لقد أبدع المتنبي ما شاء وأغرب، وأفصح عن الغرض وأعرب، فقلت للأقيشر ما يقارب هذا المعنى في نعت فرسه وهو قوله:
يجرى كما أختاره فكأنّه ... بجميع ما أبغيه منه عالم
رجلاه رجل واليدان يدٌ إذا ... أحضرته والمتن منه سالم
فصاح وقال: يا قوم أهذا شعر إنسان له مُسكة من عقل أو بُلغة من فضل؟ والله إن للمتنبي غلمانًا وأتباعًا أجلَّ من هذا البليد المجهول. من أي قبيلة هذا العاجزُ الذي تكلم بمثل هذا الفضول؟ فقلت: عافاك الله حديثنا في الإبداع لا في الأتباع، وفي الآداب لا في الأنساب.
ليس تغنى المتنبي جلالةُ نسبه مع ضعف أدبه، ولا يضرّه خلافُ دهره مع اشتهار ذكره، ولقد تأملت أشعاره كلَّها فوجدتُ الأبيات التي يفتخر بها أصحابه، وتُعتبر بها آدابُه من أشعار المتقدمين منسوخة، ومعانيها من معانيهم المخترعة مسلوخة، وإني لأعجب والله من جماعة يغلون في ذكر المتنبي وأمره، ويدّعون الإعجاز في شعره، ويزعمون أن الأبياتَ المعروفةَ له هو مبتدعها ومخترعها ومُحْدِثها ومفترعها، لم يَسبق إلى معناها شاعر، ولم ينطق بأمثالها باد ولا حاضر، وهؤلاء المتعصبون له المفتخرون باللُّمعَ التي يزعمون أنه أستنبطها وأثارها، والمعتدّون بالفِقرَ التي يدّعون أنه افتضَّ أبكارها، والمترنمون بأبيات سائرة يذكرون أنه أنفرد
بألفاظها ومعانيها، وأغرب في أمثلتها ومبانيها، والمتمثلون بها في مجالسهم ونواديهم، والمستعملون لها في خَلَواتهم وأغانيهم كيف لا يستحيون أن يقولوا بعصمته، ويتهالكوا في الدلالة على حكمته، وكيف يستجيزون لنفوسهم، ويستحسنون في عقولهم أن يشهدوا شهادة قاطعة، ويحكموا حكمًا جزمًا بأنها له غيرُ مأخوذة ولا مسروقة، وأن طرائقها هو الذي ابتدأ بتوطئتها غيرَ مسلوكة لغيره ولا مطروقة؟ فليت شعري هل أحاطوا علمًا بنصف دواوين الشعراء للجاهلية والمخضرمين والمتقدمين والمحدثين فضلًا عن جميعها؟ أم هل فيهم من يميز بين مستعملها وبديعها
1 / 22