دالت الدولة السامانية هذه وابن سينا في الثامنة عشرة، ومات أبوه وهو في الثانية والعشرين، فتقلب في البلاد ولحق بشمس الدولة البويهي في همدان وتقلد له الوزارة وأوشك أن يستقر في جواره لولا أنه أغضب الجند من الديلم والترك، فثاروا عليه واعتقلوه وهموا بقتله، فأنقذه الأمير منهم وراح الوزير الطبيب يلوذ بالديار مستخفيا في طلب الأمان حتى هدأت الفتنة وعاود المرض الأمير فبحث عنه واعتذر إليه واستبقاه لمداواة جسده ونفسه بطبه وعلمه وإيناسه.
ولما مات شمس الدولة برم الشيخ بالمقام في همدان وتاق إلى اللحاق بعلاء الدولة بن كاكويه في أصفهان، واتهمه تاج الملك بمراسلة علاء الدولة فاعتقله في بعض القلاع أربعة أشهر ... وفي ذلك يقول الشيخ وهو يدخل إلى معتقله:
دخولي باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج
وفتح علاء الدولة همدان ثم رجع عنها فبقي الشيخ طليقا يدبر وسائل الخروج منها، حتى سنحت له فرصة مؤاتية فخرج وأخوه وتلميذه وغلامان له في زي الصوفية، ورحب به علاء الدولة أجمل ترحيب ورفع مقامه في مجلسه فكان أقرب المقربين إليه، ولم يفرط في صحبته على اتهام الناس إياه بالزندقة لتقريبه الفيلسوف وإصغائه إليه.
وكان لحاق ابن سينا بعلاء الدولة وقد جاوز الأربعين واستوفى خبرته بالطبيعة الإنسانية وبالمعرفة الإنسانية، فسكن إلى العمل ما وسعه السكون وأتم بعض كتبه الناقصة، وتوفر على دراسة اللغة حتى علم من غوامضها وأسرارها ما غاب عن أساطينها في زمانه، وحفزه إلى ذلك كلمة سمعها من أبي منصور الجبائي في مجلس علاء الدولة إذ خاض معه في حديث اللغة فقال له الجبائي: «إنك فيلسوف وحكيم، وأما كلامك في اللغة فلا نرضاه.» فلم يزل يدرس الكتب النادرة في أسرار العربية حتى واجه الجبائي بعد سنوات بما أفحمه واستغلق عليه.
وطاب له المقام بعد طول الفزع والشتات، فطمع تلاميذ الشيخ ومريدوه في عشرات من المراجع والموسوعات التي كان الشيخ يتحين أوقات الطمأنينة والفراغ ليمليها عليهم ويفسر من موضوعاتها ما استعجم عليهم. ولكنه كان قد لقي في جسمه عنتا من توالي المحن ومواجهة الأخطار ومنازعة الحساد وفرط الإجهاد والتماس التفريج عن النفس بالمتعة والشراب، فاشتدت به علة القولنج واعتراه الصرع حينا والصداع حينا، واعتمد العلاج الحاسم السريع كلما أحس بالمرض لأنه لم يكن يصبر على طول العلاج.
وقد أصابته أزمة الداء وهو في رحلة فنقل إلى أصفهان، ولم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي وحضر مجلس علاء الدولة «لكنه مع ذلك لا يتحفظ ويكثر التخليط في أمر المجامعة ... فكان ينتكس ويبرأ كل وقت ... ثم قصد علاء الدولة همدان فسار معه الشيخ فعاودته في الطريق تلك العلة ... وعلم أن قوته قد سقطت وأنها لا تفي بدفع المرض، فأهمل مداواة نفسه وأخذ يقول: المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع المعالجة.»
ولعل الخطر الذي كان يلاحق الفيلسوف في حياته يبدو لنا على أشده من شيء واحد: هو هذا الحرص على شهود مجلس الأمير وهو ينازع نفسه مخافة الوشاية والمكيدة في غيابه، وإنه يومئذ لعند أولى الأمراء بحسن ظنه والاطمئنان إليه. فلولا أنه لا أمان حيث كان لما خشي على مكانته، إن لم نقل على حياته من غياب يوم أو أيام.
ولم يلبث أن غلبه المرض على الخوف والحذر فنفض يديه من الدنيا «واغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم كل ثلاثة أيام ختمة. ثم مات ...» ولعله لم يسلم من الوشاية في مرض وفاته إن صح أنه مات محبوسا كما جاء في بعض الروايات.
صفحه نامشخص