محاولة لترجمة شعر العقاد
وأما الخبرة الثانية التي أشرت إليها، فكانت حين أردت (في الأربعينيات وأنا في إنجلترا) ترجمة شيء من شعر العقاد، وكان ذلك أول الأمر في مناسبة ثقافية اقتضت أن أعرض على الناس نموذجا من الوجدان العربي الجديد، فترجمت شعر العقاد شعرا إنجليزيا، فعرفت بالمعاناة كيف أن الأمر هنا يحتاج إلى شيء من الهضم وإعادة التشكيل.
إن مترجم الشعر لا غنى له عن تقمص الشاعر الذي يترجمه في لحظات إبداعه الشعري، لتجيء الترجمة حاملة الشروح نفسها التي بثها الشاعر في شعره، فلا علينا بعد ذلك أن يتغير اللفظ من أصل إلى صورة، وفي هذه المناسبة من الحديث أذكر أنني - منذ نحو خمسة عشر عاما - وقد كنت حينئذ عضوا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة، وكان مقرر اللجنة هو العقاد ، وأردنا أن ننهض بمشروع ترجمة مختارات من الشعر العربي إلى لغات أوروبية مختلفة، ونيط بي أمر الترجمة إلى الإنجليزية فعن لي أن أتصل بالشاعر «أزرا باوند» وهو في منفاه في إيطاليا أيامها، واستطعت الحصول على عنوانه. والمعروف أن «أزرا باوند» ترجم إلى الشعر الإنجليزي شعرا شرقيا من اليابان والصين، فأرسلت إليه أعرض عليه أن نرسل إليه صورة نثرية دقيقة لما نريد ترجمته من الشعر العربي إلى شعر إنجليزي، ليضطلع هو بصياغتها في شعر إنجليزي، فأرسل الرجل إلي يوافق من حيث المبدأ، ولكنه يشترط أن نسجل له الشعر العربي المراد ترجمته على شرائط، ليسمعها وهي مقروءة بالعربية، حتى يمتلئ بالنغم العربي قبل أن يترجم، ضمانا لدقة النقل الأدبي من لغة إلى لغة.
إن أمانة الترجمة في الشعر لا يقصد بها دقة التوافق والتطابق بين نص لغوي ونص لغوي آخر، بل يقصد بها قبل ذلك وبعد ذلك دقة التلاؤم عند المترجم بين الترجمة ونفسه، فما ليس له في نفسه صدى، يستحيل أن تجيء ترجمته شعرا كما كان في أصله شعرا؛ فالترجمة في الشعر هي أشبه شيء بالتصوير الفوتوغرافي عندما يكون المصور فنانا، لأننا نستطيع القول إن هناك ثلاث درجات في التصوير: التصوير الفوتوغرافي الصحفي - إذا صح هذا التعبير - يتلوه التصوير الفوتوغرافي الفني، ثم يتلوه التصوير الفني الذي ليس له أصل يراعيه؛ ففي ترجمة الشعر يكون أمامنا أصل لا بد من مراعاته، لكننا في الوقت نفسه إذ نراعيه ونأخذه في الاعتبار الأول، لا نتقيد بتفصيلاته ما دمنا نحافظ له على روحه وجوهره، إن مترجم الشعر إنما يضع لنا طريقة استجابته للشعر الذي يترجمه، ولا يهمه أن يضع لنا صورة طبق الأصل منه، وهذه هي «الأمانة» المطلوبة في هذه الحالة فهي ليست الأمانة الشكلية المتحجرة المقيدة، ولكنها الأمانة بعد أن دبت فيها الحيوية حتى لا تكون القطعة المترجمة كالجثة الهامدة، ولقد قال في ذلك فتزجرولد - مترجم الخيام إلى الإنجليزية - قال في ذلك: «إن لم تكن ذاكرتي قد أخطأت نسبة القول إلى قائله: إنني أوثر عصفورا حيا على نسر محنط.»
ونعود بعد هذه السياحة الطويلة في ترجمة الشعر، إلى موضوعنا الأصلي:
رءوس ثلاثة
كيف نعيش بماضينا في حاضرنا؟ والآن أقدم الجواب: إننا نفعل ذلك بمثل ما يعيش مترجم الشعر قصيدة الشاعر الأصلي ولكنه يعيشها في لغته هو التي يترجم إليها، حاول أن ترسم لنفسك هيكلا تخطيطيا عاما للحياة عند أسلافنا، فكيف تراها؟ أما أنا فأراها حياة تتركز أساسا في رءوس ثلاثة: خليفة وفقيه وشاعر، وبعد ذلك تجيء مناشط الناس من تجارة وصناعة وملاحة بالبحر وانتقال في البر وحروب ... إلخ إلخ، لكن الأقطاب التي تدور حولها الرحى هي هؤلاء، فكيف نترجم هذا الهيكل ترجمة شعرية؟
لم تعد رئاسة الحكم إلى خلافة، ولكنها - إذا سايرت عصرنا - رئاسة تعتمد على جماعة من الفنيين في مناحي الحياة؛ فهم مهندسون واقتصاديون وزراعيون وما إلى ذلك، وليس هذا التغيير مقتصرا على الشكل، بل هو ضارب إلى الجذور؛ لأنه إذا كان الخليفة بغير حاشية من التكنوقراطيين، فهؤلاء التكنوقراطيون اليوم بغير أبهة الخلافة، فالأمر هنا أمر علم وتطبيقه، وليس العلم في حياة عصرنا «متبجحا» كما قال الكاتب العربي الذي أشرت إليه في أول المقال، بل هو من حياتنا اليوم في صميم الصميم، أو ينبغي أن يكون كذلك.
كان الخليفة وإلى جانبه الفقيه يعملان معا على ضبط السلوك ضبطا ترضى عنه قواعد الإسلام، وهذا شيء كان ولا بد أن يكون وأن يظل كائنا، لكن الذي يتغير في «الترجمة» الحضارية هو أن وظيفة «الحكومة» لم تعد محصورة في هذا الإطار، بل امتدت لتشمل كل نواحي النشاط البشري من اقتصاد إلى صحة وتعليم، إلى تنظيم وسائل التسلية في أوقات الفراغ، وأن امتداد نطاق الحكومة إلى هذا المدى الشامل، ليطرد اطرادا دقيقا في عصرنا مع غزارة العلم وما يصحب العلم من تقنيات.
الفنون بمعناها الحديث
صفحه نامشخص