بيد أن يسوع أجاب بهدوء على طريقة الفريسيين: «إن كنت قد تكلمت رديا فاشهد على الردي، وإن حسنا فلماذا تضربني؟»
ولم يرتح الكهنة لهذه الغلظة، فودوا احترام المظاهر والنظام. ويدرك الشيخ حنان أن ما حدث حتى الآن لا يؤدي إلى نتيجة فاستدعى الشهود لإثبات أفظع التهم، فأجمعوا على أنهم سمعوا يسوع يقول حديثا: «إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد.»
ويظل المتهم صامتا أيضا في هذه المرة، فمما لا ريب فيه أن يكون قد نطق بمثل ذلك، فلا تحتاج إقامة بيوت ملكوت الله التي هي مقر التقوى الخالصة إلى سنوات، وإلا لاقتضت الأبدية. ويتقدم الشيخ حنان قليلا نحوه زاحفا بوسادته، ويرمي أحد أغطيته ويقول : «أما تجيب بشيء؟»
لا صوت يرن في الغرفة ذات الستائر الصفيقة، وينظر بعض الحضور إلى بعض حائرين، فلم لا يبدأ الشيخ حنان بجمع الأصوات منذ الآن؟ لقد جدف المتهم على الله ولم ينكر كلامه، ولكن القاضي المحنك يرغب في برهان أمتن مما حدث؛ فهو يعرف روح الجدل في الفريسيين، وأنهم سيعترضون في آخر الأمر، وهو يعرف تشدد الوالي الروماني الذي يطلب دليلا ساطعا؛ فمن أجل ذلك يسعى في حمل النبي الزائف على الاعتراف، فيطرح أخطر المسائل ليغري يسوع على الخروج من موقفه السلبي، فيزحف قليلا أيضا نحو المتهم، فيكاد يمس رداءه العادي بذراعيه المدثرتين بنسيج من حرير، فيقول: «إن كنت أنت المسيح فقل لنا!»
ويتجاذب يسوع إيمانه برسالته واحتقاره لأولئك الذين يسألونه، وتتصادم فيه عزته واشمئزازه، ويتعارك فيه اعتزاز واعتزاز، فيكتفي بالجواب الجاف الآتي: «إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني.»
ويتذمر القضاة من عناد يسوع ومن سعة صدر رئيسهم، ولا يرى هذا الرئيس أن خطته أحبطت مع ذلك؛ فهو لا يزال يصر على اقتطاع اعتراف من يسوع، فيقوم بآخر حملة، فيحاول النهوض مستندا بيديه المرتعشتين إلى وسادته، فيسرع إليه أولاده ليساعدوه على ذلك؛ لما يعرفون من نهوضه ليدعو الرب، فيبرز هذا الفاني من بين الأغطية والوسائد، فيرفع ذراعه العظمية فيسأل ناعقا كالغراب: «أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟»
الآن يشعر يسوع بحلول الوقت الذي يعلن فيه بين الأعداء ما يأمر به الرب الذي نفذ اسمه جو هذا المكان الخانق، ولا يرى يسوع، مع ذلك، أن يعتز؛ فهو يجيب بصوت خاشع كصوته في بدء رسالته فيقول برفق: «أنت قلت.»
ولم ينشب يسوع أن رفع يده، فنظر إلى ما حوله، فقال بصوت ملك: «أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا على سحاب السماء.»
ويثب الجميع على أرجلهم، مذعورين بعد توتر ما توقعوا جوابا غير هذا؛ فقد تم لهم ما أرادوه منذ ساعة بجواب يسوع الجريء، فأصابهم به في الصميم، فها هو ذا يسيء استعمال قول دانيال بأن المسيح سيجلس عن يمين الرب، فليجر الشيخ حنان حلته بيديه المرتجفتين وليمزقها، وليقل بصوته الجاف: «قد جدف. ما حاجتنا بعد إلى شهود؟! ها قد سمعتم تجديفه. ماذا ترون؟»
فيقولون: «إنه مستوجب الموت.»
صفحه نامشخص