على أني وقفت من مادة الفصل الثاني وقفة متأملة طويلة، بادئا من عنوانه؛ لأن عنوانه هو: «نثر العالم». إذن ففكرة الشعر والنثر كانت تستولي على الكاتب وهو يكتب، مع أن الفرض هو أن لا علاقة لموضوع الكتاب بالفن الأدبي؛ لأنه - كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب - «أركيولوجيا العلوم الإنسانية»، والأركيولوجيا هي علم الحفريات الذي يستخرج من طبقات الأرض دفينها من مخلفات الحضارات الماضية، وهدف المؤلف من كتابه هذا أن يحفر في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، ليستخرج من ثناياها تلك العوامل - الظاهرة أو الخافية - التي أخذت تتضافر حتى جعلت من «الإنسان» آخر الأمر موضوعا للعلم، بعد أن لم يكن قط كذلك على مدى عصور التاريخ؛ فكما يبدو من هدف المؤلف، لا مجال لشعر وشاعر؛ إذ الميدان هو من شأن العلم والعالم، أو هكذا ظننت أنا قبل أن أقرأ هذا الكتاب.
أقول إني أطلت الوقوف المتأمل عند فصل عنوانه «نثر العالم»؛ فلقد عرض فيه الكاتب للروابط المختلفة التي تصل الكائنات بعضها ببعض، وصلا يجعل منها كونا واحدا موحدا، وكأننا بإزاء أسرة واحدة تعدد أفرادها، لكن ربطتهم روابط الدم التي لا تنفصم؛ وهو يختار من هذه الروابط الكونية أربعة أنواع، كلها ضروب مختلفة من التشابه الساري بين مختلف الكائنات برغم ما قد نتوهمه فيها من تباين وخلاف؛ ويقول لنا المؤلف عن هذا التشابه الذي سيأخذ في تفصيله، إنه كان المحور الرئيسي للفكر الأوروبي كله منذ قديم وحتى القرن السادس عشر، أو قل حتى أوائل السابع عشر، فهل تستطيع أن تقرأ هذا دون أن يرتفع حاجباك تعجبا: كيف كان ذلك؟ لكن المؤلف لا يدعك في دهشتك طويلا؛ إذ يسوق لك بعض الأمثلة الموضحة، منها تأويل الكتاب المقدس وشروحه، وقد كان لهذا بالطبع أهمية قصوى في العصور الوسطى؛ فتأويل النص أو شرحه كثيرا ما يقوم على ذكر الأشباه والنظائر، فما التأويل إلا أن تستخرج من الجملة معنى باطنا غير المعنى الظاهر، لكن بينهما تشابها (هذا التوضيح من عندي؛ لأن المؤلف لم يوضح ما يريده)، وكذلك كان التشابه محورا رئيسيا قبل القرن السادس عشر، في كل ما لجأ إليه الإنسان من رموز استخدمها ليرمز بها إلى ما أراد الرمز له، فلماذا يختار رمزا معينا لشيء معين، إلا أن يكون بين الطرفين تشابه يراه؟
ثم كيف كان فن التصوير حينئذ إلا أن يجيء محاكاة للكائنات التي يصورها، والمحاكاة لا تكون إلا بين الشبيه وشبيهه؛ وماذا كانت تطمح إليه اللغة أكثر من أن «تصور» ما أرادت التحدث عنه، والتصوير إن هو إلا إبراز الشبه بين الصورة وما تصوره؟ بل إن الأرض كلها في عين الإنسان - كما يقول المؤلف - إنما هي ترجيع للصدى بعد أن جاءها الصوت من السماء، ووجوه الناس ترى أنفسها منعكسة على مرآة النجوم؛ فلكل نجم نفر من البشر يسيطر عليه، وانظر ما يستمده الإنسان من نبات الأرض، فله في جذوع النبات وثماره طعام ودواء، وهل كان ذلك ليكون ما لم يكن هنالك تشابه ما بين نبات وإنسان؟
وبعد أن يطمئنك المؤلف على ما قد زعمه، من أن التشابه بين الكائنات كان هو الأساس الأول لمعرفة الإنسان، حتى القرن السادس عشر، يبدأ في تفصيل القول عن أنواع أربعة منه: أولها التجاور بين تلك الكائنات تجاورا يجعل أطرافها يلتحم بعضها ببعض، أو يتداخل بعضها في بعض؛ فنهاية الواحد منها هي نفسها بداية الآخر، وبسبب هذا التجاور اللصيق، تتنقل الحركة من الجار إلى جاره، وينتقل الأثر والتأثير.
وليس هذا التجاور مقصورا على الأجسام المادية من الظاهر، بل إنه قد يضرب إلى ما وراء ذلك، وخذ مثلا لهذا تجاور الروح والبدن، وما يترتب عليه من تأثر كل منهما بالآخر؛ فالروح يتشكل بشكل الجسد ليلائمه، ويتلقى منه الحركة، والجسد يتأثر بما تنفثه الروح في جوارحه من انفعال وعاطفة؛ ومثل هذه العلاقة الوثيقة بين الروح والبدن، تراه في جميع الروابط التي تشد الكائنات بعضها إلى بعض، مؤثرة ومتأثرة؛ وانظر - مثلا - إلى العلاقة بين النبات والحيوان كيف يحيا كل منهما في الآخر ، أو انظر إلى اليابس والماء، أو إلى الإنسان وكل ما يحيط به من أرض وسماء؛ ألا إن الكائنات ليتداخل بعضها في بعض تداخلا يجعل الطحالب تنمو على قواقع البحر، كما يجعل النبت ينمو على قرون الوعول، وبمثل هذا التواصل الحميم، تترابط الأشياء والأحياء في هذا الكون الفسيح، فينتج من ترابطها ما يشبه حلقات السلسلة، كل حلقة منها فيها شبه بما قبلها وشبه آخر بما بعدها، حتى إذا ما بعدت الشقة بين الطرف الأول والطرف الأخير، كان هنالك بينهما من التباين الظاهر بمثل ما يكون التباين بين الله سبحانه خالق الخلق، ومادة الأرض بما عليها من أجساد.
