آزادی انسانی و علم: مسئله فلسفی
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
ژانرها
على أن عمق شيزوفرينية هؤلاء يتبدى حين نلاحظ بنظرة أعمق وأشمل أن الدعوى بالحتمية الكونية وبالحرية الليبرالية ليستا منفصلتين، كلا في مجال، بل هما متجادلتان تجادلا عميقا، وإن لم يلاحظوه هم أنفسهم، ذلك أنهم جميعا - منذ سبينوزا حتى هيجل وماركس - حين دعوا إلى الحرية على المستوى الثاني دعوا إليها «لأن العقلانية تفترض أن الرغبة في السيطرة على الناس يجب أن تختفي أو تقل فاعليتها في المجتمع الكامل للكائنات العاقلة، والحقيقة لا تناقض الحقيقة، وسائر الحلول تتسق معا في كل قابل للتعقل فإذا كان العقل أو العلم يحكم العالم، فلسنا في حاجة للقسر، والحياة المخططة تخطيطا سليما ستمنح الجميع حرياتهم وأساسها حرية التوجيه العقلاني للنفس، وسيغدو الأمر كذلك، فقط إذا كان النظام الاجتماعي سليما - أي لو كان من ذلك النمط الفريد الذي يشبه وحده دون سواه، كل دعاوى العقل، وستكون قوانينه هي القواعد التي يمليها العقل، وإذا لعب كل فرد دوره الذي يحدده له العقل، فلن يكون ثمة صراع وسيصبح كل إنسان حرا موجها لنفسه في هذه المسرحية الكونية»،
38
ولما كانت الحتمية أساس النظر إلى المسرحية الكونية ككل واحدي قابل للتعقل بقانون واحد أو قوانين واحدة، يمكن ملاحظة أنهم في طريقهم للحرية قد انتهوا إلى نفس بدايتهم للحتمية وليس هذا غريبا على التفلسف من حيث كونه تفكيرا لا بد وأن تتلاقى عناصره، في حين أنهم كانوا يعتقدون أن القضيتين منفصلتين، وهذا أيضا طبيعي، فلو أنهم كانوا على وعي بكل تلك الشيزوفرينيا لما تركوا أنفسهم نهبا لها.
كان هذا الموقف المتناقض مع الذات أو المنقسم عليها هو السمة المميزة لمفكري السياسة والاجتماع وفي الفلسفة الحديثة، فهل كان توماس هوبز منقذا للبشرية من هذه الشيزوفرينيا على أساس أنه نفى الحرية على المستويين؟ كلا لأنه بعد أن فعل هذا راح يثبت كل الحرية للملوك، بحيث لا نملك إلا أن نسأله بدهشة: من أين سيأتي الملك بكل هذه الحريات ما دام يعيش في العالم الحتمي؟ فكأن هوبز لم يكتف برفع الملوك فوق مستوى البشر، بل وأيضا فوق مستوى الطبيعة والعالم الذي يحيون فيه، لعل الاستثناء الواحد هو الاجتماعيون الفرنسيون، فقد رأيناهم محافظين ينفون الحرية على كل المستويات: الحرية الأنطولوجية والحريات السياسية والاجتماعية معا، بعزم وجزم واتساق نادر، بيهم أنهم - أولا - أتوا في ذيول العصر الحتمي والعلم الحتمي، بعد أن كانت الشيزفرينيا قد استشرت ولم يعد يجدي الرجوع، وثانيا: هم علماء واقعون - مهما فعلوا - في تناقض العلم ذاته بصدد الحرية، فماذا عن هذا؟ (18ج) ينفي العلم أولى مستويات الحرية، الحرية الأنطولوجية أو الميتافيزيقية، في حين أنه يصادر على الحرية من مستوى آخر، فليس مبالغة، الحكم بأن العلم هو الذي علم البشرية حقيقة، حرية العقل والفكر والعمل والقول، يتم البحث العلمي عبر مرحليات مفتوحة تنتهي إلى وضع النظرية أو القانون. «من هذه المرحليات المفتوحة، أمكن للفكر الإنساني أن يتخلص نهائيا من أية عبودية ذاتية أو موضوعية، فلم يعد التأمل الأرسطي هو الطريق للكشف عن القانون العلمي، كما لم تعد للسلطات الزمنية والروحية القدرة على التصدي لتيارات الحرية الفكرية الجارفة، هذه التيارات ما لبثت أن امتدت لتشمل - عدا عن الفكر العلمي - مختلف ميادين الفكر الإنساني، بحيث اتخذت من الحرية ذرائعية، للتصدي لأي اتجاه من شأنه أن يطمس الفردية في المذاهب الاجتماعية المختلفة».
39
هكذا كان العلم الحتمي محررا للمعرفة من سلطة الكنيسة وأرسطو وكل وأي سلطة، «فأخلاقياته تصون الحرية من عبث الدوجماطيقية ومن عدوان الاستبداد»،
40
وكانت الحرية دائما في مواجهة جميع المشكلات هي نفس قانون العلم، فبينهما - أي بين الحرية والعلم - وحدة لا تنفصم عراها،
41
وكما يقول العالم الحتمي ألبير باييه: «العلم متضمن لثلاث فكرات: الأولى: أن إقدام الفكر وجرأته الفاتحة هما صميم الكرامة الإنسانية، والثانية: أن الحرية هي الشرط الضروري لكل رقي، والثالثة: أن العلم طريقة لائتلاف العقول، إذ إنها جميعا تتقبل نتائجه، إذن فكرامة الذهن والحرية وائتلاف البشر، هي كلمات السر الثلاث لأخلاق العلم».
صفحه نامشخص