ولنبدأ بعلم الفيزياء؛ فقد كانت الخلفية التي يقوم عليها حتى القرن التاسع عشر، هي وجهة نظر نيوتن، التي فسرت كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة بالمادة والحركة، فما عليك إذا أردت لأية ظاهرة تعليلا كافيا، إلا أن تحسب وضع كيانها المادي من جهة، والعوامل التي حركتها من خارجها من جهة أخرى، فإذا عرفت الوضع الراهن لأي جسم - كجرم من أجرام السماء مثلا - وعرفت حساب المؤثرات الخارجية التي تحركه، عرفت بالتالي كل شيء عنه الآن، وفي أية لحظة زمنية مضت، وفي أية لحظة زمنية سوف تأتي؛ بعبارة أخرى، فإنك تستطيع التنبؤ الرياضي الدقيق بكل ما سوف يحدث في كل لحظة مستقبلة، كما تستطيع الحساب الرياضي الدقيق لكل ما قد حدث في الماضي؛ فلست بحاجة - من أجل العلم الكامل بظواهر الطبيعة - إلى شيء أكثر من وضع الجسم والعوامل التي تحركه من خارجه.
وجاء القرن الحالي بما بين يديه من معرفة أنتجها له القرن الماضي، وغير تلك الصورة النيوتونية تغييرا تناولها من أساسها؛ فأولا: لم تعد «المادة» هي ذلك المعطى البسيط الذي تصوره نيوتن، بل أصبحت المادة مركبا ذريا من كهارب دائبة الحركة في أفلاكها؛ أي إن المادة لم تعد شيئا سلبيا سكونيا ينتظر الدوافع المحركة لتأتيه من خارج ذاته، بل أصبحت المادة طاقة حركية دينامية متحركة بطبيعتها؛ وثانيا: لم يعد في حدود الإمكان أن نحسب للجسم المعين وضعه وحركته في آن واحد؛ لأنك إذا حصرت انتباهك في وضع ذرة معينة، فاتتك حركتها، وإذا حصرت انتباهك في حركتها فاتك وضعها؛ ومعنى ذلك أنه لم يعد في حدود المستطاع ذلك الحساب التنبؤي الرياضي الدقيق الذي ظنه نيوتن، وبات أمر العلم الفيزيائي مرهونا بأرقام إحصائية تخرج المتوسطات، وبالتالي فحقائقه احتمالية لا تعرف اليقين الرياضي المزعوم لها؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه لما كانت حركة كهارب الذرة الواحدة تلقائية، يتعذر التنبؤ بها قبل وقوعها، فإن ذلك يفسح المجال واسعا أمام فكرة الحرية في الطبيعة، لتحل محل الجبرية الحاسمة التي افترضها نيوتن من قبل، فلو كانت الطبيعة وظواهرها في ظل فيزياء نيوتن أشبه بالآلات التي تدور تروسها وعجلاتها سيرا على طريق مرسوم معلوم ومحسوب، فقد أصبحت الطبيعة وظواهرها على ضوء العلم الفيزيائي الجديد أشبه بالكائن الحي الذي يتحرك من داخله، حركة لا هي مرسومة له بدقة الرياضة، ولا هي معلومة علما كاملا قبل وقوعها، واختصارا، فبعد أن كانت الطبيعة سكونية أصبحت دينامية متطورة، وبعد أن كانت مطلقة أصبحت نسبية.
ونترك علم الفيزياء لنلم إلمامة سريعة بالتحول العميق الذي طرأ على العلوم الرياضية، وفي صحبتها علم المنطق؛ فلقد كان السائد قبل القرن الماضي، عن الرياضة أنها ذات علاقة بالحقيقة في مجال الطبيعة؛ أي إن تلك صورة كمية لهذه؛ فحدث خلال القرن الماضي - على أيدي أعلام بارزين في مجال العلوم الرياضية وفي مجال علم المنطق - أن استطاعوا بتغييرهم لبعض المسلمات التي أقام عليها إقليدس بناءه في علم الهندسة، بمسلمات أخرى، فتغيرت بالطبع النتائج المترتبة عليها؛ أعني النظريات الهندسية؛ فها هنا تنبه العقل الإنساني إلى حقيقة لعلها من أهم الحقائق العلمية في هذا العصر كله، وهي أن البناء الرياضي إنما يحكم عليه بالصواب، لا على أساس أنه يصور الطبيعة وكائناتها، بل على أساس داخلي في ذلك البناء نفسه، وهو أن تكون النتائج مستنبطة استنباطا سليما من مقدماتها، ولذلك فإنه من الممكن إقامة عدة بناءات رياضية، كل منها يكون صحيحا في ذاته، دون أن ندري أي تلك البناءات يمكن تطبيقه على الطبيعة وأيها لا يمكن.
