ابن المقفع: أئمة الأدب (الجزء الثاني)
ابن المقفع: أئمة الأدب (الجزء الثاني)
ژانرها
وأية شهادة أعظم خطرا من شهادة الخليل بن أحمد سيد الأدباء وأعظمهم اختراعا وتوليدا في الوضع والتأليف، على أن البقية الباقية من كتب ابن المقفع خير دليل على ذلك الأدب الغض والعقل الحكيم.
والجاحظ يعترف لابن المقفع في البلاغة وفنونها، ولكنه ينكر عليه معرفته في علم الكلام، قال: ومن المعلمين ثم البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، كان مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله، وكان يتعاطى الكلام ولا يحسن منه لا قليلا ولا كثيرا، وكان ضابطا لحكايات المقالات، ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق، وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت من خلص المتكلمين ومن النظارين فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية، فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم، وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم فيظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بعد به.»
قد يكون الجاحظ مصيبا في حكمه؛ لأن علم الكلام كما يريده الجاحظ لم يكن أثمر في زمن ابن المقفع، كما أن ابن المقفع نفسه لم يكن عالما مختصا بالكلام يناظر الناس في عقائدهم ومذاهبهم، ولكن الجاحظ مع ذلك أثبت له «جودة الحكاية للدعوى»، وذلك أقصى ما يطلب من الناقل والمترجم، وابن المقفع مترجم في الفلسفة لا واضع، على أن له آراء حكيمة في الدين والحياة والأخلاق تعد مثلا أعلى في السمو، ولكن ليست على طريقة المتكلمين والمناظرين، سيأتي الكلام عليها في غير هذا المكان.
ترك ابن المقفع ثروة عظيمة للأدب العربي وأمثلة رفيعة يطبع على غرارها بلغاء هذه الأمة، فترجم وألف مقدارا غير قليل من الكتب عدا الرسائل التي كان يكتبها للأمراء، وهو لم يعش أكثر من ست وثلاثين سنة، فلو عمر أطول من ذلك لرفد أدبنا بأضعاف ما رفد، ولله ما أصدق قوله:
ويقتلني فيقتل بي كريما
يموت بموته بشر كثير
ولقائل أن يقول: ما بال الناس يغلون في رفع منزلة ابن المقفع وأكثر تآليفه مترجمة عن الفارسية ليس له منها إلا الصوغ والرصف؟ وقد فاته أن الترجمة في كثير من الأحيان أشق من التأليف، والمجودون بها قليل جدا، والكتب التي تترجم في عصرنا الحاضر أوضح دليل، فما كان علميا منها يتعثر بالعجمة من حيث المصطلحات، وما كان أدبيا منها لم تأنس به نفوس القراء لبعده عن أساليب العربية اللهم إلا النزر اليسير، فإذا قارنت هذه التراجم بترجمة ابن المقفع ظهر لك تفوقه ونبوغه، على أن له من بنات أفكاره ما يستهوي العقول ويسحر الألباب، حتى زعم بعضهم أنه عارض القرآن في كتاب الدرة اليتيمة، هذا فضلا علن أن عصر ابن المقفع كان عصر ترجمة في أكثر العلوم.
صفته وأخلاقه
إذا صح أن أسلوب الكاتب مرآة أخلاقه وطبعه، فلا شك أن ابن المقفع كان حسن الخلق سهل الطبع كريم السجية حلو المعاشرة وافر المروءة، وقد وصفها الجاحظ بكونه جوادا فارسا جميلا، وما أظن أديبا عمل بما كان يقول كابن المقفع، قال: «ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحيتك ولعدوك عدلك، وضن بدينك وعرضك عن كل أحد.» ولقد بذل هو دمه وماله في سبيل المروءة والكرم والصداقة، وأي إيثار أبلغ من إيثاره لعبد الحميد بن يحيى كاتب بني أمية؟ فقد صح أن عبد الحميد لجأ إلى ابن المقفع بالبحرين بعد مقتل مروان بن محمد، ففاجأه الطلب وهو في بيته، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل منهما: أنا. مخافة على صاحبه، وأوشك الجند أن يقتلوا ابن المقفع لولا أن صاح بهم عبد الحميد قائلا: ترفقوا بنا، فإن لكل منا علامات، فوكلوا بنا بعضكم، وليمض البعض الآخر إلى من وجهكم فيذكر له تلك العلامات. ففعلوا، وأخذ عبد الحميد فقتل سنة 132.
وقال ابن قتيبة في عيون الأخبار: بلغ ابن المقفع أن جارا له يبيع دارا له لدين ركبه وكان يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذا بحرمة ظل داره إن باعها معدما وبت واجدا. فحمل إليه ثمن الدار وقال: لا تبع.
صفحه نامشخص