إن عالم النبات مرتبط بمادة الأرض، ثم هو من الطرف الآخر مرتبط بعالم الحيوان بما بينهما من جانب مشترك هو الاغتذاء والنمو، وأما عالم الحيوان فيعود بدوره من طرفه الآخر فيرتبط بعالم الإنسان، بما بين العالمين من جانب مشترك هو الحس والحركة؛ وبعدئذ يعود الإنسان فيرتبط من طرفه الآخر بأفلاك السماء - أو قل بعالم الملائكة - لما بينهما من خاصة العقل؛ والكون كله على هذا التصوير هو كالحبل الممدود، أو كالشعاع الضوئي الواحد يسري من أعلى عليين إلى أسفل سافلين.
ذلك الترابط بين الكائنات، هو النوع الأول من أنواع التشابه الأربعة التي عرضها ميشيل فوكوه؛ فكيف أقرأ ذلك ولا يحضرني ما كتبه إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي، وهاك نص ما كتبوا في هذا المعنى: «الموجودات مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها، كترتيب العدد ... بيان ذلك أن المعادن متصلة أوائلها بالتراب وأواخرها بالنبات، والنبات متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة ... وأما أواخر المعادن مما يلي النبات (أي مما يسبق النبات مباشرة) فهو الكمأة والفطر وما شاكل ذلك؛ وذلك أن هذا الجنس من الكائنات يتكون في التراب كالمعدن، ثم ينبت ... كما ينبت النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة، ويتكون التراب كما تتكون الجواهر المعدنية وعلى أشكالها، صار يشبه المعادن من جهة، ومن جهة أخرى يشبه النبات ... وأما النبات، فأقول: إن هذا الجنس من الكائنات متصل أوله بالمعدن، وآخره بالحيوان ... والنخل آخر مرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أفعاله وأحواله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتيا؛ بيان ذلك أن القوة الفاعلة فيه منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث ... وأيضا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها وماتت ... وأول مرتبة من الحيوانية متصلة بآخر النبات ... فأدون (أي أقل) الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط، وهو الحلزون ... وليس لها (أي الدودة التي تسمى بالحلزون) سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلا اللمس فحسب ... لأن الحكمة الإلهية لا تعطي الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة ... فهذا النوع (أي دودة الحلزون) حيوان نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما، وهو من أجل أنه يحركه حركة اختيارية حيواني، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة ... وأدون رتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات ...» (راجع الجزء الثالث من رسائل إخوان الصفا - من الرسالة الرابعة والثلاثين، وهي رسالة في أن العالم إنسان كبير).
2
كان هذا التجاور الذي تتلاقى به الكائنات ويلاصق بعضها بعضا، أحد الروابط الأربعة التي اختارها ميشيل فوكوه ليفسر بها وحدة الكون العظيم في كيان واحد، وأما الرابطة الثانية فهي ما أسماه بالتناظر، قاصدا به تكرار الشيء الواحد في أكثر من صورة، كأنما هو ينعكس على أسطح المرايا الموضوعة لها هنا وهناك في جنبات الكون، وذلك دون أن تتماس الصور؛ فهو تشابه على مبعدة بين الأشباه، وهذا التناظر قائم بين الإنسان من جهة والكون بأكمله من جهة أخرى؛ فبينما الكون إنسان أكبر، يمكن القول عن الإنسان بأنه كون أصغر؛ إذ إن كليهما متناظران، في الإنسان ما في الكون من عناصر وعلاقات، وفي الكون ما في الإنسان من عاطفة وعقل؛ ولا عجب أن يقال إن الله قد خلق الإنسان على صورته.
ويسوق المؤلف أمثلة عجيبة لهذا التناظر بين الإنسان والكون، يبتكرها من عنده ابتكارا، أو يستعيرها من سواه: فالعينان في وجه الإنسان هما المقابلان للشمس والقمر؛ والفم في وجه الإنسان يقابله في السماء كوكب الزهرة، ووجه التقابل هنا هو الحب الذي تعبر عنه الكلمات والقبلات! ... وهكذا يمضي الكاتب في أمثلته الغريبة، ليقول آخر الأمر إن العالم يكرر نفسه على المرايا التي يعكس بعضها بعضا، لكي تزول الفواصل الحاجزة بين الكائنات، وإن هذا التناظر بين الأشياء ليشتد أحيانا حتى ليتعذر علينا أن نعرف أين الأصل وأين صورته، كأنما الأشياء المتناظرة توائم يصعب التفرقة فيها بين توءم وتوءم.
صفحه نامشخص