ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه
ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه
ويسخو ويجود بالحلال القليل الذي ناله من طيبات هذه الدنيا، ويقول في ذلك: لو أن الدنيا تقل، حتى تكون في مقدار لقمة، ثم أخذها امرؤ مسلم، فوضعها في فم أخيه المسلم ما كان مسرفًا)). وهذا أقصى غايات الجود.
ولقد كان رحمه الله يرى أن الاقتصار على الحلال الخالص الذي لا شبهة فيه مرتبة هي من أعز المراتب نيلًا لا يقوى عليها إلا الأشداء، ويرى أن القوة الحقيقية للإنسان ليست في قوة البدن، ومنة الجسم، ولكن في الاستيلاء على النفس، وحملها على الاقتصار على الحلال، وألا تسير وراء ما تهوى، ولقد سئل رحمه الله عن الفتوة، فقال: ((إنها ترك ما تهوى لما تخشى)) أي أن قوة العزيمة والتحكم في الأهواء والسيطرة عليها هي القوة كل القوة، أو هي القوة التي يليق أن يتصف بها الإنسان، ويتميز بها عن سائر الحيوان.
٨٨- وأما نزاهة العقل والإيمان، حسبك في بيانها ما نقلناه من أخبار المحنة، وكيف صابر وجاهد، وما كان جهاده إلا لينزه عقله عن أن يفكر في أمر لم يؤثر عن السلف أن عنوا بدراسته، وأن يخوض في مسائل الخوض فيها يؤدي إلى متاهات يتيه فيها العقل، ويضل، ولا يقوى على الوصول إلى الحق في بيدانها المنسعة. بل كان يفوض كل التفويض في كل المشتبهات التي وردت في القرآن، وسيكون لذلك فضل من البيان نذكره عند الكلام في آرائه المتصلة بالعقيدة في ذلك المضطرب الفسيح من الآراء في العصر الذي اشتدت فيه الاحتكاكات الفكرية بين ذوي المنازع المتباينة.
وقد رأيت في أعمال الخلفاء معه كيف ينزه إيمانه عن أن يأخذ بالتقية، لأنها منزلة لا ينزل إليها إلا الذين لا يحتملون الشديدة في سبيل اليقين، ورخصة لا يترخص فيها إلا الذين يضعفون ولا يحتملون، أما الأقوياء، فهم ينزهون إيمانهم عنها، والناس في الإيمان درجات، وقد كلف كل مؤمن قدر طاقته.
٨٩- ولنزاهة عقله وإيمانه ابتعد عن الجدل مع أهل الأهواء والبدع في نظره، لأن عدوى الأفكار تسري بين المتجادلين بالاحتكاك، كما تسري عدوى الأمراض بالاحتكاك والاختلاط، وكذلك كان ينهي أصحابه عن الجدل معهم تنزيها لإيمانهم، وابتعادًا عن كل مواطن الريب.
88