الإهداء
1 - لمحة عامة عن شبه الجزيرة الأيبيرية
2 - أقوال العرب عن جغرافية الأندلس
3 - نظرة إجمالية
4 - التقسيمات الجغرافية
الإهداء
1 - لمحة عامة عن شبه الجزيرة الأيبيرية
2 - أقوال العرب عن جغرافية الأندلس
3 - نظرة إجمالية
4 - التقسيمات الجغرافية
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
وهي معلمة أندلسية تحيط بكل ما جاء عن ذلك الفردوس المفقود
تأليف
الأمير شكيب أرسلان
الإهداء
هدية روحية من المؤلف إلى روح أبي المطرف الخليفة أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر الأموي الذي يعجب به المؤلف أكثر من كل خليفة حاشا الخلفاء الراشدين
المؤلف
صورة مسجد قرطبة.
المقدمة
بقلم شكيب أرسلان
جنيف 7 صفر الخير 1355
بسم الله الرحمن الرحيم
وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا
الحمد لله قبلة الكلام، والصلاة على رسول الله باب السلام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تشفي الأوام، وتقشع الظلام، وتكون لنا العدة الواقية في حشرجة الأنفس وسكرات الحمام، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، النبي العربي الأمي الذي كرم بني آدم بنعمة الإسلام، وجنبهم عبادة الأصنام، وسنمهم من التوحيد نعمة دائمة لا تريم، وذروة عالية لا ترام، والذي نثر بدعوته يافوخ الشرك نثرا ليس له من بعده نظام، النبي الذي تمخض لظهوره الكون قبل أن تلج الأيام في الليالي والليالي في الأيام، والرسول الذي بلغت به الرسالة أمدها الأقصى فانطوت من بعده الصحف السماوية وجفت الأقلام، إذ ليس وراء توحيد الله تعالى مذهب ولا بغير حبه تعالى هيام،
صلى الله عليه وسلم
صلاة لباسها الدوام وشعارها اللزام، وسلم سلاما نفحه الرند ونشره الخزام. ورضي الله عز وجل عن آله وأصحابه نجوم الهدى وبدور التمام وأنصاره الذين ألزمهم كلمة التقوى وكانوا بها أحق الأنام، الذين أقبلوا على الأمم بالعقيدة الحق والأخلاق العظام، وطلعوا بخيل الله على المشرق والمغرب بسهام غير خطاء وسيوف غير كهام، ونشروا علم الفرقان الذي فرقت له قلوب الطواغيت وخفقت من الخوف سائر الأعلام ، ففتحوا عذارى الممالك وأدركوا غرر الأماني بشدة الحزم لا بشدة الحزام.
وبعد، فإن من غرائز الجبلة البشرية التي لا جدال فيها، تذكر الحوادث الماضية، والتحدث بالوقائع الخالية، والوقوف على الرسوم العافية، والاعتناء بحفظ الغابر إلى الحد الذي جعل الناس ينقشون الأخبار على الأحجار، ويزبرون القصص على الجماد، فضلا عن أن يكتبوها في الأوراق ويحفظوها ضمن الأجلاد، خشية عليها من الضياع بتقادم العهد، وذهابا بها عن النسيان بتطاول الدهر، وذلك بما فطر الله عليه هذا النوع من حب الأشراف والاطلاع، والغرام بالرواية والسماع؛ وبأن الإنسان يجتهد أبدا أن يحفظ الماضي، كما يجتهد أن يستدرك الآتي، فحياته عبارة عن وصل آخر بأول، وربط ماض مع مستقبل، وتعليل حديث بقديم، فلهذا لا يبرح بين أثر دارس يقف عنده، ورسم طامس يتعرف خطبه، وكتابة مطلوسة يفك حروفها، وحكاية مأثورة يتندس نصوصها، تارة يعرضها على أصولها، وطورا يقيسها بشكولها؛ وهو لا يزال يجمع بين قرائنها، حتى يدرك مباديها ويفقه مغازيها، وكم للإنسان من سهر ليال، وبذل غوال، وأعمال حل وترحال، وراء قصة مغلقة يستوحي حديثها، وقضية مرتجة يستوخي نجيها؟ وكم من واقعة مبهمة ينشد عند الهيروغليف سرها، ولدى القلم المسماري بحيثها؟ سنة الله الذي أقام الناس عليها بإزاء أي علم وأمام أي سر، لا يتقيدون فيها بقريب دون بعيد، ولا يقصرونه على حاضر دون غابر، ولا يختصون به موضعا دون موضع؛ بل استشراف الأسرار، واستشفاف الأستار، وهما من لوازم الإنسان أيا كان متعلق العلم ومتسق الفكر. إلا أنه إذا تعلق بالآباء والأجداد كانت النفوس به أولع، وإليه أنزع؛ وإذا اتصل بالقرابات والكلالات، أو انتسب إلى الديارات والمباءات، كان الحنين إليه أعظم، والتهافت عليه أسرع؛ فإن المرء ليحرص على مآثر آبائه، ما لا يحرص على مآثر سواهم، ويعنى بالقصص وراء أصوله ما لا يعنى وراء من تعداهم؛ بل إن قسط همه من هذا الأمر هو على نسبة القرب والبعد، وبمقدار الفصل والوصل.
وكل أمة من الأمم تدرس تواريخ البشر أجمع، إلا أنها تجعل تاريخ سلفها هو العلم المقدم، والدرس المقدس، والبغية التي يجب أن تتوجه إليها خواطر ناشئتها، والغاية التي يتعين أن تستحث نحوها ركاب نابهتها؛ لما في ذلك من وصل حديث بقديم، وربط آخر بأول، وإعادة فرع إلى أصل، ورد عجز على صدر. فإن كان الحاضر مماثلا للماضي، والطريف غير مختلف عن التليد، فمغزى التاريخ هو حفظ التسلسل ومنع التخلف، وحث الأخلاف على متابعة الأسلاف، وبناء المجد سافا من فوق ساف، فإن الأمم هي في تنازع بقاء لا يفتر، وتزاحم ورد لا يسكن، وكل منها يبغي أن يحفظ كيانه، ويوطد بنيانه، ويحمي حقيقته، ويخلد سجيته. بل يحاول أن يتقدم عما كان، وأن يطاول كل درجة إمكان. وإن كان الحالي مقصرا عن الخالي، وقد عادت البدور أهلة، وذهب المجد إلى أقله، وصارت الأوساط أطرافا، واستحالت الأثواب أطمارا، ولم يبق من تلك المعالي السوالف إلا أخبار وسير ومثلات، وذكر وحكايات، يعتبر بها من اعتبر، كان درس تاريخ السلف أحسن وسائل النشاط من العقال، وأفضل حوافز الاستباق إلى الكمال، ليقال للناشئ: هكذا كان آباؤك، فأين إباؤك؟ وها ما فعله أجدادك، فأين جهادك؟ وإذا كان هذا فري آبائك، فكيف ترضى أن تقصر عنهم، وإذا رضيت بأن تقصر عنهم، فقد يستبعد العقل أن تكون منهم. أيرضى أصحاب النفوس الأبية أن يقعدوا مع الخوالف، وقد كان أوائلهم من السابقين الأول؟ أو أن يكونوا تابعين، بعد أن كانوا متبوعين، وأن يسودهم من كان لهم من جملة الخول؟
فإذا كان علم التاريخ ضرورة من ضرورات البقاء، فضلا عن الارتقاء؛ وشرطا من شروط اللحاق، فضلا عن السباق؛ فأية أمة أجدر بمدارسته من هذه الأمة العربية ذات التاريخ الأمجد، والسنام الأقعس، والعرق الأنجب، واللسان الأذرب، والجهاد الذي شرق وغرب. أيام ملأت من الدهر مسمعيه، وضربت كل جبار في أخدعيه، وفرضت الذلة على جماجم الأكاسرة، وأطارت النعرة من معاطس القياصرة.
قوم ابتسلوا للموت نفوسهم، فرفعوا في الحياة رؤوسهم؛ يركبون من البر والبحر كل غارب، ويلتمسون بالجيش دار المحارب؛ أحمت أنوفهم حياة القفر، وأعزت نفوسهم الرمال العفر ؛ فكانت بلادهم عذارى تخلف ظن كل فاتح، وعقائل لا ينتهي إليها الطيف فضلا عن الطائف.
ثم لما جاءهم الإسلام بعزائم القرآن، وعزز ما فيهم من خيم كريم، وطبع سليم، بصلابة الإيمان؛ اندفقت سيولهم من منابعها، وخرجت سنابلهم من قنابعها؛ وملكوا ما بين الصين وبحر الظلمات في أقل من مائة عام، وأتوا من الأعمال ما لو حدثوا أنفسهم به من قبل لقيل إنه من الأحلام. على أنهم لم يلبثوا بعد ذلك العز الأمنع، والسناء الأصنع، أن انصاعوا انصياع الكواكب عند انكدارها، وأسرعوا إلى الهبوط سرعة المياه عند انحدارها. وذلك بتجردهم عما كان قد كساهم الإسلام من فضائل، وأهب فيهم القرآن من عزائم، وبسقوطهم في مثل ما كان قد سقط فيه أعداؤهم من الأعاجم، وبانغماسهم في الشهوات البدنية، وانصرافهم إلى السفسافات الزمنية، وولوعهم بالانتقاض على أمرائهم، واشتغال الأمراء بأغراضهم وأهوائهم، وتخلف العلماء عن تقويم منآدهم، وردعهم عن فسادهم. فمشى الفساد في جنباتهم، وطار الطيش بعذباتهم، وتنازعوا ففشلت ريحهم، وجاءت تباريحهم؛ وتنكروا؛ حتى لو عرضوا على السلف في أجداثهم لجهلوهم، وتغيروا، حتى لو نشر الآباء وتلاقوا بأبنائهم لأهملوهم؛ فجنوا من انقلاب أخلاقهم فقد خلاقهم، ونالوا من اعوجاج مسالكهم ضياع ممالكهم؛ وبعد أن كانت أنفتهم ملء العرانين، وحميتهم ملء الحيازيم، صاروا يرضون بكل حطة، ويسلكون من الهوان كل خطة، وهووا عن صهوات ذلك المجد العظيم، وأخرجوا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم.
وكان من أنفس ما سددهم الله إلى فتحه، وقيض لهم بالجهاد الطويل وسائل ريحه، هذه الجزيرة الأندلسية الخضراء، الخطة العذراء، والدرة الدهماء، والبقعة الجامعة بين الشموس والأفياء، الرافلة في حلل موشية من حوك الأرض وطراز السماء، فأتوها من كل فرج، بين محتسب ومكتسب، وراغب في الدنيا وماهد للآخرة، وساموا ولايتها بالنفقات الوجيعة، والبطشات الذريعة؛ والنفوس السائلة أنهارا، والجماجم الطائرة أسرابا، والجيش يتلو الجيش، والبعث يردف البعث، ومازلوا يغاورونها بخيل لا تنحط لبودها، فوارس لا تفارقها زرودها، ويريغونها من بين أيديها ومن خلفها، وعن أيمانها وشمائلها، إلى أن ذللوا أعرافها، وألانوا أعطافها؛ فخيم الإسلام بعقرتها تخييم من أجمع الاعتمار، وسكن إليها سكنى من ألقى عصا التسيار، وأمدتهم جزيرة العرب بأفلاذ أكبادها، ورمت أعداءهم بأنجاد أجنادها؛ وكانوا لولا العصبية بين القيسية واليمنية، والخلاف على الخلافة بين الأموية والعباسية، وما أضيف إلى ذلك من ملاحم بين القبائل العربية والبربرية؛ قد ألحقوا بالأندلس جميع الأرض الكبيرة، وصارت لهم جوفي جبال البرانس أندلسات كثيرة؛ ولكن اشتغالهم بفتنهم الداخلية، وانهماكهم بمشاجراتهم العائلية، وبقاء ما بقي في طباعهم من حمية الجاهلية، واستبدالهم ملوك الطوائف، بجيوش الصوائف، وحركات الفساد، بحركات الجهاد، ورضاهم عن تحمل الهزائم، بدلا من تجريد العزائم؛ كل ذلك أعاد تقدمهم تأخرا، ورد تجمعهم تبعثرا، حتى صار عدوهم في الجزيرة قسيما لهم مشاركا، خليطا معهم مشابكا؛ وكان هو لم يبق له من البلاد إلا الجبال والصخور، ولم يملك إلا ما تركه له العرب من مسارح الغزلان وأوكار النسور؛ وكانوا هم رتعوا في كل روض نضير، وملك كبير، ومالوا إلى طعام أنيق وفراش وثير، وجرروا من التيه مطارف سندس وحرير، وأغرتهم السعة بالدعة، وأفضى بهم الرخاء إلى الارتخاء، وأورثهم رفاهية العيش قلة الانتخاء. وشتان بين من ألف الترف ومال إلى الهوى، وبين من لزم الشظف وطوى على الطوى. ولله در من قال عن وقعة بطرنة بقرب بلنسية، وقد محص فيها المسلمون:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم
حلل الحرير عليكم ألوانا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها
لو لم يكن ببطرنة ما كانا
وهكذا لم يزل المخشوشن يفتك بالمتنعم، حتى دوخه؛ والمحروم يوقع بالمترف، إلى أن ريخه؛ والشقاق مع ذلك بين المسلمين لا تنطفئ ناره، ولا تنقطع أخباره، والإصلاح بينهم تخفق مساعيه، والشر أبدا تجادع أفاعيه؛ لا ينجع في عقولهم بليغ نصح، ولا يعوج بأسماعهم نذير خطب؛ ولا يعولون على شاهد نقل، ولا دليل عقل، ولا يعتبرون بحلول بثق واقع على بثق. تنزل بهم كل هذه القوارع وهم في سكرتهم يعمهون، ويقرأ عليهم الدهر كل يوم سورة الغاشية فلا يتدبرون، ولا يسمعون، و
يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون
وأخيرا تناثروا بددا، وتطايروا قددا، فلكل بلدة دولة وأمير، ومنبر وسرير؛ وكل جار لجاره مناظر لا نظير، يجور عليه ولا يجير، ولا يغار عليه بل يغير!
وتفرقوا شيعا فكل مدينة
فيها أمير المؤمنين ومنبر
وهم في أثناء هذا يتسابقون في ميدان الاستعانة، بعضهم على بعض، بالطاغية الذي يساومهم على المناصرة بتسليم الحصون، وتعطيل الثغور؛ والانهزام بلا سيف، والرضى بكل حيف، ويواطئون على حوزة الإسلام علنا
يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا
والعدو كل يوم يتقدم، وحوض الإسلام كل يوم يتهدم؛ والخلاصة: مازال يطغى وهم يحسرون، ويمد وهم يجزرون، ويطول وهم يقصرون إلى أن عادوا إلى علم ناكس، وصوت خافت، وباتوا - كما يقال - طوع كل شامت؛ وتوقع كل عاقل الفاقرة الكبرى، وأن من هو باق بسيف البحر ليس بثابت؛ وما كانت إلا شفافة في إناء الأندلس أراد العدو أن يستصفي سؤرها، وبقية فيما وراء البحر صمم أن يقتلع جذورها، وجاءهم ذلك حينما لم يبق مرابطون ولا موحدون، ولا أبطال يجاهدون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، بل حينما كل ملك بالعدوة مشغول بسد فتوقه، وحفظ حقوقه؛ سعيد بأن يثبت في مكانه، راض بأن يخلص من عادية جيرانه، بل من غائلة إخوانه. فكيف يستطيع أن يركب البحر لينازل الطواغيت، ويجمع من الإسلام ذلك الشمل الشتيت؟ فأراد الله أن يتركهم وشأنهم، وهو تعالى المحيي المميت. واستأسد بذلك العدو، فلم يزل يواثبهم ويكافحهم، ويغاديهم القتال ويراوحهم، حتى أجهضهم عن أماكنهم، وجفلهم عن مساكنهم، وأركبهم طبقا عن طبق، واستأصلهم بالقتل والأسر كيفما اتفق؛ وردوا في الحافرة، وصاروا رهن هوى الأمة الظافرة. ومن اختار منهم الدجن انتقلوا تدريجيا إلى دين الطاغية ولسانه، فخسروا الدنيا والآخرة، وصاروا عبرة في العالمين
وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين .
نعم؛ حواضر كالبحار الزاخرة، كانت تموج بالبشر؛ وحصون كالجبال الشامخة، تحصى بالألوف، وتكبو فيها جياد الفكر، وجيوش كانت حصى الدهناء، ورمال البطحاء، ومساجد كانت في الجمع المشهورة تغص بألوف الألوف من المصلين، ومدارس كانت مكتظة بالألوف من القراء والطالبين، وما شئت من إسلام وإيمان، وحديث وفرقان، وأذان يملأ الآذان، وما أردت من نحو ولغة وطب، وحكمة ومعان وبيان، بلغة عربية عربآء، يحرسها علماء كنجوم السماء؛
1
وما أردت من عيش خضل وزمن نضر، وحزرات أنفس، وضحكات قلوب. كل هذا عاد كهشيم المحتظر، كأن لم يغن بالأمس، ولم يبق منه إلا آثار صوامت، وأخبار تناقلتها الكتب، كأنه لم يعمر الأندلس من هذه الأمة عامر، ولا سمر فيها سامر. قال تعالى:
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم .
وبقيت الأمة العربية تنوح على هذا الفردوس المفقود الذي هبط منه أهله بأعمالهم، نحوا من أربعمائة عام، نواح الثاكل لولده لا يريد أن ينسى مصابه، ولا يفتأ يذكر فصاله؛ ولما كنت من جملة هذه الأمة الباكية على الفردوس الضائع، أولعت من أوائل صباي بقراءة تاريخ الأندلس، والتنقيب عن كل ما يتعلق بالعرب في تلك الجزيرة، حتى إنني لما اطلعت على رواية «آخر بني سراج» للكاتب الأفرنسي الكبير «رينه شاتو بريان» بادرت بنقلها إلى العربية وذيلتها بتاريخ للأندلس نشرته من أربعين سنة؛ ثم نفدت نسخه بأجمعها، فأعدت طبعه منذ إحدى عشرة سنة، وقد قلت في خاتمة كتابي ذلك ما يناسب أن أعيده هنا، رعيا لكون الغرض الذي حداني يومئذ إلى نشر ذلك الملخص، هو نفس الغرض الذي يحدوني اليوم إلى نشر هذا المطول؛ فالروح التي أملت ذلك هي التي قد أملت هذا، وكلامي الأول هو كلامي الآخر، ولو كرت الأيام وتعددت الأعوام، قلت: «ولا أكتم القارئ الذي هو خليق بأن لا يخفى عليه ذلك بشفوف بصره ولطف حسه، أن الأمر غير خال في هذا الإملاء، من نزعة جنسية، وحنوة عصبية، وهفوة للفؤاد وراء آثار بني الجلدة، مما تستشعر فيه مرضاة هذه النفس، العظيمة السر، البعيدة مهوى الغرض، الغريبة شكل الهم، وتوفر به اللذة والراحة لهذا الوجدان الداخلي، السائح في إثر ما يتعلق بالنفس من جميع جهاتها، على ترجيح الأقرب فالأقرب؛ وقد طبع الخالق الحكيم هذا المرء على حب جنسه، والميل للاتصال بأبناء أبيه، فكأنما يتمثل بذلك صورة نفسه التي هي جزء من هذا المجموع، لما يحس من أن أقرب أنواع الدم إلى دمه، هو الجاري في عروق قومه؛ فهو يحن إليهم ويحنو عليهم، ويتألم لألمهم، ويعتز بعزهم؛ وتراه إذا غابت أشخاصهم استأنس بآثارهم بعد الأعيان، وارتاح إلى مواطنهم ورغب في الدوس على مواطئ أقدامهم ولو بعد أزمان وقد عهدنا الذي يصاب بعزيز أو بذي قرابة يختلف إلى قبره، ويشفي بالبكاء عنده حرارة صدره؛ وإذا ظفر بقطعة من ملبوسه، أو مفروشه أو برقعة من خطه، احتفظ بها، وغالى في قيمتها، وجعلها مدار أنسه، في خلوات نفسه، وروح حياته في منتبذ مناجاته. وبناء على هذا الشعور أولع الخلق بحفظ آثار الغابرين، وتطلعوا بغريزة فيهم إلى معرفة سير السالفين، ووقفوا على الأطلال الدوارس، وبكوا على الدمن البوالي، كأنما يجددون عندها عهودهم مع آبائهم، ويشدون لديها معهم عروة وفائهم».
إلى أن أقول: «فيا ليتنا نتبع الآن سنن من قبلنا، ونقتدي بسلفنا، ونبني بناء أوائلنا، ونعتبر بحمراء غرناطتنا، وخضراء دمننا، ونتأمل في سالف عزها، وسابق أمرها، ونتجنب الفرقة التي آلت إلى فقدها، ونسأل رسومها عما مضى من نعيمها فهي رسوم إن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا؛ فلا يكونن دائما من شأننا أن نتباهى بمجد الأوائل ونفاخر بعظم الرميم، دون أن نقتص أثر الآباء ونحيي ذكر القديم، ولا يبقى من نصيبنا في المجد إلا حديث سمر، ومجرد ذكر. وما أحسن ما قال شوقي شاعر العصر:
وذات دلال من بني الروم حولها
إذا ما تبدت إخوة سبعة مرد
عنيت بها حتى التقينا فهزها
فتى عربي ملء بردته مجد
فقالت: أطيب بعد عسر وشدة؟
فقلت نعم مسك الأحاديث والند
عطلنا من النعمى وطوق غيرنا
تداولت الأيام وانتقل العقد
وما ضاعت الدنيا علينا وحسنها
ولكن عن أغصانه رحل الورد
هذا، وكان الفراغ من كتابة هذا التاريخ، ليلة السبت الواقع في السادس والعشرين من المحرم سنة خمس عشرة وثلاثمائة بعد الألف » ا.ه.
فأنت ترى أن الكتاب الأول قد مضى عليه أربعون سنة، وهي مدة تسمى عمرا، ولقد سمعت من كثير من أعيان الأمة العربية أنهم قرءوا كتابي ذاك في وقته وتتبعوا حوادث سقوط مملكة غرناطة وجلاء المسلمين الأخير عن الأندلس باهتمام عظيم، ودمع سجيم. وقال لي بعضهم إنهم قرءوه مرتين، وإن منهم من كان يبكي، ومنهم من كان يتلهب وجدا، ومنهم من كانت مهجته تذوب حسرة عند قراءته. وقد تضاعفت الآن هذه الذكرى، وبعد مضي هذه السنين الأربعين ازداد الولوع بتاريخ الأندلس، بازدياد الناشئة المقبلة على العلم، وبنمو الشعور العربي في جميع طبقات هذا الشعب، سواء منهم من في الشرق ومن في الغرب، ولا يزال هذا الشعور في نمو وما برحت هذه الهمم في سمو؛ ولا عجب فإن قوة الأمة هي على قدر ما مجت من مشارب العلم، وارتقت من درجات الثقافة الجم، والأمة العربية في هذه المدة قد اجتازت عقبات جيادا، وقطعت أشواطا طوالا، وسارت السير النجاء، وشمرت التشمير الباعث على الرجاء؛ فأخذت تخفي سؤال التاريخ عن ماضي أحوالها؛ كما صرفت معظم بالها، في توطيد استقبالها.
ولهذا رأيت أنه من أمثل ما يمكنني أن أخدم به هذه الأمة، قبل انصرافي من هذه الدنيا، هو أن أهدي ناشئتها عن هذه القطعة النفيسة من تاريخها، كتابا شافيا للغليل، جامعا لأقطار هذا البحث، ناظما بين القديم والحادث، مقابلا بين ما قاله العرب وما قاله الأفرنج.
وكنت قدمت بين يدي هذا التأليف رحلة قمت بها من ستة سنوات في أكثر أنحاء أسبانية، لأقرن الرواية بالرؤية، وأجعل القدم ردءا للقلم، ونويت أن أجعل الرحلة أساس الكلام، وواسطة النظام، وأن أضم التاريخ إليها، وأفرع التخطيط عليها.
ومن أجل ذلك كنت نويت أن أسمي هذا الكتاب «بالحلة السندسية في الرحلة الأندلسية» وأشرت إلى هذا الاسم في كتابي المنشور من سنتين، الموسوم «بغزوات العرب في جنوبي فرنسا وشمالي إيطالية وفي سويسرة وجزائر البحر المتوسط» الذي عددته جزءا من كتابي الأندلسي. إلا أني رأيت فيما بعد أن ما نحن بسبيله قد اتسع جدا عن الرحلة، وأن الاسم قد ابتعد عن المسمى، وأن الكتاب قد يقع في عدة مجلدات كبار، وقد يكون أوسع كتاب عربي كتب عن الأندلس؛ هذا إذا فسح الله في الأجل، ووفق للعمل، فعدلت إلى اسم آخر يشعر ما أنا متوخيه من الإحاطة بقدر الطاقة، وهو «الحلل السندسية في الأخبار والاثار الأندلسية» وآليت لأبلغن فيه جهيداي، وأعقل به ما شرد عن سواي. ولم أقصد في ذلك تنبلا على الخلق، ولا تزيدا فيما ليس بحق، وإنما أردت النصح ما استطعت، والتمحيص ما قدرت. والعلم أمانة، من حملها فقد حمل إدا وتجشم بهرا. والتاريخ من عالجه فقد رقى حزنا، وركب خشنا. فإن كنت قرطست أو قاربت، فقد بلغت من عملي المراد أو بعض المراد؛ وإن كان سهمي قد طاش، فكم فتى حام وما ورد، وغنى وما أطرب، ولكن شفع له الاجتهاد.
ولقد سهرت في هذا التأليف ليالي متمطيات بأصلابها، تحقيقا عن لفظ، أو تنقيبا عن اسم، أو ضبطا لرواية مختلف فيها، أو لعدد أقل فيه الواحد وأكثر الآخر، أو تعيينا ليوم واقعة من أي شهر أو من أي سنة، أو مقابلة بين ما قاله عربي وما قاله أوربي عن الحادثة الواحدة، أو تعريبا لعلم أسبانيولي على الوجه الذي كان يقوله العرب، أو تبيينا لعلم عربي كيف كان يتلفظ به الأسبانيول، وما أشبه ذلك مما أذبت له سواد العيون، وأحييت كثيرا من الليالي الجون. ولا أزعم مع ذلك أني بلغت به الأمد الذي ينجيه من تعنت الحساد، أو يعليه عن تصفح النقاد، ولكني بلغت فيه الجهد، وأبليت العذر، ولم أبق في القوس منزع ظفر.
ومما لا بد لي من الإشارة إليه في هذه المقدمة أني اخترت النقل عن المؤلفين ما استطعت، لتكون هذه الموسوعة في هذا الموضوع معرضا للآراء، ومجمعا للأفكار التي يطلع منها القارئ على الصور المختلفة التي كانت عن مملكة العرب في الأندلس، في أذهان الذين عاشوا في ذلك العصر وكتبوا عنه، أو في أذهان من كانوا على مقربة منه. ولم أشأ أن أصنع ما يصنعه الكثيرون من أخذ الشيء عن الآخرين وإبرازه للناس كأنه من ورى زنادهم، وفيض قرائحهم؛ فليس هذا مذهبي في الكتابة، ولا أراه الطريقة المثلى في التأليف؛ وإنما ينقل الإنسان ما يستطيع الاتصال به من آراء الناس ورواياتهم، ثم يشفعها برأيه الخاص، وبالرواية التي يكون قد جزم هو بها، أو رجحها على غيرها بحسب اجتهاده؛ وله أن يستدل على صحة رأيه أو ثبوت روايته بما وجد من قرائن، وآنس من شواهد، وللقارئ بعد ذلك أن يذهب في الترجيح والتجريح كيفما شاء بحسب ما يؤديه إليه نظره.
ولهذا نقلت ما قدرت أن أعثر عليه من الفصول المتعلقة بالأندلس، عن المسعودي، وابن حوقل، والمقدسي، والشريف الإدريسي، وابن الأثير، وياقوت الحموي، وابن عذارى، وابن بشكوال، وابن عميرة، وابن الأبار، وابن خلدون، ولسان الدين بن الخطيب، وصاعد الطليطلي، والهمذاني، والقلقشندي، والمقري صاحب نفح الطيب، وغيرهم من مؤلفي العرب؛ ونقلت أيضا عن دوزي المستشرق الهولندي، وعن رينو المستشرق الأفرنسي، وعن أيزيدور الباجي، وغيره من مؤلفي القرون الوسطى، وعن أصحاب الأنسيكلوبيدية الإسلامية، وعن لاوي بروفنسال من المعاصرين، وعن المسيو جوسه
صاحب جغرافية أسبانية والبرتغال، وعن بديكر، وعن بعض علماء الأسبانيول مثل سيمونه
Simonet
وكوندي
Gonde
وعن ألبار دوسيركور صاحب تاريخ المدجنين والموريسك
Albert de Cricourt ، وعن دومارليس
de marles
وعن كتب أخرى أسبانيولية استعنت على ترجمتها ببعض أصحابي من الأسبان، ومن غيرهم. وعزوت الروايات إلى أصحابها، ونقلت كثيرا من الفصول بنصوصها، أو تلخيصها مع التعليق عليها في الحواشي بما يعن لي مخالفا أو موافقا.
وهناك اصطلاح آخر، جرى عليه بعض مؤلفي الأفرنجية، وتابعهم فيه الشرقيون وهو إرسال الكلام من عندهم في الموضوع، ثم الاستشهاد بأقوال الآخرين بإدماج بعض الجمل المأخوذة عنهم، وذلك في صلب الكلام مع الإشارة في الحاشية إلى مأخذ تلك الجمل؛ ولست أرى في ذلك بأسا، وإنما ألاحظ هنا أن المؤلف قد يكون له رأي خاص في مسألة من المسائل، فيهمه تأييد رأيه، فينقب في الكتب على كل ما يعزز وجهة نظره، وكلما وقع على جملة لمؤلف رأى فيها تقوية لنظريته نقلها دون سواها، وأدمجها في كلامه، فربما جاءت بترا، لا يعرف ما تقدمها ولا ما تأخر عنها، وربما جاء نقل تلك الجملة من قبيل «ولا تقربوا الصلاة» وحذف «وأنتم سكارى» فمن المعلوم أن الحكم لا يصح باعتبار جملة واحدة لمؤلف، وإنما يصح باعتبار مجموع كلامه بعد تصفحه بحذافيره. وهذا الذي حداني إلى نقل فصول بأصبارها، أخذ العذق بشماريخه، ولو كان في خلالها ما ليس عندي بثبت، وما اضطررت أحيانا إلى رده.
وإتماما للفائدة رأينا تزيين هذا الكتاب بأطالس جغرافية، محررة فيها أسماء البقاع والمدن، باللغة العربية؛ ورصعناه بتصاوير لم يسبق أن اطلع عليها العرب، وذلك لأن التصوير بالريشة قد يفعل ما لا يفعله التصوير بالقلم، ولأن الصورة المحسوسة في العين هي أوقع من الصورة المجردة في الذهن، فما ظنك إذا كانت الواحدة رديفا للأخرى؟
ولما كان المقصود بهذا الكتاب التوسع في الموضوع بقدر الطاقة، قسمناه إلى قسمين: جغرافية وتاريخ. وبدأنا بالجغرافية لأنها سابقة للتاريخ، ولم نقتصر في الجغرافية على ما كانت عليه أسبانية في أيام العرب أو في القرون الوسطى، غير ناظرين إلى أحوالها الحاضرة، بل جمعنا القديم إلى الحديث ونظمنا بين الخالي والحالي وقرنا ما كتبه العرب بما كتبه الأفرنج، وإن كنا لم نحب أن نملأ الكتاب بالأرقام والإحصائيات، في الكليات والجزئيات، مما قد تمل الأنفس مطالعته.
وقد أدخلنا في القسم الجغرافي ذكر من نبغ من أهل العلم في كل بلد من البلدان التي ذكرناها؛ ولم نحصر ذلك في العرب، بل تجاوزناه إلى الأسبان، ولكننا استقصينا في أسماء العرب بالبديهة ما لم نستقص في أسماء أولئك، واكتفينا من الأسبان بالمشاهير، لأن قراءنا هم من العرب وغرضنا إنما هو تعريف ناشئة العرب بالأندلس العربية، ولن يقرأ كتابنا من غير العرب إلا من شاء من المتخصصين. وقد كان مرادنا بادئ ذي بدء أن نسرد أسماء العلماء والأدباء المنسوبين إلى كل بلدة سردا مجردا من دون ترجمة، ثم نرد تراجم أحوالهم إلى جزأين في الآخر ، مخصصين بذلك الموضوع؛ ولكننا رأينا في ما بعد أن السرد المجرد لا يفيد شيئا ولا يبلغ في صدور القراء حاجة، وأنه لا بد من شدو شيء من ترجمة كل واحد منهم، ومن تبيين العلم الذي كان متخصصا به، وذلك في الأجزاء الأولى. وإن كنا عولنا على هذا الأسلوب فهو لا يمنعنا من أن ننتخب من هؤلاء المترجمين طبقة عبقرية وفئة ممتازة نكتب لهم في الآخر سيرا ضافية، إن شاء الله، نأتي فيها بمختارات من أقوالهم وأنموذجات من نظمهم ونثرهم.
هذا ولقد أحببت أن أتوج هذا الكتاب الذي تعبت فيه هذا التعب كله، باسم أحد أمراء الإسلام وأقطاب الشرق، الذين يتفق في شأنهم الكلام ممن يملأ العيون والصدور، ولا يكون الثناء عليه تنميق جمل وتشقيق ألفاظ، بل يكون نفس فعله هو هو الهاتف بمدحه بدون منة لقائل، ولا فضل لمنوه، وتكون سيرته الشخصية ومآثره المستمرة هي المخلدة له في الأعقاب وعلى طول الأحقاب، وإذا رآني الناس اخترته لتتويج هذا الكتاب باسمه قالوا بأجمعهم: تالله لقد أحسن الاختيار وأتى الأمر من بابه، وما أطرى ولا بالغ، ولا تملق ولا داهن، وإنما هو الحق الذي لا يجهله أحد. ولا يأتي على هذا الشرط عظيم من عظماء الإسلام قبل الأمير الكبير العلامة الخطير صاحب السمو الأمير عمر طوسون حفظ الله مهجته للإسلام والمسلمين وأمتع بطول حياته الشرق والشرقيين فقد أصبح هو في هذا العصر أمين هذه الأمة في كل ملمة، ومفزعها في كل مهمة. وإليه ارتاحت جميع الضمائر، وعليه حامت جميع الخواطر، وما من بزلاء إلا وقد نهض بها يشار إليه بالبنان في جميع أنحاء العالم الإسلامي لا يعمل شيئا مما يعمله رئاء ولا سمعة ولا ابتغاء شهرة ولا أمارة، هو الذي يزينها وليس بالذي يتزين بها، وإنما يعمل ما يعمله ابتغاء وجه الله تعالى، وخدمة لهذه الأمة التي أبى أن يكون من أعظم أمرائها نسبا وجلاء، وبدون أن يكون من أجل أمرائها علما وعملا وجداء، فكان قدوة لكل أمير لا يعرف العبث، ولا يريد أن يضيع من عمره لحظة واحدة بدون فائدة للبشر. وما أقول هذا عن متابعة للناس في شأن هذا الأمير المنقطع النظير، ولا عن روايات معنعنة ولا عن شهرة طائرة وإن كان التواتر يفيد اليقين وإن كان الناس أكيس من أن يجمعوا على مدح رجل إن لم يكن لذلك أهلا، وإنما أقول ما أقوله عما خبرته بنفسي وشاهدته بعيني، وتبادلت معه فيه الكتب المتصلة والرسائل المتواترة، مدة تزيد على خمس وعشرين سنة، من أيام الحرب الطرابلسية إلى الحرب البلقانية، إلى الحرب الكبرى إلى جميع الخطوب والنوازل التي حلت بالإسلام من بعدها مما قيدت خلاصته في ترجمة حياتي التي أوصيت بأن تنشر من بعدي، واستودعتها مكتب المؤتمر الإسلامي في بيت المقدس، وكذلك مما سجلته في تاريخ الدولة العثمانية الذي حررته تعليقا على تاريخ العلامة ابن خلدون رحمه الله إجابة لطلب المتصدي لتجديد طبعه الحاج محمد المهدي الحبابي الفاسي وفقه الله، ولست والله يعلم في شيء مما قيدته من أعمال الأمير الأوحد عمر طوسون مد الله، في حياته بالذي وفاه إلا النزر الأقل مما يجب من حقه على هذه الأمة التي تعرف له من فضله عليها بقدر ما ينكر هو من ذاته، ولست في جعلي هذا الكتاب باسمه الكريم إلا الكاتب الذي عرف أن يسد ما نقصه من العلم ويتلافى ما فاته من براعة الإنشاء بما وفق إليه من معرفة الفضل وألهمه من براعة الإهداء.
ولأبدأ الآن بالموضوع مستمدا من الله الصواب والسداد
وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد .
هوامش
الفصل الأول
لمحة عامة عن شبه الجزيرة الأيبيرية
من الأمثال المضروبة في أوروبا أن جبال البرانس - كما يقول العرب
1 - أو البيرانة
كما يقول الأفرنج - هي الحد الفاصل بين أوروبا وأفريقية. ويقولون: إذا تجاوزت معابر البيرانة فاعلم أنك قد دخلت في أفريقية. وربما يستغرب القارئ هذا القول بعد علمه أن في غرب البرانس (أو البيرانة) بلادا طويلة عريضة هي من أكبر أقسام أوروبا، تتألف منها مملكتان أوربيتان هما أسبانية والبرتغال فكيف يمكن أن تكون هذه البلاد من أفريقية؟ وما الموجب، يا ليت شعري! لضرب هذا المثل الذي قد يكون من باب المبالغة في تشبيه أسبانية والبرتغال الضاربتين في مناطق الجنوب بجاراتها سواحل أفريقية الشمالية؟ والحقيقة أنه ليس في هذا المثل شيء من المبالغة. أما من جهة الشجر والحجر والتراب والماء فإن الجزيرة الأيبيرية المنفصلة عن أوروبا بجبال البرانس أشبه بشمالي أفريقية وبغربي آسيا. ولقد جربت هذا الشعور بنفسي فور دخولي إلى أسبانية، إذ كان ذهابي إليها من طريق فرنسا أي من الشمال، فما عبرت الحدود الواقعة بين فرنسا وإسبانية حتى خلت نفسي سائرا في سواحل الشام بلادي. فكيفما نظرت وقع نظري على التين والزيتون والخروب والصنوبر والصبير وجميع الأشجار والنباتات الحرجية التي أعرفها في بلادي، مع وجوه الشبه الكثيرة في منظر الأرضين ولون التراب وتحدر الغدران يحف بها القصب والحلفاء، ومع حنين النواعير في البقاع التي لا يصح لها الشرب من الغدران، وغير ذلك مما يخيل لك أنك فعلا في سواحل سورية. ولا شك في أن هذا التشابه بين البلادين هو الذي حدا عرب سورية على انتجاع الأندلس أكثر من أي بلاد سواها، لأن الإنسان يحب إذا تغرب أن يقع في أرض تشبه مسقط رأسه.
وكان الجغرافيون القدماء يقسمون الكرة الأرضية إلى مناطق سبع، وبحسب هذه المناطق تكون أسبانية وجزائر البحر المتوسط مثل سردانية وصقلية وكريت وقبرص، وكذلك البلاد الشامية والعراقية، منطقة واحدة. وقد شاهدت شمالي المغرب فرأيته لا يفترق عن جنوبي أسبانية. وكيف يختلف عنه وكل الفاصل بينهما مضيق لا يتجاوز في بعض الأماكن أكثر من مسافة 15 كيلو مترا؛ وهذا الفاصل قد جرى الماء فيه حديثا بالنسبة إلى الأدوار الجيولوجية. وأنت إذا نظرت إلى شكل الأرض في الجزيرة الخضراء وجبل طارق، من جهة، وإلى شكلها في طنجة وجبل موسى وسبتة تجده واحدا، فهي بقعة خرقها الماء من الأوقيانوس الأطلانطيقي إلى البحر المتوسط فجعلها شطرين، ولكن لم ينزع من كل من الشطرين وحدته الطبيعية مع الآخر. وقد قيل لي: إن في برية جبل طارق نوعا من القردة قديم الوجود فيها، وهذا النوع نفسه يسكن في جبل موسى المقابل لجبل طارق وذلك من جهة أفريقية.
هذا من جهة الجغرافية الطبيعية. أما من جهة الجغرافية السياسية التي تتعلق بالسكان والممالك، أو من الجهة الأتنوغرافية كما يقال، فلا شك أن الأسبانيين والبرتغاليين وإن كانوا أوربيين في سلالتهم فإنهم لاختلاطهم بالعرب والبربر والأمم السامية مدة قرون متطاولة أصبحوا أمة وسطا بين الغرب والشرق.
2
وإذا صح الافتراض الذي يذهب إليه بعضهم من أن السلالة البيضاء هي التي انتقلت من على عنق الدهر من المغرب إلى أوروبا لم يكن العرب هم أول من أجاز من إفريقية إلى الأندلس.
إن شبه الجزيرة الأيبيرية لا يتصل بأوروبا إلا ببرزخ، هو جبال البرانس، وهي جبال شهيرة متوسط ارتفاعها سبعمائة متر عن سطح البحر تتكسر على أذيالها أمواج البحر المتوسط من الشرق والأطلانطيقي من الغرب، وقد حفرت المياه على منحدريها سواء من جهة الشرق أو من جهة الغرب مسلانا لا تحصى وأنهارا تتدفق وجردت صخورها من التراب الذي لا يزال يجحف به السيل من عشرات الآلاف من السنين.
والجيولوجيون يقولون: إنه لو حصل خلل في توازن قشرة الأرض الصلبة أدى إلى اضطراب أعماق البحار لما أمكن أن تكون الجزيرة الأيبيرية بمنجاة من هجوم البحر من جهة الوادي الكبير في الجنوب وجون نهر إبره
Ebre
في الشرق حيث أن طرطوشة ليست إلا على إرتفاعمترين فقط من مصب نهر «إبره» كما أن إشبيلية لا تعلو إلا عشرة أمتار عن الوادي الكبير. ولو قدر أن البحر ارتفع مائة متر عما هو الآن لضربت أمواجه حيطان قرطبة. ولو أن البحر انبسط على سهل أشبيلية لغمر أكثر سهول الأندلس، ولم يقف إلا في سفوح جبال مورينة
Sierra-morena
بحيث يعود إلى التشكل ذلك البوغاز القديم الذي يسميه العلماء بالبوغاز البيتي
D’élroit Bétique
الذي كان يصل البحر المتوسط بالأوقيانوس فاصلا بين جبال إسبانية الوسطى وبين جبال شلير الثلج
Sierra Nevada
3
التي يعدها العلماء من جبال أفريقية والتي ذروتها المسماة بقمة مولاي الحسن تعلو عن البحر 3481 مترا. وهذا قبل أن حصلت الهزات الجيولوجية الكبرى التي نشأ عنها الخرق البحري المسمى ببوغاز جبل طارق.
كذلك ضفاف نهر «إبره» كضفاف الوادي الكبير الذي كان القدماء يقولون له نهر «بتيس» هي تحت تهديد البحر الدائم، وذلك بحسب درجة ما يمكن أن يرتفع. فإذا ارتفع بضع مئات من الأمتار فإن بنبلونة من نبارة
4
لا تعلو أكثر من أربعمائة متر، ووشقة
Huesca
لا تعلو أكثر من 466 مترا. وكذلك لاردة هي من هذه الأماكن التي قد تغمرها المياه، وأهم من الجميع سرقسطة التي لا تعلو أكثر من مائتي متر وتطيلة التي علوها 257 مترا.
ولقد ثبت وجود مواد مالحة في أعماق هذه الأودية تدل على أن البحر لم يتقلص عنها إلا من عهد قريب بالنسبة للأعمار الجيولوجية. فقلعة الجزيرة الأيبيرية في وجه البحار هي في الجنوب جبال مورينه وجبال البشرات وفي الشرق جبال البرانس. وأما في الشمال فهناك جبال قنطبرية
Cantabrique
5
التي تعلو نحوا من ألفين وخمسمائة متر ثم تنقطع دفعة واحدة فوق سواحل الأطلانطيك، حيث تصادم البحر سلسلة صخور لا تنتهي إلا عند الوادي الكبير في الجنوب. وإلى الأطلانتيك تنحدر الأنهر الأربع «مينو
Minho » و«دورو
Duero »
6
و«تاجه
Tage » و«وادي يانه
Guadiana » ومنها «دورو» و«تاجه» قد حفرا أخاديد ضيقة في الأرض هي من العمق بحيث صارت فواصل طبيعية أبدية. ولا شك أنها لم تخل من تأثير في السياسة وأن لها يدا في فصل البرتغال عن أسبانية، على حين أنه لا يوجد من جهة السكان فاصل بين الفريقين.
ثم أن القسم الأعلى من جبال أسبانية يقسم البلاد إلى قسمين: قشتالة القديمة، وقشتالة الجديدة؛ ويقال لهما ولبلاد ليون
Leon
والاشتراما دور
Estramadure
و«الميزيتا»
meseta
وهي أعالي أسبانية التي لولاها لدخل البحر على الجزيرة الأيبيرية من جهات متعددة بارتفاع قليل، ولجعل عاليها سافلها.
ثم إن الفاصل بين القشتالتين
Les deux Castilles
سلسلة أهاضيب يقال لها شارات وادي الرمل، لكثرة رملها، والأسبانيول حرفوا «الرمل» فجعلوها «الرامه» فهم يقولون «وادي الرامه» وهو التوجيه الأرجح
Guadarrama
وسلسلة أخرى يقال لها هضاب «غريدوس»
Sierra de Gredos
وهي متصلة بسلسلة مثلها من جهة الغرب يقال لها شارات «غاتا» والشارات البرتغالية التي يقال لها «استريلا»
Estrella
كما أنها متصلة من جهة الشرق بنشوذ «شوريه»
Seoria
ومرتفعات «ديمنده»
Demanda
على نهر «إبره»
ولما كانت هضاب وادي الرمل عارية من الشجر الذي من طبيعته أنه يمسك الأرضين، فقد تفككت أجزاؤها بحرارة شمس القيظ وبرودة جلد الشتاء، وتكون منها كتل كثيرة لا سيما في الجنوب حيث هي البلاد التي يعبر عنها بقشتالة الجديدة. وأن هذه الشارات التي في وسط أسبانية هي التي تنحدر منها مياه وادي «الدوره»
Duero
الذي يجري في قشتالة القديمة ومياه النهرين الشقيقين «تاجه»
Tage
ووادي «يانه»
Guadiana
7
اللذين يتحيفان في جريهما جبال طليطلة
Tolede
وهضاب «وادي لب»
Guadainpe
ويخترقان البلاد إلى البرتغال، إلا أن أحدهما «تاجه» ينصب في خليج «لشبونة»
Lisbonne
والآخر يتلوى عن مجراه المستقيم قاصدا إلى الجنوب، بدلا من الغرب، فينصب بحذاء «بطليوس»
Badajoz
بقرب خليج قادس
Cadix .
وغير بعيد عن مصب وادي يانه، ينصب الوادي الكبير
Guadilquivir
الذي ينبع من الجبال الوسطى في أسبانية، ولكن انصباب الأنهار من جهة البحر المتوسط في القسم الجنوبي من أسبانية هو قليل، نظرا لإشراف شلير الثلج على البحر يتدلى إليه بدون فاصل، فلا تكاد تجد الجداول مجالا للجري. وذلك مثل وادي مالقة
Guadalhorce
ونهر المرية ونهر شنقورينه المشتق من نهر شقر
Seegur
والنهر المسمى بوادي الأبيار وادي بلنسية
Guadaiaviar
وغيرها.
ويندر في الدنيا وجود ساحل مضرس مشقق تشقق هذا الساحل الذي هو شاطئ البحر المتوسط من أسبانية وهو معهد زلازل وموقد حركات بركانية لم تنطفئ وآثار ذلك بارزة في الشقوق الهائلة التي تتخلله من جبل طارق جنوبا، إلى كتلونية شمالا، وأعظمها الشق الذي ينحدر منه نهر «إبره» إلى البحر. ويرجح العلماء أن الهزاهز البركانية هي التي فصلت جزيرة ميورقة عن راس «ناو»
nao
وأن ميورقة نفسها. إن هي وأخواتها ميورقة ويابسة إلا حلقات من سلسلة كان من جملتها قورسيكا وسردانية.
ويظهر أن الزلازل البركانية التي شقت بوغاز جبل طارق، وفصلت هذا الجبل عن أمه أفريقية، وجعلته من أوروبا، وأقامت وأقعدت أركان شلير الثلج، وفتحت في ساحل أسبانية الشرقي فجاجا، وأحدثت فوق كثير من أقسام ذلك الساحل لججا وأمواجا، لم تنقطع حركتها بالمرة ولا سكن توهجها؛ فإنه لا يزال هذا الشاطئ في قلق إلى يومنا هذا. وكل يعلم أنه في 2 ديسمبر سنة 1884 وقعت زلزلة عظيمة كان معظم شدتها في مالقة وغرناطة ونواحيها، وذهبت طائفة من العلماء حينئذ إلى هناك وحققوا منطقة الزلزال فوجدوا أنها لم تتجاوز أسبانية السفلى، وأنها وقفت في حذاء شارات مورنيا فكان الحاجز الذي صد الزلازل عن شمول أسبانية العليا هو شفير «الميزيتا»
meseta
الأيبيرية. وهكذا رجعت من أمام هذا الحاجز إلى الوراء تصديقا لقوله تعالى
وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم .
ولا تشتد الزلازل في أشبيلية وقرطبة شدتها في هذا الساحل من جبل طارق إلى برشلونة، بل إلى شارات الثلج أو الجبال التي يقول لها العرب جبال شلير
Solair
بالرغم من غلظ أعناقها وثبوت أركانها، ليست بمنجاة تماما من تأثير هذه الهزات الأرضية، يظهر لك ذلك من أودية غرناطة ووادي آش ولورقة والوادي المسمى شانغورينة عند مرسية. وتستمر آثار عمل الزلازل إلى بلنسية فبرشلونة. فجيرونده من كتلونية.
وكثيرا ما تتجاور الشقوة مع السعادة ويسكن الخير مع الشر في بيت واحد، فإن هذه المنطقة هي مع زلازلها أخصب بقاع أسبانية، ناهيك بمرج غرناطة وبساتين مالقة وجنان مرسية ولورقة وغيضة نخيل ألش وحقول القنت، وأخيرا غوطة بلنسية التي تضارع غوطة دمشق. وبالاختصار هذا الخط البديع الذي فوقه الماء وتحته النار والذي هو بين الشمس والأمطار قد بسقت فيه عظام الأشجار وتهدلت فوقها أصناف الثمار، وهو لجيد الجزيرة الأيبيرية كالعقد لجيد الحسناء بلا إنكار. (1) اسم الجزيرة الأيبيرية
توخينا أن نطلق على أسبانية والبرتغال اسم «الجزيرة الأيبيرية» لا لأنها فعلا جزيرة؛ قد جزر البحر عنها من الجهات الأربع، بل فرارا من تكرار جملة «شبه الجزيرة الأيبيرية» ولقد كان العرب يسمون هذه البلاد بالجزيرة الأندلسية مع معرفتهم أيضا بأنها شبه جزيرة وأنها متصلة بالأرض الكبيرة من ناحية جبال «البرتات» أو البرانس. وقد قالوا كذلك «جزيرة العرب» مع أنها محاطة بالبحر من جهات ثلاث لا غير مثل جزيرة الأندلس. هذا ولو ارتفع البحر المتوسط قليلا من جهة «أربونة»
Narbone
لغمر تلك البسائط إلى خليج «برديل»
Bordeaux
وصارت أسبانية والبرتغال جزيرة حقيقية.
أما هذه النسبة وهي الأيبيرية فهي نسبة إلى أمة قديمة يقال لها «الأيبير»
Ibere
كانت أقدم أمة عمرت تلك البلاد، ولم يعرف قبلها هناك أمة أخرى. وجميع الذين أوطنوا هذه الجزيرة إنما جاءوا بعد أمة الأيبير هذه. (2) اسم الجزيرة الأندلسية
أما الجزيرة الأندلسية التي كان العرب يسمون بها هذه البلاد فهي منسوبة إلى «الأندلس» وقد كثر الكلام في أصل هذه اللفظة، ولكن أرجح الأقوال أنها مشتقة من اسم «الفاندالس» وهم جيل من الناس كانوا يسكنون بين نهر «الأودر»
Oder
ونهر «الفيستول»
Vistule
في شرقي ألمانية. ويقال إنهم من أصل جرماني، ويقال إن بعضهم من أصل سلافي أو صقلبي كما تقول العرب. وهؤلاء الفاندالس زحفوا من الشمال إلى الجنوب حتى بلغوا بوغاز جبل طارق، وذلك سنة 411 قبل المسيح. ومن هناك أجازوا إلى إفريقية. فلما عرفهم أهل إفريقية أطلقوا اسمهم على البلاد التي جاءوا منها وسموا هذه البلاد بالأندلس. وقالوا أن عبورهم إلى المغرب كان من جهة «طريف»
Tarifa
وقالوا بل من الجزيرة الخضراء.
وجاء في الإنسيكلوبيديا الإسلامية في الجزء الأول صفحة 354 بقلم سيبولد
Scybold
أن الفاندالس لم يقيموا في جنوبي أسبانية إلا ثماني عشرة سنة لا غير، وأن بلاد جنوبي أسبانية كما يقال لها إلى ذلك الوقت «باتيكه»
Betique
فصار يقال لها «فانداليسيا» ومنها جاءت لفظة الأندلس، ولما جاء العرب وفتحوا أسبانية أطلقوا عليها هذا الاسم وصاروا يقولون أندلس، لا للبقعة الجنوبية المقابلة للمغرب فحسب، بل لجميع الجزيرة الأيبيرية ولجميع ما فتحوه من البلدان بعد أن عبروا بوغاز جبل طارق. فالأندلس عند العرب هي من بحر الزقاق أو بوغاز جبل طارق إلى جبال البرانس. وربما أطلقوا لفظة الأندلس على ما وراء البرانس من أرض الأفرنجة فأما الأسبان أنفسهم فكانوا لا يعرفون هذا الاسم قبل العرب وكانوا يسمون البقاع الجنوبية من الجزيرة الأيبيرية بأسبانية القديمة، كما كانوا يسمون شمالي أسبانية بأسمائها المختلفة مثل أستورية التي كان العرب يقولون لها أشتورية أو أشتورياس ومثل ليون وقشتالة وأراغون إلخ. ولكن بعد أن غلب العرب على تلك الأقطار واشتهر اسم الأندلس عند الأسبانيول أنفسهم صاروا يطلقونه على جنوبي أسبانية، لا سيما بعد أن بدأ العرب يتراجعون إلى الجنوب، إلى أن انحصر هذا الاسم في مملكة غرناطة الصغيرة. انتهى كلام الأنسيكلوبيدية الإسلامية ملخصا وقد نقل ذلك عنها المستشرق ليفي أو لاوي بروفنسال
E.Levi-Provençal
في كتابه (أسبانية المسلمة في القرن العاشر
8
المطبوع في باريز سنة 1932).
قلنا أن هذا الاسم لا يزال يطلق إلى الآن على ولايات أسبانية الجنوبية، مثل قرطبة وأشبيلية وغرناطة ورندة ومالقة وما جاورها. ولننظر الآن إلى ما قاله مؤرخو العرب في أصل اشتقاق لفظة الأندلس:
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان:
الأندلس يقال بضم الدال وفتحها وضم الدال ليس إلا، وهي كلمة عجمية لم يستعملها العرب في القديم وإنما عرفتها العرب في الإسلام وقد جرى على الألسن أن تلزم الألف واللام. وقد استعمل حذفها في شعر ينسب إلى بعض العرب فقال عند ذلك:
سألت القوم عن أنس فقالوا
بأندلس وأندلس بعيد
ثم أخذ ياقوت يبحث في بناء اللفظة ومكانها من الأوزان العربية وكيف أنه لا يوجد لها وزن في هذه اللغة، بحثا ليس له طائل، لأن هذه لفظة أندلس هي أعجمية من أصلها كما قال هو فلا حاجة لعرضها على وزن عربي. ولم يقل ياقوت مصدر هذه اللفظة كما ذكر غيره، ولكن نقل المقري في نفح الطيب عن ابن سعيد أنها إنما سميت بالأندلس لأن هذا الاسم هو اسم ابن طوبال بن يافث بن نوح الذي نزلها كما أن أخاه سبت بن يافث نزل العدوة المقابلة لها وإليها تنسب مدينة سبتة (؟) قال: وقال ابن غالب: إنه أندلس بن يافث والله تعالى أعلم.
وقال القلقشندي في صبح الأعشى الجزء الخامس: وقد اختلف في سبب تسمية الأندلس بهذا الاسم، فقيل ملكته أمة بعد الطوفان يقال لها الأندلش بالشين المعجمة فسمي بهم، ثم عرب بالسين المهملة. وقيل خرج من رومة ثلاثة طوالع في زمن الروم يقال لأحدهم القندلش بالقاف في أوله وبالشين المعجمة في آخره، فنزل القندلش هذه الأرض فعرفت به ثم عربت بإبدال القاف همزة والشين المعجمة سينا مهملة. ويقال أن اسمها في القديم «آفارية»
9
ثم سميت «باطقه» ثم أشبانية
10
ثم الأندلس باسم الأمة المذكورة. قال في تقويم البلدان: وسميت جزيرة لإحاطة البحر بها من الشرق والغرب والجنوب وإن كان جانبه الشمالي متصلا بالبر. (3) ما قاله دوزي عن اشتقاق اسم الأندلس
لم يأت دوزي في هذه المسألة بشيء جديد، ففي كتابه المسمى «بمباحث عن تاريخ أسبانية وآدابها في القرون الوسطى» المحرر بالأفرنسية، يقول: إن هذا الاسم كان يطلق على مقاطعة بتيكه وقد جعله العرب عاما لجميع أسبانية، فترجح أن لفظة أندلس مشتقة من الفندالس الذين قبل أن أجازوا إلى أفريقية احتلوا جنوبي أسبانية. وهذا الرأي في هذا الاشتقاق هو قديم، لأنه قد رواه الرازي ورد عليه بأن مقام الفندالس في جنوب أسبانية كان قصيرا جدا، ولكن الذي لا شك فيه هو أن أول من أطلق لفظ أندلس على مقاطعة بتيكة وعلى أسبانية كلها هم المسلمون، فإن مؤرخي شمالي أسبانية لا يعرفون هذا الاسم بل يسمون بأسبانية
Spania
جميع البلاد التي كانت في حوزة العرب. فأما مؤلفو العرب فيسمون البلاد بالأندلس ويذكرون وجه التسمية. وفي «أخبار مجموعة» يقول إن أندلس كان اسم الجزيرة التي نزل بها طريف، ويقال لها جزيرة طريف من ذلك الوقت، وقال المؤرخ عريب: أن طريفا نزل قبالة طنجة في الأندلس التي يقال لها اليوم جزيرة طريف. إذا أصل الاسم كان لذلك المحل لا للبلاد كلها، وقد ذكر غريغوار التوري
Grégore de tours
ما يدل على أن اسم المكان الذي نزل فيه طريف كان طرادوكته
Traducta
وهو المكان الذي أجاز منه الفاندالس إلى أفريقية فلما جاء البربر ونزلوا في هذا المكان سموا بأندلس كل البلاد وجاء طارق من بعده فكان هذا الاسم أصبح مستعملا. (4) تخطيط الجزيرة الأندلسية
قال سيبولد في الإنسيكلوبيدية الإسلامية: إن العرب لم يكونوا ليتخلصوا من المصور الجغرافي المعكوس المنحرف الذي وضعه بطليوس من قديم الزمان، فكانوا يصورون أسبانية بشكل مثلث غير منتظم، أطرافه هي: من الجنوب طريف ورأس مراكش، ومن الشمال الشرقي رأس كريوس
Créus
ومرسى فاندر
Fort-Vendres
وفي الشمال الغربي بلاد فينستير
Finistére
وكذلك كانوا يصورون جميع الشواطئ الممتدة من طريف إلى كريوس أو بالأقل إلى طركونة وبرشلونة كأنها ثغور جنوبية كما تعلم ذلك من كتاب المراكشي. فأما جبال البرانس فهي في تصورهم ثغور شرقية للأندلس! ثم إنهم فيما بعد فهموا أن شرق الأندلس إنما هو سواحل بلنسية ومرسية وفهموا أن الحد الغربي هو الأقيانوس الأطلانتيكي الذي كانوا يقولون له بحر الظلمات أو البحر المظلم أو البحر المحيط الأعظم أو الأقيانوس أو القاموس أو البحر الغربي في مقابلة الشرقي الذي كانوا يقولون له البحر الرومي أو البحر الشامي أو المتوسط. وكان الحد الغربي للأندلس عندهم ممتدا من طريف إلى رأس «سان فنسان»
Cap Saint-Vincent
أو رأس «روكه»
Roca
عند أشبونة
Sisbonne
ومن هناك يصير عندهم الحد الشمالي الذي يمتد وراء غاليسية
Galice
إلى جبال البرانس في بلاد «فونترابية»
Fontarabie . وكانوا يقولون لجبال البرانس جبل البرتات أو الجبل الحاجز أو الفاصل، ويسمون جبال قشتالة بجبل الشارات وجبال نيفاده
Nèvada
بجبل الثلج أو جبل شلير
Chulair (وأصل هذه اللفظة هو سولوريوس
Solorius ).
ولهذا جميع الأطالس الجغرافية المتعلقة بأسبانية العربية المنشورة إلى اليوم هي غير صحيحة، سواء أطالس «سبرونر» و«منكه»
Spruner et menka
المطبوعة سنة 1880 وأطالس دوريزين
Draysen
المطبوعة سنة 1894 في كتاب أوغست مولر المسمى «بالإسلام في الشرق والغرب» أو أطالس ستانلي لانبول
Sane-poole
في كتابه «العرب في أسبانية» وكلها قد تناقلت الأغلاط الجغرافية من أيام «كازيري» و«كوندي» و«سوزة» «جوبرت» «غاينغوس» و«هامر» «وملرن» وغيرهم حتى أن دوزي
Dozy
نفسه برغم مجهوداته الكثيرة لم يترك أثرا يذكر في تصحيح جغرافية أسبانية، وهو في ترجمته لكتاب الإدريسي عن الأندلس والمغرب وتعليقه عليه لم يأت أيضا بشيء من تصحيح الأغلاط التي وردت في نفس الأصل
11
نعم أنه في تضاعيف كتبه عن الأندلس حقق بعض أماكن لا سيما في مبحثه المسمى «بملاحظات جغرافية عن بعض مقاطعات الأندلس القديمة» ذلك في كتابه المسمى «بالتنقيبات عن تاريخ أسبانية وآدابها».
Rechereches sur l’histoire et la Litterature de l’Espagne .
ولم تتقدم جغرافية أسبانية العلمية في كتابات «سافيدرا»
Soavedra
ولا «سيمونه»
Simoner
ولا «أغيلاز»
Egilaz
ولا «قديره»
Codera
ولا «باسه»
Basser .
وقد كان يجب جمع جميع ما تقدم من المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع، ونخلها نخلا دقيقا، مع طرح جميع المجازفات والأخطاء التي تراكمت من أيام كزيري
Caisri
وكوندي
Conde
إلى أيام هامر
Hamner
وميرن
Mehren
فكما أن دوزي الكبير عندما كتب التاريخ المسمى بتاريخ مسلمي أسبانية ترك جميع ما تقدم عنها من الكتابات، وعدها لغوا، ورجع إلى المنابع العربية نفسها؛ كذلك يجب العمل نفسه في جغرافية هذه البلاد. وهذا العمل يحتاج إلى مراجعة الكتب اللاتينية والأسبانية والعربية نفسها. وذلك أنه وإن كان التعصب الأعمى، بعد سقوط مملكة غرناطة، قد أخنى على كنوز أدبية هي فوق كل تقدير، ومحا كتبا ذهبت وأصبح لا يمكن إحياؤها، فإنه لا بد أن يكون في الشرق وفي شمالي أفريقية كتب عربية متعلقة بالأندلس يمكن الاستفادة - جد الاستفادة منها - بل يجب جمع التآليف الجغرافية والتاريخية التي كتبها العرب، من زمن ابن خورداذبه، إلى اليعقوبي، إلى المسعودي، إلى ياقوت، إلى المقري الذي أخذ عن مائة مصنف، هذا مع مراجعة كتب التراجم التي فيها نسبة العلماء الأندلسيين إلى بلدانهم مما تؤخذ منه معلومات جغرافية كثيرة أيضا، ومما يدل على انتشار العلم في أسبانية العربية بصورة مدهشة. ومما لا شك فيه أنه قبل كل شيء تلزم مراجعة المكتبة العربية الأسبانية
Beblioteca Arabico-Hispana
لقديرة
12
التي هي عشرة مجلدات وفيها تراجم علماء الأندلس، وإن كان مع الأسف فيها تحريف أسماء كثيرة من أسماء البلاد التي ينسب إليها أولئك العلماء. انتهى ملخصا.
وقال لاوي بروفنسال في كتابه «أسبانية الإسلامية في القرن العاشر»: إن جغرافيات العرب لم ترد فيها تفاصيل كافية شافية عن الأندلس، ونحن مضطرون أن نقتنع بالموجود بين أيدينا منها، مثل كتاب الهمذاني الذي كتب في حوالي سنة 910 مسيحية، وكتاب الأصطخري الذي تاريخه 921 مسيحية، أي أوائل عهد عبد الرحمن الناصر، وابن حوقل الذي أكمل جغرافيته سنة 976 والمقدسي الذي كتب كتابه في أحسن التقاسيم. بعد ابن حوقل، فالأصطخري ذكر أن أهم مدن الأندلس في أيامه كانت شنترين، وجبل طارق، وطليطلة، ووادي الحجارة، ورية، وفحص البلوط، وقورية، وماردة. وقال: إن أهم الثغور لذلك العهد كانت ماردة ونقزة ووادي الحجارة وطليطلة. وأما المقدسي فأحصى ثماني عشرة كورة للأندلس (سيأتي كلام المقدسي بحروفه نقلا عن الأصل).
أما محمد بن أحمد الرازي الأندلسي فله تاريخ وجغرافية للأندلس، لا يوجد لهما سوى ترجمة باللغة الأسبانية القشتالية، عن ترجمة برتغالية، عن الأصل العربي الذي كتب في أوائل القرن الرابع عشر، وقد أمر بهذه الترجمة إلى البرتغالية دنيس ملك البرتغال. وكتاب الرازي هذا كان عمدة ياقوت الحموي عن الأندلس. وبحسب كلام الرازي كانت الأندلس إحدى وأربعين كورة: قرطبة، وقبرة، والبيرة، وجيان، وتدمير، وبلنسية، وطرطوشة، وطراكونة، ولاردة، وبرباطانية، ووشقة، وتطيلة، وسرقسطة، وباروشة، ومدينة سالم، وشنتبرية، وراقوبيل، وزوربته، ووادي الحجارة، وطليطلة، وأوبيط، وفحص البلوط، وفريش، وماردة، وبطليوس، وبيجه، وأقشنوبه، وشنترين، وقويمره، وأكشيتانية، ولشبونة، وأشبيلية، وقرمونة، ومورون، وشذونة، والجزيرة، ورية، وأسجه، وناكرونه. وأما الإدريسي الذي كتب جغرافيته في القرن الثاني عشر فالأندلس عنده ستة وعشرون إقليما - وهو تقسيم جغرافي ليس بسياسي ولا إداري - وهذه الأقاليم هي: البحيرة، وشذونة، وجرف، وقنبانية، وأشونه، ورية، والبشرات، وبجانه، والبيرة، وقريرة، وتدمير، وقونسه، وأرجيرة، ومربيطر، والقواطم، والفلجه، والبلالطة، والفخر، وقصر أبي دنيس، والبلاط، وبلاطة، والشارات، وأرنيده، والزيتون، والبرتات، ومرمرية. قال: وقد رأينا أن الشاميين نزلوا في البيرة، وأن أهل الأردن نزلوا مالقة، وأن أهل فلسطين نزلوا في شذونة، وأن أهل حمص نزلوا في أشبيلية، وأن أهل قنسرين سكونوا جيان، وأن أهل مصر كانوا في بيجة ومرسية، فكانت هذه المدن في زمن الخلافة الأموية أمصارا. وأما سائر الكور فتشكلت فيما بعد، مثل كور الجنوب العربي، وهي: مورون، ولبلة، وماردة، وشنترين، وناكرونه، ورية، وبجانه، أي رندة، ومالقة، وأطرية. وسنة 350 عندما تولى الحكم المستنصر كانت الثغور خطا منحنيا مارا بالقسم الشمالي من الأندلس من شرقيه إلى الغرب، يبتدئ من جنوبي برشلونة ويمتد شمالا بغرب، وذلك من عند بربشتر ووشقة، ثم يتصل بوادي إبره شمالي تطيلة، ثم يصعد من هذا الوادي إلى هارو، ثم يعود فينحني صوب الجنوب تابعا مجرى الوادي الجوفي أي دويره، إلى المحيط الأطلانتيكي بعد أن يمر بالمدن التالية: أشمه، وسيمنكاس، ورموره، ولاميغو، وبورته. وأما المسعودي فيقول في مروج الذهب الذي تاريخه سنة 327 للهجرة: إن الثغر الشمالي يمتد من طرطوشة إلى أفراغة إلى لاردة.
انتهى وسيأتي كلام المسعودي بحروفه. (5) عدد سكان أسبانية
لاشك أن العصر الذي بلغت فيه أسبانية ذروة نموها هو العصر الروماني، فقد قيل أنه كان فيها أيام الرومان من ثلاثين إلى أربعين مليون نسمة. ولكن لم يوجد وثائق تاريخية تؤيد بلوغ أهالي الجزيرة الأيبيرية هذا العدد. ثم أنها كانت في نمو عظيم أيام العرب، يستدل على ذلك بكثرة مدنها الحافلة لعهد العرب، فقد كان فيها نحو من أربعين مدينة عربية، ومنها قرطبة التي أحزر عدد سكانها بنحو من مليوني نسمة، كما سيأتي الكلام في هذا المبحث. إلا أنه مع الأسف لا يوجد عندنا وثائق يعرف منها بالضبط عدد المسلمين الذين كانوا في أسبانية لعهد الناصر مثلا ولا عدد مجموع السكان من مسلمين ومسيحيين في ذلك العصر.
ومن باب الحزر والتخمين أقول إنه يمكن أن يكون عدد مسلمي الأندلس لعهد الناصر والمستنصر أقل من خمسة عشر مليونا. ولما أجلى الأسبانيول المسلمين واليهود هبط عدد سكان أسبانيا، لهذا السبب ولسبب آخر هو كشف أميركة التي هاجروا إليها، هبوطا عظيما. ففي سنة 1594 كان عدد سكان أسبانية نيفا وثمانية ملايين، ومضى على ذلك قرنان ولم يزدد عدد الأهالي أكثر من مليون واحد، ففي سنة 1768 كان في أسبانية تسعة ملايين ومائة وستون ألفا من السكان، ثم ازداد هذا العدد في زمن آل بربون إلى عشرة ملايين، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر. وسنة 1832 كانوا أحد عشر مليونا، وسنة 1849 كانوا 14 مليونا، وفي أوائل هذا القرن العشرين صاروا 21 مليونا، والآن هم 22 مليونا و338 ألفا.
ومعدل كثافة السكان بالنسبة إلى مساحة الأرض هو 40 نسمة في الكيلومتر الواحد، هذا بالتعديل المتوسط. وأسباب عدم تزايد السكان كما في الممالك الأخرى، لا تنحصر في المهاجرة، بل هناك أسباب أخرى، مثل عدم التناسب في توزيع الأراضي، ومثل فدح الضرائب، ومثل التعامل بالربا، ومن جملة هذه الأسباب ندور الحراج والغابات، فالناس يرحلون إلى أميركة من الفقر ولا سيما من بلاد البشكونس ولاردة ووشقة وجيرونة. وأكثر الذين يرحلون من الجنوب هم أهالي المرية والقنت، ففي السنة يرحل زهاء مائتي ألف، وهم يرحلون إلى المكسيك والأرجنتين وسائر أمريكا. ومنهم من يرحل إلى المغرب وإلى الجزائر. وفي عمالة وهران 175 ألف أسبانيولي.
هوامش
الفصل الثاني
أقوال العرب عن جغرافية الأندلس
(1) قول ابن حوقل
قال ابن حوقل الذي خرج راحلا من مدينة السلام سنة 331، ووصف جميع ما شاهده؛ وأما الأندلس فجزيرة كبيرة فيها عامر وغامر، وطولها دون الشهر في عرض نيف وعشرين مرحلة، وتغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر والرخص والسعة في الأحوال من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر، إلى أسباب التملك الفاشية من أكثرهم، ولما هم بها من رغد العيش وسعته وكثرته. يملك ذلك أهل مهنهم وأرباب صنائعهم لقلة مؤنهم وصلاح بلادهم. ويساوي ملكهم بقلة شغله وسقوط تكلفه بشيء يحذره وحال يخافه، إذ لا خوف عليه ولا رقبة لأحد من أهل جزيرته مع عظم مرافقه وجباياته ووفور خزائنه وأمواله. ومما يدل بالقليل منه على كثيره أن سكة دار ضربه على الدنانير والدراهم ضريبتها في كل سنة مائتا ألف دينار، يكون، عن صرف سبعة عشر بدينار، ثلاثة آلاف ألف درهم وأربعمائة ألف درهم، هذا إلى صدقات البلد وجباياته وخراجاته وأعشاره وضماناته ومراصده والأموال المرسومة الواردة والصادرة والجوالي والرسوم على بيوع الأسواق. ومن أعجب أحوال هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يدهم من صغر أحلام أهلها وضعة نفوسهم ونقص عقولهم وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة ولقاء الرجال ومراس الأنجاد والأبطال، وعلم موالينا
1
عليهم السلام بمحلها في نفسها ومقدار جباياتها ومواقع نعمها ولذاتها.
2
فأما مغرب هذه الجزيرة، فمن مدخل هذا الخليج المذكور
3
ومصب مائه عند البحر المحيط من نواحي «لبلة» (niebla)
و«جبل العيون» (Gibraleon)
آخذا على «ألب»
Hielba
و«شلب»
Silves
إلى أن يتصل «بشنترة»
Cintre
ذاهبا على «سمورة»
Zamora
وليون
Léon
وأربونة
Narbonne
من بلاد جليقية
4
إلى أقاصي (بياض بالأصل). ومشرقها فمن مشرق جليقية إلى الخليج الرومي على نواحي «سرقصة» وضواحي «وسكة»
5
وطرطوشة وجميع بلاد الأفرنجية من جهة البر، وجنوبها الخليج المذكور من تجاه جزيرة صقيلية إلى بلاد بلنسية ومرسية والمرية ومالقة والجزيرة إلى ركن البحر المحيط وأول أرضها المعمورة على الخليج الرومي، فمن أشبيلية إلى طرطوشة وهي آخر المدن التي على البحر المتصلة ببلاد الأفرنجة، ومن جهة البر ببلاد (علجسكس) وهي بلاد حرب من النصارى، ثم تتصل ببلد (بسكونس) وهي أيضا نصارى، ثم ببلاد الجلالقة، فتنتهي الأندلس إلى حدين: حد إلى دار الكفر، وحد إلى البحر. وما ذكرته من المدن على البحر وغيره فمدن كبار عامرة ولم تزل الأندلس في أيدي بني مروان إلى هذه الغاية. ومن مشاهير مدنها القديمة جيان
Jian
والأسبانيول يلفظونها الآن خيان (بالخاء على عادتهم في قلب الجيم خاء) وطليطلة (Toledo)
ووادي الحجارة (والأسبانيون يكتبونها هكذا
Guadalajara
وكان العرب يسمونها أيضا مدينة الفرج) وجميعها قديمة ولم يحدثوا بها بالإسلام غير مدينة بجانة (Pechina)
وهي المرية (نقل القلقشندي في صبح الأعشى عن تقويم البلدان أن مدينة مرسية هي إسلامية محدثة بنيت في أيام الأمويين) وهي على حدود رستاق والبيرة وشنترين على ظهر البحر المحيط. وبالأندلس قلاع كثيرة ترد إلى مصر والغرب وأكثر جهازهم الرقيق من الجواري والغلمان، من سبي أفرنجة وجليقية والخدم الصقالبة.
وجميع من على وجه الأرض من الصقالبة الخصيان من جلب
6
الأندلس، لأنهم بها يخصون، ويفعل ذلك بهم تجار اليهود عند قرب البلد. وجمع ما يسبى إلى خراسان من الصقالبة فباق على حالته، ومقد على صورته؛ وذلك أن بلد الصقالبة طويل فسيح، والخليج الآخذ من بحر الروم ممتدا على القسطنطنية وأطرابزندة يشق بلدهم بالعرض، فنصف بلدهم بالطول يسبيه الخراسانيون، والنصف الشمالي يسبيه الأندلسيون، من جهة جيليقية وأفرنجة وأنكبردة
Lombardia
وقلورية
Galabra
وبهذه الديار من سبيهم الكثير باق على حاله.
وريو
Rio
7
كورة عظيمة خصيبة، ومدينتها «أرجدونة» ومنها كان عمر ابن حفصون الخارج على بني أمية، وفحص البلوط متصل بديار ابن حفصون كورة واسعة خصيبة. وأسقفة رستاق حسن ومدينته غافق.
8
وبالأندلس غير ضيعة فيها الألوف من الناس لم تمدن. وهم على دين النصرانية روم، وربما عصوا في بعض الأوقات ولجأ قوم منهم إلى حصن، فطال جهادهم لأنهم في غاية العتو والتمرد، وإذا خلعوا ربقة الطاعة صعب ردهم إلا باستئصالهم، وذلك شيء يطول. وماردة وطليطلة من أعظم مدن الأندلس وأشدها منعة
9
وثغور الجلالقة «ماردة» و«نفزة»
10
و«وادي الحجارة» و«طليطلة». ومدينة الجلالقة مما يلي ثغور الأندلس يقال لها «سمور» (Zamora) . وعظيم الجلالقة بمدينة يقال لها «ليون»
Léon
فيها سلطانهم وعدتهم بعد سمورة، ومدينة يقال لها «أوبيت» (Ovido)
وهي بعيدة عن بلد الإسلام، وليس في أصناف الكفر الذين يلون الأندلس (يريد أن يقول أنهم يجاورون الأندلس) أكثر عددا من الأفرنج، غير أن الذين يلون المسلمين منهم فئة ضعيفة شوكتهم، قليلة عدتهم، وفيهم إذا ملكوا طاعة، وحسن نصيحة، ومحاسن كثيرة، وإليهم يرغب أهل الأندلس عن الجلالقة بأولادهم، والجلالقة أصدق محاسن، وأقل طاعة، وأشد قوة، وأكثر بأسا وبسالة، وفيهم غدر. وهم في عرض طريق الأفرنجة.
وأعظم مدينة بالأندلس قرطبة، وليس بجميع المغرب عندي لها شبيه في كثرة أهل وسعة رقعة، وفسحة أسواق، ونظافة محال، وعمارة مساجد، وكثرة حمامات وفنادق. ويزعم قوم من أهلها أنها كأحد جانبي بغداد: وذلك أن عبد الرحمن بن محمد
11
ابتنى في غربها مدينة تعرف بالزهراء في سفح جبل يعرف بجبل «بطلش»
12
وخط فيها الأسواق، وابتنى الحمامات والخانات والقصور والمتنزهات واجتلب إلى ذلك بناء العامة، وأمر مناديه بالنداء: ألا من أراد أن يبني دارا أو يتخذ مسكنا بجوار السلطان فله أربعمائة درهم، فتسارع الناس إلى العمارة، فتكاثفت وتزايدوا فيها، فكادت أن تتصل الأبنية بين قرطبة والزهراء، وانتقلوا ببيت مالهم وديوانهم وخزائنهم. وقد نقل جميع ذلك وأعيد إلى قرطبة تطيرا منهم بها، وتشاؤما بموت رجالهم فيها، ونهب سائر ذخائرهم.
وسمعت من غير ثقة ممن يستنبطن حالهم أن لعبد الرحمن بن محمد، مما اتجه له جمعه من مال الأندلس وجباياتها، من حقوقها وغير واجبها إلى سنة 340 نحو عشرين ألف ألف دينار، ولست أشك على ما يوجبه النظر، وتواطأ به الخبر، في ما جمعه الحكم بعد هلاك أبيه، من خدمه والمصادرين الذين كانوا في جملته، وإلى وقتنا هذا عن أسباب الأندلس ولوازمها وجباياتها وخراجها وأعشارها وصدقاتها وجواليها
13
تمام أربعين ألف ألف دينار. وليس لهذا المال في وقتنا هذا بموضع من مواضع الأرض نظير، غير ما في يد أبي تغلب الغضنفر بن الحسن بن عبد الله بن حمدان، فإنه مما يعلمه الخاص والعام بالعراق وديار ربيعة، جمع من تركة أبيه ما يضاهيه ويزيد عليه زيادة بينة.
وقرطبة وإن لم تكن كأحد جانبي بغداد فهي قريبة من ذلك ولاحقة به إن شاء الله، وهي مدينة حصينة ذات سور من حجارة ومحال حسنة، وفيها كان مسكن سلطانهم قديما، وداره داخل سورها، وأكثر أبواب هذه الدار مشرعة في البلد من غير جهة. ولها بابان يشرعان في نفس السور إلى الطريق الآخذ على الوادي من الرصافة، والرصافة مساكن أعالي البلد متصلة بأسفلها من ربضها، مشتبكة أبنيتها، محيطة بها، مستديرة عليها من شرقها وشمالها وغربها. فأما الجنوبية منها فهو إلى واديها، وعليها الطريق المعروف بالرصيف، والأسواق والبيوع والخانات والحمامات ومساكن العامة بربضها
14 ، ومسجد جامعها جليل في نفس المدينة، والحبس منه قريب، وقرطبة هذه بائنة بنفسها عن مساكن أرباضها ظاهرة، ودرت بها في غير يوم في قدر ساعة، وقد قطعت الشمس خمسة عشر دقيقة ماشيا.
وللزهراء أيضا مسجد جامع دون جامع البلد في المحل والقدر والكبر، وعلى سورها سبعة أبواب حديد، وليس لها نظير بالمغرب فخامة حال، وسعة تملك، وابتذالا لجيد الثياب والكسى، وفراهة كراع، وكثرة حلي، وإن لم يكن لها في عيون كثير من الناس حسن بارع، فليس لجيوشهم حلاوة في العين، ولا علم بأفانين الفروسية وقونينها، ولا بالشجاعة وطرقها. وأكثر ظفر جيوشهم في القتال بالكيد، ومما يدل على ذلك أني لم أر قط بها أحدا أجرى فرس فاره أو برذون هجين، ورجلاه في الركب ، ولا يستطيعون ذلك، ولا بلغني عن أحدهم، وكل ذلك لخوفهم من السقوط إلى فشل فيهم عند لقائهم وتواطؤهم على نزع أرجلهم من ركبهم، ولم تطبق قط جريدة عبد الرحمن، ولا من سبقه من آله، خمسة آلاف فارس، فمن يقبض رزقه ويختم عليه ديوانه لأنه مكفي المؤونة بأهل الثغور، مما ينوبه من كيد العدو الذي يجاوره من الروم، ولا عدو عليه سواهم، وقلما يكترث لهم، وربما طرقه في الأحايين مراكب الروس والترك والصقالبة والبجناكية، وهم جيل من أجيال الترك المجاورين لأرض الخزر والبلغار، فأنكوا في أعمال الأندلس وربما انصرفوا خاسرين.
وبالأندلس غير مجلب من التجارة كالزيبق والرقيق والحديد والرصاص، وضروب من الفرش، كقطع الأرمني الحسن. وعندهم تعمل اللبود المشهورة في جميع الأرض بالجودة والصبغ الحسن، ولهم من الألوان والأصباغ والحشائش التي يلون بها الحرير وأنواع الصوف والثياب ما ليس في بلد من بلدان الأرض له نظير حسنا وكثرة. فأما أسعارهم فتضاهي النواحي الموصوفة في الرخص، وكثرة فواكههم مع طيبة فيها كالمباحة التي لا ثمن لها. وملابسهم نظيفة، إلى طيب عيش يناله عوامهم وقل من يصير إليه أهله من أهلها إلا على الفاره من المركوب، ولا يعرف فيهم المهنة والمشي إلا أهل الصنائع والأرذال، وأكثر ركوبهم البغال وفيها يتفاخرون وبها يتكاثرون. ولهم منها نتاج في جزائرهم
15
لم أر مثله في معادن البغال المذكورة، ومواضعها المشهورة، كأرمينية والران، ونتاج برزعة، وباب الأبواب،
16
وشروان شاه، لأنها توضع عندهم، وتنجب في بلدهم، ويجلب إليهم أيضا منها شيء حسن الشية، عظيم الخلق، كثير الثمن والطالب من ميورقة، وهي جزيرة في بحرهم منقطعة تلي ناحية الفرنجة، واسعة الخير، كثيرة الثمار، رخيصة الماشية، لكثرة المراعي، غزيرة النتائج والمواشي، معدومة الجوالح، قليلة الآفة، فليس بها عاهة ولا وحش يؤذيهم في سائمتهم، ورأيت منها غير بغل بيع بخمسمائة دينار، وإليها ترغب ملوكهم وإياها يتوطؤن، ويؤثرون فيما يركبون. فأما ما تبلغ قيمته منها مائة والمائتي دينار فأكثر من أن يحصى. وليس ذلك لأنها أزيد على البغال الموصوفة في حسن السير وسرعة المشي، بل لعظم خلقها، وحسن شياتها، واختلاف ألوانها، وجمال مناظرها وعلو ظهورها، وصحة قوائمها.
ذكر المسافات بها من قرطبة إلى «مراد»
17
مرحلة، ومن مراد إلى «غرغيره»
18
يوم، ثم إلى أشبيلية يوم، وهي مدينة كثيرة الفواكه والكروم، والتين خاصة، وهي على وادي قرطبة (أي الوادي الكبير). ومن أشبيلية إلى «لبلة»
19
يومان. وهي مدينة صالحة القدر، عليها سور. ومنها إلى «جبل
20
العيون» يومان، وهي مدينة قديمة أزلية كثيرة الخير، ومن جبل العيون إلى «ألب»
21
ثلاثة أيام، وهي أيضا مدينة قديمة ذات سور، ومن ألب إلى «أخشنبة»
22
وهي مدينة مشهورة عظيمة كثيرة الخير، أربعة أيام، ومن أخشنبه إلى مدينة «شلب»
23
ستة أيام، ومن شلب إلى «قصر أبي
24
دانس» خمسة أيام، وهي مدينة صالحة خصيبة، ومنها إلى المعدن، وهو فم النهر، إلى مدينة «لشبونة»
25
يوم، ومن لشبونة إلى شنترين
26
يومان، ومن شنترين إلى «يابرة»
27
أربعة أيام، ومن يابرة إلى «جلبانة» يومان، ومن جلبانة إلى «ألبش» يوم، ومن ألبش إلى «بطليوس»
28
عدوة النهر، يوم، ومن بطليوس إلى «قنطرة
29
السيف» أربعة أيام، ومن قنطرة السيف إلى «ماردة»
30
يومان، ومن ماردة إلى «مدلين»
31
يومان، ومن مدلين إلى «ترجيلة»
32
يومان، ومن ترجيلة إلى «قصراش»
33
يومان. ومن قصراش إلى «مكناسة» يومان. ومن مكناسة إلى «مخاضة البلاط» يوم، ومن مخاضة البلاط إلى «طلبيرة»
34
خمسة أيام، ومن طلبيرة إلى طليطلة ثلاثة أيام. ومن قرطبة إلى بطليوس في جهة المغرب على الجادة ست مراحل. ومن قرطبة إلى بلنسية اثنتا عشرة مرحلة. ومن قرطبة إلى المرية، فرضة بجانة، سبعة أيام، ومن المرية إلى مرسية خمسة أيام.
وجميع هذه المدن المذكورة مشهورة بالغلات والتجارات والكروم والعمارة والأسواق والعيون والحمامات والخانات والمساجد الحسنة، وفيها ما يزيد على بعضها في المحال والجباية والارتفاع والولاة والقضاة والمحلفين على رفع الأخبار، وتأمل الأحوال، وليس بها مدينة غير معمورة، ذات رستاق فسيح إلى كور، إلا ولها ضياع كثيرة، وأكارة واسعة، وماشية وسائمة، وعدة وكراع وعبيد. ومن قرطبة إلى كركويه،
35
مدينة فيها منبر ولها أسواق وبها حمامات وفنادق، أربعة أيام ، وفي كل ليلة ينزل بقرية آهلة، ومن كركويه إلى «قلعة رباح»
36
يوم، وهي مدينة كبيرة ذات سور من حجارة، ولها واد كبير هي عليه، منه شربهم ويزرعون عليه، وبها أسواق وحمامات ومتاجر، والطريق على قرى ذات عمارة.
ومن قلعة رباح إلى «ملقون» مرحلة، وهي مدينة على نهر، لها سور من تراب، وهي دون قلعة رباح في الكبر، ونهرها يعرف باسمها، ومنه شرب أهلها. ومنها إلى «أبلش» مرحلة، وهي قرية فيها فندق وعين منها شربهم آهلة، ومن أبلش إلى طليطلة مرحلة، وطليطلة مدينة كبير جليلة مشهورة، أكبر من بجانة، ذات سور منيع، وهي على وادي تاجه، وعليه قنطرة عظيمة، ويقال إن طولها خمسون باعا، ويصير واديها إلى الوادي المنصب إلى شنترة.
ومن طليطلة إلى «مغام»
37
مرحلة، وهي قرية كبير بها معدن الطفل الأندلسي، ومن مغام إلى «الغرا» مرحلة، وهي مدينة كبيرة ذات سوق ومحال وتكون نحو وادي آش. ومن الغرا إلى وادي الحجارة، وهي مدينة كبيرة، وثغر مشهور الحال مسور بحجارة، وهي ذات أسواق وفنادق وحمامات وحاكم ومحلف وبها تسكن ولاة الثغور كأحمد بن يعلى وغالب، وعليها أكثر جهاد جليقية، ومنها إلى «شعراء القوارير» مرحلة، وبها منهل تنزله الرفاق، ومن شعراء القوارير إلى «مدينة سالم» مرحلة، ومن مدينة سالم إلى مدينة غالب بن عبد الرحمن، ولها سور عظيم ورساتيق وإقليم واحد وماشية، رفهة في جميع أسبابها، وهي أكثر الأندلس حربا وغزوا. انتهى كلام ابن حوقل. (2) قول ياقوت الحموي
وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان:
قال ابن حوقل التاجر الموصلي، وكان قد طوف البلاد، وكتب ما شاهده: أما الأندلس فجزيرة كبيرة، فيها عامر وغامر، طولها نحو الشهر، في نيف وعشرين مرحلة، تغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر والرخص والسعة في الأحوال. وعرض فم الخليج الخارج من البحر المحيط قد اثني عشر ميلا، بحيث يرى أهل الجانبين بعضهم بعضا ويتبينون زروعهم وبيادرهم. قال: وأرض الأندلس من على البحر تواجه من أرض المغرب تونس. وإلى «طبرقة» إلى «جزائر مزغناي» ثم إلى «أنكور» ثم إلى «سبتة» ثم إلى «أريلي» ثم إلى البحر المحيط. وتتصل الأندلس في البر الأصغر من جهة جليقية، وهو جهة الشمال، ويحيط بها الخليج المذكور من بعض مغربها وجنوبها، والبحر المحيط من بعض شمالها وشرقها من حد الجلالقة على كورة «شنترين»
38
إلى «لشبونة»
39
ثم إلى جبل الغور، ثم إلى ما لديه من المدن إلى جزيرة جبل طارق، المحاذي لسبته، ثم إلى «مالقة» ثم إلى «المرية» فرضة «بجانة»
40
ثم إلى بلاد «مرسية»
41
ثم إلى «طرطوشة»
42
ثم تتصل ببلاد الكفر مما يلي البحر الشرقي في ناحية أفرنجة، ومما يلي الغرب ببلاد «علجسكس»
43
وهم جيل من الأنكبرد
44
ثم إلى بلاد «بسكونس»
45
ورومية الكبرى في وسطها، ثم ببلاد الجلالقة حتى تنتهي إلى البحر المحيط.
ووصفها بعض الأندلسيين بأتم من هذا وأحسن. وأنا أذكر كلامه على وجهه قال: هي جزيرة ذات ثلاثة أركان مثل شكل المثلث، قد أحاط بها البحران المحيط والمتوسط، وهو خليج خارج من البحر المحيط، قرب سلا من بر البربر، فالركن الأول هو في هذا الموضع الذي فيه صنم قادس،
46
وعنده مخرج البحر المتوسط الذي يمتد إلى الشام، وذلك من قبلي الأندلس، والركن الثاني شرقي الأندلس بين مدينة «أربونة»
47
ومدينة «برديل»
48
وهي اليوم بيد الأفرنج بإزاء جزيرتي «ميورقة» و«منورقة» مجاورة من البحرين المحيط والمتوسط ومدينة أربونة تقابل البحر المتسوط، ومدينة برديل تقابل البحر المحيط. والركن الثالث هو ما بين الجنوبي والغربي من حيز جليقية، حيث الجبل الموفى على البحر، وفيه الصنم العالي المشبه بصنم قادس، وهو البلد الطالع على بريطانية
49 . فالضلع الأول منها أوله حيث مخرج البحر المتوسط الشامي من البحر المحيط، وهو أول الزقاق في موضع يعرف بجزيرة طريف من بر الأندلس يقابل قصر مصمودة بإزاء سلا في الغرب الأقصى من البر المتصل بأفريقية وديار مصر، وعرض الزقاق ههنا اثنا عشر ميلا، ثم تمر في القبلة إلى الجزيرة الخضراء من بر الأندلس المقابلة لمدينة سبتة. وعرض الزقاق ههنا ثمانية عشر ميلا. وطوله في هذه المسافة إلى ما بين جزيرة طريف وقصر مصمودة إلى المسافة لتي ما بين الجزيرة الخضراء وسبتة نحو العشرين ميلا. ومن ههنا يتسع البحر الشامي إلى جهة المشرق، ثم يمر من الجزيرة الخضراء إلى مدينة «مالقة»
50
إلى حصن «المنكب»
51
إلى مدينة «المرية»
52
إلى قرطاجة
53
الخلفاء، حتى تنتهي إلى جبال «قاعون»
54
الموفى على مدينة «دانية»
55
ثم ينعطف من دانية إلى شرقي الأندلس، إلى حصن «قليره»
56
إلى بلنسية. ويمتد كذلك شرقا إلى «طركونة»
57
إلى «برشلونة»
58
إلى «أربونة» إلى البحر الرومي، وهو الشامي، وهو المتوسط.
مرور العرب لأول مرة من المغرب إلى الأندلس سنة 710 ب.م.
والضلع الثاني مبدؤه كما تقدم من جزيرة «طريف»
59
إلى «طرف الأغر»
60
إلى جزيرة «قادس»
61
وههنا أحد أركانها. ثم يمر من قادس إلى بر المائدة،
62
حيث يقع نهر أشبيلية في البحر، ثم إلى جزيرة «شلطيش»
63
إلى وادي «يانة»
64
إلى «طبيرة»،
65
ثم إلى «شنترية»
66
إلى «شلب»،
67
وهنا عطف إلى أشبونة وشنترين، وترجع إلى طرف العرف، مقابل شلب. وقد يقطع البحر من شلب إلى طرف العرف مسيرة خمسين ميلا، وتكون أشبونة وشنترة وشنترين على يمين من حوز طرف العرف، وهو جبل منيف داخل في البحر نحو أربعين ميلا، وعليه كنيسة الغراب
68
المشهورة، ثم يدور من طرف العرف مع البحر المحيط فيمر على حوز «الريحانة» وحوز «المدرة» وسائر تلك البلاد مائلا إلى الجوف،
69
وفي هذا الحيز هو الركن الثاني.
