حروف لاتینی
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
ژانرها
ألم يبلغك أن الجماهير لا عقل لها؟ أولم تقرأ عن «بيكون» فيلسوف الإنجليز أنه قال: «أخس ضروب الرياء مصانعة الدهماء»؟ أولم تقرأ ما أثر عن ذلك البطل الخطيب اليوناني من أنه إذا صفق له الجمهور وهو يخطب، التفت إلى من حوله قائلا: «ترى أي خطأ فرط مني؟» بل ما لي وللماضي البعيد؟ أولم تسمع من بعض الأحياء أن رجلا من خيرة أساتذة العربية هوسته السياسة فكلف بالمظاهرات، وبينما جمهور أرباب الحناجر يزفه عالي الهتاف، إذا بأحد الظرفاء يندس صائحا بكلمة حسنة الرنين قبيحة المدلول، فاستطاب الجمهور رنينها وطفق يرددها، وامتثل المزفوف الذي يفهم معناها، بعد أن لم يغن عنه صوته الذي بح من المعارضة ولكن أذابته حماسة الغوغاء؟
وإذن فأظنني لم أخطئ ما دامت تلك الجماهير من مخلوقات الله لم تصفق، بل تلقتني بالصفير، بهذا يقضى أيضا قياسا لمولانا أرستطاليس العظيم.
مخطئ؟ غير مخطئ؟ «
That is the question
هذه هي المسألة.»
وإنها لأحجية أعقد من ذنب الضب، ومشكلة غبراء عسراء بالغة في الاعتياص! فمن لي بحلها وإنقاذي مما يساورني، في صحة رأيي أو فساده، من الشك الأليم؟ رحماك اللهم! إذا كنت تدرك الأبصار فإنك سبحانك لا تدركك الأبصار، وقد حكمت بانقطاع وحيك بعد نبيك الكريم، فإلى من تكلني؟ إنه ليس أمامي في هذه الدنيا من أهل العلم الذين نصبوا أنفسهم للفتوى في مثل هذه البلوى إلا اثنان لا ثالث لهما؛ العقل والهوى. أما العقل فقد استضعفني واستوطأ حائطي فتسورها علي، ثم دلف نحوي وتزلف وداهن وألقى في روعي أنك خلقته من نور، فأنست به واصطفيته لنفسي، ثم هش وبش وتطامن وهز ذنبه متملقا، وأوهمني أنك أمرت الشيطان فقبض قبضة من حمأة آسنة منتنة، فخلقت منها الهوى والزئبق والحرباء، وأنك أودعت فيها خصائصها فاستبد الهوى بأخويه فكان جماع تلك الخصائص، فهو أثير طيار طياش، همزة لمزة، هراج هباج، لا حد لأفاعيله في الزمان ولا في المكان. وهو إذا تجسم كان زئبقا زلجا زلقا لا تمسكه اليد ولا تضبطه البنان، ولو أبصره مبصر لما ظفرت عيناه بطائل؛ لأنه حرباءة خنثى مشكل هلوك، تقلبت عبثا بين البعولة، ولما استيأست ارتدت عن مذهب أمها، وصبأت إلى عبادة الشمس، فعوقبت بالتهاويل في إهابها، فيها كل لون وليس لها لون.
هذا الكلام المعسول الطريف الظريف كره إلي الهوى، فلن أستفتيه أبدا ما حييت.
لم يبق لي بعد من أهل الفتيا إلا العقل، وها أنا ذا أرى أن ما قسمت لي منه فركنت إليه وصحبني كريما راضيا مرضيا، قد غرر بي في الساعة الأخيرة من صحبته التي امتد أجلها.
أرى هذا، وأرى ما أودعته منه في الناس قد أفلس، وقلت قيمته وكسد سومه، وأن التقول والتأفك والزور والبهتان، وهي من بنات الهوى، أصبحت هي الصائح المحكي، وليس لغيرها صوت ولا همس ولا صدى.
عفوك اللهم! أإلى هذا العقل المفلس الذي أضحى هو والهوى سيين في قرن، بل الذي طعنه الهوى في النوادي والمجتمعات فأسال دمه، وأقصاه عن مقعده ذات اليمين إلى مزجرة مستوبلة مستحقرة ذات الشمال، بل الذي تبلد واستخذى وسفه نفسه فحجر عليه المحتسب، وقتر عليه رزقه فهزل وبدت من هزاله كلاه، فسامه من شكوله كل مفلس؟ أإلى مثله تشاء إرادتك أن تكلني لحل معمى تلك الأحجية، وتقرير خطئي من صوابي؟! لا. لا. لا! إنك لأعدل من أن تريد بي هذا الشر المستطير، وأحكم من أن تكلفني توجيه وجهي في الاستفتاء والاستقدار والاستبصار إلى الجامدين من مفلسة العقول. •••
صفحه نامشخص