315

ابن الرومی: زندگی او از شعرش

ابن الرومي: حياته من شعره

ژانرها

ولسنا نصفها هذا الوصف لأنه تفسير سهل لهذه العبقرية النادرة؛ ولكن لأنه وصف موجز يدل على أجزائها المختلفة بقليل من الكلمات.

فربما كان القول بأن ابن الرومي رجل حساس، متوفز الأعصاب، ملبي المزاج، نشأ في حضارة زاهية فأجابته وأجابها، وأخذت منه وأخذ منها، فنبغ على ذلك المثال الفريد؛ لأنه لا بد في الشعر من مثال فريد، ربما كان هذا أقل في العجب من تفسير عبقريته بأنها عبقرية يونانية، على اعتبار أنها موروثة عن آبائه اليونان؛ إذ من هم آباؤه اليونان؟! لا ندري أهم إغريق الجزر أم من إغريق البلاد المعروفة باسم اليونان، أم من إغريق آسيا الصغرى التي كانت تدور الحرب فيها وحولها بين المسلمين ودولة الروم. ومن الصعب أن يحتاج إلى التفسير أن تقول: إن هؤلاء الإغريق جميعا سليقة واحدة، وأمة واحدة، وعنصر واحد يتحدر منه الرجل، وينتقل إلى بيئة أخرى، وينجب الأبناء في بيئته الجديدة، فيجتمع فيهم كل ما تفرق من خصائص العبقرية الفنية التي تسمى الآن بالعبقرية اليونانية.

ثم نحن لا نعلم أن الإغريق في قديم عهدهم كانوا عنصرا واحدا ينتمي إلى سلالة واحدة؛ لأن امتزاج الأنساب بينهم وبين الآسيويين ثابت لا شك فيه، واقتباسهم من عقائد الآسيويين وفنونهم ولغاتهم ثابت كذلك أقطع ثبوت، ولا يمكن أن نجزم برأي في وراثة الفطرة الفنية، ولا سيما الفطرة في الشعب كله حتى لو عرفنا الأصل الذي تحدر منه ابن الرومي بين أصول اليونان الكثيرة؛ فقد كان في بلاد اليونان نفسها ألوف من أبناء الشعب اليوناني المحاطين بالبيئة اليونانية في جميع ظواهرها وبواطنها، فلم ينبغ منهم في عصر ابن الرومي شاعر مثله، ولا نبغ منهم في العصور السابقة التي أزهرت فيها آدابهم وفنونهم شاعر من طرازه في جميع خصائصه وملكاته. فلو أننا نقلنا ابن الرومي من الأدب العربي إلى الأدب اليوناني لكان فذا في أدبهم كما كان فذا في أدبنا، ولم تنقض الحاجة إلى تفسيره بهذه النقلة من أدب لغته إلى أدب أصله، ولو أننا بحثنا عن مزية أصيلة في الفطرة اليونانية تنتقل مع الدم، وتسري في خلال التكوين لأعيانا أولا أن نحصر هذه الفطرة، ثم أعيانا بعد ذلك أن نحصر هذه المزية.

فنحن لا نفسر عبقرية الشاعر حين نسميها بالعبقرية اليونانية، ولكننا نصفها في كلمات موجزة وصفا يقربها إلى الأذهان، ويطبعها بهذا الطابع المعروف عند المطلعين على الآداب، وما من شك في أن الشاعر الذي تحدر من أصل يوناني أيا كان مقره غير الشاعر الذي تحدر من أصل عربي أيا كان مقره، ولكن التفريق بين هذه الشاعرين شيء، والقول بأن الشاعر لا يحس هذا الإحساس ولا ينظم هذا النظم إلا إذا كان من أبناء اليونان شيء آخر؛ فحسبنا أننا نعرف ما نريد حين نذكر العبقرية اليونانية، ولا نحاول بعد ذلك الخروج إلى تعليل الأصول والتعسف في تقسيم خصائص الشعوب.

وإنما وصفنا ابن الرومي بهذه الصفة؛ لأنه صاحب عبقرية تعبد الحياة، وتحيا مع الطبيعة، وتلتقط الصور والأشكال، وتشخص المعاني، وتقدم الجمال على الخير، أو لا تحب الخير إلا لأنه لون من ألوان الجمال ، ثم هي تنظر إلى الدنيا نظرتها إلى المعرض المنصوب للتملي والمتعة، لا نظرتها إلى الحصن المغلق أو الصومعة الموحشة أو غير ذلك من نظرات الأجيال والأديان، ولا نعرف صفة أجمع لهذه الخصال كلها من صفة العبقرية اليونانية التي اتسمت بها في الجملة فنون الإغريق؛ فقد كان الإغريق بجملتهم كما كان ابن الرومي بمفرده لو أن الإغريق كانوا يصيبون من كل متعة بمقدار، وابن الرومي كان لا يعرف في أمر من الأمور مقدارا أقل من الإفراط والانهماك.

عبادة الحياة

ولننظر أولا إلى حب الحياة الذي كان أول ما اشتهر به اليونان، وأول ما تستشفه من فن هذه العبقرية الحية في كل جزء من الأجزاء، وكل حالة من الحالات، فابن الرومي كان من أخلص محبي الحياة بين محبيها الكثيرين، أو كان - على الأصح الأوضح - من مدمني الحياة بين شرابها غير المدمنين.

وحب الحياة خليقة نادرة وإن ظن أنها أعم شيء بين الناس وعامة الأحياء، فليس الحب - سواء حب حياة أو حب شيء من أشيائها - سهلا رخيصا يطمع فيه كل من يريد، فمن الناس من يحب الحياة كأنه مسوق إلى حبها، ومنهم من يحبها كأنه مأجور على عمله، ومنهم من يحبها كأنما يحب شيئا غريبا عنه، ومنهم من يحبها كما «يحب» الحيوان الأعجم ما هو فيه، ومنهم من يحبها حب العاشق الذي يختار معشوقه، أو يستوي عنده الحب على القسر والحب على المشيئة؛ لأنه يريد ما يقسر عليه، ويأبى أن يفرض للفراق وجودا، أو يتوقع لهواه تغييرا، فهو سعيد بأن يحب، وأن يسمح له بأن يحب، وهو يحب الحياة لأنه حي لا موت فيه ولا عمل لكل حاسة في نفسه إلا أن تحس وتحيا وتستجد إحساسا وحياة، ولا تشبع من الإحساس والحياة، وهكذا كان ابن الرومي يعبد الحياة عبادة لا يبتغي عليها أجرا غير ما يبتغيه خلص العابدين، فكان حيا كله لا مكان فيه للموت إلا الخوف منه والتفكير فيه.

وإنك لتتابع أبياته الكثيرة في هذا الغزل، أو في هذه الفتنة، أو في هذا السكر، فيخيل إليك أنه شارب قبض على الكأس يود أن يجرعها مرة واحدة من فرط التعطش والخوف عليها، لولا أنه يستعذبها ويستطيبها، فيترشف منها رشفة بعد رشفة، ويعود إليها ينظر ما فرغ منها وما بقي فيها، ويضن ويشتاق ويشعر بمرارة الفقد لفرط شعوره بحلاوة المتعة، فما نقصت من تلك الكأس - الحياة - قطرة إلا أحس بطيبها، وأحس بألم فقدها، وعرف مقدارها، وقاس من الكأس حيزها، وعاد يترشف لينسى فيزداد ذكرا على ذكر، وخسارة بعد خسارة، وأي ذكر؟ وأي خسارة؟ وأي ألم؟ وأي فجيعة؟

لعمرك ما الحياة لكل حي

صفحه نامشخص