والضلع الثالث ينعطف في هذه الجهات من الجنوب إلى الشرق، فيمر على بلاد جليقية وغيرها حتى ينتهي إلى مدينة برديل (Bordeaux)
على البحر المحيط المقابل لأربونة على البحر المتوسط، وهنا هو الركن الثالث، وبين أربونة وبرديل الجبل الذي فيه هيكل الزهرة الحاجز بين الأندلس وبين بلاد أفرنجة العظمى، ومسافته من البحر نحو يومين للقاصد. ولولا هذا الجبل لالتقى البحران، ولكانت الأندلس جزيرة منقطعة عن البر، فاعرف ذلك! فإن بعض من لا علم له يعتقد أن الأندلس يحيط بها البحر في جميع أقطارها لكونها تسمى جزيرة، وليس الأمر كذلك، وإنما سميت جزيرة بالغلبة، كما سميت جزيرة العرب وجزيرة «أقور»
70
وغير ذلك وتكون مسيرة دورها أكثر من ثلاثة أشهر، ليس فيها ما يتصل بالبر إلا مقدار يومين كما ذكرنا وفي هذا الجبل المدخل المعروف بالأبواب
71
الذي يدخل منه من بلاد الأفرنج إلى الأندلس، وكان لا يرام ولا يمكن أحدا أن يدخل منه لصعوبة مسلكه فذكر بطليموس أن قلو بطرة، وهي امرأة كانت آخر ملوك اليونان، أول من فتح هذه الطريق وسهلها بالحديد والخل.
قلت: ولولا خوف الإضجار والإملال لبسطت القول في هذه الجزيرة، فوصفها كثير، وفضائلها جمة، وفي أهلها أئمة وعلماء، وزهاد، ولهم خصائص كثيرة، ومحاسن لا تحصى، وإتقان لجميع ما يصنعونه، مع غلبة سوء الخلق على أهلها، وصعوبة الانقياد.
72
وفيها مدن كثيرة، وقرى كبار، يجيء ذكرها في أماكنها من هذا الكتاب حسب ما يقتضيه الترتيب إن شاء الله تعالى، وبه العون والعصمة.. انتهى كلام ياقوت في المعجم. (3) قول الشريف الإدريسي
وقال الشريف الإدريسي في كتابه «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» وهو أشهر جغرافية عربية - الكلام الآتي:
الجزء الأول من الإقليم الرابع مبدأوه من المغرب الأقصى حيث البحر المظلم، ومنه يخرج خليج البحر الشامي مارا إلى المشرق، وفي هذا البحر المرسوم بلاد الأندلس المسماة باليونانية «أشبانية» وسميت جزيرة الأندلس بجزيرة لأنها شكل مثلث، وتضيق من ناحية المشرق حتى يكون بين البحر الشامي والبحر المظلم المحيط بجزيرة الأندلس 5 أيام. ورأسها العريض نحو من 17 يوما. وهذا الرأس هو في أقصى المغرب في نهاية انتهاء المعمور من الأرض، محصور في البحر المظلم، ولا يعلم أحد ما خلف هذا البحر المظلم
73
ولا وقف بشر منه على خبر صحيح، لصعوبة عبوره، وظلام أنواره وتعاظم أمواجه، وكثرة أهواله، وتسلط دوابه، وهيجان رياحه، وبه جزائر كثيرة، ومنها معمورة ومغمورة. وليس أحد من الربانين يركبه عرضا ولا ملججا، وإنما يمر منه بطول الساحل، ولا يفارقه. وأمواج هذا البحر تندفع منفلقة كالجبال، لا ينكسر ماؤها، وإلا فلو تكسر موجه لما قدر أحد على سلوكه. والبحر الشامي
74
فيما يحكى كان بركة منحازة مثل ما هو عليه الآن بحر طبرستان
75
لا تتصل مياهه بشيء من مياه البحر.
وكان أهل المغرب الأقصى من الأمم السالفة يغيرون على أهل الأندلس فيضرون بهم كل الإضرار. وأهل الأندلس أيضا يكابدونهم ويحاربونهم جهد الطاقة، إلى أن كان زمان الإسكندر
76
ووصل إلى أهل الأندلس، فأعلموه بما هم عليه من التناكر مع أهل السوس، فأحضر الفعلة والمهندسين، وقصد مكان الزقاق وكان أرضا جافة، فأمر المهندسين بوزن الأرض، ووزن سطوح ماء البحرين، ففعلوا ذلك فوجدوا البحر الكبير يشف علوه على البحر الشامي بشيء يسير، فرفعوا البلاد التي على الساحل من بحر الشام، ونقلها من أخفض إلى أرفع. ثم أمر أن تحفر الأرض التي بين طنجة وبلاد الأندلس، فحفرت حتى وصل الحفر إلى الجبال التي في أسفل الأرض، وبنى عليها رصيفا بالحجر والجيار أفراغا، وكان طول البناء 13 ميلا، وهو الذي كان بين البحرين من المسافة والبعد، وبنى رصيفا آخر يقابله مما يلي أرض طنجة. وكان بين الرصيفين سعة ستة أميال فقط. فلما أكمل الرصيفين حفر للماء من جهة البحر الأعظم، فمر ماؤه بسيله وقوته بين الرصيفين، ودخل البحر الشامي، ففاض ماؤه، وهلكت مدن كثيرة كانت على الشطين معا، وغرق أهلها، وطغى الماء على الرصيفين نحو 11 قامة، فأما الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس فإنه يظهر في أوقات صفاء البحر، في جهة الموضع المسمى بالصفيحة ظهورا بينا، طوله على خط مستقيم (هنا لم نتبين الكتابة) وقد رأيناه عيانا، وجرينا على طوله مع هذا البناء. وأهل الجزيرتين يسمونه القنطرة، ووسط هذا البناء يوافق الموضع الذي فيه حجر الأيل على البحر.
وأما الرصيف الآخر الذي بناه الإسكندر في جهة بلاد طنجة، فإن الماء حمله في صدره، واحتفر ما خلفه من الأرض،
77
وما استقر ذلك منه حتى وصل إلى الجبال من كلتى الناحيتين. وطول هذا المجاز المسمى بالزقاق 13 ميلا، وعلى طرفه من جهة المشرق المدينة المسماة بالجزيرة الخضراء، وعلى طرفه من ناحية المغرب المدينة المسماة بجزيرة طريف. ويقابل جزيرة طريف في الضفة الثانية من البحر المسمى مرسى القصر المنسوب لمصمودة، ويقابل الجزيرة الخضراء في تلك العدوة مدينة سبتة . وعرض البحر بين سبتة والجزيرة الخضراء 18 ميلا، وعرض البحر بين جزيرة طريف وقصر مصمودة 13 ميلا وهذا البحر في كل يوم وليلة يجزر مرتين، ويمتلئ مرتين، فعلا دائما، ذلك تقدير العزيز الحكيم.
وأما على ضفة البحر الكبير من المدن الواقعة في هذا البحر المرسوم فهي «طنجة» و«سبتة» و«نكور» و«بادس» و«المزمة» و«مليلة» و«هنين» و«بنو وزار» و«وهران» و«مستفانم» فأما مدينة سبتة فهي تقابل الجزيرة الخضراء، وهي سبعة أجبل صغار متصلة بعضها ببعض معمورة، طولها من المغرب إلى المشرق نحو ميل، ويتصل بها من جهة المغرب، وعلى ميلين منها، جبل موسى وهذا الجبل منسوب لموسى بن نصير، وهو الذي كان على يديه افتتاح الأندلس في صدر الإسلام، وتجاوره جنات وبساتين وأشجار وفواكه كثيرة، وقصب سكر، وأترج يتجهز به إلى ما جاور سبتة من البلاد، لكثرة الفواكه بها. ويسمى هذا المكان الذي جمع هذا كله (بليونش).
78
وبهذا الموضع مياه جارية، وعيون مطردة، وخصب زائد، ويلي المدينة من جهة المشرق جبل عال يسمى «جبل المنية»
79
وأعلاه بسيط، وعلى أعلاه سور بناه محمد بن أبي عامر عند ما أجاز إليها من الأندلس وأراد أن ينقل المدينة إلى أعلى هذا الجبل فمات عند فراغه من بنيان أسوارها، وعجز أهل سبتة عن الانتقال إلى هذه المدينة المسماة بالمنية، فمكثوا في مدينتهم، وبقيت المنية خالية، وأسوارها قائمة، وقد نبت حطب الشعراء فيها. وفي وسط المدينة بأعلى الجبل عين ماء لطيفة لكنها لا تجف البتة، وهذه الأسوار التي تحيط بمدينة المنية تظهر من عدوة الأندلس لشدة بياضها. ومدينة سبتة سميت بهذا الاسم لأنها جزيرة منقطعة، والبحر يطيف بها من جميع جهاتها، إلا من ناحية المغرب، فإن البحر يكاد يلتقي بعضه ببعض هناك، ولا يبقى بينهما إلا أقل من رمية سهم، واسم البحر الذي يليها شمالا بحر الزقاق، والبحر الآخر الذي يليها في جهة الجنوب يقال له بحر بسول، وهو مرسى حسن يرسي فيه فيكن من كل ريح.
وبمدينة سبتة مصايد للحوت ولا يعدلها بلد في إصابة الحوت وجلبه، ويصاد بها من السمك نحو من مائة نوع، ويصاد بها السمك المسمى بالتنين الكبير، وصيدهم له يكون زرقا بالرماح وهذه الرماح لها في أسنتها أجنحة بارزة تنشب في الحوت ولا تخرج، وفي أطراف عصيها شرائط القنب الطوال، ولهم في ذلك دربة وحكمة سبقوا فيها جميع الصيادين.
ويصاد بمدينة سبتة شجر المرجان الذي لا يعدله صنف من صنوف المرجان المستخرج بجميع أقطار البحار. وبمدينة سبتة سوق لتفصيله وحكه وصنعه خرزا وثقبه وتنظيمه، ومنها يتجهز به إلى سائر البلاد، وأكثر ما يحمل إلى «غانة» وجميع بلاد السودان، لأنه في تلك البلاد يستعمل كثيرا. ومن مدينة سبتة إلى قصر مصمودة في الغرب 13 ميلا وهو حصن كبير على ضفة البحر، تنشأ به المراكب والحراريق التي يسافر فيها إلى بلاد الأندلس، وهي على رأس المجاز الأقرب إلى ديار الأندلس ومن قصر مصمودة إلى مدينة طنجة غربا 20 ميلا. ومدينة طنجة قديمة أزلية، وأرضها منسوبة إليها، وهي على جبل عال مطل على البحر، وسكنى أهلها منه في سند الجبل إلى ضفة
80
البحر، وهي مدينة حسنة لها أسواق وصناع، وفعلة وبها إنشاء المراكب، وبها أقلاع وحط، وهي على أرض متصلة بالبر فيها مزارع وغلات وسكانها برابر ينسبون إلى صهاجة. ومن مدينة طنجة ينعطف البحر المحيط الأعظم آخذا في جهة الجنوب إلى أرض «تشمس» وتشمس كانت مدينة كبيرة ذات سور من حجارة يشرف على نهر «سفدر» وبينها وبين البحر نحو ميل، ولها قرى عامرة بأصناف من البربر، وقد أفنتهم الفتنة وأبادتهم الحروب المتوالية عليهم. ومن تشمس إلى قصر عبد الكريم، وهو على مقربة من البحر، وبينه وبين طنجة، يومان، وقصر عبد الكريم مدينة صغيرة على ضفاف نهر «لكس» وبها أسواق على قدرها يباع بها ويشترى، والأرزاق بها كثيرة والرخاء بها شامل. ومن مدينة طنجة إلى مدينة «أزيلا» مرحلة خفيفة جدا، وهي مدينة صغيرة جدا، وما بقي منها الآن إلا نزر يسير، وفي أرضها أسواق قريبة، وأزيلا هذه، يقال أصيلا، عليها سور. وهي متعلقة على رأس الخريج المسمى بالزقاق، وشرب أهلها من مياه الآبار. وعلى مقربة منها في طريق القصر مصب نهر سقدد، وهو نهر كبير عذب تدخله المراكب، ومنه يشرب أهل تشمس التي تقدم ذكرها. وهذا الوادي أصله من مائين يخرج أحدهما من بلد «دنهاجة» من جبل «البصرة» والماء الثاني من بلد كتامة، ثم يلتقيان، فيكون منهما نهر كبير. وفي هذا النهر يركب أهل البصرة في مراكبهم بأمتعتهم حتى يصلوا البحر فيسيروا فيه حيث شاءوا. وبين تشمس والبصرة دون المرحلة على الظهر. والبصرة
81
كانت مدينة مقتصدة عليها سور ليس بالحصين، ولها قرى وعمارات وغلات، وأكثر غلاتها القطن والقمح، وسائر الحبوب بها كثيرة، وهي عامرة الجهات، وهواؤها معتدل، وأهلها أعفاء، ولهم جمال وحسن أدب. وعلى نحو 18 ميلا مدينة «باب أقلام»
82
وهي من بناء عبد الله بن إدريس، بين جبال وشعار متصلة، والمدخل إليها من مكان واحد. وبالجملة فإنها خصيبة وكثيرة المياه والفواكه، وعلى مقربة منها مدينة «قرت» وهي على سفح جبل منيع، لا سور عليها، ولها مياه كثيرة وعمارات متصلة. وأكثر زراعاتهم القمح والشعير وأصناف الحبوب. وكل هذه البلاد منسوبة إلى بلاد طنجة ومحسوبة منها. وفي جنوب البصرة على نهر «سبو» الآتي من ناحية فاس قرية كبيرة كالمدينة الصغيرة يقال لها «ماسنة» وكانت قبل هذا مدينة لها سور وأسواق وهي الآن خراب. وعلى مقربة منها مدينة «الحجر» وكانت مدينة محدثة لآل إدريس، وهي على جبل شامخ الذرى، حصينة منيعة، لا يصل أحد إليها إلا من طريق واحد، والطريق صعب المجاز، يسلكه الرجل بعد الرجل، وهي خصيبة رفهة كثيرة الخيرات، وماؤها فيها، ولها بساتين وعمارات، ومن مدينة سبتة السابق ذكرها بين جنوب وشرق إلى حصن «تطاون» مرحلة صغيرة، وهو حصن في بسيط الأرض، وبينه وبين البحر الشامي خمسة أميال. وتسكنه قبيلة من البربر تسمى مجكسة.
83
ومنه إلى «أنزلان» وهو مرسى فيه غمارة، نحو من 15 ميلا وأنزلان مرسى عامر، وهو أول بلاد غمارة. وبلاد غمارة جبال متصلة بعضها ببعض كثيرة الشجر والغياض وطولها نحو من ثلاثة أيام . ويتصل بها من ناحية الجنوب جبال «الكواكب» وهي أيضا جبال عامرة كثيرة الخصب، وتمتد في البرية مسيرة ثلاثة أيام حتى تنتهي قرب مدينة فاس. وكان يسكنها غمارة إلى أن طهر الله منهم الأرض، وأفنى جمعهم، وخرب ديارهم، لكثرة ذنوبهم، وضعف إسلامهم وكثرة جرأتهم، وإصرارهم على الزنا المباح، والمواربة الدائمة، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وذلك من الله جزاء الظالمين. وبين سبتة وفاس على طريق «زجان» ثمانية أيام. وعلى مقربة من أنزلان حصن «تقساس» على البحر، وبينهما نصف يوم، وهو حصن معمور في غمارة، لكن أهله بينهم وبين غمارة حرب دائمة، ومن تقساس إلى قصر «تاركا» وله مرسى. ومنه إلى حصن «مسيكاسه» نصف يوم. وهو لغمارة. ومن مسيكاسة إلى حصن «كركال» 15 ميلا، وهو أيضا لغمارة. ومن حصن كركال إلى مدينة «بادس» مقدار نصف يوم، وبادس مدينة متحضرة فيها أسواق وصناعات قلائل، وغمارة يلجأون إليها في حوائجهم، وهي آخر بلاد غماره، ويتصل بها هناك طرف الجبل، وينتهي طرفه الآخر في جهة الجنوب، إلى أن يكون بينه وبين بلد بني «تاوده» أربعة أميال، وكان بهذا الجبل قوم من أهل «مزكلدة» أهل جرأة وسفاهة وتجاسر على من جاورهم، فأبادهم سيف الفتنة، وأراح الله منهم. ومن مدينة بادس إلى مرسى «بوزكور» 20 ميلا، وكانت مدينة فيما سلف لكنها خربت ولم يبق لها رسم، وتسمى في كتب التواريخ «نكور» وبين بوز كور وبادس جبل متصل يعرف بالأجراف، ليس فيه مرسى، ومن بوزكور إلى المزمة 20 ميلا، وكانت به قرية عامرة ومرسى توسق المراكب منه. ومن المزمة إلى واد بقربها، ومنه إلى طرف «ثغلال» 12 ميلا. وهذا الطرف يدخل في البحر كثيرا، ومنه إلى مرسى «كرط» 20 ميلا وبشرقي كرط واد يأتي من جهة «صاع» ومن كرط إلى طرف جون داخل في البحر 20 ميلا، ومن كرط إلى مدينة «مليلة» في البحر 12 ميلا، وفي البر 20 ميلا.
ومدينة مليلة مدينة حسنة متوسطة ذات سور منيع وحال حسنة على البحر، وكان لها قبل هذا عمارات متصلة وزراعات كثيرة، ولها بئر فيها عين ألزلية كثيرة الماء ومنها شربهم، ويحيط بها من قبائل البربر بطون بطوية.
ومن مليلة إلى مصب الوادي الذي يأتي من «آقرسيف» 20 ميلا، وأمام مصب هذا النهر جزيرة صغيرة. ويقابل هذا الموضع من البرية مدينة «جراو» ومن مصب وادي آقرسيف إلى مرسى «تافركنيت» على البحر، وعليه حصن منيع صغير 40 ميلا. ومن تافركنيت إلى حصن تابحريت ثمانية أميال، وهو حصن حصين، حسن عامر آهل وله مرسى مقصود. ومن تابحريت إلى «هنين» على البحر 11 ميلا ومنها إلى «تلمسان» في البر 40 ميلا. وفيما بينهما مدينة «ندرومة» وهي مدينة كبيرة عامرة آهلة، ذات سور وسوق، موضعها في سند، ولها مزارع ولها واد يجري في شرقيها، وعليه بساتين وجنات وعمارة وسقي كثير.
وهنين مدينة حسنة صغيرة في نحر البحر، وهي عامرة، عليها سور متقن وأسواق وبيع وشراء، وخارجها زراعات كثيرة، وعمارات متصلة، ومن هنين على الساحل إلى مرسى «الوردانية» ستة أميال، ومنها إلى جزيرة «القشقار» ثمانية أميال، ومنها إلى جزيرة «إرشقول» ويروي «أرجكون» وكانت فيما سلف حصنا عامرا له مرسى وبادية وسعة في الماشية والأموال السائمة، ومرساها في جزيرة فيها مياه ومواجل كثيرة للمراكب، وهي جزيرة مسكونة، ويصب بحذائها نهر ملوية ومن مصب الوادي إلى حصن «أسلان» ستة أميال على البحر، ومنه إلى طرف خارج في البحر 20 ميلا، ويقابل الطرف في البحر جزيرة الغنم، وبين جزائر الغنم وأسلان 12 ميلا. ومن جزائر الغنم إلى بني وزار 17 ميلا، وبنو وزار حصن منيع في جبل على البحر، ومنه إلى «الدفالي» وهو طرف خارج في البحر 12 ميلا، ومن طرف الدفالي إلى طرف «الحرشة» 12 ميلا، ومنه إلى «وهران» 12 ميلا. وقد ذكرنا وهران وأحوالها فيما صدر من ذكر الإقليم الثالث، والله المستعان.
فلنرجع الآن إلى ذكر الأندلس ووصف بلادها، ونذكر طرقاتها، وموضوع جهاتها، ومقتضى حالاتها، ومبادئ أوديتها، ومواقعها من البحر، ومشهور جبالها وعجائب بقعها، ونأتي من ذلك بما يجب بعون الله تعالى فنقول:
أما الأندلس في ذاتها فشكل مثلث يحيط بها البحر من جميع جهاتها الثلاث، فجنوبها يحيط به البحر الشامي ، وغربها يحيط به البحر المظلم، وشمالها يحيط به بحر الأنقليشيين
84
من الروم. والأندلس طولها من كنيسة الغراب التي على البحر المظلم إلى الجبل المسمى بهيكل الزهرة ألف ميل ومائة ميل، وعرضها من كنيسة «شنت ياقوب»
85
التي على أنف بحر الأنقليشيين إلى مدينة المرية التي على بحر الشام ستمائة ميل.
مدينة شانت باقب أفدس بلدة عند الاسبانيين.
منتزه في شانت باقب.
وجزيرة الأندلس مقسومة من وسطها في الطول بجبل طويل يسمى الشارات
86
وفي جنوب هذا الجبل تأتي مدينة طليطلة. ومدينة طليطلة مركز لجميع بلاد الأندلس وذلك أنها منها إلى مدينة قرطبة، بين غرب وجنوب، تسع مراحل، ومنها إلى لشبونة غربا تسع مراحل، ومن طليطلة إلى شنت ياقوب على بحر الأنقليشيين تسع مراحل، ومنها إلى «جاقة»
87
شرقا تسع مراحل، ومنها إلى مدينة بلنسية بين شرق وجنوب، تسع مراحل، ومنها أيضا إلى مدينة المرية على البحر الشامي تسع مراحل.
برج سرافوس (بلنسية).
ومدينة طليطلة كانت في أيام الروم مدينة الملك ومدارا لولاتها، وبها وجدت مائدة سليمان بن داود، مع جملة ذخائر يطول ذكرها. وما خلف الجبل المسمى بالشارات في جهة الجنوب يسمى أشبانية، وما خلف الجبل في جهة الشمال يسمى قشتالة. ومدينة طليطلة في وقتنا هذا يسكنها سلطان الروم القشتاليين.
منتزه النخل (بلنسية).
والأندلس المسماة أشبانية أقاليم عدة، ورساتيق جملة، وفي كل إقليم منها عدة مدن نريد أن نأتي بذكرها مدينة مدينة بحول الله تعالى. ولنبدأ الآن منها بإقليم البحيرة
88
وهو إقليم مبدأه من البحر المظلم، ويمر مع البحر الشامي، وفيه من البلاد جزيرة طريف، والجزيرة الخضراء، وجزيرة قادس، وحصن «أركشن»
89
و«بكة»
90
و«شريش»،
91
و«طشانة»،
92 «مدينة ابن السليم»،
93
وحصون كثيرة كالمدن عامرة، وسنأتي بها في موضوعها.
ويتلوه إقليم «شذونة»،
94
وهو من إقليم البحيرة شمالا، وفيه من المدن مدينة «أشبيلية»،
95
ومدينة «قرمونة»،
96
و«غلسانة»،
97
وحصون كثيرة. ويتلوه إقليم الشرف، وهو ما بين أشبيلية و«لبلة»
98
والبحر المظلم، وفيه من المعاقل «حصن القصر»
99
ومدينة لبلة و«ولبة»
100
وجزيرة «شلطيش»
101
وجبل العيون. ثم يليه إقليم «الكتبانية»
102
وفيه من المدن قرطبة و«الزهراء»
103
و«استجة»
104
و«بيانة»
105
و«وقبرة»
106
و«اليسانة»
107
وبه جملة حصون كبار سنذكرها بعد هذا. ويلي إقليم الكنبانية إقليم «أشونة»
108
وفيه حصون عامرة كالمدن، منها لورقة وأشونة وهو أقليم صغير. ويليه مع الجنوب إقليم «رية»
109
وفيه من المدن مدينة مالقة و«أرشذونة»
110
و«مربلة»
111
و«ببشطر»
112
و«ليسكنصاد»
113
وغير هذه من الحصون. ويتلو هذا الإقليم «البشارات»
114
وفيه من المدن «جيان»
115
وجملة حصون وقرى كثيرة تشف على ستمائة قرية، يتخذ بها الحرير. ثم إقليم «بجانة»
116
وفيه من المدن «المرية»
117
و«برجة»
118
وحصون كثيرة منها «مرشانة»
119
و«برشانة»
120
و«طرجالة»
121
و«بالش»
122
ويتلوه في جهة الجنوب إقليم «البيرة»
123
وفيه من المدن «أغرناطة»
124
و«وادي آش»
125
و«المنكب»
126
وحصون وقرى كثيرة.
صورة مرسى قرطاجنة.
ومنها إقليم «فريرة»
127
وهو يتصل بإقليم البشارات، وفيه مدينة «بسطة»
128
وحصن «تشكر»
129
الموصوف بالمنعة. وفيه حصون كثيرة وسنأتي بها بعد. ثم كورة «تدمير»
130
وفيها من المدن «مرسية»
131
و«أوريولة»
132
و«قرطاجنة»،
133
و«لورقة»
134
و«مولة»
135
و«جنجالة»
136
ويتصل بكورة «كونكة»
137
وفيها «الش»
138
و«القنت»
139
و«شقورة»
140
ويليه إقليم «أرغيرة» (؟) وفيه من البلاد «شاطبة»
141
و«شقر»
142
و«دانية»
143
وفيه حصون كثيرة.
مدينة قرطاجنة.
ويليه إقليم مرباطر وفيه من البلاد «بلنسية»
144
و«مرباطر»
145
و«بريانة»
146
وحصون كثيرة. ويليه مع الجوف إقليم «القواطم»
147
وفيه من البلاد «الفنت»
148
و«شنت
149
ماريه» المنسوبة لابن رزين. ويتصل به إقليم «الولجة»
150
وفيه من البلاد «سرتة»
151
و«قلعة رباح»
152
و«فتة»
153
ويلي هذا الإقليم إقليم «البلالطة».
154
وفيه حصون كثيرة منها ومن أكبرها «بطروش»
155
و«غافق»
156
وحصن ابن هارون (؟) وغيرها دونها في الكبر.
الساقية العتيقة (الش).
ويلي هذا الإقليم غربا إقليم «الفقر» (؟) وفيه من البلاد «شنت
157
مارية» و«مارتلة»
158
و«شلب»
159
وحصون كثيرة وقرى. ويلي هذا الإقليم إقليم «القصر»
160
وفيه القصر المنسوب «لأبي دانس» وفيه «يابرة»
161
و«بطليوس»
162
و«شريشة»
163
و«ماردة»
164
و«قنطرة
165
السيف» و«قورية».
166
غيضة من غياض الش.
ويليه إقليم البلاط وفيه مدينة «البلاط»
167
ومدلين.
168
ويلي هذا الإقليم إقليم بلاطة
169
وفيه «شنترين» و«لشبونة» و«شنترة» ويليه إقليم الشارات وفيه «طلبيرة»
170
و«طليطلة»
171
و«مجريط»
172
و«الفهمين»
173
و«وادي الحجارة»
174
و«أقليش»
175
و«وبذة»
176
ويليه أيضا إقليم «أرنيط»
177
وفيه من البلاد «قلعة أيوب»
178
وقلعة «دروقة»
179
ومدينة «سرقسطة»
180
و«وشقة»
181
و«تطيلة»
182
ثم يليه إقليم الزيتون وفيه «جاقة»
183
و«لاردة»
184
و«مكناسة»
185
و«أفراغه»
186
ويليه إقليم «البرتات»
187
وفيه «طرطوشة»
188
و«طركونة»
189
و«برشلونة»
190
ويلي هذا الإقليم غربا إقليم «مرمرية»
191
وفيه حصون خالية، ومما يلي البحر حصن «طشكره»
192
و«كشتالي»
193
و«كتندة»
194
فهذه كلها أقاليم أشبانية المسمى جملتها بالأندلس.
مرسى القنت.
منتزه راميرو (القنت).
فأما جزيرة «طريف»
195
فهي على البحر الشامي، في أول المجاز المسمى، بالزقاق، ويتصل غربها ببحر الظلمة. وهي مدينة صغيرة، عليها سور تراب، ويشقها نهر صغير، وبها أسواق وفنادق وحمامات، وأمامها جزيرتان صغيرتان تسمى إحداهما «القنتير»
196
وهما على مقربة من البر. ومن جزيرة طريف إلى الجزيرة الخضراء ثمانية عشر ميلا، تخرج من الجزيرة إلى «وادي
197
النساء» وهو نهر جار، ومنه إلى الجزيرة
198
الخضراء وهي مدينة متحضرة لها سور حجارة مفرغ بالجيار، ولها ثلاثة أبواب ودار صناعة داخل المدينة، ويشقها نهر يسمى نهر العسل، وهو حلو عذب، ومنه شرب أهل المدينة، ولهم على هذا النهر بساتين وجنات بكلتي ضفتيه معا. وبالجزيرة الخضراء إنشاء وإقلاع وحط، وبينها وبين مدينة سبتة مجاز البحر، وعرضه هنالك ثمانية عشر ميلا. وأمام المدينة جزيرة تعرف بجزيرة «أم حكيم» وبها أمر عجيب، وهو أن فيها بئرا عميقة كثيرة الماء حلوة، والجزيرة في ذاتها صغيرة مستوية السطح، يكاد البحر يركبها
199
والجزيرة الخضراء أول مدينة افتتحت من الأندلس في صدر الإسلام، وذلك في سنة 90 من الهجرة، وافتتحها موسى بن نصير من قبل المروانيين، ومعه طارق بن عبد الله بن ونموا الزناتي، ومعه قبائل البربر. فكانت هذه الجزيرة أول مدينة افتتحت في ذلك الوقت، وبها على باب البحر مسجد يسمى بمسجد الرايات، ويقال إن هناك اجتمعت رايات القوم للرأي، وكان وصولهم إليها من جبل طارق وإنما سمي جبل طارق لأن طارق
200
بن عبد الله بن ونموا الزناتي لما جاز بمن معه من البرابر وتحصنوا بهذا الجبل، أحس في نفسه أن العرب لا تثق به، فأراد أن يزيح ذلك عنه، فأمر بإحراق المراكب التي جاز فيها، فتبرأ بذلك عما اتهم به.
صورة طرا كونة من كتلونية.
وبين هذا الجبل والجزيرة الخضراء ستة أميال، وهو جبل منقطع عن الجبال، مستدير، في أسفله من جهة البحر كهوف، وفيها مياه قاطرة جارية، وبمقربة منه مرسى يعرف بمرسى الشجرة. ومن الجزيرة الخضراء إلى مدينة أشبيلية خمسة أيام. وكذلك من الجزيرة الخضراء إلى مدينة مالقة خمس مراحل خفاف، وهي مائة ميل. ومن الجزيرة الخضراء إلى مدينة أشبيلية طريقان طريق في الماء، وطريق في البر، فأما طريق الماء فمن الجزيرة الخضراء إلى الرمال في البحر، إلى موقع نهر «برباط»
201
28 ميلا، ثم إلى موقع نهر «بكة»
202
ستة أميال، ثم إلى الحلق المسمى «شنت
203
بيطر» 12 ميلا، ثم إلى «القناطر»
204
وهي تقابل جزيرة قادس 12 ميلا، وبينهما مجاز سعته ستة أميال.
صورة طراكونة متنزه المحطة.
ومن القناطر تصعد في النهر إلى رابطة «روطة»
205
8 أميال، ثم إلى «المساجد»
206
6 أميال ثم إلى مرسى «طبرشانة»
207
إلى «العطوف»
208
إلى «قبطور»
209
إلى «قبطال».
210
وقبطور وقبطال قريتان في وسط النهر، ثم إلى جزيرة ينشتالة
211
ثم إلى الحصن الزهر
212
إلى مدينة أشبيلية فذلك من أشبيلية إلى البحر 60 ميلا. وأما طريق البر فالطريق من الجزيرة إلى «الرتبة» ثم إلى نهر «برباط»
213
إلى قرية «فيسانة»
214
وبها المنزل. وهي قرية كبيرة، ذات سوق عامرة، وخلق كثير. ومنها إلى مدينة «ابن السليم»
215
إلى جبل «منت»
216
ثم إلى قرية «عسلوكة»،
217
وبها المنزل. ثم منها إلى «المدائن»
218
إلى «زيرد
219
الحبالة» وبها المنزل، ثم إلى أشبيلية مرحلة.
صورة سرقسطة أو الثغر الأعلى «منظر عمومى».
ومدينة أشبيلية مدينة كبيرة عامرة ذات أسوار حصينة، وأسواق كثيرة، وبيع وشراء، وأهلها مياسير، وجل تجارتها بالزيت، يتجهز بها منها إلى أقصى المشارق والمغارب، برا وبحرا، وهذا الزيت عندهم يجثم من «الشرف»
220
وهذا الشرف هو مسافة أربعين ميلا ، وهذه الأربعون ميلا كلها تمشي في ظل شجر الزيتون والتين، أوله بمدينة أشبيلية وآخره بمدينة «لبلة»
221
وكله شجر الزيتون وسعته 12 ميلا وأكثر، وفيه فيما يذكر ثمانية آلاف قرية عامرة آهلة بالحمامات والديار الحسنة. وبين الشرف وأشبيلية ثلاثة أميال. والشرف سمي بذلك لأنه مشرف من ناحية أشبيلية ممتد من الجنوب إلى الشمال. وهو تل تراب أحمر، وشجر الزيتون مغروسة به من هذا المكان إلى قنطرة لبلة. وأشبيلية على النهر الكبير، وهو نهر قرطبة.
ومدينة لبلة مدينة حسنة أزلية، وهي متوسطة القدر، ولها سور منيع، وبشرقيها نهر يأتيها من ناحية الجبل، ويجاز عليه في قنطرة إلى مدينة لبلة. وبها أسواق وتجارات ومنافع جمة. وشرب أهلها من عيون في مرج من ناحية غربيها. وبين مدينة لبلة والبحر المحيط ستة أميال.
وهناك على ذراع من البحر تطل مدينة «ولبة»
222
وهي مدينة صغيرة متحضرة، عليها سور من حجارة، وبها أسواق وصناعات، وهي مطلة على جزيرة «شلطيش»
223
وجزيرة شلطيش يحيط بها البحر من كل ناحية، ولها من ناحية الغرب اتصال بأحد طرفيها إلى مقربة من البر، وذلك يكون مقدار نصف رمية حجر. ومن هناك يجوزون لاستقاء الماء لشربهم، وهي جزيرة طولها نحو من ميل وزائد، والمدينة منها في جهة الجنوب، وهناك ذراع من البحر يتصل به موقع نهر لبلة، ويتسع حتى يكون أزيد من ميل، ثم لا يزال الصعود فيه في المراكب إلى أن يضيق ذلك الذراع حتى يكون سعة النهر وحده مقدار نصف رمية حجر، ويخرج النهر من أسفل جبل عليه مدينة ولبة، ومن هناك تتصل الطريق إلى مدينة لبلة. ومدينة شلطيش ليس لها سور ولا حظيرة، وإنما هي بنيان يتصل بعضه ببعض، ولها سوق وبها صناعة الحديد الذي يعجز عن صنعه أهل البلاد لجفائه، وهي صنعة المراسي التي ترسي بها السفن والمراكب الحمالة الجافية، وقد تغلب عليها المجوس
224
مرات، وأهلها إذا سمعوا بخطور
225
المجوس فروا عنها وأخلوها. ومن مدينة شلطيش إلى جزيرة قادس 100 ميل، ومن جزيرة قادس المتقدم ذكرها إلى جزيرة طريف 63 ميلا . ومن جزيرة شلطيش مع البحر مارا في جهة الشمال إلى حصن «قسطلة»
226
على البحر 18 ميلا وبينهما موقع نهر يانة، وهو نهر ماردة وبطليوس، وعليه حصن «مارتلة»
227
المشهور بالمنعة والحصانة. وحصن قسطلة على نحر البحر، وهو عامر آهل، وله بساتين وغلات شجر التين كثيرة، ومنه إلى قرية «طبيرة»
228
على مقربة من البحر 14 ميلا، ومن القرية إلى مدينة «شنت
229
مارية» الغرب 12 ميلا.
ومدينة شنت ماريه على معظم البحر الأعظم، وسورها يصعد ماء البحر فيه إذا كان المد، وهي مدينة متوسطة القدر، حسنة الترتيب، لها مسجد جامع ومنبر وجماعة وبها المراكب واردة وصادرة، وهي كثيرة الأعناب والتين.
ومن مدينة شنت ماريه إلى مدينة شلب 28 ميلا، ومدينة شلب حسنة، في بسيط من الأرض، وعليها سور حصين، ولها غلات وجنات، وشرب أهلها من واديها الجاري بجنوبها، وعليه إرحاء البلد، والبحر منها غربا على ثلاثة أميال، ولها مرسى في الوادي، وبها الإنشاء، والعود بجبالها كثير، يحمل منها إلى كل الجهات. والمدينة في ذاتها حسنة الهيئة، بديعة المباني. مرتبة الأسواق، وأهلها وسكان قراها عرب من اليمن وغيرها، وهم يتكلمون بالكلام العربي الفصيح، ويقولون الشعر وهم فصحاء نبلاء، خاصتهم وعامتهم. وأهل بوادي هذا البلد في غاية من الكرم، لا يجاريهم فيه أحد. ومدينة شلب على إقليم الشنشين،
230
وهو إقليم به غلات التين الذي يحمل إلى أقطار الغرب كلها، وهو تين طيب علك لذيذ شهي. ومن مدينة شلب إلى بطليوس ثلاث مراحل. وكذلك من شلب إلى حصن «مارتلة» ثلاثة أيام. ومن مارتلة إلى حصن ولبة مرحلتان خفيفتان. ومن مدينة شلب إلى حلق «الزاوية»
231
20 ميلا وهو مرسى وقرية ومنه إلى قرية «شقوش»
232
على مقربة من البحر 18 ميلا ومنه إلى طرف الغرب، وهو طرف خارج في البحر الأعظم 12 ميلا، ومنه إلى «كنيسة الغراب»
233
7 أميال.
وهذه الكنيسة من عهد الروم إلى اليوم لم تتغير عن حالها، ولها أموال يتصدق بها عليها، وكرامات يحملها الروم الواردون عليها، وهي في طرف خارج في البحر وعلى رأس الكنيسة عشرة أغربة لا يعرف أحد فقدها وعهد زوالها ، وقسيسو الكنيسة يخبرون عن تلك الأغربة بغرائب يتهم المخبر بها ولا سبيل لأحد من المجتازون بها أن يخرج منها حتى يأكل من ضيافة الكنيسة، ضريبة لازمة وسيرة دائمة، لا ينتقلون عنها ولا يتحولون عنها، وورثها الخلف عن السلف، أمر معتاد متعارف دائم، والكنيسة في ذاتها كنيسة عامرة بالقسيسين والرهبان، وبها أموال مدخرة، وأحوال واسعة وأكثر هذه الأموال محبسة عليها في أقطار الغرب وبلاده وينفق منها على الكنيسة وخدامها وجميع من يلوذ بها، معما يكرم به الأضياف الواردون على الكنيسة المذكورة، قلوا أو كثروا.
ومن كنيسة الغراب إلى القصر مرحلتان. وكذلك من شلب إلى القصر أربع مراحل، و«القصر»
234
مدينة حسنة متوسطة على ضفة النهر المسمى «شطوبر»
235
وهو نهر كبير تصعد فيه السفن والمراكب السفرية كثيرا. وفي ما استدار بها من الأرض كلها أشجار الصنوبر، ولها الإنشاء الكثير، وهي في ذاتها رطبة العيش خصيبة كثيرة الألبان والسمن والعسل واللحوم. وبين القصر والبحر 20 ميلا. ومن القصر إلى «يبورة»
236
مرحلتان.
ومدينة يبورة كبيرة عامرة بالناس، ولها سور وقصبة ومسجد جامع، وبها الخصب الكثير الذي لا يوجد بغيرها من كثرة الحنطة واللحم وسائر البقول والفواكه، وهي أحسن البلاد بقعة، وأكثرها فائدة، والتجارات إليها داخلة وخارجة، ومن مدينة يبورة إلى مدينة بطليوس مرحلتان في شرق. ومدينة بطليوس مدينة جليلة في بسيط الأرض، وعليها سور منيع، وكان لها ربض كبير، أكبر من المدينة في شرقيها فخلا بالفتن. وهي على ضفة نهر «يانة»
237
وهو نهر كبير ويسمى النهر الغؤر، لأنه يكون في موضع يحمل السفن، ثم يغور تحت الأرض حتى لا يوجد منه قطرة فسمي الغؤر لذلك، وينتهي جريه إلى حصن مارتلة، ويصب في قريب من جزيرة شلطيش. ومن مدينة بطليوس إلى مدينة أشبيلية 6 أيام على طريق حجر بن أبي خالد، إلى جبل العيون،
238
إلى أشبيلية. ومن مدينة بطليوس إلى مدينة قرطبة على الجادة 6 مراحل. ومن بطليوس إلى مدينة ماردة على نهر يانة شرقا 30 ميلا، وبينهما حصن على يمين المار إلى ماردة.
ومدينة ماردة كانت دار مملكة «لماردة»
239
بنت هرسوس الملك، وبها من البناء آثار ظاهرة، تنطق عن ملك وقدرة، وتعرب عن نخوة وعزة، وتفصح عن غبطة. فمن هذه البناآت أن في غربي المدينة قنطرة كبيرة ذات قسي، عالية الذروة، كثيرة العدد، عريضة المجاز. قد بنى على ظهر القسي أقباء تتصل من داخل المدينة إلى آخر القنطرة، ولا يرى الماشي بها. وفي داخل هذا «الداموس»
240
قناة ماء تصل المدينة. ومشى الناس والدواب على تلك الدواميس. وهي متقنة البناء، وثيقة التأليف، حسنة الصنعة. والمدينة عليها سور حجارة متجورة من أحسن صنعة وأوثق بناء. ولها في قصبتها قصور خربة. وفيها دار يقال لها دار الطبيخ، وذلك أنها في ظهر مجلس القصر، وكان الماء يأتي دار الطبيخ في ساقية، هي الآن بها باقية الأثر، لا ماء بها، فتوضع صحاف الذهب والفضة بأنواع الطعام في تلك الساقية على الماء حتى تخرج بين يدي الملكة، فترفع على الموائد. ثم إذا فرغ من أكل ما فيها وضعت في الساقية، فتستدير إلى أن تصل إلى يد الطباخ بدار الطبخ، فيرفعها بعد غسلها. ثم تمر بقية ذلك الماء في سروب القصر. ومن أغرب الغريب جلب الماء الذي كان يأتي إلى القصر على عمد مبنية تسمى «الأرجالات»،
241
وهي أعداد كثيرة باقية إلى الآن قائمة على قوام، لم تخل بها الأزمان ولا غيرتها الدهور، ومنها قصار ومنها طوال، بحسب الأماكن التي وجب فيها البناء، وأطولها يكون غلوة سهم، وهي على خط مستقيم. وكان الماء يأتي عليها في قنى مصنوعة، خربت وفنيت، وبقيت تلك الأرجالات قائمة يخيل إلى الناظر إليها أنها من حجر واحد، لحكمة إتقانها، وتجويد صنعتها. وفي وسط هذه المدينة احتاء قوس، يدخل عليه الفارس بيده علم قائم، عدة أحجاره 11 حجرا فقط، في كل عضادة منها ثلاثة أحجار، وفي القوس أربعة أحجار حنيات، وواحد قفل، فكانت الجملة 11 حجرا. وفي الجنوب من سور هذه المدينة قصر آخر صغير، وفي برج منه كان مكان مرآة، كانت الملكة ماردة تنظر إلى وجهها فيها. ومحيط دوره 20 شبرا، وكان يدور على حرفه، وكان دورانه قائما. ومكانه إلى الآن باق. ويقال إنما صنعته ماردة لتحاكي به مرآة ذي القرنين التي صنعها في منار الإسكندرية.
ومن مدينة ماردة إلى قنطرة السيف
242
يومان. وقنطرة السيف من عجائب الأرض. وهو حصن منيع على نفس القنطرة. وأهلها متحصنون فيه، ولا يقدر لهم أحد على شيء. والقنطرة لا يأخذها القتال إلا من بابها فقط. ومن مدينة قنطرة السيف إلى مدينة «قورية»
243
مرحلتان خفيفتان، وقورية الآن مدينة في ملك الروم، ولها سور منيع، وهي في ذاتها أزلية البناء واسعة الفناء من أحصن المعاقل، وأحسن المنازل. ولها بواد شريفة خصيبة، وضياع طيبة عجيبة، وأصناف من الفواكه كثيرة، وأكثرها الكروم وشجر التين.
ومن قورية إلى «قلمرية»
244
4 أيام. ومدينة قلمرية مدينة على جبل مستدير، وعليها سور حصين ولها 3 أبواب، وهي في نهاية من الحصانة، وهي على نهر «منديق»
245
وجريه على غربيها، ويتصل جري هذا النهر إلى البحر، وعلى مصبه هناك حصن «منت ميور»
246
ولها على النهر أرحاء. وعليه كروم كثيرة وجنات ولها حروث كثيرة متصلة بالغربي منها إلى ناحية البحر، ولها أغنام ومواش، وأهلها أهل شوكة في الروم، ومن القصر المتقدم ذكره إلى مدينة «لشبونة»
247
مرحلتان، ومدينة لشبونة على شمالي النهر المسمى تاجة وهو نهر طليطلة، وسعته أمامها ستة أميال ويدخله المد والجزر كثيرا، وهي مدينة حسنة ممتدة مع النهر، ولها سور، وقصبة منيعة، وفي وسط المدينة حمامات حارة في الشتاء والصيف، ولشبونة على نحر البحر المظلم وعلى ضفة النهر من جنوبه، قبالة مدينة لشبونة، حصن المعدن، وسمي بذلك لأنه عند هيجان البحر يقذف هناك بالذهب والتبر، فإذا كان زمن الشتاء قصد إلى هذا الحصن أهل تلك البلاد فيخدمون المعدن الذي به إلى انقضاء الشتاء، وهو من عجائب الأرض، وقد رأيناه عيانا. ومن مدينة لشبونة كان خروج المغررين
248
في ركوب بحر الظلمات، ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه، كما تقدم ذكرهم، ولهم بمدينة لشبونة بموضع من قرب الحمة، درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين إلى آخر الأبد. وذلك أنه اجتمع ثمانية رجال، كلهم أبناء عم، فأنشأوا مركبا حمالا، وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر، ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح
249
الشرقية فجروا بها نحو من 11 يوما، فوصلوا إلى بحر غليظ الموج، كدر الروائح كثير التروش
250
قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف، فردوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب 12 يوما، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها، ولا ناظر إليها، فقصدوا الجزيرة فنزلوا بها، فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري، فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب 12 يوما إلى أن لاحت لهم جزيرة، فنظروا فيها إلى عمارة وحرث فقصدوا إليها ليروا ما فيها، فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك، فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر، فأنزلوا بها في دار، فرأوا رجالا شقرا زعرا شعور رؤوسهم شعورهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب، فاعتقلوا منها في بيت ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفي ما جاءوا، وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم، فوعدهم خيرا، وأعلمهم أنه ترجمان الملك، فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك، فسألهم عما سألهم عنه، فأخبروه بما أخبروا به الترجمان بالأمس: من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب، ويقفوا على نهايته. فلما علم الملك ذلك ضحك، وقال للترجمان خبر القوم أن أبي أمر قوما من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهرا، إلى أن انقطع عنهم الضوء، وانصرفوا من غير حاجة، ولا فائدة تجدي. ثم أمر الملك الترجمان أن يعدهم خيرا، وأن يحسن ظنهم بالملك، ففعل. ثم صرفوا إلى موضع حبسهم، إلى أن بدأ جري الريح الغربية، فعمر بهم زورق، وعصبت أعينهم. وجري بهم في البحر برهة من الدهر. قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها، حتى جيء بنا إلى البر، فأخرجنا وكتفنا إلى خلف وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار، وطلعت الشمس ونحن في ضنك وسوء حال، من شدة الأكتاف، حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بأجمعنا فأقبل القوم إلينا، فوجدونا بتلك الحالة السيئة فحلونا من وثاقنا، وسألونا فأخبرناهم بخبرنا، وكانوا برابر، فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا: لا. فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين. فقال زعيم القوم وأسفى! فسمي المكان إلى اليوم «أسفى». وهو المرسى الذي في أقصى المغرب، وقد ذكرناه قبل هذا. ومن مدينة لشبونة
Lisbonne
251
مع النهر إلى مدينة شنترين
Santaren
252
شرقا ثمانون ميلا والطريق بينهما لمن شاء في النهر أو في البر، وبينهما فحص «بلاطة»، ويخبر أهل لشبونة وأكثر أهل الغرب أن الحنطة تزرع بهذا الفحص، فتقيم بالأرض أربعين ثم يوما تحصد، وأن الكيل الواحد منها يعطي مائة كيل، وربما زاد ونقص.
ومدينة شنترين على جبل عال كثير العلو جدا، ولها من جهة القبلة حافة عظيمة ولا سور لها، وبأسلفها ربض على طول النهر، وشرب أهلها من مياه عيون، ومن ماء النهر أيضا، ولها بساتين كثيرة وفواكه عامة، ومباقل، وخير شامل، ومن مدينة شنترين إلى مدينة بطليوس
253
أربع مراحل، وعلى يمين طريقها مدينة يلبش،
254
وهي في سفح جمال فائق، ومنها إلى بطليوس 12 ميلا. ومن ماردة
255
إلى حصن «كركوي»
256
ثلاث مراحل، ومن كركوي إلى مدينة «قلعة رباح»
257
على ضفة نهر يانة. وهذا النهر يأتي من مروج فوقها، فيمر بقرية يانة
258
إلى قلعة رباح، ثم يسير منها إلى حصن «أرندة»
259
ومنه إلى ماردة، ثم يمر بمدينة بطليوس فيصير منها إلى مقربة من «شريشة»،
260
ثم يصير إلى حصن «مارتلة»
261
فيصب في البحر المظلم.
ومن قلعة رباح
262
إلى قلعة «أرلية»
263
يومان، وهو حصن منيع، ومنه إلى طليطلة مرحلة. ومن قلعة رباح في جهة الشمال إلى حصن البلاط
264
مرحلتان ومن حصن البلاط إلى مدينة «طلبيرة»
265
يومان. وكذلك من مدينة «قنطرة السيف»
266
إلى المخاضة أربعة أيام، ومن المخاضة إلى طلبيرة يومان، وكذلك من مدينة ماردة إلى حصن مدلين
267
مرحلتان خفيفتان، وهو حصن عامر آهل، وفيه خيول ورجال لهم سرايا وطرقات في بلاد الروم. ومن حصن مدلين إلى «ترجالة»
268
مرحلتان وهما خفيفتان، ومدينة ترجالة كبيرة كالحصن المنيع، ولها أسوار منيعة وبها أسواق عامرة وخيل ورجل يقطعون أعمارهم في الغارات على بلاد الروم، والأغلب عليهم اللصوصية والخداع. ومنها إلى حصن «قاصرس»
269
مرحلتان خفيفتان، وهو حصن منيع ومحرس رفيع، فيه خيل ورجل يغاورون في بلاد الروم. ومن مكناسة إلى مخاضة البلاط يومان. ومن البلاط إلى «طلبيرة»
270
يومان، ومدينة طلبيرة على ضفة نهر تاجه، وهي مدينة كبيرة، وقلعتها أرفع القلاع حصنا، ومدينتها أشرف البلاد حسنا، وهو بلد واسع الساحة، شريف المنافع، وبه أسواق جميلة الترتيب، وديار حسنة التركيب، ولها على نهر تاجه أرحاء كثيرة، ولها عمل واسع المجال، وإقليم شريف الحال، ومزارعها زاكية، وجهاتها حسنة مرضية، أزلية العمارة، قديمة الآثار، وهي من مدينة طليطلة على سبعين ميلا.
ومدينة طليطلة من طلبيرة شرقا وهي مدينة عظيمة القطر، كثيرة البشر حصينة الذات، لها أسوار حسنة، فيها حصانة ومنعة وهي أزلية، من بناء «العمالقة»
271
وقليلا ما رؤي مثلها إتقانا، وشماخة
272
بنيان، وهي عالية الذرى، حسنة البقعة زاكية الرقعة، وهي على ضفة النهر الكبير المسمى «تاجه» لها قنطرة من عجيب البنيان، وهي قوس واحدة والماء يدخل تلك القوس كله بعنف وشدة جري، ومع آخر القنطرة ناعورة ارتفاعها في الجو 90 ذراعا، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة، والماء يجري على ظهرها فيدخل المدينة. ومدينة طليطلة كانت في أيام الروم دار مملكتهم، وموضع قصدهم، ووجد أهل الإسلام فيها عند افتتاح الأندلس ذخائر كادت تفوق الوصف كثرة، فمنها أنه وجد بها 170 تاجا من الذهب مرصعة بالدر، وبأصناف الحجارة الثمينة، ووجد بها ألف سيف مجوهر، ملكي، ووجد بها من الدر والياقوت أكيال وأوساق. ووجد بها من أنواع آنية الذهب ما لا يحيط به تحصيل، ووجد بها مائدة سليمان بن داود، وكانت في ما يذكر من زمردة وهذه المائدة اليوم في مدينة رومة .
ولمدينة طليطلة بساتين محدقة بها وأنهار جارية مخترقة، ودواليب دائرة، وجنات يانعة، وفواكه عديمة المثال، لا يحيط بها تكييف ولا تحصيل، ولها من جميع جهاتها أقاليم رفيعة، وقلاع منيعة، تكنفها. وعلى بعد منها في جهة الشمال الجبل العظيم المتصل المعروف بالشارات، وهو يأخذ من ظهر مدينة سالم إلى أن يأتي قرب مدينة قلمرية. في آخر المغرب. وفي هذا الجبل من الغنم والبقر الشيء الكثير الذي يتجهز به الجلابون إلى سائر البلاد، ولا يوجد شيء من أغنامه وأبقاره مهزولا، بل هي في نهاية السمن، ويضرب بها في ذلك المثل، في جميع أقطار الأندلس. وعلى مقربة من طليطلة قرية تسمى بمغام،
273
وجبالها وترابها الطين المأكول، الذي ليس على قرارة الأرض مثله، يتجهز به منها إلى أرض مصر وجميع بلاد الشام والعراقات وبلاد الترك، وهو نهاية في لذاذة الأكل، وفي تنظيف غسل الشعر.
274
ولطليطلة في جبالها معادن الحديد والنحاس، ولها من المنابر في سفح هذا الجبل مجريط،
275
وهي مدينة صغيرة، وقلعة منيعة معمورة، وكان لها في زمن الإسلام مسجد جامع، وخطبة قائمة، ولها أيضا مدينة الفهمين،
276
وكانت مدينة متحضرة، حسنة الأسواق والمباني، وبها مسجد جامع، ومنبر وخطبة، وهي كلها اليوم مع طليطلة في أيدي الروم، وملكها من القشتاليين، وينتسب إلى الأذفونش الملك.
وفي الشرق من مدينة طليطلة إلى مدينة وادي الحجارة 50 ميلا وهي مرحلتان ومدينة وادي الحجارة حصينة حسنة كثيرة الأرزاق والخيرات، جامعة لأشتات المنافع والغلات، وهي مدينة ذات أسوار حصينة، ومياه معينة، ويجري منها بجهة غربيها نهر صغير، لها عليه بساتين وكروم، وجنات وزراعات، وبها من غلات الزعفران الشيء الكثير، يتجهز به منها، ويحمل إلى سائر العمالات والجهات. وهذا النهر يجري إلى جهة الجنوب، فيقع في نهر تاجه الأكبر فيمده. ونهر تاجه المذكور يخرج من ناحية الجبال المتصلة بالقلعة
277
والفنت
278
فينزل مارا مع المغرب إلى مدينة طليطلة،
279
ثم إلى طليبرة،
280
ثم إلى المخاضة،
281
ثم إلى القنطرة
282
ثم إلى قنيطرة محمود
283
ثم إلى مدينة شنترين،
284
ثم إلى لشبونة،
285
فيصب هناك في البحر . ومن مدينة وادي الحجارة إلى مدينة سالم شرقا 50 ميلا. ومدينة سالم
286
هذه مدينة جليلة في وطاء من الأرض، كبيرة القطر كثيرة العمارات والبساتين والجنات، ومنها إلى مدينة شنت مارية ابن رزين
287
أربع مراحل خفاف، ومنها إلى الفنت أربع مراحل. وبين شنت مارية والفنت مرحلتان، وشنت مارية والفنت مدينتان عامرتان، بهما أسواق قائمة، وعمارات متصلة دائمة، وفواكه عامة وكانا في الإسلام منازل القواطم.
288
ومن مدينة سالم إلى مدينة قلعة أيوب
289
50 ميلا شرقا، وهي مدينة رائقة البقعة، حصينة شديدة المنعة، بهية الأقطار كثيرة الأشجار والأثمار. وعيونها مخترقة، وينابيعها مغدودقة، كثيرة الخصب، رخيصة الأسعار، وبها يصنع الغفار المذهب، ويتجهز إلى كل الجهات. ومن مدينة قلعة أيوب إلى قلعة دروقة
290
18 ميلا. ودروقة مدينة صغيرة متحضرة، كثيرة العامر غزيرة البساتين والكروم، وكل شيء بها كثير رخيص. ومن دروقة إلى مدينة سرقسطة 50 ميلا. وكذلك من مدينة قلعة أيوب إلى مدينة سرقسطة
291
50 ميلا.
ومدينة سرقسطة قاعدة من قواعد مدن الأندلس، كبيرة القطر، آهلة ممتدة الأطناب، واسعة الشوارع والطرقات، حسنة الديار والمساكن، متصلة الجنات والبساتين، ولها سور مبني من الحجارة حصين، وهي على ضفة النهر الكبير المسمى إبره،
292
وهو نهر كبير، يأتي بعضه من بلاد الروم، وبعضه من جهة جبال قلعة أيوب، وبعضه من نواحي قلهرة،
293
فتجتمع مواد هذه الأنهار كلها فوق مدينة تطيلة
294
ثم تنصب إلى مدينة سرقسطة، إلى أن تنتهي إلى حصن جبره،
295
إلى موقع نهر الزيتون، ثم إلى طرطوشة فيجتاز بغربيها إلى البحر.
ومدينة سرقسطة هي المدينة البيضاء، وسميت بذلك لكثرة جصها وجيارها، ومن خواصها أنها لا تدخلها حية البتة، وإن جلبت إليها وأدخلت المدينة ماتت وحيا بلا تأخير. ولمدينة سرقسطة جسر عظيم يجتاز عليه إلى المدينة، ولها أسوار منيعة، ومبان رفيعة، ومنها إلى وشقة
296
40 ميلا. ومن وشقة إلى لاردة
297
70 ميلا. ومدينة لاردة مدينة صغيرة متحضرة. ولها أسوار منيعة، وهي على نهر كبير ومن مكناسة
298
إلى طرطوشة
299
مرحلتان وهما 50 ميلا، ومدينة طرطوشة مدينة على سفح الجبل، ولها سور حصين، وبها أسواق وعمارات، وصناع وفعلة، وإنشاء المراكب الكبار من خشب جبالها، وبجبالها يكون خشب الصنوبر الذي لا يوجد له نظير في الطول والغلظ، ومنه تتخذ السواري والقرى
300
وهذا الخشب الصنوبر الذي بجبال هذه المدينة أحمر صافي البشرة، دسم لا يتغير سريعا، ولا يفعل فيه السوس ما يفعله في غيره، وهو خشب معروف منسوب. ومن طرطوشة إلى موقع النهر في البحر 12 ميلا، ومن مدينة طرطوشة إلى مدينة طركونة
301
50 ميلا.
ومدينة طركونة على البحر، وهي مدينة اليهود، ولها سور رخام، وبها أبنية حصينة وأبراج منيعة، ويسكنها قوم قلائل من الروم، وهي حصينة منيعة، ومنها إلى برشلونة
302
في الشرق 60 ميلا، ومن مدينة طركونة غربا إلى موقع نهر إبره 40 ميلا، وهذا الوادي ههنا يتسع سعة كثيرة، ومن موقع النهر إلى رابطة «كشطالي»
303
غربا على البحر 16 ميلا، وهي رابطة حسنة، حصينة منيعة، على نحر البحر الشامي، يمسكها قوم أخيار، وبالقرب منها قرية كبير ويتصل بها عمارات ومزارع، ومن رابطة كشطالي غربا إلى قرية «يانة»
Ianna
قرب البحر 6 أميال، ومنها إلى حصن «بنشكله»
304
6 أميال، وهو حصن منيع على ضفة البحر، وهو عامر آهل، وله قرى وعمارات ومياه كثيرة. ومن حصن بنشكله إلى عقبة «أبيشة»
305
7 أميال، وهو جبل معترض عال على البحر والطريق عليه لا بد من السلوك على رأسه، وهو صعب جدا. ومنه إلى مدينة «بوريانه»
306
غربا 25 ميلا ومدينة بوريانه مدينة جليلة عامرة كثيرة الخصب والأشجار والكروم، وهي في مستو من الأرض، وبينها وبين البحر نحو من ثلاثة أميال. ومن بوريانه إلى «مرباطر»
307
وهي قرى عامرة وأشجار ومستغلات، ومياه متدفقة، 60 ميلا، وكل هذه الضياع والأشجار على مقربة من البحر. ومنها إلى «بلنسية» غربا 12 ميلا.
ومدينة بلنسية قاعدة من قواعد الأندلس، وهي في مستو من الأرض، عامرة القطر، كثيرة التجار والعمار، وبها أسواق وتجارات، وحط وإقلاع، وبينها وبين البحر 3 أميال مع النهر، وهي على نهر جار ينتفع به، ويسقي المزارع، ولها عليه بساتين وجنات، وعمارات متصلة. ومن مدينة بلنسية إلى مدينة سرقسطة 9 مراحل على «كتندة»
308
وبين بلنسية وكتندة 3 أيام، ومن كتندة إلى «حصن الرياحين » مرحلتان ، وهو حصن كثير الخلق عامر بذاته. ومن حصن الرياحين إلى «القنت»
309
يومان، ومن مدينة بلنسية إلى جزيرة «شقر»
310
18 ميلا، وهي على نهر شقر وجزيرة شقر المذكورة حسنة البقاع، كثيرة الأشجار والأثمار والأنهار، وبها ناس وجلة، وهي على قارعة الطريق الشارع إلى مرسية. ومن جزيرة شقر إلى «شاطبة»
311
12 ميلا. ومدينة شاطبة مدينة حسنة، ولها قصاب، يضرب بها المثل في الحسن والمنعة ويعمل بها من الكاغد ما لا يوجد له نظير بمعمور الأرض، ويعم المشارق والمغارب. ومن شاطبة إلى «دانية»
312
25 ميلا، وكذلك من شاطبة إلى بلنسية 32 ميلا، وكذلك من بلنسية إلى مدينة دانية، على البحر مع الجون 65 ميلا ومن بلنسية إلى حصن «قلييرة»
313
25 ميلا، وحصن قلييرة قد أحدق البحر به، وهو حصن منيع، على موقع نهر شقر، ومنه إلى مدينة دانية 40 ميلا ومدينة دانية على البحر عامرة حسنة، لها ربض عامر، وعليها سور حصين، وسورها من ناحية المشرق في داخل البحر، قد بني بهندسة وحكمة، ولها قصبة منيعة جدا، وهي على عمارة متصلة وشجرات تين كثيرة وكروم، وهي مدينة تسافر إليها السفن، وبها ينشأ أكثرها، لأنها دار إنشاء السفن، ومنها تخرج السفن إلى أقصى الشرق، ومنها يخرج الأسطول للغزو، وفي الجنوب منها جبل عظيم مستدير يظهر من أعلاه جبال «يابسة»
314
في البحر، ويسمى هذا الجبل جبل قاعون.
315
ومن مدينة شاطبة إلى بكيران غربا 40 ميلا، وحصن «بكيران»
316
حصن منيع عامر كالمدينة، وله سوق مشهودة، وحوله عمارات متصلة، تصنع به ثياب بيض تباع بالأثمان الغالية، ويعمر الثوب منها سنين كثيرة، وهي من أبدع الثياب عتاقة ورقة، حتى لا يفرق بينها وبين الكاغد في الرقة والبياض. ومن بكيران إلى دانية 40 ميلا. ومن حصن بكيران إلى مدينة «الش» 40 ميلا. ومدينة ألش
317
مدينة في مستو من الأرض، ويشقها خليج يأتي إليها من نهرها، يدخل المدينة من تحت السور، فيتصرفون فيه، ويجري في حمامها، ويشق أسواقها وطرقاتها، وهو نهر مليح سبخي، وشرب أهل المدينة من الخوابي، يجلب إليها من خارجها، ومياهها المشروبة من مياه السماء. ومن مدينة الش إلى مدينة «وريوالة»
318
28 ميلا، ومدينة أوريولة على ضفة النهر الأبيض هو نهرها ونهر مرسية، وسورها من ناحية الغرب على جريته، ولها قنطرة على قوارب، يدخل إليها منها، ولها قصبة في نهاية من الامتناع، على قمة جبل، ولها بساتين وجنات، ورياضات دانية، وبها من الفواكه ما لا تحصيل له، وبها رخاء شامل، وبها أسواق وضياع. وبين أوريولة والبحر 20 ميلا. وبين أوريولة ومدينة مرسية 120 ميلا، ومن مدينة أوريولة إلى «قرطاجنة» 45 ميلا.
ومن مدينة دانية المتقدم ذكرها على الساحل إلى مدينة «لقنت»
319
غربا على البحر 70 ميلا. ولقنت مدينة صغيرة عامرة، وبها سوق ومسجد جامع ومنبر ويتجهز منها بالحلفاء إلى جميع بلاد البحر. وبها فواكه وبقل كثير وتين وأعناب ولها قصبة منيعة عالية جدا في أعلى جبل،
320
يصعد إليه بمشقة وتعب، وهي أيضا مع صغرها تنشأ بها المراكب السفرية والحراريق. وبالقرب من هذه المدينة وبالقرب منها، جزيرة تسمى «ابلناصة»
321
وهي على ميل من البر، وهي مرسى حسن، وهي مكمن لمراكب العدو، وهي تقابل «طرف الناظور»،
322
ومن طرف الناظور إلى مدينة القنت 10 أميال، ومن مدينة القنت في البر إلى مدينة ألش مرحلة خفيفة، ومن مدينة القنت إلى «حلوق بالش»
323
57 ميلا وبالش مع مراسي أفواه أودية تدخلها المراكب ومن بالش إلى جزيرة الفيران
324
ميل. وبين هذه الجزيرة والبر ميل ونصف، ومنها إلى طرف «القيطال»
325
12 ميلا، ومنه إلى «برتمان
326
الكبير»، وهو مرسى، 30 ميلا، ومنه إلى مدينة «قرطاجنة»
327
12 ميلا. ومدينة قرطاجنة، وهي فرضة مدينة مرسية. وهي مدينة قديمة أزلية، لها مرسى ترسي بها المراكب الكبار والصغار، وهي كثيرة الخصب والرخاء المتتابع، ولها إقليم يسمى «الفندون»
328
وقليل ما يوجد مثاله في طيب الأرض، وجودة نمو الزرع فيه، ويحكى أن الزرع فيه يثمر بسقي مرة واحدة، وإليه المنتهى في الجودة.
ومن مدينة قرطاجنة على الساحل إلى «شجانة»
329
24 ميلا، وهو مرسى حسن وعليه بقربه قرية، ومنه إلى حصن «آقلة»
330
12 ميلا، وهو حصن صغير على البحر، وهو فرضة «لورقة»، وبينهما في البر 25 ميلا. ومن حصن آقلة إلى وادي «بيرة»
331
في قعر الجون 42 ميلا. وعلى مصب النهر جبل كبير وعليه حصن بيرة المطل على البحر، ومن الوادي إلى الجزيرة المسماة «قربنيرة»
332
12 ميلا، ثم إلى «الرصيف» ستة أميال، ثم إلى «الشامة البيضاء» ثمانية أيام، ثم إلى طرف «قابطة
333
ابن أسود» ستة أميال. ومن طرف القابطة إلى المرية 12 ميلا. ومن مدينة قرطاجنة إلى مرسية في البر 40 ميلا.
ومدينة مرسية قاعدة أرض تدمير. وهي في مستو من الأرض، على النهر الأبيض، ولها ربض عامر آهل، وعليها وعلى ربضها أسوار حصينة، وحظائر متقنة والماء يشق ربضها، وهي على ضفة النهر المعروف، ويجاز إليها على قنطرة مصنوعة من المراكب. ولها أرحاء طاحنة في المراكب، مثل طواحن سرقسطة. التي هي تركب في مراكب تنتقل من موضع إلى موضع، وبها من البساتين والأشجار والعمارات ما لا يوجد بتحصيل، ولها كروم، وبها شجر التين كثير، ولها حصون وقلاع وقواعد وأقاليم معدومة المثال، ومن مدينة مرسية إلى مدينة بلنسية خمس مراحل، ومن مرسية إلى المرية على الساحل 5 مراحل، ومن مرسية إلى قرطبة عشر مراحل، ومن مرسية إلى حصن شقورة،
334
4 مراحل، ومن مرسية إلى «جنجالة»
335
50 ميلا. ومدينة جنجالة متوسطة القدر، حصينة القلعة، منيعة الرقعة، ولها بساتين وأشجار وعليها حصن حسن، ويعمل بها من وطاء الصوف ما لا يمكن صنعه في غيرها بإتقان الماء والهواء، ولنسائها جمال فائق وحصافة.
ومن جنجالة إلى «كونكة» يومان، وهي مدينة أزلية صغيرة، على منقع ماء مصنوع قصدا، ولها سور، وليس لها ربض، ويصنع بها من الأوطية المتخذة من الصوف كل غريبة. ومن قونكة إلى قلصة
336
ثلاثة مراحل شرقا، وقلصة حصن منيع يتصل به أجبل كثيرة، بها شجر الصنوبر الكثير ويقطع بها الخشب ويلقى في الماء، ويحمل إلى دانية وإلى بلنسية في البحر، وذلك أنها تسير في النهر من قلصة إلى جزيرة شقر، ومن جزيرة شقر إلى حصن «قالييره» وتفرغ هناك على البحر، فتملأ منها المراكب، وتحمل إلى دانية، فتنشأ منها السفن الكبار، والمراكب الصغار، ويحمل إلى بلنسية منه ما كان عريضا، فيصرف في الأبنية والديار. ولا تزال عادة إرسال الخشب في النهر إلى جزيرة شقر إلى قلييرة إلخ إلى يومنا هذا. ومن قلصة إلى شنت مارية ثلاثة مراحل، وكذلك من قلصة إلى «الفنت» أيضا مثل ذلك، ومن «قونكة»
337
إلى «وبذي»
338
ثلاث مراحل و«وبذي» و«اقليش»
339
مدينتان متوسطتان، ولها أقاليم ومزارع عامرة، وبين وبذي وأقليش 18 ميلا، ومن أقليش إلى شقورة 3 مراحل وشقورة حصن كالمدينة، عامر بأهله، وهو في رأس جبل عظيم متصل، منيع الجهة، حسن البنية، ويخرج من أسفله نهران، أحدهما نهر قرطبة، المسمى بالنهر الكبير، والثاني هو النهر الأبيض الذي يمر بمرسية، وذلك أن النهر الذي يمر بقرطبة يخرج من هذا الجبل من مجتمع مياه كالغدير، ظاهر في نفس الجبل، ثم يغوص تحت الجبل، ويخرج من مكان في أسفل الجبل، فيتصل جريه غربا إلى جبل «نجدة»،
340
إلى «غادرة»،
341
إلى قرب مدينة «أبذة»،
342
إلى أسفل مدينة «بباسة»،
343
إلى حصن «أندوجر»،
344
إلى «القصير»،
345
إلى «قنطرة اشتشان»،
346
إلى قرطبة إلى حصن «المدور»
347
إلى حصن «الجرف»
348
إلى حصن «لورة»
349
إلى حصن «القليعة»
350
إلى حصن «قطنيانة»
351
إلى «الزرادة»
352
إلى أشبيلية، إلى «قبطال»
353
إلى «قبتور»،
354
إلى «طبرشانة»،
355
إلى «المساجد»،
356
إلى قادس، ثم إلى بحر الظلمات.
وأما النهر الأبيض الذي هو نهر مرسية فإنه يخرج من أصل الجبل، ويحكي أن أصلهما واحد، أعني نهر قرطبة ونهر مرسية. ثم يمر نهر مرسية في عين الجنوب إلى حصن «أفرد»،
357
ثم إلى حصن «موله»،
358
ثم إلى مرسية، ثم إلى أوريوالة إلى المدور، إلى البحر، ومن شقورة إلى مدينة «سرتة»
359
مرحلتان كبيرتان، وهي مدينة متوسطة القدر، حسنة البقعة، كثيرة الخصب، وبالمقربة منها حصن ...،
360
ومن حصن ... إلى طليطلة مرحلتان. ومن أراد من مرسية إلى المرية سار من مرسية إلى قنطرة «أشكابة»
361
إلى حصن «لبرالة»
362
إلى حصن «الحمة»
363
إلى مدينة «لورقة»،
364
وهي مدينة غراء حصينة، على ظهر جبل ولها أسواق وربض في أسفل المدينة، وعلى الربض سور، وفي الربض السوق، والرهادرة،
365
وسوق العطر، وبها معادن تربة صفراء، ومعادن مغرة، تحمل إلى كثير من الأقطار، ومن حصن لورقة إلى مرسية 40 ميلا ، ثم من لورقة إلى «آبار الرتبة»
366
إلى «حصن بيرة»
367
مرحلة، وهذا الحصن حصن منيع، على حافة مطلة على البحر. ومن هذا الحصن إلى «عقبة شقر»،
368
وهي عقبة صعبة المرقى، لا يقدر أحد على جوازها راكبا، وإنما يأخذها الركبان رجالة، ومن العقبة إلى «الرابطة»
369
مرحلة، وليس هناك حصن ولا قرية، وإنما بها قصر به قوم حراس للطريق، ومن هذه الرابطة إلى المرية مرحلة خفيفة.
ومدينة المرية كانت في أيام الملثم
370
مدينة الإسلام، وكان بها من كل الصناعات كل غريبة، وذلك أنه كان بها من طرز الحرير 800 طراز، يعمل بها الحلل والديباج والسقلاطون والأصبهاني والجرجاني، والستور للكللة والثياب المعينة، والخمر والعتابي، والمعاجر، وصنوف أنواع الحرير، وكانت المرية قبل الآن يصنع بها من صنوف الآلات النحاس والحديد، إلى سائر الصناعات، ما لا يحد ولا يكيف وكان بها من فواكه واديها الشيء الكثير الرخيص، وهذا الوادي المنسوب إلى بجانة
Bichèna
بينه وبين المرية 4 أميال، وحوله جنات وبساتين وأرحاء، وجميع نعمها وفواكهها تجلب إلى المرية، وكانت المرية إليها تقصد مراكب البحر من الإسكندرية والشام كله، ولم يكن بالأندلس كلها أيسر من أهلها مالا. ولا أتجر منهم في الصناعات وأصناف التجارات تصريفا وادخارا.
والمرية في ذاتها جبلان وبينهما خندق معمور، وعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة. والجبل الثاني منهما فيه ربضها ويسمى جبل «لاهم»
Lahem
والسور يحيط بالمدينة وبالربض. ولها أبواب عدة ولها من الجانب الغربي ربض كبير عامر يسمى ربض الحوض، وهو ربض له سور عامر بالأسواق والديار والفنادق والحمامات. والمدينة في ذاتها مدينة كبيرة كثيرة التجارات، والمسافرون إليها كثيرون وكان أهلها مياسير، ولم يكن في بلاد أهل الأندلس أحضر من أهلها نقدا، ولا أوسع منهم أحوالا. وعدد فنادقها التي أخذها عد الديوان في التعيين ألف فندق، إلا ثلاثين فندقا، وكان بها من الطرز أعداد كثيرة، قدمنا ذكرها. وموضع المرية من كل جهة استدارت به صخور مكدسة، وأحجار صلبة مضرسة، لا تراب بها، كأنما غربلت أرضها من التراب وقصد موضعها بالحجر، والمرية في هذا الوقت الذي ألفنا كتابنا فيه، صارت ملكا بأيدي الروم، وقد غيروا محاسنها وسبوا أهلها. وخربوا ديارها، وهدموا مشيد بنيانها، ولم يبقوا على شيء
371
منها. وللمرية منابر منها مدينة برجة
372
ودلاية.
373
وبين المرية وبرجة مرحلة كبيرة. وبين برجة ودلاية نحو من 8 أميال. وبرجة أكبر من دلاية، ولها أسواق وصناعات وحروث ومزارع. ومن المرية لمن أراد مالقة طريقان، طريق في البر وهو تحليق
374
وهو 7 أيام والطريق الآخر في البحر وهو 180 ميلا. وذلك أنك تخرج من المرية إلى قرية البجانس
375
على البحر ستة أميال، ومن قرية البجانس يمر الطريق في البر إلى برجة ودلاية. ومن قرية البجانس إلى آخر الجون، وعليه برج مبني بالحجارة، مصنوع لوقيد النار فيه عند ظهور العدو في البحر،
376
ستة أميال، ومن هذا الطرف إلى مرسى البيرة 32 ميلا، ومنه إلى قرية «عذرة»
377
على البحر 12 ميلا. وقرية عذرة مدينة صغيرة لا سوق لها، وبها الحمام والفندق، وبها بشر كثير، وبغربيها ينزل نهر كبير، منبعه من جبل شلير، ويجتمع بمياه برجه وغيرها فيصب عند عذرة في البحر، ومن عذرة إلى قرية «بليسانة»
378
20 ميلا، وهي قرية آهلة على شاطئ البحر، ومنها إلى «مرسى الفروج»،
379
12 ميلا، وهو مرسى كالحوط صغير. ومنه إلى قرية «بطرنه»
380
6 أميال، ومنها معدن التونية التي فاقت جميع معادن التونية طيبا، ومنها إلى قرية «شلبونة»
381
12 ميلا، ومن شلبونة إلى مدينة المنكب في البحر 8 أميال. و«المنكب»
382
مدينة حسنة متوسطة كثيرة مصايد السمك، وبها فواكه جمة، وفي وسطها بناء مربع قائم كالصنم أسفله واسع، وأعلاه ضيق، وبه حفيران من جانبيه متصلا، من أسفله إلى أعلاه وبإزائه من الناحية الواحدة في الأرض حوض كبير يأتي إليه الماء من نهر ميل، على ظهر قناطر كثيرة معقودة من الحجر الصلد فيصب ماؤه في ذلك الحوض، ويذكر أهل المعرفة من أهل المنكب أن ذلك الماء كان يصعد إلى أعلى المنار، وينزل من الناحية الأخرى، فيجري هناك إلى رحى صغيرة. كانت، وبقي موضعه الآن على جبل مطل على البحر، ولا يعلم أحد ما المراد بذلك؟
ومن مدينة المنكب في البر إلى مدينة أغرناطة 40 ميلا، ومن المنكب على البحر إلى قرية «شاط»
383
12 ميلا، وبقرية شاط زبيب حسن الصفة، كبير المقدار أحمر اللون، يصحب طعمه مرارة، ويتجهز به إلى كل البلاد الأندلسية. وهو منسوب إلى هذه القرية. ومن قرية شاط إلى قرية «طرش»
384
على ضفة البحر 12 ميلا. ومنها إلى قصبة «مرية بليش»
385
12 ميلا، وهو حصن على ضفة البحر صغير المقدار ويصب بمرقبة منه جهة المغرب نهر الملاحة، هو نهر يأتي من ناحية الشمال، فيمر بالحمة، ويتصل بأحواز حصن صالحة،
386
فيقع فيه هناك جميع مياه صالحة، وتنزل إلى قرية «الفشاط»
387
وتصب هناك في غربي حصن مرية بلش في البحر، ومن مرية بلش إلى قرية «الصيرة» ولها طرف يدخل في البحر، 7 أميال. ومن طرف قرية الصيرة إلى قرية «بزليانة»
388
7 أميال.
وهي قرية كالمدينة في مستو من الأرض، وأرضها رمل، وبها الحمام والفنادق وشباك يصاد بها الحوت الكثير، ويحمل منها إلى تلك الجهات المجاورة لها، ومن بزليانة إلى مدينة
389
مالقة 8 أميال، ومدينة مالقة مدينة حسنة عامرة آهلة، كثيرة الديار، متسعة الأقطار، بهية كاملة سنية، أسواقها عامرة، ومتاجرها دائرة، ونعمها كثيرة، ولها فيما استدار بها من جميع جهاتها شجر التين المنسوب إلى رية وتينها يحمل إلى بلاد مصر والشام والعراق، وربما وصل إلى الهند، وهو من أحسن التين طيبا، وعذوبا، ولمدينة مالقة ربضان كبيران. ربض «فنتنالة»
390
وربض «التبانين»
391
وشرب أهلها من مياه الآبار، وماؤها قريب الغور، كثير عذب ولها واد يجري في أيام الشتاء والربيع، وليس بدائم الجري. وسنذكرها بعد هذا بحول الله تعالى وقوته.
ولنرجع الآن إلى ذكر مدينة المرية فنقول: إن الطريق من مدينة المرية إلى أغرناطة البيرة، فمن أراد ذلك خرج من المرية إلى «بجانة»
392
ستة أميال، ومدينة بجانة كانت المدينة المشهورة قبل المرية، فانتقل أهلها إلى المرية، فعمرت وخربت بجانة، فلم يبق منها الآن إلا آثار بنيانها، ومسجد جامعها قائم بذاته، وحول بجانة
جنات وبساتين، ومتنزهات وكروم، وأموال كثيرة لأهل المرية وعلى يمين بجانة، وعلى ستة أميال منها «حصن الحمة »
393
والحمة في رأس جبل ويذكر المتجولون في أقطار الأرض أن ما مثل هذه الحمة في المعمور من الأرض وأتقن منها بناء ولا أسخن منها ماء، والمرضى والمعلون يقصدون إليها من كل الجهات فيلزمون المقام بها إلى أن تستقل عللهم، ويشفوا من أمراضهم وكان أهل المدينة في أيام الربيع يدخلون إليها مع نسائهم وأولادهم باحتفال من المطاعم والمشارب والتوسع في الإنفاق وربما بلغ المسكن بها في الشهر ثلاثة دنانير مرابطية، وأكثر وأقل. وجبال هذه الجهة كلها جص يحتفر ويحرق، وينقل إلى المرية، وبه جميع عقد بنيانهم وتجصيصهم، وهو بها وعندهم كثير، رخيص لكثرته. ومن مدينة بجانة إلى قرية «بني عبدوس»
394
6 أميال، ومنها إلى حصن «مندوجر»
395
6 أميال، وبه المنزل لمن خرج من المرية، وهي مرحلة خفيفة. وحصن مندوجر على جبل تراب أحمر، والجبل على ضفة نهر، والمنزل في القرية منها، ويباع بها للمسافرين الخبز والسمك، وجميع الفواكه، كل شيء منها في إبانه، ثم إلى حمة «غشر»
396
ثم إلى الحمة المنسوبة إلى «وشتن»،
397
ومنها إلى «مرشانة»،
398
وهو على مجتمع النهرين، وهو من أمنع الحصون مكانا، وأوثقها بنيانا، وأكثرها عمارة، ومنها إلى قرية «بلذوذ»،
399
ثم إلى «حصن القصير»،
400
وهو حصن منيع جدا، على فم مضيق في الوادي، وليس لأحد جواز إلا بأسفل هذا الحصن، ومنه إلى خندق «فبير»،
401
ثم إلى «الرتبة»،
402
ثم إلى قرية «عبلة»،
403
وبها المنزل. ومن قرية عبلة إلى حصن «فنيانة»،
404
ثم إلى قرية «حنصل»،
405
ثم إلى أول فحص عبلة، وطول هذا الفحص 12 ميلا، وليس به عوج ولا أمت، وعن شمال المار جبل شلير الثلج، وفي حضيض هذا الجبل حصون كثيرة، منها حصن «فريرة»
406
ينسب إلى الجوز، وذلك أن بها من الجوز شيئا ينفرط في غير رض ولا يعدله في طعمه شيء من الجوز من غيرها من الأقطار.
ومن حصن هذا الجبل حصن «دلر»،
407
وبه من الكمثرى كل عجيبة، وذلك أن الكمثرى به يكون منها في وزن الحبة الواحدة رطل أندلسي، وأما الأعم منها فكمثرتان في رطل واحد، ولها مذاق عجيب. ومن آخر فحص عبلة إلى خندق آش، ثم إلى مدينة وادي آش
408
وهي مدينة متوسطة المقدار، ولها أسوار محدقة، ومكاسب مؤنقة، ومياه متدفقة، ولها نهر صغير دائم الجري، ومنها إلى قرية «دشمة»
409
وبها المنزل. ومنها إلى «الرتبة» ثم إلى قرية «أفرافيدة»
410
ثم إلى قرية «ود»
411
وهي قرى متصلة. ومنها إلى مدينة أغرناطة 8 أميال. ومدينة وادي آش رصيف يجتمع به طرق كثيرة، فمن أراد منها مدينة بسطة خرج منها إلى جبل عاصم
412
ثم إلى قرية ...
413
إلى مدينة بسطة وبينهما 30 ميلا. ومدينة بسطة
414
متوسطة المقدار، حسنة الموضع، عامرة آهلة، لها أسوار حصينة، وسوق نظيفة وديار حسنة البناء، رائقة المغنى، وبها تجارات وفعلة لضروب من الصناعات، وعلى مقربة منها حصن «طشكر»
415
الذي فاق جميع حصون الأندلس منعة، وعلوا ورفعة، وطيب تربة وهواء. وليس لأحد موضع يصعد منه إلى هذا الحصن إلا موضعان، وبين الموضع والموضع 12 ميلا، على طرق مثل شراك النمل، ومدارج النمل، وبأعلاه الزرع والضرع والحصاد والمياه وإليه الانتهاء في الخصب وجودة الحصانة. وكذلك من وادي آش إلى جيان ثلاث مراحل خفاف.
ومدينة جيان
416
حسنة كثيرة الخصب، رخيصة الأسعار، كثيرة اللحوم والعسل، ولها زائد على ثلاثة آلاف قرية كلها يربي بها دود الحرير، وهي مدينة كثيرة العيون الجارية تحت سورها، ولها قصبة من أمنع القصاب وأحصنها يرتقي إليها على طريق مثل مدرج النمل، ويتصل بها جبل «كور».
417
وبمدينة جيان بساتين وجنات، ومزارع وغلات القمح والشعير والباقلاء وسائر الحبوب، وعلى ميل منها نهر «بلون»
418
وهو نهر كبير، وعليه أرحاء كثيرة جدا، وبها مسجد جامع وجلة وعلماء. ومن مدينة جيان إلى مدينة «بياسة»
419
20 ميلا، وبياسة تظهر من جيان، وجيان تظهر من بياسة، وبياسة على كدية
420
تراب مطلة على النهر الكبير المنحدر إلى قرطبة، وهي مدينة ذات أسوار وأسواق ومتاجر، وحولها زراعات، ومستغلات الزعفران بها كثيرة. ومنها إلى «أبذة»
421
في جهة الشرق 7 أميال وهي مدينة صغيرة، وعلى مقربة من النهر الكبير، لها مزارع وغلات قمح وشعير كثيرة جدا، وفيما بين جيان وبسطة ووادي آش حصون كثيرة ، عامرة ممدنة آهلة، لها خصب وغلال نافعة كثيرة، فمن ذلك أن بشرقي جيان وقبالة بياسة حصنا عظيما يسمى شوذر (Joder)
وإليه ينسب الخلاط الشوذري
422
ومنه في الشرق إلى حصن «طوية»
423
12 ميلا، ومنه إلى حصن «قيشاطة»
424
وهو حصن كالمدينة له أسواق وربض عامر، وحمام وفنادق، وعليه جبل يقطع به من الخشب التي تخرط منه القصاع والمخابي والأطباق وغير ذلك، مما يعم بلاد الأندلس وأكثر بلاد المغرب أيضا. وهذا الجبل يتصل ببسطة، وبين جيان وهذا الحصن مرحلتان، ومنه إلى وادي آش مرحلتان، ومنه إلى أغرناطة مرحلتان ومن وادي آش المتقدم ذكرها إلى أغرناطة 40 ميلا.
ومدينة أغرناطة محدثة من أيام الثوار بالأندلس، وإنما كانت المدينة المقصودة البيرة (vera) ، فخلت وانتقل أهلها إلى أغرناطة، ومدنها وحصن أسوارها وبنى قصبتها حيوس الصنهاجي،
425
ثم خلفه ابنه بادس بن حيوس، فكملت في أيامه وعمرت إلى الآن. وهي مدينة يشقها نهر يسمى «حدرو»
426
وعلى جنوبها نهر الثلج المسمى «شنيل»
427
ومبدأه من جبل شلير، وهو جبل الثلج، وذلك أن هذا الجبل طوله يومان وعلوه في غاية الارتفاع، والثلج به دائما في الشتاء والصيف: ووادي آش وأغرناطة في شمالي الجبل، ووجه الجبل الجنوبي مطل على البحر، يرى من البحر على مجرى (... بياض بالأصل) ونحوه وفي أسفله من ناحية البحر برجة ودلاية، وقد ذكرناهما في ما سبق. ومن أغرناطة إلى مدينة المنكب على البحر 40 ميلا، ومن أغرناطة إلى مدينة «لوشة»
428
مع جرية النهر 25 ميلا. ومن المنكب إلى مدينة المرية 100 ميل في البحر، ومن المنكب إلى مدينة مالقة 80 ميلا.
ومدينة مالقة مدينة حسنة حصينة ويعلوها جبل يسمى جبل «فأره»،
429
ولها قصبة منيعة وربضان، لا أسوار لها، وبها فنادق وحمامات، وبها من شجر التين ما ليس بأرض،
430
وهو التين المنسوب إلى رية. ومالقة قاعدة رية، ومن مالقة إلى قرطبة في جهة الشمال أربعة أيام، ومن مالقة أيضا إلى غرناطة 80 ميلا. ومن مالقة إلى الجزيرة الخضراء مائة ميل، ومن مالقة إلى أشبيلية خمسة مراحل، ومن مالقة إلى «مربلة»
431
في طريق الجزيرة الخضراء 40 ميلا، ومربلة مدينة صغيرة متحضرة ، ولها عمارات وأشجار تين كثيرة، وفي الشمال منها قلعة «ببشتر»،
432
وهي قلعة في نهاية الامتناع والتحصين، والصعود إليها على طريق صعب.
وأما ما بين مالقة وقرطبة من الحصون المانعة التي هي حواضر في تلك النواحي فمنها مدينة «أرشذونة»
433
و«أنتقيرة»
434 ، وبينها وبين مالقة 35 ميلا. وكانت أرشذونة هذه وأنتقيرة مدينتين أخلتهما الفتن في زمان الثوار بالأندلس. بعد دولة ابن أبي عامر القائم لدولة بني أمية. ومن أرشذونة إلى حصن «أشر»
435
20 ميلا وهو حصن حسن حصين، كثير العمارة آهل، وله سوق مشهورة، ومنه إلى باغه
436
18 ميلا، وباغه مدينة صغيرة القدر، لكنها في غاية الحسن، لكثرة مياهها، والماء يشق بلدها، وعليه الأرحاء داخل المدينة، ولها من الكروم والأشجار ما لا مزيد عليه، وهي في نهاية الخصب والرخاء. ويليها في جهة المشرق الحصن المسمى «بالقبذاق»
437
وبينها مرحلة خفيفة، وحصن القبذاق كبير عامر، وهو في سفح جبل ينظر إلى جهة الغرب، وبه سوق مشهورة، ومنه إلى حصن «بيانة»
438
مرحلة صغيرة، وبيانة حصن كبير في أعلى كدية تراب، قد حفت بها أشجار الزيتون الكثيرة، ولها مزارع الحنطة والشعير. ومن حصن بيانة إلى «قبرة»
439
مرحلة خفيفة. وحصن قبرة كبير كالمدينة حصين المكان، وثيق البنيان، وهو على متصل أرض وطيئة وعمارات ومزارع. ومنه إلى مدينة قرطبة 40 ميلا، ويتصل به بين جنوب وغرب مدينة «اليسانة»
440
وهي مدينة اليهود، ولها ربض يسكنه المسلمون وبعض اليهود، وبه المسجد الجامع، وليس على الربض سور، والمدينة مدينة متحصنة بسور حصين، ويطوف بها من كل ناحية حفير عميق القعر والسروب، وفائض مياهها قد ملأ الحفير، واليهود يسكنون بجوف المدينة، ولا يداخلهم فيها مسلم البتة وأهلها أغنياء مياسير، أكثر غنى من اليهود الذين بسائر بلاد المسلمين، ولليهود بها تحذر وتحصن من مضدهم. ومن اليسانة إلى مدينة قرطبة 40 ميلا، ويلي هذه الحصون حصن «بلاي»
Aguilar De La Frontera
441
وحصن «منترك»
442
وهي في ذاتها حصون يسكنها البربر من أيام الأمويين، ومن حصن بلاي إلى مدينة قرطبة 20 ميلا، وبالقرب من بلاي حصن «شنت
443
ياله» وهو حصن على مدرة، والماء منه بعيد . ومنه إلى أستجة
444
في الغرب 15 ميلا. ومن حصن شنت ياله إلى قرطبة 23 ميلا. ومدينة أستجة على نهر أغرناطة المسمى شنيل وهي مدينة حسنة ولها قنطرة عجيبة البناء من الصخر المنجور، وبها أسواق عامرة، ومتاجر قائمة، ولها بساتين وجنات ملتفة، وحدائق زاهية. ومن أستجة إلى قرطبة 35 ميلا ومن أستجة في جهة الجنوب إلى حصن أشونة
445
نصف يوم. وحصن أشونة حصن ممدن كثير الساكن ومنه إلى «بلشانة»
Belicena
ومدينة بلشانة
Belicena
حصن كبير عامر، له حصانة ووثاقة. يحيط به شجر الزيتون. ومن أستجة إلى مدينة قرمونة
Carmona
45 ميلا، وهي مدينة كبيرة يضاهي سورها سور أشبيلية وكانت فيما سلف بأيدي البرابر، ولم يزل أهلها أبدا أهل نفاق، وهي حصينة على رأس جبل حصين منيع، وهي على فحص ممتد، جيد الزراعات، كثير الإصابة في الحنطة والشعير ومنه في الغرب إلى أشبيلية 18 ميلا، وقد ذكرنا أشبيلية فيما سبق. ومن مدينة قرمونة إلى شريش
Jerej
من كورة شذونة
Sidonia
3 مراحل. وكذلك من مدينة أشبيلية إلى شريش مرحلتان كبيرتان جدا.
ومدينة شريش متوسطة حصينة مسورة الجنات، حسنة الجهات، وقد أطافت بها الكروم الكثيرة، وشجر الزيتون والتين، والحنطة بها ممكنة، وأسعارها موافقة ومن شريش إلى جزيرة قادس
Cadix
12 ميلا فمن شريش إلى القناطر 6 أميال، ومن القناطر إلى جزيرة قادس 6 أميال، ومن أشبيلية المتقدم ذكرها إلى قرطبة 3 مراحل ولها 3 طرق طريق «الزنبجيار»
Az-Zanbadjar
وطريق «لورة»
Lora
وطريق الوادي، فأما طريق الزنبجيار فقد ذكرناها، وهي من أشبيلية إلى قرمونة مرحلة. ومن قرمونة إلى أستجة مرحلة. ومن أستجة إلى قرطبة مرحلة. وأما طريق لورة فمن أشبيلية إلى منزل «أبان»
Aban
ثم إلى «مرلش»
Marlich
ثم إلى حصن «القليعة»
Coléa
وبه المنزل، وعند مسيرك من مرلش إلى القليعة تبصر حصن قطنيانه
Cantillanna
على الشمال والمنزل القليعة وهي ضفة النهر الكبير، يجاز إليها في المركب، ومن حصن القليعة إلى الغيران
446
إلى حصن لورة، وهو يبعد عن الطريق نحو رمية سهم، وعلى يمين المار حصن كبير عامر، على ضفة النهر الكبير، ومن لورة إلى قرية «صدف»
447
ويقابلها على يسار السالك على جبل عال حصن منيع، وقلعة متحصنة تسمى «شنت
448
فيلة» وهي معقل للبربر من قديم الزمان.
ومن صدف إلى قلعة «ملبال»
449
وهي على نهر ملبال وهو نهر مدينة «فرنجلوش»
450
ومن هذه القنطرة إلى مدينة فرنجلوش 12 ميلا. ومن القنطرة إلى قرية «شوشبيل»
451
وهي قرية كبيرة على نهر قرطبة المسمى بالنهر الكبير، ومنها إلى «حصن مراد»
452
وبه المنزل، ومن حصن مراد إلى الخنادق إلى حصن المدور، ثم إلى السواني
453
ثم إلى قرطبة، وهي المنزل، وبين أشبيلية وقرطبة 80 ميلا على هذا الطريق، ومن حصن المدور الذي ذكرناه إلى فرنجولش 12 ميلا، وهي مدينة حصينة منيعة، كثيرة الكروم والأشجار، ولها على مقربة منها معادن الفضة، بموضع يعرف بالمرج، ومنها إلى حصن «قسنطينة»
454
الحديد 16 ميلا، وهذا الحصن حصن جليل، عامر آهل، وبجباله معادن الحديد الطيب المتفق على طيبه وكثرته، ومنه يتجهز إلى جميع أقطار الأندلس، وبقرب منه حصن «فريش»
455
وبه مقطع للرخام الرفيع الجليل الخطير، المنسوب إليه، والرخام الفريشي أجل الرخام بياضا وأحسنه ديباجا، وأشده صلابة، ومن هذا الحصن إلى «جبل العيون»
456
3 مراحل خفاف، ومن شاء المسير إلى قرطبة أيضا من إشبيلية ركب المراكب، وسار صاعدا في النهر إلى أرحاء «الذرادة»، إلى عطف منزل «ابان»، إلى «قطنيانة»، إلى «لورة»، إلى حصن «الجرف»، إلى «شوشبيل»، إلى موقع نهر «ملبال»، إلى حصن «المدور»، إلى «وادي الرمان»، إلى أرحاء «ناصح»
457
إلى قرطبة، ومدينة قرطبة قاعدة بلاد الأندلس، وأم مدنها، ودار الخلافة الإسلامية.
