حروب دولة الرسول (الجزء الأول)
حروب دولة الرسول (الجزء الأول)
ژانرها
مكة والحصار
تمكن إذن النبي العربي
صلى الله عليه وسلم ، من تسكين أوضاع يثرب الداخلية، خاصة بعد إعطائه مركز الزعامة لسعد بن معاذ زعيم الأوس، حتى لا تحتسب عليه مظنة موالاة أخواله من الخزرج، بعد أن تمكن من تحييد زعيم الخزرج «عبد الله بن أبي بن سلول»، مما ربط الأوس بالدعوة وصاحبها، إضافة للارتباط القرابي للخزرج به. وبعد تحييد اليهود بالصحيفة، ومؤاخاة المهاجرين مع الأنصار، بدأ العد التنازلي للإجراء المقبل، وهو ما جاء في قصة ترويها كتب السير والأخبار، عن هبوط كبير الأنصار «سعد بن معاذ» إلى مكة، في رحلة تقول كتب السير إنها كانت - فقط - لأداء العمرة، حيث نزل ضيفا على صديقه «أمية بن خلف»، أحد أشراف قريش وسادتها.
فنزل سعد على أمية بمكة، وقال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة، لعلي أطوف بالبيت. فخرج به قريبا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ قال: هذا سعد. قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا، وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينوهم؟ والله لولا أنك مع أبي صفوان، ما رجعت إلى أهلك سالما. فقال له سعد - ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا، لأمنعك ما هو أشد عليك منه؛ طريقك على المدينة.
35
وهكذا كان الاختبار، وهكذا كان الرسوب، ورسب أحد كبار رجالات الملأ بجدارة؛ لأن تحريم أمن البيت وزواره، كان تأمينا لكل الملل والنحل، من أجل أمن التجارة وسيولتها وتدفقها مع زوار مكة، وكان تهديد أبي الحكم لسعد كبير عرب يثرب الجديد، إنما يعني أن قريشا قد بدأت تفقد أعصابها، ومع فقد الأعصاب تضيع المصالح، فقامت تهدد - بموقف أبي الحكم وتهديده لسعد - مصالحها التجارية كبلد اقتصادي مفتوح، بيدها.
أما الأمر الذي لا يفوت على لبيب، فهو الإنذار المتضمن في رد سعد لملأ مكة بما هو آت من حصار اقتصادي يقطع عليها الطريق إلى الشام. ولعل تلك العمرة التي أداها «سعد بن معاذ» - على الطريقة الوثنية، وطقوس الشرك، والتي لم يكن الإسلام قد أقرها بعد، ولم يكن قد طهرها من أدران الجاهلية وأصنامها - لم تكن مجرد مصادفة، خاصة إذا ما تذكرنا أن قبلة المسلمين كانت آنذاك إلى بيت المقدس.
وهنا نستكشف الأساس الرابع من الأسس التي قامت عليها الدولة، بعد الأسس الثلاثة المتمثلة في السلطة النبوية والسلطة السيادية الإلهية، وتكوين جماعة تضامنية أولى كنواة تأسيسية للدولة. ويظهر الأساس الرابع للدولة في تحول الجماعة الإسلامية إلى جيش متكامل؛ أي تجييش مادة الدولة، وتحويلها من مستضعفين مهاجرين إلى وحدة أو دولة عسكرية مقاتلة. والآن، لا يجب أن نفاجأ عندما نجد يثرب ترسل سراياها لقطع طريق الإيلاف. هذا ما يجب تذكره من أمرين كانا بداية الضغط على الملأ المكي، الأول هو منع يثرب قمحها عن مكة، أما الثاني فهو موادعة قبائل الساحل القديمة حول ميناء «الجار» على البحر الأحمر ليثرب، والذي كان يعرف أنه ميناء يثرب على البحر، ومنه تم منع شحنات القمح الوارد من مصر إلى مكة، ولم يبق سوى طريق الإيلاف الشامي خالصا لمكة، ومن ثم دهمت دوريات المسلمين هذا الطريق دون كلل، تتصدى للقوافل القادمة إلى مكة أو الآيبة منها، وهي الدوريات التي بدأت - محددة أهدافها - مبكرا، وقبل مضي سبعة أشهر على الهجرة؛ حيث خرجت أولى تلك الدوريات النشطة في سرية بقيادة «حمزة بن عبد المطلب»، لاعتراض عير لقريش، في ثلاثين مهاجرا، لكن السرية فوجئت أن قريشا كانت يقظة، فأردفت بقافلتها ثلاثمائة محارب بقيادة أبي الحكم نفسه، فتدخل «مجدي بن عمرو الجهني» ليحجز بينهما وينهي الموقف، واكتفت حراسة القافلة بالانصراف إلى سبيلها، بعد أن أقنعت المهاجرين باقتدارها، وكثرة عددها وعدتها.
ولم يمض شهر على سرية «حمزة»، حتى خرجت سرية بقيادة «عبيدة بن الحارث بن المطلب » إلى «بطن رابغ» بمقاتلين من المهاجرين، فالتقوا بقافلة لقريش، يبدو أنها كانت بدورها في حراسة جيدة، وهو ما يستنتج من عدم الاشتباك، واكتفاء السرية اليثربية برميها بالنبال عن بعد.
وبعدها بأيام خرجت سرية «سعد بن أبي وقاص» إلى الخرار، ليلحق بقافلة لقريش، ولم يتمكن من اللحوق بها، وكانت بدورها لا تحوي في مقاتليها سوى رجال من المهاجرين.
صفحه نامشخص