آزادی انسانی و علم: مسئله فلسفی
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
ژانرها
وها هنا نضع الإصبع على بؤرة الداء، فقد ضاعف من خطورة الأمر وقوة المقدمات المفضية إلى الاغتراب أن هؤلاء الرومانتيكيين المغتربين عمدا مع سبق الإصرار والترصد عن العقل - عن جوهر إنسانية الإنسان - اعتبروا أنفسهم المتحدثين الرسميين باسم الحرية، فكانوا بهذا إعلانا أشد وضوحا من شمس النهار عن الشيزوفرينيا: إما العقل وإما الحرية، إما العلم وإما العالم، وكانت للرومانتيكية خصوبة وفعالية في ميادين عدة، أهمها الفن والتاريخ وإنماء الشعور القومي، فتلقفتها الفلسفة المعاصرة بلهفة، وهي تتلقف بؤرة المرض لتزرعه في قلب الفكر في القرن العشرين خصوصا.
وإلا، فلنتساءل: من هم جند الصف الأول من جيش الحرية المستبسل في فلسفة القرن العشرين؟ أوليسوا الوجوديين ومعهم برجسون، لقد عهدناهم وإياه يطابقون بين الحرية وبين الوجود الإنساني، السابق على الماهية في الوجودية، فيدافعون عن الحرية دفاع الأبطال المستميت، ويقيمون دونها الحصون والقلاع، فلا يتطاول إلى عرشها المجيد لجاج العلميين السائرين إلى مآل العبيد المجبورين، تروس الآلة الكونية العظمى، وما البرجسونية والوجودية إلا ذروة المسار الرومانتيكي المغترب عن العقل: اللامعقول؛ لذلك نجد القاسم المشترك الأعظم بين كل بحوثهم الثرية الخصيبة الدافقة عن الحرية هو إنكار استطاعة العقل تفهمها واستيعابها وإثباتها أو إنكارها، وبالتالي استحالة تعريفها باعتبار أنها لا يمكن أن تكون موضوعية أو موضوعا، عند كارل ياسبرز مثلا: «وجود الحرية لا يندرج مطلقا تحت النظام العقلي الموضوعي»
49
طبعا أوليس حتميا ؟
إذن فالحتمية جعلت الحرية مرادفة للعفاريت، فهي التي لا تندرج مطلقا تحت النظام العقلي الموضوعي، واعتبر برجسون «الحرية مرادفة للتلقائية غير المعقولة، فالمعقول ينفي الحرية واللامعقول هو الميدان الأوحد لها»،
50
فهل أتى هذا اللامعقول من شيء إلا من معقولية العلم الحتمي؟! لذلك عمل برجسون «أولا على أن يتحرر هو نفسه من التصور العلمي الآلي قبل أن يعين لنا بعد ذلك طبيعة الحرية ومعنى الفعل الحر»،
51
فكأن الخلاص من بلوى العلم والعقلانية هو الخطوة السلبية الأولى والأساسية لأي حديث عن الحرية الإيجابية، أما السارترية التي تسلمت من البيرجسونية عرش الفكر الفرنسي في أواسط القرن العشرين، فقد بلغت لامعقوليتها مبلغا مأسويا مفجعا في الاغتراب، فأساس السارترية القطيعة «الانفصال» والتلاشي «العدمية»، يقول سارتر: «إذا كان السلب يأتي إلى العالم بواسطة الآنية، فهذه ينبغي أن تكون موجودا يستطيع أن يحقق قطيعة معدمة «انفصال ملاش» مع العالم ومع ذاته، وقد قررنا أن الإمكان المستمر لهذه القطيعة هو والحرية شيء واحد»
52
صفحه نامشخص