وفضائل أهل قرطبة أكثر وأشهر من أن تذكر، ومناقبهم أظهر من أن تستر، وإليهم الانتهاء، في السناء والبهاء، بل هم أعلام البلاد، وأعيان العباد، ذكروا بصحة المذهب، وطيب المكسب، وحسن الزي في الملابس والمراكب، وعلو الهمة في المجالس والمراتب، وجميل التخصص في المطاعم والمشارب، مع جميل الخلائق، وحميد الطرائق، ولم تخل قرطبة قط من أعلام العلماء، وسادات الفضلاء، وتجارها مياسير، لهم أموال كثيرة، وأحوال واسعة، ولهم مراكب سنية، وهم علية، وهي في ذاتها مدن خمس، يتلو بعضها بعضا، بين المدينة والمدينة، سور حاجز، وفي كل مدينة ما يكفيها من الأسواق والفنادق والحمامات وسائر الصناعات ، وفي طولها من غربيها إلى شرقيها 3 أميال، وكذلك عرضها من باب القنطرة إلى باب اليهود بشمالها ميل واحد. وهي في سفح جبل مطل عليها يسمى جبل العروس، ومدينتها الوسطى هي التي فيها باب القنطرة.
وفيها المسجد الجامع، الذي ليس بمساجد المسلمين مثله، بنية وتنميقا، وطولا وعرضا، وطول هذا الجامع مائة باع مرسلة، وعرضه 80 باعا،
458
ونصفه مسقف ونصفه صحن للهواء، وعدد قسي مسقفه 19 قوسا، وفيه من السواري، أعني سواري مسقفه، بين أعمدته، وسواري قبلته، صغارا وكبارا، مع سواري القبة الكبرى وما فيها: ألف سارية. وفيه 113 ثريا للوقيد، أكبرها واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلها تحمل 12 مصباحا. وسقفه كله سماوات خشب مسمرة في جوائز سقفه، وجميع خشب هذا المسجد الجامع من عيدان الصنوبر الطرطوشي،
459
ارتفاع حد الجائزة منه شبر وافر، في عرض شبر إلا ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة منها 37 شبرا، وبين الجائزة والجائزة غلظ جائزة. والسماوات التي ذكرناها هي كلها مسطحة، فيها ضروب الصنائع المنشأة من الضروب المسدسة والموربى! وهي صنع الفص وصنع الدوائر والمداهن، لا يشبه بعضها بعضا، بل كل سماء منها مكتف بما فيه من صنائع قد أحكم ترتيبها، وأبدع تلوينها بأنواع الحمرة الزنجفرية، والبياض الاسفيذاجي، والزرقة اللازوردية، والزرقون الباروقي، والخضرة الزنجارية، والتكحيل النفسي، تروق العيون، وتستميل النفوس، بإتقان ترسيمها، ومختلفات ألوانها وتقسيمها. وسعة كل بلاطة منها، أعني من بلاطات مسقفه 33 شبرا، وبين العمود والعمود 15 شبرا، ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام. وقد عقد بين العمود والعمود على أعلى الرأس قسي غريبة، فوقها قسي أخر، على عمد من الحجر المنجور متقنة. وقد جصص الكل منها بالجص والجيار، وركبت عليها نحور مستديرة ناتئة، بينها ضروب صناعات الفسفس بالمغرة. وتحت كل سماء منها إزار خشب فيه مكتوب آيات القرآن.
عساكر العرب في حصار قرطبة وهم يتسلقون جدرانها سنة 712 ب.م.
ولهذا المسجد الجامع قبلة يعجز الواصفين وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها وكل ذلك من الفسيفساء المذهب والملون، مما بعث صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن المعروف بالناصر لدين الله الأموي. وعلى هذا الوجه، أعني وجه المحراب، سبع قسي قائمة على عمد، وطول كل قوس منها أشف من قامة، وكل هذه القسي مزججة صنعة القرط وقد أعيت المسلمين والروم بغريب أعمالها، ودقيق تكوينها ووضعها. وعلى أعلى الكل كتابان مسجونان بين بحرين من الفسيفساء المذهب، في أرض الزجاج اللازوردي وتحت هذه القسي التي ذكرناها كتابان مثل الأولين مسجونان بالفسيفساء المذهب في أرض اللازورد، وعلى وجه المحراب أنواع كثيرة من التزيين والنقش، وفي عضادتي المحراب 4 أعمدة اثنان أخضران، واثنان لازورديان لا تقوم بمال. وعلى رأس المحراب خصة رخام قطعة واحدة مشبوكة محفورة منمقة بأبدع التنميق من الذهب واللازورد وسائر الألوان وعلى وجه المحراب مما استدار به حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريبة.
ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعة خشب آبنوس وبقس وعود المجمر، ويحكى في كتب تواريخ بني أمية أنه صنع في نجارته ونقشه 7 سنين، وكان عدد صناعه ستة رجال، غير من يخدمهم تصرفا، ولكل صانع منهم في اليوم نصف مثقال محمدي. وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطشوت ذهب وفضة ومسك لوقيد الشمع في ليلة 27 رمضان المعظم. ومع ذلك ففي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله، فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان، وهو المصحف الذي خطه بيمينه رضي الله عنه، وفيه نقط من دمه، وهذا المصحف يخرج في صبيحة كل يوم جمعة، ويتولى إخراجه رجلان من قومة المسجد. وأمامهم رجل ثالث بشمعة، وللمصحف غشاء بديع الصنعة، منقوش بأغرب ما يكون من النقش وأدقه وأعجبه، وله بموضع المصلى كرسي يوضع عليه ويتولى الإمام قراءة نصف حزب منه ثم يرد إلى موضعه.
وعن يمين المحراب والمنبر باب يفضي إلى القصر بين حائطي الجامع في ساباط متصل، وفي هذا الساباط 8 أبواب منها 4 تنغلق من جهة القصر، و4 تنغلق من جهة الجامع. ولهذا الجامع عشرون بابا مصفحة بصفائح النحاس وكواكب النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في نهاية من الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفص المتخذ من الآجر الأحمر المحكوك، أنواعا شتى، وأجناسا مختلفة من الصناعات والترييش وصدور البزاة. وفيما استدار بالجامع في أعلاه لتمدد الضوء ودخوله إلى المسقف متكآت رخام، طول كل متكأ منها قدر قامة، في سعة 4 أشبار في غلظ 4 أصابع. وكلها صنع مسدسة ومثمنة، مخرمة منفوذة لا يشبه بعضها بعضا.
وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة الغريبة الصنعة الجليلة الأعمال الرائقة الأشكال التي ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي
460
منها 80 ذراعا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن بقدميه، ومن هناك إلى أعلاها 20 ذراعا ويصعد إلى أعلى هذه المنارة بدرجين أحدهما من الجانب الغربي والثاني من الجانب الشرقي إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لا يجتمعان إلا إذا وصلا أعلاها. ووجه هذه الصومعة كله مبطن بالكذان اللكي، منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة صنع مثمنة تحتوي على أنواع من الصنع والتزويق والكتابة والملون، وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صفان من قسي دائرة على عمد الرخام الحسن. والذي في الصومعة من العمد بين داخلها وخارجها 300 عمود بين صغير وكبير. وفي أعلى الصومعة بيت له أربعة أبواب مغلقة، يبيت فيه كل ليلة مؤذنان على توال. وفي أعلى الصومعة على القبة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهب، وتفاحتان من فضة، وأوراق سوسنية، تسع الكبيرة من التفاحات 60 رطلا من الزيت. ويخدم الجامع كله 60 رجلا وعليهم قائم ينظر في أمورهم، وهذا الجامع متى سها أمامه لا يسجد لسهوه قبل السلام، بل يسجد بعد السلام.
ومدينة قرطبة في حين تأليفنا هذا الكتاب طحنتها رحى الفتنة، وغيرها حلول المصائب والأحداث، مع اتصال الشدائد على أهلها، فلم يبق بها منهم الآن إلا الخلق اليسير، ولا بلد أكبر اسما منها في بلاد الأندلس.
ولقرطبة القنطرة التي علت القناطر فخرا في بنائها وإتقانها، وعدد قسيها 17 قوسا بين القوس والقوس 50 شبرا، وسعة القوس مثل ذلك 50 شبرا، وسعة ظهرها المعبور عليه 30 شبرا. ولها ستائر من كل جهة تستر القامة. وارتفاع القنطرة من موضع المشي إلى وجه الماء في أيام جفوف الماء 30 ذراعا ، وإذا كان السيل يصل الماء منها إلى نحو حلوقها. وتحت القنطرة يعترض الوادي رصيف سد مصنوع من الأحجار القبطية والعمد الجاشية
461
من الرخام. وعلى هذا السد ثلاثة بيوت أرحاء، في كل بيت منها أربع مطاحن.
462
ومحاسن هذه المدينة وشماختها أكثر من أن يحاط بها خبرا.
ومن مدينة قرطبة إلى مدينة الزهراء 5 أميال، وهي قائمة الذات بأسوارها ورسوم قصورها، وفيها قوم سكان بأهليهم وذراريهم، وهم قليلون، وهي في ذاتها مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى يوازي على الجزء الأوسط، وسطح الثلث الأوسط يوازي على الجزء الأسفل، وكل ثلث منها له سور. فكان الجزء الأعلى منها قصورا يقصر الوصف عن صفاتها. والجزء الأوسط بساتين وروضات والجزء الثالث فيه الديار والجامع. وهي الآن خراب في حال الذهاب.
ومن مدينة قرطبة إلى المرية 8 أيام. ومن قرطبة إلى أشبيلية 80 ميلا. ومن قرطبة إلى مالقة 100 ميل. ومن قرطبة إلى طليطلة 9 مراحل، فمن أرادها سار من قرطبة في جهة الشمال إلى عقبة «أرلش»
463
11 ميلا. ومنها إلى دار البقر
464
6 أميال «ثم إلى بطروش»
465
40 ميلا. وحصن «بطروش» حسن كثير العمارة، شامخ الحصانة، لأهله جلادة وحزم على مكافحة أعدائهم، ويحيط بجبالهم وسهولهم شجر البلوط الذي فاق طعمه طعم كل بلوط على وجه الأرض، وذلك أن أهل هذا الحصن لهم اهتمام بحفظه وخدمته، لأنه لهم غلة وغياث في سني الشدة والمجاعة. ومن حصن بطروش إلى حصن «غافق»
466
7 أميال، وحصن غافق حصن حصين، ومعقل جليل، وفي أهله نجدة وحزم، وجلادة وعزم، وكثيرا ما تسري إليهم سرايا الروم فيكتفون بهم في إخراجهم عن أرضهم، وإنقاذ غنائمهم منهم، والروم يعلمون بأسهم وبسالتهم فيناحرون
467
أرضهم ويتحامون عنهم. ومن قلعة غافق إلى جبل «عافور»
468
مرحلة، ثم إلى دار البقر مرحلة، ثم إلى قلعة «رباح»،
469
وهي قلعة حسنة، وقد سبق ذكرها. وكذلك الطريق من قرطبة إلى بطليوس.. من قرطبة إلى دار البقر المتقدم ذكرها مرحلة، ومنها إلى حصن «بندر»
470
مرحلة، ثم إلى «زواغة» مرحلة، وزواغة حصن عليه سور تراب، وهو على كدية تراب ، ومنه إلى نهر «أثنه»
471
مرحلة، ومنه إلى حصن «الحنش»
472
مرحلة، وحصن الحنش منيع شامخ الذروة، مطل الغلوة شاهق البنية، حامي الأفنية. ومنه إلى مدينة ماردة مرحلة لطيفة، ثم إلى بطليوس مرحلة خفيفة. فذلك من قرطبة إلى بطليوس، 7 مراحل. وبشمال قرطبة إلى حصن «ابال» مرحلة، وهو الحصن الذي به معدن الزيبق، ومنه يتجهز بالزيبق والزنجفر إلى جميع أقطار الأرض، وذلك أن هذا المعدن يخدمه أزيد من ألف رجل، فقوم للنزول فيه وقطع الحجر، وقوم لقطع الحطب لحرق المعدن، وقوم لعمل أواني لسبك الزيبق وتصعيده، وقوم لشأن الأفران والحرق. قال المؤلف: وقد رأيت هذا المعدن فأخبرت أن من وجه الأرض إلى أسفله نحو من مائتي قامة وخمسين قامة.
473
ومن قرطبة إلى أغرناطة 4 مراحل وهي مائة ميل. وبين أغرناطة وجيان 50 ميلا وهي مرحلتان.
وأما بحر الشام الذي عليه جنوب بلاد الأندلس، فمبدأه من الغرب، وآخره حيث أنطاكية، ومسافة ما بينهما 36 مجرى. فأما عروضه فمختلفة، وذلك أن مدينة مالقة يقابلها من الضفة الأخرى «المزمة» و«قادس» وبينهما عرض البحر مجرى يوم واحد بالريح الطيبة المعتدلة. وكذلك «المرية» يوازيها في الضفة الأخرى «هنين» وعرض البحر بينهما مجريان. وكذلك أيضا مدينة «دانية» يقابلها من الضفة الأخرى «تنس» وبينهما 3 مجار. وكذلك مدينة برشلونة تقابلها من عدوة الغرب الأوسط «بجانة» وبينهما 4 مجار في عرض البحر، والمجرى مائة ميل.
وأما جزيرة «يابسة» فإنها جزيرة حسنة كثيرة الكروم والأعناب، وبها مدينة حسنة صغيرة متحضرة، وأقرب بر إليها مدينة دانية، وبينهما مجرى. وفي شرقي جزيرة يابسة جزيرة ميورقة،
474
وبينهما مجرى، وبها مدينة كبيرة، لها مالك وحارس ذو رجال وعدد وأسلحة وأموال، وبالشرقي منها أيضا جزيرة مينورقة تقابل مدينة برشلونة، وبينهما مجرى، ومن مينورقة إلى جزيرة سردانية 4 مجار. فهذا ما أردنا ذكره. (4) ما قاله عن إقليم الأندلس: أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب»
ذكر الأقاليم السبعة التي كان الجغرافيون الأولون يقولون بها، فذكر الأندلس في الإقليم الثالث فقال: الإقليم الثالث حده منتهى أرض الحبشة، مما يلي أرض الحجاز، إلى نصيبين، إلى أقصى الشام، إلى البحر الذي بين أرض مصر وبين الشام إلى وسط البحر الذي يلي الأندلس مما يلي المغرب.
ثم ذكر معرفة قسمة الأقاليم لبطليموس فقال: فأما بطليموس وقدماء اليونانيين فإنهم رأوا أن طباع الأقاليم وجبلتها لا تكون إلا طرائق من المشرق إلى المغرب، متجاورة بعضها إلى بعض، من خط الاستواء إلى حيث يقع القطب الشمالي، خمسين درجة، وهو ضعف الميل وزيادة جزءين وكسر، وقد حد في قانونه عرض كل إقليم منها وساعات نهاره الأطول، على وسطه دون طرفيه، بقول من نقل عنه، فجعل وسط الإقليم الأول مدينة سبأ بمأرب من أرض اليمن، وجعل العرض ستة عشر جزءا وربعا وخمسا، وساعات نهاره الأطول ثلاثة عشر سواء، وعرض الإقليم الثاني منتهى الميل، وهو ثلاثة وعشرون جزءا وخمسة أسداس، وساعات نهاره الأطول ثلاث عشرة ونصف، والثالث إقليم إسكندرية، وعرضه ثلاثون جزءا وسدس وخمس جزء، وساعاته أربع عشرة، والرابع إقليم بابل، وعرضه ستة وثلاثون جزءا وعشر، وساعات نهاره الأطول أربع عشرة ونصف. والإقليم الخامس عرضه أربعون جزءا، وتسعة أعشار، وثلث عشر ساعة، وساعاته خمس عشرة ساعة والإقليم السادس عرضه خمسة وأربعون جزءا ونصف وسدس عشر، وساعات نهاره الأطول خمس عشرة ساعة ونصف، والإقليم السابع عرضه ثمانية وأربعون جزءا ونصف وثلث عشر، ونهاره الأطول ست عشرة ساعة. وقد حد أقاصيها وأدانيها وبعض ما تشتمل عليه من البلاد المشهورة فقال: إن الإقليم الأول يمر على وسطه من المشرق إلى المغرب على المواضع التي يكون نهارها الأطول وعرضها ما ذكرناه وابتداؤه حيث يكون نهاره الأطول اثنتي عشرة ساعة وثلاثة أرباع ساعة، وعرضه اثنا عشر جزءا ونصف. وانتهاؤه حيث يكون نهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة وربعا وعرضه عشرين جزءا وربعا، ووسط هذا الإقليم مدينة سبأ، وما كان في مثل عرضها من مواضع الأرض، وابتداؤه من المشرق من أقاصي بلاد الصين الخ.
ولما وصل إلى الإقليم الرابع قال: ويمر الإقليم الرابع على وسطه من المشرق إلى المغرب على المواضع التي يكون نهارها الأطول وعرضها ما قد ذكرناه، وابتداؤه من الموضع الذي انتهت إليه ساعات الإقليم الثالث، وعرضه إلى حين يكون نهاره الأطول أربع عشرة ساعة وثلاثة أرباع ساعة، وعرضه ثمانيا وثلاثين درجة. ووسط هذا الإقليم بالتقريب مدينة أصبهان من مواضع، وابتداؤه من المشرق آخر أرض الصين وتبت وبلخ وخراسان والجبال وأرض الموصل وشمال الشام، وبعض الثغور، وبحر الشام وجزيرة قبرص، وبلاد طنجة، إلى أن ينتهي إلى حد المغرب من دون البحر المظلم. ويمر الإقليم الخامس على وسطه من المشرق إلى المغرب على المواضع التي يكون نهارها الأطول وعرضها ما قدمنا ذكره. وابتداؤه من الموضع الذي انتهى إليه عرض الإقليم الرابع، ساعاته إلى حيث يكون نهاره الأطول خمس عشرة ساعة وربعا وعرضه ثلاث وأربعون درجة، ووسط هذا الإقليم بالتقريب مدينة مرو، وما كان في مثل عرضها من مواضع الأرض. فابتداؤه من المشرق داخل بلاد الترك وشمال خراسان وأذريبجان وكور أرمينية وبلاد الروم وسواحل بحر الشام الشمالية والأندلس إلى أن ينتهي إلى حد المغرب من دون البحر المظلم.
ثم نقل عن بطليموس قوله: لما انقسمت دائرة البروج بأربعة أقسام، وهي المثلثات، لأن كل قسم منها ثلاثة أبراج، على طبيعة من الطبائع الأربع، التي هي النار والأرض والهواء والماء، انقسم عامر الأرض بأربعة أقسام، كل قسم منها منسوب إلى قسم من المثلثات في الطباع، لأن كل محيط بطبع ما أحاط به على قدر طبيعته (إلى أن يقول) فلما كانت هذه الأشياء كذلك، كان موضع سكناها ينقسم إلى أربعة أرباع متساوية في العدد للمثلثات، ثم أتى على ذكر الربع المنسوب إلى «أوروفة» - يريد بها أوروبا - فقال: إن الأمم الكلية التي تسكن في هذه الأجزاء هي أهل بلاد الصقالبة وبلاد برطانية وغالاطية وجرمانية وباسترانية وإيطالية وغالية وأبولية وطورينية وقلطيقة وسبانية (إلى أن قال) عن طبائع أهل هذه البلدان: يجب أن يكون أهل هذه البلدان، في أكثر الأمر، بسبب رئاسة هذا المثلث، وبسبب الكواكب التي تشترك في تدبيره، غير خاضعين، محبين للحرية والسلاح والتعب، محاربين، أصحاب سياسة ونظافة ، كبار الهمم، ولما كان المشتري والمريخ مشتركين فيهم، إذا كانا في الحال المنسوبة إلى العشيات، وكانت الأجزاء المتقدمة من هذا المثلث مذكرة، والمتأخرة مؤنثة، عرض لهذه الأمم ألا يكون لهم غيرة في أمر النساء (إلى أن يقول): وأما بلاد إيطالية منها وبلاد أبولية - يريد نابولي - وبلاد غالية - جنوبي فرنسا ووسطها - وبلاد صقيلية، فإنها تشاكل الأسد والشمس ولذلك صار سكانها أصحاب سياسة، وأصحاب اصطناع المعروف، وأصحاب مؤاساة. وأما بلاد طورينية منها وبلاد قالتقي - يريد بها بلاد السلتيين
Celtes
وهم أمة كانت تجاور الغاليين والأيبيريين - وبلاد سبانية، فإنها تشاكل الرامي والمشتري ولذلك صار سكانها سليمي القلوب محبي النظافة. انتهى.
هذا ما جاء في كتاب الهمداني من جغرافي العرب وحكمائهم عن أسبانية، وأما قضية تأثير الكواكب في طباع سكان الأرض، وما نقله الهمداني عن بطليموس القلودي من هذا الباب فهو معدود اليوم من النظريات البالية، التي عدل الناس عنها، لا سيما أننا لا نراها مطردة ولا غالبة حتى نحكم بصحتها. (5) ما ذكره أبو العباس أحمد المقري: صاحب كتاب نفح الطيب عن بلاد الأندلس من الجهة الجغرافية
اعلم أعزك الله أنه لا يزال نفح الطيب من أعظم المراجع التي يعول عليها المحققون في أخبار الأندلس، برغم كل ما عليه من مآخذ ومغامز، وما فاته من مباحث ومسائل، وذلك لأن صاحبه اتصل بكتب كثيرة لم يتيسر لغيره الاطلاع عليها، وشافه في الشرق والغرب عددا كبيرا من الجلة وحاضرهم، وكان المقري نفسه مولعا بأخبار الأندلس، متخصصا فيها حافظا من أنبائها، وكلام علمائها، ونظم شعرائها، ولا سيما من أقوال لسان الدين بن الخطيب، وزير بني الأحمر الشهير بما يكاد يكون من المعجزات، ولما كان قد رحل إلى المشرق، كأكثر علماء المغرب، وحج البيت الحرام خمس مرات، وزار المدينة المنورة، والبيت المقدس، انتهى في طوافه إلى دمشق الشام التي أخذت بمجامع فؤاده، فألقى بها عصا التسيار، وتعرف بكثير من علماء الشام وأدبائها وسراتها، فكان ذكر الأندلس أمامهم ملهج لسانه الدائم، وغرام قلبه الملازم، فأرادوه أولا على تأليف كتاب يتضمن مروياته عن لسان الدين بن الخطيب، فصحت عزيمته على ذلك، وبدأ بكتابة هذا الكتاب سنة تسع وثلاثين وألف للهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. إلا أنه بعد ما بدأ به بدا له أن يتوسع في الموضوع، ولا يقتصر على أخبار لسان الدين وحده فكان عندما شرع بهذا التأليف سماه «عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب» ثم لما أجمع التوسع في الموضوع عاد فسمى كتابه «بنفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب» وهو لعمري اسم لائق بمسماه ولفظ موافق لمعناه، ولا أظنه يوجد اسم ألذ للقارئ من اسم «نفح الطيب» كما أن الملابسة ظاهرة بين قوله «غصن الأندلس الرطيب» ومزايا الأندلس الطبيعية في كثرة جناتها وبساتينها ووفرة فواكهها ورياحينها، وما اتصفت به من الخصب والنماء، وجمعته من زكاء الأرض إلى خير السماء، ولما كان للسان الدين بن الخطيب في هذا الكتاب الحصة الكبرى في الآثار المروية، والأصوات المحكية، لم يكن من العجب أن يجعل اسمه فيه وقد كان في الأصل هو المقصود بالتأليف. هذا وقد كان تأليف المقري للنفح حينما كان مقيما بالشام، ولذلك قال عنه في المقدمة ما يلي:
وله بالشام تعلق من وجوه عديدة، هادية لمتأمله إلى الطريق السديدة،
أولها:
أن الداعي لتأليفه أهل الشام، أبقى الله مآثرهم، وجعلها على مر الزمان مديدة.
ثانيها:
أن الفاتحين للأندلس هم أهل الشام، ذوو الشوكة والنجدة الحديدة.
ثالثها:
أن غالب أهل الأندلس من عرب الشام الذين اتخذوا بالأندلس وطنا مستأنفا وحضرة جديدة.
ورابعها:
أن غرناطة نزل بها أهل دمشق، وسموها باسمها، لشبهها بها في القصر والنهر، والدوح والزهر، والغوطة الفيحاء.
وهذه مناسبة قوية العرى شديدة.
قد يكون كلام المقري هذا مما لا يعجب بعض الثائرين على السجع في أخريات هذه الأيام ولكنه ذو معنى كبير، وفيه تصريح خطير، ولذلك فإن ثورة هذه الفئة على السجع، والفاصلة، ليس من شأنها أن تقل من حد رغبتنا في نقل كلام يعود على وطننا الشامي بشقص كهذا من الفخر لم يوفره لغيره ثقة كبير، كأبي العباس أحمد المقري المغربي، إن لم يكن هو حجة في أخبار الأندلس فياليت شعري من يكون هو الحجة؟! فنحن رواة عنه، ونقلة من نصوص بأسجاعها وفواصلها وحروفها وحركاتها.
نعم إن «نفح الطيب» هو كتاب أدب، أكثر منه كتاب تاريخ، وقد قيل فيه، وكاد يلحق بالأمثال السائرة: إنه «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، الذي لم يقرأه فليس بأديب» ولكنه إلى هذا الوقت لا يزال عمدة المنقبين عن آثار الأندلس سواء في التاريخ أو في الجغرافية أو في الأدب أو في المحاضرة برغم كل ما فاته منها، ولا أزال أنا أستقي من منابعه برغم ما نقمت عليه في كتابي «مختصر تاريخ الأندلس» الذي حررته ذيلا على «آخر بني سراج»
Dernier Des Abencerrage
الرواية التي من قلم شاتو بريان الكاتب الإفرنسي الشهير، وقد ترجمتها إلى العربية وأردفتها بتاريخ للأندلس ونشرتهما سنة 1315.
فيناسب أن أعيد هنا ما كنت قلته من 40 سنة، وهو منقول بالحرف عن صفحة 60 و61 و62 و63 من ذلك الكتاب، طبعته الثانية بمطبعة المنار وهو هذا (تحت عنوان) «تمهيد».
إنما حداني إلى تذييل هذه الرواية أمران:
الأول:
إعانة القارئ على فهم الحوادث ومعرفة المواقع، بما تفقد بدونه لذة المطالعة.
والثاني:
ما رأيته من اختصار جرم الرواية، فآثرت إردافها بذيل يطيل من قدها، ويزيد في حجمها، ويكون فيه من حقائق الوقائع التاريخية ما لا يقصر فكاهة عن موهوم الرواية الغرامية، فجاءت روايتنا ذيالا، وإن لم نرج أن تكون طاووسا، وليست هذه أول مرة جرت فيها الروايات أذيالا، واتخذت القصص أذنابا طوالا.
وما أقصد بهذا الذيل استقصاء تاريخ الأندلس الإجمالي إلا ما اضطر إليه مساق الكلام. فقد كنت منذ نشأتي ممن لا يحبون التأليف فيما كثر فيه التأليف، وطال فيه المقال كأنما أعده تكرارا لسابق، أو إعادة لصدى، وأراه خلوا من كل براعة. وأخبار الأندلس مستفيضة في التواريخ شرقا وغربا، ومعروفة عند الأدباء بما لا يكون التأليف فيه سوى زيادة في عدد الكتب. وإنما يستحب الإنشاء في ما ندر فيه الكلام وعز البحث، وطمست الأعلام فإذا قرأته العامة، بل الخاصة، سقطت منه على جديد ذي طلاوة، ولم تسأمه النفوس، لعدم تداولها مطالعته المرة بعد الأخرى مدارسة كتب القواعد التي لا تتغير.
فأشد الأقسام عوزا إلى البحث من تاريخ هذه البلاد - التي لا نزال نحسبها عربية لكون أحسن أيامها ما كان من أيام العرب فيها - إنما هو القسم الأخير، وأحوج طائفة من أخبارها إلى التدوين ما تعلق بدور الجلاء، وعصر الخروج من بلاد كانت مدة الضيافة فيها ثمانمائة سنة، وذلك لأن هذا الحادث الكبير الذي هو أضخم الحوادث في الإسلام وقع على حين خمول من القرائح العربية، وبعد مرور زمن العلم والفلسفة عند معشر الناطقين بالضاد، ولدى إقحاط البلاد بالأدمغة المتوقدة، وعقم الأمة عن الرؤوس المولدة، بحيث فاته من التأليف والكتابة فيه ما لم يكن ليفوته لو وقع قبل ذلك بقرنين أو ثلاثة، فإنه لا عطر بعد عروس.
نعم لا أنكر أن (كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للعلامة المقري هو من أوفى الكتب بأخبار الأندلس وآدابها: حقيبة أنباء، وقمطر حوادث وخزانة آداب، وكشكول لطائف، وديوان أشعار، وقد كان عهد تصنيفه على أثر النازلة الكبرى بباقي الأندلس، وامتصاص سؤر الكاس، وعفاء الأثر الأخير من سلطان المسلمين فيها، بحيث أمكن صاحبه ذكر سقوط مملكة غرناطة، واستيلاء الأسبانيول على الجميع، وختم الدولة الإسلامية في تلك الديار، ولكنه ككثير من مؤرخينا أو مؤلفينا الذين لا يرعون النسبة بين الأشياء ولا ينتبهون إلى قاعدة أن الحسن إنما هو تناسب الأعضاء، فقد بحث في هذا الخطب الجلل، والحادث العمم، بحثا هو دون حقه بدركات، وأتى عليه كما يأتي على واقعة متوسطة البال، من الوقائع التي أشار إليها في بطن كتابه واستوعبه في أوراق يسيرة، كانت لطافتها تكون في كثافتها، فإن التناسب يقضي بإعطاء كل مقام من المقال ما يكافيه، ويقوم بحقه ويجيء على قدره. ولو فسح الفاضل المقري رحمه الله لواقعة سقوط مملكة غرناطة، وحادث انقراض أمر الإسلام بالأندلس، ما فسحه في تاريخه للنثر الكثير، الذي يغني عن كله بعضه من المخاطبات التي صدرت عن لسان الدين بن الخطيب، أو وجهت إليه، أو إلى غيره، أو الشعر الغزير الذي كثير منه حقيق بالإسقاط من ذلك المجموع، والقصص التي يرويها عن بعض المشايخ مع طول أناة غريب في الاستقصاء، مع أنه ليس فيها ما يرفع أقدارهم إلى السماء، لكان ذلك أجزل فائدة وأسنى موقعا، وكانت الناس قد شفت غليلها من خبر هذه الطامة التي لكل الحوادث سلوان يسهلها، وليس لها سلوان، كما قال أبو البقاء الرندي، ولكفينا مؤونة النقل عن كتب الإفرنج فيما يختص بالعرب، وحسبك أنه ذكر جميع وقائع السلطان أبي عبد الله بن الأحمر، وعمه الزغل، وذهاب تلك المملكة، وما جرى في ضمنه من الحروب وما حصر من المدن، في مسافة من التاريخ، استوعبت أطول منها رسالة، واحدة صادرة عن ذلك السلطان إلى الشيخ الوطاسي صاحب فاس في موضوع أبرد ما فيه، مع طوله، أنه اعتذار عن سقوط آخر ممالك المسلمين بالأندلس على يده، بأن الخطب غير نادر المثال، وأن بغداد، دار خلافة بني العباس، قد أصابها ما أصاب غرناطة! فانظروا هل هذا مما يؤثر على طوله، أو مما ترتاح الأنفس إلى قبوله، على فرض صحة تمثيله؟ وإن كان العذر في ذلك ما يقال من أن صاحب النفح قد ألفه وهو نضو أسفار، خال من الأسفار، ليس لديه من العدة ما يستعين به على الإطالة، والأخذ بالأطراف، فسبحان الله! كم يتلهى بعض علمائنا بحفظ ما لا ينفع عن تعليق ما ينفع؟! وهذا الفاضل المقري قد أملى عن ظهر قلبه أربعة مجلدات كبار، أودعها من التاريخ والجغرافية والقصص والنكات، وحشاها من الشعر والنثر والتراجم والتصوف. غثا وسمينا، ما لا أظن حافظة تتمكن من اختزانه بين صدغين، وتركنا في التاريخ المهم من تفصيل الوقائع الشداد، والمعارك التي سالت فيها أنهر الدماء، في دور النزع الأخير، عيالا على الإفرنج، مضطرين إلى الأخذ من مصنفاتهم، فكنا وإياهم في أخذ تاريخنا عنهم كما كنا في أخذ لغتنا عن صحاح الجوهري.
475
ولا لشك أن في ديار المغرب من التواريخ عن كارثة الأندلس الأخيرة ما يستوفي شرحها
476
ولكنه لم يشتهر عندنا في المشرق غير نفح الطيب من متأخر التآليف، وهذه هي الحال معه، فلا عجب أن ساقنا حب الاستقصاء، واقتفاء أثر أبناء الجلدة، إلى أخذ أخبارنا عن الأجانب وتلونا: (هذه بضاعتنا ردت إلينا) ا.ه.
هذا ما كتبته عن نفح الطيب يوم كنت في السابعة والعشرين من العمر، ولست من بعد مضي تسع وثلاثين سنة على ذلك القول براجع عنه اليوم من حيث الجوهر، وإن كنت أراني الآن أقل قسوة، وأكثر عطفا على المقري وأعظم تقديرا لما أملاه في كتابه، ولا عجب فالذي عند الشيخ من سعة الطبع، وقبول العذر، ليس عند الشاب.
ولنبدأ الآن وقد أردنا أن ننقل ما جاء في النفح من المعلومات الجغرافية عن الأندلس لنقارن بينها وبين معلومات سائر مؤلفي العرب كابن حوقل والإدريسي وياقوت وغيرهم. قال في الجزء الأول في صفحة 63 من الطبعة الأولى المنسوبة إلى المطبعة الأزهرية المصرية ما يلي:
الباب الأول
في وصف جزيرة الأندلس، وحسن هوائها، واعتدال مزاجها، ووفور خيراتها واستوائها، واشتمالها على كثير من المحاسن واحتوائها، وكرم بقعتها التي سقتها سماء البركات بأنوائها، وذكر بعض مآثرها المجلوة الصور، وتعداد كثير مما لها من البلدان والكور، المستمدة من أضوائها، فأقول:
محاسن الأندلس لا تستوفى بعبارة، ومجاري فضلها لا يشق غباره، وأنى تجارى وهي حائزة قصب السبق، في أقطار الغرب والشرق؟! قال ابن سعيد: إنما سميت بالأندلس ابن طوبال بن يافث بن نوح لأنه نزلها كما أن أخاه سبت بن يافث نزل العدوة المقابلة لها وإليه تنسب سبته.
477
قال: وأهل الأندلس يحافظون على قوام اللسان العربي لأنهم إما عرب أو متعربون.
478
انتهى. وقال الوزير لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى في بعض كلام له أجرى فيه ذكر البلاد الأندلسية، أعادها الله تعالى للإسلام، ببركة المصطفى عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ما نصه :
خص الله تعالى بلاد الأندلس من الربيع وغدق السقيا، ولذاذة الأقوات وفراهة الحيوان، ودرور الفواكه، وكثرة المياه، وتبحر العمران، وجودة اللباس، وشرف الآنية، وكثرة السلاح، وصحة الهواء، وابيضاض
479
ألوان الإنسان، ونبل الأذهان، وفنون الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك، وإحكام التمدن، والاعتمار بما حرمه الكثير من الأقطار، مما سواها. انتهى.
وقال أبو عامر السلمي في كتابه المسمى «در القلائد وغرر الفوائد»: الأندلس من الإقليم الشامي
480
وهو خير الأقاليم وأعدلها هواء وترابا، وأعذبها ماء، وأحسنها حيوانا ونباتا، وهو أوسط الأقاليم، وخير الأمور أوساطها.
قال أبو عبيد البكري: الأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمنية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جباياتها، صينية في معادن جواهرها، عدنية في منافع سواحلها، فيها آثار عظيمة اليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة،
481
وكان من ملوكهم الذين أثروا الآثار بالأندلس هرقلس، وله الأثر في الصنم بجزيرة قادس وصنم جيليقية، والأثر في مدينة طركونة
482
الذي لا نظير له.
قال المسعودي: بلاد الأندلس تكون مسيرة عمائرها ومدنها نحو شهرين، ولهم من المدن الموصوفة نحو من أربعين مدينة. انتهى باختصار. ونحوه لابن اليسع إذ قال: طولها من أربونة إلى أشبونة، وهو قطع ستين يوما للفارس المجد. وانتقد بأمرين: أحدهما أنه يقتضي أن أربونة داخلة في جزيرة الأندلس، والصحيح أنها خارجة عنها، والثاني أن قوله ستين يوما للفارس المجد إعياء وإفراط، وقد قال جماعة أنها شهر ونصف. قال ابن سعيد: وهذا يقرب إذا لم يكن للفارس المجد. والصحيح ما نص عليه الشريف من أنه مسيرة شهر. وكذا قال الحجاري. وقد سألت المسافرين المحققين عن ذلك فعملوا حسابا بالمراحل الجيدة أفضى إلى نحو شهر بنيف قليل. قال الحجاري في موضع من كتابه إن طول الأندلس من الحاجز إلى أشبونة ألف ميل ونيف اه. وبالجملة فالمراد القريب من غير مشاححة، كما قاله ابن سعيد وأطال في ذلك، ثم قال بعد كلام: ومسافة الحاجز الذي بين بحر الزقاق والبحر المحيط أربعون ميلا، وهذا عرض الأندلس عند رأسها من جهة الشرق، ولقلته، سميت جزيرة، وإلا فليست بجزيرة على الحقيقة، لاتصال القدر بالأرض الكبيرة، وعرض جزيرة الأندلس في موسطها عند طليطلة ستة عشر يوما.
واتفقوا على أن جزيرة الأندلس مثلثة الشكل، واختلفوا في الركن الذي في الشرق والجنوب في حيز أربونة، فممن قال إنه في أربونة. وإن هذه المدينة تقابلها مدينة برديل التي في الركن الشرقي الشمالي أحمد بن محمد الرازي، وابن حيان. وفي كلام غيرها أنه في جهة أربونة، وحقق الأمر الشريف، وهو أعرف بتلك الجهة لتردده في الأسفار برا وبحرا إليها، وتفرغه لهذا الفن. قال ابن سعيد: وسألت جماعة من علماء هذا الشأن فأخبروني أن الصحيح ما ذهب إليه الشريف، وأن أربونة وبرشلونة
483
غير داخلتين في أرض الأندلس، وأن الركن الموفي على بحر الزقاق بالمشرق بين برشلونة وطركونة
484
في موضع يعرف بوادي «زنلقطو»، وهنالك الحاجز الذي يفصل بين الأندلس والأرض الكبيرة، ذات الألسن الكثيرة، وفي هذا المكان جبل البرت، الفاصل في الحاجز المذكور، وفيه الأبواب التي فتحها ملك اليونان بالحديد والنار والخل، ولم يكن للأندلس من الأرض الكبيرة قبل ذلك في البر. وذكر الشريف أن هذه الأبواب في مقابلتها في بحر الزقاق البحر الذي بين جزيرتي ميورقة ومنورقة، وقد أخبر بذلك جمهور المسافرين لتلك الناحية. ومسافة هذا الجبل الحاجز بين الركن الجنوبي والركن الشمالي أربعون ميلا قال: وشمال الركن المذكور عند مدينة برديل، وهي من مدن الأفرنجة، مطلة على البحر المحيط، في شمال الأندلس. قال ويتقهقر البر بعد تميز هذا الركن إلى الشمال في بلاد الفرنجة، ولهم به جزائر كثيرة، وذكروا من الركن الشمالي عند «شنت
485
ياقوه» من ساحل الجلالقة في شمال الأندلس، حيث تبتدئ جزيرة «برطانية
486
الكبيرة» فيتصور هنالك بحر داخل بين أرضين، من الناس من يجعله بحرا منفردا خارجا من البحر المحيط، لطوله إلى الركن المتقدم الذكر عند مدينة برديل.
487
وذكر الشريف: أن عند شنت ياقوه في هذا الركن المذكور، على جبل بمجمع البحرين، صنما مطلا مشبها بصنم قادس.
والركن الثالث بمقربة من جبل الأغن؟ حيث صنم قادس. والجبل المذكور يدخل من غربه مع جنوبه بحر الزقاق من البحر المحيط، مارا مع ساحل البحر الجنوبي إلى جبل البرت المذكور. انتهى.
والكلام في مثل هذا طويل الذيل. قال الشيخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي: بلد الأندلس في آخر الإقليم الرابع إلى المغرب، وهو عند الحكماء بلد كريم البقعة، طيب التربة، خصب الجنان، منبجس الأنهار الغزار، والعيون العذاب، قليل الهوام ذوات السموم، معتدل الهواء والجو والنسيم، ربيعه وخريفه ومشتاه ومصيفه على قدر من الاعتدال، وسطة من الحال، لا يتولد في أحدها فصل يتولد منه فيما يتلوه انتقاص، تتصل فواكهه أكثر الأزمنة، وتدوم متلاحقة غير مفقودة. أما الساحل منه ونواحيه فيبادر بباكوره. وأما الثغر وجهاته، والجبال المخصوصة ببرد الهواء، فيتأخر بالكثير من ثمره، فمادة الخيرات بالبلد متمادية في كل الأحيان، وفواكهه على الجملة غير معدومة في كل أوان. وله خواص في كرم النبات توافق في بعضها أرض الهند المخصوصة بكرم النبات وجواهره، منها أن المحلب وهو المقدم في الأفاوية، والمفضل في أنواع الأشنان
488
لا ينبت بشيء من الأرض إلا بالهند والأندلس، وللأندلس المدن الحصينة، والمعاقل المنيعة، والقلاع الحريزة، والمصانع الجليلة ولها البر والبحر، والسهل والوعر، وشكلها مثلث، وهي معتمدة على ثلاثة أركان،
الأول:
هو الموضع الذي فيه صنم قادس المشهور بالأندلس، ومنه مخرج البحر المتوسط الشامي، الآخذ بقبلي الأندلس.
والركن الثاني:
هو بشرقي الأندلس، بين مدينة نربونة، ومدينة برديل، مما بأيدي الفرنجة اليوم، بإزاء جزيرتي ميورقه ومنورقة، بمجاورة من البحرين، البحر المحيط والبحر المتوسط، وبينهما البر الذي يعرف بالأبواب، مسيرة يومين. ومدينة نربونة تقابل البحر المحيط.
489
والركن الثالث:
منها هو ما بين الجوف
490
والغرب من حيز جليقية، حيث الجبل الموفي على البحر، وفيها الصنم العالي المشبه بصنم قادس، وهو الطالع على بلد برطانية.
قال: والأندلس أندلسان في اختلاف هبوب رياحها، ومواقع أمطارها، وجريان أنهارها: أندلس غربي، وأندلس شرقي. فالغربي منها ما جرت أوديته إلى البحر المحيط الغربي، وتمطر بالرياح الغربية، ومبتدأ هذا الحوز من ناحية المشرق مع المفازة الخارجة مع الجوف، إلى بلد شنتمرية، طالعا إلى حوز «اغريطة»
491
المجاورة لطليطلة، مائلا إلى الغرب، ومجاورا للبحر المتوسط، الموازي لقرطاجنة الخلفاء، التي من بلد لورقة، وللحوز الشرقي المعروف بالأندلس الأقصى. وتجري أوديته إلى الشرق، وأمطاره بالريح الشرقية، وهو من حد جبل البشكنس، هابطا مع وادي «أبره»
492
إلى بلد «شنت
493
مرية»، ومن جوف هذا البحر وغربه المحيط، وفي القبلة منه البحر الغربي، الذي منه يجري البحر المتوسط، الخارج إلى بلد الشام، وهو البحر المسمى ببحر «تيران»
494
ومعناه الذي يشق دائرة الأرض، ويسمى البحر الكبير. انتهى.
قال أبو بكر عبد الله بن عبد الحكم المعروف بابن النظام: بلد الأندلس عند علماء أهله أندلسان: فالأندلس الشرقي منه ما صبت أوديته إلى البحر الرومي المتوسط المتصاعد من أسفل أرض الأندلس إلى المشرق، وذلك ما بين مدينة تدمير إلى سرقسطة. والأندلس الغربي ما صبت أوديته إلى البحر الكبير المعروف بالمحيط، أسفل من ذلك الحد، إلى ساحل المغرب. فالشرقي منهما يمطر بالريح الشرقية، ويصلح عليها؛ والغربي يمطر بالريح الغربية، وبها صلاحه، وجباله هابطة إلى الغرب، جبلا بعد جبل. وإنما قسمته الأوائل جزئين لاختلافهما في حال أمطارهما، وذلك أنه مهما استحكمت الريح الغربية، كثر مطر الأندلس الغربي، وقحط الأندلس الشرقي. ومتى استحكمت الريح الشرقية كثر مطر الأندلس الشرقي، وقحط الغربي. وأودية هذا القسم تجري من الشرق إلى الغرب، بين هذه الجبال. وجبال الأندلس الغربي تمتد إلى الشرق، جبلا بعد جبل، تقطع من الجوف إلى القبلة، والأودية التي تخرج من تلك الجبال يقطع بعضها إلى القبلة، وبعضها إلى الشرق، وتنصب كلها إلى البحر المحيط، بالأندلس القاطع إلى الشام، وهو البحر الرومي. وما كان من بلاد جوفي الأندلس من بلاد جليقية وما يليها، فإن أوديته تنصب إلى البحر الكبير المحيط بناحية الجوف
495 (وصفة الأندلس) شكل مركن على مثال الشكل المثلث:
ركنها الواحد:
فيما بين الجنوب والمغرب، حيث اجتماع البحرين عند صنم قادس.
وركنها الثاني:
في بلد جليقية، حيث الصنم المشبه صنم قادس، مقابل جزيرة بريطانية.
وركنها الثالث:
بين مدينة نربونة، ومدينة برديل من بلد الفرنجة، بحيث يقرب البحر المحيط من البحر الشامي المتوسط فيكادان يجتمعان في ذلك الموضع فيصير بلد الأندلس جزيرة بينهما في الحقيقة، لولا أنه يبقى بينهما برزخ برية صحراء وعمارة مسافة مسيرة يوم للراكب منه المدخل إلى الأرض الكبيرة، التي يقال لها الأبواب، ومن قبله يتصل بلد الأندلس بتلك البلاد المعروفة بالأرض الكبيرة، ذات الألسن المختلفة.
قال: وأول من سكن بالأندلس على قديم الأيام، فيما نقلته الإخباريون، من بعد عهد الطوفان، على ما يذكره علماء عجمها، قوم يعرفون بالأندلش، معجمة الشين بهم سمي المكان، فعرب فيما بعد بالسين غير المعجمة، كانوا الذين عمروها، وتناسلوا فيها وتداولوا ملكها دهرا، على دين التمجس والإهمال والإفساد في الأرض، ثم أخذهم الله بذنوبهم، فحبس المطر عنهم، ووالى القحط عليهم، وأعطش بلادهم حتى نضبت مياهها، وغارت عيونها، ويبست أنهارها، وبادت أشجارها، فهلك كثرهم، وفر من قدر على الفرار منهم، فأقفرت الأندلس منهم وبقيت خالية، فيما يزعمون، مائة سنة وبضع عشر سنة، وذلك من حد بلد الفرنجة إلى حد بحر الغرب الأخضر وكان عدة ما عمرتها هذه الأمة البائدة مائة عام وبضع عشرة سنة. ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة،
496
فدخل إليها بعد إقفارها تلك المدة الطويلة، قوم منهم، أجلاهم ملك أفريقية تخفيفا منهم، لإمحال توالي على أهل مملكته، وتردد عليهم، حتى كاد يفنيهم، فحمل منهم خلقا في السفن مع قائد من قبله يدعى أبطريقس، فأرسوا بريف الأندلس الغربي، واحتلوا بجزيرة قادس، فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها، وانفجرت عيونها، وحييت أشجارها، فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها، فكثروا، واستوسعوا في عمارة الأرض، ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها، إلى بلد الأفرنجة من شرقيها، ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم، ضبطوا أمرهم، وتوالوا على إقامة دولتهم، وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية، وكانت دار مملكتهم «طالقة»؟ الخراب اليوم، من أرض أشبيلية، اخترعها ملوكهم وسكنوها، فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما، إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رومة، بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا.
ثم صار ملك الأندلس إلى عجم رومة، وملكهم أشبان بن طيطش؟ وباسمه سميت الأندلس أشبانية. وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان، فأحيل بلسان العجم، وقيل بل كان مولده بأصبهان، فغلب اسمها عليه؟
497
وهو الذي بنى أشبيلية، وكان أشبانية اسما خالصا لبلد أشبيلية، الذي كان ينزله أشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله. فالعجم الآن يسمونه أشبانية، لآثار أشبان هذا فيه، وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا، فيما زعموا، وكان غزا الأفارقة، عندما سلطه الله عليهم في جموعه ففض عساكرهم، وأثخن فيهم، ونزل عليهم بقاعدتهم «طالقة»
498
وقد تحصنوا فيها منه، فابتنى عليهم مدينة أشبيلية اليوم واتصل حصره وقتاله لهم، حتى فتحها الله عليه وغلبهم، واستوت له مملكة الأندلس بأسرها، ودان له من فيها، فهدم مدينة طالقة ونقل رخامها وآلاتها إلى مدينة أشبيلية، فاستتم بناءها. واتخذها دار مملكته واستغلظ سلطانه في الأرض، وكثرت جموعه، فعلا، وعظم عتوه. ثم غزا إيليا، وهي القدس الشريف، من أشبيلية، بعد سنتين من ملكه، خرج إليها في السفن فغنمها وهدمها وقتل فيها من اليهود مائة ألف واسترق مائة ألف، ونقل رخام إيليا وآلاتها إلى الأندلس وقهر الأعداء، واشتد سلطانه. انتهى.
وذكر بعض المؤرخين: أن الغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس أيام فتحها كمائدة سليمان
صلى الله عليه وسلم ، التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة، وقليلة
499
الدر التي ألفاها موسى بن نصير بكنيسة ماردة، وغيرهما من ظرائف الذخائر، إنما كانت مما صار لصاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس، إذ حضر فتحها مع بختنصر،
500
وكان اسم ذلك الملك بريان؟ وفي سهمه وقع ذلك ومثله، مما كانت الجن تأتي به نبي الله سليمان،
501
على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام، انتهى.
وقال غير واحد من المؤرخين، كان أهل المغرب الأقصى يضرون بأهل الأندلس لاتصال الأرض، ويلقون منهم الجهد الجهيد في كل وقت، إلى أن اجتاز بهم الإسكندر،
502
فشكوا حالهم إليه، فأحضر المهندسين، وحضر إلى الزقاق، فأمر المهندسين بوزن سطح الماء من المحيط والبحر الشامي، فوجدوا المحيط يعلو البحر الشامي بشيء يسير فأمر برفع البلاد التي على ساحل البحر الشامي ونقلها من الحضيض إلى الأعلى، ثم أمر بحفر ما بين طنجة وبلاد الأندلس من الأرض، فحفرت حتى ظهرت الجبال السفلية، وبنى عليها رصيفا بالحجر والجبار بناء محكما، وجعل طوله اثنى عشر ميلا، وهي المسافة التي كانت بين البحرين، وبنى رصيفا آخر يقابله من ناحية طنجة، وجعل بين الرصيفين، سعة ستة أميال، فلما كمل الرصيفان حفر من جهة البحر الأعظم وأطلق فم الماء بين الرصيفين، فدخل في البحر الشامي، ثم فاض ماؤه فأغرق مدنا كثيرة، وأهلك أمما عظيمة، كانت على الشطين،
503
وطفا الماء على الرصيفين إحدى عشر قامة. فأما الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس فإنه يظهر في بعض الأوقات إذا نقص الماء، ظهورا بينا مستقيما، على خط واحد، وأهل الجزيرتين يسمونه القنطرة. وأما الرصيف الذي من جهة العدوة، فإن الماء حمله في صدره، واحتفر ما خلفه من الأرض اثنى عشر ميلا. وعلى طرفه من جهة المغرب قصر الجواز، وسبتة، وطنجة. وعلى طرفه من الناحية الأخرى جبل طارق بن زياد، وجزيرة طريف، وغيرهما والجزيرة الخضراء، وبين سبتة والجزيرة الخضراء، عرض البحر انتهى ملخصا. وقد تكرر بعضه مع ما جلبناه، والعذر بين، لارتباط الكلام بعضه ببعض.
وقال ابن سعيد: ذكر الشريف
504
أن لاحظ لأرض الأندلس في الإقليم الثالث قال: ويمر بجزيرة الأندلس الإقليم الرابع على ساحلها الجنوبي، وما قاربه من قرطبة وأشبيلية ومرسية وبلنسية، ثم يمر على جزيرة صقلية، وعلى ما في سمتها من الجزائر، والشمس مدبرة له. والإقليم الخامس يمر على طليطلة، وسرقسطة، وما في سمتها إلى بلاد أرغون التي في جنوبها برشلونة، ثم يمر على رومية وبلادها، ويشق بحر البنادقة، ثم يمر على القسطنطينية، ومدبرته الزهرة. والسادس على ساحل الأندلس الشمالي الذي على البحر المحيط وما قاربه، وبعض البلاد الداخلة في قشتالة وبرتقال وما في سمتها. وعلى بلاد برجان والصقالبة والروس، ومدبره عطارد، ويمر الإقليم السابع في البحر المحيط ، الذي في شمال الأندلس، إلى جزيرة انقلطرة، وغيرها من الجزائر، وما في سمتها من بلاد الصقالبة وبرجان.
505
قال البيهقي: وفيه تقع جزيرة تولى، وجزيرتا أجيال والنساء. وبعض بلاد الروس الداخلة في الشمال والبلغار ومدبره القمر. ا.ه.
وقال بعض العلماء ما معناه إن النصارى أعطوا عن الآخرة بستانا متصلا من البحر المحيط بالأندلس إلى خليج القسطنطينية وعندهم عموم الشاه بلوط، والبندق، والجوز، والفستق، وغير ذلك مما يكون أكثر وأمكن في الأقاليم الباردة، والتمر عندهم معدوم، وكذا الموز وقصب السكر، وربما يكون شيء من ذلك في الساحل، لأن هواء البحر يدفئ. ا.ه.
قال ابن حيان في المقتبس: ذكر رواة العجم أن الخضر عليه السلام وقف على أشبان المذكور وهو يحرث الأرض بفدن له أيام حراثته: فقال له: يا أشبان إنك لذو شأن، وسوف يحظيك زمان، ويعليك سلطان. فإذا أتت غلبت على إيليا، فارفق بذرية الأنبياء. فقال له أشبان: أساخر بي رحمك الله؟ أنى يكون هذا مني وأنا ضعيف ممتهين حقير فقير؟ ليس مثلي ينال السلطان! فقال له: قد قدر ذلك فيك من قدر في عصاك اليابسة ما تراه فنظر أشبان إلى عصاه فإذا بها قد أورقت فريع لما رأى من الآية، وذهب الخضر عنه، وقد وقع الكلام بخلده، ووفرت في نفسه الثقة بكونه، فترك الامتهان من وقته، وداخل الناس، وصحب أهل البأس منهم، وسما به جده، فارتقى في طلب السلطان حتى أدرك منه عظيما، وكان منه ما كان، ثم أتى عليه ما أتى على القرون قبله. وكان ملكه كله عشرين سنة.
وتمادى ملك الأشبانيين بعده إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكا.
ثم دخل هؤلاء الاشبانيين من عجم رومة أمة يدعون البشتولقات وملكهم طلويش بن بيطه، وذلك زمن بعث المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، أتوا الأندلس من قبل رومة، وكانوا يملكون أفرنجة معها، ويبعثون عمالهم إليها، فاتخذوا دار مملكتهم بالأندلس مدينة ماردة،
506
واستولوا على مملكة الأندلس، واتصل ملكهم بها مدة، إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكا، ثم دخل على هؤلاء البشتولقات أمة القوط، مع ملك لهم، فغلبوا على الأندلس، واقتطعوها من يومئذ من صاحب رومة، وتفردوا بسلطانهم، واتخذوا مدينة طليطلة دار مملكتهم وأقروا بها سرير ملكهم، فبقي بأشبيلية علم الأشبانيين، ورياسة أوليتهم (وقد كان عيسى المسيح عليه السلام) بعث الحواريين في الأرض يدعون الخلق إلى ديانته، فاختلف الناس عليهم، وقتلوا بعضهم واستجاب لهم كثير منهم. وكان من أسرعهم إجابة لمن جاءه من هؤلاء الحواريين خشندش ملك القوط، فتنصر، ودعا قومه إلى النصرانية وكان من صميم أعاظمهم، وخير من تنصر من ملوكهم، وأجمعوا على أنه لم يكن فيهم أعدل منه حكما، ولا أرشد رأيا، ولا أحسن سيرة، ولا أجود تدبيرا، فكان الذي أصل النصرانية في مملكته، ومضى أهلها على سنته إلى اليوم، وحكموا بها، والإنجيلات في المصاحف الأربعة التي يختلفون فيها من انتساخه، وجمعه، وتثقيفه. فتناسقت ملوك القوط بالأندلس بعده، إلى أن غلبتهم العرب عليها، وأظهر الله تعالى دين الإسلام على جميع الأديان.
فوقع في تواريخ العجم القديمة أن عدة ملوك هؤلاء القوط بالأندلس، من عهد «أتانا وينوس»
507
الذي ملك في السنة الخامسة من مملكة «فلبش
508
القيصري» لمضي أربعمائة وسبع من تاريخ الصفر
509
المشهور عند العجم، إلى عهد لذريق آخرهم، الذي ملك في السنة التاسعة والأربعين وسبعمائة من تاريخ الصفر، وهو الذي دخلت عليه العرب فأزالت دولة القوط، ستة وثلاثون ملكا، وأن مدة أيام ملكهم بالأندلس ثلثمائة واثنتان وأربعون سنة. ا.ه.
وقال جماعة: إن القوط غير البشتولقات، وإن البشتولقات من عجم رومة، وإنهم جعلوا دار ملكهم ماردة، واتصل ملكهم إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكا، ثم دخل عليهم القوط، واتخذوا طليطلة دار مملكة، ثم ذكر تنصر ملكهم خشندش مثل ما تقدم، ثم ذكر أن عدة ملوك القوط ستة وثلاثون ملكا.
وذكر الرازي أن القوط من ولد ياجوج بن يافث بن نوح، وقيل غير ذلك. ا.ه.
وذكر الرازي في موضع آخر نحو ما تقدم وزيادة ونصه:
إن الأندلس في آخر الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة التي تقدم ذكرها التي هي ربع معمور الدنيا، فهي موسطة من البلدان، كريمة البقعة، بطبع الخلقة، طيبة التربة، مخصبة القاع، منبجسة العيون الثرارة، منفجرة الأنهار الغزار، قليلة الهوام ذوات السموم، معتدلة الهواء أكثر الأزمان، لا يزيد قيظها زيادة منكرة تضر بالأبدان، وكذا فصولها في أعم سنيها تأتي على قدر من الاعتدال، وتوسط من الحال، وفواكهها تتصل طول الزمان، فلا تكاد تعدم، لأن الساحل ونواحيه، يبادر بباكوره، كما أن الثغر وجهاته، والجبال التي يخصها برد الهواء، وكثافة الجو، تستأخر بما فيها من ذلك، حتى يكاد طرفا فاكهتها يلتقيان، فمادة الخيرات فيها متصلة كل أوان.
ومن بحرها بجهة الغرب يخرج العنبر الجيد، المقدم على أجناسه في الطيب، والصبر على النار، وبها شجر المحلب، المعدود في الأفاوية، المقدم في أنواع الأشنان كثير واسع. وقد زعموا أنه لا يكون إلا بالهند، وبها فقط. وبها خواص نباتية يكثر تعدادها. انتهى.
510
وقد ذكر غيره تفصيل بعض ذلك فقال: يوجد في ناحية «دلاية»
511
من إقليم «البشرة»
512
عود الألنجوج، لا يفوقه العود الهندي ذكاء وعطر رائحة وقد سيق منه إلى خيران
513
الصقلبي صاحب المرية، وأن أصل منبته كان بين أحجار هناك «وبأكشونية»
514
جبل كثيرا ما يتضوع ريحه ريح العود الذكي، إذا أرسلت فيه النار، وببحر «شدونة»
515
وجد العنبر الطيب الغربي، وفي جبل «منت ليون» المحلب،
516
ويوجد بالأندلس القسط
517
الطيب، والسنبل
518
الطيب، والجنطيانة
519
تحمل من الأندلس إلى جميع الآفاق وهو عقار
520
رفيع والمر الطيب بقلعة أيوب، وأطيب كهرباء الأرض بشدونة، درهم منها يعدل دراهم من المجلوبة. وأطيب القرمز قرمز الأندلس، وأكثر ما يكون بنواحي أشبيلية، ولبلة،
521
وشدونة، وبلنسية، ومن الأندلس يحمل إلى الآفاق.
وبناحية لورقة من عمل تدمير يكون حجر اللازورد الجيد، وقد يوجد في غيرها وعلى مقربة من حضرة لورقة من عمل قرطبة معدن البلور، وقد يوجد بجبل «شحيران» وهو شرقي «بيرة» وحجر النجادي؟ يوجد بناحية مدينة الأشبلونة، في جبل هنالك يتلألأ فيه ليلا كالسراج، والياقوت الأحمر يوجد بناحية حصن «منت ميور»
522
من كورة مالقة، إلا أنه دقيق جدا لا يصلح للاستعمال لصغره، ويوجد حجر يشبه الياقوت الأحمر بناحية «بجانة»
523
في خندق يعرف بقرية «ناشرة» أشكالا مختلفة كأنه مصبوغ، حسن اللون، صبور على النار، وحجر المغناطيس الجاذب للحديد يوجد في كورة تدمير. وحجر «الشادنة» يوجد بجبال قرطبة، كثير، ويستعمل ذلك في التذاهيب. وحجر اليهودي في ناحية حصن «البونت»
524
أنفع شيء للحصاة وحجر الموقشينا الذهبية في جبال «أبده»
525
لا نظير لها في الدنيا، ومن الأندلس تحمل إلى جميع الآفاق بفضلها. والمغنيسيا بالأندلس كثير. وكذلك حجر «الطلق»
526
ويوجد حجر اللؤلؤ بمدينة برشلونة، إلا أنه جامد اللون. ويوجد المرجان بساحل يبرة، من عمل المرية، ما لقط منه في أقل من شهر نحو ثمانين ربعا.
ومعدن الذهب بنهر لاردة، يجمع منه كثير، ويجمع أيضا في ساحل الأشبونة ومعادن الفضة في الأندلس كثيرة، في كورة تدمير، وجبال «جمة»
527
بيجانة، وبإقليم «كرتش» من عمل قرطبة معدن فضة جليل. و«بأشكونية»
528
معدن القصدير لا نظير له، يشبه الفضة، وله معادن بناحية أفرنجة وليون. ومعدن الزئبق في جبل البرانس، ومن هنالك يتجهز به إلى الآفاق. ومعادن الكبريت الأحمر والأصفر بالأندلس كثيرة. ومعدن التوتية الطيبة بساحل «البيرة»
529
بقرية تسمى «بطرنة»
530
وهي أزكى توتيا وأقواها في صبغ النحاس. وبجبال قرطبة توتيا وليست كالبطرنية. ومعدن الكحل أشبه بالأصفهاني بناحية مدينة طرطوشة، يحمل منها إلى جميع البلاد. ومعادن الشبوب والحديد والنحاس بالأندلس أكثر من أن تحصى.
وما ذكرت هنا، وإن تكرر بعضه مع ما سبق أو يأتي، فهو لجمع النظائر وما لم نذكره أكثر، والله تعالى أعلم.
ومن خواص طليطلة أن حنطتها لا تتغير ولا تسوس على طول السنين، يتوارثها الخلف عن السلف. وزعفران طليطلة هو الذي يعم البلاد، ويتجهز به الرفاق إلى الآفاق. وكذلك الصبغ السماوي ا.ه.
وقال المسعودي في مروج الذهب بعد كلام ما نصه:
والعنبر كثير ببحر الأندلس، يجهز إلى مصر وغيرها، ويحمل إلى قرطبة من ساحل لها يقال له «شنترين»
531
و«شدونة»
532
تبلغ الأوقية منه بالأندلس ثلاثة مثاقيل ذهبا، والأوقية بالبغدادي، وتباع بمصر أوقيته بعشرين دينارا ، وهو عنبر جيد، ويمكن أن يكون هذا العنبر الواقع إلى بحر الروم، ضربته الأمواج من بحر الأندلس إلى هذا البحر لاتصال الماء. وبالأندلس معدن عظيم للفضة ومعدن للزئبق
533
ليس بالجيد يجهز إلى سائر بلاد الإسلام والكفر، وكذلك يحمل من بلاد الأندلس الزعفران وعروق الزنجبيل. وأصول الطيب خمسة أصناف المسك، والكافور، والعود، والعنبر، والزعفران، وكلها تحمل من أرض الهند وما اتصل بها إلا الزعفران والعنبر. ا.ه.
وهو وإن تكرر مع ما ذكرته عن غيره فلا يخلو من فائدة والله تعالى أعلم.
وذكر البعض أن في بلاد الأندلس جميع المعادن الكائنات عن الثيرات السبعة الرصاص من زحل، والقصدير الأبيض من المشترى، والحديد من قسم المريخ، والذهب من قسم الشمس، والنحاس من الزهرة، والزئبق من عطارد، والفضة من القمر.
وذكر الكاتب إبراهيم بن القاسم القروي المعروف بالرقيق بلد الأندلس فقال: أهله أصحاب جهاد متصل، يحاربون من أهل الشرك المحيطين بهم أمة يدعون الجلالقة، يتاخمون حوزهم، ما بين غرب إلى شرق، قوم لهم شدة، ولهم جمال وحسن وجوه، فأكثر رقيقهم الموصوفين بالجمال منهم، ليس بينهم وبينهم درب
534
فالحرب متصلة بينهم ما لم تقع هدنة. ويحاربون بالأفق الشرقي أمة يقال لهم الفرنجة، هم أشد عليهم من جميع من يحاربونه من عدوهم، إذ كانوا خلقا عظيما في بلاد كثيرة واسعة جليلة، متصلة العمارة، آهلة، تدعى الأرض الكبيرة، هم أكثر عددا من الجليقيين، وأشد بأسا، وأحد شوكة، وأعظم إمدادا. وهذه الأمة يحاربون أمة الصقالبة المتصلين بأرضهم، لمخالفتهم إياهم في الديانة، فيسبونهم ويبيعون رقيقهم بأرض الأندلس، فلهم هنالك كثرة، وتخصيهم للفرنجة يهود
535
ذمتهم الذين بأرضهم، وفي ثغر المسلمين المتصل بهم، فيحمل خصيانهم من هنالك إلى سائر البلاد، وقد تعلم الخصاء قوم من المسلمين هناك فصاروا يخصون ويستحلون المثلة.
قال ابن سعيد: ومخرج بحر الروم المتصاعد إلى الشام، هو بساحل الأندلس الغربي بمكان يقال له الخضراء، ما بين طنجة من أرض المغرب، وبين الأندلس فيكون مقدار عرضه هناك كما زعموا، ثمانية عشر ميلا. وهذا عرض جزيرة طريف إلى قصر مصمودة بالقرب من سبتة . وهناك كانت القنطرة التي يزعم الناس أن الإسكندر بناها ليعبر عليها من بر الأندلس إلى بر العدوة، ويعرف هذا الموضع الزقاق، وهو صعب المجاز، لأنه مجمع البحرين، لا تزال الأمواج تتطاول فيه، والماء يدور، وطول هذا الزقاق الذي عرضه ثمانية عشر ميلا، مضاعف ذلك إلى ميناء سبتة، ومن هناك يأخذ البحر في الاتساع إلى ثمانمائة ميل وأزيد، ومنتهاه مدينة صور من الشام، وفيه عدد عظيم من الجزائر، قال بعضهم: إنها ثمان وعشرون جزيرة منها صقلية ومالطة وغيرهما. ا.ه. وبعضه بالمعنى. وقال بعضهم عند وصفه ضيق بحر الزقاق قرب سبتة ما صورته: ثم يتسع كما امتد حتى يصير إلى ما ذرع له ولا نهاية.
وقال بعضهم: وكان مبلغ خراج الأندلس الذي كان يؤدي إلى ملوك بني أمية، قديما ثلاثمائة ألف دينار، دراهم أندلسية كل سنة قوانين. وعلى كل مدينة من مدائنهم مال معلوم فكانوا يعطون جندهم ورجالهم الثلث من ذلك مائة ألف دينار، وينفقون في أمورهم ونوائبهم ومؤن أهليهم مائة ألف دينار ويدخرون لحادث أيامهم مائة ألف دينار ا.ه.
وذكر غيره: أن الجباية كانت بالأندلس أيام عبد الرحمن الأوسط، ألف ألف دينار في السنة، وكانت قبل ذلك لا تزيد على ستمائة ألف.
536
حكاه ابن سعيد وقال: أن الأندلس مسيرة شهر مدن وعمائر.
537
وقال قاضي القضاة ابن خلدون الخضرمي في تاريخه الكبير ما صورته: كان هذا القطر الأندلسي من العدوة الشمالية من عدوتي البحر الرومي، وبالجانب الغربي منها، يسمى عند العجم الأندلوش، وتسكنه أمم من إفرنجة المغرب، أشدهم وأكثرهم الجلالقة. وكان القوط قد تملكوه، وغلبوا على أهله لمئتين من السنين قبل الإسلام، بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين، حاصروا فيها رومة، ثم عقدوا معهم السلم، على أن ينصرف القوط إلى الأندلس، فصاروا إليها، وملكوها،
538
ولما أخذ الروم واللطينيون بملة النصرانية، حملوا من وراءهم بالمغرب من أمم الفرنجة والقوط عليها، فدانوا بها. وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة، وكانت دار ملكهم، وربما تنقلوا ما بينها وبين قرطبة ، وأشبيلية، وماردة، وأقاموا كذلك نحوا من أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح، وكان ملكهم لذلك العهد يسمى لذريق، وهو سمة لملوكهم، كما أن جرجير سمة لملوك صقليه ا.ه.
ومن أشهر بلاد الأندلس غرناطة
539
وقيل إن الصواب أغرناطة بالهمز، ومعناه بلغتهم الرمانة، وكفاها شرفا ولادة لسان الدين بها وقال «الشقندي»: أما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخل من أشراف أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل، ولو لم يكن لها إلا ما خصه الله تعالى به من المرج الطويل العريض، ونهر شنيل، لكفاها.
وفي بعض كلام لسان الدين ما صورته: وما لمصر تفخر بنيلها، وألف منه في شنيلها؟! يعني أن الشين عند أهل المغرب عددها ألف، فقولنا شنيل إذا اعتبرنا عدد شينه كان ألف نيل.
540
وفيها قيل:
غرناطة ما لها نظير
ما مصر، ما الشام، ما العراق
ما هي إلا العروس تجلى
وتلك من جملة الصداق
وتسمى كورة «البيرة» التي منها غرناطة دمشق، لأن جند دمشق نزلوها عند الفتح، وقيل إنها سميت بذلك لشبهها بدمشق في غزارة الأنهار، وكثرة الأشجار، حكاه صاحب «منهاج الفكر» قال: ولما استولى الفرنج على معظم بلاد الأندلس انتقل أهلها إليها فصارت المصر المقصود، والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود،
541
ويشقها نهر عليه قناطر يجاز عليها. وفي قبليها جبل شلير، وهو جبل لا يفارقه الثلج، صيفا ولا شتاء، وفيه سائر النبات الهندي، لكن ليس فيه خصائصه. ا.ه.
ومن أعمال غرناطة قطر «لوشة»
542
وبها معدن للفضة جيد، ومنها، أعني لوشة، أصل لسان الدين بن الخطيب. وهذا القطر ضخم، ينضاف إليه من الحصون والقرى كثير، وقاعدته لوشة بينها وبين غرناطة مرحلة، وهي ذات أنهار وأشجار وهي على نهر غرناطة الشهير بشنيل.
ومن أعمال غرناطة الكبار عمل «باغة»
543
والعامة يقولون «بيغة» وإذا نسبوا إليه قالوا بيغي، وقاعدته باغة، طيبة الزرع، كثيرة الثمار، عزيزة المياه، ويجود فيها الزعفران.
ومن أعمال غرناطة «وادي آش»
544
ويقال وادي الأشات، وهي مدينة جليلة، قد أحدقت بها البساتين والأنهار ، وقد خص الله أهلها بالأدب وحب الشعر وفيها يقول أبو الحسن بن نزار:
وادي الأشات يهيج وجدي كلما
أذكرت ما أفضت بك النعماء
لله ظلك والهجير مسلط
قد بردت لفحاته الأنداء
والشمس ترغب أن تفوز بلحظة
منه فتطرف طرفها الأفياء
والنهر يبسم بالحباب كأنه
سلخ نضته حية رقشاء
فلذاك تحذره الغصون فميلها
أبدا على جنباته إيماء (ومن أعمال وادي آش) حصن «جليانة»
545
وهو كبير يضاهي المدن، وبه التفاح الجلياني الذي خص الله به ذلك الموضع، يجمع عظم الحجم، وكرم الجوهر، وحلاوة الطعم، وذكاء الرائحة، والنقاء، وبين الحصن المذكور ووادي آش اثنا عشر ميلا.
ومن غرائب الأندلس أن به شجرتين من شجر القسطل، وهما عظيمتان جدا، إحداهما بسند
546
وادي آش، والأخرى ببشرة
547
غرناطة، في جوف كل واحدة منهما حائك ينسج الثياب، وهذا أمر مشهور، قال أبو عبد الله بن جزي وغيره.
وكانت إلبيرة
548
هي المدينة قبل غرناطة، فلما بنى الصنهاجي مدينة غرناطة وقصبتها وأسوارها، انتقل الناس إليها، ثم زاد في عمارتها ابنه باديس بعده.
وذكر غير واحد أن في كورة سرقسطة الملح الاندراني الأبيض الصافي الأملس الخالص، وليس في الأندلس موضع فيه مثل هذا الملح. قال: وسرقسطة
549
بناها قيصر ملك رومة التي تؤرخ في مدته مدة الصفر قبل مولد المسيح على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام، وتفسير اسمها: قصر السيد. لأنه اختار ذلك المكان بالأندلس وقيل إن موسى بن نصير شرب من ماء نهر «جلق»
550
بسرقسطة فاستعذبه، وحكم أنه لم يشرب بالأندلس أعذب منه، وسأل عن اسمه فقيل جلق ونظر إلى ما عليه من البساتين فشبهها بغوطة جلق الشام، وقيل إنها من بناء الإسكندر والله أعلم. وبمدينة برجة، وهي من أعمال المرية، معدن الرصاص وهي على واد مبهج، يعرف بوادي «عذراء»
551
وهو محدق بالأزهار والأشجار، وتسمى برجة
552
بهجة، لبهجة منظرها، وفيها يقول أبو الفضل بن شرف القيرواني رحمه الله تعالى:
رياض تعشقها سندس
توشت معاطفها بالزهر
مدامعها فوق خدي ربا
لها نظرة فتنت من نظر
وكل مكان بها جنة
وكل طريق إليها سقر
وفيها أيضا قوله:
حط الرحال ببرجه
وارتد لنفسك بهجة
في قلعة كسلاح
ودوحة مثل لجة
فحصنها لك أمن
وروضها لك فرجة
كل البلاد سواها
كعمرة وهي حجة
وبمالقة التين الذي يضرب المثل بحسنه، ويجلب حتى للهند والصين، وقيل إنه ليس في الدنيا مثله، وفيه يقول أبو الحجاج يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي حسبما أنشده غير واحد، منهم ابن سعيد:
مالقة حيت ياتينها
الفلك من أجلك يا تينها
553
نهى طبيبي عنه في علتي
ما لطبيبي عن حياتي نهى
وذيل عليه الإمام الخطيب أبو محمد عبد الوهاب المنشي بقوله:
وحمص لا تنس لها تينها
واذكر مع التين زياتينها
وفي بعض النسخ:
لا تنس لأشبيلية تينها
واذكر مع التين زياتينها
وهو نحو الأول لأن حمص هي أشبيلية لنزول أهل حمص من المشرق بها حسبما سنذكره. ونسب ابن جزي في ترتيبه لرحلة ابن بطوطة البيتين الأولين للخطيب أبي محمد عبد الوهاب المالقي، والتذييل لقاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد الملك فالله أعلم.
وقال ابن بطوطة: وبمالقة يصنع الفخار المذهب العجيب، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد، ومسجدها
554
كبير الساحة، كثير البركة، شهيرها، وصحنه لا نظير له في الحسن، وفيه أشجار النارنج البديعة. انتهى. وقال قبله: إن مالقة إحدى قواعد الأندلس، وبلادها الحسان جامعة بين مرافق البر والبحر، كثيرة الخيرات والفواكه، رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير، ورمانها المرسي الياقوتي لا نظير له في الدنيا. وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب. ا.ه.
وبكورة أشبونة المتصلة بشنترين معدن التبر، وفيها عسل يجعل في كيس كتان. فلا يكون له رطوبة كأنه سكر. ويوجد في ريفها العنبر الذي لا يشبه إلا الشحري.
ومن أشهر مدن الأندلس مدينة قرطبة، أعادها الله تعالى للإسلام، وبها الجامع المشهور، والقنطرة المعروفة بالجسر، وقد ذكر ابن حيان أنه بنى على أمر عمر بن عبد العزيز
555
رضي الله عنه، ونصه: وقام فيها بأمره على النهر الأعظم بدار مملكتها قرطبة الجسر الأكبر الذي ما يعرف في الدنيا مثله. انتهى. وفيها يقول بعض علماء الأندلس.
بأربع فاقت الأمصار قرطبة
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شيء وهو رابعها
وقال الحجاري في المسهب: كانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمخضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية، وإليها كانت الرحلة في الرواية، إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، ونهرها من أحسن الأنهار، مكتنف بديباج المروج، مطرز بالأزهار، تصدح في جنباته الأطيار، وتنعر النواعير، ويبسم النوار، وقرطاها الزاهرة والزهراء، حاضرتا الملك، وأفقاه النعماء والسراء، وإن كان قد أخنى عليها الزمان، وغير بهجة أوجهها الحسان، فتلك عادته! وسل الخورنق والسدير وغمدان، وقد أعذر بإنذاره، إذ لم يزل ينادي بصروفه: لا أمان! لا أمان! وقد قال الشاعر:
وما زلت أسمع أن الملو
ك تبني على قدر أخطارها
انتهى.
وقال السلطان يعقوب المنصور بن السلطان يوسف بن السلطان عبد المؤمن بن علي لأحد رؤساء أجنادها: ما تقول في قرطبة؟ فخاطبه على ما يقتضيه كلام عامة الأندلس بقوله: جوفها
556
شمام،
557
وغربيها قمام،
558
وقبلتها مدام، والجنة هي السلام. يعني بالشمام جبال الورد، ويعني بالقمام ما يؤكل، إشارة إلى محرث «الكنبانية».
559
ويعني بالمدام النهر.
ولما قال والده السلطان يوسف بن عبد المؤمن لأبي عمران موسى بن سعيد العنسي: ما عندك في قرطبة؟ قال له: ما كان لي أن أتكلم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها. فقال السلطان: إن ملوك بني أمية حين اتخذوها حضرة مملكتهم لعلى بصيرة: الديار المنفسحة الكبيرة، والشوارع المتسعة، والمياني الضخمة المشيدة، والنهر الجاري، والهواء المعتدل، والخارج الناضر، والمحرث العظيم، والشعراء الكافية والتوسط بين شرق الأندلس وغربها. قال فقلت: ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول!
قال ابن سعيد: ولأهلها رياسة ووقار، لا تزال سمة العلم والملك متوارثة فيهم، إلا أن عامتها أكثر الناس فضولا، وأشدهم تشغيبا، ويضرب بهم المثل، ما بين أهل الأندلس، في القيام على الملوك، والتشنيع على الولاة، وقلة الرضا بأمورهم ، حتى أن السيد أبا يحيى أخا السلطان يعقوب المنصور قيل له لما انفصل عن ولايتها: كيف وجدت أهل قرطبة؟ فقال مثل الجمل، إن خففت عنه الحمل صاح، وإن أثقلته صاح، ما ندري أين رضاهم فنقصده، ولا أين سخطهم فنجتنبه، وما سلط الله عليهم حجاج الفتنة، حتى كان عامتها شرا من عامة العراق
560
وإن العزل عنها لما قاسيته من أهلها عندي ولاية، وإني، إن كلفت العود إليها، لقائل: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين! انتهى.
وقال أبو الفضل التيفاشي: جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بين الفقيه أبي الوليد بن رشد، والرئيس أبي بكر بن زهر. فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول؟ غير أنه إذا مات عالم بأشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى أشبيلية. قال وقرطبة أكثر بلاد الله كتبا
561
انتهى.
وحكى الإمام ابن بشكوال عن الشيخ أبي بكر بن سعادة أنه دخل مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الأستاذ أبي بكر المخزومي. قال: فسألنا: من أين؟ فقلنا: من قرطبة. فقال: متى عهدكما بها؟ فقلنا: الآن وصلنا منها. فقال: أقربا إلي أشم نسيم قرطبة فقربنا منه فشم رأسي وقبله وقال لي أكتب:
أقرطبة الغراء هل لي أوبة
إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد
سقى الجانب الغربي منك غمامة
وقعقع في ساحات دوحاتك الرعد
لياليك أسحار وأرضك روضة
وتربك في استنشاقها عنبر ورد
وكتب الرئيس الكاتب أبو بكر بن القبطرنة للعالم أبي الحسين بن سراج بقوله:
يا سيدي وأبي، هوى وجلالة
ورسول ودي إن طلبت رسولا
عرج بقرطبة إذا بلغتها
بأبي الحسين وناده تأميلا
وإذا سعدت بنظرة من وجهه
اهد السلام لكفه تقبيلا
واذكر له شوقي وشكري مجملا
ولو استطعت شرحته تفصيلا
بتحية تهدى إليه كأنما
جرت على زهر الرياض ذيولا
وفي باب اليهود بقرطبة يقول أبو عامر بن شهيد:
لقد أطلعوا عند باب اليهو
د بدرا أبى الحسن أن يكسفا
تراه اليهود على بابها
أميرا فتحسبه يوسفا
واستقبحوا قولهم باب اليهود فقالوا: باب الهدى. وسنذكر قرطبة والزهراء والزاهرة ومسجدها في الباب المنفرد بها، إن شاء الله تعالى، وكذلك القنطرة.
562
ومن أعظم مدن الأندلس أشبيلية، قال الشقندي: من محاسنها اعتدال الهواء، وحسن المباني، ونهرها الأعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر، وفيه يقول ابن سفر:
شق النسيم عليه جيب قميصه
فانساب من شطيه يطلب تاره
فتضاحكت ورق الحمام بدوحها
هزءا فضم من الحياء إزاره
وقيل لأحد من رأي مصر والشام: أيهما رأيت أحسن، أهذان أم أشبيلية؟
فقال بعد تفضيل أشبيلية: شرفها
563
غابة بلا أسد، ونهرها نيل بلا تمساح. ا.ه.
ويقال إن الذي بنى أشبيلية اسمه «يوليس»
564
وأنه أول من سمي «قيصر» وأنه لما دخل الأندلس أعجب بساحاتها، وطيب أرضها، وجبلها المعروف بالشرف، فردم على النهر الأعظم مكانا، وأقام فيه المدينة، وأحدق عليها بأسوار من صخر صلد وبنى في وسط المدينة قصبتين بديعتي الشأن، تعرفان بأخوين، وجعلها أم قواعد الأندلس، واشتق لها اسمها من «رومية يوليس»
565
انتهى. وقد تقدم شيء من هذا.
وكان الأولون من ملوك الأعاجم يتداولون بسكناهم أربعة بلاد من بلاد الأندلس: أشبيلية، وقرطبة، وقرمونة، وطليطلة، ويقسمون أزمانهم على الكينونة بها. وأما شرف أشبيلية فهو شريف البقعة، كريم التربة، دائم الخضرة فرسخ في فرسخ، طولا وعرضا، لا تكاد تشمس فيه بقعة، لالتفاف زيتونه.
واعلم أن أشبيلية لها كور جليلية، ومدن كثيرة، وحصون شريفة، وهي من الكور المجندة، نزلها جند حمص، ولواؤهم في الميمنة، بعد لواء جند دمشق وانتهت جباية أشبيلية أيام الحكم بن هشام إلى خمسة وثلاثين ألف دينار ومائة دينار. وفي إقليم «طالقة»
566
من أقاليم أشبيلية وجدت صورة جارية من مرمر، معها صبي، وكأن حية تريده، لم يسمع في الأخبار، ولا رؤى في الآثار، صورة أبدع منها، جعلت في بعض الحمامات، وتعشقها جماعة من العوام. وفي كورة ماردة حصن «شنت أفرج»
567
في غاية الارتفاع، لا يعلوه طائر البتة، لا نسر ولا غيره.
ومن عجائب الأندلس البلاط الأوسط من مسجد جامع «أقليش»
568
فإن طول كل جائزة منه مائة شبر واحد عشر شبرا، وهي مربعة منحوتة، مستوية الأطراف.
وقال بعض من وصف أشبيلية إنها مدينة عامرة، على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة، وعليه جسر مربوط بالسفن، وبها أسواق قائمة، وتجارات رابحة، وأهلها ذوو أموال عظيمة، وأكثر متاجرهم الزيت، وهو يشتمل على كثير من إقليم الشرف. وإقليم الشرف على تل عال، من تراب أحمر، مسافته أربعون ميلا في مثلها، يمشي به السائر في ظل الزيتون والتين. ولها فيما ذكر بعض الناس قرى كثيرة، وكل قرية عامرة بالأسواق، والديار الحسنة والحمامات وغيرها من المرافق.
وقال صاحب «منهاج الفكر» عند ذكر أشبيلية: وهذه المدينة من أحسن مدن الدنيا، وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة، وانتهاز فرصة الزمان الساعة بعد الساعة. ويعينهم على ذلك واديها الفرج، وناديها البهج، وهذا الوادي يأتيها من قرطبة، ويجزر في كل يوم. ولها جبل الشرف،
569
وهو تراب أحمر، طوله من الشمال إلى الجنوب أربعون ميلا، وعرضه من المشرق إلى المغرب اثنا عشر ميلا، يشتمل على مائتين وعشرين قرية، قد التحفت بأشجار الزيتون واشتملت. انتهى.
ولكورة «باجة»
570
من الكور الغربية التي كانت من أعمال أشبيلية أيام بني عباد خاصية في دباغة الأديم وصناعة الكتان. وفيها معدن فضة. وبها ولد المعتمد بن عباد، وهي متصلة بكورة ماردة.
ولجبل طارق حوز قصب السبق بنسبته إلى طارق مولى موسى بن نصير إذ كان أول ما حل به من المسلمين من بلاد الأندلس عند الفتح، ولذا شهر بجبل الفتح، وهو مقابل الجزيرة الخضراء، وقد تجون البحر هنالك مستديرا، حتى صار مكان هذا الجبل كالناظر للجزيرة الخضراء، وفيه يقول مطرف شاعر غرناطة:
وأقود قد ألقى على البحر متنه
فأصبح عن قود الجبال بمعزل
يعرض نحو الأفق وجها كأنما
تراقب عيناه كواكب منزل
وإذا أقبل عليه المسافرون من جهة سبتة في البحر، بان كأنه سرج. قال أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد: أقبلت عليه مرة مع والدي فنظرنا إليه على تلك الصفة فقال والدي: أجز:
أنظر إلى جبل الفتح راكبا متن لج
فقلت:
وقد تفتح مثل الأفنان في شكل سرج
وأما جزيرة طريف فليست بجزيرة، وإنما سميت بذلك الجزيرة التي أمامها في البحر مثل الجزيرة الخضراء، وطريف المنسوبة إليه بربري من موالي موسى بن نصير. ويقال إن موسى بعثه قبل طارق في أربعمائة رجل، فنزل بهذه الجزيرة في رمضان سنة إحدى وتسعين، وبعده دخل طارق. والله أعلم.
ومن أعظم كور الأندلس كورة طليطلة، وهي من متوسط الأندلس، وكانت دار مملكة بني ذي النون، من ملوك الطوائف، وكان ابتداء ملكهم صدر المائة الخامسة، وسماها قيصر بلسانه «بزليطلة» وتأويل ذلك: أنت فارح. فعربتها العرب، وقالت «طليطلة».
571
وكانوا يسمونها وجهاتها في دولة بني أمية بالثغر الأدنى، ويسمون سرقسطة وجهاتها بالثغر الأعلى. وتسمى طليطلة مدينة الأملاك لأنه فيما يقال ملكها اثنان وسبعون إنسانا، ودخلها سليمان بن داود عليهما السلام، وعيسى بن مريم، وذو القرنين،
572
وفيها وجد طارق مائدة سليمان، وكانت من ذخائر أشبان ملك الروم الذي بنى أشبيلية، أخذها من بيت المقدس، كما مر.
573
وقومت هذه المائدة عند الوليد بن عبد الملك بمائة ألف دينار. وقيل إنها كانت من زمرد أخضر، ويقال إنها الآن برومة. والله أعلم بذلك. ووجد طارق بطليطلة ذخائر عظيمة
574
منها مائة وسبعون تاجا من الدر والياقوت والأحجار النفيسة، وإيوان ممتلئ من أواني الذهب والفضة، وهو كبير، حتى قيل إن الخيل تلعب فيه فرسانها برماحهم لوسعه. وقد قيل أن أواني المائدة من الذهب، وصحافها من اليشم والجزع. وذكروا فيها غير هذا، مما لا يكاد يصدقه الناظر فيه. وبطليطلة بساتين محدقة، وأنهار مخترقة، ورياض وجنان، وفواكه حسان، مختلفة الطعوم والألوان ولها من جميع جهاتها أقاليم رفيعة، ورساتيق مريعة، وضياع بديعة، وقلاع منيعة، وبالجملة فمحاسنها كثيرة، ولعلنا نلم ببعض متنزهاتها فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وطليطلة قاعدة ملك القوطيين، وهي مطلة على نهر تاجة، وعليه كانت القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها، وكانت على قوس واحد ، تكنفه فرجتان من كل جانب ، وطول القنطرة ثلاثمائة رباع، وعرضها ثمانون باعا، وخربت أيام الأمير محمد، لما عصى عليها أهلها، فغزاهم واحتال في هدمها. وفي ذلك يقول الحكيم عباس بن فرناس:
أضحت طليطلة معطلة
من أهلها في قبضة الصقر
تركت بلا أهل تؤهلها
مهجورة الأكناف كالقبر
ما كان يبقي الله قنطرة
نصبت لحمل كتائب الكفر
وسيأتي بعض أخبار طليطلة.
575
ومن مشهور مدن الأندلس المرية، وهي على ساحل البحر، ولها القلعة المنيعة المعروفة بقلعة خيران، بناها عبد الرحمن الناصر، وعظمت في دولة المنصور ابن أبي عامر، وولي عليها خيران، فنسبت القلعة إليه. وبها من صنعة الديباج ما تفوق به سائر البلاد. وفيها دار الصناعة.
576
وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام. ومن أبوابها باب العقاب عليه صورة عقاب من حجر، قديم عجيب المنظر.
وقال بعضهم: كان بالمرية لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللاسقلاطون كذلك، وللثياب الجرجانية كذلك، وللأصفهانية مثل ذلك، وللعنابي والمعاجر المدهشة، والستور المكللة. ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف.
577
وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسنا، وساحلها أفضل السواحل،
578
وبها قصور الملوك القديمة الغريبة العجيبة. وقد ألف فيها أبو جعفر بن خاتمة تاريخا حافلا، سماه «بمزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية» في مجلد ضخم، تركته من جملة كتبي بالمغرب. والله سبحانه المسئول في جمع الشمل، فله الأمر من بعد ومن قبل.
ووادي المرية طوله أربعون ميلا في مثلها، كلها بساتين بهجة، وجنات نضرة وأنهار مطردة، وطيور مغردة. قال بعضهم: ولم يكن في بلاد الأندلس أكثر مالا من أهل المرية، ولا أعظم متاجر وذخائر، وكان بها من الحمامات والفنادق نحو الألف، وهي بين الجبلين، بينهما خندق معمور، وعلى الجبل الواحد، قصبتها المشهورة بالحصانة، وعلى الآخر ربضها. والسور محيط بالمدينة والربض. وغربيها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض، ذو فنادق وحمامات، وخنادق وصناعات، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة، وأحجار أولية. وكأنما غربلت أرضها من التراب. ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار. انتهى.
وقال ابن اليسع عند ذكر مدينة «شنترة»:
579
إن من خواصها أن القمح والشعير يزرعان ويحصدان عند مضي أربعين يوما من زراعته، وأن التفاح فيها دور كل واحدة ثلاثة أشبار وأكثر. قال لي أبو عبد الله الباكوري، وكان ثقة: أبصرت عند المعتمد بن عباد رجلا من أهل شنترة، أهدى إليه أربعا من التفاح، ما يقل الحامل على رأسه غيرها، دور كل واحدة خمسة أشبار. وذكر الرجل بحضرة ابن عباد أن المعتاد عندهم أقل من هذا، فإذا أرادوا أن يجيء بهذا العظم وهذا القدر قطعوا أصلها وأبقوا منه عشرا أو أقل، وجعلوا تحتها دعامات من الخشب. انتهى.
وبحصن «شنش»
580
على مرحلة من المرية التوت الكثير، وفيها الحرير والقرمز، ويعرف واديها بوادي «طبرنش»
581
وبغربي مالقة عمل «سهيل»
582
وهو عمل عظيم كثير الضياع، وفيه جبل سهيل، لا يرى نجم سهيل بالأندلس إلا منه.
ومن كور الأندلس الشرقية تدمير
583
وتسمى مصر أيضا، لكثرة شبهها بها، لأن لها أرضا يسيح عليها نهر في وقت مخصوص من السنة، ثم ينضب عنها، فتزرع كما تزرع أرض مصر، وصارت القصبة بعد تدمير مرسية، وتسمى البستان لكثرة جناتها المحيطة بها، ولها نهر يصب في قبليها.
واعلم أن جزيرة الأندلس، أعادها الله للإسلام، مشتملة على موسطة وشرق وغرب. فالموسطة فيها من القواعد الممصرة التي كل مدينة منها مملكة مستقلة، لها أعمال ضخام، وأقطار متسعة: قرطبة، وطليطلة، وجيان، وغرناطة، والمرية، ومالقة: فمن أعمال قرطبة «أستجة» و«بلكونة» و«قبرة» و«رندة» و«غافق» و«المدور» و«أسطبة» و«بيانة» و«أليسانة» و«القصير»
584
وغيرها. ومن أعمال طليطلة «وادي الحجارة»، و«قلعة رباح»، و«طلمنكة»
585
وغيرها. ومن أعمال جيان، «أبذة»، و«بياسة»، و«قسطلة»
586
وغيرها، ومن أعمال غرناطة «وادي آش»، و«المنكب» و«لوشة»
587
وغيرها. ومن أعمال المرية «أندرش»
588
وغيرها. ومن أعمال مالقة «بلش» و«الحامة»،
589
وغيرهما. وببلش من الفواكه ما بمالقة، وبالحامة العين الحارة على ضفة واديها.
وأما شرق الأندلس ففيه من القواعد «مرسية» و«بلنسية» و«دانية » و«السهلة» و«الثغر الأعلى ».
