آزادی انسانی و علم: مسئله فلسفی
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
ژانرها
بمرور الأعوام بعد ديكارت، كان سلطان الحتمية العلمية يتعاظم، فيتعاظم الاهتمام بمشكلة الحرية؛ وتغدو هذه الثنائية شيزوفرينيا تستصرخ طلبا للعلاج ولا مجيب، حيث الحتمية العلمية سائرة من نصر إلى نصر أعظم، حتى أفضت بالشيزوفرينيا إلى ذروة ذراها بفلسفة النومينا والفينومينا عند كانط شيخ الفلسفة الحديثة وأمير فلاسفة العلم الحتمي والذي أكد استفحال مرض الشيزوفرينيا ووصوله إلى الحد الذي لا برء منه، وذلك بحماسة لكل من العالمين على قدم المساواة، بالعقلين العملي والنظري، فالعالم عالمان، والعقل عقلان! وكمثل العقل والمادة «ديكارت» والنومنيا والفينومينا «كانط»، ثمة الإرادة والتمثل «شوبنهاور» الأنا واللاأنا «فشته» العقلي والواقعي «هيجل»، الفكر والوجود، الروح والطبيعة، الذات والموضوع، العقل والعاطفة، النسبي والمطلق، الآلي والغائي ... إنها بعض من ثنائيات جمة دارت بين رحاها الفلسفة الحديثة في بحثها اليائس عن الحرية، كلها معا تجمعها بوتقة واحدة، إنها الثنائية الأم والأصل والأساس: الحتمية العلمية والحرية الإنسانية.
صيحة فاوست: روحان يقطنان في صدري،
يناضل كل للتخلص من توءمه.
35
ينقلها فالتر كاوفمان في مقدمة كتاب شاخت، «للتعبير عن الانقسام الذي هو مؤشر للاغتراب؛ إذ يحول دون شعور المرء بالتوافق مع ذاته، حيث إن كل روح ينظر إلى الآخر باعتباره غريبا»،
36
وأحسب أن هذه الصيحة تعبر عن مشكلة الحرية الإنسانية والعلم أكثر وأعمق من تعبيرها عن الوارد في مقدمة دراسة شاخت. (18ب) ولكن هل يمكن القول إن هذه الشيزوفرينيا ظاهرة جزئية مقصورة على العقلانيين التنويريين الذين أرادوا أن يجمعوا المجد من طرفيه، فيقرون بعقلانية العقل ومشروعية العلم، وفي الآن نفسه بحرية الإنسان، بحيث نفذ منها الفلاسفة الأقل طموحا والأكثر واقعية: الذين نفوا حرية الإنسان الأنطولوجية، وعلى رأسهم سبينوزا، وفي زمرتهم هوبز ولوك هيوم وفولتير وجون سيتوارت مل ... وسائر الفلاسفة المخلصين للنزعة العلمية؟ كلا ليس الأمر كذلك، فمن عجائب الأمور أنهم بعد أن نفوا الحرية الأنطولوجية أي الحرية على المستوى الأول باسم الحتمية العلية، وبهدف توحيد النظرة العقلية وعدم الانقسام على النفس، قد وقعوا في الشيزوفرينيا من مهوى آخر، حين عادوا ليدافعوا بحماس لا يجاريهم فيه أحد عن الحرية على المستوى الثاني، أي الحريات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والشخصية ...
ومن المعلوم كيف كان الحتميون العظام - خصوصا سبينوزا وفولتير ومل - من أعظم أبطال هذه الحريات في تاريخ البشر، كتاب سبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» وكتاب مل «الحرية» معالم بارزة في تاريخ الحرية، الأول حرية الفكر والثاني الحرية السياسية، هذا على الرغم من أن سبينوزا فيلسوف الحتمية الأول بغير منازع، ومل أول من دعا لإخضاع العلوم الإنسانية والاجتماعية لمبدأ الحتمية العلمية، يؤازره في هذا صديقه الفرنسي أوجست كونت الذي تمكن من إنجاز المشروع، أما فولتير فاسمه مرادف للدفاع المجيد عن الحريات الشخصية والدينية والاجتماعية والسياسية، وهو في الآن نفسه قد «أنكر أية حرية ميتافيزيقية وكان معنيا أساسا بنصرة العلم في صراعه مع الكنيسة، وانحاز بكل ثقله للعلم».
37
إنهم بتناقضهم بصدد مستويي الحرية: نفي الأول وإثبات الثاني، يناقضون أنفسهم تناقضا صارخا يكشف عنه التساؤل البسيط: ما دامت كل أحداث الوجود متسلسلة لا بد وأن تحدث حتما منذ أن حدث أولها، فما جدوى أن يكتسب الإنسان أيا من هذه الحريات الوضعية أولا ويكتسبها؟ فمثلا، جون ستيوارت مل في نظريته الليبرالية عن الحكومة النيابية، قد عارض بشدة النظرة الطبيعية في التنظيمات الشعبية أي التي تراها تنمو من تلقاء نفسها، وأكد مل أن هذه التنظيمات لا تأتي إلا كصنيعة للإنسان وأنها مظهر اختياره، أفلا يتناقض هذا مع دعوته الرائدة بإخضاع كل ظواهر الإنسان للمنهج العلمي التجريبي الكاشف عن حتميته النافي لأية حرية أو اختيار أمام الإنسان؟
صفحه نامشخص