67

وانهزمت عقيدة «مترا» أمام المسيحية.

ولكن هزيمة العقيدة المترية لم تقتلع الثنوية من جذورها، ولم تكن أحوال العالم في القرون الأولى بعد الميلاد مما ينسي الناس وطأة الشر وسلطان الشيطان، ولم تكن المسيحية في دعوتها تنفي غلبة الشيطان على العالم، وانقياد السادة المسيطرين على الأمم لوساوسه ورذائله، فنجمت من بلاد الثنوية نحلة أخرى تسمى المانوية، منسوبة إلى «ماني» الذي ولد في بابل الجنوبية حوالي سنة (216 للميلاد)، واستهل دعوته في إبان قيام الدولة الساسانية، فكان له من ملكها الثاني «سابور الأول» نصير قوي أيام حكمه، على أمل منه في توحيد النحل المجوسية على قواعد الدين الجديد، ولكنه أمل لم يتحقق، ولم يستطع ماني أن يصمد لأقطاب النحل الأخرى بعد حكم سابور، فألقي في السجن حيث مات وهو يناهز الستين، ووسم أتباعه باسم الزنادقة، أي الكذبة المنافقين، وقيل عنهم: إنهم «أهرمانيون شيطانيون».

إلا أن «ماني» كان من المجددين في عقائد قومه، وفي ثقافتهم، وفي كتابتهم الأبجدية، ومن مساعيه في تجديد الثقافة تيسير الكتابة بالحروف الآرامية، وتنقيح أوزان الشعر والأناشيد المقدسة، وتقريب مذاهب المعرفيين “Gnostiics”

إلى مذاهب المجوسية والمسيحية، وتحقيق الخلاص الروحاني من طريق الحكمة والتعمق في أسرار العلوم.

ولم يخرج «ماني» من نطاق الثنوية في آفاقه الواسعة، فمعظم مذهبه ثنوية «زردشتية» أو مجوسية، وقليل منه مقتبس من آراء المعرفيين وعقائد المسيحية في الصدر الأول قبل أن يتوسع فيها الآباء المتأخرون.

فالوجود من أزل الآزال وجودان منفصلان: عالم النور، وعالم الظلام، ولا فاصل بينهما يمنع أحدهما أن يبغي على الآخر إذا شاء ، ولكن عالم النور لا يعرف البغي، بل يعرفه رب الظلام حسدا، فيزحف بجنوده كرة بعد كرة، ويأبى رب النور أن يقابل العداء بالعداء؛ لأنه بطبيعته محبة وسلام، وحسبه أن يتجلى حيث شاء فيجعل منه الظلام.

ولما تكررت هجمات رب الظلام على العالم النوراني يحاول أن يكمن فيه، وينتزع منه ما استطاع، خلق رب النور آدم السماوي، وأرسله إلى الأرض بمزيج من طبيعة الملك العلوي والحيوان الأرضي؛ ليلقى جنود الظلام في ميدان القتال، وكان آدم هذا - أو جيومرث كما يسميه المجوس - طيبا سليم القلب، يحارب شريرا مزودا بسلاح الخدعة والدهاء، فانهزم ووقع في أسر الظلام، ولم يجد رب النور بدا من الهبوط بنفسه إلى الميدان لإنقاذ مخلوقه الأثير لديه من غياهب العالم السفلي، فأنقذه ورفعه إلى الشمس حيث يقيم بعيدا عن الأرض وعالمها المهدد بغزوات الشياطين.

إلا أن الإله السفلي عرف من تركيب جيومرث سر الآدمية العليا، فصنع على يديه «آدم» آخر يمتزج فيه الخير والشر، والروح والجسد، وظل آدم حائرا بين طبيعتيه حتى أشفق الإله السماوي عليه فأرسل إليه المسيح؛ ليدله على أشرف طبيعتيه، ويعلمه الغلبة على أخس هاتين الطبيعتين، فجعل آدم ينادي منذ ذلك الحين: «ويل لمن خلق جسدي واستبعد روحي»، وخذلته حواء فهبط بها الملائكة إلى الجحيم ومعها ذريتها من أبناء الشياطين، ولم يكن للملائكة منذ تلك اللحظة من رسالة تحت السماء إلا أن يستخلصوا العوالم النورانية من شوائب الظلمات، ثم ينفصل العالمان ويقضى على العالم السفلي بالدمار.

سرى هذا المذهب المانوي شرقا إلى الصين والهند، وغربا إلى أفريقية الشمالية وآسيا الصغرى، وسرت معه عقيدة خلق الشيطان للبشرية، وسيادته على العالم الأرضي، وبقائه متسلطا عليه إلى اليوم الأخير.

ووافق ذلك السريان النحلة الشامانية بين أواسط آسيا وأوروبة الشرقية، فدخلتها المسيحية وعشائرها مؤمنة بالسحرة والشياطين، تتسامع بأن إله المسيحيين ترك الأرض للشيطان الأكبر؛ فلا حيلة لها معه غير أن تترضاه وتزدلف إليه. وقد بقيت المسيحية الصحيحة مجهولة في تلك الأقطار إلى ما بعد القرن الثاني عشر، وبقيت نحلة «البوجوميل » - أي النحلة الشيطانية - غالبة على عشائر البلغار والعشائر البلقانية عدة قرون.

صفحه نامشخص