590
فمن أعمال مرسية «أوريولة» و«القنت» و«لورقة»
591
وغير ذلك. ومن أعمال بلنسية «شاطبة» التي يضرب بحسنها المثل، ويعمل بها الورق الذي لا نظير له، و«جزيرة شقر» وغير ذلك وأما «دانية» فهي شهيرة، ولها أعمال، وأما «السهلة» فإنها متوسطة بين بلنسية وسرقسطة، ولذا عدها بعضهم من كور الثغر الأعلى، ولها مدن وحصون. ومن أعمال الثغر الأعلى سرقسطة. وهي أم ذلك الثغر. وكورة «لاردة» والقلعة، وتسمى بالبيضاء
592
وكورة «تطيلة» ومدينتها «طرسونة»
593
وكورة «وشقة» ومدينتها تمريط،
594
وكورة مدينة سالم، وكورة قلعة أيوب، ومدينتها بليانة، وكورة «برطانية»
595
وكورة «باروشة».
596
وأما غرب الأندلس ففيه «أشبيلية» و«ماردة» و«أشبونة» و«شلب»
597
فمن أعمال أشبيلية «شريش» و«الخضراء» و«لبلة»
598
وغيرها. ومن أعمال ماردة «بطليوس» و«يابرة»
599
وغيرها. ومن أعمال أشبونة «شنترين»
600
وغيرها. ومن أعمال شلب «شنت ريه»
601
وغيرها.
وأما الجزر البحرية بالأندلس فمنها جزيرة «قادس»
602
وهي من أعمال أشبيلية. وقال ابن سعيد: إنها من كورة شريش ولا منافاة، لأن شريش من أعمال أشبيلية كما مر. قال: وبيد صنم قادس مفتاح. ولما ثار بقادس ابن أخت القائد أبي عبد الله بن ميمون، وهو علي بن عيسى قائد البحر بها، ظن أن تحت الصنم مالا فهدمه فلم يجد شيئا. ا.ه.
وهي أعني جزيرة قادس في البحر المحيط. وفي المحيط الجزائر الخالدات
603
السبع، وهي غربي مدينة سلا، تلوح للناظر في اليوم الصاحي الصافي الجو من الأبخرة الغليظة، وفيها سبعة أصنام على أمثال الآدميين، تشير أن لا عبور ولا مسلك وراءها. وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات،
604
وفيها من المدن والقرى ما لا يحصى ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس، على دين النصارى، أولها جزيرة برطانية
605
وهي بوسط البحر المحيط، بأقصى شمال الأندلس، ولا جبال فيها ولا عيون، وإنما يشربون من ماء المطر، ويزرعون عليه، وقال ابن سعيد: وفيه جزيرة «شلطيش»
606
وهي آهلة، وفيها مدينة، وبحرها كثير السمك، ومنها يحمل مملحا إلى أشبيلية، وهي من كورة «لبلة» مضافة إلى عمل «أونبة».
607
ا .ه.
وقال بعضهم لما جرى ذكر قرطاجنة من بلاد الأندلس: إن الزرع في بعض أقطارها يكتفي بمطرة واحدة، وبها أقواس من الحجارة المقربصة، وفيها من التصاوير والتماثيل وأشكال الناس وصور الحيوانات ما يحير البصر والبصيرة. ومن اعجب بنائها «الدواميس»
608
وهي أربعة وعشرون، على صف واحد، من حجارة مقربصة، طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة، في عرض ستين خطوة، وارتفاع كل واحد أكثر من مائتي ذراع، بين كل داموسين أنقاب محكمة، تتصل فيها المياه من بعضها إلى بعض، في العلو الشاهق، بهندسة عجيبة، وإحكام بديع. انتهى. «قلت»: أظن هذا غلطا فإن قرطاجنة التي بهذه الصفة قرطاجنة أفريقية لا قرطاجنة الأندلس. والله أعلم.
وقال صاحب «مناهج الفكر» عندما ذكر قرطاجنة: وهي على البحر الرومي، مدينة قديمة بقي منها آثار، ولها فحص طوله ستة أيام، وعرضه يومان، معمور بالقرى. انتهى. وذكر قبل ذلك في «لورقة»
609
أنه بناحيتها يوجد حجر اللازورد، وفي البحر الشامي الخارج من المحيط جزيرتا ميورقة ومنورقة، وبينهما خمسون ميلا وجزيرة ميورقة مسافة يوم بها مدينة حسنة
610
وتدخلها ساقية جارية على الدوام، وفيها يقول ابن اللبانة:
بلد أعارته الحمامة طوقها
وكساه حلة ريشه الطاووس
فكأنما الأنهار فيه مدامة
وكأن ساحات الديار كؤس
وقال يخاطب ملكها ذلك الوقت:
وغمرت بالإحسان أرض ميورقة
وبنيت ما لم يبنه الإسكندر
وجزيرة يابسة.
611
واستقصاء ما يتعلق بهذا الفصل يطول، ولو تتبع لكان تأليفا مستقلا، وما أحسن قول ابن خفاجة:
إن للجنة بالأندلس
مجتلى حسن وريا نفس
فنا صيحتها من شنب
ودحى ليلتها من لعس
وإذا ما هبت الريح صبا
صحت: وا شوقي إلى الأندلس!
وقال بعضهم في طليطلة:
زادت طليطلة على ما حدثوا
بلد عليه نضرة ونسيم
الله زينه فوشح خضره
نهر المجرة والغصون نجوم
ولا حرج إن أوردنا هنا ما خاطب به أديب الأندلس أبو بحر صفوان بن إدريس الأمير عبد الرحمن ابن السلطان يوسف بن عبد المؤمن بن علي، فإنه مناسب ونصه:
مولاي أمتع الله ببقائك الزمان وأبناءه، كما ضم على حبك أحناءهم وأحناءه ، وأوصل لك ما شئت من المن والأمان، كما نظم قلائد فخرك على لبة الدهر نظم الجمان، فإنك الملك الهمام، والقمر التمام، أيامك غرر وحجول، وفرند بهائها في صفحات الدهر يجول، ألبست الرعية برود التأمين، فتناسقت فيك من نفيس ثمين، وتلقت دعوات خلدك لها باليمين، فكم للناس من أمن بك وإيناس، وللأيام من لوعة فيك وهيام وللأقطار من لبانات لديك وأوطار، وللبلاد من قراع على تملكك لها وجلاد!! يتمنون شخصك الكريم على الله ويقترحون، ويغتبقون في رياض ذكرك العاطر بمدام حبك ويصطحبون، كل حزب بما لديهم فرحون، محبة من الله ألقاها لك، حتى على الجماد، ونصرا مؤزرا تنطق به ألسنة السيوف على أفواه الأغماد، ومن أسر سريرة ألبسه الله رداءها، ومن طوى حسن نية ختم الله له بالجميل إعادتها وإبداءها، ومن قدم صالحا فلا بد من أن يوازيه، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه ولما تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار، وطال بها الوقوف على حبك والاقتصار، كلها يفصح قولا، ويقول أنا أحق وأولى، ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي، ويتلو إذا بشر بك: ذلك ما كنا نبغي. تنمرت حمص غيظا، وكادت تفيض فيضا وقالت: ما لهم يزيدون وينقصون، ويطمعون ويحرصون؟ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون! ألهم السهم الأسد، والساعد الأشد، والنهر الذي يتعاقب عليه الجزر والمد؟ أنا مصر الأندلس والنيل نهري، وسمائي التأنس والنجوم زهري، إن تجاريتم في ذلك الشرف،
612
فحسبي أن أفيض في ذلك الشرف، وإن تبجحتم بأشرف اللبوس، فأي إزار اشتملتموه «كشنتبوس»؟
613
إلى ما شئت من أبنية رحاب، وروضى يستغنى بنضرته عن السحاب، وقد ملأت زهراتي وهادا ونجادا، وتوشح سيف نهري بحدائقي نجادا، فأنا أولاكم بسيدنا الهمام وأحق، الآن حصحص الحق!
فنظرتها قرطبة شذرا، وقالت: لقد كثرت نذرا، وبذرت في الصخر الأصم بذرا، كلام العدي ضرب من الهذيان، وإني للإيضاح والبيان متى استحال المستقبح مستحسنا، ومن أودع أجفان المهجور وسنا، أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا؟! يا عجبا للمراكز تقدم على الأسنة، وللأثغار
614
تفضل على الأعنة ! إن ادعيتم سبقا فما عند الله خير وأبقى، لي البيت المطهر الشريف، والاسم الذي ضرب عليه رواقه التعريف، في بقيعي محل الرجال الأفاضل، فليرغم أنف المناضل، وفي جامعي مشاهد ليلة القدر، فحسبي من نباهة القدر، فما لأحد أن يستأثر علي بهذا السيد الأعلى، ولا أرضى له أن يوطئ غير ترابي نعلا، فأقروا لي بالأبوة، وانقادوا لي على حكم النبوة، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة، وكفوا عن تباريكم ذلكم خير لكم عند باريكم.
فقالت غرناطة: لي المعقل الذي يمتنع ساكنه من النجوم، ولا تجري إلا تحته جياد الغيث السجوم، فلا يلحقني من معاند ضرر ولا حيف، ولا يهتدي إلي خيال طارق ولا طيف، فاستسلموا قولا وفعلا، فقد أفلح اليوم من استعلى، لي بطاح تقلدت من جداولها أسلاكا، وأطلعت كواكب زهرها فعادت أفلاكا، ومياه تسيل على أعطافي كأدمع العشاق، وبرد نسيم يردد ماء المستجير بالانتشاق، فحسني لا يطمع فيه ولا يحتال، فدعوني فكل ذات ذيل تختال، فأنا أولى بهذا السيد الأعدل، وما لي به من عوض ولا بدل، ولم لا يعطف علي عنان مجده ويثني، وإن أنشد يوما فإياي يعني:
بلاد بها عق الشباب تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
فما لكم تعتزون لفخري وتنتمون، وتتأخرون في ميداني وتتقدمون؟ تبرأوا إلي مما تزعمون، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
فقالت مالقة: أتتركوني بينكم هملا، ولم تعطوني في سيدنا أملا؟ ولم ولي البحر العجاج، والسبل الفجاج، والجنات الأثيرة، والفواكه الكثيرة؟! لدي من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل، ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل، فما لي لا أعطى في ناديكم كلاما، ولا أنشر في جيش فخاركم أعلاما؟! فكأن الأمصار نضرتها ازدراء، فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراء، لأنها موطن لا يحظى منه بطائل، ونظن البلاد تأولت فيها قول القائل:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخير من إجابته السكوت
فقالت مرسية: أمامي تتعاطون الفخر، وبحضرة الدر تنفقون الصخر، إن عدت المفاخر، فلي منها الأول والآخر ، أين أوشالكم من بحري، وخرزكم من لؤلؤ نحري؟ وجعجعتكم من نفثات سحري؟ فلي الروض النضير، والمرأى الذي ما له نظير، ورتقائي التي سار مثلها في الآفاق، وتبرقع وجه جمالها بغرة الأصفاق، فمن دوحات، كم لها من بكور وروحات، ومن أرجاء، إليها تمد أيدي الرجاء. فأبنائي في الجنة الدنيوية مودعون، يتنعمون فيما يأخذون ويدعون، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون، فانقادوا لأمري، وحاذروا اصطلاء جمري، وخلوا بيني وبين سيدنا أبي زيد، وإلا ضربتكم ضرب زيد، فأنا أولاكم بهذا الملك المستأثر بالتعظيم، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
فقالت بلنسية: فيم الجدال والقراع، وعلام الاستهام والاقتراع، وإلام التعريض والتصريح، وتحت الرغوة اللبن الصريح؟! أنا أحوزه من دونكم، فأخمدوا نار تحرككم وهدونكم، فلي المحاسن الشامخة الأعلام. والجنات التي تلقى إليها الآفاق يد الاستسلام، وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام، فأجمعوا على الانقياد لي والسلام، وإلا فعضوا بنانا، واقرعوا أسنانا. فأنا حيث لا تدركون وأني؟ ومولانا لا يهلكنا بما فعل السفهاء منا!
فعند ذلك ارتمت جمرة تدمير بالشرار، واستدت أسهمها لنحور الشرار، وقالت: عش رجبا، تر عجبا! أبعد العصيان والعقوق، تتهيأن لرتب ذوي الحقوق؟! هذه سماء الفخر، فمن ضمنك أن تعرجي؟ ليس بعشك فادرجي، لك الوصف والخيل. آلآن؟ وقد عصيت قبل أيتها الصانعة الفاعلة، من أدراك أن تضربي وما أنت فاعلة، ما الذي يجديك الروض والزهر؟ أم يفيدك الجدول والنهر؟ وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ هل أنت إلا محط رحل النفاق، ومنزل ما لسوق الخصب فيه من نفاق، ذراك لا يكتحل الطرف فيه بهجوع، وقراك لا يسمن ولا يغني من جوع، فإلام تبرز الإماء في منصة العقائل؟ ولكن اذكري قول القائل:
بلنسية، بيني عن القلب سلوة
فإنك روض لا أحن لزهرك
وكيف يحب المرء دارا تقسمت
على صارمى جوع وفتنة مشرك؟
بيد أني أسأل الله تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد، ويسيل من تسديدك ما جمد، ولا يطيل عليك في الجهالة الأمد، وإياه سبحانه نسأل أن يرد سيدنا ومولانا إلى أفضل عوائده، ويجعل مصائب أعدائه من فوائده، ويمكن حسامه من رقاب المشغبين، ويبقيه وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين، ويصل له تأييدا وتأييدا، ويمهد له الأيام حتى تكون الأحرار لعبيد عبيده عبيدا، ويمد على الدنيا بساط سعده، ويهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
آمين! آمين! لا أرض بواحدة
حتى أضيف إليها ألف آمينا
ثم السلام الذي يتعانق عبقا ونشرا، ويتألق رونقا وبشرا، على حضرتهم العلية، ومطالع أنوارهم السنية الجلية، ورحمة الله تعالى وبركاته
615 (انتهى).
ولما ألم الرحالة ابن بطوطة في رحلته بدخوله بلاد الأندلس، أعادها الله تعالى للإسلام قال: فوصلت إلى بلاد الأندلس حرسها الله تعالى حيث الأجر موفور للساكن، والثواب مذخور للمقيم والظاعن ... إلى أن قال عند ذكره غرناطة ما نصه:
قاعدة بلاد الأندلس، وعروس مدنها، وخارجها لا نظير له في الدنيا، وهو مسيرة أربعين ميلا، يخترقه نهر شنيل المشهور وسواه من الأنهار الكثيرة، والبساتين الجليلة، والجنات، والرياضات، والقصور، والكروم، محدقة بها من كل جهة، ومن عجيب مواضعها «عين الدمع»
616
وهو جبل فيه الرياضات والبساتين، لا مثل له بسواها. انتهى.
وقال الشقندي: غرناطة: دمشق بلاد الندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخل من أشراف أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل، ولو لم يكن بها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها النساء الشواعر، كنزهون القلبمية، والركونية، وغيرهما، وناهيك بهما في الظرف والأدب. انتهى.
ولبعضهم، يتشوق إلى غرناطة، فيما ذكره بعض المؤرخين، والصواب أن الأبيات قيلت في قرطبة كما مر والله أعلم.
أغرناطة الغراء، هل لي أوبة
إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد
سقى الجانب الغربي منك غمامة
وقعقع في ساحات روضتك الرعد
لياليك أسحار، وأرضك جنة
وتربك في استنشاقها عنبر ورد
وقال ابن مالك الرعيني:
رعى الله بالحمراء عيشا قطعته
ذهبت به للأنس والليل قد ذهب
ترى الأرض منها فضة فإذا اكتست
بشمس الضحى عادت سبيكتها ذهب
وهو القائل:
لا تظنوا أن شوقي خمدا
بعدكم، أو أن دمعي جمدا
كيف أسلو عن أناس مثلهم
قل أن تبصر عيني أحدا
وغرناطة من أحسن بلاد الأندلس، وتسمى بدمشق الأندلس، لأنها أشبه شيء بها، ويشقها نهر «حدره»
617
ويطل عليها الجبل المسمى بشلير، الذي لا يزول الثلج عنه شتاء ولا صيفا
618
ويجمد عليه، حتى يصير كالحجر الصلد، وفي أعلاه الأزاهر الكثيرة، وأجناس الأفاوية الرفيعة. ونزل بها أهل دمشق، لما جاءوا إلى الأندلس، لأجل الشبه المذكور. وقرى غرناطة فيما ذكر بعض المتأخرين مائتان وسبعون قرية
619
وقال ابن جزي مرتب رحلة ابن بطوطة، بعد ذكر كلامه ما نصه: قال ابن جزي: لولا خشيت أن أنسب إلى العصبية، لأطلت القول في وصف غرناطة، فقد وجدت مكانه، ولكن ما اشتهر كاشتهارها لا معنى لإطالة القول فيه. ولله در شيخنا أبي بكر ابن محمد بن شبرين السبتي، نزيل غرناطة حيث يقول:
رعى الله من غرناطة متبوأ
يسر حزينا أو يجير طريدا
تبرم منها صاحبي عندما رأى
مسارجها بالثلج عدن جليدا
هو الثغر، صان الله من أهلت به
وما خير ثغر لا يكون برودا؟
وقال ابن سعيد، عندما أجرى ذكر قرية نارجة، وهي قرية كبيرة تضاهي المدن قد أحدقت بها البساتين، ولها نهر يفتن الناظرين، وهي من أعمال مالقة: أنه اجتاز مرة عليها مع والده أبي عمران موسى، وكان ذلك زمان صباغة الحرير عندهم وقد ضربوا في بطن الوادي بين مقطعاته خيما، وبعضهم يشرب، وبعضهم يغني ويطرب، وسألوا: بم يعرف ذلك الموضع؟ فقالوا الطراز، فقال والدي اسم طابق مسماه، ولفظ وافق معناه.
وقد وجدت مكان القول ذا سعة
فإن وجدت لسانا قائلا فقل
ثم قال أجز :
بنارجة حيث الطراز المنمنم
فقلت :
أقم فوق نهر ثغره يتبسم
فقال :
وسمعك نحو الهاتفات فإنها
فقلت :
لما أبصرت من بهجة تترنم
فقال :
أيا جنة الفردوس لست بآدم
فقلت :
فلا يك حظي من جناك التندم
فقال :
يعز علينا أن نزورك مثل ما
فقلت :
يزور خيال من سليمى مسلم
فقال :
فلو أنني أعطى الخيار لما عدت
فقلت :
محلك لي عين بمرآك تنعم
فقال :
بحيث الصبا والطل من نفثاتها
فقلت :
وقت لسع روض فيه للنهر أرقم
فقال :
فوا أسفي! إن لم تكن لي عودة
فقلت :
فكن مالكا إني عليك متمم
620
فقال :
فأحسب هذا آخر العهد بيننا
فقلت :
وقد يلحظ الرحمن شوقي فيرحم
فقال :
سلام! سلام لا يزال مرددا
فقلت :
عليك! ولا زالت بك السحب تسجم!
انتهى.
وقال ابن سعيد: إن كورة بلنسية، من شرق الأندلس، ينبت بها الزعفران وتعرف بمدينة التراب، وبها كمثرى تسمى الأرزة، في قدر حبة العنب، قد جمع مع حلاوة الطعم، ذكاء الرائحة، إذا دخل دارا عرف بريحه، ويقال إن ضوء بلنسية يزيد على ضوء سائر بلاد الأندلس، وبها منارة ومسارح، ومن أبدعها وأشهرها الرصافة، ومنية ابن أبي عامر.
وقال الشرف أبو جعفر بن مسعدة الغرناطي من أبيات فيها:
هي الفردوس في الدنيا جمالا
لساكنها وكارهها البعوض
وقال بعضهم فيها:
ضاقت بلنسية بي
وذاد عني غموضي
رقص البراغيث فيها
على غناء البعوض
وفيها لابن الزقاق البلنسي:
بلنسية إذا فكرت فيها
وفي آياتها أسنى البلاد
وأعظم شاهدي منها عليها
وأن جمالها للعين بادي
كساها ربها ديباج حسن
لها علمان من بحر ووادي
وقال ابن سعيد أيضا: أنشدني والدي قال: أنشدني مروان بن عبد الله بن عبد العزيز ملك بلنسية لنفسه بمراكش قوله:
كأن بلنسية كاعب
وملبسها سندس أخضر
إذا جئتها سترت نفسها
بأكمامها فهي لا تظهر
وأما قول أبي عبد الله بن عياش: «بلنسية بيني» البيتين وقد سبقا، فقال ابن سعيد: إن ذلك حيث صارت ثغرا يصاحبها العدو ويماسيها.
621
ا.ه.
وقال أبو الحسن بن حريق يجاوب ابن عياش:
بلنسية قرارة كل حسن
حديث صح في شرق وغرب
فإن قالوا محل غلاء سعر
ومسقط ديمتي طعن وضرب
فقل هي جنة حفت رباها
بمكروهين من جوع وحرب
وقال الرصافي في رصافتها:
ولا كالرصافة من منزل
سقته السحائب صوب الولي
أحن إليها ومن لي بها
وأين السري من الموصلي
وقال ابن سعيد: وبرصافة
622
بلنسية مناظر وبساتين ومياه ولا نعلم في الأندلس ما يسمى بهذا الاسم إلا هذه، ورصافة قرطبة. انتهى. ومن أعمال بلنسية قرية «المنصف» التي منها الفقيه الزاهد أبو عبد الله المنصفي وقبره كان بسبته يزار رحمه الله. ومن نظمه:
قالت لي النفس: أتاك الردى
وأنت في بحر الخطايا مقيم
فما ادخرت الزاد، قلت اقصري!
هل يحمل الزاد لدار الكريم؟
ومن عمل بلنسية قرية «بطرنة»
623
وهي التي كانت فيها الوقعة المشهورة للنصارى على المسلمين. وفيها يقول أبو اسحق بن يعلى الطرسوني:
624
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم
حلل الحرير عليكم ألوانا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها!
لو لم يكن ببطرنة ما كانا
ومن عمل بلنسية «مينطة»
625
التي نسب إليها جماعة من العلماء والأدباء. ومن عمل بلنسية مدينة «أندة»
626
التي في جبلها معدن الحديد. وأما «رندة»
627
بالراء فهي في متوسط الأندلس، ولها حصن يعرف بأندة أيضا. وفي أشبيلية، أعادها الله، من المتفرجات والمتنزهات كثير، ومن ذلك مدينة «طريانة»
628
فإنها من مدن أشبيلية ومتنزهاتها، وكذلك «تيطل» فقد ذكر ابن سعيد جزيرة تيطل في المتفرجات. وقال أبو عمران موسى بن سعيد في جوابه لأبي يحيى صاحب سبتة، لما استوزره مستنصر بني عبد المؤمن، وكتب إلى المذكور يرغبه في النقلة عن الأندلس إلى مراكش، ما نص محل الحاجة منه: وأما ما ذكر سيدي من التخيير بين ترك الأندلس، وبين الوصول إلى حضرة مراكش، فكفى الفهم العالي من الإشارة قول القائل:
والعز محمود وملتمس
وألذه ما كان في الوطن
فإذا نلت بك السماء في تلك الحضرة، فعلى من أسود فيها؟ ومن ذا أضاهي بها؟
لا رقت بي همة إن لم أكن
فيك قد أملت كل الأمل
وبعدها فكيف أفارق الأندلس، وقد علم سيدي أنها جنة الدنيا، بما حباها الله به من اعتدال الهواء، وعذوبة الماء، وكثافة الأفياء، وأن الإنسان لا يبرح فيها بين قرة عين وقرار نفس؟
هي الأرض لا ورد لديها مكدر
ولا طل مقصور ولا روض مجدب
أفق صقيل، وبساط مدبج، وماء سائح، وطائر مترنم بليل، وكيف يعدل الأديب عن أرض على هذه الصفة؟ فيا سموءل الوفاء، ويا حاتم السماح، ويا جذيمة الصفاء، كمل لمن أملك النعمة، بتركه في موطنه ، غير مكدر لخاطره بالتحرك من معدنه، متلفتا إلى قول القائل:
وسولت لي نفسي أن أفارقها
والماء في المزن أصفى منه في الغدر
فإن أغناه اهتمام مؤمله عن ارتياد المراد، وبلغه دون أن يشد قتبا ولا أن ينضي عيسا غاية المراد، أنشد ناجح المرغوب، بالغ المطلوب:
وليس الذي يستتبع الوبل رائدا
كمن جاءه في داره رائد الوبل
ورب قائل إذا سمع هذا التبسط على الأماني: ماله تشطط، وعدل عن سبيل التأدب وتبسط؟! ولا جواب عندي إلا قول القائل:
فهذه خطة مازلت أرقبها
فاليوم أبسط آمالي وأحتكم
ومالي لا أنشد ما قاله المتنبي في سيف الدولة:
ومن كنت بحرا له يا علي
لم يقبل الدر إلا كبارا
انتهى المقصود منه.
وقال الحجاري: إن مدينة «شريش»
629
بنت أشبيلية، وواديها ابن واديها، ما أشبه سعدى بسعيد!! وهي مدينة جليلة، ضخمة الأسواق، لأهلها همم وظرف في اللباس وإظهار الرفاهية، وتخلق بالآداب. ولا تكاد ترى بها إلا عاشقا أو معشوقا. ولها من الفواكه ما يعم ويفضل، ومما اختصت به إحسان الصنعة في المجبنات، وطيب جبنها يعين على ذلك. ويقول أهل الأندلس: من دخل شريش ولم يأكل بها المجبنات فهو محروم. ا.ه.
والمجبنات نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها وتقلى بالزيت الطيب. وفي شلب يقول الفاضل الكاتب أبو عمرو بن مالك بن سيدمير.
أشجاك النسيم حين يهب؟
أم سنى البرق إذ يخب ويخبو؟
أم هتوف على الأراكة تشدو
أم هتون من الغمامة سكب؟
كل هذاك للصبابة داع
أي صب دموعه لا تصب؟
أنا لولا النسيم والبرق والور
ق وصوب الغمام ما كنت أصبو
ذكرتني شلبا، وهيهات مني
بعد ما استحكم التباعد شلب!
وتسمى أعمال كورة «أشكونية» وهي متصلة بكورة أشبونة، وهي، أعني أشكونية، قاعدة جليلة، لها مدن ومعاقل، ودار ملكها قاعدة «شلب»
630
وبينها وبين قرطبة سبعة أيام. ولما صارت لبني عبد المؤمن مراكش أضافوها إلى كروة أشبيلية. وتفتخر شلب بكون ذي الوزارتين ابن عمار منها، سامحه الله. ومنها القائد أبو مروان عبد الملك بن بدران، وربما قيل ابن بدرون، الديب المشهور شارح قصيدة ابن عبدون التي أولها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر
فما البكاء على الأشباح والصور؟!
وهذا الشرح شهير بهذه البلاد المشرقية. ومن نظم ابن بدرون المذكور قوله:
العشق لذته التعنيق والقبل
كما منغصه التثريب والعذل
يا ليت شعري! هل يقضي وصالكم
لولا المنى لم يكن ذا العمر يتصل
ومنها نحوي زمانه وعلامته، أبو محمد عبد الله ابن السيد البطليوسي، فإن شلبا بيضته، ومنها كانت حركته ونهضته، كما في الذخيرة. وهو القائل:
إذا سألوني عن حالتي
وحاولت عذرا فلم يمكن
أقول: بخير، ولكنه
كلام يدور على الألسن
وربك يعلم ما في الصدور
ويعلم خائنة الأعين
وقال الوزير أبو عمرو بن الغلاس يمدح بطليوس بقوله:
بطليوس
631
لا أنساك ما اتصل البعد
فلله غور في جنابك أو نجد
ولله دوحات تحفك ينعا
تفجر واديها كما شقق البرد
وبنو الغلاس من أعيان حضرة بطليوس، وأبو عمرو المذكور أشهرهم، وهو من رجال الذخيرة والمسهب، رحمه الله تعالى. وفي شاطبة
632
يقول بعضهم:
نعم ملقى الرحل شاطبة
لفتى طالت به الرحل
بلدة أوقاتها سحر
وصبا في ذيله بلل
ونسيم عرفه أرج
ورياض غصنها ثمل
ووجوه كلها غرر
وكلام كله مثل
وفي برجة يقول بعضهم:
إذا جئت برجة مستوفزا
فخذ في المقام وخل السفر
فكل مكان بها جنة
وكل طريق إليها سفر
واعلم أنه لو يكن للأندلس من الفضل سوى كونها ملاعب الجياد للجهاد، لكان كافيا، ويرحم الله لسان الدين بن الخطيب، حيث كتب على لسان سلطانه إلى بعض العلماء العاملين ما فيه إشارة إلى بعض ذلك ما نصه: من أمير المسلمين فلان إلى الشيخ كذا ابن الشيخ كذا وصل الله له سعادة تجذبه، وعناية إليه تقربه وقبولا منه يدعوه إلى خير ما عند الله ويندبه، سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله المرشد المثيب، السميع المجيب، معود اللطف الخفي، والصنع العجيب المتكفل بإنجاز وعد النصر العزيز والفتح القريب، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله ذي القدر الرفيع والعز المنيع والجناب الرحيب، الذي به نرجو ظهور عبدة الله على عبدة الصليب، ونستظهر منه على العدو بالحبيب، ونعده عدتنا لليوم العصيب، والرضا عن آله وصحبه الذين فازوا بمشاهدته بأوفى النصيب، ورموا إلى هدف مرضاته بالسهم المصيب، فإنا كتبناه إليكم، كتب الله تعالى لكم عملا صالحا يختم الجهاد صحائف بره، وتتمخض لأن تكون كلمة الله هي العليا جوامع أمره، وجعلكم ممن تهنى في الأرض التي فتح فيها أبواب الجنة مدة عمره، من حمراء غرناطة، حرسها الله تعالى، ولطف الله هامي السحاب، وصنعه رائق الجناب، والله يصل لنا ولكم ما عوده من صلة لطفه، عند انبتات الأسباب، وإلى هذا أيها المولى الذي هو بركة المغرب المشار إليه بالبنان، وواحده في رفعة الشأن المؤثر ما عند الله على الزخرف الفتان، المتفلل من المتاع الفان، المستشرف إلى مقام العرفان، من درج الإسلام والإيمان والإحسان، فإننا لما نؤثره من بركم الذي نعده من الأمر الأكيد ونضمره من ودكم الذي نحله محل الكنز العتيد، ونلتمسه من دعائمكم التماس العدة والعديد، لا نزال نسأل عن أحوالكم التي ترقت في أطوار السعادة، ووصلت جناب الحق بهجر العادة، وألقت إلى يد التسليم لله والتوكل عليه بالمقادة، فنسر بما هيأ الله تعالى لكم من القبول وبلغكم من المأمول، وألهمكم من الكلف بالقرب إليه والوصول، والفوز بما لديه والحصول، وعندما رد الله تعالى علينا الرد الجميل، وأنالنا فضله الجزيل، وكان لعثارنا المقيل، خاطبناكم بذلك لمكانكم من ودادنا، ومحلكم من حسن اعتقادنا، ووجهنا إلى وجهة دعائكم وجه اعتدادنا، والله ينفعنا بجميل الظن في دينكم المتين، وفضلكم المبين، ويجمع الشمل بكم في الجهاد عن الدين، وتعرفنا الآن بمن له بأنبائكم اعتناء، وعلى جلالكم حمد وثناء، ولجناب ودكم اعتزاء وانتماء، بتجاول عزمكم بين حج مبرور ترغبون من أجره في ازدياد، وتجدون العهد منه بأليف اعتياد وبين رباط في سبيل الله وجهاد، وتوثير مهاد، بين ربا أثيرة عند الله ووهاد، يحشر يوم القيامة شهداؤها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ، فرحين بما آتاهم الله من فضله، والله أصدق القائلين الصادقين، حيث لا غارة لعدو الإسلام تتقى، إلا لابتغاء ما لدى الله يرتقي، حيث رحمة الله قد فتحت أبوابها، وحور الجنان قد زينت أترابها، دار العرب الذين قرعوا باب الفتح، وفازوا بجزيل المنح، وخلدوا الآثار، وأرغموا الكفار، وأقالوا العثار، وأخذوا الثار، وأمنوا من لفح جهنم، بما علا على وجوههم من ذلك الغبار، فكتبنا إليكم هذا نقوى بصيرتكم، على جهة الجهاد من العزمين، ونهب بكم إلى إحدى الحسنيين، والصبح غير خاف على ذي عينين والفضل ظاهر لإحدى المنزلتين، فإنكم إن حججتم أعدتم فرضا أديتموه، وفضلا أرتديتموه، فائدته عليكم مقصورة، وقضيته فيكم محصورة. وإذا أقمتم الجهاد، جلبتم إلى حسناتكم عملا غريبا، واستأنفتم سعيا من الله قريبا، وتعدت المنفعة إلى ألوف من النفوس، المستشعرة لبأس البوس، ولو كان الجهاد بحيث يخفى عليكم فضله لأطنبنا، وأعنة الاستدلال أرسلنا. هذا لو قدمتم على هذا الوطن، وفضلكم غفل من الاشتهار، ومن به لا يوجب لكم ترفيع المقدار، فكيف وفضلكم أشهر من محيا النهار، ولقاؤكم أشهى الآمال وآثر الأوطار؟! فإن قوي عزمكم، والله يقويه، ويعيننا من بركم على ما ننويه، فالبلاد بلادكم، وما فيها طريقكم وتلادكم وكهولها إخوانكم، وأحداثها أولادكم، ونرجو أن تجدوا لذكركم الله في رباها حلاوة زائدة، ولا تعدموا من روح الله فائدة، وتتكيف نفسكم فيها بكيفيات تقصر عنها خلوات السلوك إلى ملك الملوك، حتى تغتبطوا بفضل الله الذي يوليكم، وتروا أثر رحمته فيكم، وتخلفوا فخر هذا الانقطاع إلى الله في قبيلكم وبنيكم، وتختموا العمل الطيب بالجهاد الذي يعليكم، ومن الله تعالى يدنيكم، فنبيكم العربي، صلوات الله عليه وسلامه، نبي الرحمة والملاحم، ومعمل الصوارم، وبجهاد الفرنج ختم عمل جهاده، والأعمال بالخواتم، هذا على بعد بلادهم من بلاده، وأنتم أحق الناس باقتفاء جهاده، والاستباق إلى آماده.
هذا ما عندنا حثثناكم عليه، وندبناكم إليه، وأنتم في إيثار هذا الجوار، ومقارضة ما عندنا بقدومكم على بلادنا من الاستبشار، بحسب ما يخلق عنكم من بيده مقادة الاختيار، وتصريف الليل والنهار ، وتقليب القلوب وإجالة الأفكار، وإذ تعارضت الحظوظ فما عند الله خير للأبرار، والدار الآخرة دار القرار، وخير الأعمال عمل أوصل إلى الجنة وباعد من النار، ولتعلموا أن نفوس أهل الكشف والاطلاع، بهذه الأرجاء والأصقاع، قد اتفقت أخبارها، واتحدت أسرارها، على البشارة بفتح قرب أوانه، وأظل زمانه. فنرجو الله أن تكونوا ممن يحضر مدعاه، ويكرم فيه مسعاه، ويسلف فيه العمل الذي يشكره الله ويرعاه، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.
ولما دخل الأندلس أمير المسلمين علي ابن أمير المسلمين يوسف بن ناشفين اللمتوني، ملك المغرب والأندلس، وأمعن النظر فيها، وتأمل وصفها وحالها، قال: إنها تشبه عقابا مخالبه طليطلة، وصدره قلعة رباح، ورأسه جيان، ومنقاره غرناطة وجناحه الأيمن باسط إلى المغرب، وجناحه الأيسر باسط إلى المشرق ... في خبر طويل لم يحضرني الآن، إذ تركته مع كتبي بالمغرب، جمعني الله بها على أحسن الأحوال.
ومع كون أهل الأندلس سباق حلبة الجهاد، مهطعين إلى داعيه من الجبال والوهاد، فكان لهم في الترف والنعيم والمجون، ومداراة الشعراء، خوف الهجاء، محل وثير المهاد. وسيأتي في الباب السابع من هذا القسم من ذلك وغيره ما يشفي ويكفي، ولكن سنح لي أن أذكر هنا حكاية أبي بكر المخزومي الهجاء المشهور، الذي قال فيه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة: إنه كان أعمى شديد الشر، معروفا بالهجاء، مسلطا على الأعراض، سريع الجواب، ذكي الذهن، فطنا للمعارض سابقا في ميدان الهجاء، فإذا مدح ضعف شعره.
والحكاية هي ما حكاه أبو الحسن بن سعيد في الطالع السعيد إذ قال، حكاية عن أبيه فيما أظن: قدم المذكور، يعني المخزومي، على غرناطة أيام ولاية أبي بكر ابن سعيد، ونزل قريبا مني، وكنت أسمع به: نار صاعقة يرسلها الله على من يشاء من عباده، ثم رأيت أن أبدأه بالتأنيس والإحسان، فاستدعيته بهذه الأبيات:
يا ثانيا للمعرى
في حسن نظم ونثر
وفرط ظرف ونبل
وغوص فهم وفكر
صل ثم واصل حفيا
بكل بر وشكر
وليس إلا حديث
كما زها عقد در
وشادن يتغنى
على رباب وزمر
وما يسامح فيه الغف
ور من كأس خمر
وبيننا عهد حلف
لياسر حلف كفر
نعم فجدده عهدا
بطيب سكر ويسر
والكأس مثل رضاع
ومن كمثلك يدري؟
ووجه له الوزير أبو بكر بن سعيد عبدا صغيرا قاده. فلما استقر به المجلس، وأفغمته روائح الند والعود والأزهار، وهزت عطفه الأوتار، قال:
دار السعيدي ذي؟ أم دار رضوان؟
ما تشتهي النفس فيها حاضر دان!
سقت أباريقها للند سحب ندى
تحدى برعد لأوتار وعيدان
والبرق من كل دن ساكب مطرا
يحيي به ميت أفكار وأشجان
هذا النعيم الذي كنا نحدثه
ولا سبيل له إلا بآذان
فقال أبو بكر بن سعيد: وإلى الآن لا سبيل له إلا بآذان؟ فقال: حتى يبعث الله ولد زنا كلما أنشدت هذه الأبيات قال إنها لأعمى. فقال: أما أنا فلا أنطق بحرف. فقال: من صمت نجا.
وكانت نزهون بنت القلاعي حاضرة فقالت: وتراك يا أستاذ، قديم النعمة بمجرد ند وغناء وشراب، فتعجب من تأنيه، وتشبهه بنعيم الجنة، ويقول ما كان يعلم إلا بالسماع، ولا يبلغ إليه بالعيان! ولكن من يجيء من حصن المدور، وينشأ بين تيوس وبقر، من أين له معرفة بمجالس النعيم؟! فلما استوفت كلامها تنحنح الأعمى، فقالت له: ذبحة! فقال: من هذه الفاضلة؟ فقالت عجوز مقام أمك! فقال: كذبت! ما هذا صوت عجوز ... الخ. ثم قال:
على وجه نزهون من الحسن مسحة
وإن كان قد أمسى من الضوء عاريا
قواصد نزهون توارك غيرها
ومن قصد البحر استقل السواقيا (وطوينا هنا بعض محاضرات لا صلة لها بموضوعنا من جغرافية البلاد إلى أن يقول):
والذي رأيته لبعض مؤرخي المغرب في سرقسطة أنها لا تدخلها عقرب ولا حية إلا ماتت من ساعتها، ويؤتى بالحيات والعقارب إليها حية، فبنفس ما تدخل إلى جوف البلد تموت. قال ولا يتسوس فيها شيء من الطعام، ولا يعفن، ويوجد فيها القمح من مائة سنة، والعنب المعلق من ستة أعوام، والتين والخوخ وحب الملوك
633
والتفاح والأجاص اليابسة من أربعة أعوام ، والفول والحمص من عشرين سنة ، ولا يسوس فيها خشب ولا ثوب، كان صوفا أو حريرا أو كتانا. وليس في بلاد الأندلس أكثر فاكهة منها، ولا أطيب طعما، ولا أكبر جرما. والبساتين محدقة بها من كل ناحية ثمانية أميال، ولها أعمال كثيرة، مدن وحصون وقرى، مسافة أربعين ميلا، وهي تضاهي مدن العراق في كثرة الأشجار والأنهار، وبالجملة فأمرها عظيم. وقد أسلفنا ذكرها.
واعلم أن بأرض الأندلس من الخصب والنضرة وعجائب الصنائع وغرائب الدنيا ما لا يوجد مجموعه غالبا في غيرها. فمن ذلك ما ذكره الحجاري في المسهب أن السمور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة، يوجد في البحر المحيط بالأندلس من جهة جزيرة برطانية، ويجلب إلى سرقسطة ويصنع بها. ولما ذكر ابن غالب وبر السمور الذي يصنع بقرطبة قال: هذا السمور المذكور هنا لم أتحقق ما هو، ولا ما عني به، إن كان هو نباتا عندهم، أو وبر الدابة المعروفة، فإن كانت الدابة المعروفة فهي دابة تكون في البحر وتخرج إلى البر، وعندها قوة ميز. وقال حامد بن سمحون الطبيب، صاحب كتاب الأدوية المفردة: هو حيوان يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلا خصاه، فيخرج الحيوان من البحر في البر، فيؤخذ وتقطع خصاه ويطلق، فربما عرض للقناصين مرة أخرى، فإذا أحس بهم وخشي أن لا يفوتهم، استلقى على ظهره وفرج بين فخذيه، ليرى موضع خصييه خاليا، فإذا رآه القناصون كذلك تركوه. قال ابن غالب ويسمى هذا الحيوان أيضا «الجند بادستر» والدواء الذي يصنع من خصييه من الأدوية الرفيعة، ومنافعه كثيرة، وخاصيته في العلل الباردة، وهو حار يابس في الدرجة الرابعة. «والقنلية»؟ حيوان أدق من الأرنب، وأطيب في الطعم، وأحسن وبرا، وكثيرا ما يلبس فراؤها، ويستعملها أهل الأندلس من المسلمين والنصارى، ولا يوجد في بر البربر، إلا ما جلب منها إلى سبتة، فنشأ في جوانبها. قال ابن سعيد: وقد جلبت في هذه المدة إلى تونس حضرة أفريقية.
ويكون بالأندلس من الغزال والأيل وحمار الوحش وبقره وغير ذلك مما لا يوجد في غيرها كثيرا. وأما الأسد فلا يوجد فيها البتة، ولا الفيل، ولا الزرافة وغير ذلك، مما يكون في أقاليم الحرارة. ولها سبع يعرف «باللب»
634
أكبر بقليل من الذئب، في نهاية من القحة، وقد يفترس الرجل، إذا كان جائعا. وبغال الأندلس فارهة، وخيلها ضخمة الأجسام، حصون للقتال لحملها الدروع وثقال السلاح والعدو في خيل البر الجنوبي. ولها من الطيور الجوارح وغيرها ما يكثر ذكره ويطول، وكذلك حيوان البحر. ودواب بحرها المحيط في نهاية من الطول والعرض قال ابن سعيد: عاينت من ذلك العجب، والمسافرون في البحر يخافون منها، لئلا تقلب المراكب، فيقطعون الكلام، ولها نفخ بالماء من فيها يقوم في الجو، ذا ارتفاع مفرط.
وقال ابن سعيد: قال المسعودي في مروج الذهب: في الأندلس من أنواع الأفاوية خمسة وعشرون صنفا: منها السنبل، والقرنفل، والصندل والقرفة، وقصب الذريرة، وغير ذلك. وذكر ابن غالب أن المسعودي قال: أصول الطيب خمسة أصناف: المسك، والكافور، والعود، والعنبر، والزعفران. وكلها من أرض الهند إلا الزعفران والعنبر، فإنهما موجودان في أرض الأندلس، ويوجد العنبر في أرض الشحر: قال ابن سعيد: وقد تكلموا في أصل العنبر: فذكر بعضهم أنه عيون تنبع في قعر البحر، يصير منها ما تبلعه الدواب وتقذفه. قال الحجاري: ومنهم من قال إنه نبات في قعر البحر، وقد تقدم قول الرازي: إن المحلب، وهو المقدم في الأفاوية، والمفضل في أنواع الأشنان، لا يوجد في شيء من الأرض إلا بالهند والأندلس. قال ابن سعيد: وفي الأندلس مواضع ذكروا أن النار إذا أطلقت فيها فاحت بروائح العود، وما أشبهه. وفي جبل شلير أفاوية هندية. قال: وأما الثمار وأصناف الفواكه فالأندلس أسعد بلاد الله بكثرتها، ويوجد في سواحلها قصب السكر، والموز، ويوجدان في الأقاليم الباردة، ولا يعدم منها التمر. ولها من أنواع الفواكه ما يعدم في غيرها أو يقل كالتين القوطي والتين السفري بأشبيلية. قال ابن سعيد: وهذان صنفان لم تر عيني، ولم أذق لهما، منذ خرجت من الأندلس، ما يفضلهما. وكذلك التين المالقي والزبيب المنكبي
635
والزبيب العسلي والرمان السفري
636
والخوخ والجوز واللوز وغير ذلك مما يطول ذكره.
وقد ذكر ابن سعيد أيضا: أن الأرض الشمالية المغربية فيها المعادن السبعة، وأنها في الأندلس التي هي بعض تلك الأرض. وأعظم معدن للذهب بالأندلس، في جهة «شنت ياقور»
637
قاعدة الجلالقة على البحر المحيط. وفي جهة قرطبة الفضة والزئبق والنحاس في شمال الأندلس كثير، والصفر الذي يكاد يشبه الذهب، وغير ذلك من المعادن المتفرقة في أماكنها، والعين التي يخرج منها الزاج في لبلة مشهورة، وهو كثير مفضل في البلاد، منسوب لجبل طليطلة جبل الطفل
638
الذي يجهز إلى البلاد، ويفضل على كل طفل بالمشرق والمغرب.
وبالأندلس عدة مقاطع للرخام. وذكر الرازي: أن بجبل قرطبة مقاطع الرخام الأبيض الناصع اللون والخمري وفي «ناشرة» مقطع عجيب للعمد و«بباغة» من مملكة غرناطة مقاطع للرخام كثيرة غريبة، موشاة في حمرة وصفرة وغير ذلك من المقاطع التي بالأندلس من الرخام الحالك والمجزع وحصى المرية يحمل إلى البلاد فإنه كالدر في رونقه، وله ألوان عجيبة. ومن عادتهم أن يضعوه في كيزان الماء وفي الأندلس من الأمتان التي تنزل من السماء القرمز الذي ينزل على شجرة البلوط فيجمعه الناس من الشعراء ويصبغون به فيخرج منه اللون الأحمر، الذي لا تفوقه حمرة.
قال ابن سعيد: وإلى مصنوعات الأندلس ينتهي التفضيل، وللمتعصبين لها في ذلك كلام كثير، فقد اختصت المرية ومالقة ومرسية بالموشى المذهب الذي يتعجب من صنعته أهل المشرق إذا رأوا منه شيئا وفي «نيشتالة»
639
من عمل مرسية تعمل البسط التي يغالى في ثمنها بالمشرق، ويصنع في غرناطة وبسطة من ثياب اللباس المحررة، الصنف الذي يعرف بالملبد المخثم، ذو الألوان العجيبة. ويصنع في مرسية من الأسرة المرصعة والحصر الفتانة الصنعة، وآلات الصفر والحديد من السكاكين، والمقاص المذهبة، وغير ذلك من آلات العروس والجندي ما يبهر العقل، ومنها تجهز هذه الأصناف إلى بلاد أفريقية وغيرها، ويصنع بها وبالمرية ومالقة الزجاج الغريب العجيب، وفخار مزجج مذهب، ويصنع بالأندلس نوع من المفضض المعروف بالمشرق بالفسيفساء، ونوع يبسط به في قاعات ديارهم، يعرف بالزليجي ، يشبه المفضض. وهو ذو ألوان عجيبة، يقيمونه مقام الرخام الملون، الذي يصرفه أهل المشرق في زخرفة بيوتهم، كالشاذروان وما يجري مجراه.
وأما آلات الحرب من التراس والرماح والسروج والألجم والدروع والمغافر، فأكثرهم أهل الأندلس، فيما حكى ابن سعيد، كانت مصروفة إلى هذا الشأن، ويصنع فيها في بلاد الكفر ما يبهر العقول. قال: والسيوف البردليات مشهورة بالجودة، وبرديل
640
آخر بلاد الأندلس من جهة الشمال والمشرق. والفولاذ الذي بأشبيلية إليه النهاية. وفي أشبيلية من دقائق الصنائع ما يطول ذكره. وقد أفرد ابن غالب في «فرحة الأنس» للآثار الأولية التي بالأندلس من كتابه مكانا فقال: منها ما كان من جلبهم الماء من البحر الملح إلى الأرحى
641
التي «بطركونة» على وزن لطيف، وتدبير محكم، حتى طحنت به، وذلك من اعجب ما صنع. ومن ذلك ما صنعه الأولون أيضا من جلب الماء من البحر المحيط إلى جزيرة قادس، من العين التي في إقليم الأصنام، جلبوه في جوف البحر في الصخر المجوف، ذكرا في أنثى، وشقوا به الجبال، فإذا وصلوا به إلى المواضع المنخفضة بنوا له قناطر على حنايا، فإذا جاوزها واتصل بالأرض المعتدلة رجعوا إلى البنيان المذكور، فإذا صادف مسبخة بنى له رصيف وأجري عليه هكذا إلى أن انتهى به إلى البحر، ثم دخل به في البحر وأخرج في جزيرة قادس، والبنيان الذي دخل عليه الماء في البحر ظاهر بين. قال ابن سعيد: إلى وقتنا هذا.
ومنها الرصيف المشهور بالأندلس، قال في بعض أخبار رومية: أنه لما ولى يوليش المعروف بجاشر، وابتدأ بتذريع الأرض وتكسيرها، كان ابتداؤه بذلك من مدينة رومية، إلى المشرق منها وإلى المغرب، وإلى الشمال وإلى الجنوب، ثم بدأ بفرش المبطلة، وأقبل بها على وسط دائرة، إلى أن بلغ بها أرض الأندلس، وركزها شرقي قرطبة، ببابها المتطامن المعروف بباب عبد الجبار، ثم ابتدأها من باب القنطرة قبلي قرطبة، إلى شقندة، إلى أستجة، إلى قرمونة، إلى البحر، وأقام على كل ميل سارية قد نقش عليها اسمه، من مدينة رومية، وذكر أنه أراد تسقيفها في بعض الأماكن، راحة للخاطرين
642
من وهج الصيف، وهول الشتاء، ثم توقع أن يكون ذلك فسادا في الأرض، وتغييرا للطرق، عند انتشار اللصوص، وأهل الشر فيها في المواضع المنقطعة النائية عن العمران، فتركها على ما هي عليه.
وذكر في هذه الآثار صنم قادس الذي ليس له نظير إلا الصنم الذي بطرف جليقية. وذكر قنطرة طليطلة، وقنطرة السيف، وقطرة ماردة، وملعب مربيطر.
643
قال ابن سعيد: وفي الأندلس عجائب. منها الشجرة التي لولا كثرة ذكر العامة لها بالأندلس ما ذكرتها، فإن خبرها عندهم شائع متواتر، وقد رأيت من يشهد بخبرها ورؤيتها، وهم جم غفير، وهي شجرة زيتون، تصنع الورق والنور والثمر من يوم واحد معلوم عندهم، من أيام السنة الشمسية.
644
ومن العجائب: السارية التي بغرب الأندلس، يزعم الجمهور أن أهل ذلك المكان إذا أحبوا المطر أقاموها، فمطر الله جهتهم؟ ومنها صنم قادس، طول ما كان قائما، كان يمنع الريح أن تهب في البحر المحيط، فلا تستطيع المراكب الكبار على الجري فيه، فلما هدم في أول دولة بني عبد المؤمن، صارت السفن تجري فيه؟ وبكورة «قبرة» مغارة ذكرها الرازي، وحكى أنه يقال إنها باب من أبواب الريح، لا يدرك لها قعر؟ وذكر الرازي أن في جهة قلعة «ورد» جبلا فيه شق في صخرة، داخل كهف، فيه فأس حديد متعلق من الشق الذي في الصخرة، تراه العيون وتلمسه اليد، ومن رام إخراجه لم يطق ذلك، وإذا رفعته اليد ارتفع وغاب في شق الصخرة، ثم يعود إلى حالته.
645
وأما ما أورده ابن بشكوال من الأحاديث والآثار في شأن فضل الأندلس والمغرب، فقد ذكرها ابن سعيد في كتابه المغرب، ولم أذكرها أنا. والله أعلم بحقيقة أمرها.
وكذلك ما ذكره ابن بشكوال من أن فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس قال: وذكره سيف عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، والله أعلم بصحة ذلك. ولعل المراد بالقسطنطينية رومية والله أعلم. قال سيف: وذلك أن عثمان ندب جيشا من القيروان إلى الأندلس، وكتب لهم:
أما بعد ، فإن فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس، فإنكم إن فتحتموها، كنتم الشركاء في الأجر والسلام. ا.ه.
قلت عهدة هذه الأمور على ناقلها، وأنا برئ من عهدتها،
646
وإن ذكرها ابن بشكوال وصاحب المغرب وغير واحد، فإنها عندي لا أصل لها، وأي وقت بعث عثمان إلى الأندلس؟ مع أن فتحها بالاتفاق إنما كان زمان الوليد! وإنما ذكرت هذه للتنبيه عليه لا غير. والله أعلم.
قال ابن سعيد: وميزان وصف الأندلس؛ أنها جزيرة قد أحدقت بها البحار، فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جهة، فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة، ما بين قرى ومياه ومزارع، والصحاري فيها معدومة.
647
ومما اختصت به أن قراها في نهاية من الجمال، لتصنع أهلها في أصناعها وتبييضها، لئلا تنبو العيون عنها، فهي كما يقول الوزير بن الخمارة فيها:
لاحت قراها بين خضرة أيكها
كالدر بين زبرجد مكنون
ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدر العين بسوادها، ويضيق الصدر بضيق أوضاعها. وفي الأندلس جهات تقرب فيها المدينة العظيمة الممصرة من مثلها. والمثال في ذلك أنك إذا توجهت من أشبيلية فعلى مسيرة يوم وبعض آخر، مدينة شريش، وهي في نهاية من الحضارة والنضارة، ثم يليها الجزيرة الخضراء كذلك، ثم مالقة. وهذا كثير في الأندلس. ولهذا كثرت مدنها، وأكثرها مسور من أجل الاستعداد للعدو، فحصل لها بذلك التشييد والتزيين، وفي حصونها ما يبقى في محاربة العدو ما ينيف على عشرين سنة، لامتناع معاقلها، ودربة أهلها على الحرب، واعتيادهم لمجاورة العدو بالطعن والضرب، وكثرة ما تتخزن الغلة في مطاميرها، فمنها ما يطول صبره عليها نحوا من مائة سنة.
قال ابن سعيد: ولذلك أدامها الله تعالى من وقت الفتح إلى الآن، وإن كان العدو قد نقصها من أطرافها، وشارك في أوساطها، ففي البقية منعة عظيمة، فأرض بقي فيها مثل أشبيلية، وغرناطة، ومالقة، والمرية، وما ينضاف إلى هذه الحواضر العظيمة الممصرة، الرجاء قوي فيها بحول الله وقوته. انتهى. قلت قد خاب ذلك الرجاء ،
648
وصارت تلك الأرجاء للكفر معرجا ، ونسأل الله تعالى، الذي جعل للهم فرجا، وللضيق مخرجا، أن يعيد إليها كلمة الإسلام، حتى يستنشق أهله منه فيها أرجا. آمين! (ومن غرائب الأندلس) البيلتان
649
اللتان بطليطلة، صنعهما عبد الرحمن، لما سمع بخبر الطلسم الذي بمدينة أرين من أرض الهند. وقد ذكره المسعودي، وأنه يدور بأصبعه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. فصنع هو هاتين البيلتين خارج طليطلة، في بيت مجوف، في جوف النهر الأعظم، في الموضع المعروف بباب الدباغين ومن عجبهما أنهما يمتلئان وينحسران مع زيادة القمر ونقصانه، وذلك أن أول انهلال الهلال يخرج فيهما يسير ماء، فإذا أصبح، كان فيهما سبعهما من الماء، فإذا كان آخر النهار كمل فيها نصف سبع ولا يزال كذلك بين اليوم والليلة نصف سبع حتى يكمل في الشهر سبعة أيام وسبع ليال، فيكون فيهما نصفهما، ولا تزال كذلك الزيادة نصف سبع في اليوم والليلة، حتى يكمل امتلاؤها بكمال القمر، فإذا كان في ليلة خمسة عشر، وأخذ القمر في النقصان، نقصتا بنقصان القمر كل يوم وليلة نصف سبع. فإذا كان تسعة وعشرون من الشهر لا يبقى فيهما شيء من الماء. وإذا تكلف أحد حين ينقصان أن يملأهما، وجلب لهما الماء، ابتلعتا ذلك من حينهما حتى لا يبقى فيهما إلا ما كان فيهما في تلك الساعة. وكذا لو تكلف عند امتلائهما إفراغهما، ولم يبق منهما شيئا، ثم رفع يده عنهما، خرج فيهما من الماء ما يملأهما في الحين. وهما أعجب من طلسم الهند، لأن ذلك في نقطة الاعتدال، حيث لا يزيد الليل على النهار. وأما هاتان فليستا في مكان الاعتدال، ولم تزالا في بيت واحد، حتى ملك النصارى، دمرهم الله! طليطلة، فأراد الفنش
650
أن يعلم حركاتهما، فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليهما الماء، وكيف الحركة فيهما، فقلعت، فبطلت حركتهما، وذلك سنة 528.
وقيل أن سبب فسادهما حنين اليهودي الذي جلب حمام الأندلس كلها إلى طليطلة في يوم واحد، وذلك سنة 527، وهو الذي أعلم الفنش أن ولده سيدخل قرطبة ويملكها، فأراد أن يكشف حركة البيلتين، فقال له: أيها الملك، أنا أقلعهما وأردهما أحسن مما كانتا، وذلك أني أجعلهما تمتلئان بالنهار وتحسران في الليل. فلما قلعت لم يقدر على ردها، وقيل أنه قلع واحدة ليسرق منها الصنعة فبطلت، ولم تزل الأخرى تعطي حركتها. والله أعلم بحقيقة الحال.
وقال بعضهم في أشبيلية: إنها قاعدة بلاد الأندلس، وحاضرتها، ومدينة الأدب واللهو والطرب، وعلى ضفة النهر الكبير، عظيمة الشأن، طيبة المكان، لها البر المديد والبحر الساكن، والوادي العظيم، وهي قريبة من البحر المحيط، إلى أن قال: ولو لم يكن لها من الشرف إلا موضع الشرف المقابل لها، المطل عليها، المشهور بالزيتون الكثير، الممتد فراسخ في فراسخ، لكفى، وبها منارة
651
في جامعها، بناها يعقوب المنصور، ليس في بلاد الإسلام أعظم بناءا منها. وعسل الشرف يبقى حينا لا يترمل ولا يتبدل، وكذلك الزيت والتين. وقال ابن مفلح: إن أشبيلية عروس بلاد الأندلس لأن تاجها الشرف، وفي عنقها سمط النهر الأعظم، وليس في الأرض أتم حسنا من هذا النهر، يضاهي دجلة والفرات والنيل، تسير القوارب فيه للنزهة والسير والصيد تحت ظلال الثمار، وتغريد الطيار، أربعة وعشرين ميلا، ويتعاطى الناس السرح من جانبيه عشرة فراسخ، في عمارة متصلة، ومنارات مرتفعة، وأبراج مشيدة، وفيه من أنواع السمك مالا يحصى، وبالجملة فهي قد حازت البر والبحر، والزرع والضرع وكثرة الثمار من كل جنس، وقصب السكر. ويجمع منها القرمز الذي هو أجل من اللك الهندي وزيتونها يخزن تحت الأرض أكثر من ثلاثين سنة، ثم يعتصر فيخرج منه أكثر مما يخرج منه وهو طري. انتهى ملخصا.
ولما ذكر ابن اليسع الأندلس قال: لا يتزود فيها أحد ما حيث سلك، لكثرة أنهارها وعيونها، وربما لقي المسافر فيها في اليوم الواحد أربع مدائن، ومن المعاقل والقرى ما لا يحصى، وهي بطاح خضر، وقصور بيض. قال ابن سعيد: وأنا أقول كلاما فيه كفاية: منذ خرجت من جزيرة الأندلس، وطفت في بر العدوة، ورأيت مدنها العظيمة كمراكش وفاس وسلا وسبته، ثم طفت في أفريقية ، وما جاورها من المغرب الأوسط ، فرأيت بجاية وتونس، ثم دخلت الديار المصرية، فرأيت الإسكندرية والقاهرة والفسطاط. ثم دخلت الشام فرأيت دمشق وحلبا وما بينهما لم أر ما يشبه رونق الأندلس في مياهها وأشجارها، إلا مدينة فاس بالمغرب الأقصى ومدينة دمشق بالشام. وفي حماة مسحة أندلسية. ولم أر ما يشبهها من حسن المباني والتشييد والتصنيع إلا ما شيد بمراكش في دولة بني عبد المؤمن،
652
وبعض أماكن في تونس وإن كان الغالب على تونس البناء بالحجارة كالإسكندرية، ولكن الإسكندرية أفسح شوارع وأبسط وأبدع، ومباني حلب داخلة فيما يستحسن لأنها من حجارة صلبة، وفي وضعها وترتيبها إتقان، انتهى. ومن أحسن ما جاء من النظم في الأندلس قول ابن سفر المريني والإحسان له عادة:
في أرض أندلس تلتذ نعماء
ولا يفارق فيها القلب سراء
وليس في غيرها بالعيش منتفع
ولا تقوم بحق الأنس صهباء
وأين يعدل عن أرض تحض بها
على المدامة أمواه وأفياء؟
وكيف لا يبهج الأبصار رؤيتها
وكل روض بها في الوشى صنعاء؟
أنهارها فضة، والمسك تربتها
والخز روضتها والدر حصباء
وللهواء بها لطف يرق به
من لا يرق وتبدو منه أهواء
ليس النسيم الذي يهفو بها سحرا
ولا انتثار لآلي الطل أنداء
وإنما أرج الند استثار بها
في ماء ورد فطابت منه أرجاء
وأين يبلغ منها ما أصنفه؟
وكيف يحوي الذي حازته إحصاء؟
قد ميزت من جهات الأرض حين بدت
فريدة وتولى ميزها الماء
دارت عليها نطاقا أبحر خفقت
وجدا بها إذ تبدت وهي حسناء
لذاك يبسم فيها الزهر من طرب
والطير يشدو وللأغصان إصغاء
فيها خلعت عذاري ما بها عوض
فهي الرياض وكل الأرض صحراء
ولله در ابن خفاجة حيث يقول:
إن للجنة بالأندلس
مجتلى مرأى وريا نفس
فسنى صحبتها من شنب
ودجى ظلمتها من لعس
فإذا ما هبت الريح صبا
صحت: وا شوقي إلى الأندلس!
وقد تقدمت هذه الأبيات. قال ابن سعيد: قال ابن خفاجة هذه الأبيات وهو بالمغرب الأقصى، في بر العدوة، ومنزله في شرق الأندلس بجزيرة شقر . وقال ابن سعيد في المغرب ما نصه: قواعد من كتاب الشهب الثاقبة، في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة، أول ما تقدم الكلام على قاعدة السلطنة بالأندلس فنقول: إنها مع ما بأيدي عباد الصليب منها، أعظم سلطنة، كثرت ممالكها، وتشعبت في وجوه الاستظهار للسلطان إعانتها، وندع كلامنا في هذا الشأن وننقل ما قاله ابن حوقل النصيبي في كتابه، لما دخلها في مدة خلافة بني مروان بها، في المائة الرابعة، وذلك أنه لما وصفها قال: وأما جزيرة الأندلس فجزيرة كبيرة، طولها دون الشهر، في عرض نيف وعشرين مرحلة، تغلب عليها المياه الجارية، والشجر والثمر، والرخص والسعة في الأحوال، من الرقيق الفاخر، والخصب الظاهر، إلى أسباب التملك الفاشية فيها، ولما هي به من أسباب رغد العيش، وسعته وكثرته، يملك ذلك منهم متهانهم، وأرباب صنائعهم، لقلة مؤنتهم، وصلاح معاشهم وبلادهم. ثم أخذ في عظم سلطانها، ووصف وفور جباياته، وعظم مرافقه، وقال في أثناء ذلك: ومما يدل بالقليل منه على كثيره، أن سكة دار ضربه على الدراهم والدنانير، دخلها في كل سنة، مائتا ألف دينار، وصرف الدينار سبعة عشر ردهما، هذا إلى صدقات البلد وجباياته، وخراجاته وأعشاره، وضماناته، والأموال المرسومة على المراكب الواردة والصادرة، وغير ذلك.
653
وذكر ابن بشكوال أن جباية الأندلس بلغت في مدة عبد الرحمن الناصر خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفا من السوق، والمستخلص
654
سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار
655
ثم قال ابن حوقل: ومن أعجب ما في هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده، مع صغر أحلام أهلها، وضعة نفوسهم، ونقص عقولهم، وبعدهم من البأس والشجاعة، والفروسية والبسالة، ولقاء الرجال، ومراس الأنجاد والأبطال، مع علم أمير المؤمنين بمحلها في نفسها، ومقدار جباياتها، ومواقع نعمها ولذاتها. قال علي بن سعيد مكمل هذا الكتاب: لم أر بدا من إثبات هذا الفصل، وإن كان على أهل بلدي فيه من الظلم والتعصب ما لا يخفى، ولسان الحال في الرد أنطق من لسان البلاغة، وليت شعري إذ سلب أهل هذه الجزيرة العقول والآراء، والهمم والشجاعة، فمن الذين دبروها بآرائهم وعقولهم، مع مراصدة أعدائها المجاورين لها من خمسمائة سنة ونيف؟ ومن الذين حموها ببسالتهم من الأمم المتصلة نهم، في داخلها وخارجها، نحو ثلاثة أشهر، على كلمة واحدة، في نصرة الصليب وإني لأعجب منه إذ كان في زمان قد دلفت فيه عباد الصليب إلى الشام والجزيرة وعاثوا كل العبث في بلاد الإسلام، حيث الجمهور والقبة العظمى، حتى إنهم دخلوا مدينة حلب، وما أدراك! وفعلوا فيها ما فعلوا، وبلاد الإسلام متصلة بها من كل جهة، إلى غير ذلك مما هو مسطور في كتب التواريخ.
ومن أعظم ذلك وأشده أنهم كانوا يتغلبون على الحصن من حصون الإسلام التي يتمكنون بها من بسائط بلادهم، فيسبون ويأسرون، فلا تجتمع همم الملوك المجاورة على حسم الداء في ذلك، وقد يستعين به بعضهم على بعض، فيتمكن من ذلك الداء الذي لا يطب.
وقد كانت جزيرة الأندلس في ذلك الزمان بالضد من البلاد التي ترك وراء ظهره، وذلك موجود في تاريخ ابن حيان وغيره. وإنما كانت الفتنة بعد ذلك. الأعلام بينة، والطريق واضح.
656
فلنرجع إلى ما نحن بسبيله.
كانت سلطنة الأندلس في صدر الفتح على ما تقدم من اختلاف الولاة عليها من سلاطين أفريقية، واختلاف الولاة داع إلى اضطراب، وعدم تأثل الأحوال وتربية الضخامة في الدولة:
657
ولما صارت الأندلس لبني أمية، وتوارثوا ممالكها، وانقاد إليهم كل أبي فيها، وأطاعهم كل عصي، عظمت الدولة بالأندلس، وكبرت الهمم، واستتبت الأحوال، وترتبت القواعد. وكانوا صدرا من دولتهم يخطبون لأنفسهم بأبناء الخلائف. ثم خطبوا لأنفسهم الخلافة، وملكوا من بر العدوة ما ضخمت به دولتهم، وكانت قواعدهم إظهار الهيبة، وتمكن الناموس من قلوب العالم، ومراعاة أحوال الشرع في كل الأمور، وتعظيم العلماء، والعمل بأقوالهم، وإحضارهم في مجالسهم، واستشارتهم، ولهم حكايات في تاريخ ابن حيان، منها ما هو مذكور من توجه الحكم على خليفتهم، أو على ابنه أو أحد حاشيته المختصين وأنهم كانوا في نهاية من الانقياد إلى الحق، لهم أو عليهم، بذلك انضبط لهم أمر الجزيرة.
ولما خرقوا هذا الناموس، كان أول ما تهتك أمرهم ثم اضمحل.
658
وكانت ألقاب الأول منهم الأمراء أبناء الخلائف، ثم الخلفاء أمراء المؤمنين. إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض، وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي رتبت عليه.
659
فاستبدت ملوك الممالك الأندلسية ببلادها، وسموا بملوك الطوائف. وكان فيهم من خطب للخلفاء المروانيين، وإن لم يبق لهم خلافة. ومنهم من خطب للخلفاء العباسيين المجمع على إمامتهم،
660
وصار ملوك الطوائف يتباهون في أحوال الملك حتى في الألقاب، فآل أمرهم إلى أن تلقبوا بنعوت الخلفاء، وترفعوا إلى طبقات السلطنة العظمى، وذلك بما في جزيرتهم من أسباب الترفه والضخامة، التي تتوزع على ملوك شتى فتكفيهم، وتنهض بهم للمباهاة.
ولأجل توثبهم على النعوت العباسية قال ابن رشيق القيرواني:
مما يزهدني في أرض أندلس
تلقيب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
وكان عباد بن محمد بن عباد قد تلقب بالمعتضد، واقتفى سيرة المعتضد العباسي أمير المؤمنين. وتلقب ابنه محمد بن عباد بالمعتمد. وكانت لبني عباد مملكة أشبيلية، ثم انضاف إليها غيرها. وكان خلفاء بني أمية يظهرون للناس في الأحيان على أبهة الخلافة، ولهم قانون في ذلك معروف إلى أن كانت الفتنة، فاذدرت العيون ذلك الناموس، واستخفت به. وقد كان بنو حمود من ولد إدريس العلوي، الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس، يتعاظمون، ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس، وكانوا إذا حضرهم منشد لمدح، أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم، يتكلم من وراء حجاب، والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقوله له الخليفة. ولما حضر ابن مقانا الأشبوني أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمودي، الذي خطب له بالخلافة في مالقة، وأنشده قصيدته المشهورة النونية التي منها قوله:
وكأن الشمس لما أشرقت
فانتشت عنها عيون الناظرين
وجه إدريس بن يحيى بن علي
بن حمود أمير المؤمنين
وبلغ فيها إلى قوله:
انظرونا نقتبس من نوركم
إنه من نور رب العالمين
رفع الخليفة الستر بنفسه وقال: انظر كيف شئت. وانبسط مع الشاعر وأحسن إليه. ولما جاء ملوك الطوائف صاروا يتبسطون للخاصة، وكثير من العامة، ويظهرون مداراة الجند وعوام البلاد، وكان أكثرهم يحاضر العلماء والأدباء، ويحب أن يشهر عند ذلك. عند مباديه في الرياسة. ومذ وقعت الفتنة بالأندلس، اعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد على إمام الجماعة، وصار في كل جهة مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة، كما يتوارث ملوكها الملك، ومرنوا على ذلك، فصعب ضبطهم إلى نظام واحد، وتمكن العدو منهم بالتفرق، وعداوة بعضهم لبعض، بقبيح المنافسة والطمع إلى أن انقادوا إلى عبد المؤمن وبنيه، وتلك القواعد في رؤوسهم كامنة، والثوار في المعاقل تثور، وتروم الكرة، إلى أن ثار ابن هود، وتلقب بالمتوكل، ووجد القلوب منحرفة عن دولة بر العدوة،
661
مهيأة للاستبداد. فملكها بأيسر محاولة، مع الجهل المفرط، وضعف الرأي. وكان مع العامة كأنه صاحب شعوذة، يمشي في الأسواق، ويضحك في وجوههم، ويبادرهم بالسؤال، وجاء للناس منه ما لم يعتادوه من سلطان، فأعجب ذلك سفهاء الناس وعامتهم العمياء، وكان كما قيل:
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها الحليم
فآل ذلك إلى تلف القواعد العظيمة، وتملك الأمصار الجليلة، وخروجها من يد الإسلام، والضابط فيما يقال في شأن أهل الأندلس في السلطان، أنهم إذا وجدوا فارسا يبرع الفرسان، أو جوادا يبرع الأجواد، تهافتوا في نصرته، ونصبوه ملكا من غير تدبير في عاقبة الأمر، إلام يؤل؟ وبعد أن يكون الملك في مملكة قد توورثت وتدوولت، ويكون في تلك المملكة قائد من قوادها، قد شهرت عنه وقائع في العدو، وظهر منه كرم نفس للأجناد، ومراعاة، قدموه ملكا في حصن من الحصون، ورفضوا عيالهم وأولادهم إن كان لهم ذلك بكرسيي الملك، ولم يزالوا في جهاد وتلاف أنفس، حتى يظفر صاحبهم بطلبته. وأهل المشرق أصوب رأيا منهم في مراعاة نظام الملك، والمحافظة على نصابه، لئلا يدخل الخلل الذي يقضي باختلال القواعد، وفساد التربية، وحل الأوضاع، ونحن نمثل في ذلك بما شاهدناه.
لما كانت هذه الفتنة الخيرة بالأندلس، تمخضت عن رجل من حصن يقال له أرجونة، ويعرف الرجل بابن الأحمر، كان يكثر مغاورة العدو من حصنه، وظهرت له مخايل وشواهد على الشجاعة، إلى أن طار اسمه في الأندلس، وآل ذلك إلى أن قدمه أهل حصنه على أنفسهم، ثم نهض فملك قرطبة العظمى، وملك أشبيلية، وقتل ملكها الباجي، وملك جيان، أحصن بلد بالأندلس، وأجله قدرا في الامتناع، وملك غرناطة ومالقة، وسموه بأمير المسلمين. فهو الآن المشار إليه بالأندلس والمعتمد عليه.
وأما قاعدة الوزارة بالأندلس فإنها كانت في مدة بني أمية مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة ويخصهم بالمجالسة، ويختار منهم شخصا لمكان النائب المعروف بالوزير، فيسميه بالحاجب، وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة
662
لذلك، إلى أن كانت ملوك الطوائف، فكان الملك منهم، لعظم اسم الحاجب في الدولة المروانية، وأنه كان نائبا عن خليفتهم يسمى بالحاجب.
663
ويرى أن هذه السمة أعظم ما تنوفس فيه وظفر به، وهي موجودة في أمداح شعرائهم وتواريخهم، وصار اسم الوزارة عاما لكل من يجالس الملوك، ويختص بهم، وصار الوزير الذي ينوب عن الملك، يعرف بذي الوزارتين،
664
وأكثر ما يكون فاضلا في علم الأدب، وقد لا يكون كذلك، بل عالما بأمور الملك خاصة.
وأما الكتابة فهي على ضربين، أعلاهما كاتب الرسائل، وله حظ في القلوب والعيون عند أهل الأندلس، وأشرف أسمائه الكاتب. وبهذه السمة يخصه من يعظمه في رسالة. وأهل الأندلس كثيرو الانتقاد على صاحب هذه السمة، لا يكادون يغفلون عن عثراته لحظة، فإن كان ناقصا عن درجات الكمال، لم ينفعه جاهه، ولا مكانه من سلطانه، من تسلط الألسن، والطعن عليه وعلى صاحبه.
والكاتب الآخر كاتب الزمام،
665
هكذا يعرفون كاتب الجهبذة، ولا يكون بالأندلس وبر العدوة، لا نصرانيا ولا يهوديا البتة، إذ هذا الشغل نبيه، يحتاج إلى صاحبه عظماء الناس ووجوههم. وصاحب الأشغال الخراجية في الأندلس أعظم من الوزير، وأكثر أتباعا وأصحابا، وأجدى منفعة، فإليه تميل الأعناق، ونحوه تمد الأكف، والأعمال مضبوطة بالشهود والنظار.
ومع هذا إن تأثلت حالته، واغتر بكثرة البناء والاكتساب، نكب وصودر. وهذا راجع إلى تقلب الأحوال، وكيفية السلطان .
وأما خطة القضاء بالأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة، لتعلقها بأمور الدين، وكون السلطان لو توجه عليه حكم حضر بين يدي القاضي، هذا وصفها في زمان بني أمية ومن سلك مسلكهم، ولا سبيل أن يتسم بهذه السمة إلا من هو وال للحكم الشرعي في مدينة جليلة، وإن كانت صغيرة، فلا يطلق على حاكمها إلا مسدد خاصة، وقاضي القضاة يقال له قاضي القضاة وقاضي الجماعة.
وأما خطة الشرطة بالأندلس فإنها مضبوطة إلى الآن، معروفة بهذه السمة، ويعرف صاحبها في ألسن العامة بصاحب المدينة، وصاحب الليل، وإذا كان عظيم القدر عند السلطان، كان له القتل لمن وجب عليه دون استئذان السلطان، وذلك قليل، ولا يكون إلا في حضرة السلطان الأعظم. وهو الذي يحد على الزنا وشرب الخمر، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه، قد صارت تلك عادة تقرر عليها رضا القاضي، وكانت خطة القاضي أوقر وأتقى عندهم من ذلك.
وأما خطة الاحتساب فإنها عندهم موضوعة في أهل العلم والفطن، وكأن صاحبها قاض، والعادة فيه أن يمشي بنفسه راكبا على الأسواق، وأعوانه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان، لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان، للربع من الدرهم رغيف، على وزن معلوم. وكذلك للثمن، وفي ذلك من المصلحة أن يرسل المتاع الصبي الصغير، أو الجارية الرعناء، فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق، في معرفة الأوزان.
وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر أو دون ما حد له المحتسب في الورقة، ولا يكاد تخفى خيانته، فإن المحتسب يدس عليه صبيا أو جارية يبتاع أحدهما منه، ثم يختبر الوزن المحتسب، فإن وجد نقصا قاس على ذلك حاله مع الناس، فلا تسأل عما يلقى! وإن كثر ذلك منه، ولم يتب بعد الضرب والتجريس في الأسواق نفي من البلد. ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه، لأنها عندهم تدخل في جميع المتاعات، وتتفرع إلى ما يطول ذكره. وأما خطة الطواف بالليل وما يقابل من المغرب أصحاب أرباع في المشرق، فإنهم يعرفون في الأندلس بالدرابين، لأن بلاد الأندلس لها دروب بإغلاق تغلق بعد العتمة، ولكل زقاق بائت فيه له سراج معلق، وكلب يسهر، وسلاح معد وذلك لشطارة عامتها، وكثرة شرهم، وإعيائهم في أمور التلصص، إلى أن يظهروا على المباني المشيدة، ويفتحوا الأغلاق الصعبة، ويقتلوا صاحب الدار، خوف أن يقر عليهم، أو يطالبهم بعد ذلك، ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع: دار فلان دخلت البارحة، وفلان ذبحه اللصوص على فراشه. وهذا يرجع التكثير منه والتقليل إلى شدة الوالي ولينه، ومع إفراطه في الشدة، وكون سيفه يقطر دما، فإن ذلك لا يعدم وقد آل الحال عندهم إلى أن قتلوا على عنقود سرقه شخص من كرم، وما أشبه ذلك ولم ينته اللصوص.
وأما قواعد أهل الأندلس في ديانتهم فإنها تختلف بحسب الأوقات والنظر إلى السلاطين، ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود، وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك وإنكاره، إن تهاون فيه أصحاب السلطان، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره، فيدخلون عليه قصره المشيد، ولا يعبئون بخيله ورجله، حتى يخرجوه من بلدهم. وهذا كثير في أخبارهم.
وأما الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال، إذا لم يعدلوا، فكل يوم. وأما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدورة التي تكسل عن الكد، وتخرج الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى النهاية. وإذا رأوا شخصا صحيحا قادرا على الخدمة يطلب، سبوه وأهانوه، فضلا عن أن يتصدقوا عليه، فلا تجد بالأندلس سائلا إلا أن يكون صاحب عذر.
وأما حال أهل الأندلس في فنون العلوم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يرى فارغا، عالة على الناس، لأن هذا عندهم في نهاية القبح. والعالم عندهم معظم من الخاصة والعامة، يشار إليه، ويحال عليه، وينبه قدره وذكره عند الناس، ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك. ومع هذا فليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم، بل يقرأون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرأون لأن يعلموا، لا لأن يأخذوا جاريا. فالعالم منهم بارع لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه، يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، وينفق من عنده، حتى يعلم، وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم، ولا يتظاهرون بها خوف العامة، فإنه كلما قيل يقرأ الفلسفة، أو يشتغل بالتنجيم، اطلعت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت على أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة، أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربا لقلوب العامة. وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن، على ما ذكره الحجاري، والله أعلم.
وقراءة القرآن
666
بالسبع ورواية الحديث عندهم رفيعة، وللفقه رونق ووجاهة ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك،
667
وخواصهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به بمحاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم. وسمة الفقيه عندهم جليلة، حتى أن المسلمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه، وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه، لأنها عندهم أرفع السمات.
668
وعلم الأصول عندهم متوسط الحال. والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة، حتى أنهم في هذا العصر فيه منهم كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدة، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه، كمذاهب الفقه. وكل عالم في أي علم لا يكون متمكنا من علم النحو، بحيث لا تخفى عليه الدقائق، فليس عندهم بمستحق للتمييز، ولا سالم من الازدراء، مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عما تقتضيه أوضاع العربية، حتى لو أن شخصا من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي علي المشار إليه بعلم النحو في عصرنا الذي غربت تصانيفه وشرقت، وهو يقرئ درسه، لضحك بملء فيه، من شدة التحريف الذي في لسانه . والخاص منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه،
669
ولكن ذلك مراعى عندهم في القراءات والمخاطبات في الرسائل. وعلم الأدب المنثور من حفظ التاريخ والنظم والنثر، ومستظرفات الحكايات، أنبل علم عندهم، وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهم ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل. والشعر عندهم له حظ عظيم وللشعراء من ملوكهم وجاهة، ولهم عليهم حظ ووظائف، والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة، ويوقع لهم بالصلات على أقدارهم، إلا أن يختل الوقت، ويغلب الجهل في حين ما، ولكن هذا الغالب. وإذا كان الشخص بالأندلس نحويا أو شاعرا فإنه يعظم في نفسه لا محالة، ويستخف ويظهر العجب، عادة قد جبلوا عليها.
وأما زي أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم، لا سيما في شرق الأندلس، فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيا ولا فقيها مشارا إليه إلا وهو بعمامة. وقد تسامحوا بشرقها في ذلك، ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان، وإليه الإشارة، وقد خطب له بالملك في تلك الجهة؛ وهو حاسر الرأس، وشيبه قد غلب على سواد شعره.
وأما الأجناد وسار الناس فقليل منهم من تراه بعمة، في شرق منها أو في غرب وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا، رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده، وكثيرا ما يتزيا سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم،
670
فسلاحهم كسلاحهم، وأقبيتهم في الأشكرلاط وغيره كأقبيتهم، وكذلك أعلامهم وسروجهم. ومحاربتهم بالتراس والرماح الطويلة للطعن، ولا يعرفون الدبابيس، ولا قسي العرب، بل يعدون قسي الإفرنج للمحاصرات في البلاد، أو تكون للرجالة عند المصافقة للحرب، وكثير ما تصبر الخيل عليهم أو تمهلهم لأن يؤثروها.
ولا تجد في خواص الأندلس وأكثر عوامهم من يمشي دون طيلسان، إلا أنه لا يضعه على رأسه منهم إلا الأشياخ المعظمون. وغفائر الصوف كثيرا ما يلبسونها حمرا وخضرا، والصفر مخصوصة باليهود ، ولا سبيل ليهودي أن يتعمم البتة. والذؤابة لا يرخيها إلا العالم، ولا يصرفونها بين الأكتاف، وإنما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى، وهذه الأوضاع التي بالمشرق في العمائم لا يعرفها أهل الأندلس، وإن رأوا في رأس مشرقي داخل إلى بلادهم شكلا منها أظهروا التعجب والاستظراف، ولا يأخذون أنفسهم بتعليمها، لأنهم لم يعتادوا ولم يستحسنوا إلا أوضاعهم. وكذلك في تفصيل الثياب.
وأهل الأندلس أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه، فيطويه صائما، ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها. وهم أهل احتياط وتدبير في المعاش، وحفظ لما في أيديهم، خوف ذل السؤال، فلذلك قد ينسبون للبخل. ولهم مروآت على عادة بلادهم، لو فطن لها حاتم لفضل دقائقها على عظائمه. ولقد اجتزت مع والدي على قرية من قراها، وقد نال منا البرد والمطر أشد النيل، فأوينا إليها وكنا على حال ترقب من السلطان، وخلو من الرفاهية، فنزلنا في بيت شيخ من أهلها من غير معرفة متقدمة فقال لنا: إن كان عندكم ما أشتري لكم به فحما تسخنون به، فإني أمضي في حوائجكم، وأجعل عيالي يقومون بشأنكم، فأعطيناه ما اشترى به فحما. فأضرم نارا، فجاء ابن له صغير ليصطلي، فضربه، فقال له والدي: لم ضربته؟ فقال: يتعلم استغنام أموال الناس، والضجر للبرد من الصغر. ثم لما جاء النوم قال لابنه: أعط هذا الشاب كساءك الغليظة يزيدها على ثيابه. فدفع كساءه إلي. ثم لما قمنا عند الصباح وجدت الصبي منتبها، ويده في الكساء، فقلت ذلك لوالدي فقال: هذه مروآت أهل الأندلس، وهذا احتياطهم أعطاك الكساء وفضلك على نفسه، ثم أفكر في أنك غريب، لا يعرف هل أنت ثقة أو لص، فلم يطب له منام حتى يأخذ كساءه، خوفا من انفصالك بها وهو نائم. وعلى هذا الشيء الحقير فقس الشيء الجليل.
انتهى كلام ابن سعيد في المغرب باختصار يسير. ولله دره، فإنه أبدع في هذا الكتاب ما شاء ، وقسمه إلى أقسام، منها:
كتاب وشي الطرس، في حلي جزيرة الأندلس.
وهو ينقسم إلى أربعة كتب:
الكتاب الأول:
كتاب حلي العرس، في حلي غرب الأندلس.
الكتاب الثاني:
كتاب الشفاه اللعس، في حلي موسطة الأندلس.
الكتاب الثالث:
كتاب الأنس، في حلي شرق الأندلس.
الكتاب الرابع:
كتاب لحظات المريب، في ذكر ما حماه من الأندلس عياد الصليب.
والقسم الثاني:
كتاب الألحان المسلية في حلي جزيرة صقلية. وهو أيضا ذو أنواع.
والقسم الثالث:
كتاب الغاية الأخيرة في حلي الأرض الكبيرة. وهو أيضا ذو أقسام. وصور رحمه الله تعالى أجزاء الأندلس في كتاب وشي الطرس. وقال أيضا: إن كلا من شرق الأندلس وغربها ووسطها يقرب في قدر المساحة بعضه من بعض، وليس فيها جزء يجاوز طوله عشرة أمتار ليصدق التثليث في القسمة، وهذا دون ما بقي بأيدي النصارى. وقدم رحمه الله كتاب حلي العرس، في حلي غرب الأندلس، لكون قرطبة قطب الخلافة المروانية، وأشبيلية التي ما في الأندلس أجمل منها فيه. وقسمه إلى سبعة كتب، كل كتاب منها يحتوي على مملكة منحازة عن الأخرى:
الكتاب الأول:
كتاب الحلة المذهبة، في حلي مملكة قرطبة.
الكتاب الثاني:
كتاب الذهبية الأصيلية، في حلي المملكة الأشبيلية.
الكتاب الثالث:
كتاب خدع الممالقة، في حلي مملكة مالقة.
الكتاب الرابع:
كتاب الفردوس، في حلي مملكة بطليوس.
الكتاب الخامس:
كتاب الخلب، في حلي مملكة شلب.
الكتاب السادس:
كتاب الديباجة، في حلي مملكة باجة.
الكتاب السابع:
كتاب الرياض المصونة، في حلي مملكة أشبونة.
وقد ذكر رحمه الله تعالى في كل قسم ما يليق به، وصور أجزاءه على ما ينبغي. فالله يجازيه خيرا، والكلام في الأندلس طويل عريض.
وقال بعض المؤرخين: طول الأندلس ثلاثون يوما، وعرضها تسعة أيام، ويشقها أربعون نهرا كبارا، وبها من العيون والحمامات والمعادن ما لا يحصى، وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار، وأزيد من ثلثمائة من المتوسطة، وفيها من الحصون والقرى والبروج ما لا يحصى كثرة، حتى قيل إن عدد القرى التي على نهر أشبيلية اثنا عشر ألف قرية. وليس في معمور الأرض صقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعا من يومه إلا بالأندلس.
ومن بركتها أن المسافر لا يسافر فيها فرسخين دون ماء أصلا. وحيثما سار في الأقطار يجد الحوانيت في الفلوات والصحاري والأودية ورؤس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وغير ذلك من ضروب الأطعمة.
وذكر صاحب الجغرافيا أن جزيرة الأندلس مسيرة يوما طولا، في ثمانية عشر يوما عرضا، وهو مخالف لما سبق. وقال ابن سيده:
أخذت الأندلس في عرض الإقليمين الخامس والسادس من البحر الشامي في الجنوب، إلى البحر المحيط في الشمال، وبها من الجبال سبعة وثمانون جبلا. ا.ه.
ولبعضهم:
لله أندلس وما جمعت بها
من كل ما ضمت لها الأهواء
فكأنما تلك الديار كواكب
وكأنما تلك البقاع سماء
وبكل قطر جدول في جنة
ولعت به الأفياء والأنداء
وقال آخر:
حبذا أندلس من بلد
لم تزل تنتج لي كل سرور
طائر شاد، وظل وارف
ومياه سابحات في قصور
وقال آخر:
يا حسن أندلس وما جمعت لنا
فيها من الأوطار والأوطان
تلك الجزيرة لست أنسى حسنها
بتعاقب الأحيان والأزمان
نسج الربيع نباتها من سندس
موشية ببدائع الألوان
وغدا النسيم بها عليلا هائما
بزيوعها، وتلاطم البحران
يا حسنها والطل ينثر فوقها
دررا خلال الورد والريحان
وسواعد الأنهار قد مدت إلى
ندمائها بشقائق النعمان
وتجاوبت فيها شوادي طيرها
والتفت الأغصان بالأغصان
ما زرتها إلا وحياني بها
حدق البهار وأنمل السوسان
من بعدها ما أعجبتني بلدة
مع ما حللت به من البلدان
وحكى بعضهم أن بالجامع في مدينة أقليش بلاطا فيه جوائز منشورة مربعة مستوية الأطراف، طول الجائزة منها مائة شبر وأحد عشر شبرا. وفي الأندلس جبل من شرب من مائة كثر عليه الاحتلام من غير إرادة ولا تفكر، وفيها غير ذلك مما يطول ذكره. والله أعلم. انتهى. (6) ما قاله المسعودي في مروج الذهب عن الأندلس
وصاحب الأندلس كان يدعى لذريق، هذا كان اسم ملوك الأندلس، وقد قيل إنهم كانوا من الأسبان، وهم أمة من ولد يافث ابن نوح ، واتصلت هنالك، والأشهر عند من سكن الأندلس من المسلمين أن لذريق كان من ملوك الأندلس الجلالقة، وهم نوع من الإفرنجة، وأخو لذريق الذي كان بالأندلس قتله
671
طارق مولى موسى بن نصير حين افتتح بلاد الأندلس، ودخل إلى مدينة طليطلة، وكانت قصبة الأندلس ودار مملكتهم، ويشقها نهر عظيم تاجه، يخرج من بلاد الجلالقة «والوسقيد»
672
وهي أمة عظيمة، لهم ملوك، وهم حرب لأهل الأندلس كالجلالقة والإفرنجة. ويصب هذا النهر في البحر الرومي
673
وهو موصوف بأنه من أنهار العالم، وعليه على بعد من طليطلة قنطرة عظيمة تدعى قنطرة السيف، بنتها الملوك السالفة، وهي من البنيان المذكور والموصوف، أعجب من قنطرة سنجة
674
من الثغر الجزري، مما يلي سميساط من بلاد سرحة.
ومدينة طليطلة ذات منعة، وعليها أسوار منيعة، وأهلها بعد أن فتحت وصارت لبني أمية قد كانوا عصوا على الأمويين، فأقامت مدة سنين ممتنعة، لا سبيل للأمويين إليها فلما كان بعد الخمس عشرة وثلثماية، فتحها عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وعبد الرحمن هذا هو صاحب الأندلس في هذا الوقت،
675
وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وقد كان غير كثيرا من بنيان هذه المدينة حين افتتحها. وصارت دار مملكة الأندلس قرطبة إلى هذا الوقت.
ومن قرطبة إلى مدينة طليلطلة نحو من سبع مراحل، ومن قرطبة إلى البحر مسيرة نحو من ثلاثة أيام، ولهم على بحر تونس من الساحل مدينة يقال لها أشبيلية.
وبلاد الأندلس مسيرة عمائرها ومدنها نحو من شهرين، ولهم من المدن الموصوفة نحو من أربعين مدينة. وتدعى بنو أمية بالخلائف، ولا يخاطبون بالخلفاء، لأن الخلافة لا يستحقها عندهم إلا من كان مالكا للحرمين، غير أنه يخاطب بأمير المؤمنين
676
وقد كان عبد الرحمن بن معاوية، أو هشام بن عبد الملك بن مروان سار إلى الأندلس في سنة تسع وثلاثين ومائة، فملكها ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر. ثم هلك فملكها ابنه هشام بن عبد الرحمن سبع سنين. ثم ملكها ابنه الحكم بن هشام نحوا من عشرين سنة، وولده ولاتها إلى اليوم، على ما ذكرنا أن صاحبها عبد الرحمن ابن محمد. وولي عبد الرحمن في هذا الوقت فتاه الحكم، وكان أحسن الناس سيرة وأجملهم عدلا. وقد كان عبد الرحمن صاحب الأندلس في هذا الوقت المقدم ذكره غزا سنة سبع وعشرين وثلثمائة في أزيد من مائة ألف فارس من الناس، فنزل على دار مملكة الجلالقة، وهي مدينة يقال لها سمورة، عليها سبعة أسوار من عجيب البنيان، قد أحكمتها الملوك السالفة، بين الأسوار فصلان وخنادق، ومياه واسعة، فافتتح منها سورين، ثم إن أهلها ثاروا على المسلمين، فقتلوا منهم، ممن أدرك الإحصاء، وممن عرف، أربعين ألفا، وقيل خمسين ألفا. وكانت الجلالقة والوسكيد على المسلمين وآخر ما كان بأيدي المسلمين من مدن الأندلس وثغورها مما يلي الإفرنجة مدينة أربونة، خرجت عن أيدي المسلمين من مدائن الألس وثغورها سنة ثلاثين وثلثمائة، مع غيرها مما كان في أيديهم من المدن والحصون. وبقي ثغر المسلمين في هذا الوقت، وهو سنة ست وثلاثين وثلثمائة من شرقي الأندلس، طرطوشة، وعلى ساحل بحر الروم مما يلي طرطوشة آخذا في الشمال «إفراغه»
677
على نهر عظيم، ثم لاردة. ثم بلغني عن هذه الثغور أنها تلاقي الإفرنجة وهي أضيق مواضع الأندلس. وقد كان قبل الثلثمائة ورد إلى الأندلس مراكب في البحر فيها ألوف من الناس أغارت على سواحلهم، زعم أهل الأندلس أنهم ناس من المجوس،
678
تطرأ إليهم في هذا البحر في كل مائتين من السنين، وأن وصولهم إلى بلادهم من خليج يعترض من بحر أوقيانوس، وليس بالخليج الذي عليه المنارة النحاس. وأرى، والله أعلم، أن هذا الخليج متصل ببحر مانطش
679
ونيطش، وأن هذه الأمة هم الروس الذين قدمنا ذكرهم في ما سلف من هذا، إذ كان لا يقطع هذه البحار المتصلة ببحر أوقيانوس غيرهم. (7) قول القلقشندي في صبح الأعشى عن الأندلس
قال في الجزء الخامس تحت عنوان «المملكة السادسة من ممالك بلاد المغرب جزيرة الأندلس» قال في تقويم البلدان: وجزيرة الأندلس على شكل مثلث: ركن جنوبي غربي، وهناك جزيرة قادس، وفم بحر الزقاق. وركن شرقي، بين طركونة، وبين برشلونة، وهي في جنوبيه، وبالقرب من بلنسية وطرطوشة وجزيرة ميورقة. وركن شمالي بميلة إلى البحر المحيط، حيث الطول عشر درجات ودقائق، والعرض ثمان وأربعون. وهناك بالقرب من الركن المذكور مدينة شنتياقوه، وهي على البحر المحيط في شمالي الأندلس وغربيها. قال:
والضلع الأول
من الركن الجنوبي الغربي - وهو عند جزيرة قادس - إلى الركن الشرقي الذي عند ميورقة، وهذا الضلع هو ساحل الأندلس الجنوبي الممتد على بحر الزقاق.