ولما كان الفكر الإنساني كثيرا جدا ما يبني مذاهبه على هذا الأسلوب الرياضي نفسه، أي أن يفرض لنفسه فروضا يسلم بصوابها، ثم ينتزع منها نتائجها، حتى يتكامل له بمجموعة تلك النتائج وفروضها مذهب فكري موحد، أقول إنه لما كان الفكر الإنساني كثيرا ما يبني مذاهبه على هذا الأسلوب، تبين في جلاء - على ضوء ما حدث لعلوم الرياضة نفسها - أنه في حدود الإمكان أن تقام عدة مذاهب فكرية وعقائدية، كل منها صحيح بالنسبة لنفسه لكن صحته هذه لا تنفي صحة المذاهب الأخرى كذلك وللإنسان بعد ذلك أن يختار من تلك المذاهب ما يحقق له أهدافه.
وصحب التطور الذي حدث في مجال الرياضة البحتة، تطور مشابه في علم المنطق؛ فلقد كنا قبل ذلك نجري على سنن المنطق الأرسطي، الذي إن صلح للأفكار الكيفية الغامضة، مثل إنسان وحياة وخلود وفناء ... إلخ، فلا يصلح للأفكار الكمية الدقيقة؛ ولذلك فقد بات مطلوبا لنا منطق تحليلي رياضي، لنعالج به الأفكار التي من هذا القبيل، معالجة تفتت الواحدة منها تفتيتا لتعري أجزاءها وعلاقاتها بغيرها وهكذا، مما يؤدي بنا إلى فكر علمي فيه دقة التصورات الرياضية.
ولا يفوتني هنا أن أقول إن المشتغلين بالفلسفة في عصرنا، حين استخدموا هذه الأداة التحليلية في تفهم المفاهيم التقليدية التي كانت شائعة في مجال الفكر الفلسفي، تبين لهم عن بعضها أنها كالعلب الفارغة، تطن بلفظها لكنها خالية من أي مضمون.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى العلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم النفس وعلم الاجتماع، فتراها بدورها قد اتخذت صورة أخرى غير التي ألفناها قبل ذلك؛ فكلاهما قد اكتسب روحا علمية تجريبية من روح العصر، وتحول إلى بحوث تجريبية كأنه معني بمشكلة من مشكلات الطبيعة ذاتها.
5
ونختم حديثنا عن المعالم الرئيسية في فكر العصر، بذكر صورة موجزة عن التيارات الفلسفية التي تسوده، والفلسفة عادة هي التي تستخرج من الحياة الثقافية في عصرها، مبادئها الكامنة وأصولها، فأقول على وجه الإجمال الذي يهمل التفصيلات والفروع، إن في عصرنا تيارات فلسفية أربعة: فلسفة التحليل في إنجلترا، والفلسفة البراجماتية في أمريكا، والفلسفة الوجودية في غربي أوروبا، وفلسفة المادية الجدلية في شرقي أوروبا، وأما بقية أجزاء العالم فالأغلب أن تنقسم فيما بينها هذه التيارات الأربعة نفسها، مضافا إليها - أحيانا - جوانب مأخوذة من تراثها الاقليمي، وليس في ذلك ما يدعو إلى التعجب؛ لأنه إذا كانت فلسفة العصر نابعة من حضارته وثقافته، ثم إذا كانت بقية أجزاء العالم يغلب عليها - حتى اليوم - الأخذ بالحضارة والثقافة الغربيتين قدر المستطاع، كانت فلسفة الغرب - بالتالي - هي التي تسود.
ولقد نتوهم أن انقسام الفكر الفلسفي في الغرب دال على تمزق العصر من الناحية الفكرية، لكن نظرة فاحصة متعمقة، سرعان ما تبين أن تلك التيارات الأربعة إنما اختص كل منها بجانب غير الجانب الذي اختص به التيارات الأخرى ، وإذن فهي تتكامل معا، ولا تتعارض؛ إذ التعارض لا يكون إلا إذا كانت كلها جميعا تنصب على جانب واحد بعينه، ثم تختلف بعد ذلك في الرأي.
صفحه نامشخص