قال الشيخ الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، المحدث أبو إسحاق، إبراهيم، برهان الدين، الناجي، الدمشقي، الشافعي، رحمه الله تعالى:
أما بعد حمد الله تعالى، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله وصحبه،
فقد تكرر السؤال: هل لأحد من أهل الجنة [فيها] لحية؟
والجواب:
أن الصحيح المشهور في الأحاديث الشريفة، الذي لم يثبت غيره، أن أهل الجنة يدخلونها ويكونون فيها جردا مردا، من غير استثناء أحد منهم أصلا.
صفحه ۱۷
وقد روى [ذلك] الإمام أحمد، والترمذي، وابن أبي الدنيا، والطبراني في معجمه ((الأوسط)) و((الصغير))، والبيهقي، وغيرهم، من حديث أبي هريرة.
ورواه أحمد والترمذي أيضا من حديث معاذ بن جبل.
ورواه ابن أبي الدنيا، والطبراني في ((الأوسط))، من حديث أنس بن مالك.
وذكره أبو الليث السمرقندي في ((تنبيهه)) مطولا بلا إسناد، من حديث ابن عباس، ولفظه:
((إن أهل الجنة شباب مرد جرد، ليس لهم شعر إلا في الرأس والحاجبين وأشفار العينين. قال: يعني ليس لهم شعر عانة، ولا شعر إبط، ولا لحية)).
صفحه ۱۸
وفي رواية للإمام أحمد -في سندها انقطاع- عن معاذ بن جبل:
((يبعث المؤمنون يوم القيامة جردا مردا)).
وقد ذكر ابن كثير في ((تاريخه))، وابن الملقن في ((شرحه للبخاري))، عن كعب الأحبار موقوفا:
((ليس أحد في الجنة له لحية إلا آدم عليه السلام، فإن له لحية)
سوداء إلى سرته، وذلك لأنه لم يكن له في الدنيا لحية)).
كذا أورداه ولم يتعقباه، وهو أشبه ما ورد في هذا الباب، مع أنه معارض بما ذكره صاحب ((مرآة الزمان)) عن وهب بن منبه، قال:
((كان لباس آدم في الجنة الظفر، يزداد كل يوم جدة وحسنا؛ فلما أخرجه الله من الجنة ألبسه الجلود والصوف. قال: وكان آدم أمرد فعوقب بإنبات اللحية)).
لكنه غريب منكر.
صفحه ۱۹
وذكر ابن قتيبة في ((المعارف)) عنه:
((أن آدم كان أمرد، وإنما نبتت اللحى لولده بعده)).
وهذا هو المعروف عنه وعن كعب كما سبق.
وكذا ذكره أبو الشيخ الأصبهاني في ((كتاب النوادر)) له، عن محمد بن كعب القرظي، قال:
((هبط آدم من الجنة بغير لحية، وإنما كانت اللحية لبنيه)).
وذكر حجة الإسلام الغزالي في آخر كتاب الطهارة من ((الإحياء))، أن اللحية زينة الرجال، وأن لله ملائكة يقسمون: والذي زين بني آدم باللحى.
قلت: ولفظ ((الفردوس)) وغيره.
((أن لله ملائكة تسبيحهم: سبحان من زين الرجال باللحى، والنساء بالذوائب)).
قال الحجة الغزالي: وهي من تمام الخلق، وبها يتميز الرجال عن النساء.
قال: وقيل في غريب التأويل: اللحية هي المراد بقوله تعالى: {يزيد في الخلق ما يشاء}.
قلت: وقد كان الأحنف بن قيس سناطا، أي: لا لحية له البتة أصلا، وهو الكوسج؛ فكان أهله وأصحابه يقولون: وددنا أن نشتري للأحنف لحية بعشرين ألفا.
صفحه ۲۰
وقال الغزالي: وقال شريح القاضي:
وددت أن لي لحية بعشرة آلاف. قال: وكيف تكره اللحية وفيها تعظيم الرجل، والنظر إليه بعين العلم والوقار، والترفيع في المجالس، وإقبال الوجوه إليه، والتقديم على الجماعة، ووقاية العرض، فإن من يشتم يعرض باللحية إذا كان للمشتوم لحية.
قال: وقيل إن أهل الجنة مرد إلا هارون أخا موسى، صلى الله
عليهما؛ فإن له لحية إلى سرته، خصيصا [له] وتفضيلا، انتهى كلامه.
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، في ((تفسيريهما))، والبيهقي في ((دلائل النبوة))، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق))، وغيرهم، من طريق أبي هارون العبدي -واسمه: عمارة بن جوين، بالجيم، مصغر، وهو متروك- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء المطول، قال:
((ثم صعدت إلى السماء الخامسة؛ فإذا أنا بهارون، ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء، تكاد لحيته تصيب سرته من طولها)).
