الذي يجهل قواعد النحو والعروض لا يمكن أن يكون كاتبا، هكذا من يجهل علم المنطق لا يستطيع أن يكون مفكرا بصيرا. إلا أن الشيخ الرئيس يبعد أكثر من ذلك في تدليله، فيقول: «لكن الفطرة السليمة والذوق السليم ربما أغنيا عن تعلم النحو والعروض، وليس شيء من الفطرة الإنسانية بمستغن في استعمال الروية عن التقدم بأعداد هذه الآلة إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله تعالى.»
3
صفحه نامشخص