والضلع الثاني
من الركن الشرقي المذكور إلى الركن الشمالي الذي عند شنتياقوه. وهذا الضلع هو حد الأندلس الشمالي، ويمتد على الجبل المعروف بجبل ألبرت
680 ، الحاجز بين الأندلس وبين أرض تعرف بالأرض الكبيرة. وعلى ساحل الأندلس الممتد على بحر برديل.
والضلع الثالث
من الركن الشمالي المذكور إلى الركن الجنوبي المقدم الذكر، وهذا الضلع هو ساحل الأندلس الغربي الممتد على البحر المحيط.
قال ابن سعيد: قال الحجاري: وطول الأندلس من جبل ألبرت الفاصل بين الأندلس والأرض الكبيرة، وهو نهاية الأندلس الشرقية إلى أشبونة، وهي في نهاية الأندلس الغربية، ألف ميل. وعرض وسطه، من بحر الزقاق إلى البحر المحيط، عند طليطلة وجبل ألبرت، ستة عشر يوما. قال في تقويم البلدان: وقد قيل: إن طوله غربا وشرقا من أشبونة، وهي في غرب الأندلس إلى أربونة، وهي في شرق الأندلس، مسيرة ستين يوما، وقيل شهر ونصف. وقيل: شهر. قال: وهو الأصح.
واعلم أن جبل ألبرت المقدم ذكره متصل من بحر الزقاق إلى البحر المحيط، وطوله أربعون ميلا، وفيه أبواب فتحها الأوائل، حتى صار للأندلس طريق في البر وفي وسط الأندلس جبل ممتد من الشرق إلى الغرب، يقال له جبل الشارة، يقسمه بنصفين: نصف جنوبي ونصف شمالي. اه. ثم ذكر القلقشندي أهم حواضر الأندلس وسنأثر عنه ما نجده جديرا بالنقل، وذلك عند وصولنا إليها. (8) ما قاله ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب
في سنة أربع وثمانين افتتح موسى بن نصير أوروبا من المغرب، وبلغ عدد السبي خمسين ألفا. ا.ه. سمي الأندلس أوروبا، من باب تسمية البعض باسم الكل.
وذكر في حوادث سنة 87 فتح سردانية من المغرب. وفي حوادث 89 فتح جزيرتي ميورقة ومنورقة. وقال عن حوادث 92: فيها افتتح إقليم الأندلس على يد طارق مولى موسى بن نصير، وتمم موسى فتحه في ثلاث سنوات. وذكر في حوادث سنة 172 موت صاحب الأندلس أبي المطرف عبد الرحمن بن معاوية بن الخليفة هشام بن عبد الملك الأموي الدمشقي المعروف بالداخل وقال إنه: فر إلى المغرب عند زوال دولتهم، فقامت معه اليمانية، وحارب يوسف الفهري، متولي الأندلس، وهزمه، وملك قرطبة في يوم الأضحى سنة ثمان وثلاثين ومائة. وامتدت أيامه، وكان عالما، حسن السيرة، وعاش اثنتين وستين سنة. وولى بعده ابنه هشام، وبقيت الأندلس لعقبه إلى حدود الأربعمائة الخ. (9) قول المقدسي في جغرافيته الشهيرة المسماة «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»
ذكر المقدسي الأندلس في جملة إقليم المغرب، بدأ بأفريقية، أي مملكة تونس الحاضرة، وتقدم إلى المغرب الأوسط، وكان يسمى في ذلك الوقت إقليم تاهرت ثم تقدم إلى سجلماسة، وفاس، والسوس الأقصى. ثم ذكر جزيرة صقلية، وبعد أن عدد مدنها بدأ بالأندلس فقال: وأما الأندلس فنظيرها هيطل من جانب المشرق، غير أنا لم نقف على نواحيها فنكورها، ولم ندخلها فنقسمها. ويقال إنها ألف ميل. وقال ابن خرداذبة: الأندلس أربعون مدينة، يعني المشهور منها، لأن أحدا لم يسبقنا إلى تفصيل الكور، ووضع القصبات، فبعض المدن التي ذكر هي قصبات، على قياس ما رتبنا.
وسألت بعض العقلاء منهم عن الرساتيق المحيطة بقرطبة، والمنسوبة إليها والمدن فقال: إنا نسمي الرستاق إقليما، فالأقاليم المحيطة بقرطبة ثلاثة عشر مع مدنها، فذكر «أرجونة» «قسطلة» «شوذر» «مارتش» «قنبانش» «فج ابن لقيط» «بلاط مروان» «حصن بلكونة» «الشنيدة» «وادي عبد الله» «قرسيس» «المائدة» «جيان» - وعلى ما دل آخر الاسم هي ناحية مدنها الجفر - «بيغو» «مارتش» «قانت» «غرناتة» «منتيشة» «بياسة» وسائر مدن أندلس المذكورة «طرطوشة» «بلنسية» «مرسية» «بجانة» «مالقة» «جزيرة جبل طارق» «شذنة» «إشبيلية» «أخشنبة» «مرية » «شنترين» «باحة» «لبلة» «قرمونة» «مورور» «إستجة».
ثم عاد بعد قليل فذكر الأندلس بشيء من التفصيل فقال: قرطبة هي مصر الأندلس سمعت بعض العثمانية يقول: هي أجل من بغداد. في صحراء يطل عليها جبل، ولها مدينة جوانية، وربض الجامع في المدينة وأسواق. وأغلب الأسواق ودار السلطان في الربض. قدامها واد عظيم، سطوحهما قراميد. الجامع من حجر وجير. سواريه رخام. حواليه مياض.
وللمدينة خمسة أبواب: باب الحديد، باب العطارين، باب القنطرة، باب اليهود، عامر. وقد دلت الدلائل، واتفقت الآراء على انه مصر جليل، رفق طيب، وأن ثم عدلا، ونظرا، وسياسة، وطيبة، ونعما ظاهرة، ودينا، وأن ناحية الأندلس على سجية «هيطل»
681
أبدا ثم غزاة، أبدا في جهاد ونفير
682
مع علم كثير، وسلطان خطير، وخصائص، وتجارات، وفوائد.
وحدثني بعض الأندلسيين أنها ثلاثة عشر رستاقا على خمسة عشر ميلا «أرجونة» مسورة، ليس لها بساتين وأشجار، لكنها بلد الحبوب، ولهم عيون، ومزارعهم على المطر، و«قسطلة» على ثلاثة عشر ميلا من أرجونة، وهي في سهلة كثيرة الأشجار والزيتون والكرمات، ومشاربهم من آبار، ويسقون البساتين بالسواقي. و«شوذر» على ثمانية عشر ميلا من قرطبة، وهي في سهلة كثيرة الزيتون جدا، شربهم من أعين، «مارتش» على خمسة عشر ميلا من قرطبة، وهي جبلية، ليس لها غير الكرمات، ولهم أعين. و«قنبانش» على خمسة عشر ميلا، وهي سهيلة، ذات مزارع أكثرها بموضع يقال له «قنبانية» مشاربهم من آبار. و«فج ابن لقيط» على خمسة وعشرين ميلا في سهلة كثيرة المزارع، شربهم من آبار. و«بلاط مروان» على ثلاثين ميلا، لها واد جرار، سهيلة، ذات مزرع. و«بريانة» ذات مزارع سهيلة، شربهم من آبار، وفيها حصن من حجارة، والربض حوله، والجامع في الحصن، والأسواق في الربض. وحصن «بلكونة» كثير الزيتون والأشجار، والعيون، مسورة بحجارة، شربهم من عين واحدة وآبار، على أربعين ميلا من قرطبة، و«الشنيدة» على جبل، كثيرة الكروم والمزارع والعنب، شربهم من أعين وآبار، على يومين من قرطبة، المنزل فج ابن لقيط. و «وادي عبد الله» من نحو القبلة، على أربعين ميلا من قرطبة. المنزل «وادي الرمان» سهيلة ذات مزارع وأنهار وأشجار. و«قرسيس» على ستين ميلا من قرطبة، سهيلة كثيرة التين والأعناب والزيتون الكبير، شربهم من أعين. و«جيان» على خمسين ميلا من قرطبة، اسم الرستاق «أولبة» ومدينة جيان على جبل، كثيرة العين، قد خرب حصنها، غير أنها منيعة بالجبل، بها اثنتا عشرة عينا، ثلاث عليها أرحية، تقوم بالأندلس، ومن ثم ميرة قرطبة، وثمارها كثيرة، وصف ما شئت من طيبها ورحبها، فإنها جنة الأندلس على ما حكي لي. ودل آخر الاسم على أنها ناحية بنيانهم بالحجارة، باردة كثيرة الرياح، وبكورتها حر، هي في عداد النواحي قياسا على ما رتبنا. ومدنها الجفر،
683
على الجبل، كثيرة الأودية والأرحبة، على عشرة أميال من جيان، كلها أشجار وثمار، وزيتون وأعناب، على واد تجمع الفواكه. و«بيغو» وهي جبلية لها أودية تخر منها عيون تدير الأرحية، كثيرة التوت والزيتون والتين. و«مارتش» مسورة على جبل، شربهم من أعين، كثيرة التين والزيتون والكروم. «قانت» مسورة في قنبانية، لا بساتين لها زاكية. و«غرناطة» على واد به منية، طوله ثلاثة عشر ميلا للسلطان، فيه من كل الثمار حسن عجيب، سهيلة كثيرة المزارع. قلت: وما المنية؟ قال البستان.
684 «منتيشة» مسورة على واد كثيرة الزيتون والتين سهيلة. و«بياسة» مسورة في جبل، بناؤهم طين، وشربهم من أعين، كثيرة التين والكرمات. قلت: هل بقي لقرطبة غير هذه الرساتيق والمدن؟ قال: لا. قلت: فأشبيلية وبجانة ... وذكرت عدة من البلدان. قال: هذه نواح لها أقاليم، كما تقول: القيروان وتاهرت وسجلماسة وهم يسمون الرستاق إقليما. فعلمت أنها كور على قياسنا، وأنها إن لم تكن أجل من كور هيطل فليست بأقل منها.
فيحصل القول، وتثبت الدلائل، على أن مثل المغرب كمثل المشرق، كل واحد منهما جانبان: فكما أن المشرق خراسان وهيطل يفصل بينهما جيحون، فكذلك المغرب والأندلس يفصل بينهما بحر الروم.
غير أنا نعجز عن تكوير الأندلس، فتركناها على الجملة، ووصفنا كورة قرطبة لما كثر المخبرون عنها، واتضح عندنا أمرها. وعرضت كتابي على شيخ من مشايخهم فقال: على هذا القياس يجب أن تكون الأندلس ثماني عشرة كورة، فعد بجانة، مالقة، بلنسية، تدمير، سرقوسة،
685
يابسة، وادي الحجارة، تطيلة، وشقة، مدينة سالم، طليطلة، إشبيلية، بطليوس، باجة، قرطبة، شذونة، الجزيرة الخضراء، وسألت آخر فقال: صدق، وزاد لبيرة، خشنبة. ويجوز أن يكون بعض هذه البلدان نواحي، قياسا على يلاق وكش والصفانيان. والله أعلم بالصواب.
ثم ذكر المقدسي جمل شؤون هذا الإقليم فقال: هو إقليم جليل كبير طويل يوجد فيه أكثر ما يوجد في سائر الأقاليم، مع الرخص، كثير النخيل والزيتون، به مواضع الحر، ومعادن البرد، كثير اليهود، جيد الهواء والماء.
فأما الحر فإنك تجده من مصر إلى السوس الأقصى، إلا في مواضع، فإن بها جبلا وبلدانا باردة، والغالب على الأندلس البرد، كثير المجذمين، والخصيان، والثقلاء، والبخلاء، قليل القصاص، رفق، يحبون العلم وأهله، ويكثرون التجارات والتغرب.
وأما المذاهب فعلى ثلاثة أقسام: أما في الأندلس فمذهب مالك وقراءة نافع. وهم يقولون: لا نعرف إلا كتاب الله وموطأ مالك. فإن ظهروا على حنفي أو شافعي نفوه، وإن عثروا على معتزلي أو شيعي ونحوهما ربما قتلوه. وبسائر المغرب إلى مصر لا يعرفون مذهب الشافعي (رحه) إنما هو أبو حنيفة ومالك (رحمهما). وكنت يوما أذاكر بعضهم في مسألة فذكرت قول الشافعي (رحه) فقال: اسكت! من هو الشافعي؟ إنما كانا بحرين: أبو حنيفة لأهل المشرق، ومالك لأهل المغرب، أفنتركهما ونشتغل بالساقية؟ ورأيت أصحاب مالك (رحه) يبغضون الشافعي قالوا: أخذ العلم عن مالك ثم خالفه.
وما رأيت فريقين أحسن اتفاقا وأقل تعصبا منهم، وسمعتهم يحكون عن قدمائهم في ذلك حكايات عجيبة، حتى قالوا إنه كان الحاكم سنة حنفي، وسنة مالكي. قلت: وكيف وقع مذهب أبي حنيفة (رحه) إليكم ولم يكن على سابلتكم؟ وقالوا: لما قدم وهب بن وهب من عند مالك (رحه) وقد حاز من العلوم والفقه ما حاز استنكف أسد بن عبد الله أن يدرس عليه، لجلالته وكبر نفسه، فرحل إلى المدينة ليدرس على مالك، فوجده عليلا، فلما طال مقامه عنده قال له: ارجع إلى ابن وهب فقد أودعته علمي وكفيتكم به الرحلة، فصعب ذلك على أسد، وسأل: هل يعرف لمالك نظير؟ فقالوا: فتى بالكوفة يقال له محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة. قالوا: فرحل إليه وأقبل عليه محمد إقبالا لم يقبله أحد، ورأى فهما وحرصا، فزقه الفقه زقا، فلما علم أنه قد استقل وبلغ مراده فيه، سيبه إلى المغرب، فلما دخل اختلف إليه الفتيان، ورأوا فروعا حيرتهم، ودقائق أعجبتهم، ومسائل ما طنت على أذن بن وهب وتخرج به الخلق، وفشا مذهب أبي حنيفة (رحه) بالمغرب قلت: فلم لم يفش بالأندلس؟ قالوا: لم يكن بالأندلس أقل منه ههنا، ولكن تناظر الفريقان يوما بين يدي السلطان فقال لهم: من أين كان أبو حنيفة؟ قالوا: من الكوفة. فقال: مالك؟ قالوا: من المدينة. قال: عالم دار الهجرة يكفينا؟ فأمر بإخراج أصحاب أبي حنيفة. وقال: لا أحب أن يكون في عملي مذهبان. وسمعت هذه الحكايات من عدة من مشايخ الأندلس.
والقسم الثالث مذاهب الفاطمي، وهي على ثلاثة أقسام: أحدها ما قد اختلف فيه الأئمة مثل القنوت في الفجر، والجهر بالبسملة، والوتر بركعة، وما أشبه ذلك. والثاني الرجوع إلى ما كان عليه السلف، مثل الإقامة مثنى التي ردها بنو أمية إلى واحدة، ومثل لبس البياض الذي رده بنو العباس إلى السواد، والثالث ما تفرد به مما لا يخالف الأئمة، وإن لم يعرف له قدمة، مثل الحيملة في الآذان، وجعل أول الشهر يوما يرى فيه الهلال، وصلاة الكسوف بخمس ركعات وسجدتين في كل ركعة وهذه مذاهب الشيعة، ولهم تصانيف يدرسونها.
ونظرت في كتاب «الدعائم» فإذا هم يوافقون المعتزلة في أكثر الأصول ويقولون بمذهب الإسماعيلية. ولهم فيه سر لا يعلمونه ولا يأخذونه على كل أحد، إلا من وثقوا به، بعد أن يحلفوه ويعاهدوه. وإنما سموا باطنية لأنهم يصرفون ظاهر القرآن إلى بواطن، وتفاسير غريبة، ومعان دقيقة. وهذه الأصول مذاهب الإدريسية وغلبتهم بكورة السوس الأقصى، وهي قريبة من مذاهب القرامطة.
وأهل المغرب والمشرق في مذاهب الفاطمي على ثلاثة أقسام : منهم من أقر بها واعتقدها. ومنهم من كفر بها وأنكرها. ومنهم من جعلها في اختلاف الأمة. وأكثر أهل أصقلية حنفيون. وقرأت في كتاب صنفه بعض مشايخ الكرامية بنيسابور أن بالمغرب سبعمائة خانقاه لهم، فقلت لا والله ولا واحدة!
وأما القراءات في جميع الإقليم فقراءة نافع حسب الرسوم، لا يشهد في هذه الأقاليم الستة إلا معدل، وحضرنا يوما
686
ملاكا فأمرني أبو الطيب حمدان أن أكتب شهادتي، فهنيت بذلك، ولا يأخذون الميت إلا من الرأس أو الرجلين، ويصلون كل ترويحة ويجلسون، ولا يسلخون الأغنام إذا شووها، ويدخلون الحمامات بلا مآزر إلا القليل، وبالمغرب رسومهم مصرية، إلا أنهم قل ما يتطلسون وكثيرا ما يجعلون الرداء بطاقين ثم يطرحونه على ظهورهم مثل العباة، أصحاب قلانس مصبغة، والبربر ببرانس سود، وأهل الرساتيق بأكسية، والسوقة بمناديل، والتجار يركبون أحمرة مصرية وبغالا، وكل مصاحفهم ودفاترهم مكتوبة في رقوق، وأهل الأندلس أحذق الناس في الوراقة، خطوطهم مدورة، وبه تجارات تحمل من برقة ثياب الصوف والأكسية، ومن أصقلية الثياب المقصورة الجيدة، ومن أفريقية الزيت والفستق، والزعفران، واللوز، والبرقوق، والمزاود، والأنطاع والقرب، ومن فاس التمور، وجميع ما ذكرنا، ومن الأندلس بز كثير، وخصائص وعجائب، ومن خصائص الإقليم المرجان، يخرج من جزيرة في البحر اسم مدينتها مرسى الخرز، يدخل إليها في طريق دقيق كالمهدية، من بحرها يرتفع القرن، وهو المرجان، لا معدن له غيرها. وهي جبال في البحر، يخرجون إلى جمعه في قوارب، ومعهم صلبان من خشب قد لفوا عليها شيئا من الكتان المحلول، وربطوا في كل صليب حبلين، يأخذهما رجلان، فيرميان بالصليب. ويدير النواتي القارب، فيتعلق بالقرن ثم يجذبونه، فمنهم من يخرج عشرة آلاف إلى عشرة دراهم. ثم يجلى في أسواق لهم، ويباع جزافا رخيصا، ولا إشراق له قبل جليه ولا لون. وبتطيلة سمور كثير.
687
وبالأندلس السفن
688
الذي يتخذ منه مقابض السيوف. ويقع إليهم من البحر المحيط عنبر كثير في وقت من السنة، ويرتفع من أصقلية نوشاذر كثير أبيض. وسمعت أنه قد انقطع معدنه، واستغنى عنه أهل مصر بدخان الحمامات .
وأما الأرطال فكانت بغدادية في الإقليم كله، إلا الذي يوزن به الفلفل، فإنه يشف على البغدادي بعشرة دراهم. والآن هو المستعمل في أعمال الفاطمي بالمغرب كله. والمكاييل قفيز القيروان اثنان وثلاثون ثمنا، والثمن ستة أمداد بمد النبي
صلى الله عليه وسلم . وقفيز الأندلس ستون رطلا، والربع ثمانية عشر رطلا. وفنيقة نصف القفيز. ومكاييل الفاطمي الدوار، وهي التي تشف على ويبة مصر بشيء يسير قد ألجم رأسها بعارضة من حديد، وأقيم عمود من قاعها إلى العارضة فوقه حديد يدور على رأس الويبة، فإذا أترعها أدار الحديد، فمسحت فم الويبة، وصح الكيل. وأرطاله رصاص على كل رطل اسم أمير المؤمنين، فإن اجتمعت أرطال بموضع واحد بسيط صبها، وطبع على كل رطل، ولو كانت عشرة.
وأما نقوده في جميع أعماله إلى أقصى دمشق فالدينار، يزل عن المثقال بحبة، أعني شعيرة، والسكة مدورة الكتابة. وله ربع صغير يؤخذان بالعدد. والدرهم أيضا زال له نصف يسمونه القيراط، وربع، وثمن، ونصف ثمن، يسمونه الخرنوبة، يؤخذ الجميع بالعدد. ولا يرخصون في المعاملة بالقطع، وسنجهم
689
من زجاج مطبوع، كما ذكرنا من الأرطال. ورطل مدينة تونس اثنتا عشرة أوقية، والوقية اثنا عشر درهما.
والعجائب بهذا الإقليم كثيرة، منها أبو قلمون، وهي دابة تحتك بحجارة على شط البحر فيقع منها وبرها، وهو في لين الخز، لونه لون الذهب، لا يغادر منه شيئا، وهو عزيز الوجود، فيجمع وينسج منه ثياب تتلون في اليوم ألوانا، ويمنع السلطان من حمل ذلك إلى البلدان، إلا ما يخفى عنهم، ربما بلغ الثوب عشرة آلاف دينار.
بأصقلية جبل تفور منه النار أربعة أشهر، في كل عشر سنين مرة، وسائر الأوقات يدخن، وحوله ثلوج متلبدة، إلا موضع الدخان.
بمدينة «إيكجا» عيون تخرج أوقات الصلاة ثم تغور. فإن قصدها رجل كان قد قتل نفسا بغير حق لم يخرج له شيء.
فإن قال القائل: إنك تركت كثيرا من العجائب في هذا الإقليم لم تذكرها. قيل له: إنما تركنا ما ذكره من قبلنا في تصانيفهم . ومن مفاخر كتابنا الإعراض عما ذكره غيرنا. وأوحش شيء في كتبهم ضد ما ذكرنا. ألا ترى أنك إذا نظرت في كتاب الجبهاني وجدته قد احتوى على جميع أصل ابن خرداذبه، وبناه عليه، وإذا نظرت في كتاب ابن الفقيه، فكأنما أنت ناظر في كتاب الجاحظ والزيج الأعظم، وإذا نظرت في كتابنا وجدته يسبح وحده يتيما في نظمه. ولو وجدنا رخصة في ترك جمع هذا الأصل ما اشتغلنا به، ولكن لما بلغنا الله تعالى أقاصي الإسلام، وأرانا أسبابه، وألهمنا قسمته، وجب أن ننهي ذلك إلى كافة المسلمين. ألا ترى إلى قوله تعالى:
قل سيروا في الأرض
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا
لمن اعتبر وفوائد لمن سافر. (10) مما قاله عن الأندلس لسان الدين بن الخطيب
وقال لسان الدين بن الخطيب السلماني عن مملكة غرناطة، وقوله هذا في الأحوال الاجتماعية يصدق على جميع الأندلس: أحوال أهل هذا القطر في الدين، وصلاح العقائد أحوال سنة، والنحل فيهم معروفة، فمذاهبهم على مذهب مالك بن أنس إمام دار الهجرة جارية. وطاعتهم للأمراء محكمة. وأخلاقهم في احتمال المعاون الجبائية جميلة. وصورهم حسنة. وأنوفهم معتدلة غير حادة. وشعورهم سود مرسلة. وقدودهم متوسطة معتدلة، إلى القصر. وألوانهم زهر مشربة بحمرة. وألسنتهم فصيحة عربية يتخللها أعراب كثير، وتغلب عليهم الأمالة
690
وأخلاقهم أبية في معاني المنازعات. وأنسابهم عربية، وفيهم من البربر والمهاجرة كثير. ولباسهم الغالب على طرقاتهم الفاشي بينهم الملف المصبوغ شتاء، وتتفاضل أجناس البز بتفاضل الجدة والمقدار والكتان والحرير والقطن والموعر والأردية الإفريقية والمقاطع التونسية والمآزر المشقوقة صيفا، فتبصرهم في المساجد أيام الجمع كأنهم الأزهار المفتحة في البطاح الكريمة، تحت الأهوية المعتدلة. أنسابهم حسبما يظهر من الإشتراءات والبياعات السلطانية والإجازات عربية يكثر فيها القرشي.
691
والفهري.
692
والأموي.
693
والأنصاري.
694
والأوسي.
695
والخزرجي.
696
والقحطاني.
697
والحميري.
698
والمخزومي.
699
والتنوخي.
700
والغساني.
701
والأزدي.
702
والقيسي.
703
والمعافري.
704
والكناني.
705
والتميمي.
706
والهذلي.
707
والبكري.
708
والكلابي.
709
والنمري.
710
واليعمري.
711
والمازني.
712
والثقفي.
713
والسلمي.
714
والفزاري.
715
والباهلي.
716
والعبسي.
717
والعنسي.
718
والعذري.
719
والحجبي.
720
والضبي.
721
والسكوني.
722
والتيمي.
723
والعبشمي.
724
والمري.
725
والعقيلي.
726
والفهمي.
727
والصريحي.
728
والجزلي.
729
والقشيري.
730
والكلبي.
731
والقضاعي.
732
والأصبحي.
733
والمرادي.
734
والرعيني.
735
واليحصبي.
736
والتجيبي.
737
والصدفي .
738
والغافقي.
739
والحضرمي.
740
واللخمي.
741
والجذامي.
742
والسلولي .
743
والحكمي.
744
والهمداني.
745
والمذحجي.
746
والخشني.
747
والبلوي.
748
والجهني.
749
والمزني.
750
والطائي.
751
والأسدي.
752
والأشجعي.
753
والعاملي.
754
والخولاني.
755
والإيادي.
756
والليثي.
757
والخثعمي.
758
والسكسكي.
759
والزبيدي.
760
والثعلبي.
761
والكلاعي.
762
والدوسي.
763
والحواري.
764
والسلماني.
765
هذا ويرد كثير من شهادتهم، ويقل من ذلك السلمي نسبا والدوسي والحواري والزبيدي، ويكثر فيهم كالأنصاري والحميدي
766
والجذامي والقيسي والغساني. وكفى بهذا شاهدا على الأصالة ودليلا على العروبة.
وجندهم صنفان: أندلسي، وبربري. والأندلسي منهم يقودهم رئيس من القرابة وحصي
767
من شيوخ الممالك، وزيهم في القديم شبه زي أقيالهم وأضدادهم من جيرانهم الفرنج: إسباغ الدروع، وتعليق الترسة، وجفاء البيضات، واتخاذ عراض الأسنة، وبشاعة قرابيس السروج، واستركاب حملة الرايات خلفه، كل منهم بصفة تختص بسلاحه، وشهرة يعرف بها. ثم عدلوا الآن عن هذا الذي ذكرنا إلى الجواشن المختصرة، والبيض المرهفة، والدرق العربية، والسهام اللمطية،
768
والأسل العطفية.
والبربري يرجع إلى قبائله المرينية، والزنانية، والنجانية، والمغراوية، والعجيسية والعرب المغربية، إلى أقطاب ورؤوس يرجع أمرهم إلى رئيس على رؤسائهم، وقطب لعرفائهم، من كبار القبائل المرينية، يمت إلى ملك المغرب بنسب. والعمائم تقل في زي هذه الحضرة، إلا ما شذ في شيوخهم وقضاتهم وعلمائهم والجند العربي منهم. وسلاح جموعهم العصى الطويلة المثناة بعصى صغار ذوات عرى في أوساطها، ترفع بالأنامل عند قذفها، تسمى «بالأمداس» وقسي الإفرنجة يحملون على التدريب بها على الأيام. والمواسم متوسطة، وأعيادهم حسنة مائلة إلى الاقتصاد: والغني بمدينتهم فاش، حتى في الدكاكين التي تجمع صنائعها كثيرا من الأحداث كالخفافين ومثلهم. وقوتهم الغالب البر الطيب عامة العام، وربما اقتات في فصل الشتاء الضعفة والبوادي والفعلة في الفلاحة الذرة العربية، ومثل أصناف القطاني الطيبة.
وفواكههم اليابسة عامة العام متعددة، يدخرون العنب سليما من الفساد إلى شطر العام، إلى غير ذلك من التين، والزبيب، والتفاح، والرمان، والقسطل،
769
والبلوط، والجوز، واللوز، إلى غير ذلك مما لا ينفد ولا ينقطع، إلا مدة في الفصل الذي يزهد في استعماله.
وصرفهم فضة خالصة، وذهب إبريز طيب محفوظ، ودرهم مربع الشكل من وزن المهدي القائم بدولة الموحدين، في الأوقية منه سبعون درهما، يختلف الكتب فيه: فعلى عهدنا في شق : «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وفي شق آخر: «لا غالب إلا الله» غرناطة. ونصف، وهو القيراط، في شق:
الحمد لله رب العالمين
وفي شق:
وما النصر إلا من عند الله
ونصفه، وهو الربع، في شق:
هدى الله هو الهدى
وفي شق:
والعاقبة للتقوى .
ودينارهم في الأوقية منه ستة دنانير وثلثا دينار، وفي الدينار الواحد ثمن أوقية وخمس ثمن أوقية، وفي شق منه: «قل اللهم مالك الملك (إلى) بيدك الخير» ويستدير به قوله تعالى:
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم
وفي شق: «الأمير عبد الله يوسف بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن نصر أيد الله أمره» ويستدير به: «لا غالب إلا الله» ولتاريخ تمام هذا الكتاب في وجه:
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون
ويستدبر به: «لا غالب إلا الله» وفي وجه: «الأمير عبد الله الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن نصر أيده الله وأعانه» ويستدير بربع: «بمدينة غرناطة حرسها الله».
وعادة أهل هذه المدينة الانتقال إلى حلل العصير، أوان إدراكه بما تشتمل عليه دورهم، والبروز إلى الفحوص بأولادهم وعيالهم، معولين في ذلك على شهامتهم. وأسلحتهم على أكتاد دوابهم، وانصال أمصارهم بحدود أرضهم، وحليهم في القلائد والدمالج والشنوف والخلاخل الذهب الخالص إلى هذا العهد في أولي الجدة، واللجين في كثير من آلة الراجلين فيمن عداهم، والأحجار النفيسة من الياقوت والزبرجد والزمرد، ونفيس الجوهر كثير ممن ترتفع طبقاتهم المستندة إلى ظل دولة، أو أصالة معروفة موفرة.
وحريمهم حريم جميل موصوف بالحسن وتنعم الجسوم، واسترسال الشعور، ونقاء الثغور، وطيب النشر، وخفة الحركات، ونبل الكلام، وحسن المحاورة، إلا أن الطول يندر فيهن. وقد يبلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد، وللظاهرة بين المصبغات، والتنافس بالذهبيات والديباجيات، والتماجن في أشكال الحلي إلى غاية، نسأل الله أن يغض عنهن فيها عين الدهر، ويكف كف الخطب، ولا يجعلها من قبيل الابتلاء والفتنة، وأن يعامل جميع من بها بستره، ولا يسلبهم خفي لطفه بعزته وقدرته. انتهى. قلت: كيف لو عاش ابن الخطيب في عصرنا هذا! فماذا كان يقول يا ليت شعري!؟ ولله الأمر من قبل ومن بعد!. (11) ما ذكره المقري في النفح عن أنساب عرب الأندلس
قال: إنه لما استقر قدم أهل الإسلام في الأندلس، وتتام فتحها، صرف أهل الشام وغيرهم من العرب هممهم إلى الحلول بها، فنزل بها من جراثيم العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم، إلى أن كان من أمرهم ما كان. فأما العدنانيون فمنهم خندف ومنهم قريش. وأما بنو هاشم من قريش فقال ابن غالب في فرحة الأنفس: بالأندلس منهم جماعة كلهم من ولد إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ومن هؤلاء بنو حمود ملوك الأندلس بعد انتثار ملك بني أمية. وأما بنو أمية فمنهم خلفاء الأندلس. قال ابن سعيد: ويعرفون هنالك إلى الآن بالقرشيين، وربما عموا نسبهم إلى أمية في الآخر، لما انحرف الناس عنهم، وذكروا أفعالهم في الحسين رضي الله عنه. وأما بنو زهرة فمنهم بأشبيلية أعيان متميزون. وأما المخزوميون فمنهم أبو بكر المخزومي الأعمى الشاعر المشهور من أهل حصن المدور. ومنهم الوزير الفاضل في النظم والنثر أبو بكر بن زيدون، ووالده الذي هو أعظم منه، أبو الوليد ابن زيدون وزير معتضد بني عباد.
قال ابن غالب: وفي الأندلس من ينسب إلى جمح، وإلى بني عبد الدار، وكثير من قريش المعروفين بالفهريين من بني محارب بن فهر، وهم من قريش الظواهر، ومنهم عبد الملك بن قطن سلطان الأندلس. ومن ولده بنو القاسم الأمراء الفضلاء، وبنو الجد
770
الأعيان العلماء. ومن بني محارب بن فهر يوسف بن عبد الرحمن الفهري، سلطان الأندلس، الذي غلبه عليها عبد الرحمن الأموي الداخل وجد يوسف عقبة بن نافع الفهري، صاحب الفتوح بأفريقية. قال ابن حزم: ولهم بالأندلس عدد وثروة.
وأما المنتسبون إلى عموم كنانة فكثير، وجلهم في طليطلة وأعمالها، ولهم ينسب الوشقيون الكنانيون الأعيان الفضلاء، الذين منهم القاضي أبو الوليد ، والوزير أبو جعفر، ومنهم أبو الحسين بن جبير العالم صاحب الرحلة، وقد ذكرناه في محله.
وأما هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غالب أن منزلهم بجهة أريولة من كورة تدمير. وأما تميم بن مرة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غالب أيضا أنهم خلق كثير بالأندلس، ومنهم أبو الطاهر صاحب المقامات اللزومية. وأما ضبة بن أد بن طابخة فذكر أنهم قليلون بالأندلس. فهؤلاء خندف من العدنانية.
وأما قيس عيلان بن إلياس بن مضر من العدنانية ففي الأندلس كثير منهم ينتسبون إلى العموم، ومنهم من ينتسب إلى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة ابن قيس، كعبد الملك بن حبيب السلمي الفقيه، صاحب الإمام مالك رضي الله عنه وكالقاضي أبي حفص بن عمر قاضي قرطبة. ومن قيس من ينتسب إلى هوزان بن منصور بن عكرمة. قال ابن غالب: وهم بأشبيلية خلق كثير، ومنهم من ينتسب إلى بكر بن هوزان، قال ابن غالب: ولهم منزل بجوفي بلنسية، على ثلاثة أميال منها وبأشبيلية وغيرها منهم خلق كثير، ومنهم بنو حزم، وهم بيت غير البيت الذي منه أبو محمد بن حزم الحافظ الظاهري، وهو فارسي الأصل
771
ومنهم من ينتسب إلى سعد بن بكر بن هوزان. وذكر ابن غالب أن منهم بغرناطة كثيرا كبني جودي وقد رأس بعض بني جودي. ومنهم من ينتسب إلى سلول، امرأة نسب إليها بنوها وأبوهم مرة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان. ومنهم من ينتسب إلى كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان، ومنهم من ينتسب إلى نمير بن عامر بن صعصعة. قال ابن غالب: وهم بغرناطة كثير ومنهم من ينتسب إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ومنهم بلج بن بشر صاحب الأندلس وآله وبنو رشيق. ومنهم من ينتسب إلى فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان. ومنهم من ينتسب إلى أشجع بن ريث ابن غطفان. ومن هؤلاء محمد بن عبد الله الأشجعي سلطان الأندلس.
وفي ثقيف اختلاف: فمنهم من قال إنها قيسية، وإن ثقيفا هو قيس بن منبه ابن بكر بن هوزان، ومنهم بالأندلس جماعة، وإليهم ينتسب الحر بن عبد الرحمن الثقفي صاحب الأندلس وقيل إنها من بقايا ثمود. انتهى قيس بن عيلان وجميع مضر.
وأما ربيعة بن نزار فمنهم من ينتسب إلى أسد بن ربيعة بن نزار. قال في فرحة الأنفس: إن إقليم هؤلاء مشهور باسمهم، بجوفي مدينة وادي آش. انتهى. والأشهر بالنسبة إلى أسد أبدا بنو أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ومنهم من ينتسب إلى محارب بن عمرو بن وديعة بن بكير بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد ابن ربيعة. قال ابن غالب في فرحة الأنفس: ومنهم بنو عطية أعيان غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى النمر بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد كبني عبد البر الذين منهم الحافظ أبو عمر بن عبد البر، ومنهم من ينتسب إلى تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب، كبني حمديس أعيان قرطبة، ومنهم من ينتسب إلى بكر بن وائل كالبكريين أصحاب أونبة وشلطيش، الذين منهم أبو عبيد البكري صاحب التصانيف. انتهت ربيعة.
وأما إياد بن نزار، وقد يقال أنه ابن معد، والصحيح الأول، فينتسب إليهم بنو زهرة المشهورون بأشبيلية وغيرهم. انتهت العدنانية. وهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام.
واختلف في القحطانية، هل هم من ولد إسماعيل؟ أو من ولد هود؟ على ما هو معروف، وظاهر صنيع البخاري الأول، والأكثر على خلافه. والقحطانية هم المعروفون باليمانية، وكثيرا ما يقع بينهم وبين المضرية وسائر العدنانية الحروب بالأندلس، كما كان يقع بالمشرق، وهم الأكثر بالأندلس، والملك فيهم أرسخ، إلا ما كان من خلفاء بني أمية، فإن القرشية قدمتهم على الفرقتين، واسم الخلافة لهم بالمشرق. وكان عرب الأندلس يتميزون بالعمائر والقبائل والبطون والأفخاذ، إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر الداهية الذي ملك سلطنة الأندلس ، وقصد بذلك تشتيتهم، وقطع التحامهم وتعصبهم في الاعتزاء، وقدم القواد على الأجناد، فيكون في جند القائد الواحد فرق من كل قبيل، فانحسمت مادة الفتن والاعتزاء بالأندلس، إلا ما جاءت على غير هذه الجهة.
قال ابن حزم: جماع أنساب اليمن من جرم بن كهلان، وحمير بن يشجب ابن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وقيل قحطان بن الهميسع بن تيهان بن نابت بن إسماعيل، وقيل قحطان بن هود ابن عبد الله بن رباح بن جارف بن عاد بن عوص بن إرم بن سام. والخلف في ذلك مشهور، فمنهم كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومنهم الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، وإليهم ينتسب محمد بن هانئ الشاعر المشهور الألبيري، وهو من بني المهلب. ومن الأزد من ينتسب إلى غسان، وهم بنو مازن بن الأزد، وغسان ماء شربوا منه. وذكر ابن غالب أن منهم بني القيسعي من أعيان غرناطة، وكثير منهم بصالحة، قرية على طريق مالقة، ومن الأزد من ينتسب إلى الأنصار على العموم، وهم الجم الغفير بالأندلس.
قال ابن سعيد: والعجب أنك تعدم هذا النسب بالمدينة، وتجد منه بالأندلس في أكثر بلدانها ما يشذ عن العدد كثرة. ولقد أخبرني من سأل عن هذا النسب بالمدينة فلم يجد منه إلا شيخا من الخزرج، وعجوزا من الأوس. قال ابن غالب: وكان جزء الأنصار بناحية طليطلة، وهم أكثر القبائل بالأندلس في شرقها ومغربها. انتهى. ومن الخزرج بالأندلس أبو بكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء، من ولد سعد بن عبادة، صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهو المشهور بالموشحات. وإلى قيس بن سعد بن عبادة ينتسب بنو الأحمر سلاطين غرناطة، الذين كان لسان الدين بن الخطيب أحد وزرائهم، وعليهم انقرض ملك الأندلس من المسلمين، واستولى العدو على الجزيرة جميعا كما يذكر. ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى الأوس أخي الخزرج، ومنهم من ينتسب إلى غافق بن عك بن عديان بن أزان بن الأزد. وقد يقال عك بن عدنان بالنون. فيكون أخا معد بن عدنان وليس بصحيح.
قال ابن غالب: من غافق: أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب، وأكثر جهات شقورة ينتسبون إلى غافق. ومن كهلان من ينتسب إلى همدان،
772
وهو أوسلة ابن مالك بن زيد بن أوسلة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان، ومنزل همدان مشهور، على ستة أميال من غرناطة. ومنهم أصحاب غرناطة بنو أضحى. ومن كهلان من ينتسب إلى مذحج. ومذحج اسم اكمة حمراء باليمن، وقيل اسم أم مالك وطيء بن أدد بن زيد بن كهلان. قال ابن غالب: بنو سراج الأعيان من أهل قرطبة ينتسبون إلى مذحج. ومنزل طيء بقبلي مرسية. ومنهم من ينتسب إلى مراد بن مالك بن أدد. وحصن مراد بين أشبيلية وقرطبة مشهور. قال ابن غالب: وأعرف بمراد منهم خلقا كثيرا. ومنهم من ينتسب إلى عنس بن مالك بن أدد ومنهم بنو سعيد مصنفو كتاب المغرب. وقلعة بني سعيد مشهورة في مملكة غرناطة. ومن مذحج من ينتسب إلى زبيد قال ابن غالب: وهو منبه بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد. ومن كهلان من ينتسب على مرة بن أدد بن زيد بن كهلان. قال ابن غالب: منهم بنو المنتصر العلماء من أهل غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى عاملة. وهي امرأة من قضاعة، ولدت للحرث بن عدي بن الحرث مرة بن أدد فنسب ولدها منه إليها. قال ابن غالب: منهم بنو سماك القضاة من أهل غرناطة. وقوم زعموا أن عاملة هو ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل هم من قضاعة.
ومن كهلان خولان بن عمرو بن الحرث بن مرة. وقلعة خولان مشهورة بين الجزيرة الخضراء وأشبيلية. ومنهم بنو عبد السلام أعيان غرناطة. ومنهم من ينتسب إلى المعافرين يعفر بن مالك بن الحرث بن مرة، منهم المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس. ومنهم من ينتسب إلى لخم بن عدي بن الحرث بن مرة. منهم بنو عباد أصحاب أشبيلية وغيرها. وهم من ولد النعمان بن المنذر صاحب الحيرة. ومنهم بنو الباجي أعيان أشبيلية، وبنو وافد العيان. ومنهم من ينتسب إلى جذام، مثل ثوابة بن سلامة صاحب الأندلس، وبني هود ملوك شرق الأندلس. ومنهم المتوكل ابن هود الذي صحت له سلطنة الأندلس بعد الموحدين. ومنهم بنو مردنيش أصحاب شرق الأندلس. قال بن غالب: وكان لجذام جزء من قلعة رباح، واسم جذام عامر، واسم لخم مالك، وهما ابنا عدي.
ومن كهلان من ينتسب إلى كندة، وهو ثور بن عفير بن عدي بن مرة بن أدد ومنهم يوسف بن هرون الرمادي الشاعر. ومنهم من ينتسب إلى تجيب، وهي امرأة أشرس بن السكون بن أشرس بن كندة. ومن كهلان من ينتسب إلى خثعم بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ومنهم عثمان بن أبي نسعة
773
سلطان الأندلس. وقد قيل أنما ابن نزار بن معد ابن عدنان. انتهت كهلان.
وأما حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمنهم من ينتسب إلى ذي رعين. قال ابن غالب: وذو رعين هم ولد عمرو بن حمير في بعض الأقوال، وقيل هو من ولد سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جثم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير. قال: ومنهم أبو عبد الله الحناط الأعمى الشاعر. قال الجازمي في كتاب النسب: واسم ذي رعين عريم بن زيد بن سهل. ووصل النسب. ومنهم من ينتسب إلى ذي أصبح. قال ابن حزم: هو ذو أصبح بن مالك بن زيد من ولد سبأ الأصغر ابن زيد بن سهل ابن عمرو بن قيس، ووصل النسب. وذكر الحازمي أن ذا أصبح من كهلان. وأخبر أن منهم مالك بن أنس الإمام، والمشهور أنهم من حمير. والأصبحيون من أعيان قرطبة. ومنهم من ينتسب إلى يحصب قال ابن حزم: إنه أخوذي أصبح، وهم كثير بقلعة بني سعيد، وقد تعرف من أجلهم في التواريخ الأندلسية بقلعة يحصب. ومنهم من ينتسب إلى هوزان بن عوف بن عبد شمس بن وائل بن الغوث. قال ابن غالب ومنزلهم بشرق أشبيلية والهوازنيون من أعيان أشبيلية. ومنهم من ينتسب إلى قضاعة بن مالك بن حمير، وقد قيل إنه قضاعة بن معد بن عدنان، وليس بمرض.
ومن قضاعة من ينتسب إلى مهرة، كالوزير أبي بكر بن عمار، الذي وثب على ملك مرسية،
774
وهو مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. ومنهم من ينتسب إلى خشين بن تنوخ، قال ابن غالب: وهو بن مالك بن فهم بن نمر بن وبرة بن تغلب قال الحازمي: تنوخ هو مالك بن فهر بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة. ومنهم من ينتسب إلى بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. ومنهم البلويون الأشبيلية. ومنهم من ينتسب إلى جهينة بن أسود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. قال ابن غالب: وبقرطبة منهم جماعة. ومنهم من ينتسب إلى كلب بن وبرة بن تغلب بن جلوان، كبني أبي عبدة الذين منهم بنو جهور ملوك قرطبة ووزراؤها. ومنهم من ينتسب إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. ومنهم أعيان الجزيرة الخضراء بنو عذرة.
ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى حضرموت منهم الحضرميون بمرسية وغرناطة وأشبيلية
775
وبطليوس وقرطبة. قال ابن غالب: وهم كثير بالأندلس، وفيه خلاف، قيل: إن حضرموت هو ابن قحطان، وقيل هو حضرموت بن قبس ابن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن جيدان بالجيم بن قطن ابن العريب بن الغرز بن نبت بن أيمن بن الهيسع بن حمير. كذا نسق النسب الحازمي ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى سلامان، ومنهم الوزير لسان الدين بن الخطيب حسبما ذكر في محله.
وقد رأيت أن أسرد هنا أسماء ملوك الأندلس من لدن الفتح إلى آخر ملوك بني أمية، وإن تقدم، ويأتي ذكر جملة منهم بما هو أتم مما هنا فنقول: طارق ابن زياد مولى موسى بن نصير، ثم الأمير موسى بن نصير، وكلاهما لم يتخذ سرير السلطنة ثم عبد العزيز بن موسى بن نصير، وسريره أشبيلية، ثم أيوب بن حبيب اللخمي وسريره قرطبة. وكل من يأتي بعده فسريره قرطبة، والزهراء والزاهرة بجانبيها، إلى أن انقضت دولة بني مروان، على ما ينبه عليه، ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفي، ثم السمح بن مالك الخولاني، ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، ثم عنبسة بن سحيم الكلبي، ثم عذرة بن عبد الله الفهري، ثم يحيى بن سلمة الكلبي، ثم عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، ثم حذيفة بن الأحوص القيسي، ثم الهيثم بن عبيد الكلابي ثم محد بن عبد الله الأشجعي، ثم عبد الملك بن قطن الفهري، ثم بلج، ثم بشر ابن عياض القشيري، ثم ثعلبة بن سلامة العاملي، ثم أبو الخطار بن ضرار الكلبي، ثم ثوابة بن سلامة الجذامي، ثم يوسف بن عبد الرحمن الفهري. وههنا انتهى الولاة الذين ملكوا الأندلس من غير موارثة، أفرادا عددهم عشرون، فيما ذكر بن سعيد، ولم يتعدوا في السمة لفظ الأمير قال ابن حيان: مدتهم، منذ تاريخ الفتح من لذريق سلطان الأندلس النصراني، وهو يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين إلى يوم الهزيمة على يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وتغلب عبد الرحمن بن معاوية المرواني على سرير الملك بقرطبة، وهو يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة - ست وأربعون سنة وخمسة أيام. ا.ه.
ثم كانت دولة بني أمية، أولهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ثم ابنه هشام الرضي. ثم ابنه الحكم بن هشام. ثم ابنه عبد الرحمن الأوسط. ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن. ثم ابنه المنذر بن محمد. ثم أخوه عبد الله بن محمد. ثم ابن عمه عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله. ثم ابنه الحكم المستنصر، وكرسيهما الزهراء. ثم هشام ابن الحكم. وفي أيامه بني حاجبه المنصور بن أبي عامر الزاهرة . ثم المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر. وهو أول خلفاء الفتنة، وهدمت في أيامه الزهراء والزاهرة، وعاد السرير إلى قرطبة. ثم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، ثم تخللت دولة بني حمود العلويين، وأولهم الناصر علي بن حمود العلوي الإدريسي. ثم أخوه المأمون القاسم بن حمود. ثم كانت دولة بني أمية الثانية وأولها المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر. ثم المستكفي محمد ابن عبد الرحمن بن عبد الله. ثم المعتمد هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر، وهو آخر خلفاء الجماعة بالأندلس. وحين خلع أسقط ملوك الأندلس الدعوة للخلافة المروانية، واستبدت ملوك الطوائف كابن جهور في قرطبة، وابن عباد بأشبيلية، وغيرهما، ولم يعد نظام الأندلس إلى شخص واحد إلى أن ملكها يوسف بن تاشفين الملثم من بر العدوة، وفتك بملوك الطوائف، وبعد ذلك ما خلصت له ولا لولده علي ابن يوسف، لأن بني هود نازعوه في شرقها بالثغر، إلى أن جاءت دولة عبد المؤمن وبنيه. فما صفت لعبد المؤمن بمحمد بن مردنيش الذي كان ينازعه في شرق الأندلس ثم صفت ليوسف بن عبد الرحمن بموت ابن مردنيش، ثم لمن بعده من بنيه، وحضرتهم مراكش. وكانت ولاتهم تتردد على الأندلس وممالكها، ولم يولوا على جميعها شخصا واحد لعظم ممالكها، إلى أن انقرضت منها دولتهم بالمتوكل محمد بن هود من بني هود، ملوك سرقسطة، وجهاتها، فملك معظم الأندلس بحيث يطلق عليه اسم السلطان، ولم ينازعه فيها إلا زيان بن مردنيش في بلنسية من شرق الأندلس، وابن هلالة طبيرة من غرب الأندلس. ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته ولما قتله وزيره ابن الرميمي بالمرية زاد الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر. وكان عرب أهل الأندلس في المائة السابعة يخطبون لصاحب أفريقية السلطان أبي زكريا يحيى ابن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص. ثم تقلصت تلك الظلال، ودخل الجزيرة الانحلال، إلى أن استولى عليها حزب الضلال. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
هوامش
الفصل الثالث
نظرة إجمالية
إن أسبانية والبرتغال ليستا على وجه الإجمال معروفتين حق المعرفة عند الناس ومهما اتسعت المعلومات عنهما فالناس تعلم عن أكثر البلدان الأوربية ما لا تعلمه عنهما، لأن الممالك المعدودة كأنموذجات للمدنية الحاضرة، والعواصم التي يقصد إليها السياح لأجل الفرجة والاستشفاء أو البحث. ويؤمها الطلبة لأجل تحصيل العلوم، ليست في أسبانية ولا في البرتغال، وإذا رجعنا إلى طبيعة الأرض، وبداعة المناظر فليس في الجزيرة الأيبيرية في الحقيقة من تنوع المناظر الساحرة ما في إيطالية مثلا، كما أن السائح لا يرى فيها تلك المروج الزمردية، والبحيرات اللطيفة، والجبال الشامخة، المعممة بالثلج، ولا مسارح اللمحات التي يراها في سويسرة، ولكن مما لا جدال فيه أن مواقع معدودة من أسبانية والبرتغال تعد من أبدع مواقع العالم، وأنها المثل الأعلى من جهة الجنان والبساتين.
أما من جهة المدنية فهي في جنوبي أسبانية راجعة إلى أشد أدوار التاريخ توغلا في القدم، وقد كان للفينقيين في هذه البلاد دور طويل عريض، وقد أثروا فيها آثارا لا تزال بقاياها ماثلة إلى الآن، ثم جاء الرومانيون، وكانت لهم طبيعة عمرانية معروفة لهم شرقا وغربا، فوجدوا مجال العمل في أسبانية ذا سعة، فعملوا، وبنوا، وأثروا، وأثلوا، وتركوا آثارا ناطقة بفضلهم، وجسورا وأقنية معلقة منبئة عن شأوهم، وملاهي وهياكل، كالتي في ماردة، وطركونة، ومربيطر، وغيرها مما لا يدرسه الزمان، ولا ينال منه الحدثان.
وجاء بعد ذلك العرب فأثلوا في الجزيرة الأيبيرية، أو الجزيرة الأندلسية على رأيهم، حضارة عربية شرقية بلغت من الأبهة، والفراهة، وسلامة الذوق، سدرة المنتهى، فلا تكاد تمر بمكان إلا للعرب فيه آثار باهرة، وعنهم أخبار تتحدث بها السامرة، ولا يزال نظام سقيا الجنان، وتوزيع المياه على الأرضين، هو النظام الذي رتبوه في أيامهم، ثم إنه لا ينكر أن الفن المسيحي، سواء في القرون الوسطى، أو من بعد عهد النهضة
Renaissance
قد ترك في أسبانية آثارا فاخرة، ومباني فخمة، كقصر الإسكوربال مثلا.
فالذين يقصدون إلى أسبانية من السياح لا تخيب آمالهم، ولا تذهل نفقاتهم سدى، وذلك لأن السائح الأوربي يجد دائما في أسبانية أشياء جديدة بالنسبة إليه.
فالبلاد كلها عبارة عن جزيرة يحيط بها البحر من جهاتها الثلاث، وتحيط بها جبال البرانس الشامخة من الجهة الرابعة، فهي معتزلة في مكانها، منتبذة من أوروبا زاوية خاصة بها، غير متأثرة بغيرها، محتفظة بجميع مميزاتها وخصائصها، لا هي شرقية تماما، ولا هي غربية تماما، بل هي متوسطة بين أوروبا وأفريقية، واصلة بين المشرق والمغرب، منطوية في أحناء وجودها هذا المستقل على أسرار لا يعرفها إلا من أكثر من التجوال فيها، وقرن السير بالنظر.
وهناك شعب شديد الخنزوانة قائم بذاته، لا يشبه غيره، ولا يريد أن يتشبه بغيره، وله مآخذ ومتارك لا ينزل عنها، وهو بفطرته لا يحب تقليد الشعوب الأخرى، بل هو من قديم الزمان مستمسك بأوضاعه، متعال عن السير وراء أقرانه، لا يرضى بما لديه بدلا، ولا يبتغي عما ائتلفه حولا.
نعم من جهة الصناعة وفن الرسم والتصوير قد يقلد الأسبانيول سواهم، بل يجد الناظر في كنائسهم وقصورهم آثارا للفن الإيطالي، الذي يدور على محاكاة الطبيعة. وكذلك يجد في رسومهم وتصاويرهم تأثير الفن الإفرنسي، والفلمنكي، بل ليس في أسبانية فن تصوير خاص بها، ولا فن بناء خاص بها، وإنما هي محاكاة للأمم الغربية الأخرى مع جزء فيها من الطبع الأسباني. وإذا كان السائح الأوربي لم يعرف بلاد الشرق، أو لم يقيض له أن يزور بلاد الإسلام، فإنه يجد في أسبانية آثارا عربية، تكفيه لأخذ صورة حقيقية عن المدنية الإسلامية، التي منها في الأندلس أمثلة كافية، وقطع تعد من أنفس وأرقى ما تركه العرب من الآثار في الأرض.
وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في أسبانية متأملا، غائصا في بحار العبر هائما في أودية الفكر. كلما عثر على أثر عربي خفق له قلبه، واهتزت أعصابه، وتأمل في عظمة قومه الخالين، وما كانوا عليه من بعد نظر، وعلو همم، وسلامة ذوق، ورفق يد، ودقة صنعة. وكيف سمت بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات في ما وراء البحر في بحبوحة النصرانية، وملتطم أمواج الأمم الأوربية، وأن يبنوا فيها بناء الخالدين ويشيدوا فيها ألوفا من الحصون، وأن يملأوها أساسا وغراسا، كأنهم فيها أبد الآبدين، فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسما بين الإعجاب بما صنعه آباؤه فيها، والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم، وبين الحزن على خروجهم من ذلك الفردوس الذي كانوا ملكوه، والوجد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه، وأكثر ما يغلب عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم، فهو لا يزال يسير بين تأمل وتألم، وتفكر، وتحسر، لكنه يريد مع ذلك أن يقتري هذه الآثار، وأن يمشي في مساكن أولئك الآباء، وأن يخاطب الأحجار، وذلك لأنه لهوى النفوس سرائر لا تعلم، من جملتها أنها تنزع إلى البكاء عند دواعي الوجد، كما ترتاح إلى الطرب عند بواعث السرور، وأنها قد تهتف بالأمرين معا، وتجمع الضدين شرعا، وأن كل ما هو حنين وتذكار، وولوع بعد الأعيان بالآثار، هو من سرائر البشرية، ومما هو غالب على النفس الناطقة. (1) العمران والفن في أسبانية
هذا وإذا حاولنا تحليل الإنشاء العمراني الذي يعول عليه في أسبانية وجدناه ينقسم إلى أربعة أدوار: روماني، وقوطي، وعربي، وأوربي متجدد، فالروماني أعظم آثاره متجلية في مدينة ماردة، قاعدة «لوزيتانيا» التي بناها أغسطس، ففيها الجسر الذي كانت له 81 حنية، وفيها القناتان المعلقتان، وفيها الملهى التمثيلي، وفيها ملهى التمثيل البحري وفيها الملعب العام، وفيها هيكل المريخ الذي تحول فيما بعد كنيسة وفيها قوس النصر الشهيرة، وغير ذلك من المباني الخالدة. وطركونة فيها عدة هياكل وملهى تمثيلي، وملعب وحمامات، وجميعها من أفخم المباني الرومانية التي يقيدها التاريخ لتلك الأمة العظيمة. وسقوبية
Segopice
هي ذات القناة المعلقة التي طولها 818 مترا، منها 266 مترا راكبة على طاقين من الحنايا، الواحد فوق الآخر، عدد قناطرها 119 قنطرة، وهو أكمل وأروع بناء روماني في أسبانيا.
وأما القوطي فأقدم آثاره في «أوبيط»
Oviedo
وهي كنيسة «سان ميكال دولينو»
San Mikal de Lino
من بناء رامير الأول (842-850) وكنيسة «سانتا مارية نارنكو»
Naranco
وغيرهما. وفي برشلونة أديار البندكتيين «سان بابلو دلكمبو»
San Pablo delcampo
و«سان بدرو دولاس بويلاس»
San Pedro de Las Puellas
من أبنية القرن العاشر.
القناة الرومانية المعلقة في شقوبية.
وبعد ذلك لعهد بداية الكرة الأسبانيولية على العرب ظهرت صنعة جديدة في البناء تدل عليها كنائس ذلك الوقت، يكثر في بنائها شكل الصليب، ويقل الزخرف، وتمتاز بالرصانة والمتانة. ومن هذا النوع كنيسة «سانت ياقو دو كومبوستيلا»
De Compostela
التي يرجع بناؤها إلى سنة 1060، وقد امتد إلى سنة 1096 وهي تقليد لكنيسة «سان سرنين» في طلوزة. وعلى نسق هذه الكنيسة بنيت كنيسة «سان إيزيدورو» في ليون بين سنتي 1063 و1149 و«سانتا مرية» في «كورنية» وسان بدرو في وشقة وغيرها. ثم في القرن الثاني عشر بدأوا في أسبانية يقلدون نسق البناء المعروف في فرنسا، ويقال له هناك غوثيق
Gothique
وأصله نسبة إلى القوط، ولكنه ليس بالقوطي الأسبانيولي القديم، فبنيت كنائس في طلمنكة، وطركونة ولاردة، وتطيلة، وآبلة، وسقوبية، على هذا النسق. وقد فاقت في الضخامة جميع ما تقدمها.
وفي مدينة برغش
Burgos
كنيسة كبرى بناها المطران موريسيو سنة 1221 تحتوي مجموعة فنون البناء في الثلاثة الأعصر الأخيرة لذلك العهد. وكان يقال إنها أبدع كنيسة في أسبانية. بناها الأستاذ يوحنا الكولوني
Jean Cologne
وكان من بلدة كولونية بناؤون كثيرون يعملون في أسبانية، وكانوا يتوخون في ذلك العهد مناغاة الأبنية العربية، ويحاولون التفوق عليها. فكنيسة برغش بنيت سنة 1221 وبعد ذلك بقليل، عندما حولوا المسجد الأعظم في طليطلة إلى كنيسة في سنة 1227 اجتهدوا في أن يعطوه من السعة والإتقان والفخامة والضخامة ما لم يكن معهودا إلى ذلك الوقت، وليس في أسبانية كنيسة أوسع رقعة من كنيسة طليطلة سوى كنيسة أشبيلية. ثم بعد بناء كنيسة طليطلة أنشأوا الكنيسة الكبرى في ليون، ذات الصورة البديعة على البلور، وتبع ذلك كنيسة «آبلة»
Avila
ثم في القرن الرابع عشر والخامس عشر جد طرز آخر للبناء يميل إلى توسيع الداخل، ومنه كنيسة سانت ياقو في طليطلة، وكنيسة «أستورقة»
Astorca
وكنيسة سان بنيتو في «بلد الوليد»
Valladolid
ودير «البرال»
في سقوبية، وفي «نبارة»
Navarre
كنيسة بنبلونة
وهي اشبه بكنائس فرنسا. وأبهى تلك الكنائس كلها الكنيسة العظمى في برشلونة ، بناها فابر الميورقي. وفي القرن الخامس عشر بنيت كنيسة أشبيلية مكان الجامع الكبير الذي كان فيها، وهي أوسع بنية في ذلك العصر، بناها معلمون من هولاندة، وكانوا قد بدأوا يقلدون العرب في نقش الكتابات على أحجار المباني العامة، وتطريس الخطوط على الأبواب.
وأما في كتلونية فانتهى طرز إنشاء الكنائس بأن أصبح مطابقا تمام المطابقة لطرز بنائها في فرنسا، ولما كشف الأسبانيول أميركة، وبلغت أسبانية ما بلغته من العظمة والبسطة في القرن الخامس عشر، ازداد الأسبان تفننا في البناء، وشادوا تحت تأثير العز، ونشوة السلطان، وكثرة الخيرات، مباني مدهشة، تستحق السياحة من البلاد النائية، وذلك من قبيل «سان بابلو» و«سان غريغوريو» في بلد الوليد، و«سنتا كروس» في سقوبية، وفي ذلك العصر نبغ «خيل دوسيلو» الذي يعد عبقري وقته في البناء. إلا أنه قد دخل إذ ذاك في هندسة الكنائس في أسبانية بدعة لم تكن لتزيدها بهاء ولا رونقا، وهي جعل موضع خاص في وسط البيعة لأجل الأحبار والقسيسين، مما كان يخل بالهندسة، وينافي وحدة الخطوط.
وكذلك هناك بدعة أخرى، ليست بأقل منها هجنة، وهي الاجتهاد في منع النور عن الكنائس، وإبقاء داخلها مظلما بقدر الإمكان. وهذه العادة فاشية في أكثر بيع أوروبا حتى يظن الغريب الجاهل بالأوضاع أن الظلمة هي مستحبة في قانون الكنيسة، وأن النور مكروه فيه. ولا نظن أحدا يكابر في هذه الحالة.
وأما طرز البناء العربي فهو على العكس من ذلك فهو يكره الظلام، ويحب النور، كما تشهد ذلك في جميع المساجد والمباني العمومية التي شادها المسلمون في الأندلس وغيرها، فأما مسجد قرطبة فهو أعظم مسجد في أسبانية، ومن أعظم المساجد في الإسلام، لا أظن مسجدا يفوقه في السعة سوى المسجد الحرام، وسوى المسجد الأقصى. وربما كان جامع ابن طولون في مصر بهذا المقدار. ولم يقع إنشاء المسجد الأعظم في قرطبة دفعة واحدة، بل وقع شيئا فشيئا، كما سيأتي تفصيل ذلك، فكان يزاد فيه كلما ازداد سكان قرطبة. وترى الإفرنج الذين يدخلون إليه يؤولون سعته هذه بأنه بناء قوم كانوا يحلمون بأن الإسلام لا بد أن يعم العالم، فإن المسقوف والصحن من هذا المسجد يسعان ثمانين ألف مصل يصلون وراء إمام واحد.
فأما النقش والفسيفساء اللذان في هذا المسجد فلا شك في كونها من الصنعة البيزنطية، كما أنه لا شك في أن صناع المسلمين تعلموها وتفننوا فيها، وقد تفننوا في الخرط والنحت والنقش والزينة بما جعل لهم أسلوبا خاصا معروفا بهم منسوبا إليهم، تجده في مساجدهم، وقصورهم، وحماماتهم، وأبراجهم، وأبوابهم، وكل بناء يولونه شطرا من عنايتهم.
ومما تمتاز به المباني الإسلامية نقش آيات القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة والأمثال، والأشعار، في الحيطان والسقوف، وفوق الأبواب، وفي الأمكنة المعروضة للنظر، بما تزداد به الأبنية سناء، والإبهاء بهاء، ويعد من نفائس الزينة التي تزهو بها هذه المعاهد. ولقد رأيت في رندة قاعة انكشفت جديدا، حيطانها كلها من المرمر، وقد حفر عليها سورة الفتح من أولها إلى آخرها. وكان الأسبانيول يوم أجلوا العرب عن الأندلس إذا رأوا بناء متقنا، وضنوا به أن يجعلوه دكا، أبقوه ماثلا، لكنهم غطوا بالجص جميع ما على الحيطان من الكتابات العربية، حتى يمحو أثر الإسلام من بلادهم بالمرة.
ولبث ذلك ديدنهم إلى هذا العصر الذي شعروا فيه بأن السياح إنما تقصد بلادهم لأجل مشاهدة الآثار العربية، فرجعوا ينقبون عنها في كل سهل وجبل، وكلما انكشف لأحدهم منها شيء عد نفسه قد عثر على كنز، وصارت المجالس البلدية تمنع هدم أي أثر قديم للعرب، وإن كان متداعيا إلى الخراب اكتفوا بتقويم شعثه، وأبقوه على هيئته. وقد يكون الشارع ضيقا ولا يسمحون بتوسيعه، إذا استلزم ذلك هدم الأبنية العربية.
ومما يعجب به الإفرنج من مساجد الأندلس جامع في طليطلة يقال له اليوم «سانتو كريستو دولالوز»
Dola Luz
تاريخ بنائه كما يفهم من الكتابة التي في مدخله سنة 922 مسيحية. ولما استرجع الأسبانيول طليطلة في القرن الحادي عشر المسيحي حولوه كنيسة، ولم يغيروا فيه إلا الجهة الشرقية. وفي هذا المسجد بقايا نقوش عربية بديعة. ويقال إن الأذفونش السادس الذي احتال على ابن ذي النون حتى أخذ من يده طليطلة قد سمع أول قداس بعد استيلائه على هذه البلدة في هذا المسجد نفسه. وفي طليلطة أيضا من أمثلة الصنعة العربية كنيس لليهود يقصد إليه السياح لنفاسة بنائه. وقد بقي في الأندلس من المآثر العربية التي يشار إليها بالبنان قصر الجعفرية في سرقسطة، ومنارة أشبيلية الشهيرة، وباب ساحة النارنج في هذه البلدة، والقصر
Alcazar
الذي بناه الملك بترو الملقب بالغاشم ولكن على الطرز العربي بأيدي بنائين من العرب.
فأما حمراء غرناطة فلا تزال إلى يوم الناس هذا زينة أسبانية وحليتها، ومقصد المتفرجين من جميع الأقطار يزورها في دور السنة من سبعين إلى مائة ألف متفرج، ومن أغرب ما سمعت أن بعضهم يقيم الشهر والشهرين والثلاثة في غرناطة، وقلما يمضي يوم إلا ويقصد فيه إلى الحمراء حتى يمتع نظره بما فيها من نفائس الصنعة، وبدائع الطبيعة، لأن موقع الحمراء الطبيعي هو أيضا نادر في الدنيا. ومما يحمد الله عليه أن صناعة البناء الأندلسية هي محفوظة كلها في المغرب، لا تختلف في شيء عما كانت عليه في الأندلس، وأن الزليج الذي تزين به الحيطان والساحات، والذي يشبه القاشاني في المشرق، لا يزال يصنع ويتنافس به.
هذا، وبعد أن استرد الأسبان بلاد الأندلس من أيدي العرب، وصار هؤلاء تبعة لهم تحت اسم المدجنين، والأسبان يقولون مدجر
Mudéjar
بقيت الصنعة العربية زاهرة، يبني بها الأسبان أنفسهم، ويدخلونها حتى في بعض كنائسهم، وقد يجمعون بينها وبين الصنعة القوطية. ومن القصور المبنية على الطراز العربي قصر «الأنفانتادو» في وادي الحجارة، وقصر اسمه «كارادال كردون»
Casa del Cardon
في برغش، من بناء مهندس عربي اسمه محمد، من سقوبية، تاريخ بنائه يرجع إلى القرن الخامس عشر.
ولا تخلوا أسبانية من أبنية قلدوا فيها الصنعة الإيطالية بعد عصر التجدد
Renaissance
ثم رغبوا في زيادة التزيين والتزويق والتخريم والترصيع، حتى سمي هذا الطراز من البناء بطرز الصياغة. وكان البناءون من الطليان يطوفون في أسبانية، ويبنون القصور لأمرائها بحسب الصنعة الإيطالية، وربما أرسل بعض المترفين من أسبانية إلى جنوة، فأوصوا على رسوم لقبور موتاهم، وبنوا بحسبها في بلادهم. ولم يكن الطليان وحدهم هم الذين يبنون بمقتضى الهندسة الجديدة في أسبانية بل كان هناك بناءون من فرنسا وهولاندة وبلجيكة وكان أشهر هؤلاء «أنريك دو ايغاس»
Enrique de Egas
الذي هندس مدرسة «سنتا كروز» في بلد الوليد، وعدة مستشفيات في طليطلة وغرناطة وسانت ياقو.
واشتهر من النحاتين في ذلك العصر «فيليب فيكارني»
Vigarni
و«وسيلو»
Siloe
الذي بنى كنائس غرناطة وكنيسة مالقة. واشتهر أيضا دياغو دوريانو
Diego Deriano
الذي له أبنية شهيرة في أشبيلية. مثل دار البلدية، وكذلك في تلك الحقبة بنيت في بياسة دار بلدية فاخرة. وفي أبذة كنيسة سانتا مارية المشهورة بناها المهندس المسمى «بلد البيرة» وهو الذي بنى كنيسة جيان. واشتهر أيضا «ريبارا» باني دار البلدية في شريش. ومن المدن الشهيرة بالمباني المشيدة بحسب الطراز الجديد طلمنكة
Salamanqua
ذات الأديار والمدارس، ومدينة القلعة
Aleala
وقونكة. ثم جاء عهد فيليب الثاني، وكان الميل فيه إلى الفخامة، مع عدم الاعتناء بالزخرف، وبحسب هذا الأسلوب بني الإسكوربال الشهير كما لا يخفى.
ثم جاء مهندسون أحبوا الخروج عن قواعد الفن، ونزعوا منزع عدم التقيد مثل «جوفاره»
Juvara
الذي بنى قصر آل نربون الملوكي، ويقال أنه من أنفس آثار هذا الأسلوب الجديد الحر الذي يسميه الأسبان باسم «روكوكو»
Rococo
وكذلك يعدون مدخل كنيسة مرسية من طرف هذا الأسلوب. وبالإجمال ففي أسبانية من جميع أساليب الفنون النفيسة، وكلها تستحق النظر. وفيها عدا الكنائس وقصور الملوك والمباني العمومية منازل للنبلاء والمترفين في كثير من المدن، يجدر بالسائحين أن يعرجوا عليها، مثل قصور «آل بينافنت»
Benavente
في بياسة، وآل مدينة سالم
Medinaceli
في «كوغولودو»
Cogoludo
وقصور «فالاسكو»
Velasco
و«ميراندة»
Miranda
في برغش وقصور «مندوزه»
Mendoza
في وادي الحجارة، وغيرها من قصور العائلات النبيلة.
فأما صناعة النحت فقد وجد منها آثار قديمة ترجع إلى زمن الرومانيين، لكنها شخوص معدودة. ثم وجدت تماثيل قليلة من أوائل عهد النصرانية، ولكن فن النحت، في أسبانية لم يبلغ درجة تستحق الذكر إلا في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، وإن وجد في أسبانية بعض تماثيل تعد من طرف الفن فيكون ذلك من صنع الطليان أو الفرنسيس، وفي كنيسة طركونة أمثلة من جميع أساليب النحت المعروفة حتى إن من جملتها محرابا باقيا من عهد المسلمين. وقد كان الغالب على بلاد «نبارة» الأسلوب الإفرنسي في النحت، كما ترى ذلك في دير بنيلونة وأماكن أخرى وأجمل ما في أسبانية من التماثيل تماثيل السيدة مريم العذراء، تجد منها نفائس في أشبيلية وطرطوشة وميورقة وطليطلة وغيرها. وأكثر ما تنحت التماثيل هو للأموات من ملوك وأمراء وأحبار وأعيان. وأشهر هذه تمثال الملك فرديناند في برغش، وتمثال الأسقف «فرنندس دولونا»
Deluna
في كنيسة سرقسطة. وكذلك تمثال الأسقف «دوسار فنتس»
De Cervantes
في أشبيلية وأرباب الفن يترنمون دائما بذكر تماثيل برغش، التي هي من خرط خيل «سيلو»
Siloe
ويعجبون بقبور كارلس الثالث وامرأته في بنبلونة «وجوان كرادو»
Grado
في زمورة. ثم إنه في كتيسة سرقسطة المسماة «بالسيو» وفي كنيسة طركونة تماثيل يقول أهل الصنعة إنها يتائم في بابها.
ولو جاء الكاتب يحصي ما في أسبانية من التماثيل المشهورة، والتصاوير المستعذبة والتهاويل المعروفة ببداعة الصنعة، لطال به الأمر، فإن هذه البلاد ملأى بهذا النوع منه ما هو من عمل صناع طليان، ومنه ما هو من عمل صناع البلدان الشمالية، كفرنسا وألمانية وبلجيكة وهولاندة. ومن أشهر المتفننين في النحت من أمة الأسبانيول «ألونزو بروغيت»
Berruguete
الذي كانت له حظوة لدى الإمبراطور شارلكان في بلد الوليد، فقد ترك هذا المفن آثارا كثيرة، أثيرة، يطول تعدادها. ومثله «بياترو توريجياني»
Torrigiani . ومما يجب ذكره أن مملكة أراغون كانت لها ملكة قوية في صناعة النحت، امتازت بها على غيرها من الأقطار الأسبانية واشتهر من صناعها «داميان فورمان»
Forment ، كما أنه كان في قشتالة من الصناع المشهورين «كسبار بسرة»
Becerra
أقام مدة طويلة في رومة، وقد رجع منها أستاذا كبيرا في النحت والتصوير معا، وكان يؤثر العمل في الخشب على العمل في الحجر، وأحسن آثاره المذبح الذي في أستورقة. وممن اشتهر في أشبيلية «مارتينس مونتانس»
Montanes
المعدود من فحول هذا الفن، وكان أسلوبه وطنيا محضا، غير متأثر بأي فن أجنبي. ونبغ في القرن الثامن عشر نحات أصله طلياني، مولود في مرسية اسمه «زار سيلو»
Zarcillo
وكان له مذهب خاص لا يقلد فيه غيره.
أما من جهة التصوير فلم يوجد في أسبانية بقايا تصوير من عهد القوط الأولين وإنما بقيت تصاوير راجعة إلى القرون التي كان فيها العرب مالكين لأسبانية. وإن السائح يجد في الإسكوربال، وفي المكتبة الوطنية في مجريط، وفي أكاديمية التاريخ في هذه العاصمة، كتبا أثرية تشتمل تضاعيفها على صور يأخذ منها صورة ذهنية عن درجة هذا الفن في أسبانية لعهد العرب، ومنها صور لبعض القصور العربية، وكان يسمى هذا النوع من الرسم بالبيزنطي. ثم دخل في أسبانية التصوير الإفرنسي، ومنه آثار تذكر في طلمنكة، وبنبلونة، وتطيلة، ودخل من جهة أخرى التصوير الإيطالي واشتهرت له نفائس في بلنسية وكتلونية وجزيرة ميورقة، وامتاز بنصاعة الألوان، ودقة التقاطيع، وغلب عليه الجمال. وقد وجد في أسبانية نوع من التصوير لا يخلو من الصنعة العربية منه مذبح دير «بيادره»
.
وعلى كل حال فلا الفن الإفرنسي، ولا الفن الإيطالي، بلغ في أسبانية في التصوير ما بلغه الفن الفلمنكي، فلقد اشتهر من مصوري الفلمنك الذين كانت أسبانية معرضا لبدائعهم «جان فان أيك»
Van Eyck
ونبغ مصورون أسبانيوليون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هم من مقلدي الطريقة الفلمنكية. وفي كل مقاطعة من أسبانية يجد العارف بهذا الفن مسحة منتقلة إليها من مملكة أجنبية. ففي الشمال مثل نبارة وأراغون تسود الريشة الإفرنسية، وفي الشرق مثل بلنسية وميورقة تسود الريشة الإيطالية، وأما في برشلونة فتوجد آثار الرسم الإفرنسي والألماني والإيطالي على السواء، وأبدع أمثلة التصوير الأراغوني والقشتالي يجدها الإنسان في سقوبية وآبلة، وفي المتحف الآثاري في مجريط، كما أنه يجد أنفس قطع الفن الكتلوني في كنيسة برشلونة، وكذلك يجد في متحفي بلنسية وميورقة نفائس كثيرة. وفي أشبيلية يتجلى أيضا الفن الفلمنكي عيانا، لأن أعظم مصور في هذه البلدة وهو «كاسترو»
Castro
كان من أتباع الطريقة الفلمنكية، ثم طرأت على أشبيلية طريقة جديدة طليانية الأصل تميل على محاكاة الواقع بحذافيره، وعدم الاسترسال إلى التخيل، واشتهر بها مصور اسمه «زورباران»
Zurbaran
ولا تنس آثار مصوري البنادقة الذين من عملهم أماثيل أنيقة في الإسكوربال وقصر مجريط. وكان قد نبغ من رجال الفن البندقي مصور يقال له «تتوان»
Tetuan
ونبغ له تلميذ يوناني الأصل أطلق عليه الأسبان لقب «الكريكو»
Greco
وقد رأيت لهذا الكربكو صورا كثيرة في طليطلة.
وفي القرن السادس عشر نبغ في مصوري أسبانية رجل يقال له «هريره»
Herrera
يعده الأسبانيول المفن الوطني الأكبر، لأنه يمثل الرصانة والشدة والحمية والصفات التي تغلب عليهم. وكان أهل بلنسية معروفين بحسن الذوق في التصوير ونبغ فيهم نوابغ في هذا الفن، ولكن تأثير الفن الإيطالي ظاهر في تصاويرهم، ومن أشهر هؤلاء «ريبالتا»
Ribalta
ثم «إسبينوزه»
Espinosa
تلميذه ثم «ريباره»
Ribera . وليس في أسبانية مدرسة أحدث عهدا في التصوير من مدرسة غرناطة وممن نبغ فيها «الونزوكانو»
Cano . وفي القرن السابع عشر نبغ «مورلو»
Murullo
الذي يحبه الأسبانيول أكثر من غيره، وقد كان في فنه من مقلدي الطبيعة، أمينا للحقيقة، لا يؤثر الخروج عنها، وكان له ميل إلى محاكاة أذواق العامة وله تلاميذ كثيرون مثل «أوزوريو»
Osorio
و«طوبار»
Tobar
وظهر في ذلك العصر أيضا «فلاسكس»
Velazquez
وأصله من شلب وقد تبع في التصوير الطريقة الأشبيلية، وترك آثارا يفتخر بها الأسبانيول، مثل صورة فيليب الرابع، وصورة الدون كارلوس، ولم يسن لنفسه طريقة يقال إنها طريقة مدرسية ليتابعه الناس فيها، بل لم يكن يتقيد بأسلوب خاص به. وفي مجريط نبغ «جوان كارينيو»
Carreno
في أوائل القرن السابع عشر، وكان مصورا للبلاط الملوكي في أواخر عهد آل هبسبورغ، ثم اشتهر «سيربزو»
Cerezo
و«فرنسيسكو ريزي»
Rizi
الذي يحاكي في تصويره الألوان المستحبة في الشرق. ومن مصوري القرن السابع عشر في مجريط «ليوناردو»
Leonardo
ثم «مينوز»
Munoz : وفي أواخر القرن السابع عشر نبغ «كولو»
Coello
وكان يحاكي الفلمنكيين بسطوع الألوان وإشعاع النور، شثونة التقاطيع. وبه ختمت دولة التصوير القديمة في أسبانية، وقيل إنه مات كمدا، لأن البلاط الملوكي استدعى إليه «جيوردانو»
Jiordano
وفي زمن آل بوربون نبغ «بالومينو»
ولكن البوربون في القرن الثامن عشر اعتمدوا على مصوري الفرنسيس، وروجوا بضائعهم. وفي أواخر القرن الثامن عشر، إلى أوائل التاسع عشر، اشتهر «فرنسيسكو غويا»
Goya
وكان هذا الرجل أعجوبة في طريقته، يرسل نفسه على سجيتها، ولا يعرف المحاباة، وقد تعرض غويا هذا لجميع المواضيع، وله تصاوير دينية معلقة في كنائس طليطلة وبلنسية ومجريط، إلا أنه لم يكن يحسن إلا هذا اللون، ولم يكن الناس يحبون تصاويره إلا لخشونتها، ولمذهبه في الصراحة، لا رئاء فيها. والصورة التي رسمها لعائلة كارلوس الرابع هي في الحقيقة مخزاة ناطقة بعظائم أمور. وله تصوير ملاعب الثيران، وديوان التفتيش، وتصاوير تمثل حرب الاستقلال، أجاد فيها إلى الغاية ويقال إنه أقدر مصور مثل أعياد الأسبانيول. وجاء خلفا له مصور يقال له «مدرازو»
Madrazo .
ثم جاء العصر الأخير فنبغ «براديلا»
و«بنليور»
Benlliure
وإضرابهما، فأتقنوا الصور التاريخية، وفق هوى الأسبانيول في الغرام بالماضي المجيد، والافتتان بالعظيم والمحزن والمناظر القاسية. ثم ظهر المصور «فورتوفي»
Fortuny
وهو من كتلونية، اعتنى بالحياة العصرية، وكان له ملكة تامة في إيجاد تناسب الألوان، على نمط نساجي خراسان وكشمير. وبالجملة فالأسبانيول أصحاب دولة في التصوير والنحت، وربما كانوا أدرى بتمثيل أحوالهم الداخلية، والأشكال التي ترتاح إليها نفوسهم من سائر الأمم، ولو كان الآخرون أعلى منهم كعبا في الفنون النفيسة على وجه العموم. (2) كلام القاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي الطليطلي
المتوفى سنة 462 وذلك عن الأندلس العربية في كتابه «طبقات الأمم»
قال تحت عنوان «العلوم في الأندلس»: وأما الأندلس فكان فيها أيضا بعد تغلب بني أمية عليها جماعة عنيت بطلب الفلسفة، ونالت أجزاء كثيرة منها، وكانت الأندلس قبل ذلك في الزمان القديم خالية من العلم، لم يشتهر عند أهلها أحد بالاعتناء به إلا أنه يوجد فيها طلسمات قديمة في مواضع مختلفة، وقع الإجماع على أنها من عمل ملوك رومية، إذ كانت الأندلس منتظمة بمملكتهم.
ولم تزل على ذلك عاطلة من الحكمة إلى أن افتتحها المسلمون في شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، فتمادت على ذلك أيضا لا يعني أهلها بشيء من العلوم إلا بعلوم الشريعة، وعلم اللغة، إلى أن توطد الملك لبني أمية ، بعد عهد أهلها بالفتنة، فتحرك ذوو الهمم منهم لطلب العلوم، وتنبهوا لإشارة الحقائق على حسب ما يأتي ذكره بعد إن شاء الله تعالى.
وأما دين أهل الأندلس فدين الروم من الصابئة أولا ثم النصرانية إلى أن افتتحها المسلمون في التاريخ الذي ذكرناه، وأما ملكهم فكان لطوائف من الأمم مختلفة، تداولوها أمة بعد أمة، فمن تلك الأمم الروم وكان عمالهم ينزلون مدينة طالقة العتيقة المجاورة لأشبيلية. واتصل ملكهم بها زمنا طويلا إلى أن غلبتهم عليها القوط. فانتسخ الملك الرومي منها، واتخذ القوط مدينة طليطلة، من مدائنها العتيقة قاعدة لملكه، وملكوا الأندلس أفخم ملك قريبا من ثلاثمائة سنة، إلى أن غلبهم المسلمون عليها في التاريخ الذي قدمنا ذكره، واقتعد ملوكهم قرطبة وطنا، ولم تزل مركزا لملك المسلمين بها إلى زمان الفتنة، وانتشار الأمر على بني أمية. فافترق عند ذلك شمل الملك بالأندلس، وصار إلى عدة من الرؤساء، حالهم كحال الطوائف من الفرس.
وأما حدود الأندلس، فإن حدها الجنوبي منها الخليج الرومي، الخارج مما يقابل طنجة في موضع يعرف بالزقاق، سعته اثنا عشر ميلا، ثم ينتهي إلى مدينة صور من مدائن الشام. وحداها الشمالي والغربي، البحر الأعظم المسمى أوقيانوس المعروف عندنا ببحر الظلمة. وحدها الشرقي الجبل الذي فيه هيكل الزهرة الواصل ما بين البحرين: بحر الروم، والبحر الأعظم، ومسافة ما بين البحرين في هذا الجبل ثلاث مراحل، وهو الحد الأصغر من حدود الأندلس، وحداها الأكبران الجنوبي والشمالي، ومسافة كل واحد منهما نحو ثلاثين مرحلة، ومسافة حدها الغربي نحو من عشرين مرحلة، ووسط الأندلس مدينة طليطلة العتيقة، التي كانت قاعدة القوط. وعرضها 39 درجة و50 دقيقة، وطولها 28 درجة بالتقريب، فصارت بذلك في التقريب من وسط الإقليم الخامس، وهي في وقتنا هذا الذي هو سنة ستين وأربعمائة قاعدة الأمير أبي الحسن يحيى بن إسماعيل بن عامر بن مطرف بن موسى بن ذي النون عظيم ملوك الأندلس. وأقل بلاد الأندلس عرضا المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، على البحر الجنوبي منها، وعرضها 36 درجة، وأكثر مدنها عرضا بعض المدائن التي على ساحلها الشمالي، وعرض ذلك الموضع 43 درجة ، فمعظم الأندلس في الإقليم الخامس، وطائفة منها في الإقليم الرابع، كأشبيلية، ومالقة، وقرطبة، وغرناطة، والمرية، ومرسية. وهذا الجبل الذي ذكرنا فيه هيكل الزهرة الذي هو الحد الشرقي من الأندلس، هو الحاجز ما بين الأندلس وبين بلاد أفرنسا من الأرض الكبيرة، التي هي بلاد إفرنجة العظمى والأندلس آخر المعمور في المغرب، لأنها كما ذكرنا منتهية إلى بحر الأوقيانوس الأعظم. ا.ه.
الفصل الرابع
التقسيمات الجغرافية
(1) القشتالتان وليون
لم تكن أسبانية في الماضي مملكة واحدة كما هي الآن، بل كانت أقساما شتى، وممالك مستقلة بعضها عن بعض. وبعد أن غلب الغرب على جميعها، ولم يبق موضع قدم منها لم يستولوا عليه، بقيت صخرة لاذ بها ملك يقال له «بلاي» دخل في كهف منها بثلاثمائة رجل، فلم يزل العرب يقاتلونه حتى مات أصحابه جوعا، وترامت طائفة منهم إلى الطاعة، فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلا، معهم عشر نسوة أصروا على الامتناع في ذلك الكهف، الذي كان يصعب الوصول إليه، وجعلوا يقتاتون من العسل الذي كان النحل يمجه في خروق الصخرة، فاستخف بهم المسلمون وتركوهم وقالوا ما في رواية «أخبار مجموعة: ثلاثون علجا ما عسى أن يكون أمرهم!؟ فهؤلاء بعد رجوع المسلمين عنهم عادوا فخرجوا من الصخرة غير خاضعين، واعصوصب حولهم كل من نزع به في تلك الأرض عرق الأنفة عن الخضوع للأجنبي، ورأس بلاي هذا تلك العصابة التي لم تزل تنمو وتغلظ، حتى صارت إمارة حقيقية، ثم مملكة يحسب حسابها. ثم تكونت منها سلطنة قشتلة التي هي أول حكومة أسبانيولية استقلت عن الغرب بعد أن دانت لهم جميع الجزيرة الأيبيرية.
ثم لما بدأ العرب يتراجعون إلى الجنوب، بسبب الفتن التي كانت تقع بينهم وبين البربر، وتقع فيما بينهم بعضهم مع بعض، جعلت قشتالة تسترد شيئا فشيئا من البلدان التي كان المسلمون قد استعمروها، وصار المسلمون يجلون عن الشمال إلى الجنوب، فلذلك انقسمت قشتالة إلى ما يقال له «قشتالة القديمة» و«قشتالة الجديدة» وجميع قشتالة
Royaume de deux Castilles
واقعة بين جبال «استورياس»
Asturies
و«بسقاية»
Biscaye
من الشمال، ومملكتي «أراغون» و«بلنسية» من الشرق، ومملكة «مرسية» بالأندلس من الجنوب، و«الأسترامادور» و«ليون» من الغرب. فأما «قشتالة القديمة»
Castilla la Vieja
فهي إلى الشمال وأما «قشتالة الجديدة»
Castilla la Heuva
فهي إلى الجنوب. والبسيط المرتفع الأيبيري الذي يقول له الأسبانيول «ميزيتا»
Mescta
يشتمل على القشتاليين وليون والأسترامادور. وليس في هذا البسيط شيء ينطبق على ما يتخيله الناس، وما تسير به الأخبار عن خصب أسبانية، وكرم تربتها. وطيب نجعتها، واعتدال هوائها. والحقيقة أن أسبانية التي كسبت تلك الشهرة، وقيل إنها جنة الله في أرضه، هي مقاطعات أسبانية الجنوبية والشرقية، وقطعة من وادي أبره لا غير. ومتوسط ارتفاع هذا البسيط الذي نحن في صدده عن سطح البحر هو 800 متر يحده من الشمال جبال أشتورياس
Asturias
وجبال قنتبرية
Cautabres
ومن الشرق الجبال المسماة بالأيبيرية ومن الجنوب شارات مورينا. وقولنا أنه ليس مطابقا للصفة التي يتخيلها الناس عن أسبانية لا ينفي أن يكون فيه أودية عميقة، ذات زرع وضرع، وإن كان يوجد بجانبها بسائط، هي في الحقيقة غير قابلة للسكي، من قسوة هوائها، وكزازة أرضها.
وأما تقسيمات قشتالة القديمة التي أوتادها جبال قنتبرية في الشمال والتي ريها بواسطة «الوادي
1
الجوفي» أي «دورو»
Douro
ووادي «إبره» ووادي «بسيورقة»
فهي ست مقاطعات:
الأولى: «برغش»
Burgos
ومساحتها 14196 كيلو مترا مربعا، وعدد سكانها نحو من 350 ألف نسمة.
والثانية: «آبلة»
Avila ، ومساحتها 8047 كيلو مترا مربعا. وعدد سكانها 210 آلاف نسمة.
والثالثة: «سقوبية»
Segovle
ومساحتها 10318 كيلو مترا مربعا، وعدد سكانها زهاء 170 ألف نسمة.
والرابعة: «شورية»
Soria
ومساحتها 10318 كيلو مترا مربعا وعدد سكانها 160 ألف نسمة.
والخامسة: «لوكروني»
Logrono
ومساحتها 5041 كيلو مترا مربعا، وعدد سكانها 190 ألف نسمة.
والسادسة: «شنت أردم» أو «شنت أندر»
Santander
ومساحتها 5460 كيلو مترا مربعا، وعدد سكانها نحو من 300 ألف نسمة.
أما قشتالة الجديدة فهي في قلب أسبانية تتوسطها شارات «وادي الرمل»
Guadarrama
واعلى قنة فيها ترتفع عن سطح البحر 2385 مترا وهي إلى الشمال من قشتالة الجديدة، وأما شارات مورينا فهي منها إلى الجنوب الغربي، وفيها يمر «وادي تاجة»
Tago
و«وادي شقر»
Xucar
و«وادي منزانارس»
Manzanares
و«وادي يانة»
Guadiana
وهي تشتمل على المقاطعات الآتية:
مقاطعة «مجريط»
Madrid
ومساحتها نحو من 8000 كيلو متر مربع، وعدد سكانها 880 ألف نسمة. و«طليطلة» ومساحتها 15334 كيلو مترا مربعا، وسكانها نحو من 415 ألف نسمة. و«سيودادريال»
Ciudad-Real
ومعناها البلدة الملكية، وهي محدثة بعد مجيء العرب، ومساحتها 19741 كيلو مترا مربعا، وسكانها 380 ألف نسمة. و«قونلة»
Cuonla
ومساحتها 17193 كيلو مترا مربعا، وأهلها 270 ألفا. و«وادي الحجارة»
Guadalajara
ومساحتها 12192 كيلو مترا مربعا، وسكانها 210 آلاف.
وأما مملكة «ليون»
Leon
فكانت حدودها من الشمال الأشتورياس، ومن الشرق والجنوب الشرقي قشتالة القديمة، ومن الجنوب نحرا «الأسترامادور»
L’Estremadure
ومن الغرب غاليسية - وبلاد البرتغال، وليون اليوم هي عبارة عن المقاطعات التالية:
نفس ليون ومساحتها 15377 كيلو مترا مربعا، وسكانها 400 ألف نسمة. «طلمنكة»
Salamanqua
و ومساحتها 12321 كيلو مترا مربعا، وسكانها 335 ألفا. «زمورة»
Zamora
ومساحتها 10615 كيلو مترا مربعا، وسكانها 280 ألفا. و«بلد الوليد»
Valladolid
ومساحتها 8141 كيلو مترا مربعا، وسكانها 285 ألفا و«بالنسية»
- هي غير بلنسية
Valencia
التي على البحر المتوسط - ومساحتها 8431 كيلو مترا مربعا، وسكانها نحو من 200 ألف نسمة.
ولقد كانت هذه المقاطعات التي في قلب أسبانية تعد من فيافي بني أسد، لولا ما ساق إليها العرب من مياه، وشقوا من جداول، واتخذوا من وسائل، حتى اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وكانوا إذا عدموا الينابيع المتفجرة، التي تلزم لأجل الري، يبادرون إلى إنشاء البرك، والمصانع الهائلة، يجمعون إليها المياه السائلة في الشتاء، على نمط ما كانوا يعملون في اليمن، وذلك مثل البركة التي في «منسا»
Mansa
وهي تحريف المصنع، وأما بعد رحيل العرب فقد تهدمت المصانع وطمست تلك القني، ورجعت هذه الأرضون إلى قسوتها الأولى، وتبدلت من خضرتها غبرة وصارت تلك الغلات من حنطة وحبوب وزعفران سدادا من عوز، في أماكن معلومة، وبقي ذلك إلى العصر الحاضر الذي عمت به المدنية، وامتدت السكك الحديدية، فعاد الأهالي يعتنون بهذه الأراضي، ويستدرون خيراتها، لأنهم أصبحوا قادرين على إخراجها إلى الخارج، بواسطة السكك الحديدية، وصاروا يميرون بحنطتهم بلاد البرتغال، وقويت رغبتهم في زراعة قصب السكر، والشمندر. وقد كان في أسبانية من عشرين سنة أكثر من ثمانين معملا للسكر. (2) بلاد البشكنس
أما بلاد البشكونس فهي ثلاث مقاطعات:
الأولى: «غيبوسكوه»
Guèpuzco ،
والثانية: «بسقاية»
Biscaye
أو
Vizcaya .
والثالثة: «ألبة» بالتحريك
Alava .
