وقد دخلت هذه الأرواح والمحظورات في حساب السياسة كما دخلت في حساب العلم، فقررت اللجنة البرلمانية التي أوفدتها الحكومة إلى أفريقية الشرقية لتحقيق أسباب الثورة فيها: أن «دراسة النفسية» التي تنطوي عليها عبادات جماعة الماو ضرورية لاستقصاء أسباب السخط وعوامل الثورة، وعقب الأستاذ ماكس جلكمان “Gluckman”
على هذا التقرير بفصل مجمل عن أصول العقيدة بين القبائل، فروى عنها أنها تؤمن بإله عظيم خلق العالم ثم تنحى عنه، وأنه سمع من أناس في قبيلة الباروتس “Barotse”
على نهر الزمبيزي الأعلى أن الإله تخلى عن الأرض، ولاذ بالسماء حيرة من كيد الناس وشطارتهم وأفانين احتيالهم، ولم يبق لهذا الإله الآن من عمل يستطيعه مع البشر غير مجرد العلم بأخبارهم، فهم يقولون كلما سألتهم عن مكان بعيد: إن الإله نيامبي “Nyambe”
أعلم وأدرى، ويدعي زعماء القبيلة أنهم ينتمون إلى هذا الإله من ذريته التي ولدتها له بنته قبل أحد عشر جيلا، فملكت على القوم في مكانه، وهذا سر من أسرار الطاعة للزعماء، والثورة على الأجانب والمستعمرين. •••
ويرى جلكمان أن المراسم والشعائر حلت بين القبائل الأفريقية محل الصلوات المكتوبة والفرائض المسجلة؛ لانعدام الكتابة في تلك القبائل، فكل علاقة لها شعائرها ومراسمها، وكل حركة تتحركها القبيلة كلها أو بعض أفرادها طلبا للصيد، أو انتجاعا للمرعى، أو زحفا للغارة على عدوها تتطلب منها الزلفى إلى بعض الأرواح، والحذر من بعض الأرواح الأخرى، وتلجئها إلى اتخاذ المراسم والشعائر المتوارثة في أجدادها.
وكل ما يصيب الإنسان فهو من كيد روح، أو دسيسة ساحر، أو من عالم «وراء الطبيعة» على الإجمال؛ فإذا وطئ فيل إنسانا فقتله، فالأفريقي يفهم أن قوة الفيل أكبر من قوة الإنسان ولهذا استطاع قتله، ولكنه يسأل بعد ذلك: لماذا كان هذا الإنسان هو المقتول ولم يكن إنسانا غيره؟ أليس هناك سر يرجع إلى تدبير ساحر، أو نقمة روح غاضب، أو مشيئة كائن مما وراء الطبيعة؟ وهكذا تلتقي الأسباب الطبيعية المعروفة بالأسباب المجهولة مما وراء الطبيعة، ولا يحس الإنسان السلامة من الكائنات المحجوبة بحال من الأحوال.
وقد تزول العقائد بانقضاء الزمن عليها، ولا يزول السحر وأسالبيه الموافقة والمضادة التي تلجئ الأفريقي من ساحر إلى ساحر؛ ليبطل رقيته، ويفسد مكيدته، فلا ملاذ عندهم من السحر إلا إلى سحر مثله أو أشد منه، ولا تعليل عندهم لمصيبة يبتلون بها إلا أن تكون من كراهية عدو يستعين بالسحرة، ويستمد قدرته على النكاية من الأرواح.
1 •••
وقد حاول الرحالون والباحثون في الأجناس البشرية أن يرجعوا بالاعتقاد في الأرواح إلى مصدر مفهوم، فلم يتفقوا على مصدر واحد، ولم يصلوا إلى قول متفق عليه يصلح لتفسير كل حالة، وتعليل كل عقيدة.
فمنهم من يرجع بعقيدة الأرواح إلى الأطياف التي يراها الهمجي في منامه، وإلى الأحلام التي يرى فيها أنه انتقل إلى مكان بعيد وهو لم يبرح مرقده في بيته، فيخيل إليه أن الأطياف تتحرك في الظلام، وتترك الأجساد إذا هدأت حركتها لتجول هنا وهناك حيث تشاء، وأن الذي يحدث في حالة النوم يحدث في حالة الموت، فيسكن الجسد ويبلى، ويتحرك الروح الذي فارقه بفراق الحياة.
صفحه نامشخص