صفحه ۲۱
وذكر أبو حفص الميانشي، وصاحب ((الفردوس)) -لكن لم يخرجه ولده في مسنده- عن جابر بن عبد الله مرفوعا:
((أهل الجنة مرد إلا موسى بن عمران، فإن له لحية إلى سرته)).
وكذا ذكره أبو القاسم الأصبهاني في ((تفسيره)) بغير سند، ولفظه:
((يدخل أهل الجنة [الجنة] كلهم يوم القيامة جردا مردا، إلا موسى بن عمران؛ فإن له لحية إلى صدره، ويدعى أهل الجنة بأسمائهم إلا آدم؛ فإنه يكنى بأبي محمد)).
قال: وفي رواية ابن عباس:
((فإن لحيته إلى سرته)).
وقال صاحب ((البحر)) القاضي أبو المحاسن الروياني في ((أماليه)):
أخبرنا الشيخ الحافظ أبو منصور محمد بن أحمد بن الخضر القزويني، قال: أخبرنا القاضي الشريف أبو عمر بالبصرة، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد، قال: حدثنا الحسن بن داود بن مهران، قال: حدثنا سويد بن الحكم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ليث، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
صفحه ۲۲
((أهل الجنة مرد كلهم إلا موسى صلى الله عليه وسلم ؛ فإن لحيته إلى صدره، وكلهم يدعى بأسمائهم، إلا آدم؛ فإنه يدعى بأبي محمد)).
فيه مجاهيل، وليث -هو ابن أبي سليم- صدوق فيه ضعف يسير من سوء حفظه، ثم اختلط ولم يتميز حديثه فترك.
وأخرج ابن جرير الطبري في ((تاريخه)) بسند ضعيف، من حديث ابن مسعود مرفوعا:
((أهل الجنة جرد مرد، إلا موسى -عليه السلام-؛ فإن له لحية تضرب إلى سرته)).
كذا نقله شيخنا قاضي القضاة ابن حجر في فتياه الآتية آخرا، ولم يبين وجه ضعف سنده.
وذكر الحافظ أبو أحمد بن عدي في كتابه ((الكامل في الضعفاء))، أن محمد بن أبي السري العسقلاني حدث عن شيخ بن أبي خالد الصوفي -وهو بصري متهم بالوضع- عن حماد بن سلمة بأحاديث منكرة بواطيل منها: عن حماد، عن عمرو بن دينار، عن جابر مرفوعا:
((أهل الجنة جرد مرد، إلا موسى فإن لحيته إلى سرته)).
كذا ذكره في ترجمة شيخ بن أبي خالد.
وقد لخصها الذهبي في ((ميزانه)) ثم قال بعدها:
صفحه ۲۳
((قال الحاكم: روى شيخ عن حماد [بن سلمة] أحاديث موضوعة في الصفات وغيرها))، انتهى.
وابن أبي السري -هو ابن المتوكل- من شيوخ أبي داود، حافظ رحال صدوق عارف.
وثقه ابن معين، وله أحاديث تستنكر وأوهام كثيرة. قال ابن عدي: كثير الغلط. وقال أبو حاتم الرازي: لين الحديث.
وقد ساق ابن الجوزي الحديث المذكور في كتابه ((الموضوعات)) من ثلاثة طرق:
الأول: من طريق الحسين بن إسماعيل المحاملي القاضي، قال: حدثنا أبو الوليد وهب بن حفص، قال: حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن جابر مرفوعا:
((ليس أحد من أهل الجنة إلا يدعى باسمه، إلا آدم؛ فإنه يكنى بأبي محمد. وليس أحد من أهل الجنة إلا وهم جرد مرد إلا موسى بن عمران، فإن لحيته تبلغ إلى سرته)).
صفحه ۲۴
والثاني: من طريق الحافظ ابن عدي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الغزي، قال: حدثنا محمد بن أبي السري، قال: حدثنا شيخ بن أبي خالد البصري، قال: حدثنا حماد بن سلمة، به.
ولفظه:
((يدعى الناس بأسمائهم يوم القيامة، إلا آدم، فإنه يكنى أبا محمد. وأهل الجنة جرد مرد، إلا موسى بن عمران؛ فإن لحيته تضرب إلى صدره)).
والثالث: ساقه أيضا من طريق ابن أبي السري، عن شيخ المذكور، ولفظه:
((أهل الجنة جرد مرد، إلا موسى بن عمران، فإن له لحية إلى سرته))، ثم قال:
هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما الطريق الأول: ففيه وهب بن حفص.
قلت: وهو منسوب إلى جده؛ فإنه: وهب بن يحيى بن حفص بن عمر.
صفحه ۲۵
قال ابن عدي: ويعرف بابن المحتسب البجلي الحراني. وقد اتهم بالوضع. قال بلديه الحافظ أبو عروبة الحراني: وهو كذاب يضع الحديث، ويكذب كذبا فاحشا.