ومساحة جميعها 7075 كيلو مترا وعدد سكانها نحو من سبعمائة ألف. وهم أمة مستقلة بنفسها، تسكن إلى الشرق من جبال قنتبرية، على أبواب فرنسا، وأصل اسم هذه الأمة هو «الباسقونغادوس»
Vascongados
ومنه اشتق اسمها الحالي «الباسك» أو «الباسكس»
Les Basques . وكان العرب يقولون لهم الباشكونس، ومنهم من يقيم على حدود «نباره»
Navarre
ومجموعهم يقارب مليونا أو أكثر. ومنهم جم في أرض فرنسا، ولغة الجميع واحدة مختصة بهم. ومنهم من يتكلم بالأسباني أو الإفرنسي، ولكن نحوا من نصف مليون لا يتكلمون بغير لغة الباشكونس. وهم من أشد أمم الأرض استمساكا بقوميتهم، واحتفاظا بخصوصيتهم، يزعمون أنهم أقدم أمة في أوروبا، ولا نزاع في أنهم هم بقايا الشعب الأيبيري القديم، والثمالة الخالصة المحضة التي لم تدخل عليها شائبة من ذلك الشعب القديم. أشداء جبليون، موثقو الخلق، تغلب عليهم السمرة، إلا من كان منهم في أعالي الجبال فيغلب عليهم اللون الأشقر، شم الأنوف، محددو الأذقان، شعورهم مائلة إلى السواد، وكان لهم زي خاص بهم لا يعرفون سواه، ولكن قد بدأ هذا الزي يضمحل، ولم يبق منه إلا طاقية من الصوف يقال لها البوانه
Laboina
لا يزالون يلبسونها على رؤوسهم، وهي زرقاء في مقاطعة غيبوسقوه، وحمراء في بسقاية وبيضاء في ألبة. والبشكونس الذين في أرض فرنسا أيضا يحافظون عليها. وأما من جهة عاداتهم القديمة فمنهم من تركها، ومنهم من لا يزال يعض عليها بالنواجذ، مثل أهل بسقاية. وتجدهم يستعملون محاريثهم القديمة، وعجلات تجرها البقر، وعليها نبر مزخرف مغطى بجلد ضان. وعندهم نوع من الرقص في أعيادهم ومواسمهم يسمونه «أوريسكو»
Aurréscu
يجرونه على صوت مزمار صغير يسمى «دولسينيه»
Dulsinya
مع قرع الطبول.
والبشكونس من أشد أمم الأرض حبا بالحرية وأنفة عن قبول الضيم، وكما كانوا يردون غارات العرب من الجنوب، كانوا يردون غارات الفرنج من الشمال وكانت مواقع بلادهم الجبلية تساعدهم على رد غارات هذه الأمم العظيمة، فإن مساكنهم أكثرها في الجبال تحيط بها الأوعار، والأرض كما يقال تقاتل مع أهلها.
وهم الذين أوقعوا بجيش شارلمان وهو منصرف عن سرقسطة بعد أن عجز عن أخذها. وسيأتي في كتابنا هذا عند الوصول إلى التاريخ تفصيل جميع ما وقع بين البشكونس والعرب. ولم يخضع البشكونس لملوك ليون، وملوك نبارة، وملوك قشتالة في الآخر، إلا على شرط احترام هذه الدول لعاداتهم وقواعدهم. وكانت لهم امتيازات يقال لها «فيورس»
Fueros
ولم تزل امتيازاتهم هذه محفوظة، إلى أن جرت الحروب الداخلية المسماة بالكارلوسية، والتي آخرها كان سنة 1876 فمن بعدها أزالت الحكومة الأسبانية امتيازاتهم وأخضعتهم للخدمة العسكرية، ولقانون احتكار الملح، واحتكار الدخان.
وهم يسمون أنفسهم بغير الاسم الذي يسميهم به الأسبان، أي الباسقونغادوس، الذي جاء منه اسم الباشكونس، الذي كان يسميهم به العرب. فاسمهم هم بلغتهم هو «أوسكالدوناك»
Euscaldunac
ولا يعرف معنى هذه الكلمة. وفي لغتهم لا يضعون أل التعريف قبل الاسم بل بعده. وهذا الاصطلاح ليس بنادر، بل اللغة السويدية واللغة الدانمركية واللغة البلغارية واللغة الرومانية فيها ذلك. وليس في هذه اللغة المثنى بل عندهم المفرد والجمع. وعلامة الجمع هي الكاف (K)
وكذلك لا يوجد عندهم فرق بين المذكر والمؤنث في التعبير. وقد غلب ذلك على لسانهم حتى إذا تكلم البشكونسي بالإفرنسية يقول. هذا المرأة
Ce Femme
بدلا من هذه المرأة. وأما من جهة الأفعال فربما كان بينهم بعض المشابهة مع العرب، فإنه إذا أراد البشكونسي أن يقول مثلا: «أنا أجيء». يقول «أنا عمال أجيء» وإذا أراد أن يقول لك «ستأكل» قال «عليك أن تأكل» وكذلك هم مثل العرب في كثرة المترادفات في لغتهم، برغم أن لغتهم في أصلها فقيرة، وهي لم تكمل إلا بالألفاظ الكثيرة الأجنبية، من غشقوني، وافرنسي، وأسبانيولي، وعربي. بحيث إذا تجرد هذه اللسان من هذه الألفاظ الداخلة عليه لا يبقى منه إلا ما يعبر عن الأشياء المادية والمحسوسة، فهو في هذا أشبه بالتركي. وليس عند الباشكونس لفظة تعبر مثلا عن «الروح» واسم الله عندهم «السيد الذي في العلى» وعندهم «الإرادة» يعبر عنها بلفظة تفيد «الفكر والشهوة والتمني» وقد اجتهد كثير من العلماء في درس لغة الباشكونس، ولكن صعوبة هذا الدرس جاءت من كثرة اختلاف لهجات هذه الأمة، فإن القرية الواحدة لا تتلكم بلهجة القرية التي تجاورها، فصارت اللهجات لا تحصى. وهذا شأن كل لغة الكتابة فيها نادرة، وشأن كل شعب تغلب عليه الأمية. ومع هذا فقد أحصى الأمير لويس بونابرت 25 لهجة باشكونسية، يمكن إعادتها إلى ثمانية أصول بالتحليل الدقيق. وهذه الأصول الثمانية تتلخص في ثلاثة عامة. أما الأصول الثمانية فهي: اللابوردي، والسولتي، والنباري الأدنى الشرقي، والنباري الأدنى الغربي، والنباري الأعلى الشمالي، والنباري الأعلى الجنوبي، والغيبوشقي، والبسقائي، ويمكننا أن نرد أيضا هذه اللهجات المختلفة إلى شرقي وغربي، فالسولتي والنباري الأدنى هما الشرقي، والبسقائي هو الغربي. واللهجات الأخرى هي المتوسطة بينهما. وبلاد الباشكونس لا تخلو من أجناس غريبة عنها، وليس فيها مقاطعة خالية من الغرباء غير «غيبوسقوه» وبلاد نبارة نصفها أو أقل من الباشكونس. وأما بيونة وبنبلونة وبلباو فلا يتكلمون فيها بلغة الباشكونس، وقد بدأت هذه اللغة تنحل وتضمحل بغلبة الأسبانيولي والإفرنسي عليها. ولا عجب في ذلك، فإن مكتوباتها نادرة، ولم يعثر الباحثون على كتب بهذه اللغة ترجع إلى أعلى من القرن العاشر للمسيح، قيل إنهم وجدوا صحيفة قديمة من سنة 980 فيها تحديد مقاطعة بيونة
Bayonne ، وقيل إن هذه الصفحة نفسها ليست بوثيقة لا يعترضها الشك.
وقد كشف أحد الرهبان اليسوعيين جدولا فيه ثمانية عشر كلمة من لغة الباشكونس، وذلك في كتاب مخطوط لزائر افرنسي زار كنيسة سنت ياقو في القرن الثاني عشر، وأقدم كتاب عند الباشكونس طبع سنة 1545، وهو ديوان شعر مشتمل على قصائد دينية، وأخرى غرامية. وقد طبعوا أيضا ترجمة الإنجيل إلى هذه اللغة سنة 1571، وذلك على نفقة مجلس نبارة وجميع ما هو مكتوب بلغة الباشكونس يبلغ ستمائة مجلد لا أكثر. وأكثر الذين كتبوا هذه الكتب هم مؤلفون تلقوا ثقافة افرنسية أو قشتالية ومعظمها في مواضع دينية، وعن حياة القديسين. نعم يوجد من الباشكونس من تلقوا ثقافة أسبانيولية أو افرنسية، وأجادوا الكتابة، لكن باللغة الافرنسية واللغة الأسبانية، وقد جمع بعض المؤلفين كثيرا من قصص الباشكونس وتقاليدهم وأخبارهم. واحسن المجاميع في هذا الموضوع هو ما كتبه يوليان فيسون
Viuson
الذي له على الباشكونس بحث في الإنسيكلوبيدية الافرنسية الكبرى.
2
أما الباشكونس الذين في أرض فرنسا فهم يسكنون مقاطعات لابورد
La bourd
ونباره السفلى
La basse Navarre
وسول
Soule
ومساحة هذه المقاطعات الثلاث هي ستة آلاف كيلو متر مربع. فأما المقاطعات التي يسكنونها في أسبانية فقد تقدم ذكرها. وهي جزء من ثلاثين من مساحة الجزيرة الأيبيرية بحسب تعريف اليزي «ركلوس» الجغرافي الشهير
Lisée Reculs
وبلادهم فيها قابلية زراعية، وفيها معادن كثيرة كالقصدير والرصاص والحديد ولكنهم من جهة الزراعة لم يكونوا ممن بلغ شأوا عاليا. ومن الباشكونس مهاجرون كثيرون إلى أميركة كل سنة، فلهذا عددهم يقل في بلادهم الأصلية يوما فيوما.
وقد فحص الأطباء مثل الدكتور بروكا والدكتور فالسكو من مجريط جماجم الباشكونس من سبعين سنة، وأخذوا منها عددا كبيرا من مقابر تلك البلاد، كما أنهم ميزوا جماجم الأحياء، فوجدوا أن هذه الأمة فيها نوعان من الجماجم، منها النوع الذي يزيد طوله على عرضه بنحو الربع، ومنها الذي يتساوى طوله بعرضه. ويقال عن أخلاق الباشكونس أنهم كثيرو الخيالات، سريعو الانفعالات، وأن عندهم خرافات قديمة لم يتخلصوا منها حتى الآن، ولكن فطرتهم الأصلية مبنية على الاستقامة، وعندهم حسن معاشرة ومخالقة، إلا أنهم بطاشون عند الغضب، ومع أن الرصانة غالبة على طباعهم، فإنهم يحبون الألعاب، ويتلذذون بالمآكل والمشارب وحسن الوفادة، وإكرام الضيف عندهم مما لا يفوقهم فيه أحد. ونساؤهم حلائل أمينات، وأمهات مربيات، إلا أن التدين عندهن بالغ درجة الوسواس، لا سيما عند البنات اللواتي يئسن من المحيض، وكثيرا ما ينتهي أمر العانس من هؤلاء بالجنون. والباشكونسي بطبيعته ذكي الفؤاد، شهم، عزيز النفس، صعب المقادة، وإذا تعلم وتهذب ففيه قابلية كبيرة للترقي، أما خرافاتهم القديمة فمنها أن الإنسان إذا رأى امرأة يوم الاثنين تحت نافذة بيته ففي ذلك الأسبوع يحصل له بلاء، وإذا صاح الديك في أول الليل فيكون هذا الصياح علامة على كون الديك أحس بمرور الساحرات وهو خطر يتلافونه بأخذ قبضة من الملح وذرها في أرض البيت ، والمتزوج يوم عرسه يجتهد أن يمسك بذيل من ثوب زوجته ويضعه تحت ركبته حتى يكون فيما بعد هو السيد في البيت، وكان للباشكونس اعتقاد عظيم بالسحر، وكانت السحرة عندهم في كل مكان، وكانت لهم اجتماعات يتداعون إليها، ويعتقدون أن هؤلاء السحرة لهم علاقات مع الشيطان وأنهم يدفعون شره، ولكن هذه الخرافات قد بدأت تضمحل شيئا فشيئا.
حصن بوترون في بيلباو من بلاد الباشنكس.
وقد كان للباشكونس دور مهم في حروب استرداد الأندلس من أيدي المسلمين وبهذا السبب تميزت بينهم عائلات كثيرة، ورأست وعزت وبزت، وبتوالي الزمن صارت نبيلة. ففي قشتالة وليون الملك هو المالك لجميع الأرض، أما في نبارة، حيث مواطن الباشكونس، فالملك يشاركه في ملك الأراضي هؤلاء النبلاء الذين ساعدوه على طرد المسلمين، ولهذا عندهم هناك ثلاث طبقات: النبلاء، والعامة، والطبقة المتوسطة بينهما. وفي «ألبه» الأهالي ينقسمون إلى نبلاء وإلى عامة، وذلك لأن منهم من حارب المسلمين، ومنهم من خضع لهم، فالذين خضعوا لهم هم المعدودون من صنف العامة.
ولهذا حصل التمايز بينهما، أما في «بسقاية» و«غويبوسقوه» و«لابورد» حيث لم يتمكن المسلمون، ولم تكن لهم ولاية، فجميع الأمة معدودة من النبلاء، لأنه ليس فيها من أسلم، ولا من خضع للإسلام. والنبلة في هذه المقاطعات يقال لها نبالة أرض، لا نبالة دم، والفرق بينهما أن الذين أخرجوا المسلمين بالحرب صارت لهم حقوق متأثلة، واستولوا على الأراضي التي كانت صارت إلى العرب، وأقاموا فيها أكارين من عبيدهم وجنودهم، فصار هؤلاء بكرور الأيام عائلات نبيلة ذوات إقطاع، وأما نبلاء الأرض فهم الذين توارثوا أراضيهم من القديم، وحفطوها خلفا عن سلف، لأنه لم يقع عليها فتح، وأما القوانين والأعراف التي يمشي الباشكونس عليها فهي عبارة عن عادات واصطلاحات قديمة مختلطة بقوانين جديدة ولكل ناحية عادات تختلف عن غيرها، وأكثرها يدور حول الامتيازات التي نالها بعض الأهالي، وتملكوا بها الأراضي في حروبهم مع العرب. وهذا هو خلاصة ما يقال عن الباشكنس، إحدى الأمم الأيبيرية وأقدمها، ونزيد عليه أن باشكنس فرنسا وباشكنس أسبانية عقدوا سنة 1902 مؤتمرا في «فونتارابية» سموه مؤتمر اتحاد الباشكنس. (3) عود إلى ليون وقشتالة
ثم نعود إلى تفصيل ما أجملناه عن ليون والقشتاليين بقدر الإمكان فنقول:
الحدود بين فرنسا وأسبانية من جهة الشمال الغربي هي وادي «بيداسوا»
Bidassoa
الذي يجري بين «هنداي»
Hendaye
و«فونترابية»
Fontarabie
وهناك جزيرة اسمها جزيرة الحجل، في وسط النهر اتفقت فرنسا وأسبانية من قديم الزمان على جعلها منطقة متحايدة، وفيها تلاقى الكردينال مازارين مع الدون «دوهارو»، لأجل عقد صلح البرانس، وتقرير زواج بنت فيليب الرابع ولويس الرابع عشر، وفي هذه الجزيرة نفسها انعقد سنة 1464 مؤتمر بين لويس الحادي عشر ملك فرنسا، وهنري الرابع ملك قشتالة، وفيها أيضا ودع فرنسوا الأول ملك فرنسا أولاده وعانقهم وهم ذاهبون رهائن إلى مجريط، بحسب معاهدة سنة 1526 وفي هذه الجزيرة أيضا تقررت بين فرنسا وأسبانية مصاهرة مزدوجة، وذلك سنة 1615 بعقد نكاح إيزابلة ابنة هنري الرابع ملك فرنسا على فيليب الرابع ملك أسبانية وعقد نكاح حنة النمساوية أخت فيليب الرابع هذا على لويس الثالث عشر.
مدينة ايرون.
ويوجد على وادي بيداسوا جسر مشترك طوله 130 مترا، والنقطة المتوسطة منه هي الحد الفاصل بين المملكتين، فإذا تجاوزته إلى الغرب فأنت في مقاطعة «غينبوسكو» من بلاد الباشكونس. وأول مدينة تستقبلك هي مدينة «إيرون»
Irun
وعدد سكانها بضعة عشر ألف نسمة، وهي بلدة عصرية ذات موقع جميل على الضفة اليسرى لوادي بيداسوا. ثم على مسافة عشرين كيلو مترا من هناك تصل إلى مدينة «سان سيباستيان»
Saint-Sebastien
والباشكونس يقولون لها «دونوستيا»
Donostiya
ويقولون لها أيضا «أيروشولو»
Eruchulo
وهي قاعدة مقاطعة «غينبوسكوا» وموقعها من أبدع المواقع. وفيها كانت تصيف العائلة الملوكية في أسبانية، ونبلاء الأسبانيول يقصدونها للنزهة، وعدد سكانها يقرب من خمسين ألف نسمة. وهي قسمان، قديم وجديد، وحولها جبال يصعد إليها المتنزهون، وعليها حصون منها جبل «ايقلدو»
Igueldo
وجبل «العليا»
Ilia
وعلى خمسين كيلو مترا من هناك مدينة «طولوزه»
Tolosa
وهي بلدة صغيرة، سكانها ستة آلاف نسمة، وموقعها بهيج، وفيها معامل للورق، وهي على نهر «أورية»، وبالقرب منها على مسافة عشرين كيلو مترا بلدة «زومراقة»
Zumarraga
وهي بلدة على نهر أوروله
Urola ، ولها أيضا منظر بديع . ومن هذه البلدة خرج «ميكال لوبس دوليكازبي»
De Ligazpé
فاتح جزر الفيلبيين سنة 1569، وله فيها تمثال، وبالقرب منها بلدة صغيرة يقال لها «فرغاره»
Vergara
والبلاد هناك كلها جبال وأودية، إلى أن يصل المسافر إلى بسيط «ألبة»
Alava
ولألبة ذكر كثير في كتب العرب. وهذا البسيط تنحدر إليه جداول أهمها نهير يقال له «زادوره» وقاعدة مقاطعة ألبة مدينة «فيتورية» وكانت معروفة عند العرب، ويقال إنهم كانوا يقولون لها سنت مرية؟ وهي بلدة صناعية، سكانها 35 ألفا، يقال أن بانيها هو «ليوفيجلد» ملك البيزيقوت
Leovigilde
بناها سنة 581 بعد يوم كان له على الباشكونس، ثم إن الأذفونش الثامن ملك قشتالة انتزعها من يد النباريين سنة 1198 وفيها تمثال لرجل يقال له «ماتيومورازه» من زعماء الباشكونس، كان يدافع عن امتيازاتهم. والبلدة قسمان عتيق وجديد، والعتيق هو القسم الأعلى. وفي هذه البلدة، أي فيتورية، جرت معركة بين الإنجليز والفرنسيس في 21 يونيو سنة 1813 وكانت هذه المعركة ختام حرب أسبانية في زمان نابليون الأول. ثم هناك بلدة يقال لها «كستيلو» وبلدة أخرى يقال لها «أرغانزون» وهما من البلاد الصغيرة القديمة. ثم بلدة «ميرانده» وهذه سكانها خمسة آلاف نسمة، وفيها حصن قديم وهي على نهر إبره.
ومن جهة البحر يوجد بلدة يقال لها «غوتارية»
Guetaria
وبلدة يقال لها «زوميا»
Zumaya
على مصب نهر أورله، وبلدة يقال لها «سيستونه»
Cestona
وفي تلك الناحية دير كبير منسوب إلى القديس أغناطيوس لويوله
Ignacio de Loyola
مؤسس رهبانية الجزويت، وهو مبني في مكان البيت الذي ولد فيه لويوله. وعلى البحر مرسى يقال له «ديفا»
Deva
سكانه ثلاثة آلاف، وبلدة أخرى اسمها «ليكتيو»
Lequeitio
سكانها أربعة آلاف، ولها مرسى بديع. ثم بلدة «موتريكو»
Motrico
وأهلها صيادو سمك، وفيها تمثال من رخام للجنرال «داميان» المولود في موتريكو، والمقتول في واقعة طرف الأغر سنة 1805 ثم بلدة «أونداروه»
Ondarroa
وهي مرسى سكانه صيادو سمك أيضا، وبلدة «الزولة»
Alzola
وفيها حمامات معدنية تنفع لأجل مرض المثانة، وبلدة «الجويبار»
Elgoibar
وبلدة أخرى اسمها «إيبار» وفي كلتيهما معامل للسلاح. ثم بلدة دورنغو
Durango
ولها واد خصيب وفيها كنيسة «سان بطرودو طبيره» من أقدم كنائس الباشكونس، وبلدة يقال لها «آموريبيطة »
Amorebieta
وبلدة يقال لها «غرنيقه»
Guernica
وسكانها 3500، ولها موقع في غاية الجمال، وكانت في القديم قاعدة لمقاطعة «بسقاية».
بيلباو.
وهناك واد بديع يقال له «مينداكا»
Mundaca
وكان للإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث قصر للنزهة في تلك البقعة. ثم بلدة «برميو»
Bermeo
وسكانها عشرة آلاف، وفيها بيمارستان للمجانين يخص ثلاث مقاطعات الباشكونس. ثم بلدة «بيلباو»
Bilbao
وسكانها 95 ألفا، وهي على نهر «نرفيون»
Nervion
وهي قاعدة مقاطعة بسقاية، تحيط بها جبال مغطاة بالحراج، وتبعد عن البحر 12 كيلو مترا ولها تجارة واسعة، وهي قسمان. المدينة الجديدة، والمدينة القديمة. فالقديمة هي على الضفة اليمنى للنهر، والجديدة هي على الضفة اليسرى. وعلى النهر خمسة جسور، وقد أصلحوا النهر حتى صارت البواخر التي محمولها أربعة آلاف طن تدخل فيه. ولهذه البلدة مرسى على البحر عند مصب النهر يقال له «العبرة»
El-Ebra
وهذه المدينة معدودة من المدن الغنية، بسبب معادن الحديد التي بجانبها، وفيها مبان جديرة بالذكر، ومعاهد خيرية، منها ملجأ للعميان وللخرس، وفيها معامل، ويقال إن باني هذه المدينة هو «لوبس دوهارو»
Haro
أمير بسقاية، وذلك سنة 1300.
الحمام في بيلباو.
وفي تلك الناحية بلدة «أرانغورن»
Arenguren
وفيها معامل للورق، وبلدة «كارانزا»
Carranza
وفيها ينابيع معدنية والمهم هناك هو مدينة «سانت اندر»
Santander
وهي مدينة بحرية سكانها سبعون ألفا. وهي قاعدة مقاطعة بهذا الاسم، وهي بلدة قديمة، كانت تنتهي إليها طريق رومانية، وكان العرب يقولون لها «شنت أدرم» وأحيانا «شنت اندر» وهي قسمان: القسم الأعلى، وهو المدينة القديمة، وأزقتها ضيقة، والقسم الأدنى، وهو المدينة الجديدة ومرساها بديع، وتجارتها واسعة، وهي من أهم المرافئ البحرية في شمالي أسبانية.
ثم مدينة «أوردونية» وهي على وادي «نرفيون» وعدد سكانها 3500 وجميع مناظر تلك البلاد شائقة نظرا لكثرة الجبال والأودية والغابات فيها.
ثم نعود إلى الجهة الداخلية، وهي التي يمر بها نهر ابره، فمن مدن هذه الجهة «بريفسكا»
Briviesca
وهي بلدة صغيرة سكانها 3500 اجتمع فيها نواب البلاد سنة 1388 وقرروا أن ولي عهد قشتالة ينبغي أن يحمل لقب «برنس الأشتورياس» وبقربها بلدة «وأنيه»
One
وفيها دير للبندكتيين اسمه سان سلفادور، مبني سنة 1011 وفيه أربعة قبور من قبور الملوك وهناك قرية «كينتانا بالا»
Qnintanapalla
التي فيها سنة 1682 تزوج كارلوس الثاني ملك أسبانية بمارية لويز من آل بريون، في زمن لويس الرابع عشر. وقرية «توركمادة» التي ينسب إليها «تومادوتوركمادة»
Torquemada
رئيس ديوان التفتيش الشهير في أسبانية. وفي تلك البلاد مساكن كثيرة منحوتة في الجبال. ومن الأماكن المذكورة فيها قرية «دويناس»
Duenas
التي تلاقى فيها فرديناند ملك أراغون مع إيزابلا ملكة قشتالة قبل زواجهما.
أحد البيوت المالية في بيلباو.
وعلى وادي دورو
Duero
الذي يقول له العرب «الوادي الجوفي» بلدة «أرانده»
Aranda
وهي صغيرة بديعة المنظر، وهناك مدينة «صان استبان»
san Estevan de Gormaz
وكان العرب يقولون لها «شنت استابين» وفيها حصن قديم من أيام حروب العرب. ومدينة «أوسما»
Osma
وهي بلدة أيبيرية عتيقة، كان لها ذكر في الدور العربي، وبالقرب منها على شفير واد عميق دمن حصن عربي قديم. وقرية «المازان»
Almazan ، وفيها مسارح نظر بديعة، وآثار أسوار قديمة، وقنطرة على الوادي الجوفي طولها 163 مترا. ومدينة «الكامبو»
Medina del Campo
وهي صغيرة، وكان فيها قصر اسمه «قصر موتا»
Castillo de la Mota
مبني من سنة 1440 كانت تؤثره الملكة إيزابلا ملكة قشتالة، زوجة فرديناند، وتقيم به وماتت فيه سنة 1504.
ومن مدينة «الكانبو» أو «الكامبو» إلى «زمورة» 90 كيلو مترا بالسكة الحديدية، وبينهما بلدة «تورو»
Toro
مبنية على جبل شاهق مدهش فوق الوادي الجوفي. (4) برغش
وأما برغش
Burgos ، فهي مركز مقاطعة بهذا الاسم، وسكانها يزيدون على ثلاثين ألفا، وهي مركز قيادة عسكرية، ومقر رئاسة أساقفة، وموقعها على يفاع من الأرض في القسم الشمالي من قشتالة، يسقيها نهر اسمه «أرلنسون»
Arlençon
تراه أكثر السنة شحيحا، لكن له فيضانات مدهشة. وفي برغش حصن على رابية مشرفة على البلد، لم يبق منه إلا رسوم طامسة. وفي أسفل هذه الرابية الكنيسة الكبرى وهي من أبدع بدائع الصنعة القوطية في أسبانية.
ولبرغش سهل مريع يسقيه جدول اسمه «بيكو» وأقنية من أرلنسون. وهذه البلدة هي من أقرس مدن أسبانية بردا، يتسلط عليها ريح الشمال، وقد يقع فيها الثلج في شهر يونيو وفي الشتاء يصح أن يقال فيها:
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة
من الصقيع ولا تسري أفاعيها
وأما في القيظ فهي من أشدها حرارة، يهب عليها ريح الجنوب المحرق فيشوي الوجوه، وعليها يصدق المثل الذي يقال عن مجريط وهو: تسعة أشهر شتاء، وثلاثة أشهر جهنم الحمراء.
مدينة برغش «منظر عمومى».
وفي برغش أبنية تعد من أجل ما يوجد في أسبانية، وأهمها الكنيسة الكبرى بدأ ببنائها الملك فرديناند الثالث الذي يقال له القديس فرديناند، وذلك سنة 1221 واستمروا يبنون فيها ويزخرفون ويزينون مدة ثلاثمائة سنة، فتأمل كم فيها من بدائع وتصاوير وتماثيل وتحاريم، تعد في الدرجة الأولى من درجات الفن. ويوجد غير الكنيسة الكبرى كنائس أخرى تقصدها السياح. مثل كنيسة سان نيقولا، وكنيسة سان اشتابين، وكلها على طرز البناء القوطي، وكذلك في هذه البلدة حصن قديم يقال له «كاستيليو» يصعدون إليه من باب عربي اسمه قوس سان اشتابين وكان يسكن فيه ملوك قشتالة. وفي هذا الحصن احتفل بزواج السيد لذريق دوبيفار المسمى بالقمبيدور الشهير في التاريخ الذي يجعله الأسبانيول بطلهم القومي، نظرا لشجاعته وإقدامه. برغم أنه كان ظالما غدارا، ناقص الذمام، عديم الوفاء، مما ثبت في التاريخ ثبوتا لا ريب فيه، ولكن الشعب الأسباني تعامى عن ذلك وخلق لهذا الرجل محاسن لم تكن فيه، حتى يمكنه تمام الإعجاب به، وقد ولد لذريق البيفاري
De Buver
هذا سنة 1026 ومات سنة 1099.
وسنأتي على ذكره في قسم التاريخ، ونروي كيفية استيلائه على بلنسية، وإحراقه القاضي ابن حجاف في ساحة تلك البلدة، بحجة أنه خبأ عنه بعض خزائنه والحقيقة أنه إنما أراد إلقاء الرعب في قلوب أهل بلنسية. حتى لا يخفوا عنه شيئا من الأموال التي كان يطمع فيها. وقد كانت ولادة هذا البطل الغشوم في برغش، ومكان البيت الذي ولد فيه لا يزال معروفا. وفي دار البلدية مخدع فيه عظام السيد المذكور. وقد كانت من قبل مدفونة في دير «كاردينية»
Cardena ، وتقلبت هذه العظام على حالات شتى إلى أن جمعوها سنة 1883 في دار البلدية في برغش. وبالقرب من دير كاردينية، كانت تسكن امرأة السيد، وهي المسماة «شيمانة» وكانت ابنة الكونت دياغو من «أوبيط»
Diego d’oviedo
فإنها بعد أن مات زوجها وأخرجت من بلنسية سكنت في برغش إلى أن ماتت
3
سنة 1104.
ويقال أن باني برغش هو «رودريغس بورسالوس»
Rodriguez Porcelos
كونت قشتالة، بناها سنة 884، وكانت من قبل تابعة للأشتورياس، ولكن الملك «أوردونيو» الثاني
Ordono
قتل ذرية بورسالوس، فاستقلت المدينة واتخذت لنفسها حكومة جمهورية، ثم في زمن «فرنان غونزاليز»
Farnen Gonzales
صارت قاعدة قشتالة
4
ثم عندما اتحدت قشتالة وليون مملكة واحدة كانت هي مركز قشتالة القديمة. وفي برغش هذه هزم الفرنسيس في زمن نابليون الجيوش الأسبانية.
ومن مباني برغش المشهورة القصر المسمى «بالكردون»
Caza del Cordôn
وهو قصر بناه أمير الجيوش «فاليسكو» في أواخر القرن الخامس عشر على يد البناء المشهور المسلم محمد السقوبي
Mahomat de Segovia
وفي برغش دير للراهبات شهير أصله مقصف لملوك قشتالة، ثم حوله الأذفونش الثامن سنة 1187 ديرا للراهبات، وكان فيه مائة من هؤلاء المتبتلات. ولم يبق الآن سوى ثلاثين. ويقال للواحدة منهن «سنيورة» أي سيدة، ولا يقال «أخت» كما يقال لغيرهن.
وفي هذا الدير كنيسة خزانة فيها راية عربية أخذها الأسبان من المسلمين في وقعة العقاب. وأما دير كوردينية فهو من أقدم الأديار، كان بناؤه سنة 537 وبانيه سنشه
Sancha
أم الملك تيودوريق. وهناك دير آخر تاريخ بنائه يرجع إلى سنة 593 في قرية صغيرة بقرب برغش يقال لها دير سيلوس
Silos
بانيه الملك «ريكاريد»
Rècarèd
وهو اليوم للبندكتيين. (5) بلد وليد
ثم بلد الوليد
Valladolid
وهذه اللفظة عربية محرفة عن «بلد الوالي». هكذا سماها العرب، فأضاف إليها الأسبان حرف الدال، فصار الإنسان يتوهم أنها بلد بناها رجل يقال لها الوليد، وهي الآن مركز مقاطعة بهذا الاسم. سكانها فوق السبعين ألفا وموقعها في مرج أفيح، على الضفة اليمنى من وادي بسيورقة. وكانت هذه البلدة مقرا لملوك قشتالة
5
وفيها تأهل فرديناند بإيزابلا سنة 1469 وفيها مات كريستوف كولومب في 21 مايو سنة 1506 وفيها أقام فيليب الثاني وفيليب الثالث، وكذلك نابليون الأول جعل فيها مركزه عندما فتح أسبانية، وفيها كنيسة كبرى بدأوا بها سنة 1585 على يد «هريرة» من البنائين المشهورين، طول المسقوف من هذه الكنيسة 122 مترا، وعرضها 62 مترا، وفيها مدرسة جامعة، عدد طلبتها يقارب خمسة آلاف ، وأساتيذها خمسون، وفيها خزانة كتب تشتمل على 35 ألف مجلد. منها ثلاثمائة مخطوط، وأمام المدرسة الجامعة تمثال للكاتب الأسبانيولي الشهير «ميشال دو سرفانتس»
Cervantes
صاحب كتاب «الدون كيشوط». وفي هذه البلدة متحف كان في أصله مدرسة يقال لها مدرسة «سانتا كروز»
Santa Cruz
وعلى باب هذه البناية القديمة صورة المطران «مندوزا» ساجدا أمام القديسة «تريزة» وفي هذا المتحف مجموعة من تماثيل خشبية نادرة في بابها، لأشهر نحاتي أسبانية وفيه من نفائس التصاوير والتماثيل ما يدهش السائحين.
الساحة الكبرى «بلد الوليد».
وفي هذه البلدة أيضا كنيسة يقال لها كنيسة المجدلية، فيها قبر بانيها «الدون بدور دو لا غاسكا»
De La gasca
وفيها كنيسة يقال لها كنيسة «سانتا مارية لا أنطيقا»
La Antigus
هي من الكنائس الأثرية، ومدرسة يقال لها مدرسة «سان غريغوريو»، بناها البناء الشهير «فيغارني» في أواخر القرن الخامس عشر، على بابها شجرة نسب الملوك الكاثوليكيين أي فرديناند وإيزابلا والمطران الونزو دو برغش. وفي بلد الوليد أيضا كنيسة سان بابلو، بدأوا ببنائها سنة 1276 ثم جددها سنة 1463 الكردينال «توركمادا» وفيها ست أو سبع كنائس غير التي ذكرت. وكلها من الأبنية الموصوفة بحسن الصنعة. وبالقرب من بلد الوليد بلدة «شنت طانكش»، وأصل اسمها في زمن الرومانيين «سبتيمانكة»
Septimanca
ثم انقلب إلى سيمنكاس
Simaucas
والعرب يقولن لها «شنت طانكش» وفيها حصن مودعة فيه أوراق دولة أسبانية من القديم، وهي ثمانون ألف أضبارة، تشتمل على 33 مليون وثيقة.
وبالقرب من سيمنكاس مدينة قديمة صغيرة اسمها «طوردزلاس»
Tordsillas
ومن مدن تلك الجهة «أريفالو»
Arévalo
وهي بلدة قديمة صغيرة، سكانها أربعة آلاف نسمة، وكانت في الماضي معدودة من مفاتيح مملكة قشتالة. ثم مدينة «آبلة»
Avila
وسكانها
6
12 ألف نسمة، وهي مركز مقاطعة بهذا الاسم، ومركز أسقف، وموقعها على سطح رابية منقطعة من الجهات الثلاث، وأمامها الجبال التي يقال لها شارات «مالاغون» من جهة الشرق، وشارات آبلة من جهة الشمال الغربي. وهواء هذه البلدة هو في غاية القسوة، وقد تنازع الأسبانيول والعرب هذه البلدة مدة أربعة قرون متوالية، ولم تدخل في حوزة المسيحيين نهائيا إلا سنة 1090 في زمن الأذفونش السادس، فحصنها الأذفونش، وجدد فيها أبنية كثيرة، وبقيت إلى القرن السابع عشر من أحفل مدن أسبانية وكان فيها جم غفير من الموريسك، أي العرب الذين نصرهم الأسبانيول ظاهرا، ولبثوا مسلمين باطنا، وكانت هذه المدينة عامرة بهم، فلما طردوهم في سنة 1610، وهو الجلاء الأخير، سقطت هذه المدينة سقوطا تاما. وفي آبلة من الكنائس ما يعد في الطبقة الأولى بين كنائس أسبانية، على كثرة احتفال الأسبانيول بالكنائس، وبذلهم في بنائها ما عز وهان. ومن أشهرها كنيسة «سان سلفادور»
San Salvador
وهي مبنية من الحجر المحبب، يخالها الناظر إليها حصنا من الحصون. وهي من القرون الوسطى، وبابها بديع الصنعة، وفي داخلها تصاوير لأشهر المصورين، وفيها قبر المطران «ألفونسو دومادريغال» من عمل النحات الشهير «فاسكو زارزا»
Zarza ، وفيها كنيسة «سان بدرو» ودير «سانتو توماس» بناه الملوك الكاثوليكيون، أي فرديناند وإيزابلا سنة 1482، وفيه قبر البرنس جوان الذي مات سنة 1497 وكان الولد الوحيد لفرديناند وإيزابلا.
وسور آبلة القديم طوله 2400 متر، ولم يكملوه إلا سنة 1099. وفي آبلة ماتت القديسة «تريزا»
Teresa ، ولها هناك دير مشيد في محل البيت الذي ولدت فيه سنة 1515، وهذه القديسة هي شفيعة آبلة. وفيها أيضا كنائس أخرى متقنة مثل «سان سغوندو»
Segundo
و«سان فيسنت»
Vicente
نسبة إلى القديس فيسنت الذي يقال أنه في سنة 303 للمسيح قتل من أجل عقيدته المسيحية. وهناك صخرة هي في داخل الدير، يقال إن القديس المذكور قتل عليها. وفي آبلة ساحة منسوبة إلى المنصور بن أبي عامر. وبالقرب من آبلة واد بهيج، يقال له «وادي البرش»
Alberche ، وفيه بلدة مشهورة بنوع من العنب يسمى البيلو
Albillo
ويقال لهذه البلدة «سبريروس»
Cebreros .
سور مدينة آبله.
ومن مدن قشتالة «فيلالبة»
Villalba
واقعة على واد متسع تحيط به أهاضيب من شارات وادي الرمل، وهي على حدود قشتالة الجديدة. وفي تلك الجهة قرية يقال لها «شارمارتين»
Charmartin
وهي التي فيها كان نابليون الأول عند ما استسلمت له مدينة مجريط.
ومن مدن قشتالة «أولميدو»
Olmedo
وهي صغيرة، ثلاثة آلاف نسمة، إلا أنها كانت ذات شأن في الماضي، وكانت مسكن نبلاء قشتالة، حتى ضرب المثل بها، فكانوا يقولون: من أراد أن يسود في قشتالة، فعليه أن يستند على أولميدو وأريفالو. ثم بلدة يقال لها «كوكو»
Coco
كان لها شأن عظيم في القديم، ولكنها اليوم قرية صغيرة. وبلدة سقوبية
Segovia ، وكل هذه البلاد قريبة من مجريط، والسكة الحديدية تمر على سقوبية ثم تدخل في نفق وادي الرمل، وطوله 2700 متر وإذا أفاض الإنسان من هذا النفق وقع نظره على سهل قشتالة الأفيح، فشاهد أجمل ما تقع عليه العين. وفي تلك الناحية دير الأسكوريال الشهير، ثم مجريط.
وهذه البلدة هي اليوم عاصمة أسبانية، وسكانها يزيدون على ثلاثمائة ألف وفيها مدرسة جامعة، ومركز أسقفية، وموقعها على 6، 1، 31 من الطول الغربي من خط نصف النهار الباريزي، وعلى 40، 24، 30 من العرض الشمالي، وهي تعلو عن سطح البحر 640 متر. (6) مجريط
Madrid
قال ياقوت في معجم البلدان: مجريط بفتح أوله، وسكون ثانيه، وكسر الراء، وياء ساكنة، وطاء: بلدة بالأندلس ينسب إليها هارون بن موسى بن صالح بن جندل القيسي الأديب القرطبي، أصله من مجريط، يكنى أبا نصر، سمع من أبي عيسى الليثي وأبي علي القالي، روى عنه الخولاني، وكان رجلا صالحا صحيح الأدب، وله قصة في القالي ذكرتها في أخباره من كتاب الأدباء - يعنى كتابه معجم الأدباء - ومات المجريطي لأربع بقين من ذي القعدة سنة 401 قاله ابن بشكوال. ا.ه.
ومن غريب الأمور أن ياقوت ذكر مجريط في مكانين من كتابه، ففي الأول ذكرها في صفحة 388 من الجزء السابع من معجمه، الطبعة الأولى المصرية المصححة بقلم الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي، ثم في صفحة 394 من الجزء نفسه، عاد فذكر مجريط هي نفسها وترجمها غير الترجمة الأولى فقال: مجريط بالفتح ثم السكون وكسر الراء، وياء، وآخره طاء مهملة: مدينة بوادي الحجارة، اختطها محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. ينسب إليها سعيد بن سالم الثغري، ساكن مجريط، يكنى أبا عثمان. سمع بطليطلة من وهب ابن عيسى، بوادي الحجارة من وهب بن مسرة وغيرهما، وكان فاضلا، وقصد السماع عليه، ومات لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة 376 قال ابن القرضي انتهى نقلا عن بغية الملتمس.
والذي يلوح لنا أنه كتب عن مجريط أولا، وانتهى منها، ثم تلقى معلومات جديدة عنها فبدلا من أن يلحقها بما تقدم له في شأن مجريط، عاد فترجمها مرة أخرى وينسب إلى مجريط عدد من أهل العلم في الإسلام منهم أبو محمد عبد الله بن سعيد المجريطي
7
وعبد الرحمن
8
بن عبد الله بن حماد المجريطي. وهارون بن موسى بن صالح بن جندل القيسي القرطبي، أصله من مجريط، وأبو العباس يحيى بن محمد بن فرج بن فتح، المعروف بابن الحاج
9
المجريطي، توفي بقرطبة سنة 515 وأبو يعقوب يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حماد
10
المجريطي، توفي بمجريط نفهسا سنة 473 وعبد الرحمن بن عيسى بن عبد الرحمن بن الحاج المجريطي، سكن قرطبة، وكان يكنى بأبي الحسن.
11
وأبو الحسن غربيب بن خلف بن قاسم الخطيب القيسي المجريطي نزيل مالقة، كان من أهل العلم، وله تصنيف.
وأعظم المنسوبين إلى مجريط أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي الفلكي الكيماوي الشهير. وممن ينتسب إلى مجريط سعيد بن سالم المجريطي المعروف بأبي عثمان الثغري الذي ذكره ياقوت، وينسب إلى مجريط أبو العباس يحيى بن عبد الرحمن بن عيسى بن عبد الرحمن بن الحاج، كان ساكنا في قرطبة. وتولى قضاء جيان، وقضاء مرية، وقضاء غرناطة، ثم تولى قضاء قرطبة بعد أبي الوليد بن رشد، وكان قاضيا جليلا، توفي
12
سنة 598.
وأما أبو يعقوب يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حماد المجريطي الذي قلنا إنه توفي بمجريط سنة 473، فإذا كان القشتاليون استولوا على مجريط سنة 1083 فينبغي أن تكون وفاته وقعت في مجريط بعد استرداد الأسبانيول لهذه البلدة. وأخبرني مهندس أسبانيولي مدقق متخصص بعلم الآثار اسمه فرناندس من أهل قرطبة أنه لما استولى الأسبان على مجريط كان فيها أربعة جوامع.
كان بناء مجريط في زمن العرب ضرورة عسكرية، لأنهم جعلوها قلعة في وجه القشتاليين، ولولا القلعة ما تكونت ثمة بلدة، إذ ليس إلا بلد محل، وماء ضحل، وبقيت في أيدي العرب مدة طويلة إلى أن تمكن الأسبانيول من إرجاعها سنة 1083 وذلك على يد الأذفونش السادس، وكانت القلعة العربية في مكان القصر الملوكي الحالي وهذا القصر هو أفخم بناء في هذه العاصمة الآن، وكان الشروع ببنائه سنة 1764.
هذا، ولما دخلها الأسبانيول حولوا مسجدها الكبير إلى كنيسة باسم السيدة العذراء وأعطوا مجريط امتيازات كثيرة، وصارت لذلك العهد مدينة لا بأس بها، تمتد إلى باب «لاتينه»
Latina
وباب «سرداه»
Cerrada ، وباب «وادي الحجارة»، وباب «سانتو دومينكو»
Sato Domingo ، وباب «سان مارتين»
San Martin ، وباب «الصول»
Del Sol ، ووقع بين أهل مجريط وأساقفة أسبانية دعوى على مشاعات البلدة، فصدر الحكم بأن تكون المراعي لرجال الكنيسة وأن تكون الغابات للمدينة.
وفي سنة 1329 جمع فرديناند الرابع أول مجلس للأمة الأسبانية في مجريط وفي سنة 1383 التجأ إلى أسبانية لاوون ملك أرمينية شريدا، فولوه على مجريط، ولكن بعد وفاته رجعت البلدة إلى حكم قشتالة، وفي سنة 1390 حصلت في مجريط فتن متتابعة أيام كان الملك هنري الثالث صغيرا فانتقلت العائلة المالكة إلى سقوبية. ثم تجددت هذه الفتن في زمن هنري الرابع بين سنتي 1454 و1474، ولم تستقر أحوال مجريط إلا في زمن الملوك الكاثوليكيين، أي فرديناند وإيزابلا سنة 1477 وفي زمن شارلكان ثارت مجريط عليه، وانضمت إلى الحزب الذي كان يأبى الانقياد للحكم المركزي، إلا أن هذا الحزب انتهى أمره بالفشل، فدخل شارلكان مجريط سنة 1524 بعد ذلك بسنة، لما وقع فرنسوا الأول ملك فرنسا أسيرا في يد الإمبراطور شارلكان، بعد معركة «بايفه»
جيء به إلى مجريط، واعتقلوه مدة في البرج المسمى «لوجانس»
Lujanes
ثم نقلوه إلى القصر
Alcazar ، وكان عدد أهالي مجريط في أوائل القرن السادس عشر لا يتجاوز ثلاثة آلاف نسمة.
والذي فكر في جعل مجريط عاصمة أسبانية هو فيليب الثاني، وذلك سنة 1560 وقبلها كانت العاصمة طليطلة. وكان في طليطلة كرسي الأسقف الأكبر، فكانت هذه المدينة عاصمة أسبانية في الدين والدنيا، وكان الاحتكاك الدائم لا يخلو من حوادث تبعث على الاختلاف، فأخذ فيليب الثاني يفكر في الانتقال إلى مركز آخر يتوسط المملكة مع جميع الجهات، فلم يجد أفضل من مجريط، على علاتها، وقحولة أرضها، وعطلها من أكثر المواهب الطبيعية التي تقوم بها عمارة البلدان، فإنه فكر في سرقسطة، فوجدها منحرفة إلى الشمال. وفي برغش وليون، فلم يجد فيهما التوسط اللازم الذي جعله نصب عينيه، وفي قرطبة وأشبيلية، فوجدهما ضاربتين في الجنوب، وكان مراده على كل حال أن يغادر طليطلة فرارا من مجاورة أحبار الكنيسة فاختار مجريط، برغم وقوعها في أرض قليلة الخيرات، لا تجري فيها أنهار ولا تمتاز بزرع ولا ضرع، كما أن هواءها جامع بين الأضداد، فمن نواقح البرد القارس، إلى لوافح الحر المحرق، ففي أيام الشتاء قد تنزل درجة الحرارة في الميزان إلى 11 تحت الصفر ويتجمد الماء أكثر فصل الشتاء، وفي الصيف تصعد الحرارة إلى الدرجة 43 في الظل، كأنه حر الساحل الجنوبي، ثم إن هواء مجريط، إما أن يكون شديدا عاصفا، يصرع الرجل الماشي في الشارع، وإما أن ينقطع تماما، حتى لا يطفئ المصباح، فتقلبات الأحوال الجوية في هذه العاصمة أعجوبة من الأعاجيب، ومن أمثالهم: لا تترك معطفك قبل 20 مايو.
ولما انتقل فيليب الثاني إلى مجريط كان فيها 2500 بيت، و25 ألف نسمة، فضاقت على رجال الدولة والجند. وصدرت الأوامر بإنزال الأمراء والقواد وأصحاب المناصب في البيوت الكبيرة، فمن ذلك الوقت امتنع الناس عن بناء الدور الفيحاء، وصار الأغنياء منهم يعتمدون السكنى في المنازل الحقيرة، حتى لا ينزل رجال الدولة في دورهم. فلذلك بقيت مجريط لا تتقدم إلى الأمام مدة طويلة، مع أن الفن لذلك العهد كان بلغ أوج الترقي، واستمرت هذه الحالة على مجريط إلى أن جاء آل بوربون ملوكا على أسبانية، فشرع كارلس الثالث، أفضل ملوك هذه العائلة، في عمارة مجريط والاعتناء بشأنها. ولما استعفي كارلس الرابع من عرش أسبانية سنة 1808 جاء يوسف بونابرت، وأخذ يوسع شوارع مجريط، ويهدم حاراتها القديمة، والأديار التي كانت تضيق بها الأرض بما رحبت ثم ذهب حكم نابليون، وأعيد حكم آل بربون، وجاء فرديناند السابع، فأخذ يعتني بتوسيع مجريط وتزيينها، إلى أن كسبت شكل عاصمة حقيقية.
وأشهر ساحة في مجريط هي التي يقال لها «باب الشمس»
ومن هذه الساحة يمتد شارعان، أحدهما المسمى شارع «القلعة»
Alcala
وهو أوسع شوارع المدينة وأبهاها، وبه تسير جميع المواكب في الاحتفالات، والثاني شارع «جيرونيمو» وفيه أعظم المخازن وأغناها.
وفي مجريط أكاديمية للفنون النفيسة، وفيها متحف المدفعية وفيه آثار ونفائس كثيرة. وفيه قاعة تسمى القاعة العربية، جمعوا إليها ما قدروا عليه من مخلفات العرب، من رايات، وعمائم، وأثواب، وأحذية، وسيوف، ومن جملتها سيف أبي عبد الله بن الأحمر، آخر ملوك غرناطة. وقد اشتمل هذا المتحف أيضا على غنائم كثيرة مما حازه الأسبانيول في فتح أميركة، وتلك المستعمرات الواسعة، وكذلك في هذا المتحف تذكارات كثيرة من أيام حروب الكرلوسيين.
وحروب الكرلوسيين تشغل من تاريخ أسبانية حيزا كبيرا، بحيث لا يفهم القارئ، حقيقة تاريخ أسبانية في القرن الماضي بدون أن يعرف قضية الكرلوسيين هذه. فلذلك رأينا تلخيصها فيما يلي:
الدون كارلوس البريوني المولود سنة 1788 المتوفى سنة 1855 كان ابن كارلس الرابع، ملك أسبانية، وأخا فرديناند السابع. فلما حمل نابيلون الأول فرديناند هذا على الاستعفاء اعتقله، كان الدون كارلس مع أخيه في الاعتقال، فلما عاد فرديناند إلى الملك، بعد سقوط نابليون سنة 1814 عاد الدون كارلس أيضا مع أخيه ونظرا لكون فرديناند لم يعقب ولدا، كان كارلس هو ولي العهد الشرعي، وحوله اجتمع رجال الكنيسة والرهبان والنبلاء الذين يكرهون مبادئ الثورة، وجميع من كان من أنصار الملكية المطلقة، وأصحاب الامتيازات والاقطاعات، فصار الدون كارلس يناوئ أخاه الملك، ولم يتمكن فرديناند من العرش في وسط هذه الهزاهز إلا بواسطة جيش أنجدته به فرنسا سنة 1823، واشتدت العداوة بين الأخوين، فتزوج فرديناند بمارية كرستينا من ملوك الصقليتين، وولد له منها الأميرة إيزابلا، فصارت هي في نظر أبيها وارثة الملك. وحال أن قانون أسبانية كان يحصر الإرث في الذكور، فأدى الأمر إلى الحرب بين حزب الملك وحزب الدون كارلس، ومزقت هذه الحروب الأمة الأسبانية تمزيقا، واتفقت فرنسا وإنكلترة، فعضدتا الملك فرديناند في وجه أخيه ثم مات الملك سنة 1833 فقامت مقامه زوجته الدونة مارية، وعضدتها فرنسا وإنكلترة، فانهزم كارلس إلى البرتغال، لمصاهرة بينه وبين الدون ميكال ملك البرتغال. إلا أن حزب الدون كارلس كان كبيرا وثارت معه المقاطعات التي كانت تكره النظام المركزي، فاشتعلت نار الفتنة في الأستورياش، وبلاد الباشكونس، ونباره، وأراغون، وكتلونية. واشتدت الحرب الأهلية في أسبانية، إلى أن وقع الخلف أخيرا بين زعماء حزبه، ففشلوا، واضطر كارلوس إلى الفرار سنة 1839، والتجأ إلى فرنسا في زمن الملك لويس فيليب، واعتقل فيها.
ثم نزل عن دعواه لشخصه وخلفه ابنه الدون المسمى كارلس أيضا، فأخذ هذا يثير حزبه على ابنة عمه، وجرت وقائع وحروب في أيامه، كما جرت في أيام أبيه. وما زال يقاتل ويثير الفتنة إلى أن مات. فخلفه أخوه الدون جوان. ثم خلف الدون جوان ولده الدون كارلس أيضا، وذلك سنة 1868، وسماه حزبه كارلس السابع، ودخل أسبانية، وأثار الفتنة، نظير عمه وجده، وتغلب على عساكر الدولة الأسبانية، وقام بتشكيل وزارة، وأوشك أن يستولي على العرش، واستمرت هذه الحالة مدة أربع سنوات، إلى أن تغلبت الدولة الأسبانية في الآخر عليه، فانهزم إلى الخارج، فصار يجول في الأقطار إلى أن مات. وانتهت الشحناء الكارلوسية.
ثم نعود إلى ذكر مدينة مجريط فنقول: أنه فيها دار لمجلس النواب، يقال لها دار المؤتمر
وهي بناء فخم، أنشأه المهندس. نرسيزو بشكوال
. وأمام الرتاج اسدان من سكب الرمل ومدافع غنمهما الأسبان من المراكشيين في واقعة تطوان سنة 1860. وفي مجريط متحف يقال له متحف البرادو
، بدأوا به سنة 1785، وهو قسمان، أحدهما للتماثيل، والآخر للتصاوير. وفيه آثار أيدي مشاهير المصورين والنحاتين، ممن تقدم لنا ذكرهم في الفصل المتعلق بالفن، ومن غيرهم. فهم من أحفل متاحف أوروبا بلا نزاع، يختلف إليه عشاق الفن ما شاؤا أن يختلفوا، ولا يزالون يرون فيه أشياء جديدة. وفيها جنة النبات
Gardin Botanique ، وقد بدأوا بها سنة 1774 إلا أن دليل بديكر يجعلها دون حديقة النباتات التي في بلنسية، ودون حدائق النباتات التي في البرتغال.
وفي مجريط ساحة يقال لها ساحة الشرق، في نهايتها ملهى التمثيل الملوكي. وأما قصر مجلس الشيوخ فإنه في طرف من المدينة، بينما مجلس النواب هو في الطرف الآخر.
وأما خزانة الكتب الوطنية ففيها عدا الكتب، وعدا الوثائق التاريخية متحف يقال له متحف الفن الحديث، ومتحف آخر يقال له متحف الآثار القومية. وقد بدأوا ببناء دار الكتب هذه سنة 1866، وانتهوا منها سنة 1894، وأمام رتاجها تماثيل المشاهير من رجال أسبانية، وفي داخلها تماثيل ملوكهم وملكاتهم. وأول من جمع هذه الكتب في مجريط هو الملك فيليب الخامس، وذلك من مائتين وخمس وعشرين سنة. وسنة 1866 اشترت الحكومة مجموعة كتب مخطوطة كانت تخص دوق أوشونة، وأضافتها إلى هذه المكتبة. ومجموع ما تشتمل عليه من الكتب هو ستمائة وخمسون ألف مجلد، منها ثلاثون ألف مخطوط، وألفان وسبعة وخمسون كتابا طبعت في بداية عهد الطباعة. وفيها عشرون ألف ورقة من الوثائق. وثلاثون ألف صورة يدوية. وفيها ثمانمائة طبعة من كتاب الدون كيشوط. والبناء هو سبع طبقات من الحجر والحديد، وفي قاعة القراءة 320 كرسيا. ولما ذهبت إلى مجريط سنة 1930 كنت أذهب كل يوم إلى هذه المكتبة، وفيها اطلعت على كتب كثيرة تتعلق بالأندلس، ثم اقتنيت أكثرها فيما بعد ذلك، ونسخت بخط يدي يومئذ قسما من كتاب أخبار مجموعة، وهو أول تاريخ عربي لمسلمي الأندلس، يصل إلى زمان الناصر، وقسما من كتاب القضاة بقرطبة، لأبي عبد الله محمد الخشني.
وأما خزانة الآثار القومية ففيها مائتا ألف وثيقة، جمعت من كل الأطراف، ولا سيما من كنيسة آبلة. وتحت المكتبة أقباء ملأى بالآثار القديمة التي قبل التاريخ وعظام بشرية، وهناك مكان للعاديات الشرقية، ومنسوجات قبطية، وآنية أصلها من قبرص، وكثير من المصنوعات الأيبيرية، والتماثيل العتيقة، مما يحار له العقل. ويقضي السائح الأيام والأشهر وهو يقضي منه العجب، ويوجد قاعات لآثار القرون الوسطى: من كتابات، وقطع فنية، ونواويس. ومن هناك قاعة خاصة بآثار العرب. والآثار المسيحية التي يطلق عليها اسم الطراز المدجن، والأسبانيول يقولون المدجر، وأكثر هذه الآثار العربية مأخوذة من أشبيلية وقرطبة وسرقسطة وغرناطة وفي القاعة العربية أسطرلابان عربيان، أحدهما تاريخ صنعه سنة 1067 مسيحية، وهو أقدم أسطرلاب معروف اليوم. وفيها تحت الزجاج مجموعة عظيمة من الصحون والآنية العربية. وإلى الحائط الغربي من القاعة العربية قوسان من باب الجعفرية، في سرقسطة، وقطع من البهو الملوكي في الجعفرية المذكورة، وباب عربي جيء به من ليون، وحوض للوضوء جيء به من مدينة الزهراء في قرطبة، وآثار من جامع بناه محمد الثالث في غرناطة وإلى الحائط الجنوبي باب عربي من خشب وجدوه في «دروقه»، وإلى الحائط الشرقي مجموعة من الزليج، وفي الوسط فوارة أشبه بفوارة قاعة الأسود في الحمراء، وفورتان من قرطبة، ويوجد سيوف عربية، وخواتم، وآنية من العاج، وغير ذلك من نفيس صناعات العرب. ومما يوجد في هذا المخزن مفاتيح مدينة وهران يوم دخلها الأسبانيول سنة 1509.
وفي الطبقة الأولى من خزانة الآثار هذه توجد آثار مكسيكية قديمة، حازها الأسبانيول يوم فتحوا تلك البلاد، وآثار غريبة، وآنية خزفية، ومنسوجات من أميركا الجنوبية، وفسيفساء من صنعة أميركا الشمالية القديمة وغير ذلك مما وجدوه في المكسيك وكولومبية وكوبا وغيرها.
ومكتبة مجريط هي من أغنى مكاتب أوروبا بلا نزاع، سواء في الكتب، أو في الآثار أو في التحف النفيسة، وفيها أيضا نفائس من صنعة فارس وتركية والهند، وتماثيل صينية، ومصنوعات من العاج من عمل الصين، وفيها أيضا من صناعة اليابانيين وبلاد الفيليبين، وفيها معرض للمسكوكات القديمة، من زمان قرطاجنة فما بعدها، وغير ذلك مما لا يكاد يحيط به العقل.
وفي مجريط تمثال لكريستوف كولومب منصوب في ساحة منسوبة إليه. وتمثال للملكة إيزابلا الكاثوليكية، وتماثيل أخرى لأعاظم الرجال. وفيها متحف للعلوم الطبيعية أنشأوه سنة 1771، يوجد فيه كثير من الحيوانات والطيور والحشرات والهوام والبقايا المتحجرة. ولما كانت مجريط خالية من الماء في وسطها فقد جروا إليها قناة يقال لها «لوزويا»
Lozoya ، وأنشأوا خزانا يفضي إليه الماء في أعلا نقطة من المدينة، وهذا الخزان يسع 180 ألف متر مكعب من الماء، وهناك برج عال ارتفاعه 37 مترا تتفرق منه المياه على الحاضرة. وأوسع ساحة في مجريط هي الساحة التي يقال لها «ساحة الشرق»
أنشأها يوسف بونابرت لما كان ملكا على أسبانية ولكثرة ما أنشأ من الساحات صاروا يقولون له “Rey
ومعناه ملك الساحات. وقد هدم لأجل توسيع هذه الساحة عدة أديار وكنيسة وخمسمائة بيت. وفيها أربعون تمثالا لملوك القوط والأسبان. وفي مجريط دار للسلاح مشهورة، وكان أصلها في بلد الوليد، فنقلها فيليب الثاني إلى مجريط، وفيها أسلحة من جميع الأنواع، منها ما جاء هدية من اليابان إلى فيليب الثاني، ومنها أسلحة مكسيكية. وفيها رايات باقية من زمن شارلكان وفيليب الثاني، وكذلك دروع ومغافر كانت لشارلكان وفيها أيضا عمامة وأسلحة منسوبة لخير الدين بربروس، قيل إنهم أخذوها في موقعة تونس سنة 1535، وفيها أسلحة علي باشا أمير البحر التركي، مع ثيابه وراية تركية، مما أخذه الأسبان في واقعة ليبنط الشهيرة سنة 1571، وفيها رايات لمشاهير قواد أسبانية. وخيمة من مصنوعات تركية، كانت لفرنسوا الأول ملك فرنسا وقد أخذها الأسبانيول في وقعة «بافيا» التي أسر فيها، وفيها سيوف باركها البابوات لأن أصحابها جاهدوا في المسلمين، مثل الملك هنري الرابع صاحب قشتالة، والإمبراطور شارلكان وفيليب الثاني، وفيليب الثالث، وفيليب الرابع، وفيها أسلحة تركية من صنعة القرن السادس عشر والسابع عشر، وبقايا غنائم أخذوها يوم فتحوا وهران سنة 1732، وفيها أسلحة شارلكان يوم نازل تونس، ويوم انكسر عن مدينة الجزائر، وفيها أسلحة كانت للملك فرديناند الكاثوليكي، وقلما وجد سلاح لملك من ملوك أسبانية إلا ومنه بقية في هذا المخزن.
وفي مجريط دار يقال لها أكاديمية التاريخ، بنيت سنة 1738، وفيها متحف يحتوي على أسلحة أيبيرية قديمة، وعلى مجموعة مسكوكات، ومن جملة ما فيها راية عربية كانت من قبل في كنيسة سان أشتبان. وأما من جهة الكتب ففيها 44 ألف مجلد، من أصلها ألفان من المجلدات المخطوطة، وأكثرها عائد لتاريخ أسبانية.
وأما الكنائس فحدث عنها ولا حرج، ففي أسبانية تكون القصبة لا يتجاوز سكانها عشرة آلاف نسمة، ولا تعدم فيها كنيسة متقنة تستحق أن يقصد السياح إليها، فكيف تكون يا ليت شعري! حاضرة المملكة التي جلس فيها ملوك أسبانية من ثلاثمائة سنة؟ وأشهرها الكنيسة الكاتدرائية التي يقال لها كنيسة سيدة المدينة
Nuestra Senoira de la Almudena .
هذا وقد ترددت في أثناء مقامي بمجريط على مكتبة أكاديمية التاريخ، وعثرت فيها على كتب كثيرة. وقطفت من أزهارها. ونسخت بقدر ما أمكنني الوقت، وإني لذاكر الآن بعض الكتب التي استجلبت نظري، من أسفار تلك المملكة وهي: «تاريخ العلماء» الأندلس، لأبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي المعروف بابن الفرضي، وكتاب «الحلل الموشية في الأخبار المراكشية». و«الروضة الغناء في أصول الغناء» و«تفريج الكرب عن كروب أهل الأرب. في معرفة لامية العرب» لمحمد بن قاسم بن محمد بن عبد الواحد بن زاكور، و«نظم الدر والعقبان، في شرف بيت بني زيان، وذكر ملوكهم الأعيان، ومن ملك من أسلافهم في ما مضى من الزمان»، و«عمدة الطبيب في معرفة النبات»، لابن بطلان، و«نزهة المشتاق، في اختراق الآفاق» للشريف الإدريسي، الذي نقلنا عنه كل ما قاله عن الأندلس في كتابنا هذا وكتاب «فتوح أفريقية» وكتاب «القواعد المسطرة، في علم البيطرة» لعلي بن عبد الرحمن بن هذيل بن محمد الفزاري. وكتاب «فضالة الإخوان في طيبات الألوان»، لأبي الحسن علي بن محمد بن القاسم بن محمد بن أبي بكر بن الوزير التجيبي الأندلسي. و«تقييد الرسائل» من إنشاء الفقيه القاضي الكاتب ابن المطرف ابن عميرة. و«عقد الجمان، في تاريخ أهل الزمان» لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد بن موسى العيني. و«الروض الهتون، في أخبار مكناسة الزيتون»، لمحمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن غازي العثماني المكناسي. و«نتيجة الاجتهاد، في المهادنة والجهاد»، لأحمد بن المهدي الغزالي الفاسي. وكتاب «الاكتفا في أخبار الخلفا»، لأبي مروان عبد الملك بن الكرديوس. وكتاب «الدرة المضية، في اللغة التركية»، لزين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر العيني. و«القوانين الكلية، لضبط اللغة التركية»، لشمس الدين محمد بن نور الدين علي بن زين الدين. وكتاب «استخراج ملح المعادن». وكتاب «تأيد الملة». و«الذخيرة» لابن بسام، ورسالة بفضل الأندلس لأبي الوليد إسماعيل بن محمد الشقندي. و«حكاية الجارية تودور»، وما كان من حديثها. وكتاب الجغرافية في مساحة الأرض وعجائب الأسقاع والبلدان. وقصة الست زمرد الستورية. و«التكملة» لابن الأبار. ودفتر لرسم الكتب الموضوعة في خزائن يمني المحراب من الجامع الأعظم (يريد جامع قرطبة). ودفتر لرسم الكتب الموضوعة في خزائن يسرى المحراب من الجامع الأعظم. وكتاب «فوائد الموائد» تأليف يحيى بن عدي، وقيل تأليف جمال الدين أبي الحسن المعروف بالجزار. وكل هذه الكتب نظرت فيها بقدر ما وسع الوقت وكتاب فوائد الموائد كثير النكات، يقرأه الإنسان للتسلية. أوله: «الحمد لله الذي جعل الطعام رزقا للعباد، وقواما للأجساد، وسببا لذم البخلاء ومدح الأجواد، أحمده على ما منح من طيبات رزقه، ومعرفة الكرام من خلقه، رازق الأطعمة الشهية، ومسخر النفوس السخية، إلخ». وأجل كتاب رأيته في هذه المكتبة هو «الفلاحة في الأرضين»، لأبي زكريا يحيى بن محمد بن أحمد بن العوام الأشبيلي. وهو جزءان، وعدة صفحاته 841. ويندر أن يكون في هذا الفن كتاب أجل قدرا منه. وقد قرأت في مجلة المجمع العلمي العربي التي تصدر في دمشق أنه مترجم إلى الإفرنسية وقد نسخت من هذا الكتاب عدة صفحات ورأيته ينقل كثيرا عن الفقيه الإمام أبي عمر أحمد بن محمد بن حجاج في كتابه «المقنع» وهو المؤلف سنة ست وستين وأربعمائة، نقل فيه صاحبه عن الرازي، وإسحق بن سليمان، وثابت بن قرة وغيرهم. وكذلك نقل أبو زكريا يحيى بن محمد بن العوام الأشبيلي صاحب كتاب الفلاحة هذا عن كتاب الشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن الفصال الأندلسي، الذي بنى كتابه على تجاربه الخاصة، ونقل عن كتاب الحكيم الشيخ أبي الخير الأشبيلي، وهذا مبني على تجارب المؤلف وعلى آراء جماعة من الحكماء والفلاحين. ونقل عن كتاب الحاج الغرناطي. وكتاب بن أبي الجواد، وكتاب غريب بن سعد، ونقل عن حكماء اليونان، وأيضا عن كتاب الفلاحة النبطية المشهور المبني على أقوال جلة من الحكماء منهم آدم، وصغريت، وينبوشاد وأخنوخا، وماسي، ودونا، وكانتري، وغيرهم. وأما تاريخ ابن الفرضي، ورسالة الشقندي في فضل الأندلس، فقد نقل عنهما صاحب النفح ما شاء. (7) الاسكوريال
L’escurial
ومن ضواحي مجريط قرية الاسكوريال
Escorial
أو
Escurial
ومعناها معدن الحديد، والقرية قسمان: القرية القديمة تسمى «أباجو»، والقرية الجديدة وتسمى «الريبة» وعدد سكان هذه ثلاثة آلاف نسمة. وهي مصيف لأهل مجريط، وفيها الدير الشهير الذي يسميه الأسبانيون
Rial Monasterio de San Lorenzo del Escorial
وهو الذي بناه فيليب الثاني، وذلك أنه في حصار مدينة سان كنتين سنة 1557 أصابت مدافعه كنيسة باسم القديس «لورنزو» وهو جندي روماني من أصل أسبانيولي، توفي شهيدا فأراد فيليب أن يعوض القديس من هدم تلك الكنيسة المبنية على اسمه ببناء دير عظيم، جعل فيه أيضا مدفن والده شارلكان، الذي كان تخلى عن الملك من تلقاء نفسه، واختار العزلة والنسك، وصح فيه قول المتنبي:
ويمشي به العكاز في الدير راهبا
وما كان يرضي مشى أشقر أجردا
وكان فيليب الثاني يريد أن يقتفي أثر أبيه في التنسك والاعتزال، فبعد أن بحث نحوا من سنتين عن مكان لهذا الغرض أصابه في جوار مجريط بقرية الاسكوريال، فاستدعى إليه المهندس الطليطلي الشهير «جوان بوتيستا»، وبدأ بالعمل سنة 1559، ولكن المهندس مات بعد أن بدأوا بالبناء، فخلفه عليه «جوان دوهربره» الذي هو من تلاميذه، وكان الأول تعلم البناء في رومة، وأما الثاني فكان تحصله في بروكسل. وكان فيليب الثاني يشترك بنفسه في الشغل، ويأخذ ويعطي مع الصناع، ولا يتركهم يعملون شيئا بدون رأيه وقد بذل همة فوق تصور العقل لأجل إكمال هذه البنية التي قل أن يوجد مثلها في الدنيا. وقد انتهوا من العمل ووضع الصليب على القبة سنة 1581، وآخر حجر وضع في هذا الدير كان وضعه في 13 سبتمبر سنة 1584، وأما المقبرة الملوكية فما تمت إلا في زمن فيليب الرابع، حفيد فيليب الثاني. وقد خمنوا نفقات هذه البنايات الكبرى بستة عشر مليونا وخمسمائة ألف بسيطة. وطرز هندسة هذا الدير هو طرز عصر التجدد الثاني في إيطالية، وهو الذي يعتمد في جلاله على مجرد تناسب الأقسام، وليس في الأسكوريال شيء من الزينة ولا الزخرف، وجميع تلك الجدران لا يتخللها غير نوافذ صغيرة. وإذا نظرت إلى هذا البناء العظيم حسبت أنه قلعة أو سجن. ولما أراد فيليب الثاني أن يزين داخل الدير بالتصاوير التي لا بد منها نظرا للمذهب الكاثوليكي، استجاد بعض مصوري إيطالية المشاهير مثل «تيبالدي» و«كامبيازو» و«زوكارو» وأما من أسبانية فقد استدعى «جوان فرناندس» و«نافاريت اللكروني».
وقد انتقد الكثيرون من أساطين الفن بناء الأسكوريال، وقالوا إنه ليس له من مزية غير السعة والكثرة، وأنه ليس فيه ذوق ولا قوة توليد، ولا فضل اختراع وكل ما هناك فهو خطوط هندسية مستقيمة، تسود عليها بساطة زائدة، يمجها الطبع. وقد علل بعضهم هذه البساطة الزائد بكون فيليب الثاني كان هو الآمر الناهي في اختيار الأشكال التي لم يكن يستحسن منها إلا البسيط الساذج. وكان كلما جاءه المهندسون بشيء من الزخرف رفضه فجاءت بنايته هذه أشبه في يبوستها وجهامة منظرها بالبرية التي تحيط بها. أما طول البناية فهو 206 أمتار والعرض هو 161 مترا، ولها أربعة أبراج. وفي وسطها كنيسة ذات قبة عالية وبرجين عظيمين، في كل منهما جرس كبار وإلى الشرق والشمال من هذه الكنيسة المقر الملوكي، وإلى الغرب ساحة خارجية، وإلى الجنوب الدير الحقيقي وحواشيه وأماكن القديسين.
وللأسكوريال رتاج عظيم، عليه تمثال القديس لورانزو، يعلو أربعة أمتار، ورأسه ويداه من المرمر، وفي يده اليمنى مشواة من النحاس المذهب، إشارة إلى كيفية استشهاد القديس، الذي يقال إنه أميت على آلة مثلها. وفي الكنيسة ست أسطوانات، عليها تماثيل ملوك العهد القديم، وجميع الرؤوس والأيدي من الرخام الأبيض، والتيجان والصوالجة من النحاس المذهب. وقبة الصليب ترتفع 95 مترا، والكنيسة في غاية الاتساع، وفيها 48 مذبحا وعلى حيطانها تصاوير الوقائع الدينية الكبرى، مثل البشارة، والحمل، وولادة عيسى، وعبادة الملائكة له، وملوك المجوس، وبني إسرائيل في البادية، واليوم الآخر، وهزيمة بني إسرائيل للعمالقة، وغير ذلك.
وأما مقبرة الملوك فهي مجاورة للمذبح الأعظم، وذلك حتى تقام القداسات اليومية على عظام الملوك المدفونين. وفي هذه المقبرة زخرف كثير، مخالف لقاعدة البساطة التي كان فيليب الثاني قد جعلها إماما له في بناء هذا الدير. والسبب في ذلك هو أن هذه المقبرة قد أكملها خلفاؤه من بعده، والمدافن واقعة ضمن محاريب في الحيطان، وكل مدفن فيه ناووس من الرخام الأسود، عليه كتابة باسم الدفين. وفي هذه المقبرة ستة وعشرون ناووسا، ولم يبق منها غير قليل خاليا، وليس جميع الملوك مدفونين هنا، بل فيليب الخامس، وفرديناند السادس، ونساؤهما، ليسوا فيها. وهناك مقبرة أخرى فيها أجساد الأمراء والأميرات، ممن لم يصل إلى العرش.
وفي هذا الدير خزانة كتب عظيمة، واقعة في بهو طوله 52 مترا، فوق الرتاج الذي منه الدخول إلى المقر الملوكي. وفي هذه الخزانة من نوادر الكتب والآثار ما يستحق كل اعتبار. ومن ذلك كتب الصلاة التي كان يصلي بها شارلكان وفيليب الثاني، ومخطوط أسبانيولي يتضمن قصيدة فيرجيل الشاعر الروماني التي تسمى «إينايد»
Eneide ، والأناجيل الأربعة، في مجموعة كتب لكونراد الثاني، قيصر ألمانية، وأنجزت في زمن هنري الثالث، وتاريخها سنة 1050، ومخطوط فيه رؤيا يوحنا، تاريخه القرن الخامس عشر. وفيها مصحف شريف بخط مغربي مذهب كبير الحجم اتصل بالأسبانيول سنة 1594، وقد سألت عنه بعد زيارتي للأسكوريال، السيد الشريف الأجل، مؤرخ المغرب في هذا العصر، مولاي عبد الرحمن بن زيدان، حفظه الله، لأني وجدت مكتوبا على الصوان البلوري، الذي فيه هذا المصحف أنه مأخوذ من السلطان زيدان، صاحب المغرب. فأجابني مولاي عبد الرحمن بأن السلطان الذي أخذ منه هذا المصحف ليس من العائلة الشريفة السجلماسية بل من الملوك السعديين، وذلك أن بعض قرصان الأسبانيول غنموا مركبا من البحر لهذا السلطان، وكان فيه أمتعة نفيسة، وكتب من جملتها هذا المصحف. وقد قرأت في تاريخ الاستقضا للناصري السملاوي، في الجزء الثالث، في صفحة 128 ما يلي:
وقال منويل: «إن قراصين الأسبانيول غنمت في بعض الأيام مركبا للسلطان زيدان فيه أثاث نفيسة، من جملتها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والأدب والفلسفة وغير ذلك».
ومن جملة آثار خزانة الأسكوريال تآليف الملك الأذفونش الملقب بالحكيم من القرن الثالث عشر، وكرة أرضية، كان فيليب الثاني يستعملها في مطالعاته الفلكية. وفي هذه الخزانة صورة لفيليب الثاني، يوم كان في الواحدة والسبعين من العمر، وصورة لشارلكان يوم كان في التاسعة والأربعين، وصورة لفيليب الثالث، وصورة أيضا لكارلس الثاني، وهو ابن أربع عشرة سنة. ثم إنه يوجد في الخزانة قسم للكتب الخطية، لا يمكن الاطلاع عليه إلا بإذن خاص من إدارة الأسكوريال.
وأما القصر الملوكي الذي في الاسكوريال فإنه إن كان فيه شيء من الزخرف، فهذا قد حصل بعد موت فيليب الثاني. فأما هو فلم يكن بنى لنفسه إلا غرفة صغيرة يشاهد منها المذبح الأكبر في الكنيسة، وغرفتين بجانبها، ولا تزال فيها المفروشات التي كانت في أيام فيليب الثاني، ولا تزال في غرفته الخاصة المائدة التي كان يكتب عليها مع أدواتها، وهناك الكرسي التي كان يمد عليه رجله. وفي هذه الغرفة كان يستقبل سفراء الدول. وفيها مات، وذلك في اليوم السابع عشر من سبتمبر سنة 1598، على أثر مرض برح به، وكان وهو يجود بروحه ينظر إلى مذبح الكنيسة الكبير، كما أنه كان في يده نفس المصلوب الذي كان في يد والده شارلكان يوم فاضت روحه.
وللأسكوريال حديقة تتفتح أبوابها الساعة الثانية بعد الظهر. ولها منظر من أبدع المناظر، لا تبلع العينان مده على سهل قشتالة الجديدة، ومجريط، ووادي الرمل.
ولما زرت أسبانية سنة 1930 أي من ست سنوات، ذهبت إلى الأسكوريال أنا واثنان من شبان المغرب النجباء، وسرواته الأدباء، وهما السيدان العالمان الفاضلان أحمد بلا فريج، ومحمد الفاسي الفهري، وكان معنا السنيور دوزميت يواكين، من شبان نبلاء الأسبانيول، فطوفنا في الأسكوريال مدة ساعات، وجلسنا في خزانة الكتب، حيث رأيت من الكتب العربية ما لا يوجد في كثير من المكاتب وهناك تعارفنا مع الأستاذ المستشرق العلامة القسيس آسين بلاسيوس المشهور، وتحادثنا معه في مختلفة المواضيع، وسألناه عن سبب ذهابه إلى أن رواية دانتي، الشاعر الإيطالي الأكبر، المسماة بالمهزلة الإلهية، هي فكرة مسروقة من رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري، فأدلى إلينا بآرائه في الموضوع، وبين لنا أن التشابه الواقع في عدة من النقط لا يمكن أن يكون من قبيل وقع الحافر على الحافر ، وقال أيضا إن رسالة الغفران كانت مترجمة إلى اللاتينية ، ككثير من الكتب العربية، فيترجح أن يكون دانتي قد اطلع عليها. ثم سألناه عن رأيه في علماء غرب الأندلس، فرأينا له في حقهم رأيا عظيما، وذكر منهم عددا من جملتهم أبو محمد بن حزم، برغم كون ابن حزم طعن كثيرا في النصرانية، وأن آسين بلاسيوس ليس نصرانيا فحسب، بل هو قسيس مستمسك بدينه. وأما لسان الدين بن الخطيب فقال لنا أنه لا يعجبه. وذكر لنا آسين بلاسيوس أنه تلميذ «قديره» المستشرق الأسبانيولي الذي أصله من العرب، والذي طبع في مجريط كتب ابن بشكوال، وابن الأبار وغيرهما، وله تحقيقات كثيرة، وإليه يرجع الفضل في تجديد العناية بالعربية في أسبانية.
شقوبية
Ségovie
13
ومن مدن قشتالة المعدودة «مدينة شقوبية»
Ségovia
وهي مدينة عالية سكانها اليوم 15-16 ألف نسمة، وهي مركز مقاطعة منسوبة إليها، ومركز أسقف، وإنما أهميتها هي بكونها من أقدم المدن الأيبيرية، وأنها تشتمل على آثار قديمة ذات عظمة، منها القناة الرومانية المعلقة، وفيها كنائس وقلاع باقية من القرون الوسطى، وموقعها أشبه بموقع طليطلة، وذلك أنها مبنية على قمة صخرية، علوها مائة متر، ولها شوارع ضيقة، معوجة، معرجة، غريبة الشكل، والقصر
Alcazar
في أعلى القمة، وبالقرب منه الكنيسة. وللبلدة نهر يقال له «أريسمة» يجري في جانبيها، ولها أسوار قديمة من زمان الأيبيريين، ثم جددها الرومانيون. ولها أرباض مثل «سان دورانزو» و«سان مرقس» و«سان ميلان» مبنية في سفوح الجبل الذي هي عليه.
شقوبية «منظر عمومى».
أما القناة المعلقة، التي هي مع جدران طركونة، أعظم مآثر الرومان في أسبانية فالمظنون أنه كان بناؤها في أيام أغسطس قيصر، ثم تجددت في أيام قلاقيانوس، أو تراجانوس، كما يظهر من الكتابات الباقية، والماء مجلوب من شارات «فنفريا»
Fuenfria ، وهو يجري في البداية مكشوفا على مسافة 16 كيلو مترا، إلى أن يصل إلى شرقي شقوبية، حيث بنيت له خزانات، ومن هنا يكون مجراه على جسر طوله 818 مترا، منه على مسافة 276 مترا قسم مبني طبقا على طبق، ولهذا القسم 119 قوسا، وهو الواصل بين جانبي الوادي العميق، وارتفاع أركان الجسر هو من سبعة أمتار إلى 28 مترا ونصف، وجميع البناء هو من الحجر المحبب. ولما حاصر العرب شقوبية سنة 1071 انهدم في أثناء الحصار خمس وثلاثون قوسا، وبقيت مهدومة إلى زمن الملكة إيزابلا، فأمرت بتجديدها. وهذه القناة المعلقة تمر فوق ساحة يقال لها إلى اليوم ساحة «السويقة»
La Plaza Del Azoquejo
هي في مدخل المدينة العليا وهذه الساحة هي أهم مركز للبيع والشراء واسمها عربي كما لا يخفى. وفي شقوبية ساحات أخرى، وفيها كنائس متعددة، منها كنيسة سان ميكال، بنيت سنة 1558، والكنيسة الكاتدرائية، بدأوا بها سنة 1522، وانتهوا منها سنة 1577، بناها المعلم «جوان خيل أونتانون» باني كنيسة طلمنكة، وابنه «لذريق بن خيل» وطول هذه الكنيسة 105 أمتار، وعرضها 48 مترا. أما القصر في شقوبية فهو من بناء الأذفونش السادس، وكان قد تهدم ثم تجدد.
وبالقرب من شقوبية بلدة يقال لها «سان إيلدفونسو»
San Ildefouso
سكانها أربعة آلاف نسمة، في موقع بديع، يقصدها الناس للاصطياف، يقال إن بانيها هنري الرابع، جعل فيها هناك مكانا ينزل فيه عندما كان يذهب إلى الصيد، وذلك سنة 1450، وبالقرب من هذه البلدة قرية يقال لها «لاغرنجة»
La Granja
وكانت مكانا لفيليب الخامس أول ملوك البوربون في أسبانية، وقد بنى فيها قصرا وحدائق على نسق وطنه فرنسا. وكان يجلس فيها خلفاؤه. مثل فرديناند السابع. وبالقرب من هناك بلدة «أرانجويز»
Aranjuez
وهي بلدة سكانها ستة آلاف نسمة، يمر عليها جدول من نهر تاجه، فيسقي البسائط التي حواليها. وهذه البلدة قديمة من زمن الرومانيين، وكانت تصطاف فيها الملكة إيزابلا الكاثوليكية. وقد بنى فيها الإمبراطور شارلكان مكانا ينزله عند الصيد، فصارت هذه البلدة مركزا لاصطياف ملوك أسبانية إلى زمن كارلس الرابع، الذي تخلى هناك عن الملك لابنه سنة 1808 ومن ذلك الوقت أهملت الأبنية الملوكية هناك، ولم يبق للنزهة غير الجنان البديعة التي تحدق بها، ومن الغريب أنهم كانوا يقيظون فيها، مع أن الحرارة ربما تصعد فيها إلى درجة 47 من ميزان سنتيغراد. والحقيقة أن أحسن فصل في أرانجويز هو فصل الربيع. وهي بالنسبة إلى ملوك أسبانية أشبه بفرساي بالنسبة إلى ملوك فرنسا، وبوتسدام بالنسبة إلى ملوك بروسية. والقصر الملوكي في أرانجويز هو من القصور الملوكية المعدودة، فيه كثير من التحف والتصاوير وبديع الصنعة.
14 (8) طليطلة
Tolédo
هذه البلدة هي من أعظم مدن بلاد أسبانية قديما وحديثا، ومركزها في وسط أسبانية وإن كانت أميل إلى الجنوب منها إلى الشمال، وأصل بنائها متوغل في القدم، يقال إنها كانت حاضرة الكاربيتانيين
Carpetani ، وقد ورد ذكرها في كتاب المؤرخ الروماني «تيتليف»، وهو يقول لها «طليطم»
Toleteum ، ويذكر أنها بلدة صغيرة، ولكنها منيعة بموقعها الطبيعي. استولى عليها الرومانيون سنة 192 قبل المسيح، وفي زمن القوط
Visigoths
جعلها الملك «أتانجلد» كرسيا لملكه وذلك سنة 567 للمسيح، وصارت هي حاضرة المملكة.
ولما وقع الانشقاق الديني في النصرانية بين الكاثوليكيين الذين يقولون بإلوهية عيسى، والأريوسيين الذين لم يكونوا يقولون بإلوهية عيسى، جرت في طليطلة مجادلات دينية شديدة، وانعقدت مجامع متعددة لفصل الخلاف، وكان لكل من الحزبين قوة هي كفؤ للأخرى، إلا أن الملك القوطي ريكاريد جحد المذهب الأريوسي سنة 557 للمسيح، فسادت بعد ذلك الكثلكة في أسبانية كلها. ولم يلبث العرب بعدها أن فتحوا أسبانية، واستولوا على حاضرتها طليطلة، وغنموا فيها مغانم كثيرة، مما سيرد ذكره في القسم التاريخي من هذا الكتاب. ولكن العرب لم يتخذوها حاضرة لملكهم كالقوط لأنهم وإن كانوا وجدوها متوسط بالنسبة إلى أسبانية، فلم يجدوها متوسطة بالنسبة إلى القوة العربية، وقد كانوا لا يقدرون أن يبعدوا كثيرا عن أفريقية، فلذلك جعلوا مركز الإمارة في أشبيلية، ثم في قرطبة وصارت قرطبة هي العاصمة مدة قرون متطاولة.
على أن طليطلة كان لها شأن عظيم في زمن العرب، وكانت هي المعقل الأعظم لهم في وجه الأسبانيول، وكانت تسمى بالثغر الأدنى، كان فيها أمير من قبل الخليفة وطالما انتقضت طليطلة على قرطبة، وطالما ساق عليها بنو أمية من قرطبة الجحافل الجرارة. وكانت تمتنع عليهم، وربما تغلب عليها الخلفاء بالحيلة، كما سيأتي خبره. وأخيرا عندما جرت الثورة في قرطبة، وانتثر سلك الخلافة، استأثر بأمر طليطلة الأمراء بنو ذي النون، واستقلوا بها سنة 1035. وفي جميع أدوارها كانت مدينة علم وصناعة، وفيها أحسن معامل السلاح ومناسج الحرير والصوف . وفيها صنعة الحفر والتنزيل على المعادن، وهي الصنعة الباقية إلى الآن من أيام العرب. ونفائس هذه الصنعة تباع في كل أوروبا. ولها في طليطلة تسعة معامل في يومنا هذا، والمترفون يتنافسون باقتناء ما يصنع بها من ساعات، وأسفاط، وعلب، ومحاجن، وأقلام، وسكاكين، وغير ذلك، من عمل اليد، وقد ورث الطليطليون كل هذا من العرب.
وقد بقيت طليطلة في أيدي العرب من سنة 712 مسيحية إلى سنة 1085 أي زهاء أربعة قرون، وكانت في أيامهم كلها زاهرة باهرة. وغلبت العروبة على نصارى طليطلة، فلبثوا نصارى، ولكن اتخذوا اللغة العربية والثقافة العربية لأنفسهم وكانوا يقيمون صلواتهم، وما يسميه النصارى بالطقوس الكنيسية، وذلك باللغتين العربية والقوطية، وصار الأسبانيول يطلقون عليهم اسم «موزاراب»
Mozarabes
محرفة عن «نصف عرب» ومن الغريب أن رغبة أهل طليطلة في العربية، وصلت إلى أنهم بعد سقوط طليطلة في أيدي الأسبانيول الذين أرجعوها حاضرة لملكهم لم يزالوا مستمسكين بعروبتها، ولبث أخذهم، وعطاؤهم، وبيعهم، وشراؤهم، وجميع صكوك معاملاته، بالعربية
15
إلى سنة 1580، أي أن آثار العربية لم تندرس من طليطلة إلا قبل عهدنا هذا بثلاثمائة سنة لا غير. وكان ذلك بتكرار الأوامر الصادر من الحكومة بمعاقبة كل من يتكلم بالعربية، أو يكتب بها، ولولا ذلك لربما كانت بقيت العربية في طليطلة إلى يوم الناس هذا.
وقد جمع «أنجل غوانزاليز بالانسيه» أحد أساتيذ الأدب في مجريط
Angel Gonzalez Palencia
تحت عنوان «نصف العرب، أو موزاراب طليطلة، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر» عددا كبيرا من الصكوك والوثائق، التي كانت تكتب في طليطلة لذلك العهد، فبلغ ذلك ثلاثة مجلدات، فيها ما يناهز ألف صفحة بالقطع الكبير مع ترجمتها بالأسبانيولي. وإليك بعض أمثلة من هذه الوثائق:
بجميع منافعه كله إلى آخرها، وعامة مرافقه على ضروب أنواعها، في قاعته، وفيما عليها، وبكل حق وملك، هو من هذا المبيع الموصوف وبه وله ومنسوب إليه، في داخله وخارجه، وبالدخول إليه والخروج عنه، لم يستبق البايع المذكور لنفسه، ولا لأحد بسببه، في شيء من جميع المبيع الموصوف كله، حقا ولا ملكا، قليلا ولا كثيرا، ولا منتفعا بوجه من الوجوه كلها، ولا بسبب من الأسباب، إلا وخرج عنه للمبتاع المذكور، بالبيع الصحيح التام البت البتل
16
الناجز الصريح الذي لم يتصل به شرط مفسد ولا ثنيا ولا خبار. انتهى.
مثال آخر:
دفع الأرسيدياقن
17
المذكور جميع الذهب الموصوف كله للبايع المذكور، وقبضه منه، وصار عنده وفي ملكه وذمته، وأنزله في جميع المبيع الموصوف كله منزلة ذي المال في ماله، وذي الملك في ملكه، بعد أن عرفا قدر هذا المبيع ومبلغه بمنتهى خطره، ولم يجهلا شيئا منه، وعلى سنة النصارى في بيوعهم وأشريتهم، ومراجع إدراكهم. ا.ه.
مثال ثالث:
شهد على أشهادهما بالمذكور فيه عنهما، من أشهاده به على أنفسهما، حسب نصه وسمعه منهما، وعرفهما بحال الصحة والجواز والطواعة. ا.ه.
وإليك هذا الصك: «اشترى ربي بواسحق بن نحميش اليهودي من جميلة بنت فرج زوجة البليوشي البنا جميع
18
خصها وهو النصف من الكرم المعروف بالفوجال بحومة قرية جلنكش
19
من قرى مدينة طليطلة وعلى الإشاعة فيه مع من يشركها بسائره وحده في القبلة الطريق وفي الجوف جبل لابن برطال، وفي الشرق كرم ابن فرنجيل
20
وفي الغرب الطريق وفيه بابه بثمن عدته ثلاثمائة مثقال من الصروف الجارية بطليطلة حين هذا التاريخ بما فيه عشر درهما
21
بمثقال على سنة المسلمين في بيوعهم ومرجع الدرك. في رمضان المعظم عام خمسة وتسعين وأربعمائة.
22
وممن أشهده علي بن البليوشي بإجازته له وإمضائه له وإقراره ألا حق له في شيء من المبيع المذكور وبوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب، وإنه كان لوالدته جميلة إلى أن باعته حيث وصف.
إبراهيم علي بن سعيد بن الفتح الداني. وإبراهيم بن وهب (هناك كلمة غير مقروءة). و(هنا كلمة أخرى لا تقرأ) بن يوسف بن الربابي. ومحمد بن أحمد بن سعيد وعبد الرحمن بن أحمد بن عفيف الفهري وأحمد بن محمد (كلمة ممحوة). ومحمد بن عبد الله بن مظاهر الأنصاري. وأحمد بن يوسف الأنصاري. وإبراهيم ابن عبد الرحمن بن أبي ... وسلمة بن يونس الأنصاري. ويحيى بن عبد الله ... الغافقي »
وإليك هذا الصك:
اشترى عبيد بن أسد من خلف بن عبد الله جميع الكرم الذي له في أول منزل رزين. حده في القبلة نهر تاجه، وفي الجوف كرم يشت الحريري،
23
وفي الشرق كرم لأبي خالد، وفي الغرب غروسات السلطان
24
أيده الله، بثمن عدته ستون دينارا، من البريزات
25
الجارية بطليطلة حين هذا التاريخ، وفي شهر نوفمبر الكاين في سنة ثلاثين ومائة وألف من تاريخ الصفر.
26
ومما وجب إلحاقه إلى المدخل للكرم الموصوف فوق هذا على باب الكروم
27
الذي لردريقة قسيس السلطان الذي هو من ليون والباب المذكور مشترك بينهما إذ كان الكرم في القرع واحد وعلى ذلك كله يقع الأشهاد.
عبد الرحمن بن زكريا: يوان بن خلف شاهد. سليم بن زكريا وكتب عنه. سليمان ابن عمر شاهد وكتب عنه. وعلي بن الحرير. عبد العزيز بن خير. وعبد الله ابتوال. وسليمان بن المدجالة. إليان بن سعيد. وعبد الملك بن عبد الملك وكتب عنه وعليه شهد عندي. وبخط عجمي جليانش بطريس تشتا. وبخط عجمي سيدا له ابن مشارك شاهد. وعلى كل اسم من العجمي معلم شهد عندي. وبالعربي أبو خالد بن أسطر. ا.ه.
مثال آخر: «اشترى خير بن ركوي من يحيى بن عبد السلام جميع الدار التي له بحومة رحبة القشالي
28
حد الدار في الشرق دار خلف بن جواد،
29
وفي الغرب دار جلبارت الفرنجي،
30
وفي القبلة دار أبي الحسن بن ذكري وفي الجوف دار مفرج بن عثمان بثمن عدته أربعون دينارا من الدينارات الجارية بطليطلة حين هذا التاريخ من شهر إبريل في سنة واحد وثلاثين ومائة وألف من تاريخ الصفر.
وشهود الأصل فيه: فرج بن عبد الله. ومسعود زرقون شهد وكتب. عبد الرحمن بن يحيى شاهد على ذلك. وعيسى بن الحسن شاهد وكتب عنه بأمره. وعيشون بن يحيى شاهد. هذيل بن حكم شاهد وكتب. زكري بن عثمان شاهد وكتب عنه. وبالأعجمي يشتش فليش
31
بطره
32
يشتس.
صحت هذه النسخة (إلخ) في العشر الأوسط من شهر سبتمبر سنة ثلاثين ومائتين وألف للصفر. يوان بن يليان الصقلي شهد. ويوانش بن مقايل بن عبد العزيز المشناري. وباطره بن عمر بن غالب بن القلاس.
