ويترك القواد ملكهم ليلتهم هذه ثم يصبحون إليه فيقولون له إنه وعد ووعد الملك تنفيذ ولا بد أن يقوم بما طلبه إليه ابن عمار إبقاء للرهان، فما يصبح اليوم التالي حتى يكون الأذفونش قد دعا ابن عمار فيذهب إليه فيقول الأذفونش: لقد أوقعتني يا ابن عمار ولن أنساها لك. - أسيئة تحتسبها لي يا مولاي أم حسنة؟ - ويحك أتريدني أن أعتدها لك حسنة. - وما لك لا تفعل يا مولاي ألم أخدم بها ملكي وبلادي؟ - ويحك قد يعتدها غيري حسنة لك يا ابن عمار أما أنا فلا، لا يا ابن عمار. - بل سوف تفعل يا مولاي حين يهدأ ثائرك. - والآن. - والآن يا مولاي. - لا أترك بلادكم حتى أنال الجزية مضاعفة هذا العام. - أمرك يا مولاي.
وينصرف ابن عمار ليعود إلى الأذفونش بالجزية مضاعفة فيأخذها الملك مزمجرا ، ولكن ابن عمار يتقدم إليه بشيء كان قد لفه فهو لا يظهر ويسأله الأذفونش: وما هذا؟ - فليزل مولاي عنه لفافته.
ويفعل الملك فيجد الشطرنج فيقول ابن عمار: هدية خالصة متواضعة من ابن عمار.
فيسر الملك من هذه اللفتة ويكاد ابن عمار أن يعود إلى سابق مكانته في نفس الأذفونش، ويعود الأذفونش إلى بلاده ويعود المعتمد إلى نافذته يرنو منها إلى إعتماد وذيل ثوبها قد رفع وقدماها قد غاصتا في المسك وماء الورد، إلا أنه في هذه المرة لم يكن وحده بل كان ابن عمار إلى جواره يرنو هو أيضا إلى جواريه يغصن بأقدامهن مع الملكة في المسك وماء الورد.
صفقة، أهي رابحة؟!
أحس ابن عمار بعد أن خلص البلاد من خطر الغزو أنه أصبح دعامة هذه البلاد وأحس أنه داهية في السياسة يتلاعب بالملوك ويرد بدهائه الجيوش عظيمة ما عظمت تلك الجيوش، ثم أحس بعد فترة من الوقت أن ذكاءه لا بد أن يجد شيئا ينشغل به فما تعود أن يراح إلى هدوء، وما كانت النساء مأربا لحياته وهو لم يصطنع الخمر والجلسات المازحة إلا إرضاء للمعتمد. ووافت ابن عمار أنباء عن مرسية المجاورة لإشبيلية والمستقلة عنها في الحكم، وكان مؤدى هذه الأنباء أن مرسية تفتقر إلى الجيش، وأن حاكمها على غناه لا يملك خيلا ولا رجلا. وكان ملك مرسية في ذلك الحين هو «أبو عبد الرحمن ابن طاهر» ينتمي إلى أصل عربي ويملك أموالا ضخمة لم تلهه عن ثقافة واسعة فكان حصيف الرأي قويم الفكرة، وكان أيضا ضعيف الجيش منكسر الشوكة.
وكان يقيم بجوار مرسية «كونت» يدعى «الكونت دي برشلونة ريمون بيرنجيه» وكان ذا قوة وأيد وكان صديقا لابن عمار. وهكذا تهيأ لابن عمار أن يدعي أنه ذاهب لزيارة هذا الكونت وكان لا بد له أن يمر بمرسية في طريقه إلى الكونت، فلم يكن غريبا إذن أن يظهر ابن عمار في مرسية، وأن يكن رأى فيها بعض من يريدون خيانتها وأن يكن قد رشاهم فقبلوا الرشوة، إلا أن هذا لم يكن إلا تحت ستار كثيف من الكتمان لم تخترقه أعين «أبي عبد الرحمن بن طاهر».
وقصد ابن عمار إلى الكونت وأجرى الحديث فجرى إلى حيث يريد، فإذا الكونت يتحدث عن مرسية وعن ضعفها وإذا ابن عمار يظهر في الحديث إغضاء يكاد في ظاهره أن يصل إلى الملالة، ثم لا يلبث أن يميل إلى الحديث رويدا ثم هو يشارك فيه ويشجع عليه، فينطلق الكونت وينطلق ابن عمار حتى إذا رأى منفذا إلى غايته نفذ فعرض على الأمير أمرا. - ما دمت يا مولاي ترى هذا الأمر فما حبسك عن أن تعتسف هذه المملكة وإنها لثمرة ما تحتاج منك لغير أصبع تمدها. - ومن أين لي المال يا ابن عمار؟ - أيمنعك المال أيها الأمير؟ - والله يا ابن عمار إن شئت الحق فإن المال وحده لم يكن ليمنعني ولكنني أخشى أن أثير في الدولة الإسلامية الأخرى حفيظة لا أريدها أن تثور. - لقد أصبت فاصلا من الأمر، ولكن ماذا تراك تقول لو أن دولة عربية إسلامية هاجمت مرسية فاحتلتها وتصيب أنت ربحا وأنت في مكانك لا تريم؟ - أكاد أفهم ما تريد. - بل إنك لتفهمه. - فزده إيضاحا. - أجيئك بالمال وتمدني بالجيش. - أليس الجيش دماء تراق فعائلة يتبدد شملها، فزوجا أيما، وابنا يتيما، وأما ثكلى؟ - ولكنه المال ... والحاكم - بعد - ينظر للمصلحة العليا فشأنه الملك، وما شأنه زوجا ولا طفلا ولا أما. - وهل الملك يا ابن عمار إلا هذه الزوجة وذلك الطفل وتلك الأم؟ - ولكنك تريد مالا. - وأريد رجالا. - الرجال كثير ولكن المال، المال. - كم تدفع؟ - كم تقبل؟ - عشرة آلاف مثقال ذهبا. - فإن كانت خمسة؟ - عشرة. - قبلت. - ومن يضمن لي أنك سترسل المبلغ؟ - ومن يضمن لي أنك سترسل الجيش؟
وحينئذ اقتحم الغرفة ابن أخي الكونت فكأنما وجد الكونت طلبته فهو يلتفت إلى ولد أخيه، ويطلب إليه أن ينتظر ريثما ينتهي حديث ويخرج الفتى ثم يلتفت إلى ابن عمار قائلا: ابن أخي. - مرحبا به. - ألا تسأل من يضمن لك إرسال الجيش؟ - أجل. - وأنا أقول ابن أخي. - ما له؟ - يضمن لك. - وكيف؟ - تأخذه رهينة. - وماذا تريد مني رهينة؟ - أريد ابن المعتمد.
وأخذ ابن عمار بهذا المطلب ولكن تردده لم يطل فقد كانت القيمة المتفق عليها حاضرة عند المعتمد، ثم ما له لا يتصرف في أولاد المعتمد وقد تصرف في المعتمد نفسه وما البأس الذي يخشاه؟ لا بأس عليه إذن ولكنه عاد يسأل: وكيف يجيء إليك؟ إن أباه لن يرضى كما تعلم، وأنا لن أخبره أن ابنه سيصبح رهينة لديك. - ألن ترسل المال في موعده؟ - بلى. - إذن فأخبر المعتمد أن ابنه سيتولى قيادة الجيش حتى يمرن على الحرب والقتال. - لقد قبلت. - وقد قبلت.
صفحه نامشخص