وقال الدارقطني: كان يضع الحديث. وقد ذكر ابن عدي في مناكيره هذا الحديث.
قال ابن الجوزي: وأما الطريق الثاني والثالث ففيهما: شيخ بن أبي خالد. قال ابن عدي: حدث عن حماد بن سلمة بأحاديث مناكير بواطيل.
وقال ابن حبان: هذا موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشيخ بن أبي خالد كان يروي عن الثقات المعضلات، لا يحتج به بحال. ولما حدث ابن أبي السري عن شيخ بهذا، بلغ ذلك وهب بن حفص -وكان مغفلا- فسرقه وحدث به عن عبد الملك الجدي متوهما أنه سمع منه، انتهى.
وكذا ساق الحافظ ابن طاهر المقدسي في ((تذكرته)) حديث: ((ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد، إلا موسى بن عمران، له لحية إلى سرته))؛
والحديث الآخر: (ليس أحد -يعني في الجنة- يكنى إلا آدم، يكنى أبا محمد)، ثم قال:
صفحه ۲۶
الحديثان حديث واحد، وفيهما: وهب بن حفص، كان شيخا مغفلا، انتهى.
ثم قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
قلت: ووضع هذا الحديث وضع قبيح؛ لأنه لو كان [موسى] معظما باللحية؛ لكان نبينا أحق.
ثم إنه متى كان الناس على حالة؛ فانفرد واحد بغير حليتهم، كان ذلك كالعار عليه والشهرة له، فلا فائدة في ذلك. انتهى كلامه في ((الموضوعات)).
وسئل شيخنا حافظ عصره ابن حجر من مكة عن مسائل منها: حديث معاذ
في الترمذي في دخول أهل الجنة [الجنة] جردا مردا أبناء ثلاث وثلاثين سنة، وأن في بعض كتب الفارسية: أن لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ولأبي بكر الصديق [رضي الله عنه] لحية في الجنة، فما الحكمة في ذلك؟ وهل صح ذلك أم لا؟
فأجاب: لم يصح أن للخليل ولا للصديق لحية في الجنة، ولا أعرف ذلك في شيء من كتب الحديث المشهورة، و[لا] الأجزاء المنثورة. وعلى تقدير ورود ذلك؛ فيظهر [لي] أن الحكمة في ذلك:
صفحه ۲۷
أما في حق الخليل؛ فلكونه منزلا منزلة الوالد للمسلمين؛ لأنه هو الذي سماهم بهذا الاسم، وأمروا باتباع ملته.
وأما في حق الصديق: فينتزع من نحو ما ذكر في حق الخليل، فإنه كالوالد للمسلمين؛ إذ هو الفاتح لهم باب الدخول إلى الإسلام.
قال: لكن أخرج الطبري من حديث ابن مسعود بسند ضعيف، وذكر [الحديث] الذي قدمته في موسى، قال: وذكر القرطبي في ((تفسيره)): أن ذلك ورد في حق هارون أيضا.
قال: ورأيت بخط بعض أهل العلم أنه ورد في حق آدم عليه السلام، ولا أعلم شيئا من ذلك ثابتا، والله أعلم.
قلت: هذا جوابه بحروفه، لكن لا أدري أين ذكر القرطبي ما نقله عنه؛ فإنه لم يذكر من التذكرة سوى حديث جابر المساق أولا في حق موسى وعزاه إلى الميانشي. وكان ينبغي لشيخنا اطراح النقل الفارسي بالكلية، والاستراحة من تكلف توجيهه، شحا أن يتشاغل بباطل فاسد، أو يحمل من المتاع بائر كاسد!
وقد ذكرت ورود ذلك في [حق] أبينا آدم وموسى وأخيه هارون -عليهم الصلاة والسلام- وتكلمت عليه.
وهذا ما حضرني الآن نقله في ذلك، وإنه لكاف شاف واف، لا يوجد مثله مجموعا في غير هذا الجواب، ولا تحتمل الفتيا من البسط أكثر من هذا.
صفحه ۲۸
والحمد لله على جميع نعمه، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه.
قال مؤلفه رحمه الله تعالى ونفعنا به في الدنيا والآخرة:
قاله وأملاه خادم السنة النبوية، إبراهيم بن محمد بن محمود، الشافعي، الدمشقي، الملقب بالناجي، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه، بقوته وحوله، [ومنته وطوله].
تم كتاب: ((حصول البغية للسائل: هل لأحد في الجنة لحية))، على يد أفقر الورى إلى الله: عبد الله بن زين الدين بن أحمد البصروي، الشافعي، الأشعري، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه، نهار الاثنين، حادي عشر شهر شوال، أحد شهور سنة خمس عشرة ومائة وألف، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
صفحه ۲۹