مثال آخر: «ابتاع يحيى بن خلف ويحيى بن قريش من بيطر وأنفونش
33
وزوجه يشته
34
جميع المنية
35
التي لها بمنزل مشكة
36
المعروفة من قبل لابن سلمة، والمتصيرة إليهما بالابتياع، التي حدها في الغرب مضربة القرمادين، وفي القبلة المضربة المذكورة أيضا وفي الشرق محجة سمرة إلى الكرمات، وفي الجوف المحجة السالكة من طليطلة إلى القرضيطة،
37
وفيها بابها، تخرج بين ذلك حصة لاشتافن من بيت قوبه، وحدها من المحجة الداخلة إلى الثانية، بثمن مبلغه من الدنانير اثنان وثمانين
38
دينارا، من الدينارات الجارية بمدينة طليطلة، حرسها الله حين التاريخ كل دينار منه ... عشرة وإلى ذك الكريم
39
المعروف بالقوجول بمنزل مشكة المبتاع منهما المذكورين ببطره أنفنش وزوجه بشته، والمتصير إلى يحيى، ويحيى بالابتياع من البايعين للمنية ببطره وزوجه زيادة وعوانا إلى الدنانير المذكورة في عقب ... إبريل التي من سنة ألف ومائة وثلاثة وثلاثين للصفر.
عبد الملك بن عامر. ولب ... وعبد الله بن جلبرت. وخير بن يحيى. ومروان ابن غالب. يحيى بن معبد وكتب عنه وبأمره. السرقسطي كتب عنه بأمره وعمر بن عامر بن الليث. وعبد الرحمن بن غلمير بن عريب. وعبد العزيز بن سعيد وكتب عنه بأمره. وعبد الله القوطي وكتب عنه بأمره»
مثال أيضا: «اشترى ديمنقوس الأرجيقس وديمنقوس القس ... كنيسة شنت لوقادية
40
خارج مدينة طليطلة حماها الله من ميقال ... وزوجه بيليه ... من الحصة التي له بدار الخازن، وبحوز المشاطر، وهو نصف خمسين ونصف القرية، بمبلغه من الثمن خمسة وأربعين دينارا من السكة الجارية حين عقده، اشترى ديمنقوس والأرجيقوس وديمنقوس المذكوران جميع هذا النصف سهله ووعره عامره وغامره أنادره
41
وقرالاته
42
وسدوده
43
وقنانره
44
وأرحاءه وبرجه، والمدخل إلى جميع الدار والمخرج منه وذلك كله في النصف من شهر مارس من سنة ألف ومائة وخمسة وأربعين.
شهد عندي ... بن يوانش شاهد. شهد عندي ... بن عبد ... شهد عندي، وعبد الرحمن بن ...
مثال آخر : «اشترى مرتين الأرجيد ياقن من يوسف بن يعيش اليهودي جميع الثلاثة جبال الكروم المتصلة التي له بمرطيلة، حدها في الشرق كرم بيطر والجزار، وفي الغرب كرم شلوط، وفي القبلة كرم ... الطريق بثمن عدته ... اثنتان وثلاثون دنانير الجارية بطليطلة حين التاريخ في شهر مارس الكاين في عام ثمانية وأربعين بعد ألف لتاريخ الصفر.
ويوصف بن ... شاهد. وسيف بن العزاد شاهد. إبراهيم بن إسحق ومرتين الخياط. عمر بن عبد الله، وعبد الله بن مرتين بن خير، وسعدان بن عبد الله، ويعقوب البرسلوني شاهد».
مثال آخر: «اشترى ميقايل بن يقي من البيرة زوج فرننده منيوس، وبينهما منيوه وغنصالبه، وأختهما وابنتهما شولي جميع نصف الجنان المعروفة لهم بحومة الليثيق من نظر مدينة طليطلة، حماها الله، على الإشاعة، حده في الشرق نهر تاجه، وفي الغرب حده أرض بيضة للشيخ ابن مشقيق، وفي القبلة نهر تاجه أيضا، وفي الجوف
45
المحجة السالكة، بثمن عدته مائتين دينارا اثنتين من الفرود الجارية حين التاريخ، والمثقال الشرقية المأحوتية، دينارين وسدس في عقب فبرير سنة تسع وأربعين ومائة وألف لتاريخ الصفر.
سهل بن خلف بن علي، حسان بن جهيد وسلمة بن سعد وكتب عنه بأمره، عبد الله بن حسان»
مثال آخر: «اشترى ديمنقه بن يحيى من سفيان بن أبي البقي ومفرج بن خير، جميع حصتهما من المنية التي بمنزل مشكة، من نظر مدينة طليطلة حماها الله، وذلك الثلث من جميع هذه المنية التي تعرف في عهد الإسلام ... مع ثلث البير وثلث ثمار القباوب؟ على البحيرة، وثلث الصهريج مع ... والمدخل والمخرج إلى البير والصهريج، وحد هذا الثلث المذكور في الشرق كرم لأبي إسحاق القمراني مع القس ابن فرحون، وفي الغرب لورثة يحيى بن سرير رحمه الله، وفي القبلة فدان حبس على شنت فليج
46
وفي الجوف الطريق الداخل إلى القرضيط، بعدد مبلغه من الذهب المرابطية
47
سبعة عشر مثقالا، وفي أول شهر سبتمبر عام خمسين ومائة وألف تاريخ الصفر.
إن ثلث المنية المذكورة فوق هذا أن ثلثي أرضها أرض بيضا خاوية عن جميع الثمرات والكرم والغراسات، وجميع الثلث المذكور بغير تعليق
48
ولا اعتمار .
عمر بن سعيد شهد وخلف بن عمر كذلك، وسلامة بن مقيال شهد، وعبد الله بن عثمان نقطة، وعتبة بن وليد ورمان بن عامر، وخير بن مورن. وعبد العزيز بن أبي الحسن بن أبي رجال، ويعيش بن فيليش، وعبد الملك بن بهلول، وبهلول بن ... وكتب عنهم بأمرهم، وعبد الله بن فرسان وكتب عنه، وعبد الرحمن بن عبد الرحمن شاهد، وعثمان بن عثمان شاهد وكتب عنه.
شهدوا الشهود على ... بعد إقرار الفريقين في التاريخ المؤرخ إن شاء الله.
مثال آخر: «اشترى يوانش بن ملوك بن استافن بن عبد الرحمن جميع الغرس مع الأرض البيضا المتصلة به المعهودين له بحومة بنال من عمل طليطلة حرسها الله، حدهما في الشرق الطريق الناهض إلى حصن مورة حرسها الله، وفي الغرب غرس بيطره شرانه الحداد، وفي الجوف غرس مرتين بلايس بثمن عدته أربعة مثاقيل ذهبا مرابطيا في شهر يولية من سنة إحدى وسبعين ومائة وألف لتاريخ الصفر.
يحيى بن علي بن يحيى شاهد، بيطره بن سهل، ومقيال بن يوانس شاهد، ومسعود بن يحيى بن عفان شاهد، فليس ابن مروان شاهد وكتب عنه لورانس بن ... يوانس شاهد»
مثال آخر: «اشترى بلدوين قيليار وزوجه مونينه من بيطره الخياط، من أهل مدينة شقوبية جميع حصته الواجبة له بالقسمة مع شركة بيطره تعليقس
49
وذلك النصف الذي بجهة الشرق من الميشون
50
والقرال
51
المتصل به بحومة ربض الأفرنج، قرب القاعدة شنته مرية أم النور بمدينة طليلطلة حرسها الله، حد هذا النصف المبيع من الميشون والقرال، في الشرق حوانت السلطان أيده الله، وحوانت الأحباس، وفي الغرب النصف الثاني الذي لبيطره تعليقس قسيمة المبيع المذكور، وفي القبلة المحجة السالكة، وإليها يشرع باب الميشون المبيع المذكور، وفي الجوف حوانت السلطان أيده الله التي للفخارين بثمن عدته خمسون مثقالا ذهبا مرابطيا
52
مالكية طيبة وازنة، في شهر يوليو من عام اثنين وسبعين ومائة وألف للتاريخ الصفر.
هو بر الأفرنجي وكتب عنه، وهربرت بلنك وكتب عنه، وبامين الأفرنجي وكتب عنه وغطارد
53
طليطلة وكتب عنه، وبيطره بن يوسف بن مروان، ومرتين بن استافن وعثمان بن سليمان بن ملك وكتب عنه، ويوليان بن يحيى وكتب عنه، وغونصلبه فرولس، وكتب عنه أبو علي بن روبين وكتب عنه. وبيطره قولونبيريانة، وكتب عنه وبياك مونس من سنت رمان وكتب عنه، ودون مينوه أدفونش قايد «مورة»
54
شاهد وكتب عنه بامرته».
مثال آخر: «اشترى الوزير دون ميقايل ميطس، أعزه الله، من بهلول وأخيه بيطره أبي مرتين بن بهلول رحمه الله جميع الدار الكبيرة، والقوال المتصل بها، من جهة الغرب والقبلاريسا المتصلة أيضا بها من جهة القبلة، حدود جميع ذلك كله في الشرق الطريق السالك وإليه يشرع الباب، وفي الغرب دار ابن طورنيو المسلم
55
أمين الفخارين، وفي القبلة دار بيطره البنا ابن بهلول، وفي الجوف دار تيقيت بن البائعين ودار سلمة بن حسان، بثمن عدته ثمانون مثقالا ذهبا مرابطيا، في العشر الأول شهر أوغوشت من سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف لتاريخ الصفر.
وعبد الله بن داود شاهد. وباقي بن عمر بن باقي. وديمنقوه بن يحيى بن مرتين وبهلول بن عمر شاهد على النص. وعبد الله بن اليعص. ويوان بن عامر. وعامر بن تمام. وعبد الرحمن بن إبراهيم شاهد. ويحيى بن مفرج وكتب. وعلي بن عياش وكتب عنه. وحكم بن شلمون وكتب عنه. ويوليان بن سلمة شاهد. وجنيد ابن عبد الملك بن ليون وكتب عنه. وبيطره بن عبد العزيز بن عطاف بن لنبطار.
مثال آخر:
يشهد من تسمى أسفل هذا الكتاب من الشهداء أنهم حضروا وسمعوا من يوان الكراسي وزوجه أويانية، يقولا أنهما باعا من رودريقه أوردوناز الحصار جميع الكرم الذي لهما بالوعد بحومة كنيسة شنت قليش، قبلي طليطلة، حرسها الله، وحده في الشرق كرم لبنت الشمنتاني، وفي الغرب كرم لولدين
56
سربي، وفي القبلة الجبل، وفي الجوف كرم القسكلي بثمن عدته ثلاثة مثاقيل ذهبا مرابطيا، ودفع البايع الثمن إلى البايعين، وأقرا أنهما قد اتصفا منه وأنزلا في المبيع وحقوقه إلخ. وكتب الاستدعا في شهر مايو من عام خمسة وسبعين ومائة وألف لتاريخ الصفر.
يعيش بن قريش شهد عندي، ومرتين بن رمانش شاهد وكتب عنه شهد عندي. شهدوا عندي الشهود بأعيانهم، وفي التاريخ وأنا عبد الرحمن بن يحيى بن حارث وبالله التوفيق.
مثال آخر: «اشترى مرتين سلمة بن أبي حجة من مرتين باطرس قرعتين اثنين من جملة اثنين وثمانية قرعة بقرية الكلبيين والبمار من عمل مدينة طليطلة من أراض بور ومعمور وأنادر ومروج وأشواط
57
وبرادات وبكل حق، بثمن عدده أربعة مثاقيل ومرابطية، ورباعي مثقال ضرب المرية، في شهر نوفمبر الذي من عام سبعة وثمانين ومائة وألف للصفر.
شهود الأصل فيه ... مجانت بن عثمان بن خلف. وعمر بن عبد الله شاهد. ويحيى بن سعيد شاهد كذلك. وبالعجمي سبربان بطرس تشتش. ديمنقه شربطول تشتش.
هذه النسخة إلخ. في العشر الأخير من نوفمبر سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف للصفر.
اشتابن بن لازره. وشلبطور
58
بن سهل بن عبد الرحمن. ويحيى بن وليد ابن قاسم. وباطره بن عمر بن غالب بن القلاس».
ولا يمكننا أن نستقصي جميع الصكوك والحجج التي في هذه المجموعة التي تقع في ألف صفحة كبيرة، وإنما اقتبسنا منها بعض أمثلة لأجل تمثيل حالة طليطلة الاجتماعية، التي قيل فيها بحق إنها الحد الواصل بين الإسلام والنصرانية، والتخم الذي يجمع بين الشرق والغرب، ترى ذلك من اختلاط الأسماء فبينما الأب هو عمر إذ الابن هو بطره، وبينما الأب هو عبد العزيز إذ الابن هو ميقيال. وربما تجد بيطره بن يحيى بن أصبغ، واشتافن بن حسان، ومرتين بن عثمان، وشلبطور بن عبد الرحمن وهلم جرا. والسبب في ذلك هو أنه لما فتح العرب الأندلس، وأسلم من أهلها أناس كثيرون استعربوا اسما وفعلا. ومنهم من لم يدخل في الإسلام، ولكنه استعرب وهو باق على نصرانيته. وأكثر ما تجلى هذا الوضع في مدينة طليطلة التي كان النصارى فيها يشبهون نصارى المشرق باستعمال كثير من العربية في صلواتهم وطقوسهم الدينية.
وقد تبدلوا بأسمائهم الأسبانيولية القديمة أسماء عربية كأسماء المسلمين إلى أن كان القسوس ورجال الكنيسة منهم يتسمون بأسماء إسلامية. وحسبك أن أحد مطارين طليطلة كان اسمه عبيد الله بن قاسم وكان له مقام عند الخليفة الناصر رحمه الله، كما أنه بعد أن استرجع النصارى طليطلة تنصر من مسلميها عدد كبير، نقل صاحب النفح عن ابن بسام في الباب الثامن من الجزء الثاني: أنه لما دخل الأذفونش طليطلة سار مع المسلمين سيرة حسنة في أول الأمر حتى استمالهم إليه. وعبارة ابن بسام هي هذه: «وبسط الكافر العدل على أهل المدينة وحبب التنصر إلى عامة طغامها، فوجد المسلمون من ذلك ما لا يطاق حمله، وشرع في تغيير الجامع كنيسة في ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة». ا.ه.
قلنا إنه تمهل قليلا حتى أجرى بالفعل ما كان يضمره من أول ساعة دخوله إلى طليطلة، فأما بحسب الروايات التي بين أيدينا، والتي معناها أن طليطلة خرجت من يد الإسلام سنة 1085 مسيحية فإن الجامع الأعظم تحول إلى كنيسة
59
ثاني سنة وقد رأينا في دليل بديكر أن الأذفونش السادس فتح طليطلة سنة 1085، وكان المسلمون اشترطوا لتسليمها أن يبقى المسجد الأعظم لهم، ورضي الأذفونش بهذا الشرط، ولكن في السنة التالية نقض الأذفونش عهده، بناء على إلحاح الملكة كونزتانزة وبرنار رئيس الأساقفة. ا.ه.
وكيف كان الأمر فقد تنصر كثير من مسلمي طليطلة، وبقي كثير من المسلمين على دينهم، لا سيما طبقة الخواص، ولكنهم لم يهجروا البلدة دفعة واحدة. وما خلت طليطلة من المسلمين تماما إلا بعد قرون متطاولة. ومن الغريب أن طليطلة رجعت إلى النصارى في الثلث الثالث من القرن الحادي عشر للمسيح، وأنه في أوائل القرن السابع عشر كان لا يزال فيه مسلمون في زي نصارى. وقد نقلنا في بحث مسلمي الأندلس في حاضر العالم الإسلامي في الجزء الثاني عن كتاب الأنوار النبوية في أنباء خير البرية، للعالم النسابة سيدي محمد بن عبد الرفيع الأندلسي المتوفى في رجب عام اثنين وخمسين وألف، وصفه يوم كانوا بالأندلس لحالة المسلمين الذين كانوا مضطرين تحت خطر الحرق بالنار، أن يظهروا النصرانية وهم يبطنون الإسلام ، وكيف كان والد المؤلف المذكور يعلم ولده الإسلام سرا ، ويوصيه بأن يكتم ذلك حتى عن والدته وعمه وأخيه، وجميع أقاربه، وأن لا يخبر أحدا من الخلق بما يعلمه إياه في الخفاء. ثم كان يرسل والدته إليه فتسأله: ما الذي يعلمك والدك فيقول لها: لا شيء. فتقول له: أخبرني بذلك ولا تخف لأني عندي الخبر بما يعلمك. فيقول لها: أبدا ما هو يعلمني شيئا. قال: وكذلك كان يفعل عمي، وأنا أنكر أشد الإنكار ثم أروح إلى مكتب النصارى، وآتي الدار فيعلمني والدي، إلى أن مضت مدة، فأرسل إلى من أخوانه في الله والأصدقاء. فلم أقر لأحد قط بشيء، مع أنه رحمه الله تعالى قد ألقى بنفسه للهلاك لإمكان أن أخبر بذلك عنه فيحرق لا محالة. لكن أيدنا الله سبحانه وتعالى بتأييده إلخ. إلى أن يقول: فلما تحقق والدي رحمه الله تعالى أني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب، فضلا عن الأجانب، أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وعمي وبعض أصحابه الأصدقاء فقط، وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين وأنا أسمع، فلما رأى حزمي مع صغر سني فرح غاية الفرح، وعرفني بأصدقائه وأحبائه وإخوانه في دين الإسلام فاجتمعت بهم واحدا واحدا. ا.ه.
وقد علقت على هذه الجملة بقولي: إن الإسلام بالأندلس حسبما يظهر من هذا الوصف كان أصبح شبيها بجمعية سرية تكتم أمرها أشد الكتمان، ولا يقدر واحد من المسلمين أن يبوح بإسلامه إلا لمن يكون قد ابتلى أمانته، وامتحن صدقه فكانوا يجتمعون سرا إذا كان بعضهم واثقا ببعض، ويتكلمون في أمر الدين في أشد الخفية. ثم نقلت عنه ما يلي:
وسافرت الأسفار لأجتمع بالمسلمين الأخيار من جيان، مدينة ابن مالك إلى غرناطة، وإلى قرطبة، وأشبيلية، وطليطلة، وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء أعادها الله تعالى للإسلام فتلخص لي من معرفتهم أني ميزت سبعة رجال، كانوا كلهم يحدثونني بأمور غرناطة، وما كان بها في الإسلام حينئذ، وبما أقوله وقلته بعد، فسندي عال لكونه ما تم إلا بواسطة واحدة بيني وبين الإسلام بها. ا.ه.
وعلقت على هذه الجملة الأخرى ما يلي: إنما من عرف كون ابن عبد الرفيع توفي عام ألف واثنين وخمسين للهجرة، لا يخفى عنه أنه كان شابا في أول سنى الألف للهجرة، أي منذ نيف وثلاثمائة سنة. ويظهر له أنه منذ نيف وثلاثمائة سنة، كان في جيان وغرناطة وأشبيلية وقرطبة أناس لا يزالون يدينون بالإسلام سرا، وهم في الظاهر نصارى. وأغرب من هذا وجود مثل هؤلاء في طليطلة المصاقبة لمجريط، والتي كان مضى على استرجاع الأسبانيول لها يوم زارها ابن عبد الرفيع أكثر من خمسمائة سنة. أي أنه بقي مسلمون في الباطن في طليطلة من بعد أن زال عنها حكم الإسلام بخمسمائة عام.
ثم ذكرت في محل آخر من هذا البحث:
وقيل لي إن أحد المغاربة وقع في هذه الأيام الأخيرة ببعض قرى طليطلة، فوجدهم يذبحون الأكباش يوم عيد النحر عندنا، ويقولون إنها عادة توارثوها عن آبائهم. ا.ه.
ثم إني أذكر في المبحث نفسه فصلا عثرت عليه في جريدة «العملة» النمساوية الصادر في فينة، عددها المؤرخ في 3 يناير سنة 1932، جاء فيه بمناسبة الكلام عن ثورات أهل العمل، كلام عن موريسك الأندلس، وأعمال ديوان التفتيش الكاثوليكي ما يلي:
فأخذ هذا الديوان ينقب ينقر عن الكلية والجزئية من أعمال المسلمين ومنع جميع شعائرهم الدينية، بل منع جميع عاداتهم ومذاهبهم في الحياة: ولو لم يكن لها تعلق بالدين، وعاقب على ذلك. وكان يعاقب أشد العقاب من علم عنه أنه لا يأكل لحم الخنزير أو الميتة، أو عرف عنه أنه لا يشرب الخمر، أو قيل إنه أدرج ميته في كفن نظيف. وكانت النظافة في ذاتها ذنبا يعاقب عليه، وفي سنة 1597 وجد في طليطلة المسمى «موريسكو بار ثولوم شانجه» فلحظ عليه القوم أنه شديد التطهر، فعذبوه عذابا شديدا، ومازالوا يعذبونه حتى أقر بأنه يتطهر عن عقيدة، فحكموا عليه بالسجن المؤبد، وبضبط جميع أملاكه. ووجدوا قرآنا عند عجوز اسمها «إيزابلا زاسن» فقالت أنها لا تقدر أن تقرأه فلم ينفعها هذا القول، وعذبوها، ولكن لما كان عمرها تسعين سنة اكتفوا من إهانتها بحملها على حمار، والطواف بها في الشوارع وعليها غطاء مكتوب عليه اسمها «وإثمها» ثم زجوها في السجن بعد ذلك، وبقيت فيه إلى أن علموها قواعد المسيحية. ا.ه.
من هذا الفصل الوارد في جريدة «العملة» النمساوية.
Arbeiterzeitung
يتأيد ما رواه ابن عبد الرفيع الأندلسي، من أنه في أوائل القرن السابع عشر كان لا يزال في طليطلة بقايا مسلمين، وأن العروبة لم يكن طمس هناك أثرها بالكلية. وهذا بحث سنفرد له إن شاء الله، بعد أن أعددنا مواده، جزءا خاصا من كتابنا هذا.
ونعود إلى طليطلة واختلاط أسمائها، الأسبانيولي بالعربي، والعربي بالأسبانيولي مما يدل على امتزاج المجتمعين في هذه البلدة، بشكل غريب، لم يسبق له مثيل، وإليك أمثلة أخرى: «باع القائد دون شبيب بن عبد الرحمن من دون دمنقه مرزاله الدليل، ومن زوجه بشته بنت مرتين إلخ. والشهود يحيى بن خليل ورفاعة بن يحيى القنتري وإبراهيم بن خليل وعبد الله بن عمر وحسين بن جعفر وميقائيل بن شبيب ابن عبد الرحمن».
ومثال آخر: «اشترى القس دون دمنقة بن مقيال بن الريم من بوان باطرس جميع الفدان الواحد الأرض البيضا الذي له بحومة أوليش الكبرى عمل طليطلة حرسها الله. وإلى أن يقول: وسعة هذا الفدان المبيع المذكورة كسعة كل قرعة هي بالحومة المذكورة بثمن عدته مثقال ونصف من الذهب البياسي الضرب.
60
أما الشهود فهم: بيطره ابن يليان بن أبي الحسن، وشلمون بن علي بن وعيد إلخ.
وفي مكان آخر صك المشتري فيه الأرجبرشت
61
دون نقلاوش القونونقي
62
بقاعدة شنتة مرية عمرها الله والبائعة مرية بنت تمام على حفيدها الصغير الذي من غير رشد المسمى شربند بن باطرة غرسية الذي في حضانتها. وفي هذا الصك ذكر الوزير القاضي دون يليان بن أبي الحسن بن الباصة أدام الله عزه.
وفي صك آخر يقول: اشترى دون لازر بن علي بن دون يوان بن عثمان ومن زوجه دمنقة بنت حنصون جميع الكرم الذي لهما بحايز شنت اشتاين خلف نهر تاجه وبمقربة من قرال بني أبي مالك من أحواز مدينة طليطلة حرسها الله. والتاريخ هو في العشر الأوسط من شهر ينير سنة إحدى ومائتين وألف للصفر والثمن ثلاثون مثقالا من الذهب البياسي. والشهود يليان بن فرجون وبيطرو بن أندراش بن عزيزي وميقايل بن سلمة بن سدرابه ولب بن فرنندس. وفي آخر الصك يقول: وأنا يوان ابن عثمان بن عثمان بعت وقبضت. ا.ه.
وانظر إلى هذا الصك:
اشترى الدقاين دون دمنقه نفره الذي من أئمة قاعدة شنتة مرية بطليطلة حرسها الله من الإمام دون بيطرو جلبرت منها أيضا جميع الغرس المعلوم له بحومة برج الشياطين عدوة نهر تاجه في حومة شنت فليس من أعمال مدينة طليطلة المذكورة أنها يصل إليه وهو الغرس الذي اغترسه أبو الطيب المغترس وحده في الشرق غرس لدون اشنابن القميراني وفي الغرب شنطير سالك من النهر المذكور إلى الطرق التي بالحومة المذكورة وإلى سواها وفي القبلة غرس الأندراش وفي الجوف غرس لبيطروه أشكرده بثمن عدده ثلاثة عشر مثقالا ونصف مثقال ذهبا بياسي الضرب طيبا وازنا في شهر مارس من عام اثنين ومائتين وألف.
وهذا المثال:
اشترى ميقيال يوانش وأخيه دمنقر يوانش على السواء بينهما والاعتدال من دونة التي كانت زوجا لاندراش د حجاج ومن بينهما يوانش ويليان واشتابن ورومان ومرية وقلنبه جميع الدار التي لهم بحومة شنت رومان داخل مدينة طليطلة حرسها الله التي حدها في الشرق دار لورثة دمنقه سبريان وفي الغرب الزقاق الغير نافذ والباب فيه شارع وفي القبلة غرفة على أسطوان هذه الدار وهي لدون فيليز شنجس.
وهذا صك آخر:
اشترى الأرده
63
الأفرنجي وزوجه دونة مرشكيطه،
64
من اولاليه
65
بنت ديقه، وهي التي كان أخاها بيطروه ديس
66
شيون الكنفرية
67
متاع
68
شنتة مرية العظمى، جميع الدار المعلومة لها ولأخيها بيطروه ديس المذكور بحومة شنته مرية القاعدة داخل مدينة طليطلة حرسها الله التي حدها أجمع في الشرق الطريق السالك، والباب إليه شارع، ودار كانت لنقلاش د طوريش، وفي الغرب دار انتالين ولد غلتار لقواس، وفي القبلة دار الوزير القاضي دون رودريقه ديمنقس، ودار لاشتافن مشتابار، وفي الجوف قرال لانتلين المذكور، ولريموند بلدي
69
ولد جفري مرابطي،
70
ودار كانت لأرنلد فرانساشك إلخ.
وتأمل هذا الصك: «اشترى دونه لوقاديه بنت ميقائيل شايس، وابنتها دونه مريه، التي كانت زوجا لدون غرسية القميراني رحمه الله من دونه مرينه التي كانت زوجا لدون قليام ومن بينهما دون فليز، ودون بيطروه، ودون يوانش، ودونه ديمنقه، جميع الميشون الذي هو حانوت الآن، والشوطار الذي تحته، والغرفة التي عليه، المعلوم لهم بحومة كنيسة شنته مرية القاعدة في ربض الأفرنج،
71
داخل مدينة طليطلة، حرسها الله وحد هذا المبيع في الشرق والغرب والقبلة والجوف طريق آخر على ما يشين الطعام إلى سوق الرقيق، وطريق آخر على اليليتدين، إلى سوق الحصارين، وميشون نقليان د ديقرميلش وميشون لارنال ميقلده، وهو قريب البائعين، وكان قسيم المبيع ومثله بثمن مبلغه أربعون مثقالا ذهبا، بياسية الضرب، طيبة وازنة، بشهر ديسمبر الذي من عام ثلاثة ومائتين للصفر.
وشهود الأصل فيه بيطرو بن يليان بن أبي الحسن، وعمرو بن أبي الفرج، وفيليس بن غليام، وبوانش بن غليام، وبيطروش بن غليام، وأندراش فرتوم، وميقاييل أرتند. وفي آخره مذكور هكذا: صحة النسخة (إلخ) وذلك في العشر الأوسط من شهر فبرير سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف للصفر.
شلبطور بن عبد الملك بن العريب، ويحيى بن وليد بن قاسم».
وغيره:
واشترى القس ديمنقه بن الريم من دونة بنت الوزير القاضي عبد الرحمن ابن يحيى بن حارث، جميع الكرمين المعلومة لها بحومة منزل مشقة من مدينة طليطلة حرسها الله، وحد أحدها في الشرق كرم لورثة لب اشنابنس، وفي الغرب نهر تاجه وفي القبلة كرم لمرتين قالبه وفي الجوف جبل كرم لمرتين قالبه، وقطعة كرم لصق نهر تاجه (إلى أن يقول): حضر لهذا البيع دون يوليان بن البائعة. وقال أن لا اعتراض عنده فيه وسلمه.
والشهود بيطرو بن مرتين بن بهلول، وبهلول بن غالب، ويوانش بن تمام وعمر بن أبي الفرج. وفي الآخر هكذا: كان ذلك بحضري وأنايوانش بن عطاف بن لنبضار».
وغيره: «اشترى الأرجبرشت
72
الأجل دمنه نقلاوش أدام الله عزه، من ديمنقه بنت شلبطور
73
أبقاها الله، جميع النصف من المسجد الذي بحومة شنته مرية بحضرة طليطلة حرسها الله، حد هذا النصف المذكور في الشرق النصف الثاني الذي هو لأختها شول، وفي الغرب حجرة لمريم المسلمة التي كانت زوجا للأبدي الجزار. وفي القبلة الدار التي كانت لابرسيوه، وفي الجوف الطريق وإليه يشرع الباب، بثمن مبلغه ثمانية عشر مثقالا من الذهب الطيب الوزن، في العشر الآخر من شهر مايو سنة خمسة ومائتين وألف.
والشهود: عبد الرحمن بن عبد الملك، وديمنقة بيطروس الباسي، وعبد الله بن عمر بن يوانش بن سليمان، وعامر بن يحيى بن بلاي».
وغيره: «أشهدت دونة شولي بنت عمر بن هشام، وبنتاها يوشتا وسنى بنتي مقيال ابن سليمان على أنفسهن شهدا آخر هذا الكتاب أنهن بعن من الوزير الأجل دون اشتافن بليانس، أكرمه الله الربع الواحد على الإشاعة من جميع السد المعروف بسد الفته الذي في نهر تاجه تحت حصن قلانية إلخ».
وغيره:
اشترى يوان مستعرب
74
لدون ملندة الدليل، وبمال دون ملنده المذكور من دونه ستميوري، التي كانت زوجا لدون ديمنقه البرنيتي، رحمه الله جميع الحوانيت والغريفة المتصلة بها، (إلى أن يقول) واعترف المتبايعان المذكوران أن البايعة المذكورة قبضت عن الستة عشر مثقالا المذكورة أعلاه من المبتاع المذكور القلايب المعروفة لملندة الدليل بقرية قنالش، والنبر الذي كان لها بها، والحمار والعجلة، هذه الأسباب المذكورة عن سبعة مثاقيل ونصف إلخ.»
وغيره: «اشترى الوزير المشرف دون ديمنقه بن سليمان بن غصن بن شربند، أكرمه الله من سبريان بن بسنت، ومن زوجه لوقادية بنت يحيى البياسي، جميع الدار المعلومة لهما بحومة كنيسة شنت يوانش، بثمن عدده ومبلغه سبعون مثقالا من الذهب الفنشي الطليطلي الضرب الطيب الوازن إلخ.»
وغيره: «اشترت الأبطيشة
75
الجليلة دونه مطرى أكرمها الله، التي بدير شنت قلمنت عمرها الله من القس دون ديمنقه إلخ»
وغيره: «اشترى أبو زكري يحيى بن علي المالقي، من دونه لوقادية بنت بيطروسلبيس ومن ابنها رودريقه بن بشكوال جميع الكرم المعلومة لها بحومة كنيسة شنته قلمبه عمل مدينة طليطلة حرسها الله إلخ.
والشهود فرنانده يوانش وعبد الله بن عبد العزيز بن خطاب، وبسنت بن عبد العزيز بن سعد، وباطره بن عمر بن غالب بن القلاس».
وغيره: «اشترى دون يوان البلجاني أكرمه الله من بيطرو بن يوليان بطيط جميع الجنينة
76
التي له بحومة باب المخاضة، على نهر تاجه (إلى أن يقول) ودخل في هذا المبيع الموصوف جميع ما كان للبايع المذكور في السانية الكبيرة المشهورة إلخ.»
وغيره: «اشترى افراير
77
دون فرناندوه الذي من فرايرين قلعة رباح، للرواهب الذين بدير شنت قلمنت بمدينة طليطلة، أنماها الله من ميقاييل إلى آخره».
وغيره: «اشترى دون يليان القس الميردوم، متاع شنت ديمنقة، إلى دير شنت قلمنت الذي هو بمدينة طليطلة حماها الله، ومن مال الدير المذكور إلخ».
وغيره: «اشترى الفرايلي دون فرناندوه يوانش، متاع قلعة رباح إلى الأبطشة دونة مطرى متاع شنت قلمنت إلخ».
ومن هذه الصكوك ما فيه: «اشترى الوزير الأجل المشرف الأفضل الأكمل أبو عمر شوشان،
78
أدام الله عزه، من دون مرتين
79
دي القونط، ومن زوجه دونة قلمبة بنت فرنند وأباط
80
الشطر الواحد على الإشاعة، من جميع الأندر الذي شطره الثاني للمبتاع المذكور، وقد بين فيه قرال، وهو بقرية أوليش الكبرى من عمل مدينة طليطلة حرسها الله، ولشهرته استغنى عن تحديده، بثمن مبلغه ستة مثاقيل من الذهب الفونشي الضرب، وذلك في شهر ديسمبر سنة ست وثلاثين ومائتين للصفر.
وتحته مكتوب: غالب بن غلمون. ومرتين بن يحيى بن عبد العزيز. وديمنقه ابن بيطروه القنتري. تكيف الأشهاد فيه بين يدي وأنا شلمون بن علي بن وعيد».
ثم هذا الصك الذي يتضمن بيع عقار موقوف، وبيان السبب الذي اضطر إلى هذا البيع فهو يقول: «باعت الأبطيشة
81
الجليلة دونه شنجه التي على دير شنت باترو بالحزام
82
أكرمها الله مع كونباتها
83
الكائن أسمائهم في هذا الكتاب، من دون مرتين ابن باطروه د قشطرة،
84
جميع الميشون الذي علم في أصله الدير المذكور بربض الأفرنج التي على مقربة العشابين وبداخل مدينة طليطلة، حرسها الله، وهو الميشون الذي حده في الشرق طريق سالك للحصارين، وفي الغرب ميشون لدون بطال السبطير،
85
ولدونة يوشتة
86
زوج غليلم
87
دبياسة، ولباطروه غليلم، ولبني دون جوان دلبدقدوه،
88
وفي القبلة المحجة السالك، وبابها شارع إليها، وفي الجوف ميشون لدون باطروه جسولين،
89
وحوانيت السلطان، بثمن مبلغه وعدده أربعون مثقالا ذهبا من الذهب الفونشي، وصار عندهم وفي ملكهم لينفقوه على أنفسهم، وعلى جميع من هو في الدير المذكور، مما يجب له النفقة منه في الدير، لا غنى لهم عنه في المأكل في هذه الأعوام المحيلة، إذ لجتهم الحاجة والفاقة لئلا يموتون جوعا، إذ قد أحفلوا على ذلك في الدير المذكور، وخارج الدير، قد شاوروا فيه الأعيان القنونقين
90
بالقاعدة
91
شنتة مرية أم النور، در لنا الله شفاعتها، فكلهم قد حطوه عليه، وأجمعوا الرأي فيه، إذ الضغطة والحاجة والفاقة، قد صحت أنها حاطت بهم، ولذلك باعوا المبيع الموصوف، وجاز لهم بيعه، وصح للمبتاع ابتياعه عن ذلك أبدا، وللمتباع المذكور براءة تامة، فبرئ في العشر الأول من شهر فبرير سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف لتاريخ الصفر.
واعترف المتباع المذكور دون مرتين أن هذا الشري على حسبه ونسبته هو بينه وبين زوجه دونه يوشتة، على المناصفة، وعلى الجميع يقع الإشهاد.
مقيال بن علي بن عمر. ويواتش بن مقيال بن عبد العزيز الشناري.
Ego Abbatissa Sancia. Monasterii Sancti Petri Consedo. Ego Fernandus Iohnnes Subdiaconus Sancti Nicolai Testis. Ego Dominica Priora Confirmo. Ego Lazarus Presbiter Sancti Sevasliani Eeclesie Testis. Ego Liocadia Confirmo. Ego Anastasia Confirmo. Ego Eugenia Confirmo. etc..
فمن هذا الصك وأمثاله يعرف أنه في طليلطة لم يكن الجميع يكتبون بالعربية وكان لا يزال قسم كبير من الأسبانيول يضعون إمضاءاتهم بالأسبانية ولكن العربية كانت هي السائدة.
ولنأخذ من بعض الصكوك بعض الجمل التي تدل على حالة طليطلة الاجتماعية في ذلك العصر، لكون استقصاء هذه الوثائق بأجمعها غير ضروري ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد.
فمن ذلك صك شراء للدون البيروه البرس
92
وزوجته الدونة مرية الجنان
93
الذي علم لوالده دون مقيال بن الوزير سيد، بحومة السوميل، من عمل مدينة طليطلة (إلخ) وفي آخر هذا الصك يقول هكذا: وليعلم أن الجنان المذكور هو الآن مبور، ومقطوعة ثماره، كان قطعوها المسلمون دمرهم الله. وذكر ذلك ليعلم بعد أن ألزمت نفسها ومالها دونة ديمنقه المذكورة دفع ابنها الفونش المذكور متى قام أو قام أحد عنه وأراد طلب المبتاعين شيء منه يدفعه عنهما بمالهما.
وإليك هذا الصك يستدل منه القارئ على أحوال طليطلة في ذلك العصر فهو يقول: «اشترى القيشقول
94
دون جردان من دونه دونة بنت عبد الله بن يحيى جميع الدار التي لها بحومة القاعدة شنته مريه، داخل الدرب المشهور بدرب الارسبرست
95
دون نيقولاش، وبداخل مدينة طليطة حرسها الله، منتهى حدودها في الشرق اسطبل كان مسجدا في القديم، هو للارسبرست
96
دون بيطرو من طلبيره
97
ودار لورثة شقره
98 ، وفي الغرب دار كانت لورثة الإيطي،
99
هي الآن للمتباع المذكور، وفي القبلة دار لورثة البرنيطي،
100
وفي الجوف الدرب المذكور، والباب إليه شارع، وبعض دويرة المسلم على ولد القلبق
101
إلخ، والشهود: قرستوبل بن يليان، ولورنس بن ديمنقه بن عمران. وبيطروه بن مرتين مستعرب.
وقد رأينا هذه اللفظة «مستعرب» مرارا في هذه الصكوك، واستدللنا بها على أن نصارى طليطلة كانوا قسمين قسم يقال لهم المستعربون، وهم الذين كانوا يتكلمون ويكتبون ويقيمون صلواتهم باللغة العربية، وقسم آخر كانوا يتكلمون ويكتبون بالأسبانيولية ويقيمون صلواتهم باللاتينية، وهذا هو السبب في أنهم عند كتابة الصكوك يميزون الأسبانيولي الذي لغته العربية بقولهم «مستعرب» وكذلك يذكرون عند وضع الشهادات لفظة «بالعربي» ولفظة «بالعجمي» لأن من الشهود من كان يكتب إمضاءه بالعربي ومنهم من لم يعرف وضع إمضائه بالعربي فيشيرون إلى أنه وضع بالعجمي.
ومما تعرف منه اصطلاحاتهم مثل هذا الصك:
اشترى دون غونصالبه المكرج بالقاعدة شنته مريه كرياطور المطران الأجل دون غونصالبه قدس الله روحه. فلفظة «كرياطور» هي ترجمة
Criado
بالأسبانيولية وهي لفظة معناها أشبه بمعنى شماس المعروف في الشرق، وهو الذي يخدم المطران. وفي هذا الصك ذكر رجل يقال له الدون مرتين العدوي البناء. فأنت ترى في كل مكان اختلاط الأسماء العربية بالأسماء الأسبانية.
وانظر إلى صك آخر:
باع كونبانت
102
القاعدة المعظمة شنته مريه أم النور. دركنا الله شفاعتها وأكرمهم. من دونة ديمنقه بنت أبي الربيع سليمان بن عثمان، التي كانت زوجا لدون لب بن يحيى، جميع الدار إلخ.
وفي هذا الصك ذكر دار كانت للشقرشتان
103
ولأخته دونه اغطه.
وإليك هذا الصك:
اشترى رومان بن
104
باطرو زورير حفيد السماد، لنفسه ولزوجه دونه أوره بونه، ومن مالها جميعا، على اعترافه، من دونه ديمنقه بن عبد الرحمن بن جابر (إلخ) بحومة بال ذي قبش
105
عمل طليطلة (إلخ).
ويظهر أنه كان لليهود في طليطلة شأن عظيم، لأن الأسماء الإسرائيلية تدور كثيرا في هذه الصكوك، وفيها أسماء رجال لهم مقام اجتماعي نبيه، مثل ما ورد في بعض الصكوك قوله:
اشترى الوزير أبو هارون موسى بن الشحات الإسرائيلي أعزه الله من دونه غاليانه (إلخ).
وأما أهمية رجال الكنيسة فلا تخفى في كل حرف من حروف هذه الكتابات ومنها يظهر أن أكثر الأملاك كانت لهم، لأن أكثر البيع والشراء هو منهم وإليهم وإذا ورد ذكر أحدهم فبغاية التعظيم والإجلال، مثل قوله في كثير من الصكوك: «اشترى المطران
106
الأجل المقدس الأفضل دمنه مرتين لبوس
107
الذي لكرسي قاعدة طليطلة وبرماط أشبانية. إلخ».
108
ولم تكن أسماء رجال الكنيسة كلها لاتينية بل من القسيسين من كانت أسماؤهم عربية ففي بعض الصكوك: «اشترى القس دون لب بن تمام بن بحيط الذي من أئمة كنيسة شنت زوال
109
من دونة توطه بنت دون لب دفترال
110
جميع الدويرة التي صارت لها بالعطية من الدياقن دون مقابال دالبه
111
رحمه الله بحومة كنيسة شنت يناس
112
وبداخل مدينة طليطلة إلخ. وفي بعض الصكوك مذكور القس الدون عبد العزيز من أئمة كنيسة شنتة لوفادية. إلخ».
ومن الصكوك التي تستجلب النظر ما يلي: «اشترى دون ديمنقة بشكوال، تربية المطران الأجل، والقديس الأفضل، الحسيب الأكمل، دون ردريقه شمانس
113
وصل الله بركته ومن مال المطران المذكور، وله ويده فيه عارية. إلخ».
ومثله: «اشترى القونوق دون دوان دي ستفيله،
114
أعزه الله، لمولانا المطران القديس الأفضل، البرماط الأعدل، دون رودريقه شمانس، أدام الله نصره، ومن مال المطران، ويده فيه عارية بقوله، ومن دونة مريه بنت حسين بن فرون، رحمه الله وأعزها، جميع الملك المشهور لأبيها المذكور، والحق لها بالإرث عنه، وهو بحايز قرى ششلة
115
مدينة طليطلة، حرسها الله، والمبيع الموصوف هو تحت كدية قرية المونسير،
116
ويقسم التخم مع القرية المونسير المذكورة، ومع قرية بيلة انتقوه (إلى أن يقول) دخل في هذا المبيع كل الذي صح وصار لوالد البايعة المذكورة بالعطية عن الإمبراطور الشريف
117
مع ابنه السلطان المعظم دون شانجه، رحمهما الله، بالصك الكريم التي استظهرت البائعة المذكورة ودفعته للمبتاع المذكور. ا.ه.»
ومثله: «اشترى دون ربرت
118
الافرنجي، الذي هو الآن من ربض الافرنج، لنفسه ولزوجه دونه رواش
119
سوية بينهما، من دونه ديمنقه، ومن أختها دونه مرتينه، بنتي دون غليلن، جميع الدار التي لها بحومة حمام يعيش، من حومة البير المر، داخل مدينة طليطلة. إلخ».
والشهود: بيطروه بن اشتافن الربالي، وديمنقه اندراش، ودون رجلد الأفرنجي ودون غليلم طبلد، من ربض الافرنج، وبيطروه نقولا البنا، وكتب عن كل واحد منهم اسمه عنه بأمرهم وحضرتهم وقيليز بين يحيى بن عبد الله.
وهذا تأييد لكون الافرنج لم يزالوا بعد رجوع طليطلة إلى الأسبان كأنهم غرباء فيها. وفي صك من الصكوك يذكر مشتريين ثم يقول: بعد أن فسر عليهما معانيه بلفظ أعجمي فهماه واعترفا بفهمه، في العشر الآخر من شهر أوغوشت سنة ست وخمسين ومائتين وألف للصفر.
ومما يستجلب النظر صك فيه: «باع دون جوان رويس
120
بن دون رودريقه رويس، أخ الأسقوف
121
المعظم دون غرسيه رويس، الذي على سقافة كرسي كونكة، أدام الله كرامته إلخ».
ومما يستجلب النظر صك فيه:
اشترى المطران الأجل دون رودريقه شيمانس بريماط أشبانية أطال الله مدة وأدام بقاءه، من دون فرنندوه لبوس بن دون لب فرنندس رحمه الله وأكرمه إلخ.
ومثله: «اشترى القبلته
122
المكرم من شنانير
123
القاعدة العظمى، شنته مريه، دركنا الله شفاعتها. إلخ».
ومما يستجلب النظر هذا الصك:
اشترى أبو حسن علي البشيري المسلم وزوجه عائشة بن الدودري من الغيران وفقهم الله، على المناصفة بينهما، من دونه أو رابونه، تربيه القائد الأجل دون اشتابن إلخ والتاريخ العشر الآخر من ينير سنة أربع وثمانين ومائتين وألف للصفر. ومن هذا التاريخ أيضا يعلم أنه كان يوجد جماعة من المسلمين بطليطلة في ذلك العصر.
وهذا الصك: «اشترى دون بيطرو رويس فارس، من أتانس
124
قائد الغرديه،
125
لمولانا الأليته
126
دون شانجه بن مولانا الأمير المعظم المرحوم فرننده عفا الله عنه إلخ».
وكان النصارى والمسلمون يبيعون الأسرى بالوثائق، كما يظهر لك من الصك الآتي: باع مرتين غرسيه دي أبره،
127
من أبو عمر بن الشيخ أبو سليمان بن أبي عمر بن نحميش الإسرائيلي، أسير واحد إسمه محمد بن إبراهيم القصلوني من غرناطة، بيعا تاما ناجزا، بثمن مبلغه وعدده مائة وخمسة وأربعون مثقالا (إلى أن يقول) نقلا عن كتاب عجمي بشأن الأسير، إن هذا الأسير محمد أخرجه جوان ديمنقوس بالمناداة
128
بقرطبة، وتاريخه ألف وثلاثمائة وعشرة من تاريخ الصفر. ا.ه.
وفي صك آخر:
باع غنصالبه قاضي الحضرة أيده الله، وقاضي بمدينة قرطبة، وساكن بها، من غنصالبه بن الفونش بن الفونش بيطروس بن سربتوش أكرمه الله أسيرا واحدا، علي الأسمر البنا بن سعيد مملوك كان لقنصالبه رودريقه لمدينة قرطبة المذكورة بيعا تاما صحيحا بثمن عدده أربعمائة مثقال كل مثقال خمسة عشر فرد من البيض الجارية، الآن وهذا الأسير باعه البايع للمبتاع المذكور كما ذكر على يدي دلال الأسارى أبي عمر بن إسرائيل الإسرائيلي الذي هو دلال الأسارى بطليطلة في حادي وعشرين نوفمبر عام أربعة وعشرين وثلاثمائة وألف للصفر.
ومما يستوجب النظر الصك الآتي:
اشترت دونه مركاشه لابنها المدرج
129
شانجه مرتينوس، كاتب مولانا الملك المعظم، دون شانجه أطال الله بقاءهم، وخلد ملكهم، بمال ابنها المذكور، الذي صار له بالعطية من مولانا الملك المذكور إلخ.
وفي صك آخر يقول:
كاتب مولانا الملك المعظم الأعلى دون شانجه أطال الله بقاهم، وخلد ملكهم وأيدهم ونصرهم، ومن ماله المختص به الذي صار له من مولانا الملك المذكور إلخ.
وهذا الصك:
اشترى مرتين شانجس قبدله
130
القاعدة شنته مريه لنفسه ولزوجه مانقة بنت مرتين غونس، سوية بينهما، من قاسم البنا بن محمد مملوك مولانا الملك المعظم دون شانجه، أطال الله بقاهم، ومن زوجته فطومة الماشطة، جميع الدار التي لهما بحومة بيرالمر الملاصقة بالفرن بها إلخ.
وهذا الصك الذي فيه:
اشترى دون جوان بيطروس بن دون بيطروه يليان بن الوزير القاضي دون يليان أكرمه الله لنفسه ومن ماله، من مريه بنت جوان النجار، جميع الدار مع خمسة حوانت، بحومة كنيسة شنت يوشت، وقريب الكدية. بمدينة طليطلة حرسها الله ويلاصق ذلك كله من جوانبه وجهاته قاعة قرال، هي لجماعة مسلمين طليطلة، حيث تذبح الكباش، ودار لجوان مرتين العدار، ودار لقنونقين شنته لوقادية لصق قصر مولانا الملك إلخ، والتاريخ سابع نوفمبر عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف للصفر. ا.ه.
قلنا ثبت من هنا أنه كان في ذلك التاريخ جماعة من المسلمين في طليطلة وهذا بعد سقوط طليطلة في أيدي الأسبان بمائتين وخمسين سنة. وكانوا إلى ذلك الوقت يمارسون شعائر دينهم ويذبحون الكباش في عيد الأضحى.
وهذا الصك:
قاطع القوننق الأجل دون غشطين، الذي من قونونقين القاعدة العظمى شنته مريه أم النور، دركنا الله شفاعتها، أسيرته ومملوكته المتنصرة سيسليه المسماة به المعمودية، على حرية نفسها منه، بأربعون مثقالا فونشيا صروفا، لتخدم سيسليه المذكورة بداخل مدينة طليطلة، حرسها الله وبأحوازها، دون رقيب عليها ولا تقاف وتأخذ لنفسها جميع ما يعود الله عليها من فايد وعايد، قل به أم كثر، وتؤدي له الفدية المذكورة، كما يذكر بعد هذا، في كل شهر، شهر بعد آخر، إلى أن تتم الفدية المذكورة وإذ ذلك تكون سيسليه المذكورة حرة كسائر حرائر النصرانيات أهل ملتها، وما ينقص لها من شهر تكمله في شهر ثان وثالث. وإن لم تكمل لها في الشهر الثالث، كما ذكر، حاشى مرض بين يمنعها عن الفدية، أو هربت وخالطت قوم سوا، أو وجدت في سرقة أو خيانة، فتخسر ما يكون منها مدفوعا، وتعود للأسر كما كانت إلخ. وتاريخ هذا الكتاب ديسمبر سنة تسع وسبعين ومائتين وألف. ا.ه. ملخصا.
ويوجد صكوك أخرى في موضوع شراء المسلمين لحريتهم
131
من ذلك ما يلي:
قاطعت الأبطيشة الجليلة دونة أو رابونة التي على راهبات دير شنت قلمنت والبريورة
132
به، دونه لوقاديه ودونه أمونيه، دام عزهن، لأسيريهن ومملوكيهن عزوز، ويعرف برودريقه بن معمر العربي، وأحمد اللوقي، على حريتهما منهن بخدمتهما جميع الغرس المعلوم للدير المذكور بحومة برالس، في حيز قرية أوليش، على أن يخدما الأرض المذكورة مدة خمسة أعوام متوالية، من تاريخ هذا الكتاب، في كل عام منها بالكشف والحفر والثني والتثليث، ويطبعا المواضع بقضبان الزرجون،
133
وعليها القيام بالزبار
134
طول المدة. وإذا قام المقاطعين المذكورين بالخدمة والعمارة حسبما وصف يصيران أحرارا كسائر أحرار المسلمين أهل ملتهما، في مالهم وعليهم، وإن تهربا أو أحدهما في طي المدة المذكورة، أو عجزا عن إكمال القطيع الموصوف يخسرا ما يتقدم لهما، ويردهما راهبات الدير للأسر كما كانا أولا. وتاريخ هذا الصك عشر نوفمبر عام خمسة وثمانين ومائتين وألف للصفر. ا.ه.
ومثله صك آخر للأبطيشه المذكورة بحق أسرى مسلمين هم: محمد المناري ولد القنان، وأحمد الذي كان لدون ميقائيل دي رنالش، وعمر بزارة، يعرف بابن أحمد ابن جامع الصنهاجي، وعلى الرمنقارة الغماري على حرية أنفسهم، وذلك بالخدمة مدة ثمانية أعوام متوالية في جميع الكرم المعلوم بحومة قرية أوليش، (إلى أن يقول) وإن هربوا أجمع أو أحدهم، أو خالطوا قوم سوا، أو وجدوا في سرقة، يخسروا ما يكون لهم ويرجعون للأسر إلخ، وتاريخه ست وثمانون ومائتان وألف.
ومثل ذلك هذا الصك:
قاطعت الجليلة دونة قلنبة ابنة الوزير الأجل دون غطار فرنندس أدام الله عزتها مع يعيش الخياط بن أحمد الغرناطي، على حرية أسيرتها أم الهدى الجلياقية، بمائتين مثقال فنشية وثمانية مثاقيل ونصف، صرف خمسة عشر دينارا كل مثقال، ليبتني يعيش المذكور بأم الهدى المذكورة، ويتخذها زوجته، ويخدمان بطليطلة في الذي يليق بهما دون رقيب عليهما ولا ثقاف، ويأخذان لأنفسهما فائدهما وعائدهما قل أم كثر، ويؤديان الفدية المذكورة، وذلك مثقالين اثنين كل شهر، (إلى أن يقول) وإن لم يتكمل لها ذلك بتمام الشهر الثالث، حاشا مرض بين يمنعهما عن الخدمة، أو هربا جميعا أو خالطا قوما سوا ، أو باتا بخارج طليطلة بغير أمرها، أو شرب يعيش المذكور خمرا،
135
يخسران ما يتقدم لهما مدفوعا، وترجع أم الهدى للأسر كما كانت أولا، ويؤدي يعيش الفدية على التنجيم، وإن عجز عن التأدية فقد فوض للجليلة دونه قلنبة التقبض على جسمه، ولا تسرحه إلا إذا أنصفها، وعليه أن يهدي لها في كل عيد من ثلاثة أعيادها هدية، دون عذر ولا تأخير، وأن يخيط لها
136
بدون أجرة لنفسها خاصة دون غيرها. وتاريخ هذا الصك ديسمبر عام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف.
ثم ضمن يعيش المذكور على بن علي الفبري بخسمة مثاقيل، وإبراهيم بن يحيى خمسة مثاقيل، وزينب ابنة الحاج خمسة مثاقيل، وقاسم بن أحمد الحضرمي الأشبيلي خمسة مثاقيل، ولب بن نصر القزاز خمسة مثاقيل، وابنة سليمان التي كانت لابن يعيش خمسة مثاقيل، وميمونة ابنة يحيى اللمطي خمسة مثاقيل، وابنة عبد الحق الأنصاري من مجريط
137
خمسة مثاقيل، وفاطمة ابنة أحمد الأنصاري من وبذة
138
خمسة مثاقيل وابن مفرج من مرشانة
139
مقاطع
140
أبي يوسف يعقوب البرجلوني أربعة مثاقيل ومحمد بن أحمد بن غرغل الخياط مقاطع إسحق الشنتريني خمسة مثاقيل ومحمد عبد الرحمن الصفار مقاطع ربي بن قفاجة ثلاثة مثاقيل، ويوسف ابن حسن الغماري القزاز مقاطع روبس بن دون روي ثلاثة مثاقيل، وعلي بن يوسف البهلي ثلاثة مثاقيل، وفاطمة ابنة محمد مقاطعة أمثليجة الحكيم أربعة مثاقيل، وإبراهيم ابن مالك الفران مقاطع ربي قسيم السوفر خمسة مثاقيل، وإبراهيم بن عمر الأشبيلي مقاطع أبي إسحق بن الصباغ مثقالين، وحسين الصباغ ين علي الإشبيلي مقاطع أبي الربيع بن صدوق مثقالين. فضمن المذكورون ما ذكر عنهم في يعيش المذكور لسيدته المذكورة، وذلك على شرط أنه إن يهرب يعيش في طي القطيع فوقه
141
ولم يحضروه لها فعليهم غرم ما ضمنوه فيه لها.
وهناك صك مقاطعة لراهبة بدير شنت قلمنت لمملوكتها فطيمة بنت عمر على النحو المتقدم:
ومما يستجلب النظر، ويطلع به القارئ على اصطلاحات النصارى في ما يكتبونه بالعربية في ذلك الوقت هذا الصك:
كتاب معاوضة صحيحة تكيفت باسم الله تعالى وحسن عونه بين الكمندتور
142
دون جيل الذي هو الآن كمندتور دار شنت ياقب
143
للأصبيطال،
144
وعلى حبوسات الرتبة الأفرايرية
145
بها وبين الأبطيشة الجليلة دون سيسيلية التي على دير شنت قلمنت أنماهم الله إلخ.
ولما كان اليهود في كل مكان وكل زمان يتعاملون بالدين، ففي هذه المجموعة صور مئات من السندات المالية أكثرها لهم نذكر منها بعض أمثلة: للأمين أبي الحسن زيزه بن ربي بن أبي يوسف أعزه الله، قبل دون بطرو البرقنطي، وقبل زوجه لبه وفي مالهما وذمتهما، وعلى جميع أملاكهما وأحوالهما كلها حيث كانت وعلمت لهما دينا لازما وحقا واجبا، سبعة مثاقيل ونصف ذهبا فنشيا إلخ.
ومثال آخر: لأبي سرور فرج بن أبي عمران مرال الإسرائيلي، قبل دون غرسيه غليالم شبرين القننق
146
دون غرسيه الذي كان من قاعدة شنته مريه وهو بعل مريه لنبرت
147
من ربض الأفرنج دينا لازما اثنى عشر مثقالا وثمان فونشية لإنصافه من ذلك شهرين اثنين تاريخ هذا الكتاب، وداخل ضامن غارم عنه في ذلك الدون ديمنقه انطلين البلطير بن دون انطلين، من ربض الافرنج، وإن كانت قلمية في ذلك فيكون عليهما على مالهما، في تاسع يوم من شهر مارس سنة تسع وخمسين ومائتين للصفر. ا.ه. وتحته الشهود.
ومثال آخر: لأبي عمر بن الشيخ أبي سليمان بن أبي عمر بن نحميش الإسرائيلي قبل الوزير دون بيطروه يوانش، وقبل زوجه الجليلة دونة طريشه
148
بنت الوزير القاضي دون جوان بونش أعزهما الله، واجب خمسون مثقالا فونشيا لينصفاه دينه يوم فصح شنت ميقائيل الآتي لتاريخه، وإن عجزوا عن انصافه إذ ذلك يغرما له قوط رباعي كل يوم يجوز بعد الأمد المذكور، وإن طلبا منه يميز يغرما له قوط خمسة مثاقيل، وبظهور هذا الكتاب وبعد فسره عليهما في رابع وعشرين ابريل عام ستة ثمانين ومائتين وألف للصفر. ا.ه. ثم الشهود.
وفي هذه المجموعة صكوك من أنواع متعددة، منها وصايا، ومنها رهون ومنها مصالحات، ومنها صكوك شركات، ومنها مزارعات، وما أشبه ذلك . لنذكر منها صك مزارعة على سبيل المثال، وهو هذا :
أنزل القس ماير ديمنقه المستعربي من كنيسة شنت مارتين ليوان فرنندس في الأرض المعلومة له بحومة جبل حمارة، عمل طليطلة حرسها الله، حدها في الشرق غرس بيطرو مرتينس، وفي الغرب أرض بيضا، وفي القبلة رأس جبل حمارة المذكور، وفي الجوف غرس غنصالبه الجزار، في أرض القس المذكور بالمناصفة، وذلك بشرط يأتي ذكره بعد هذا، ليغترسها يوان المذكور بقضيب الزرجون، ويعتمر بالزبر والحفر والثنا في كل عام، مدة خمسة أعوام، أولها تاريخ هذا الكتاب ... الأعوام المذكور ينقسم الغرس على ثلاثة أثلاث، يأخذ صاحب الأرض الثلث الواحد يأخذه الخيار في أحد الجانبين، والمغترس الثلثين متصلين عن اغتراسه واعتماره في أول شهر مارس من سبعة وتسعين ومائة وألف من تاريخ الصفر. ا.ه.
وهذا الاصطلاح بقولهم «أنزل» فلان لفلان في الأرض الفلانية على شرط كذا وكذا مستفيض في هذه الصكوك.
ومن غريب هذه الصكوك صك ما يتضمن استرهان الأسارى والتعامل بهم كأنهم من جملة الأموال: أشهد دون مرتين فرنندس القرمادي بن دون فرنندو القرمادي وفقهما الله على نفسه شاهدا آخر هذا الكتاب أنه قبض الآن من أبي الحسن بن يامين بن أبي إسحاق البرجلوني الإسرائيلي أعزه الله الثلاثة أسارى الذين استرهنهم لدونه أورابونه زوج فيدلقه عن دينه المترتب له قبلها، وهم الأسارى سليمان الذي كان لدون ميقاييل خريبش، وعبد الله اللوشي الكوسيج،
149
ويوسف الغازي الصغير، الذين قيمتهم خمسون مثقالا فونشيا، صرفا طيبا، وصارت عنده الأسارى المذكورين. وفي ملكه، وعلى شرط وربط أن يصرفهم لأبي الحسن بن يامن المذكور، متى ما يطالبه بهم. ويدوم أخذهم منه على كل حال من الأحوال، وإن عجز عن إحضارهم له عندما يطالبه بهم فليغرم له قيمتهم الخمسين مثقالا. سادس عشر أكتوبر عام ثمانية وسبعين ومائتين وألف للصفر. ثم الشهود. ا.ه.
ومن الصكوك المتعلقة بأسارى المسلمين ما يأتي:
ضمن للأبداشة
150
الجليلة دونه لوقاديه فرنندس التي على راهبات دير شنت قلمنت، أدام الله كرامتها وجه أسيرها أحمد بن يوسف الرحوي الأسمر من يوسف والد المضمون أحمد المذكور ومريم ابنة محمد زوجة يوسف والدة أحمد المضمون ويوسف بن محمد المعروف الشقيق، ضمان وجه وإحضار، على شرط أن يمشي أحمد المضمون المذكور مسرحا من الثقاف من الآن لتمام أربعة أعوام. فإن هرب في طي الأعوام المذكورة ولم يحضروه لسيدته المذكورة على الحلول من هروبه، فعلى الضمان المذكورين غرم مئة مثقال فنشية، صرف كل مثقال منها خمسة عشر دينارا، وعلى المضمون المذكور أن يعطي لسيدته الأبطيشة المذكورة في كل شهر طول الأربعة الأعوام المذكورة مثقالا واحدا، شهرا بعد آخر إلى تمام الأربعة أعوام، دون مطل ولا تسويف بوجه، وفي الشهر الذي يعجز المضمون المذكور عن آداء المشاهرة المذكورة فعلى الضمان المذكورين إحضاره لسيدته المذكورة أو يغرموا لها المشاهرة المذكورة، وإن عجزوا عن غرم المائة مثقال المذكورة أو عن المشاهرة المذكورة، فقد فوضوا له وللمستظهر بهذا الرسم التقبض عليهم وتثقفهم في ثقافتها، ولا تسرحهم منه إلا إذا أنصفوها من الضمان المذكورين من الجائز عليهم من المشاهرة المذكورة، دون أمر حاكم بوجه من الوجوه. في العشر الأوسط من شهر ديسمبر سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف للصفر. والشهود: محمد بن عبد الرحمن بن محمد، وعلي بن يحيى بن محمد الأنصاري.
ومثله صك تضمن به عائشة ابنة أحمد السكوني، زوج داود الأسمر بن سليمان أسير دون غنصالبه الفونش بن دون الفونش بيطروس سرباتس
151
وذلك زوجها المذكور داود، ضمان وجه وإحضار، على شرط أن يمشي الأسير داود ويتصرف في أشغال سيده، حينما يأمره بالحاضرة والبادية، فإن هرب ولم تحضره زوجته فقد فوضت له التقبض عليها، وتثقيفها في ثقافه بدون أمر حاكم. وتاريخ هذا الصك الخامس والعشرون من شهر يونيو من عام خمسة وعشرين وثلاثمائة وألف للصفر، وشهوده أحمد بن محمد بن أحمد الأنصاري ومحمد بن عبد الرحمن بن محمد.
ومثله ضمان نزهة بنت سعيد الأوريولي،
152
ووالدتها عايشة بنت سعيد الحداد من لورقة.
153
وجه زوجها أحمد الحداد بن علي، نحو سيده دون غنصالبه الذي مر ذكره، ضمان وجه وإحضار . وإن هرب المضمون فتغرم نزهة وعايشة خمسمائة مثقال من البيض. وتاريخ هذا الصك حادي عشر يونيو عام خمسة وثلاثين وثلاثمائة وألف، وشهوده: علي بن أحمد بن حسن بن عبد الله الأنصاري وعلي بن قاسم بن علي بن الصيقل الأنصاري.
154
ومثله:
اعترفت شمسي
155
بنت لب الفخار المعروف الغزيل
156
وبنت عائشة المعروفة الروبية اعترافا صادقا أنها تضمنت وجه زوجها شعيب الرحوي بن محمد المعروف بالمطيرش وحفيد غالب السمار نحو المطران الأعز الأكرم دون غتار غومس
157
ضمان وجه وإحضار على النمط الذي تقدم، وتاريخ هذا الصك الخامس والعشرون من شهر ابريل عام ثلاثة وخمسين وثلاثمائة وألف، وشهوده: أحمد بن علي بن محمد، ويوسف ابن قاسم بن يوسف الأنصاري وإبراهيم بن أحمد بن إبراهيم.
وهنا صك وقف يجدر بالنظر:
وقف الدياقن مرتين من كنيسة شنت مرية أم النور بطليطلة حرسها الله، في مجلس القضاء أنماه الله بالدوام، بين يدي الوزير القائد عمران، وفقه الله، عن تقدم الوزير الجليل القاضي الأعلى، أبي الحسن حاتم ابن حاتم، أدام الله توفيقه وتسديده وذكر أن الشنيور يوان رودميروس في أيام حكمه الحضرة المذكورة، أمر لشانجة قرلون بدار بحومة القاعدة المذكورة، وحازها وسكن فيها، إلى مدة وفاته، في خدمة السلطان واستظهر بعقد بذلك، فأعذر إلى الدياقن المذكور ليستظهر بكتاب من الشنيور المذكور، إذ لا مقنع في العقد، فرغب إلى الوزيرين الجليلين القاضي الأعلى أبي الحسن حاتم، وصاحب المدينة زيد بن حارث.
158
أعزهما الله، ليتفضلا عليه بخطاب منهما ومن القونشلي
159
أبقاهم الله، إلى الشنيور المذكور. فأدنى له بذلك، ثم بعد ذلك أحضر الدياقن عند من وقفه الله مرتين
160
الناظر، وبيطره ناغروه
161
وبرمنده بلاييس وبيطره بلاييس،
162
وخلف بن رزق، وبعد الله بن ماضي وشهدوا عنده في مجلس نظره، وبمحضر من الحاكم مرتين غرسيس، أنهم أشهدهم الشنيور يوان رودميروس وبأيديهم خطاب لطيني
163
إلى الوزير الجليل القاضي الأعلى أبي الحسن حاتم، والوزير الجليل صاحب المدينة أبي زيد بن حارث، أعزهما الله في الدارين، اللتين قلت لي أنا أعطيت الواحدة لشانجة، والأخرى لميقاييل، فثبت عندهما، وفقهما الله، ذلك وأمضياه، وأنزلا الدياقن المذكور في الدار. وتاريخ هذا الصك شهر مايو سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف لتاريخ الصفر. ومنه يعلم أنه في ذلك التاريخ أي بعد أخذ الأسبانيول لطليطلة بنحو من مائة وسبعين سنة كان يوجد فيها قضاة من العرب أو المستعربين، وكان صاحب المدينة أيضا منهم.
ومن الصكوك التي استرعت نظرنا حكم يتعلق بصدقات الإمبراطور الأذفونش السادس جاء فيه:
فلما وقف الوزير القاضي المذكور مع من ينزل اسمه أسفل هذا، من أهل الشورى مع اسمه أدام الله عز جميعهم، على جميع ما تقدم ذكرهم، من احتجاجها وعلم ما استظهر به كل واحد منهما، من فوائد وأصول ما بيده ظهر لهم دام عزمهم أن الإمبراطور قدس الله روحه تصدق بما كان له في القرية المذكورة على الدير المذكور (إلى أن يقول) ولما يعلم علما صحيحا أن أغلب قرى مدينة طليطلة حرسها الله لم تصر لأربابها المالكين الآن لها إلا بعطية ... أو بعطية من تقدمه من سلفه الشريف الكريم رضي الله عنهم جميعهم دام عزهم، أن يحملوا القرية المذكورة محمل غيرها من القرى المعطاة من عندهم، رضي الله عنهم فأوجبوا حكما منهم من السنة للدير المذكور لتكون له مالا وملكا على مقتضى السك العزيز المؤرخ المذكور، وكل استدعاء استظهر به المتكلم عن ورثة عبد الملك بن هارون رحمه الله وأكرمهم أسقطوها لوجوه كثيرة. ا.ه. وفي الآخر يقول: وفي الأصل الذي انتسخت هذه النسخة منه أسماء الحكام أهل الشورى الذين حضروا الحكم المذكور وأمضوه أعز الله جميعهم. بخط عجمي: اغوغتصالبه
164
أرسبيسبو طولاطانة برماط أسبانية
165
وبخط عجمي: اغوديمنقش ارجيديا قنش مجريط. وبخط عجمي: اغوجرنانش برشتر طولطانش كونفورم.
166
وبخط أعجمي: اغوبطروش ديس القائد كونفورم. وبخط عربي: سلمون بن علي ابن وعيد. وخير بن شلمون بن علي بن وعيد. وخالد بن سليمان بن غض بن شربند وبخط عربي: انافلحتش الأسقف لكورة لبلة
167
خيرها الله، ويوثاب الارجقش ابن منصور حضر ذلك. ويوشتبش القس بن عبد الملك. وباطره بن عمر بن غالب ابن القلاس. اشتابن بن بليانس.
انتهت النسخة وذلك في شهر ابريل عام أربعة وعشرين ومائتين وألف للصفر.
عمر بن عبد الرحمن، ويوسف بن عبد العزيز، ومرتين بن حسن بن عبد العزيز إلخ.
ويوجد جم من الأحكام على هذا النسق ويظهر أن ملكتهم في العربية أخذت تضعف بمرور الأيام فتجد صكوكا وأحكاما كثيرة ملأى من الخطأ واللحن مثلا:
كانت قرية دار الخازن من قرى الحاضرة طليطلة حرسها الله من إمام المسلمين معطلة الناعورة ومشرعها واقفة، فوقع اتفاق أهل القرية المذكورة من المدرجين
168
ليعمروها، وإقامة ما وهي منها، وتجديد ما عهد لها، وكان بها حبسان أرض بيضا للكنيسي شنت لوقادية الخارجة عن الحاضرة المذكورة، وشنت مرتين بها عرض المدرجون واللايقون على الخدام بالكنيستين المذكورتين، عرضهم في إقامة الناعورة وتجديد ما وهي منها، فادعوا عندهم بقلة ذات اليد من أنفسهم، ومن رسوم الكنيستين، فرأى المتقدمون بالذكر إعراض ذلك ثانية على المطران الفاضل دمنه برننده، كفيل البيعة المقدسة أدام الله توفيقه وتسديده لما إليه تفويض الحسبان، والنظر من الديارات، وأنه رأس الإمامة بالقاعدة شنت مرية، أم النور بالحاضرة طليطلة أدام الله حماتها فظهر إليه ومن حضر قعدودته
169
من أئمة النظر في ذلك، وأمر العالي أمره أن يعطي هذين الحبسين لمن يعتمرهما باسم المساقاة إلى مدة إلخ.
وهذا كتاب صلح:
هذا كتاب وقع الاصطلاح عليه، وجرى الاقتصار إليه، ما بين هند بنت جبران وبني أخيها الوزير مابر تمام رحمه الله غرسيه وأولياليه ومريه، على ما يأتي ذكره بعد هذا، وذلك أن يعطي غرسيه لهند عمته المذكورة جميع حصته في جنان أبيه المخلف له ولأخته المذكورين المعروف بعهد المسلمين بجنة الحنشي، بربض طليطلة وبحومة مرج القاضي إلخ.
ومن الوثائق التي اطلعنا عليها عقود أنكحة كالذي يلي:
كتاب إيجاب واختطاب، وعقد نكاح وارتباط، أمر بعقده والإشهاد على نفسه بجميع ما فيه دون ديمنقه بيطريس حين مراهقة
170
الخاتمين، وبدل العربانين
171
بعد تقديسهما بينه وبين دونه لوقادية التي كانت زوجا لدون رودريقه د مرسيه عن بنتهما دونه يوشته البكر التي في حجرها، وتحت ولاية نطقها، لتكون دونه يوشته المذكورة لهذا دون ديمنقه بطريس المذكور زوجا سنية، وصاحبة مرضية، كالذي توجبه الشريعة المنتوليقية، وتحط عليه الديانة الحوارية، وعلى أن هذا دون ديمنه بيطرس المذكور أوجب لخطيبته المذكور عن الأزدواج بها بيمن الله مهرا لها عشر جميع ماله أثاثا وعقارا، حيث كان، وأين علم، وعلى أن ينقدها أيضا عند الابتناء بها هدية موهوبة لها. وذلك خلدي،
172
وفنك،
173
ورداء، وقناع، وخف، وجورب، تفعل في جميعه بحول الله عند ذلك ما وافقها كفعل ذي المال في ماله، وجميع ما يكتسباه الخطيبان المذكوران من وقت ازدواجهما فإنه يكون بينهما سوية بالمناصفة والاعتدال إن شاء الله، والتزم الخطيب المذكور إحضار الهدية المتقدمة الذكر، والإنفاذ بها لخطيبته المذكورة، عند الابتناء بها بيمن الله وتوفيقه، والتزم المتماهران المذكوران أيضا إكمال ذلك كله بحول الله بعد أن قبض كل واحد من الخطيبين خاتم ثابتة عربانا لما وقع الاتفاق عليه، والارتباط إليه، بتأييد الله، مما ذكر فوق هذا، بعد المعرفة منهما بقدر ما ارتبط إليه المتماهرين المذكورين، على سنة النصارى في ازدواجهم الجياز عندهم، بعد أن أعلمت الدونه يوشتة المذكورة بذلك كله، ورضيت به، وأشهدته أيضا به على نفسها، وذلك في اليوم الرابع والعشرين من شهر مارس سنة ثلاثة وعشرين ومائتين وألف للصفر، ووقع الأشهاد اليوم الخامس والعشرين من الشهر المذكور.
ومن الوثائق التي يستدل منها على رسوخ الثقافة العربية في طليطلة صك وصية للقس ماير
174
عبد العزيز بن سهيل يقول فيه:
لما مرض القس ماير عبد العزيز بن سهيل رحمه الله المرض الذي توفي منه أمر بكتب وصيته وإنفاذ متضمنها على أيدي النايه
175
القس وماير قرشتبول من شنت مرتين، ويحيى بن عبد الكريم ونسخة الوصية كذا:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى به القس ماير عبد العزيز بن سهيل، وهو بحال الصحة والجواز والطواعية، مؤمن بالأب والابن والروح القدس إله واحد، وبالشنبلة
176
الذي هو وثيقة الإيمان وبالأناجيل الأربعة، وربما أمر به الحواريون، والآباء المقدسون، فأوصي إن حدث به حدث الموت أن يعطي للوقادية الساكنة معه، والخادمة له، جبل الغرس الذي عند الطريق، بدار الخازن، وثلث الزرع، وسبعة مثاقيل مرابطية عن دويرة كذا (إلى أن يقول): وما يبقى يعطى عن روحه لقسيسين أو ثلاثة من أصحابه عن أربعين مسه، وما بقي يعطى للمساكين، وعن لبان للكنائس، وكرم الفندري يكون باقيا في أيدي الأوصياء وما قام فيه يخرج منه بما يخدم. وما فاض يكون منه خمسين ربعا والغير يكون منه الثلث في زيت ولبان وحطب، والثلث الثاني للأسرى، والثالث للمساكين. وجعل هذه الوصية والعمل بها إلى يحيى قرمانه، والقس دون قرشتوبل، والقس النايه. ليكملوا ذلك حسب ما وصفه. ومن مات منهم يترك من يقوم مقامه عن خدمة الكرم. وكتب في يوم الثلاثة الثامن من شهر ديسمبر من عام ثلاثة وستين ومئة وألف. فأنفذ الأوصياء جميع ما أمر به في هذه الوصية، وما أمر به في الكرم المعلوم له بدار الخازن.وقد يفسر فيها. فلما بقي الكرم بأيدي الأوصياء مدة ثلاثة أعوام، واعتمروه عمارة جيدة، لم يكن فيه فائد للشرائع والأسرى والمساكين، حسب ما كان ظنه الموصي رحمه الله واعتقده فيه، فلما صح عند الوزير القاضي أبي الإصبغ بن لنبطار
177
وفقه الله، قلة فائدته، وأنه على غير ما ظنه الموصي فاعتقده فيه، أخذ في ذلك مع من وجب الأخذ معه فيه، من كبار مدينة طليطلة من المدرجين والمستعربين والقشتيليين، فرأى الوزير القاضي المذكور معهم أحباس الكرم المذكور على قاعدة شنته مرية، بحضرة طليطلة، أدخلنا الله في شفاعتها، لما ظهر إليهم من قلة الفائد العائد إليها، وكثرة مؤنها بعد رغبة جميعهم إلى الأوصياء، والتحامل عليهم في ذلك، فاسعفوا الرغبة، وصح أحباس الكرم المذكور، على القاعدة المذكورة عن شرط على أهل القاعدة، أن يكون اسم القس ماير عبد العزيز بن منصور رحمه الله في جملة أسماء القونقين المتوفين بالقاعدة المذكورة حسب رتبهم وسيرهم إلخ، وتاريخ هذه الوصية مع حكم القاضي شهر يوليوه من سنة سبع وستين ومئة وألف. وبعد ذلك الشهود منهم من هو وضع شهادته بالعربي ومنهم من هو واضع شهادته بالأسباني.
وهذه وصية ثانية:
هذا ما أوصى به وعهد بتنفيذه، حسب ما يأتي الذكر فيه الوزير القاضي دومنقه انطولين، أعزه الله وهو عليل في جسمه وثابت في عقله وذهنه مؤمن بالأب والابن والروح القدس الله واحد، ومعتقد بما بشر به الحواريون، ووصفه الأنبياء المختارون، خشية الموت، وحلول الفوت، الذي لا بد منه، ولا محيص لأحد خلق الله عنه، فأول ما أمر به شفاه الله أن يمتثل بعد عينه إن توفاه الله تعالى، أن يزين على أقباره حين دفنه، ومدة الثلاثة أيام بجميع أئمة البلد من أهل الكنائس بعد أندابهم بمن حف بهم من أساقفة ومدرجين، على حسب رتبهم، وإن كان المطران حاضرا فيندب، وله الأجر والثواب إن يحضر ويزين مع من حضر مدة الثلاثة أيام المذكورة، وبعد الثلاثة أيام فليستمر مدرجين كنيسة شنته لوقاضية، التي داخل المدينة بالتزيين إلى تمام تسعة أيام. وأمر أن يعطى للمطران الأجل أكرمه الله خمسة مثاقيل، وللأسقف دومنه يوانس المرشاني مثقال وللأسقف دومنه فلقيس مثقال فينا إلخ، وبعد أن عدد جميع ما أراد الإيصاء به بالتدقيق من عقار ولباس وطعام ومال صامت وناطق، ذكر بأن يخرج جميع ما ذكر من ثمن غنمه وبقره ودوابه، ورماكة وخنازير، ومن مانتاتي ومن الكاس الصغير الفضة، وأمر أن يعطى ليوان ورماكه وخنازيره،، ومن مانتاتي ومن الكاس الصغيرة، وأمر أن يعطى ليوان مستعرب الكاب، وما يبقى بعد هذا كله يكون لأخته دونه مريه وبنتيها.
وفي وصية أخرى للمسماة دونه لوقادية بنت يوانش، بعد ذكر الديباجة المصطلح عليها في أول الوصايا، وذكر جميع ما أرادت توزيعه على الكنائس والقسوس والصواحبات تقول: وأمرت أن تكون الأميرة عائشة التي لها فيه النصف ترد نصرانية إن هي شاءت وتنصف دون غرشيه عن نصفيته من ثمنها بما اشتريت، والتصفية خمسة مثاقيل من مالها، وتكون حرة من أحرار النصارى فيما لهم وعليهم، تصير حيث تشاء وتهوى، بعد أن تخدم لدون غرسيه عام واحد لا غير.
وقرأت في وصية أخرى من دونه قرشتينة بنت اندراش بعد الإيصاء للكنائس وللقسيسين وللأصحاب ولذوي القرابة ما يلي:
وعهدت الموصية المذكورة في أسيرتها مريم زوج عبد الله القزاز، أن تكون حرة من أحرار المسلمين في ما لهم وعليهم، عن عشرة مثاقيل ذهبا فنشيا، كانت الموصية المذكورة قد قبضتها باعترافها من عبد الله القزاز زوجها المذكور. ولذلك انقطع عن مريم المذكورة حبل الرق، فتملك مريم المذكورة نفسها، تنهض حيث تشاء إلخ.
وفي أكثر هذه الوصايا يذكر شيء من المال لفكاك أسرى النصارى، فقد كانت الحالة عندهم كما عند المسلمين، فأصحاب الخير والإحسان، ولا سيما النساء من المسلمين، كانوا يوصون بجانب من أموالهم لفكاك أسرى المسلمين في بلاد النصارى وكذلك أهل الخير من النصارى، ولا سيما النساء، كانوا يوصون بشطر من أموالهم لفكاك أسرى النصارى في بلاد المسلمين. قرأت في وصية للمسمى دون رودريقة شلبطورس بن دون شلبطور بن الوزير دون يوان ميقاليس ما يلي:
أمر أن يزين عليه في كفنه، وأيام زيارة قبره، ودفنه، في جميع ما احتاج إليه بما يقوم في ذلك ويليق بمثله، ويكون دفنه في قبر والده دون شلبطور المذكور، بالقاعدة شنته مريه، وأمر للقانونقين بها عن دفنه بها، وعن أن يذكروه في صلواتهم، عشرين مثقالا، وأمر عن ميشات
178
عن روحه مفرقة على أئمة كنانيس الحضرة مئة مثقال، وأمر عن فك أسارى النصارى العمال في أسر المسلمين خمسمائة مثقال، وأمر عن قبلانية
179
بالقاعدة شنته مريه ثلاثمائة مثقال، على شرط أن يقدس ميشة كل يوم على روحه، لدى الدهر، في هيكل من هياكل القاعدة المذكورة، ويضع انفشاريوه
180
كل عام عن روحه قانونقين القاعدة المذكورة، كما العوائد وبذلك يصح لهم القبلانية، يعني الثلاثمائة مثقال المذكورة، وأمر لمعلمه ومعرفه القس دون شانجة، من كنيسة شنت يوانس، عشرة مثقالات، على أن يقدس مدى عام ميشات عن روحه. وفي آخر الوصية بعد ذكر الخيرات كلها يقول:
وقيد فيه عن أمره على يدي والدته، دونه سنى المذكورة، ثقة منه بديانتها وحسن أمانتها، أنها تفعل في ذلك كله فعل من يعلم أن الله لا يخفى عليه خافية في سماواته وأرضه، والتاريخ شهر يونوه سنة تسع وأربعين ومائتين للصفر.
وفي وصية للدون ملنده فرنندس ابن الوزير القاضي يقول: فأول ما أمر به أن يعطي لمعلمه القس جوان مثقالا واحدا، ويحل عن روحه الفين ميشه ويخرج أيضا من بلاد الإسلام أسير بالغ ما بلغ بعشرين مثقالا.
وفي وصية للدون غنصالبه خل تاريخها شهر أوكتوبر سنة اثنين وسبعين ومائتين وألف. وأمر متى توفاه الله أن يعلم ما له كله، أصله ومتحركه، أثاثا وعقارا دقه وجلده، جامده ومتخلخله، يخرج منه عن خمسمائة مثقال فونشية، وتبذل عن روحه، إلى أن يقول: ويعطي في استفكاك أسارى من بلاد الإسلام ستين مثقالا إلخ.
وفي وصية للدون بطره شانجه من جماعة شنت رمان، وصهر دون جوان اشتا ابن دي البقال، يقول من جملة وصايا عدة: وأمر لرتبة افرايرين قلعة رباح ماية مثقال فونشية على شرط أن يدفنوه الافريرين منها هنا بطليطلة بشنته فيلج، ويزينوا عليه كما لو كان افرايري منهم، وأمر بأن يفك زوج نصارى أسيرين في بلاد الإسلام بما يقوم في ذلك.
ومن أطول الوصايا التي اطلعنا عليها في هذه المجموعة وصية للمسمى الدون الفونش
181
متاوش بن دون متاوش بن دون ميقال بن فرون، أمر بانه متى توفي يعلم ماله كله، قليله وكثيره، ويبذل عن روحه في سبيل الله، وأن يزين منه عليه في دفنه وكفنه بما يليق لمثله، ويكون كفنه من الصوف أرخص ما يوجد للشراء، ويوقد عليه زوج قناديل، يكو زيتهما ربع واحد فقط، وزوج قناديل أخرى صغار. توقد حيث يكون جثمانه، ودفنه يكون بكنيسة شنتة لوقادية، بقبر جده، ويزين عليه لتمام الخمسين يوما، ولتمام العام، وتكون القناديل لذلك مثل القناديل المذكورة، ويقدس عليه مشيتين في كل يوم من يوم دفنه إلى السابع يوم، ويفرق على المساكين في كل يوم طوال السبعة أيام مثقال وأمر أن يبتاعوا أوصياؤه المذكورين بعد هذا ملكا بمائتين أو ديار بمائة وثمانون مثقالا، وتحبسها زوجه دونه ميوري طول حياتها ويعمل من فائدتها قبلانية عن روح الموصي المذكور تقديس ميشه واحدة في كل يوم للأبد، وتعمل منه نفرشاريه
182
واحد عن روح الموصي في كل عام، ثم أخذ في توزيع تركته على وارثيه، وعلى من أراد أن يتصدق عليهم، وعلى الكنائس والرهابين، وحبس أملاكا لوارثيه أن يستغلوها، بدون أن يكون لهم حق بالبيع، وجعل شطرا كبيرا من ثروته لزوجته دونه ميوري، وأيضا الإماء الست اللاتي كن له ثم قال: والمسلمتين الباقيتين من مسلماتها تبقى لإنصاف الوصية، ولا يعترض أحد خلق الله لدونه ميوري، والستة إماء المذكورات بوجه قال في هذه الوصية: وميز الموصي المذكور أن نبون المسلم والجعفر بن الجعفرين، وإبراهيم الأحول والأسمر والأعرج المسمى دومنقه روبيوه وبكر، أنهم لزوجه دونه ميوري صاروا لها باتراث عن أبويها ولها أيضا في خاصتها أحمدوج الساق، ابتاعته من مالها المختص بها وقاسم وعلي هما للموصي ولزوجه دونه ميوري، الحظ الذي فيهما للموصي يباع ويبدل ثمنه في إنصاف هذه الوصية، وقطيع مريم وقطوش الباقي منه هو لدونه ميوري، ويكون لها في خاصتها. ا.ه. نقلنا ذلك لأجل اطلاع القارئ على كيفية معاملة الأسبانيول لأسرى المسلمين، وتاريخ هذه الوصية سادس مايو عام ستة وثلاثمائة للصفر.
ثم اطلعنا على وصية للدونة متاية
183
زوج الدون غنصالبه البطلير ساكنه بربض الأفرنج من طليطلة نصها: بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد وحده. هذا ما أوصت به دونه متايه إلخ وتاريخ هذه الوصية سادس ديسمبر عام عشرين وثلاثمائة وألف للصفر. وفي تاريخ 1191 صك يقول فيه:
اشترى يحيى بن محمد الأنصاري، من دون غليان القس، لزوجه هند بنت عبد الرحمن ابن محمد، جميع الحجرة التي بقرب كنيسة امنيوم شنتوروم، بمدينة طليطلة، حرسها الله، حد هذه الحجرة في الشرق قرال لورثة ديمنقه إياس، وفي الغرب طريق فيه خرج الحجرة المذكورة، وإليه يشرع بابها، وفي الجوف دار ولد الشقية المسلم، وفي القبلة قرال لورثة ديمنقه إياس، بثمن مبلغه عشرة مثاقيل من الذهب الطيب البياسي إلخ.
وفي آخر المجموعة صكوك ووثائق خاصة باليهود، تجد منها سطرا بالعربية وسطرا آخر بالعبرية، ولا جرم أن يهود طليطلة كان لهم شأن عظيم يستدل عليه من كثرة الوثائق المتعلقة بهم، ومنها سندات لا تحصى لهم على نبلاء النصارى بأموال وافرة. وفقد كانوا هم المرابين في تلك الحاضرة ونواحيها، وكان عددهم كبيرا، ومن شاهد كنيس اليهود
184
الذي شاهدته أنا بنفسي في مدينة طليطلة، وهو الذي يعد من أنفس نفائس الصنعة العربية، ولا يذهب سائح إلى طليطلة إلا ويشاهده، علم مكانة اليهود المادية والمعنوية في تلك الحاضرة،
185
وكانت لهم أيضا بجانبهما مكانة علمية أدبية، إذ نبغ منهم العلماء والأدباء، وكانوا هم أكثر القائمين بترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية والأسبانية، بحيث أنه بواسطتهم انتشرت علوم العرب في أوروبا في القرون الوسطى. ولذلك قيل أن أوروبا لم تعرف علوم يونان رأسا، وإنما عرفتها بواسطة العرب.
فلم يخطئ الذين قالوا إن طليطلة كانت واسطة التعارف بين الشرق والغرب، وإن العالمين الإسلامي والمسيحي قد تلاقيا فيها. وقال المسيو جوسه
صاحب جغرافية أسبانية والبرتغال المصورة:
إن الرسوبات البشرية التي ثبتت في طليطلة، قد جعلت من هذه المدينة متحفا حقيقيا، لا متحفا كالمتاحف المعتادة، التي يجمع أصحابها فيها الآثار النادرة، جمعا مصطنعا حتى يأتي الناس ويطلعوا عليها، ولكنه متحف حقيقي أوجدته أعصر تبلغ عشرين قرنا، وكل منها ترك أثرا في طليطلة ومن زار أسبانية ولم يزر طليطلة فيعود كأنه لم يعرف أسبانية. فهي مدينة أصيلة ثابتة بارزة، ليس فيها شيء من المعتاد المألوف الذي ملته الأنفس، بل كل ما فيها جليل يهم الآثاري والمتفنن. وهي وحدها تستحق سياحة السائح إلى أسبانية. ومدخلها قنطرة ذات قوس واحد على نهر تاجه. وعلى هذه القنطرة برج مكتوب عليه أن النهر طغى، فهدم الجسر، فرممه الأذفونش، الملقب بالحكيم سنة 1252. ثم أكمل تجديده بريماط أسبانية المطران تينوريو
Tenorio
سنة 1380.
وكان هذا الجسر من زمان العرب، بل يظن أنه كان من قبلهم. وقد نقل «سلازار دو مندوسه»
Salazar de Mendoza
الكتابة العربية التي كانت ميزورة على الحجر في هذا الجسر: الله أكبر والصلاة والسلام على جميع من آمن بالله ورسوله محمد
186
ونقل الكونت دوموراه
de Mora
كتابة أخرى مدفونة في باطن الجسر هي هذه:
بنى هذا الجسر بأمر ملك طليطلة العظيم محمد سويد المجاشعي بطليطلة حرسها الله وانتهى سنة 204 للهجرة.
187
وجاء في نفح الطيب: وطليطلة قاعدة ملك القوطيين، وهي مطلة على نهر تاجه، وعليه كانت القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها، وكانت على قوس واحدة: تكنفه فرجتان من كل جانب، وطول القنطرة ثلاثمائة باع، وعرضها ثمانون باعا، وخربت أيام الأمير محمد، لما عصى عليه أهلها، فغزاهم، واحتال في هدمها.»
قلنا: أما هذه القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها فلا يمكن أن تكون القنطرة الحالية، لأن هذه ليست بهذه العظمة التي ذكروها، وإن كانت جليلة في ذاتها. وهذه ذات قوس كبيرة واحدة، مع أخرى صغيرة. وقد كانت القنطرة العربية في مكانها، ولكن الوادي عندما طغا ذهب بها، فرممها الأذفنش الملقب بالحكيم
188
ثم أن تنوريو الأسقف الأعظم برماط أسبانية، أكمل تجديد البناء كما مر.
وعلى هذه القنطرة برج مبني من سنة 1484، وتمثال للقديس «سان
189
إيلدفونس» وكتابة من زمن فيليب الثاني. وعلى الضفة اليسرى من نهر تاجه بقايا حصن سان «سرفنده» أو شربند، كما يقول العرب والفئة المستعربة من الأسبانيول. وهو حصن كان بناه على ذلك الجبل الأذفونش السادس، فاتح طليطلة، الذي في أيامه بدأ انهيار دولة الإسلام في الأندلس. ومن جسر طليطلة إلى محطة السكة الحديدة مسافة يشرف منها السائح على منظر بديع، وإلى الشمال الشرقي من المحطة يوجد بقايا حصن عربي قديم يقال له اليوم قصر «غاليانه».
190
فأما أسوار طليطلة فهي موصوفة بالمنعة ومن رأى طليطلة يقول إنها لا تحتاج إلى أسوار، لمنعة موقعها الطبيعي، ولكثرة ما فيها من غور ونجد، فهي في هذا المعنى أشبه بمدينة لوزان في سويسرة، لا يكاد يجد فيها الإنسان مساحة مسطحة. تزيد على 200 متر بل ترى الماشي فيها يصعد وينزل أبدا، وربما كانت طليطلة تفوق لوزان في قلة الاستواء، فإن أكثر شوارعها لا تسير فيها العربات، ولهذا تقل المركبات في طليطلة ، والناس تنقل أشيائها على الدواب، فكيفما توجهت في طليطلة تجد جر الأثقال ضربا من المحال.
وبرغم هذا فإن الملوك الغابرين قد أحكموا أسوارها، وجعلوها طبقا عن طبق، فجمعت بين المنعتين الطبيعية والصناعية.
ومما لا نزاع فيه أنه مع كل ما بني فيها الأسبانيول على أيدي مهندسين من الفرنسيس والألمان والطليان، وما بنوا فيها من الكنائس والأديار والمستشفيات والمدارس وماعنوا بتغيير شكلها العربي، لا تزال المسحة العربية غالبة على هذه البلدة، في ضيق الشوارع، وقلة نوافذ البيوت، وسعة الدور الداخلية، وحصانة الأبواب، وغير ذلك من أساليب العرب في البناء، ولا تجد الرهبان والراهبات مقيمين في أديار هي على الطراز العربي إلا في طليطلة. وقد نقل دليل بديكر كلمة في حق طليطلة عن الكاتب الأفرنسي المشهور «تيوفيل غوتيه»
191
هي هذه، وقد أبدع وصفها:
طليطلة فيها من الدير، ومن السجن، ومن القلعة، ومن الحرم الإسلامي، وذلك لأن العرب مروا بها.
نعم فيها من الدير لكثرة ما شاد الأسبانيول فيها من المعاهد الدينية تغطية لآثار العرب. وفيها من السجن لما يشاهد من الوثاقة والمتانة في مبانيها وفيها من القلعة لكثرة أسوارها ولمنعة مكانها الطبيعي وفيها من الحرم لأن بيوتها الأصلية هي بيوت عربية كسائر بيوت العرب في الدنيا.
وأعظم بنية في طليطلة هي الكنيسة الكبرى التي يقول لها المستعربون «القاعدة» وهي على اسم مريم العذراء عليها السلام، وفيها مذابح رومانية، ومذابح نصف عربية وهي في الحقيقة بيعة عظيمة بمنتهى الفخامة، تعد من الدرجة الأولى في كنائس العالم وموقعها بحذاء الأكمة التي عليها القصر
Alcazar .
ويقول المؤرخون عن تاريخ هذه الكنيسة أنه في زمن ريكارد القوطي تشيدت سنة 587 كنيسة باسم العذراء، لا تزال هناك كتابة تدل عليها وكان بجانبها دار أسقفية أقام بها القديسون أوجين، وإيلاد، وإيلد يفونس، ويليان. وفي سنة 712 ب.م. عندما فتح العرب طليطلة حولوا هذه الكنيسة إلى مسجد، وكان لهم المسجد الجامع
192 ، وبقي الأمر كذلك إلى سنة 1085 التي فيها استولى الأذفونش السادس على طليطلة صلحا بعد حصار طويل.
