وخفف الله عن الرجل القاذف لزوجه، وشرع له مخلصا عن الحد باللعان؛ لاحتياجه إلى دفع ولد الزنا عنه، وقطع نسبه الفاسد منه، ولأن الغالب من حال الرجل مع امرأته أنه لا يقذفها إلا عن حقيقة، إلا أن شهادة الحال وحدها لا تكفي في صحة ما يدعيه عليها، فأضيف إليها ما يقويها من الأيمان؛ قال تعالى:
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .
ولما كان الشاهد بالزنا يلتبس أمره بالقاذف شديدا، فربما ينوي الرجل قذف آخر، فيرميه بالزنا في صورة الشهادة عليه، والذي هو شاهد حقيقة قد يدفعه المشهود عن نفسه، ويزعم أنه قاذف يستحق العقوبة أقام الشارع فرقا فاصلا بينهما، فاشترط في صحة الشهادة على الزنا أربعة عدول، فإن القاذف يتميز عن الشاهد بوصفين: التهاون بأمر الدين، والغل الواغر في صدره بالنسبة للمقذوف، ومن البعيد اتفاق هذين الوصفين في جماعة من المسلمين عرفوا بالعدالة، فإذا لم يتم نصاب الشهادة التحق الشاهد بالقاذف، وأجري الحد عليه.
وكثير من أحكام الشريعة ما هو مبني على مبدأ صيانة الأعراض كرعاية الكفاءة في الأزواج؛ فإن اقتران المرأة بمن هو أدنى منها حسبا وأخفض منها حالا لا يخلو عن حطة في العادة يشملها عارها، ثم يمتد إلى وليها وذوي قرابتها، ويعرض بولدها لأن يلاقي من عشيرته مقتا وهوانا، قال الشاعر العربي:
وإن ابن أخت القوم مصغى إناؤه
إذا لم يزاحم خاله بأب جلد
ويؤثر عدم الكفاءة في المعاشرة بين الزوجين شغبا واضطرابا بسبب فخار المرأة وتطاولها، وربما نزع من يد الزوج سلطته التي يحوط بها عفتها، ويصون بها كرامتها، لإباية النفوس طبيعة من الطاعة لمن هو دونها مدنية وآدابا.
الحرية في الدماء
ينظر العمرانيون إلى الأمة التي تجمعها رابطة، فيشاهدونها في صورة جسم واحد، وأفرادها هي أعضاؤه المتلاصقة، وليس سفك دم الفرد منهم إلا كالفصد لعرق من عروقها واستفراغ دمه الذي هو بضعة من حياتها، والقصاص من القاتل وإن كان فصدا لعرق ثان من ذلك الجسم العظيم، إلا أنه بمبضع طبيب عارف يخشى أن يسري دمه الفاسد إلى غيره من الأعضاء، فيحدث فيها مرضا عضالا، قال تعالى:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ؛ لأن القصاص يكف يد العالم به عن إراقة الدماء ونهب الأعمار موافقة لداعية الهوى والضغائن الواغرة في الصدور، فيكون سببا لحياة نفسين في هذه الناشئة، ولأن العرب كانوا يقتلون غير القاتل أحيانا، فإذا قتل عبد أو امرأة من قبيلة، وكانت القبيلة ذات شوكة وحمية لا ترضى إلا أن تقتل في مقابلة العبد حرا، والمرأة رجلا، وربما قتلوا جماعة بواحد، فتهيج الفتنة، وتشتعل بينهم حرب البسوس، فإذا كان القصاص مقصورا على القاتل فاز الباقون بالحرية في حياتهم واطمأنوا بها.
صفحه نامشخص