52

وفي رسالة يوحنا الرسول الأولى: «من يفعل الخطيئة فهو من إبليس؛ لأن إبليس من البدء يخطئ، ولأجل هذا ظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس.»

وفي هذه الرسالة أيضا: «إن الإنسان من الله أصلا، ولكن «العالم» كله قد وضع في الشرير.»

وتتكلم الكتب «البوكريفية» عن دخول الموت إلى العالم بدخول الخطيئة فيه، ومعظم هذه الكتب لا يرتقي إلى طبقة الأقوال المأثورة عن الرسل مباشرة، ولكنه يعتمد للترجيح والتفسير، وسمي بالكتب «البوكريفية» بمعنى «السرية» أو الخاصة في اليونانية؛ لأنه كان من المراجع التي يضن بالاطلاع عليها على غير الواصلين في الإيمان والمعرفة.

وعندنا أن الفرق في أوصاف الشيطان بين الأناجيل وما تلاها إنما هو الفرق بين الأوصاف السماعية والأوصاف القياسية أو العقلية؛ فإن الشيطان لم يتقرر له «شأن» أو دور معلوم في الأديان الكتابية قبل القرن الأول للميلاد، وإنما كان في الكتب العبرية أو اليهودية واحدا من الملائكة المغضوب عليهم، أو واحدا من الأرواح المتمردة، فلا يعرف إلا بما سمع من أوصافه، ولا شأن له في ذلك إلا كشأن الأبطال التاريخيين، أو «الشخصيات التاريخية» التي تعرف بالمسموع عنها بين المسموعات المختلفة، ولا يمكن أن تعرف بأوصاف عامة يقتضيها العقل والقياس.

أما الشيطان الذي تقرر له «دور» معلوم أمام الله فلا يتوقف العلم بأوصافه على السماع، بل يجوز للمفكر أن ينسب إليه كل ما يقتضيه ذلك الدور من الألوان والملامح والخصائص والتبعات، ويجوز له كذلك أن ينسب له ما سوف يأتي به بعد أزمنة طويلة في نهاية العالم ومصيره المقدور.

وقد تقرر دور الشيطان، وتقرر سلطانه على الشر وعلى العالم الأرضي في مقابلة العالم الإلهي في السماء، فكل صنيع يوصف بالشر فهو من عمله بغير حاجة إلى رواية السماع، وكل خطيئة أو غواية أو ضلالة أو عاقبة محذورة؛ فإنما تنسب إليه كما تنسب الخصائص إلى معدنها بحكم البداهة التي لا تحتاج إلى عيان أو إلى إسناد، وعلى هذا القياس قال بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: إن رؤساء هذا الدهر - أي الشياطين كما جاء في تعبيراته السابقة - هم الذين صلبوا السيد المسيح، ورماهم بالجهل وقلة الدراية بعقبى ما يصنعون؛ لأنهم ظنوا أنهم يخدمون مقاصدهم بتقديم المسيح إلى الصليب، وما كانوا يخدمون غير مقاصد الله منذ الأزل بما دبروه ورتبوه، فقال عن حكمة الإيمان وحكمة الشيطان: «إننا نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر، ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سر الحكمة المكتوبة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا، ولم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر؛ لأنهم لو عرفوها لما صلبوا رب المجد.»

فإذا كان الأئمة الأسبقون في صدر المسيحية يذكرون الشيطان بصفات لم ترد في الأناجيل ولا في كتب العهد القديم، فإنما يذكرونه بالصفات التي تكون له لا محالة بحكم طبيعته المميزة، أو بحكم دوره المعلوم، وهو الدور المقابل للخير والحق وصدق النية في كل عمل مضى، وكل عمل يتكشف عنه الغيب.

وينبغي أن تلاحظ النقلة الواسعة هنا في تطور الأخلاق والمقاييس بين أوائل العقائد العبرية وبين العقائد التي شاعت في القرن الأول للميلاد.

فقد كان الضرر والشر بمعنى واحد في العقائد البدائية، وكان الروح الضار كالحيوان الضار في مقاييس الأخلاق أو مقاييس النعمة والبلاء، وكان من الجائز أن تستقل الحية بالضرر دون أن يلقنها الشيطان غواية آدم، فهي حيوان ضار يؤذي ويخيف، وكفى بذلك وصفا للشرير في العقائد البدائية؛ فما زال الضرر والشر يتميزان ويختلفان في الميزان حتى وجب عقلا أن يكون الشيطان وراء الحية في غواية آدم وحواء، وحتى وجد في عالم الضمير فارق واسع بين الخوف من لذعة الحية الماكرة ودسيسة الشهوة والعصيان. •••

إلا أن المسيحيين الأوائل استرسلوا في حديث الحية؛ لأنهم وجدوا فيها أصلح صورة لتمثيل الشيطان للحس، وكان تمثيل الشيطان للحس يتتابع في «رؤى» النساك والمتنبئين مستقلا عن تمثيله للنفس في بحوث الفقهاء وعلماء اللاهوت. فإذا تكلم اللاهوتي عن الشيطان فإنما يستنبط أوصافه بالقياس إلى طبيعته وعمله كما تقدم، ولكن الناسك المتنبئ صاحب الرؤى والمشاهد الغيبية إنما ينقل رموزا وجدانية قابلة للمشاهدة في الحس، كما هي قابلة للمشاهدة في الرؤيا.

صفحه نامشخص