ابن المقفع: أئمة الأدب (الجزء الثاني)
ابن المقفع: أئمة الأدب (الجزء الثاني)
ژانرها
قل أن تجد كاتبا لا يستعين في إنشائه بالمبالغة والغلو وسحر الألفاظ ورنينه، بل ربما كان ذلك من أقوى العناصر في فن الكاتب، إلا ابن المقفع فإنه واجه الحقائق وحدث عنها حديثا صادقا لا تزيد فيه، وكان مع ذلك من أبلغ المنشئين.
ابن المقفع كاتب لا تستهلك معانيه ألفاظه، ولا تغتال ألفاظه معانيه، فليس هناك لف ولا دوران، ولا ترادف ولا إسجاع، بل تراه يقدر اللفظ على المعنى تقديرا يدل على براعة فائقة وذوق حسن وطبع صحيح مع ألفاظ متخيرة، قال الراغب الأصبهاني: «كان ابن المقفع كثيرا ما يقف إذا كتب، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره.»
أظهر ما في أسلوبه السهولة والوضوح والجري مع الطبع وعدم التعقيد والإغراب، ولقد عرف البلاغة تعريفا بارعا بقوله: «البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.» وقال لبعض الكتاب: «إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة، فإن ذلك هو العي الأكبر.» ولكنه كما كان يتجنب التقعر فقد كان يكره الإسفاف والتبذل، قال يوصي كاتبا: «عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة.»
ومن خصائصه وضع الشيء في محله وإيفاء الموضوع حقه مع نفوذ بصر وسمو إدراك، روى الجاحظ في البيان والتبيين عن إسحاق بن حسان بن فوهة أنه قال: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط، سئل: ما البلاغة؟ فقال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة.
فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطل والإطالة في غير إملال، قال: وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو، فإنهما لا يرضيهما شيء، وأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا تناله، وقد كان يقال: رضاء الناس شيء لا ينال.
لا أعرف بليغا كاتبا كان أو شاعرا تفهمه العامة وتأنس به وتكبره الخاصة بل تعجز عن مجاراته إلا ابن المقفع.
نعم، قد يشابهه أبو العتاهية الشاعر من حيث السهولة، وأنه لا يدق عن فهم العامة، ولكن شتان ما هما، ففي شعر أبي العتاهية من المآخذ والمغامز ما يطول استقصاؤه، أما ابن المقفع فلم يؤخذ عليه في كل ما كتب إلا حرف واحد، قال المعري في عبث الوليد: «كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض، وروي عن الأصمعي أنه قال كلاما معناه: قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحنا إلا في موضع واحد، وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط به فخذوا البعض.»
أدب ابن المقفع وإن كان عربيا مبينا في الألفاظ والتراكيب، فإنه أعجمي في الجمع والتأليف، فهو لا يكاد يستشهد بشعر العرب ولا يتمثل بأمثالهم ولا يروي حكمهم ومواعظهم ولا يسمي فصحاءهم، ولا يشير إلى أيامهم كما تجد ذلك في آثار جمهرة كتاب العرب كالجاحظ وأضرابه، فهو من هذه الجهة إما مترجم عن الفرس أو متصرف بالمعاني الشائعة أو مستمد من صوب عقله.
يقصد إلى المعنى بعناية بالغة، فإذا تم له تصوره قدر له من اللفظ ثوبا ليس بالفضفاض ولا بالضيق، مع زهد بالسجع إلا ما جاء عفوا من غير تعمل، فأسلوبه أسلوب المساواة بين اللفظ والمعنى، على أن في كلامه كثيرا من الإيجاز، ولكنه غير الإيجاز المعجز الذي اختص به العرب الخلص واستبدت به بلاغة العرب خاصة من دون جميع اللغات، وأكثر ما تجد هذا النوع من الإيجاز الحاد المعجز في القرآن الكريم والحديث الشريف، وأمثال العرب وحكمهم وكلام الخلفاء الراشدين وغيرهم من بلغاء العرب وفصحاء الأعراب.
مثال ذلك:
صفحه نامشخص