193
وكان المسلمون قد اشترطوا لأجل تسليم البلدة بقاء المسجد الجامع لهم ورضي الأذفونش بذلك. قال ابن بسام. لما توالت على أهل طليطلة الفتن المظلمة والحوادث المصطلمة وترادف عليهم البلاء والجلاء، واستباح الفرنج لعنهم الله تعالى، أموالهم وأرواحهم، كان من أعجب النوادر الدالة على الخذلان أن الحنطة كانت تقيم عندهم مخزونة خمسين سنة لا تتغير، ولا يؤثر فيها طول المدة بما يمنع من أكلها فلما كانت السنة التي استولى عليها العدو فيها، لم ترفع الغلة من الأندر حتى أسرع فيها الفساد. فعلم الناس أن ذلك بمشيئة الله تعالى، لأمر أراده، من شمول البلوى، وعموم الضراء، فاستولى العدو على طليطلة، وأنزل من بها على حكمه. وخرج ابن ذي النون منها على أقبح صورة وأفظع مسيرة، ورآه الناس وبيده اسطرلاب، يأخذ به وقتا يرحل فيه. فتعجب منه المسلمون، وضحك عليه الكافرون.
وبسط الكافر العدل على أهل المدينة، وحبب التنصر إلى عامة طغامها، فوجد المسلمون بذلك ما لا يطاق حمله، وشرع في تغيير الجامع كنيسة في ربيع الأول سنة ست وسبعين وأربعمائة.
ومما جرى في ذلك اليوم أن الشيخ الأستاذ المغامي رحمه الله تعالى صار إلى الجامع وصلى فيه، وأمر مريدا له بالقراءة، ووافاه الفرنج، لعنهم الله تعالى، وتكاثروا لتغيير القبلة، فما جسر أحد منهم على إزعاج الشيخ ولا معارضته، وعصمه الله تعالى منهم، إلى أن أكمل القراءة، وسجدة سجدة، ورفع رأسه وبكى على الجامع بكاء شديدا، وخرج ولم يعرض له أحد بمكروه. ا.ه.
قلنا إن الأسبان كانوا يعلمون أن تلك الساعة هي الساعة الأخيرة للجامع فصبروا على هذا الشيخ الجليل حتى أتمها بآخر عبادة إسلامية فيها.
وفي 11 أغسطس 1227 جعل ملك أسبانية، الذي يقولون له القديس فرديناند هذه البنية دكا، حتى يبتني مكانها بيعة على الطراز القوطي، الذي منه كنائس شمالي فرنسا، وجنوبي ألمانية، وانتدب المهندس الأفرنسي بطرس بتري، الذي بقي متوليا إدارة تشييدها مدة تزيد على خمسين سنة، وبعد وفاته عمل فيها مهندسون آخرون، أشهرهم رودريقه الفونسه، وجوان غواس، وألبير غومس، ومرتين شانجس وغيرهم، فالعمل فيه لم ينقطع مدة طويلة، وهي قائمة على خمسة صفوف من الأساطين وطولها 120 مترا وأربعون سنتيمترا، وعرضها 59 مترا و13 سنتيمترا وبناؤها من الحجر المحبب، إلا أن نقوشها الخارجية والداخلية هي في الحجر الكلسي، ولا يضارعها في أسبانية إلا كنيسة أشبيلية من بعض الوجوه. وكنيسة طليطلة أطول من كنيسة أشبيلية بعشرة أمتار إلا أن كنيسة أشبيلية أعلى بعشرة أمتار. ومزايا كنيسة طليطلة على كنيسة أشبيلية هي في تناسب الأقسام وبداعة الزخرف وتخريم المذبح الأعظم، حتى كأنه قطعة من العاج المخرم المرصع.
ولا عجب، فقد بقي العمل في القاعدة العظمى، بحسب قولهم، مدة ثلاثة قرون ولها ثمانية أبواب، أكثرها من الأعاجيب. وهي أبواب الغرب التي لا يفتحونها، مقتصرين على الباب الجنوبي المسمى بباب الأسود، والباب الجوفي المسمى بباب الساعة، الذي يشرع من جهة المدينة العليا. وفيها عدة مذابح، منها مذبح نصف عربي. ولكن جميع بدائع الصنعة والنقش والتصوير مستوفاة في المذبح الأعظم. وعقود الأقواس كلها من المرمر، تحيط بأعناقها قلائد مذهبة من الصنعة العربية
Arabesque .
وفي هذه الكنيسة من صنوف الخرط والنجر وفنون التنزيل والحفر ما يعجز القلم عن وصفه، فليس له إلا النظر بالعين! وماذا تقول في بناء لبثوا يعملون فيه ثلاثمائة سنة، وبذلوا عليه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، واستجادوا له أشهر الصناع في أعصرهم، وأمهر النحاتين والمصورين في أوقاتهم؟! وفي خزائن هذه البيعة كنوز هي فوق التخمين من كل نوع، قد تراكمت من قرون. ولكن الذي يريد الفرجة لا يقدر أن يتبين محاسنها، من ضعف النور الذي يدخل إلى الكنيسة، لأنهم، كما لا يخفى، يستحب عندهم في الكنائس أن يكون نهارها ليلا، لما في ذلك من الهيبة بزعمهم، وهذا ما رأينا الكثيرين من الأفرنج ينتقدونه، ويقابلون بينه وبين مساجد الإسلام التي تفيض نورا.
وأما المذبح نصف العربي فقد جعلوه بقرب الباب، وقد كان بناؤه على يد المهندس هنري دوايغاس، بأمر الكردينال شيمانيس الشهير
Jiménes
وذلك سنة 1504، وهم يقدسون على هذا المذبح بحسب الطقس القوطي الذي وضعه سان إيزيدور. وكانت في طليطلة قد بقيت ست كنائس محافظة على الطقس القوطي إلى سنة 1851، فمن ذلك الوقت توحد الطقس، وصار رومانيا محضا.
ومن كنائس طليطلة المعدودة كنيسة سان جوان
194
الملوك، وهي كنيسة بناها فرديناند وإيزابلا على الأسلوب القوطي، والأسلوب المعروف بالريناسنس
195
مجموعين فيها وقد بذل فرديناند وإيزابلا في بنائها قناطير مقنطرة من الذهب فجاءت من أبدع الكنائس زخرفا وكانا أعداها لدفنهما فيها، إلا أنهما عدلا عن ذلك الرأي بعد استيلائهما على غرناطة سنة 1492 ومحوهما كل أثر لملك الإسلام في الأندلس فقررا عند ذلك أن يكون دفنهما في كنيسة غرناطة، وتوقف العمل في كنيسة سان جوان هذه، ولم تتم إلا في القرن السابع عشر. فلذلك اختلف طرز بنائها في ذاته بحيث جمعت بين أسلوبين متغايرين. وعلى جدران هذه الكنيسة الخارجية سلاسل حديد يقولون أنها كانت قيودا لأسارى المسيحيين الذي أنقذهم فرديناند وإيزابلا يوم دخلا غرناطة، وفي هذه الكنيسة صور للقديس سان جوان. وصورة شعار الملكين فرديناند وإيزابلا وأسلحتهما، والمذبح الأعظم من هذه الكنيسة منقول من كنيسة شنت أفرج
196
القديمة، قال في دليل بديكر: إن زينة حمراء غرناطة ونقوشها قد تمثلت هنا بصور مسيحية. وقد كانت هذه الكنيسة في يد الفرنسيسكانيين، ثم تحولت من زهاء مائة سنة كنيسة لأهالي المحلة المجاورة. وكان بجانبها دير تحول متحفا ومدرسة صناعية.
وموقع هذه البيعة هو على أكمة مشرفة، تسرح منها الأنظار على وادي تاجه، وعلى البقعة،
197
وعلى شارات سان برناردو وغريدوس. وإلى الشمال الغربي من دير سان جوان الملوك يقع الباب المسمى عند العرب بباب المكاره،
198
وعلى مقربة من هناك في بقعة يقال لها باجه كنيسة سانتا لوقادية. وهي قديمة، بنيت في القرن الرابع، في المكان الذي يقال أن القديسة لوقادية نالت فيه أكليل الشهادة، وكان العرب قد هدموها، فلما رجع الأسبانيول جددوها.
وعلى ضفة نهر تاجه قريبا من هناك معمل السيوف، وتاريخ إنشائه سنة 788 ولكن لم تبق لسيوف طليطلة تلك الأهمية، بعد أن بقيت قرونا مشهورة بهذه الصناعة من زمن الرومان إلى زمن القوط، إلى زمن العرب، إلى زمن الأسبان، لا سيما القرن السادس عشر، ومن النصال الطليطلية أنموذجات بديعة في متحف مجريط، وإلى الجنوب من باب المكاره قطعة من السور تنتهي بباب سان مرتين، وإلى الشمال من هذا الباب المسلخ الذي يقال أنه كان في مكانه قصر الملك لذريق، الذي منه انتزع العرب جزيرة الأندلس، وهو الذي افتضن كريمة الكونت يليان المسماة فلورنده،
199
ولأجل ذلك حنق هذا الكونت حنقا بلغ به أن دعا العرب لاجتياح الأندلس، ففتحوها ويقال من جملة الأساطير أنه كان يوجد هناك كهف يقال له كهف هرقل، نظر فيه لذريق مرة فعثر على كتابة تؤذن بانتهاء ملك الأندلس.
وعلى الوادي يوجد جسر سان مرتين، معقود فوقه إلى الغرب من البلدة. وكان بناؤه سنة 1212، ثم تجدد سنة 1390. وله خمسة أقواس، والأوساط منها يرتفع ثلاثين مترا، وعليه برجان. وإلى اليمين منه تحت السور حمام يقال له حمام الكهف
200
حيث الملك لذريق شاهد فلورنده كريمة الكونت يوليان تستحم، وكان بعد ذلك ما كان.
وإلى الجنوب من بيعة سان جوان الملوك كانت في القديم حارة اليهود، التي كان يقال لها «الجديرة»، وكان هؤلاء اليهود بنوا هناك حصنا حصينا يضعون فيه أموالهم وأما كنيسة مارية البيضاء فكانت في الأصل كنيسا لليهود، بني في القرن الثاني عشر، ثم تحول كنيسة للنصارى في بداية القرن الخامس عشر، ثم صارت محل خلوة للمتنسكين، ثم ثكنة عسكرية، ثم مخزنا. وهي ذات بناء فخم على ثمان وعشرين قوسا، وقواعد أساطينها مزينة بالزليج، والصنعة العربية. وأما الكنيس الشهير الذي تقدم الكلام عليه فيقال له كنيس
201
الانتقال، فقد بناه الحاخام «ماير عبدلي» على نفقة صموئيل لاوي، كما تقدم الكلام عليه. وأتقن بناؤه إلى النهاية، فلما طرد الملوك الكاثوليك يهود أسبانية حولوا هذا الكنيس إلى كنيسة باسم سان بنيتو، وسلموه إلى فرسان قلعة رباح، ثم تحول كنيسة باسم العذراء. وإلى الشرق من هذا الكنيس يوجد بيت المصور الشهير غريقو
202
الذي له آثار كثيرة في كنائس طليطلة وأصله يوناني من جزيرة كريت وقد ساقته الأقدار من البندقية إلى طليطلة سنة 1585 فسكن في طليطلة في قصر المركيز «فيلته»
203
والآن يوجد هناك متحف لآثار غريقو.
الملك لذريق مع الأميرة فلوريندة ابنة يليان صاحب سبتة التي من أجل قصتها أغرى يليان العرب بغزو اسبانية.
ومن كنائس طليطلة كنيسة يقال لها سان جوان الندامة
204
بناها الكردينال شيميناس سنة 1514، وجعل معها ديرا، وهي في شرقي البلدة. ومن الكنائس المعدودة كنيسة سانتو طومي
205
وكانت جامعا فحولوه كنيسة، وجددوا بناءه في القرن الرابع عشر، ولكن منارته لا تزال على أصلها. وفي هذه الكنيسة قبر الكونت أورغاز الذي جددها على نفقته. وإلى الجنوب من هذه الكنيسة قصر كان يقيم به الإمبراطور شالكان، وفيه ماتت امرأته إيزابلا البرتغالية، وفي هذا القصر صناعات عربية وقوطية مختلطة.
ومن كنائس طليطلة المعدودة كنيسة سانت ياقو الربض بنيت لعهد الأذفونش السادس، وهي على الهندسة العربية ومنارتها لا تزال منارة مسجد إسلامي. وأما الدار الأسقفية التي يقيم بها برماط أسبانية، وكان لها ذلك الشأن العظيم حتى كان يجاذب الملك الحبل فهي قبالة الكنيسة الكبرى من الجهة الغربية.
قال المسيو جوسة صاحب جغرافية أسبانية والبرتغال المصورة: لو أردنا أن نتكلم عما في طليطلة من قصور كانت لنبلاء العرب والأشبيليين في تلك الشوارع الضيقة وعلى مفارق الطرق، وذلك مثل قصر آل بركاش
206
وآل ماكدة
207
ومونارس
208
وغيرهم وقصر البقعة،
209
وقصر الميزة
210
بقاعته العربية المدهشة لاستلزم ذلك كتابا مستقلا. وقاعة الميزة هذه ذات سقف نادر النظير في صنعته العربية. وطولها 20 مترا، وعرضها سبعة أمتار وعلوها 12 مترا.
ومن قنطرة طليطلة يسير الإنسان صعدا إلى الشمال الغربي فيمر بالسور العربي الذي كان للمدينة وبسور أحدث منه بني لأجل حماية الحارة المسماة بالربض
211
وبعد مسيرة خمسة دقائق يصل إلى باب عربي البناء يقال له باب «السول»
قيل إنه بني سنة ألف ومائة مسيحية، أي بعد استرداد الأسبانيول لطليطلة، ولكنه بني على الطرز العربي، وكان هذا الباب في القديم هو باب طليطلة الحقيقي، ولم يتفق المؤرخون في تاريخ هذا الباب: فقال بعضهم: إنه بني لعهد الأذفونش السادس، وقال بعضهم: إنه بني في آخر زمان العرب، وعلى مقربة من هذا الباب باب آخر يقال له باب «بيزغرة»
Visagra
وأصله باب شقره بناه الأسبانيول، وعليه تمثال النسر، شعار الإمبراطور شارلكان، ويوجد باب آخر يقال له «بيزاغرة انتيكة»
Visagra Antigia
212
أي العتيقة لأنه من زمان العرب وهو بناء يستحق النظر ومنه يسير الإنسان على طريق عريض على جانبيه الأشجار إلى باب يقال له باب «قمرون»
Cambron
وهناك بقايا قصر آل بركاش. ولا يجوز أن ننسى من آثار طليطلة التاريخية الكنيسة التي بقرب باب السول، والتي يقال لها «سانتو كريستو دولالوز»
Santo Cristo de la Luz
أي النور وأصل هذه الكنيسة الصغيرة مسجد صغير بني سنة 922 مسيحية، كما يستنتج من الكتابة العربية التي على بابه،
213
وهو على ستة صفوف من الأعمدة ويقال إن أعمدته مأخوذة من كنيسة قوطية قديمة والله أعلم، وتتعلق خرافة بهذا المسجد المقلوب كنيسة والذي له ولأمثاله قال الشاعر العربي رائي طليطلة يوم استولى عليها النصارى:
مساجدها كنائس! أي قلب
على هذا يقر ولا يطير؟!
وهذه الخرافة معناها أنه لما دخل الأذفونش السادس إلى طليطلة، وكان معه القمبيدور الملقب بالسيد سجد حصان السيد بزعمهم أمام حائط هناك، فهالهم سجود الحصان من نفسه فبحثوا في الحائط، فوجدوا فيه مصلوبا، وبجانبه سراج يضيء زيته من زمن القوط.
وأشهر قصر في الأندلس هو قصر طليطلة المبني على أعلى قمة من تلك البلدة، فقد كان فيما يظهر مقر الإمارة من قديم الدهر، ففيه أقام الأيبيريون، ثم القوط ثم العرب، ثم الأسبان، وفيه نزل أذفونش السادس يوم دخل طليطلة. ولقد تبدلت هيئته كثيرا بكثرة ما توالى عليه من الحريق. وكان كلما احترق جددت الملوك بناءه ولكن الذي لا يتغير فيه هو مسرح النظر الذي له، والذي لا يضارعه منظر لقصر من قصور أسبانية كلها. وقد كان هذا القصر تارة حصنا وطورا قصرا، وتعاقبت عليه أدوار مختلفة.
وأشهر ساحة في طليطلة، وهي التي فيها أكثر حركة البلدة، الساحة التي يقال لها ساحة البر
214
أي ساحة القمح، ومنها يصعد الصاعد إلى القصر، وبالإجمال لا يوجد بلدة أكثر من طليطلة قد حفظت الهيئة والبيئة العربيتين، وكيف ما توجه السائح فيها يعثر على نقوش عربية، وزليج، وخشب محفور من آثار العرب، وقد ذكر جوسة أنه وجدت تيجان ذهب مخرمة في ضواحي طليطلة، وتحقق أنها من كنوز العرب المدفونة، ومن قديم الدهر كان في طليطلة أبنية فخمة، وللإرشيبرست يوليان بيريز
Julian Pèrez
تاريخ أحصي فيه عدد الكنائس القوطية التي هدمها العرب أو حولوها إلى جوامع، مثل شان قرشتوبل
Cristobal ، وسان لورنزوه، وسان يشته
Justo
وسانت مرية المجدلية، وسان إيزيدور، وسان أنطولين، والمقبرة التي كانت في كنيسة شنت ليقودية، فقد زعم هذا القيسيس أن العرب خربوا جميع هذه الكنائس، وجعلوا عاليها سافلها، وقال أنه كانت في طليطلة أديار كثيرة من قبل ما أعلن الملك القوطي ريكارد إلغاء المذهب الأريوسي، وأمر أن تكون الكثلكة هي المذهب السائد بدون منازع، وذهب أن العرب تركوا بعض هذه الأديار للمسيحيين مثل سان سيلفانو
Silvano .
وأما تاريخ طليطلة فخلاصته أنها كانت العاصمة الدينية والمدنية لأسبانية في زمن القوط، وأنه انعقد فيها ستة عشر مجمعا، آخرها كان انعقاده سنة 633، تحت رئاسة يزيدور مطران أشبيلية، الذي كان عندهم قديسا، وأكثر أسباب هذه المجامع الدينية كانت ناشئة عن الجدال بين الأريوسية والكثلكة. وكان مبدأ الأريوسية آراء قسيس شهير اسمه آريوس
Arius ، ولد في برقة أو الإسكندرية سنة 280 للمسيح، ومات سنة 336. واشتهر بتجديد عقيدة سابليوس وبولس المريساتي، وهي التي تقول بأن المسيح لم يكن هو ابن الله فعلا، وإنما كان ابنه اسما، والله هو الآب فقط، واتبع عقيدة أريوس جم غفير فحكم مجمع الإسكندرية بكفره سنة 319 ولكن بقي له تبع كثير بحيث أن الإمبراطور قسطنطين اضطر إلى عقد مجمع عام هو المجمع المسمى بالمجمع النبقي، لأنه انعقد في نبقية بقرب القسطنطينية سنة 325، فقرر المجمع المذكور بالأكثرية لا بالاتفاق أن الابن والآب طبيعة واحدة، وأن المسيح هو الله مثل الآب، وأنه هو الابن، وحرر دستورا للإيمان على هذه القاعدة ولم يزل هذا الدستور هو قانون الدين المسيحي إلى يومنا هذا. وقد صدر أمر الإمبراطور قسطنطين بنفي أريوس مدة من الزمن، إلى أن سكنت الخواطر، ثم أذن له في العودة إلى الإسكندرية، وربما كان قسطنطين في الباطن مائلا إلى عقيدة أريوس، لكنه كان مضطرا إلى مجاراة العامة، ثم مات أريوس ولم تمت عقيدته وانقسم الرومانيون إلى قسمين، فتمسك بها بعض قياصرتهم كقسطنس، وحمل عليها الآخرون كتيودوسيوس. وأخيرا تلاشت في المملكة الرومانية، إلا أنها عادت فظهرت بين البرابرة الذين جاءوا من الشمال مثل القوط، والوندال، والبرجونيين، واللونبرديين، ثم تغلبت عليها الكثلكة في القرن السابع، ثم عادت فظهرت مرة ثالثة بعد الإصلاح البروتسطانتي، وعرف بها فئة يقال لها السوسيتيون، نسبة إلى رجل لاهوتي من إيطالية انتصر لهذه العقيدة، بل أنكر أكثر قواعد النصرانية، وقد كان في طليطلة هذه عقد المجمع الذي حكم بتحريم مذهب أريوس.
ولما افتتحها العرب لم يجعلوها عاصمتهم، كما كانت في زمن القوط، وآثروا عليها قرطبة لكونها أقرب إلى أفريقية، فصارت طليطلة تعصي أمر قرطبة، وتثور على بني أمية، ولكن عمرانها لم يتقلص بالثورات، لكثرة ما كان بها من الصنائع، مثل صناعة السيوف
215
وصناعة نسج
216
الحرير والصوف، ولأن بقعتها من أخصب بقاع الأندلس فكانت تبقى السنين الطوال والخلفاء يحاولون إخضاعها، ويغادرونها ويراوحونها بالجيوش، وهي مع ذلك عزيزة منيعة، ثابتة راسخة، أمنع من عقاب الجو. وقد كان استرداد الأسبانيول لطليطلة مبدأ تأخر العرب بدون نزاع، وفي ذلك يقول عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسال:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس
فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى
ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه
كيف الحياة مع الحيات في سفط؟
وقد أصاب هذا الشاعر في قوله هذا، لأنه لما استولى النصارى على طليطلة كانوا كأنهم دخلوا في وسط بلاد الإسلام، وجاءت الإسلام الضربة في حامل رأسه لأنه كان المسلمون في ذلك الوقت لا يزالون في سرقسطة ونواحيها، وكان لا يزال لهم قواعد وحواضر هي إلى الشمال من طليطلة. ثم إن موقع طليطلة بمنعته الخارقة للعادة جعلت الأسبانيول منها في حصن حصين لا يؤتى وعصمتهم في حرز حريز لا يؤخذ، وهم أنفسهم لم يقدروا على طليطلة في حقيقة الأمر إلا بفساد أحوال المسلمين، والفتن التي كانت بينهم. وخلاصة الأمر أنه بعد أن نشبت الفتنة الكبرى في قرطبة بين العرب والبربر، وانتثر السلك، ونجمت الملوك الذي يقال لهم ملوك الطوائف، استبد بأمر طليطلة بنو ذي النون، كما سيأتي الكلام عليه، فوقعت العداوة بينهم وبين بني هود الذين استقلوا بسرقسطة، وتوالت الوقائع بين الفريقين، وكل منهما يستظهر بالأسبانيول على الآخر.
ولنأتك بمثال ننقله لك عن ابن عذارى المراكشي في كتابه
المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» وهود خير كتاب عرف بأخبار الأندلس. قال عند ذكره سقوط طليطلة: «وخرج فرديلند الطاغية أيضا المظاهر لسلمان بن هو، وهو فردلند بن شانجة، أمير جليقية إلى ثغر طليطلة في خلق كثير. وجاءه ابن عم ابن ذي النون ليدله على عورات البلاد، وتهاربت الناس أمامه من كل جهة إلى طليطلة حتى غصت بهم، واضطربت أحوال أهلها. كل ذلك وأميرهم يحيى بن ذي النون غائب عنهم بجيشه في مدينة سالم، مقيم بها لئلا يدخلها ابن هود فلما تيقن بخروج هذا اللعين إلى عمله، وضجت رعيته إليه، جاء في جموعه، فلم يصنع شيئا ولا قدر على لقائه (أي على لقاء الطاغية) واضطربت أحوال الناس بطليطلة خلال ذلك، فلما رأى ذلك أهل طليطلة أرسلوا إلى الطاغية فردلند المظاهر لابن هود ليعقدوا معه صلحا على بلدهم طليطلة وما حولها على مال يؤدونه إليه ويرحل عنهم. فقال لهم: ما أجيبكم إلى سلم، ولا أعفيكم من حرب، حتى تفعلوا كذا وكذا. واشترط عليهم شروطا لا يقدرون عليها. فقالوا: لو كنا نقدر على هذه الأشياء وهذه الأموال لأنفقناها على البرابرة، واستدعيناهم لكشف هذه المعضلة. فقال فرلند: «أما قولكم لا تقدرون على هذه الأموال فذلك محال، فلو كسفت سقوف بيوتكم لبرقت ذهبا لكثرته، وأما استدعاؤكم البرابرة فأمر تكثرون به علينا، وتهددوننا به، ولا تقدرون عليه مع عداوتهم لكم، ونحن قد صمدنا إليكم، ما نبالي من أتانا منكم ، فإنما نطلب بلادنا التي غلبتمونا عليها قديما في أول أمركم ، فقد سكنتموها ما قضي لكم، وقد نصرنا الآن عليكم بردائتكم، فارحلوا إلى عدوتكم، واتركوا لنا بلادنا، فلا خير لكم في سكناكم معنا بعد اليوم، ولن نرجع عنكم أو يحكم الله بيننا وبينكم. ا.ه.
فلم يجد رسل أهل طليطلة عند فردلند وأصحابه النصارى قبولا لما عرضوه عليهم من الصلح.
وكان أخو هذا العلج صاحب يحيى بن ذي النون مظاهرا له فخرج في هذه السنة إلى بلاد ابن هود فوطئها، وأغلظ في إهلاكها، وأخل بالثغر الأعلى، فعل أخيه فردلند في نظر ابن ذي النون، ودامت الفتنة بين هذين الأميرين، ابن هود وابن ذي النون، على هذه الحال من سنة خمس وثلاثين إلى آخر سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة وانقطعت بموت سليمان بن هود في السنة المذكورة. ولما تنفس مخنق ابن ذي النون بموت سليمان المذكور جعل يطلب جاره ابن الأفطس صاحب بطليوس فجرت له معه حروب كثيرة إلخ.
قلنا إن بيت القصيد في هذا التاريخ هو قول الطاغية: «وقد نصرنا عليكم بردائتكم.» جاء في نفح الطيب: ومن أول ما استرد الأفرنج من مدن الأندلس العظيمة مدينة طليطلة من يد ابن ذي النون سنة 475. وقال بعض المؤرخين: أخذ الأذفونش طليطلة من صاحبها القادر بالله ابن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين، وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة 478 ا.ه. وفيه بعض مخالفة لما قبله، وسيأتي قريبا بعض ما يؤيده. قال: وهي مدينة حصينة قديمة أزلية، من بناء العمالقة، على ضفة النهر الكبير.
217
ولها قصبة حصينة في غاية المنعة ولها قنطرة واحدة عجيبة البنيان، على قوس واحد، والماء يدخل تحته بعنف وشدة جري. ومع آخر النهر ناعورة ارتفاعها في الجو تسعون زراعا، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة، ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة.
وطليطلة هذه دار مملكة الروم، وبها كان البيت المغلق الذي كانوا يتحامون فتحه، حتى فتحه لذريق فوجد فيه صورة العرب. ا.ه.
وقد حكي ابن بدرون في شرح العبدونية أن المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة بنى بها قصرا تأنق في بنائه، وأنفق فيه مالا كثيرا، وصنع فيه بحيرة، وبنى في وسطها قبة، وسيق الماء إلى رأس القبة، على تدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها، محيطا بها، متصلا بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكب
218
لا يفتر، والمأمون ابن ذي النون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيء، ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل، فبينما هو فيها إذ سمع منشدا ينشد:
أتبني بناء الخالدين وإنما
بقاؤك فيها لو علمت قليل
لقد كان في ظل الأراك كفاية
لمن كل يوم يعتريه رحيل
فلم يلبث هذا إلا يسيرا حتى قضى نحبه. ا.ه.
وقال ابن خلكان: إن طليطلة أخذت يوم الثلاثة مستهل صفر سنة 478 بعد حصار شديد. وقال ابن علقمة: إن طليطلة أخذت يوم الأربعا لعشر خلون من المحرم سنة 478، وكانت وقعة الزلاقة التي نشأت في السنة بعدها. ا.ه.
وجاء في دليل بديكر أن الأذفونش السادس ملك قشتالة دخل طليطلة ومعه السيد
219
في 25 مايو 1085 ونقل كرسي الملك من برغش إلى طليطلة عام 1087 وجعل مطران طليطلة هو أسقف أسبانية الأعظم، وبدأوا ببناء الكنائس والأديار فأكثروا منها. ولكن المدينة العربية بقيت حافظة سيادتها في وجه الحملة المسيحية، وبقي الناس في طليطلة يبنون مدة قرون متطاولة على الطرز العربي (إلى أن يقال)وكان أساقفة طليطلة مثل لوذريقة وفونسيقة وتنووريو ومندوسة. وشيمينيس وطلبيرة ولورتسانة هم أصحاب الأمر والنهي في البلدة، وكان دخل الأسقفية السنوي ثلاثمائة ألف دوكة، وكان في دار الأسقفية 150 قسيسا هم حاشية برماط أسبانية، وكانت لهم عناية بالعلوم والآداب
220
وكانوا أيضا يسوقون الجيوش إلى القتال فأسماؤهم داخلة في جميع الحوادث الكبيرة في عصرهم. ولقد كان الكردينال بطروه غونزاليس مندوزه هو الذي أغرى أكثر من الجميع بقتال مملكة غرناطة. ا.ه.
ولنذكر الآن ما جاء في معجم البلدان عن طليطلة قال: طليطلة، هكذا ضبطه الحميدي. بضم الطائين، وفتح اللام، وأكثر ما سمعناه من المغاربة بضم الأولى وفتح الثانية مدينة كبيرة ذات خصائص محمودة بالأندلس، يتصل عملها بعمل وادي الحجارة، وهي غربي ثغر الروم، وبين الجوف
221
والشرق من قرطبة. وكانت قاعدة ملوك القوطيين، وموضع قرارهم، وهي على شاطئ نهر تاجه، وعليه القنطرة التي يعجز الواصف عن وصفها. وقد ذكر قوم أنها مدينة دقيانوس صاحب أهل الكهف. قال: وبالقرب منها موضع يقال له جنان الورد، فيه أجساد أهل الكهف لا تبلى إلى الآن، والله أعلم. وقد قيل فيهم غير ذلك، كما ذكر في الرقيم، وهي من أجل المدن قدرا، وأعظمها خطرا. ومن خاصيتها أن الغلال تبقى في مطاميرها سبعين سنة لا تتغير، وزعفرانها هو الغاية في الجودة. وبينها وبين قرطبة سبعة أيام للفارس ومازالت في أيدي المسلمين منذ أيام الفتوح إلى أن ملكها الأفرنج في سنة 477
222
وكان الذي سلمها إليهم يحيى بن يحيى بن ذي النون، الملقب بالقادر بالله، وهي الآن في أيديهم (إلى أن قال): ينسب إليها جماعة من العلماء، منهم أبو عبد الله الطليطلي روي كتاب مسلم بن الحجاج، توفي يوم الأربعاء الثاني عشر من صفر سنة 458 وعيسى بن دينار بن واقد الغافقي الطليطلي، سكن قرطبة، ورحل، وسمع من أبي القاسم، وصحبه، وعول عليه، وانصرف إلى الأندلس، فكانت الفتيا تدور عليه، لا يتقدمه في وقته أحد. قال ابن الفرضي: قال يحيى بن مالك بن عائذ: سمعت محمد بن عبد الملك بن أيمن يقول: كان عيسى بن دينار عالما متفننا، وهو الذي علم المسائل أهل عصرنا.
وكان أفقه من يحيى بن يحيى، على جلالة قدر يحيى. وكان محمد بن عمر بن لبابة يقول: فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى. وتوفي سنة 212 بطليطلة، وقبره معروف. ومحمد بن عبد الله بن عيشون الطليطلي أبو عبد الله، كان فقيها، وله مختصر في الفقه، وكتاب في توجيه حديث الموطأ، وسمع كثيرا من الحديث، ورواه. وله إلى المشرق رحلة، سمع فيها من جماعة، وتوفي بطليطلة لتسع ليال خلون من صفر سنة 341. ا.ه. كلام ياقوت.
ولما تغلب الأسبانيول على طليطلة اهتز لذلك الإسلام، وأدرك العقلاء سوء المصير، لأن ذهاب هذه القاعدة من أيدي المسلمين، وهي في وسط أسبانية، كان مقدمة حوادث كبار توقعوها، ولم يخطئوا في حسبانهم لها. وقد كانت وقعة الزلاقة في السنة التالية، وهي التي أجاز فيها يوسف بن تاشفين إلى الأندلس إصراخا لمسلميها هي نتيجة سقوط طليطلة في أيدي النصارى. وبالرغم من كون ابن تاشفين أحرز في وقعة الزلاقة نصرا عزيزا، وفتحا مبينا، وخضد شوكة الأسبانيول في ذلك اليوم، فإنه لم يتمكن من استرداد طليطلة، وبقيت العلة في محلها، وإنما تأخر انحلال دولة الإسلام في الأندلس بواسطة المرابطين، ثم بواسطة الموحدين نحوا من ثلاثمائة سنة ولنذكر هنا مرثية قيلت لدى سقوط طليطلة، وحتى الآن لم نعرف اسم قائلها، ونحن ننقلها عن نفح الطيب كما هي. وهي هذه:
لثكلك كيف تبتسم الثغور
سرورا بعد ما يئست ثغور؟!
أما وأبي مصاب هد منه
ثبير الدين، فاتصل الثبور
لقد قصمت ظهور حين قالوا:
أمير الكافرين له ظهور
ترى في الدهر مسرورا يعيش؟
مضى عنا لطيته السرور!
أليس بنا أبي النفس شهم
يدير على الدوائر إذ تدور؟!
لقد خضعت رقاب كن غلبا
وزال عتوها ومضى النفور
وهان على عزيز القوم ذل
وسامح في الحريم فتى غيور
طليطلة أباح الكفر منها
حماها! إن ذا نبأ كبير!
فليس مثالها إيوان كسرى
ولا منها الخورنق والسدير
محصنة محسنة بعبد
تناولها، ومطلبها عسير
ألم تك معقلا للدين صعبا
فذلله كما شاء القدير
وأخرج أهلها منها جميعا
فصاروا حيث شاء بهم مصير
وكانت دار إيمان وعلم
معالمها التي طمست تنير
فعادت دار كفر مصطفاة
قد اضطربت بأهليها الأمور
مساجدها كنائس! أي قلب
على هذا يقر ولا يطير؟!
فيا أسفاه! أسفاه! حزنا
يكرر ما تكررت الدهور
وينشر كل حسن ليس يطوى
إلى يوم يكون به النشور
أديلت قاصرات الطرف كانت
مصونات مساكنها القصور
وأدركها فتور في انتظار
لسرب في لواحظه فتور
وكان بنا بالقينات أولى
لو انضمت على الكل القبور
لقد سخنت بحالتهن عين
وكيف يصح مغلوب قرير؟
لئن غبنا عن الإخوان إنا
بأحزان وأشجان حضور
نذور كان للأيام فيهم
بملكهم فقد وقت النذور
فإن قلنا العقوبة أدركتهم
وجاءهم من الله النكير
فإنا مثلهم وأشد منهم
نجور، وكيف يسلم من يجور؟
أنأمن أن يحل بنا انتقام
وفينا الفسق أجمع والفجور؟
وأكل للحرام ولا اضطرار
إليه، فيسهل الأمر العسير
ولكن جرأة في عقر دار
كذلك يفعل الكلب العقور
يزول الستر عن قوم إذا ما
على العصيان أرخيت الستور
يطول علي ليلي، رب خطب
يطول لهوله الليل القصير
خذوا ثار الديانة وانصروها
فقد حامت على القتلى النسور!
ولا تهنوا وسلوا كل عضب
تهاب مضاربا عنه النحور
وموتوا كلكم فالموت أولى
بكم، من أن تجاروا أو تجوروا
أصبرا بعد سبي وامتحان
يلام عليهما القلب الصبور!؟
فأم الصبر مذكار ولود
وأم الصقر مقلات نزور
نخور إذا دهينا بالرزايا
وليس بمعجب بقر تخور
ونجبن ليس نزار، لو شجعنا
ولم نجبن لكان لنا زئير
لقد ساءت بنا الأخبار حتى
أمات المخبرين بها الخبير
أتتنا الكتب فيها كل شر
وبشرنا بأنحسنا البشير
وقيل تجمعوا لفراق شمل
طليطلة تملكها الكفور
فقل في خطة فيها صغار
يشيب لكربها الطفل الصغير
لقد صم السميع فلم يعول
على بناء كما عمي البصير
تجاذبنا الأعادي باصطناع
فينجذب الممول والفقير
فباق في الديانة تحت خزي
تثبطه الشويهة والبعير
وآخر مارق هانت عليه
مصائب دينه فله السعير
كفى حزنا بأن الناس قالوا
إلى أين التحول والمسير؟
أنترك دورنا ونفر عنها؟
وليس لنا وراء البحر دور
ولا ثم الضياع تروق حسنا
نباكرها فيعجبنا البكور
وظل وارف وخرير ماء
فلا قر هناك ولا حرور
ويؤكل من فواكهها طري
ويشرب من جداولها نمير
يؤدي مغرم في كل شهر
ويؤخذ كل صائفة عشور
فهم أحمى لحوزتنا وأولى
بنا، وهم الموالي والعشير
لقد ذهب اليقين فلا يقين
وغر القوم بالله الغرور
فلا دين ولا دنيا ولكن
غرور بالمعيشة ما غرور
رضوا بالرق، بالله! ماذا
رآه وما أشار به مشير؟
مضى الإسلام فابك دما عليه!
فما ينفي الجوى الدمع الغزير
ونح واندب رقاقا في قلاة
حيارى لا تحط ولا تسير
ولا تجنح إلى سلم وحارب
عسى أن يجبر العظم الكسير
أنعمي عن مراشدنا جميعا
وما إن منهم إلا بصير؟!
ونلقى واحدا ويفر جمع
كما عن قانص فرت حمير!
ولو أنا ثبتنا كان خيرا
ولكن ما لنا كرم وخير
إذا لم يكن صبر جميل
فليس بنافع عدد كثير
ألا رجل له رأي أصيل
به مما نحاذر نستجير!
بكر إذا السيوف تناولته
وأين بنا إذا ولت كرور؟
وطعن بالقنا الخطار حتى
يقول الرمح: ما هذا الخطير؟
عظيم أن يكون الناس طرا
بأندلس: قتيل، أو أسير
أذكر بالقراع اللبث حرصا
على أن يقرع البيض الذكور
يبادر خرقها قبل اتساع
لخطب منه تنخسف البدور
يوسع للذي يلقاه صدرا
فقد ضاقت بما تلقى صدور
تنغصت الحياة فلا حياة
وودع جيرة إذ لا مجير
قليل فيه هم مستمكن
ويوم فيه شر مستطير
ونرجو أن يتيح الله نصرا
عليهم، إنه نعم النصير!
ويقال في قضية أخذ الأسبانيول لطليطلة النكتة الآتية: كان الأذفونش السادس قد فر من وجه أخيه شانجه، فالتجأ إلى ابن ذي النون ملك طليطلة، فسمح له بالإقامة عنده، ولم يكن من عادة العرب أن يستنكفوا في وقت من الأوقات من إيواء الدخيل. وكان المسلمون أنفسهم إذا حزب الواحد منهم أمر يذهب نزيلا عند أحد ملوك النصارى، وكم التجأ فيما بعد مسلمون من غرناطة إلى أشبيلية، ونصارى من أشبيلية إلى غرناطة فالمأمون ابن ذي النون تلقى الأذفونش أوانئذ برا وترحيبا، وائتلف الضيف والمضيف وكانا يذهبان معا إلى الصيد، وكانت أرض طليطلة شجرا، أكثر جدا مما هي اليوم فبينما ذات يوم المأمون والأذفونش في إحدى الجنان بطليطلة، أدركت القائلة الأذفونش، فاضطجع في ظل شجرة، وجلس المأمون يتحدث إلى أصحابه على مقربة منه، فينما هم في الحديث، عن لهم موضوع طليطلة وما هي عليه من المنعة الطبيعية، على شفير ذلك الوادي العميق. فأجمع من حضر من أهل النظر على أن طليطلة لا تؤخذ ولا ينال منها مرام. فانبرى أحد الذين كانوا في ذلك المجلس، وخالف رأي الجماعة، وقال إنه يكفي لتذليل طليطلة، أن يعمد العدو إلى ضواحيها فيجتاحها، ويقطع الميرة عن أهلها، فيضطروا إلى التسليم. فإن لم يمكن أخذ طليطلة بالسيف فيمكن جدا أخذها بالجوع.
وكان الأذفونش بين النائم والواعي. فلما سمع الحديث عن أخذ طليطلة، أصغى إليه، وتنبه له، ووعى كل ما سمعه. ولكنه أسرها في نفسه، ولم يشعر القوم بأنه سمع مما قيل شيئا. ثم إنه لما جلس على عرش قشتالة تذكر ذلك المجلس، وعمل برأي من قال إن طليطلة قد تؤخذ بالحصر والجوع.
ويظهر من هنا أن الأذفونش لم يكن يجهل العربية، لأن ابن ذي النون وجماعته إنما تكلموا في تلك القائلة بالعربية، لا بالأسبانيولية. فلو لم يكن الأذفونش عارفا بالعربية لما فهم الحديث.
والخلاصة أنه حاصر طليطلة عدة سنوات وعاث في نواحيها، وقطع الميرة التي كانت تأتيها من ضواحيها، ومازال يجوع أهلها حتى أخذها في 25 مايو سنة 1085 كما تقدم.
وقيل، وهو الأرجح، إنه استولى على تلك البلدة بدون عناء كبير، بل بإقناعه القادر بن المأمون بن ذي النون بأن يكون خيرا له لو ذهب إلى بلنسية، وملك فيها وهي في بحبوحة من الإسلام، وترك له طليطلة الواقعة دائما في حلق العدو.
وقد أجمع المؤرخون على سوء تدبير القادر بن ذي النون، وأنه لم يكن كفؤا لعروس مثل طليطلة، فكان وجوده فيها السبب في ذهابها من يد الإسلام. وكان ذلك نبأ كبيرا، كما جاء في مرثية طليطلة، لأن القشتاليين أخذوا بعدها بمخنق الإسلام وبركوا على قلبه في جزيرة الأندلس، وصار بعدها ثغره معورا وأمره مدبرا.
وأصل بني ذي النون من البربر الذين كانوا في خدمة الدولة العامرية. وروى ابن عذارى أن اسم جدهم لم يكن «ذا النون» وإنما كان «زنون»، وهو اسم من أسماء البربر فتصحف بطول المدة، وصار «ذا النون» بالذال.
قال: ولم يكن لهؤلاء القوم نباهة قديمة، ولا ذكر إلا في دولة ابن أبي عامر، فإنهم تقدموا في دولته واشتهروا، فكان منهم من يقود الجيوش، ويلي الأعمال والبلاد، وكان منهم في آخر أمد الجماعة وال بكورة «شنت بريه»، فلما وقعت الفتنة بالأندلس كان الوالي بمدينة طليطلة وذواتها عبد الرحمن بن منيوه، وأدركته منيته في خلال ذلك، فورث نظره عبد الملك بن عبد الرحمن بن منيوه، فأساء السيرة بالرعية. وكان أهل طليطلة على قديم الدهر أهل فتنة وقيام على الملوك، فلم يرضوا سيرة هذا الفتى فخلعوه، وولوا على أنفسهم من ينظر في أمرهم. ثم إنهم نقموا عليه شيئا فعزلوه، وولوا غيره، ثم خلعوه. ثم رأوا أن يرسلوا إلى ابن ذي النون بشنت مرية، فوجه إليهم ابنه إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذي النون. فاستولى هذا الفتى على ملك طليطلة وبلادها، فساس أهل مملكته السياسة الحسنة.
وكان أكبر أهل طليطلة رجلا يسمى أبا بكر بن الحديدي، وكان شيخها، والمنظور إليه بها من أهل العلم، والعقل والدهاء، وحسن النظر في صلاح البلد. وكان العامة تعضده، وتقوم دونه، فكان هذا الفتى إسماعيل بن ذي النون لا يقطع أمرا دونه، ويشاوره في مهمات أموره، فحسده قوم من أهل طليطلة على منزلته عند أميرهم، فناقشوه وعادوه، وحضرت منية إسماعيل بن ذي النون، فولى بعده ابنه يحيى بن إسماعيل الملقب بالمأمون، ولما ملك يحيى بن ذي النون طليطلة جرى على سيرة أبيه في استعمال قانون العدل، وجرى مع بن الحديدي على سنن أبيه، فاستقامت طاعته، وضخم ملكه. انتهى قلنا ولم يكن القادر بن المأمون على شيء مما كان عليه أبوه فلذلك أضاع تلك البلدة العذراء، والخطة الغراء، وأي ملك أضاع! وأي ثغر مكن منه عدو الإسلام، فتمكن بقدر ما استطاع؟!
ولنذكر هنا ملخصا ما قاله المستشرق لاوي بروفنسال في الإنسيكلوبيدية الإسلامية قال: توليدو، وبالعربي طليطلة، مدينة في أسبانية، موقعها في وسط الجزيرة الأيبيرية على مسافة 91 كيلومترا إلى الجنوب، والجنوب الغربي من مجريط وارتفاعها عن سطح البحر 568 مترا، وهي على أكمة من الصخر، يحيط بها نهر تاجه من الجهات الثلاث، جاريا في واد عميق، يسقي حفافيه إلى الشمال الشرقي، والشمال الغربي، بقعة بديعة مريعة، ومن بعدها ترى بسائط قشتالة الجرداء. وليس في طليطلة اليوم أكثر من 25 ألف نسمة من السكان، إلا أنها لا تزال مركز ولاية، ولا يزال فيها كرسي الأسقف الأعظم برماط أسبانية. وأما موقعها فلا يضاهيه موقع في العظمة.
وقد ذكرها جغرافيو العرب فأطالوا، وقصروا، وجعلها الشريف الإدريسي من إقليم الشارات، وفي زمانه كانت طليطلة انتقلت إلى أيدي الأسبانيول، وإنما نوه الإدريسي بمنعة موقعها، وبحصانة أسوارها، وبالتفاف جناتها التي تجري فيها قني الماء المرفوع بالنواعير.
وممن أطرى طليطلة أبو الفداء الذي ذكر بساتينها، وقال إنه يوجد فيها رمان ذو حجم غير معهود. وقال ياقوت الحموي: إن الحنطة التي تنبتها بقعة طليطلة تبقى سبعين سنة ولا تتعفن، وإن زعفرانها هو بغاية الجودة. وقد ذكر طليطلة المؤرخ الروماني تيتليف وسماها «توليته» وقال: إن الرومانيين استولوا عليها بصعوبة سنة 193 ق.م. وذلك في زمن فولفيوس
Fulvues ، وكانت مدينة زاهرة لعهد الرومان وصار لها شأن عظيم بعد انتشار النصرانية. وفي سنة أربعمائة للمسيح انعقد فيها مجمع أساقفة حضره 19 أسقفا، وفي سنة 418 استولى عليها القوط، وجعلوها حاضرة ملكهم. وفي سنة 567 استقر بها «أتاناجلد» ملك القوط، ولما تنصر ريكاريد سنة 587 عظم شأنها، وصارت عاصمة الكثلكة في أسبانية. وفي طليطلة كان لذريق ملك أسبانية، ويتحدثون أنه فيها شاهد فلورندة ابنة الكونت يوليان صاحب سبتة تغتسل في الحمام، الذي يقال له حمام الكهف، فهام بها، ولما فتح طليطلة طارق بن زياد سنة 82 للهجرة، أو 714 للميلاد، كانت تقريبا خاوية على عروشها، ولم يكن فيها غير نزر من اليهود، ضمهم طارق إلى جيشه. ثم وافاه الجيش الذي كان سرحه لأخذ غرناطة ومرسية. وفي طليطلة جعل مؤرخو العرب ملتقى طارق مع موسى ابن نصير سيده، ولكن موسى لم يتريث في طليطلة، بل ساق منها إلى الشمال قاصدا سرقسطة. وجميع من كتبوا من العرب عن الأندلس ينقلون الأخبار التي كانت شائعة، والتي هي أشبه بالأساطير منها بالحقائق عن الكنوز والأموال التي وجدها العرب في طليطلة عندما فتحوها، وأشهر هذه الأخبار قصة «البيت المغلق في طليطلة» وقد بحث في هذا الموضوع بحثا دقيقا المسيو «ريني باسه»
René Basset
في رسالة ألفها سنة 1898.
ويدور ذكر طليطلة كثيرا في كتب العرب، ولا سيما من بعد استقرار دولة بني أمية في قرطبة، فإن طليطلة لم تكن تطيع قرطبة، وأصبحت مركز عصيان دائم على الدولة، ومما لا شك فيه أن السواد الأعظم من أهلها بعد استيلاء الإسلام عليها لم يتركوا الديانة الكاثوليكية برغم استعرابهم، وأنهم كانوا لا يطيقون حكم المسلمين برغم شدة تسامح هؤلاء، فكانوا لا يدعون فرصة تمر، ولا غرة تلوح، حتى يطغوا ويتمردوا.
وفي طليطلة وجدت الثورة البربرية التي وقعت سنة 122 للهجرة أعظم أنصارها وبجانب طليطلة كانت واقعة وادي السليط التي استأصل فيها جيش قرطبة دابر ثوار طليطلة.
ملاقاة موسى بن نصير مع طارق بن زياد بأرض طليطلة.
ثم إلى طليطلة هذه انهزم يوسف الفهري من وجه عبد الرحمن الداخل، وبقي ممتنعا بها حتى قتل
223
سنة 142، ومن زمن عبد الرحمن الداخل إلى زمن عبد الرحمن الناصر لم تفتر طليطلة يوما واحدا عن المقاومة، وفي سنة 147 ثار فيها هشام بن عذره فرماه عبد الرحمن باثنين من قواده: بدر وتمام بن علقمة اللذين حصرا المدينة،
224
ولما تولى هشام الأول ونازعه أخوه سليمان، ذهب هذا إلى طليطلة، والتزم الأمير هشام أن يذهب ويحاصر طليطلة، وبعد حصار شهرين رجع عنها خائبا. وسنة 181 تولى الحكم بن هشام فثارت عليه أيضا طليطلة بقيادة رجل اسمه عبيدة بن حميد، وكان أكثر من يغري أهل طليطلة بالثورة شاعرهم غربيب، الذي كانوا يحبونه
225
حبا جما، فولي الأمير الحكم على طليطلة مولدا أصله من وشقه، اسمه عمروس، وكان اتفق مع الأمير أن يأخذ أهل طليطلة في شرك يوقعهم فيه، وذلك أنه دعاهم وقتلهم جميعا، في الواقعة المسماة بواقعة الحفرة
226 (سنة 191) ولكن لم يمض أكثر من عشر سنوات على هذه الواقعة حتى ثارت طليطلة مرة أخرى، وذلك سنة 199 فزحف إليها الأمير الحكم بنفسه، ودخل البلدة، وأحرق الجانب الأعلى منها، ثم في سنة 214 وفق 829، ثارت طليطلة أيضا بتحريض مولد اسمه هاشم الغراب، فاستمرت الفتنة سنتين إلى أن سكنت. وفي زمن عبد الرحمن الثاني ثارت أيضا فأرسل إليها جيشا بقيادة الأمير أمية، وكان ذلك بعد الفتنة السابقة بخمس سنوات لا غير.
ثم في السنة التي بعدها حصر الأمير طليطلة حصارا استمر عدة أشهر، ثم أخذها عنوة في عام 222 ولم يرجع عنها حتى أخذ منها رهائن بقيت في قرطبة إلى سنة 238 ولكن في هذه السنة نفسها عند ولاية الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم رفعت طليطلة لواء العصيان، وعزل أهلها الوالي العربي الذي عندهم وزحفوا بجيش هزم جيش الأمير محمد في اندوجر سنة 239، ولما كانوا يتوقعون زحف الجيوش إليهم من قرطبة تحالفوا مع «أوردونوه» الأول ملك ليون الذي أمدهم بجيش من عنده، ولكن الجيش الأموي تغلب عليهم وقتل منهم عشرين ألفا.
وسنة 244 قوب الأمير محمد تحت جسر طليطلة بينما كتائب الجند فوق القنطرة، فوقعت وهلكوا جميعا، فاضطر الطليطليون إلى الخضوع، ولكن على صورة دفع جزية سنوية، وتمتعهم باستقلالهم الداخلي.
وبقيت الحال على هذا المنوال إلى زمن الخليفة الناصر، فلما انتهى من إخضاع جميع الثائرين أرسل إلى طليطلة جماعة من الفقهاء، ليبلغ أهلها بأن استقلالهم الداخلي غير مقبول. فنصح الفقهاء لهم، فذهب نصحهم بدون فائدة فزحف الخليفة إلى طليطلة بنفسه بجيش جرار، وخيم على الجبل المقابل لطليطلة، وأصر وصمم على أن لا يبرح مكانه حتى يفتحها.
ثم جعل يبني في المخيم بالحجر، وأقام سوقا، وسمي المخيم مدينة الفتح. ودام الحصار إلى سنة 320، وفق 932، فاضطر الطليطليون إلى الاستسلام. وجعل فيها الناصر حامية أموية، وصارت مركزا للثغر الأوسط.
وكان والي طليطلة معدودا من أكابر رجال الديوان، فتولاها محمد بن عبد الله بن حدبر، ثم القائد أحمد بن يعلى.
وفي زمن الحكم المستنصر بن الناصر تولاها غالب بن عبد الرحمن الناصري، حمو الحاجب المنصور بن أبي عامر.
ولما نشبت في قرطبة الفتن التي أفضت إلى سقوط دولة بني أمية، لم تستفد طليطلة من تلك الحوادث، كما كانت تفعل قبل ذلك ، وكانت على مدة سنين مقرا للقائد واضح، وملجأ لمحمد بن هشام بن عبد الجبار، ولكن لما انقسمت الأندلس إلى ممالك صغيرة صارت طليطلة مملكة مستقلة يليها ينو ذي النون.
وكان بنو ذي النون من زعماء البربر خدموا المنصور بن أبي عامر، وكانوا في شنته مرية.
227
فلما سقطت الخلافة في قرطبة أرسل أهل طليطلة إلى عبد الرحمن ابن ذي النون يعرضون عليه ولاية بلدهم، فأرسل إليهم ابنه إسماعيل، فتولى طليطلة وملحقاتها، واعتمد على أحد أعيانها أبي بكر بن الحديدي. وذهب بعض مؤرخي العرب إلى أن بعد سقوط الخلافة لم يكن ابن ذي النون أول أمير لطليطلة، بل سبقه ابن مسرة، ومحمد بن يعيش الأسدي، وولده أبو بكر يعيش. وذكروا أيضا سعيد ابن شنظير، وولده أحمد وعبد الرحمن بن منيوه وولده عبد الملك. وعلى أن بداية حكم ابن ذي النون كانت سنة 427 وفق 1035 إلى 1036، فتلقب ابن ذي النون بالظافر. وكانت وفاته سنة 435، وخلفه ابنه يحيى، وتلقب بالمأمون. ولما مات يحيى سنة 467 كانت المملكة الطليطلية قد عظمت واتسعت، فخلفه حفيده يحيى بن إسماعيل بن يحيى، الذي تلقب بالقادر، ولم يكن في هذا شيء من حسن تدبير جده ولا من دهائه. فأخذت مملكة طليطلة بالانحطاط، وفارقه جميع حلفاء جده من أمراء الإسلام، فانفرد وأحس بالضعف، والتزم أن يلجأ إلى الأذفونش السادس صاحب قشتالة وليون، فرضي الأذفونش بأن يحميه لكن على شرط أن يؤدي إليه إتاوة سنوية كان الأذفونش يزيدها سنة عن سنة. فاضطر القادر إلى أن يزيد الضرائب على أهل مملكته، فثاروا به فتقبض على كثير من أعيانهم، وأوقع بهم، ومن جملتهم وزيره ابن الحديدي، فازداد بذلك غضب الطليطليين، حتى فر القادر من طليطلة، وبايع أهلها المتوكل ابن الأفطس صاحب بطليوس الذي تولاها سنة 472.
تسليم طليطلة لعبد الرحمن الثاني سنة 838م.
فلما زحف إليها الأذفونش السادس بحجة أنه يريد حفظها لابن ذي النون كان ذلك خداعا منه، ودخلها في 27 محرم سنة 478، وفق 25 مايو سنة 1085 وكان قد أجبر القادر على عقد معاهدة معه يتخلى له بها عن المملكة، فكانت مرحلة شاسعة من مراحل استرداد المسيحيين للأندلس.
وحصل لأخذ طليطلة وقع عظيم في النصرانية وعند المسلمين أيضا. وكانت هذه الواقعة سبب غارة المرابطين في السنة التالية. إلا أنه مع ظفر يوسف بن تاشفين، والأيام التي أدالها الله للموحدين بعد المرابطين في جزيرة الأندلس، لم يتمكن المسلمون من استرجاع طليطلة، ولبثوا يحاصرونها حينا بعد حين، فقد حصروها مرة في زمن الأذفونش السادس نفسه، ومرة أخرى في زمن سلطان الموحدين أبي يوسف يعقوب المنصور، وذلك سنة 592، وفق 1195، وكان المنصور يعقوب استرجع في هذه الغزاة قلعة رباح، ووادي الحجارة، ومجريط، على أثر واقعة الأرك،
228
التي كانت للمسلمين على النصارى،
229
إلا انه بعد واقعة نافاس طولوزه (المسماة عند العرب بالعقاب) في 16 يوليو سنة 1212، لم يبق أدنى أمل للإسلام في استرجاع طليطلة.
ولما رجعت طليطلة مسيحية، وصارت عاصمة قشتالة، بقيت حافظة مسحة إسلامية راسخة، فإن قسما من أهلها لبثوا مسلمين، فكما أنها كنت مدينة الموزاراب أي الأسيان المستعربين في دولة الإسلام، كانت أيضا مدينة المورسك أي المسلمين المدجنين في دولة النصارى. ومن الغريب أنه لم يبق آثار كثيرة في هذه البلدة للمسلمين عن إقامتهم الطويلة بها، وكل ما بقي هو آثار جامع صغير في بيب
230
مردوم هو الذي تحول إلى كنيسة باسم كنيسة مسيح النور، وكذلك وجد في طليطلة من بقايا الإسلام بعض أقسام من قصر «تورنيرياس»،
231
ومن الباب القديم المسمى بباب شقره.
232
ولكنه وجد كثير في الأرباض من قبور المسلمين التي عليها كتابات عربية.
233
وختم لاوي بروفنسال هذا الفصل في الإنسيكلوبيدية الإسلامية بقوله:
برغم أن طليطلة كانت ثغرا، وكان فيها عناصر عظيمة من النصرانية، فقد كانت لآخر عهد بني أمية، وفي أيام المأمون بن ذي النون، من القواعد الكبرى للثقافة الإسلامية في الأندلس، وإن كثيرا من التراجم والسير لتتعلق بعلماء وحكماء وفقهاء من مسلمي طليطلة. انتهى.
وجاء في الإنسيكلوبيدية الإسلامية تحت لفظة «أندلس» بقلم المستشرق سيبولد كلام قال فيه:
إلى الآن لم يتيسر القيام بتحقيق علمي تام عن كيفية تأثير المدنية الأسبانية العربية بأوروبا في القرون الوسطى، وإلى أية درجة بلغ هذا التأثير. فهذا الأمر يتعلق بالبحث عن دار الترجمة التي كانت بطليطلة، وهي الواسطة التي قام بها أدباء اليهود بين الشرق والغرب، وكان هؤلاء اليهود بأجمعهم منسوبين إلى الثقافة العربية. انتهى.
وجاء في صبح الأعشى للقلقشندي: أن موقع طليطلة في آخر الإقليم الخامس قال ابن سعيد: حيث الطول خمس عشرة درجة وثلاثون دقيقة، والعرض ثلاث وأربعون درجة وثمان عشرة دقيقة، قال في تقويم البلدان: وهي من أمنع البلاد وأحصنها، مبنية على جبل عال، والأشجار محدقة بها من كل جهة، ويصير بها الجلنار بقدر الرمانة من غيرها، ويكون بها شجر الرمان عدة أنواع، ولها نهر يمر بأكثرها، ينحدر من جبل الشارة، من عند حصن هناك يقال له تاجه، وبه يعرف نهر طليطلة. ومنها إلى نهاية الأندلس الشرقية، عند الحاجز الذي هو جبل البرت، نحو نصف شهر. وكذلك إلى البحر المحيط بجهة شلب. ثم ذكر القلقشندي من مضافات طليطلة مدينة وليد،
234
ومدينة الفرج،
235
ومدينة سالم،
236
التي فيها قبر المنصور بن أبي عامر.
بقي علينا أن نذكر قضية المائدة التي يقال إن طارق بن زياد وجدها في طليلطة عند فتحها، وأطال مؤرخو العرب في وصفها، وهاموا في أودية الخيال، وقالوا ما ليس وراءه مقال، وسموها مائدة سليمان، وزعموا أنها كانت من ذخائر أشبان، ملك الروم لدى بني أشبيلية، وأنه أخذها من بيت المقدس. وقالوا إن هذه المائدة قومت عند الوليد بن عبد الملك بمائة ألف دينار، وقيل إنها كانت من زمرد أخضر. وقالوا إن طارقا وجد بطليطلة ذخائر عظيمة، منها مائة وسبعون تاجا من الدر والياقوت والأحجار النفيسة، وإيوان ممتلئ من أواني الذهب والفضة، وهو كبير، حتى قيل إن الخيل تلعب فيه فرسانها برماحهم لوسعه. وذكروا أن أواني المائدة من الذهب، وصحافها من اليشم والجزع، قال المقري في نفح الطيب بعد سرده هذه الأشياء: وذكروا فيها غير هذا مما لا يكاد يصدقه الناظر فيه.
قلنا: هذه أخبار أشبه بالأساطير، وحكايات العجائز منها بالتواريخ ، وقد كان مؤرخونا رحمهم الله في غنى عن نقل كل ما تلوكه ألسن العوام الذين يتكلمون بقدر عقولهم، وكلما بعد الزمان أو المكان ازدادت المبالغة في الخبر. ورحم الله ابن خلدون الذي عاب على المؤرخين تسوقهم من الأخبار كيفما اتفقت، بدون تمحيص ولا تفكير وبدون عرض الأشياء على أصولها، ولا قياسها بأشباهها، وأطال في هذا الموضوع. وكان حجة للعرب في أمر التحقيق.
والحقيقة التي لا مفر منها أن من عادة مؤرخي العرب، إلا من رحم ربك، نقل الغث والسمين بدون أن يأذنوا لأنفسهم في الاعتراض على ما يكونون هم أنفسهم مرتابين في صحته، وذلك تورعا عن تكذيب من قبلهم، وبحجة أن هذه المرويات قد تكون صحيحة، وأن هذا العالم هو عالم الإمكان، فليس ثمة شيء مستحيل، وأن قدرة الله تعالى لا يعجزها شيء، وما أشبه ذلك من التعليلات.
والجواب: نعم إن قدرة الله تعالى لا يعجزها شيء، وأن هذه الروايات وأغرب منها بكثير غير خارج عن حيز الإمكان، ولكن هذا شيء والذي نحن فيه شيء آخر، فعدم خروج الغرائب عن حيز الإمكان لا يوجب أن يكون كل ما يروى منها صحيحا، إذا لم توجد له أسانيد لا يتطرق إليها شك، وحجج لا يمكن فيها النزاع. والحال أنه في ما يروى عن هذه المائدة التي قيل أن العرب وجدوها في طليطلة، لا توجد إثبات تحمل على الجزم بصحتها، وقد يكون طارق وجد في عاصمة القوط هذه بعض ذخائر ونفائس، مما لا تخلو منه عواصم الملوك، وربما وجد مائدة مرصعة بالدرر واليواقيت، وهذا عند الملوك شيء معتاد، وقد قيل: عن الملوك ولا تسل، ولكن العوام جعلوا الواحد مئة، وواصلوا المسألة إلى الحد الذي يتخيل فيه الإنسان قصص ألف ليلة وليلة.
وأما الإفرنج فقد تكلموا عن هذه الروايات فحملوها على الخيالات، وعدوها من المحالات، وهذا أيضا مردود لأن عاصمة كعاصمة أسبانية يجوز أن يجد فيها الفاتح من ذخائر ملك القوط حجارة كريمة ، وتيجانا مرصعة، ومائدة من الذهب والفضة ويجوز أيضا أن يطأ إيوانا واسعا مموهة أطرافه بالذهب، وإن كانت الفرسان لا تلعب فيه بأرماحها.
وأما طول قنطرة طليطلة وعرضها، وأن الطول ثلاثمائة باع، وأن العرض ثمانون باعا، فهو من المبالغات التي تتناقلها العوام بدون روية، ولعلها من خطأ النساخ الذين نقلوا نفح الطيب.
أما ابن حوقل في المسالك والممالك فيقول عن طليطلة: وهي مدينة كبيرة جليلة مشهورة ذات سور منيع، وهي على وادي تاجه، وعليه قنطرة عظيمة، ويقال أن طولها خمسون باعا، الخ، فظهر من هنا اختلاف الراوية من ثلاثمائة إلى خمسين، على أن المقري في النفح يروي أن هذه القنطرة قد خربت أيام الأمير محمد الأموي، لما عصاه أهل طليطلة، وقال فيها الحكيم عباس بن فرناس أول من اخترع آلة للطيران:
ما كان يبقي الله قنطرة
نصبت لحمل كتائب الكفر
والأمير محمد قد توفي سنة 273، وابن حوقل كتب كتابه هذا في الثلث الأول من القرن الرابع للهجرة، أي بعد وفاة الأمير محمد الأموي بستين أو سبعين سنة، فتكون القنطرة الشهيرة الموصوفة قد خربت، وقام مقامها القنطرة الحديثة، التي يقول ابن حوقل أن طولها خمسون باعا فهل بين القنطرتين كل هذا الفرق؟ وعلى كل حال لا نجد القنطرة الحاضرة على تلك العظمة التي حدثوا عنها، فهي قنطرة كبيرة بجانبها أخرى صغيرة أصلها من بناء العرب، ثم تشعثت في زمن الأذفونش الملقب بالحكيم فأصلحها. ثم جددها تينوريوه رئيس الأساقفة.
وجاء في مروج الذهب للمسعودي عن طليطلة قوله: قصبة الأندلس يشقها نهر عظيم يدعى تاجه: يخرج من بلاد الجلالقة والوسقيد (Basque)
وهي أمة عظيمة لهم ملوك وهم حرب لأهل الأندلس كالجلالقة والإفرنجة، ويصب هذا النهر في البحر الرومي.
هذا تحريف من النساخ أو هو سهو من المسعودي نفسه، لأن نهر تاجه مصبه في البحر الأطلانتيكي وهو موصوف بأنه من أنهار العالم، وعليه على بعد من طليطلة قنطرة عظيمة تدعى قنطرة السيف، بنتها الملوك السالفة.
ومدينة طليطلة ذات منعة، وعليها أسوار منيعة، وأهلها بعد أن فتحت وصارت لبني أمية قد كانوا عصوا على الأمويين، فأقامت مدة سنين ممتنعة، لا سبيل للأمويين إليها. فلما كان بعد الخمس عشرة وثلاثمائة فتحها عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ابن مروان ابن الحكم، وعبد الرحمن هذا هو صاحب الأندلس في هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وقد كان غير كثيرا من بنيان هذه المدينة حين افتتحها وصارت دار مملكة الأندلس قرطبة إلى هذا الوقت ... (إلى أن يقول): ولهم من المدن الموصوفة نحو من أربعين مدينة، وتدعى بنو أمية الخلائف، ولا يخاطبون بالخلفاء، لأن الخلافة لا يستحقها عندهم إلا من كان مالكا للحرمين، غير أنه يخاطب بأمير المؤمنين. ا.ه.
قلت: ذكر هذا المسعودي في زمن عبد الرحمن الناصر، ويظهر أنه كتبه قبل أن علم أن الناصر رحمه الله تلقب في آخر الأمر بالخليفة، وبأمير المؤمنين معا. وذلك بعد أن توحدت الجزيرة الأندلسية تحت حكمه، وامتد سلطانه إلى بر العدوة، وكان قد بدأ الضعف في دولة بني العباس في بغداد.
وربما يكون الناصر لم يكن اشتهر تلقبه بالخلافة في سنة 332 التي كتب المسعودي فيها كتابته هذه فإن وفد قسطنطين بن ليون ملك القسطنطينية إلى الناصر، كان في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، على رواية ابن خلدون، أو سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، على رواية غيره، وقد خاطب فيه صاحب القسطنطينية المذكور عبد الرحمن الثالث الأموي الناصر لدين الله بقوله:
العظيم الاستحقاق للفخر، الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة، الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه.
وفي الاحتفال الذي جرى عند وصول سفراء ملك الروم وتكلم فيه القاضي المفوه المشهور، منذر ابن سعيد البلوطي، كان من جملة كلامه في ذلك الجمع: فأصبحتم بنعمته إخوانا ويلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات. (إلى أن يقول): فقد أصبحتم بين خلافة أمير المؤمنين، أيده الله بالعصمة والسداد، وألهمه خالص التوفيق إلى سبيل الرشاد، أحسن الناس حالا، وانعمهم بالا، وأعزهم قرارا، وأمنعهم دارا الخ.
فمن هنا يظهر أن لقبي الخليفة وأمير المؤمنين كانا في ذلك الوقت مستعملين بحق عبد الرحمن الناصر، وإذا رجعنا إلى رواية النفح نجد أن الناصر تلقب بهما من قبل ذلك، فإنه يقول في صفحة 165 من الجزء الأول، الطبعة المصرية الأولى، ما يلي:
وهو أول من تسمى من بني أمية بالأندلس بأمير المؤمنين، عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق، واستبد موالي الترك على بني العباس، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر وملاه سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فتلقب بألقاب الخلافة. انتهى.
وفي بغية الملتمس لابن عميرة:
أن موسى بن نصير لما فتح الأندلس، مضى على وجهه يفتتح المداين، حتى انتهى إلى مدينة طليطلة. وهي مدينة الملوك، فوجد فيها بيتا يقال له بيت الملوك، وجد فيه خمسة وعشرين تاجا مكللة بالدر والياقوت، وهي على عدد الملوك الذين ملكوها، كلما مات ملك جعل تاجه في ذلك البيت، وكتب على التاج اسم صاحبه، وكم أتى عليه من الدهر إلى يوم مات. انتهى.
فهنا خمسة وعشرون تاجا لا غير.
وأما في نفح الطيب فقد ذكر في الجزء الأول في الصفحة 135 أنه وجد في طليطلة مائة وسبعون تاجا من الذهب الأحمر، مرصعة بالدر وأصناف الحجارة الثمينة، ووجد فيها ألف سيف ملوكي، ووجد فيها من الدر والياقوت أكيال، ومن الذهب والفضة ما لا يحيط به وصف. ومائدة سليمان، وكانت فيما يذكر، من زمردة خضراء وزعم بعض العجم أنها لم تكن لسليمان،
237
وإنما أصلها أن العجم أيام ملكهم كان أهل الحسنة في دينهم، إذا مات أحد منهم، أوصى بمال للكنائس، فإذا اجتمع عندهم مال له قدر، صاغوا منه الآلة من الموائد العجيبة، والكراسي من الذهب والفضة، تحمل الشمامسة والقسوس، فوقها الأناجيل في أيام المناسك، ويضعونها في الأعياد للمباهاة. فكانت تلك المائدة في طليطلة مما صنع في هذا السبيل، وتأنق الملوك في تحسينها، يزيد الآخر منهم فيها على الأول، حتى برزت على جميع ما اتخذ من تلك الآلات، وطار الذكر بها كل مطار. وكانت مصوغة من الذهب الخالص، مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد. وقيل إنها من زبرجدة خضراء، حافاتها وأرجلها منها، وكان لها ثلاثمائة وخمس وستون رجلا، وكانت توضع في كنيسة طليطلة، فأصابها طارق. ا.ه.
قال المقري: وقد ذكرنا فيما مر عن ابن حيان ما فيه نظير هذا، وذكرنا فيما مضى من أمر المائدة وغيرها ما فيه بعض تخالف. وما ذلك إلا لأنا ننقل كلام المؤرخين، وإن خالف بعضهم بعضا، ومرادنا تكثير الفوائد.
وبالجملة فالمائدة جليلة المقدار، وإن حصل الخلاف في صفتها، وجنسها، وعدد أرجلها. وهي من أجل ما غنم بالأندلس، على كثرة ما حصل فيها من الغنائم.
هوامش
1 - من نبغ في طليطلة من الحكماء والفقهاء والأدباء
2 - طلبيرة
3 - قشبرة
4 - أقليش
5 - قونكة
6 - البسيطة
7 - شنتجالة
8 - مكادة
9 - قلعة عبد السلام
10 - بالنسية
11 - ليون
12 - طلمنكة
13 - زمورة
14 - أشتوريش وجليقية
15 - كورونية
16 - شنت ياقب
17 - أراغون ونبارة
18 - وادي الحجارة1
19 - من انتسب من العلماء إلى وادي الحجارة
20 - مدينة سالم
21 - من انتسب من أهل العلم إلى مدينة سالم
22 - الحمة
23 - قلعة أيوب
24 - من نبغ من أهل العلم من أهل قلعة أيوب
25 - من نبغ من أهل العلم من مدينة دورقة
26 - ترول
27 - شنتمرية ابن رزين
28 - من نبغ من أهل العلم في شنتمرية ابن رزين
29 - سلسلة جبال البرانس
30 - سرقسطة أو الثغر الأعلى وبنبلونة
31 - من انتسب إلى سرقسطة من أهل العلم
32 - تطيلة
33 - من انتسب إلى تطيلة من أهل العلم
34 - طرسونة
35 - من انتسب إلى وشقة من أهل العلم
36 - كتلونية
37 - مراسلات سلطانية
38 - تقسيمات كتلونية الإدارية
39 - طركونة
40 - برشلونة
41 - جيرونة أو جيروندة
42 - تابع للوثائق التاريخية
43 - السلطان
1 - من نبغ في طليطلة من الحكماء والفقهاء والأدباء
2 - طلبيرة
3 - قشبرة
4 - أقليش
5 - قونكة
6 - البسيطة
7 - شنتجالة
8 - مكادة
9 - قلعة عبد السلام
10 - بالنسية
11 - ليون
12 - طلمنكة
13 - زمورة
14 - أشتوريش وجليقية
15 - كورونية
16 - شنت ياقب
17 - أراغون ونبارة
18 - وادي الحجارة1
19 - من انتسب من العلماء إلى وادي الحجارة
20 - مدينة سالم
21 - من انتسب من أهل العلم إلى مدينة سالم
22 - الحمة
23 - قلعة أيوب
24 - من نبغ من أهل العلم من أهل قلعة أيوب
25 - من نبغ من أهل العلم من مدينة دورقة
26 - ترول
27 - شنتمرية ابن رزين
28 - من نبغ من أهل العلم في شنتمرية ابن رزين
29 - سلسلة جبال البرانس
30 - سرقسطة أو الثغر الأعلى وبنبلونة
31 - من انتسب إلى سرقسطة من أهل العلم
32 - تطيلة
33 - من انتسب إلى تطيلة من أهل العلم
34 - طرسونة
35 - من انتسب إلى وشقة من أهل العلم
36 - كتلونية
37 - مراسلات سلطانية
38 - تقسيمات كتلونية الإدارية
39 - طركونة
40 - برشلونة
41 - جيرونة أو جيروندة
42 - تابع للوثائق التاريخية
43 - السلطان
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الثاني)
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الثاني)
تأليف
الأمير شكيب أرسلان
الفصل الأول
من نبغ في طليطلة من الحكماء والفقهاء والأدباء
أحمد بن محمد بن داود التجيبي، يكنى أبا القاسم، توفي سنة 383. وأحمد بن سهل بن محسن الأنصاري المقرئ، المكنى بأبي جعفر، المعروف بابن الحداد، له رحلة إلى المشرق، توفي في شهر رمضان سنة 389. وأحمد بن محمد بن الحسن المعافري، توفي سنة 393، أو في السنة التي بعدها. وأحمد بن محمد بن محمد بن عبيدة الأموي، يعرف بابن ميمون، يكنى أبا جعفر، صاحب أبي إسحاق بن شنظير، ونظيره في الجمع والإكثار والملازمة معا، والسماع جميعا، رحل إلى المشرق سنة 380 مع صاحبه أبي إسحاق، فحج معه، وسمع بمكة، والمدينة، ووادي القرى، ومدين، والقلزم، وغيرها، ثم عاد إلى طليطلة واستوطنها، ورحل الناس إليه بها، والتزم الرباط بالفهمين
1
منها، وكانت له أخلاق كريمة، وآداب حسنة، من الفضل والزهد والورع، وجمع كثيرا من الكتب، وكان أكثرها بخط يده. قال ابن بشكوال: وكانت منتخبة، مضبوطة، صحاحا، أمهات، لا يدع فيها شبهة مهملة. وكانت كتبه وكتب صاحبه إبراهيم بن محمد أصح كتب بطليطلة، وتوفي يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان سنة 400 ودفن بحومة باب شاقره
2
بربض طليطلة، وصلى عليه صاحبه أبو إسحاق بن شنظير وكانت ولادته سنة 353.
وأبو عمر أحمد بن محمد بن وسيم، كان فقيها متفننا، شاعرا لغويا نحويا، غزا مع محمد بن تمام إلى مكادة، فلما انهزموا هرب إلى قرطبة، فاتبعه أهل طليطلة في ولاية واضح، وظفروا به فصلبوه، فقال حينئذ: كان ذلك في الكتاب مسطورا وجعل يقرأ سورة ياسين حتى سقط من الخشبة. قال ابن حيان في تاريخه: صلب ابن وسيم في رجب سنة 401.
وأحمد بن محمد بن فتحون الأموي، كان نبيلا، توفي سنة 407. وأحمد بن خلف بن أحمد المعافري، يكنى أبا عمرة، ويعرف بابن القلاباجة، روى عن عبدوس بن محمد، وعن محمد بن إبراهيم الخشني، وكان من أهل العلم والدين، يستظهر موطأ مالك وأحمد بن سعيد بن كوثر الأنصاري، يكنى أبا عمر، كان فقيها متفننا، كريم النفس، أخذ عن علماء طليطلة، وأجاز له جماعة من شيوخ قرطبة. حدث عبد الله بن سعيد بن أبي عون قال: كنت آتي إليه من قلعة رباح وغيري من الشرق وكنا نيفا على أربعين تلميذا، فكنا ندخل في داره في شهر نوفمبر ودوجمبر (ديسمبر) وينير(يناير)
3
في مجلس قد فرش ببسط الصوف مبطنات والحيطان باللبود ووسائد الصوف، وفي وسطه كانون في طول قامة الإنسان مملوء فحما، يأخذ دفئه كل من في المجلس، فإذا فرغ الحزب أمسكهم جميعا، وقدمت الموائد عليها ثرائد بلحوم الخرفان، بالزيت العذب، وأيام ثرائد اللبان في السمن أو الزبد. فكان ذلك منه كرما وجودا وفخرا، ولم يسبقه أحد من فقهاء طليطلة إلى تلك المكرمة. وولي أحكام طليطلة مع يعيش بن محمد، ثم استثقله ودبر على قتله، فذكر أن الداخل عليه ليقتله ألقاه وهو يقرأ في المصحف، فشعر أنه يريد قتله، فقال له: قد علمت الذي تريد، فاصنع ما أمرت. فقتله، وأشيع في الناس أنه مرض ومات. وذكر ابن حيان غير هذا، وهو أنه مات معتقلا بشنترين مسموما سنة 403 رحمه الله.
وأحمد بن عبد الله بن شاكر الأموي، يكنى أبا جعفر، كان معلما بالقرآن، توفي سنة 424. وأحمد بن يحيى بن حارث الأموي، يكنى أبا عمر، وكان ميله إلى الحديث والزهد والرقائق، وكان ثقة. وأحمد بن إبراهيم بن هشام التميمي أبو عمر، كان معظما عند الخاصة والعامة، توفي في سنة 430. وأحمد بن حية، كان فاضلا متواضعا حافظا توفي في شعبان سنة 439. وأحمد بن عبد الله بن محمد التجيبي، المعروف بابن المشاط، يكنى أبا جعفر، كان ثقة زاهدا، غلبت عليه العبادة. وأحمد بن محمد بن يوسف بن بدر الصدفي، أبو عمر، كان زاهدا عابدا، توفي في ذي القعدة سنة 441. وأحمد بن قاسم بن محمد بن يوسف التجيبي أبو جعفر، يعرف بابن ارفع رأسه، كان رأسا في الفقه، وشاعرا مطبوعا، بصيرا بالحديث، وكانت له حلقة في الجامع، وتوفي ليلة عاشوراء سنة 443. وأحمد بن سعيد بن أحمد بن الحديدي التجيبي، يكنى أبا عباس له رحلة إلى المشرق، حج فيها، وله أخلاق كريمة، توفي سنة 446. وأحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن صاعد بن وثيق بن عمان التغلبي، قاضي طليطلة، يكنى أبا الوليد، استقصاه المأمون بن ذي النون، وكان مجتهدا في قضائه صليبا في الحق، صارما في أموره كلها، متبركا بالصالحين، توفي قاضيا لخمس باقين من رمضان سنة 449.
وأحمد بن يوسف بن حماد الصدفي، أبو بكر، يعرف بابن العواد، كان معلما بالقرآن، حسن الضبط، ورعا؛ توفي سنة 449. وأحمد بن يحيى بن أحمد بن أحمد بن سميق بن محمد بن عمر بن واصل بن حرب بن اليسر بن محمد بن علي، قال ابن بشكوال: كذا ذكر نسبه رحمه الله، وذكر أن أصلهم من دمشق من إقليم الغدير(؟) يكنى أبا عمر، من أهل قرطبة، سكن طليطلة وتوفي بها في حدود الخمسين وأربعمائة.
وكان خروجه عن قرطبة في أثناء الفتنة، فولاه أبو عمر بن الحذاء قاضي طليطلة أحكام القضاء بطلبيزة، فسار فيهم بأحسن سيرة، وعني بالحديث، وكان مشاركا في عدة علوم، وكان متهجدا بالقرآن، له منه حزب بالليل، وحزب بالنهار. وكان ملتزما لداره، لا يخرج منها إلا للصلاة أو لحاجة. وكان يختلف إلى غلة، له بحومة المترب، يعمرها بالعمل ليعيش منها.
وأحمد بن محمد بن عمر الصدفي، المعروف بابن أبي جنادة، المكنى بأبي عمر، كان من أهل العلم والعمل، صواما قواما، منقبضا عن الناس، فارا بدينه، ملازما لثغور المسلمين، توفي في شوال سنة 450، وصلى عليه تمام بن عفيف، وحضر جنازته المأمون بن ذي النون ملك طليطلة. وأحمد بن مغيث بن أحمد بن مغيث الصدفي، المكنى بأبي جعفر، من جلة علماء طليطلة، بلغ الرئاسة في العلم والحديث وعلمه، واللغة، والنحو، والتفسير، والفرائض، والحساب، وعقد الشروط. له فيها كتاب سماه المقنع، وكان كلفا بجمع المال، توفي في صفر سنة 459.
وأحمد بن محمد بن مغيث الصدفي، له رحلة إلى المشرق، وكان يحفظ صحيح البخاري، ويعرف رجاله، وكان يفضل الفقر على الغنى، مات في منسلخ رمضان سنة 459،
4
وصلى عليه القاضي أبو زيد الحشا. وأحمد بن سعيد بن غالب الأموي المكنى أبا جعفر، المعروف بابن اللورانكي، كان فقيها في المسائل مشاركا في الحديث والتفسير، أديبا، فرضيا، لغويا، توفي في شوال سنة 469 وصلى عليه عبد الرحمن بن المغيث.
وأحمد بن محمد بن أيوب بن عدل، المكنى أبا جعفر، كان متوليا الصلاة والخطبة بجامع طليطلة، وكان من أهل الصلاح والعفاف، توفي في ربيع الآخر سنة 478، أي بعد سقوط طليطلة، لأنها سقطت في محرم، وقيل في صفر من تلك السنة. وأحمد بن يوسف بن أصبغ بن خضر الأنصاري، أبو عمر، كان ثقة بصيرا بالحديث والتفسير، عالما بالفرائض؛ رحل إلى المشرق وحج، ثم تولى القضاء بطليطلة ثم صرف عنه، وتوفي بقرطبة سنة 480. قال ابن بشكوال: إنه وجد على قبره بمقبرة أم سلمة أنه توفي في شعبان سنة 479. وأحمد ابن بشر الأموي، وكان نبيلا وقورا، عاقلا، انتقل من طليطلة إلى سرقسطة وبقي بها إلى أن توفي سنة 485. وأحمد بن عبد الرحمن بن مطاهر الأنصاري، أبو جعفر، لقي كثيرا من الشيوخ وأخذ عنهم وكان بصيرا بالمسائل، مولعا بحفظ الآثار، وتقييد الأخبار، وله كتاب في تاريخ فقهاء طليطلة وقضاتها، وقد نقل عنه ابن شكوال أكثر التراجم التي سبقت ونحن هنا نقلناها تلخيصا عن ابن بشكوال، وتوفي بطليطلة في أيام النصارى سنة 489. وأحمد بن إبراهيم بن قزمان المكنى أبا بكر، أخذ عن أبي بكر بن الغراب، وأبى عمرو السفاقسي، وحدت عنه أبو حسن بن الألبيري، وإبراهيم ابن إسحاق الأموي المعروف بابن أبي زود، كنيته أبو إسحاق، توفي في رمضان سنة 382. وإبراهيم بن محمد بن أشبح الفهمي، كان متفننا عارفا باللغة العربية والفرائض والحساب ، وشوور في الأحكام، وتوفي في شعبان سنة 448، وصلى عليه أحمد بن مغيث، وحضر جنازته المأمون. وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي عمر، كان صالحا، وقورا عاقلا، توفي في صفر سنة 451، نقل ذلك ابن شكوال عن ابن مطاهر. وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حسين بن شنظير الأموي، صاحب أبي جعفر بن ميمون الذي سبق ذكره، وكانا معا كفرسي رهان في العناية الكاملة بالعلم والبحث عن الروايات. أخذا العلم معا عن مشيخة طليطلة، ثم رحلا إلى قرطبة، فأخذا عن مشيختها، وسمعا بسائر بلاد الأندلس، ثم رحلا إلى المشرق، فسمعا معا وكانا لا يفترقان. وكان السماع عليهما معا، وكانت إجازتهما بخطهما لمن سألهما ذلك معا. وكان لهما حلقة في المسجد الجامع. ورحل الناس إليهما من الآفاق، ولما توفي أحمد بن محمد بن ميمون انفرد أبو إسحاق بن شنظير بالمجلس، وكان فاضلا ناسكا، صواما، قواما، ورعا، كثير التلاوة لكتاب الله، ما رؤي أزهد منه في الدنيا، ولا أوقر مجلسا. كان لا يذكر في مجلسه شيء من أمور الدنيا إلا العلم، ولم يكن يجرأ أحد أن يضحك بين يديه.
قال ابن مطاهر: إنه توفي سنة 401، ودفن بربض طليطلة. ونقل ابن شكوال عن أبي إسحاق إبراهيم بن وثيق أنه سمع أبا إسحاق إبراهيم بن شنظير يقول: ولدت سنة 352، سنة غزاة الحكم أمير المؤمنين. وكانت وفاته ليلة الخميس من سنة 402، وقال: هذا أصح من الذى ذكره ابن مطاهر. وأيضا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن شنظير الأموي، كان من أهل العلم والدين، اختصر المدونة، والمستخرجة، وكان يحفظها ظاهرا، ويلقي المسائل من غير أن يمسك كتابا، قال ابن بشكوال: وكان قد شرب «البلاذر» انتهى.
قلت: ورد في ترجمة أحمد بن يحيي بن جابر البغدادي المؤرخ الشهير بالبلاذري أنه تناول بغير قصد كمية من حب البلاذر، أثرت في فكره تأثيرا عظيما، حتى كانت تقع له نوبات جنون إلى أن مات. وهو صاحب تاريخ فتوح البلدان، من أجل التواريخ قدرا.
وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن وثيق، أخذ عن أبي إسحاق بن شنظير، وصاحبه أبي جعفر بن ميمون، وكان ثقة. وإسماعيل بن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي الحارث التجيبي، وكان رجلا صالحا، توفي سنة 444. وأبو إبراهيم إسحاق بن محمد بن مسلمة الفهري، أخذ عن علماء الأندلس، ورحل إلى المشرق، وكان مشاورا في بلده، وتوفي في رجب سنة 469 عن تسعين سنة. وأغلب بن عبد الله المقري، كان قارئا بحرف نافع.
وتمام بن عفيف بن تمام الصدفي الواعظ الزاهد، يكنى أبا محمد، أخذ عن أبي إسحاق بن شنظير، وعن صاحبه أبي جعفر بن ميمون، وعن عبدوس بن محمد، وشهر بالزهد والورع، وكان يعظ الناس، توفي في ذي القعدة سنة 451، ذكره ابن مطاهر. وأبو أحمد جعفر بن عبد الله بن أحمد التجيبي، من أهل قرطبة، من ساكني ربض الرصافة بها، استوطن طليطلة، وأخذ فيها عن أبي محمد بن عباس الخطيب، وأبي محمد الشنتجالى. وكان ثقة فاضلا، قتل في داره بطليطلة ظلما ليلة عيد الأضحى سنة 475، ومولده سنة 393. وجماهر بن عبد الرحمن بن جماهر الحجرمي، يكنى أبا بكر، أخذ عن علماء الأندلس، ثم رحل إلى المشرق حاجا سنة 452، فلقي بمكة كريمة المروزية، وسعد بن على الزنجاني، ولقي بمصر أبا عبد الله القضاعي، وسمع منه تواليفه. ولقي بالإسكندرية أبا علي حسين بن معافى، ولقي شيوخا كثيرين. وكان حافظا للفقه على مذهب مالك، عارفا بالفتوى وعقد الشروط. وكان حسن الخلق متواضعا، معظما عند الناس وكان قصير القامة جدا. وتوفي لاثنتي عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 466، وهو ابن ثمانين سنة، وصلى عليه يحيى بن سعيد بن الحديدي، وازدحم الناس جدا حول نعشه.
وأبو على الحسين بن أبي العافية الجنجيالي، قدم طليطلة مرابطا، وكان شيخا صالحا، توفي سنة 383. وخلف بن صالح بن بن عمران بن صالح التميمي، أبو عمر،
5
كان من أهل الحديث، توفي ليلة الاثنين لسبع خلون من عشر ذي الحجة سنة 378. وأبو بكر خلف بن إسحاق، ولد سنة 300، وتوفي سنة 380. وأبو بكر خلف بن بقى التجيبي، تولى أحكام السوق ببلده، وكان يجلس لها بالجامع ثم عزل عنها وكان صليبا في الحق. وأبو بكر خلف بن أحمد خلف الأنصاري المعروف بالرحوي، رحل إلى المشرق، وكان عارفا بالأحكام، ناهضا، وقضى أكثر دهره صائما، وكان مع ذلك كثير الصدقات، وكان له حظ من قيام الليل، ودعي إلى قضاء طليطلة فأبى، وهرب من ذلك، وتوفي سنة 420.
وأبو القاسم خلف بن إبراهيم بن محمد القيسي المقرئ الطليطلى، سكن دانية وأخذ عن أبي عمرو المقرمي، وعن أبي الوليد الباجي، وتوفي يوم الاثنين عقب ربيع الأول سنة 477. وأبو القاسم خلف بن سعيد بن محمد بن خير الزاهد الطليطلي، سكن قرطبة، قرأ القرآن على أبي عبد الله المغامي (نسبة إلى مغام، من قرى طليطلة، وقد سبق ذكرها) وتأدب به، وأخذ أيضا عن أبي بكر عبد الصمد بن سعدون الركاني وكان رجلا صالحا ورعا، متقللا من الدنيا، يتبرك به الناس، كثير التواضع، وكان صاحب صلاة الفريضة بالمسجد الأعظم بقرطبة. قال ابن بشكوال: توفي رحمه الله يوم الاثنين ودفن عشية الثلاثاء، منتصف ذى القعدة سنة 515، ودفن بالربض، وصلى عليه القاضي أبو القاسم بن حمدين، وكانت جنازته في غاية من الحفل، ما انصرفنا منها إلا مع المغرب، لكثرة من شهدها من الناس.
وأبو الربيع سليمان بن إبراهيم بن أبي سعد بن يزيد بن أبي يزيد بن سليمان بن أبي جعفر التجيبي، كان مقرئا أخذ عن عبدوس بن محمد، وعن محمد بن إبراهيم الخشني، وكان من أهل الصلاح، توفي في رمضان سنة 431. وأيضا أبو الربيع سليمان بن عمر بن محمد الأموي، يعرف بابن صهبية، روى عن محمد بن إبراهيم الخشني، وعن الصاحبين: ابن شنظير وابن ميمون، وكانت له رحلة إلى المشرق، وكان يقرئ القرآن بجامع طليطلة. وكان ابن يعيش يستخلفه علي القضاء فيها، وكان مع هذا شاعرا نحويا، خطاطا. وأيضا أبو الربيع سليمان بن محمد المعروف بابن الشيخ، من أهل قرطبة، لكنه مات في طليطلة، في الأربعين وأربعمائة. وكان بارع الخط ، أفنى عمره في كتابة المصاحف. وأيضا أبو الربيع سليمان بن إبراهيم بن هلال القيسي، كان رجلا صالحا زاهدا، فرق جميع ماله، وانقطع إلى الله عز وجل، وكان مشاركا في الحديث والتفسير، ولزم الثغور، وتوفي بحصن عرماج، وذكروا أن النصارى يزورون قبره ويتبركون به. وأبو عثمان سعيد بن أحمد بن سعيد بن كوثر الأنصاري، وكانت فتيا طليلطة تدور عليه وعلى محمد بن يعيش. وكان من أهل الفطنة والدهاء والثروة، توفي في نحو الأربعمائة. وأبو عثمان سعيد بن رزين ابن خلف الأموي، يعرف بابن دحية، ذكره أبو بكر بن أبيض في شيوخه وأثنى عليه. وأبو الطيب سعيد أحمد بن يحيي بن السعيد بن الحديدي بن التجيبي، روى عن أبيه وعن محمد الخشني، وجمع كتبا لا تحصى، وكان معظما عند الخاصة والعامة، ورحل إلى المشرق حاجا، وسمع بمكة وبمصر، وبالقيروان. وكان أهل المشرق يقولون: ما مر علينا مثله. قال ابن مطاهر: توفي يوم الاثنين لخمس خلون من ربيع الأول سنة 428. وإبراهيم بن يحيي بن إبراهيم بن سعيد، يعرف بابن الأمين، كنيته أبو إسحاق، سكن قرطبة، وأصله من طليطلة، وكان من جلة المحدثين، ومن كبار الأدباء، توفي بلبلة في جمادى الآخرة سنة 544، قال ابن بشكوال: وأخذت عنه وأخذ عني. وأثنى عليه وعلى دينه وعلمه.
وخلف بن يحيى بن غيث الفهري، من أهل طليطلة، سكن قرطبة، وتوفي بها سنة 405، وكان شيخا فاضلا عالما، ونقل ابن بشكوال عن قاسم الخزرجي أنه توفي في منتصف صفر، ثم قال: وقرأت بخط ابنه محمد بن خلف: توفي والدي رضي الله عنه ليلة السبت، والأذان قد اندفع بالعشاء الآخرة، لأربع خلون من صفر سنة 405. وأبو الربيع سليمان بن سماعة بن مروان بن سماعة بن محمد بن الفرج بن عبدالله، نقل ابن بشكوال عن أبي علي الغساني من خط يده أنه قال بحقه: هو شيخ من أهل الأدب، اجتمعت به ببطليوس وبقرطبة. وأبو عثمان سعيد بن محمد بن جعفر الأموي، روى عن الصاحبين: ابن شنظير وابن ميمون، وكان فاضلا، ثقة، عفيفا ، كثير الصلاة والصيام، نابذا للدنيا. مات في رمضان سنة 448.
6
وأبو عثمان سعيد بن عيسي الأصغر، كان عالما بالعربية، مشاركا في المنطق، كاتبا للأخبار، توفي في نحو الستين وأربعمائة.
وأبو طيب سعيد بن يحيي بن سعيد بن الحديدي التجيبي، كان من أهل العلم والذكاء، ولاه المأمون بن ذي النون قضاء طليطلة، فحسنت سيرته، وكان ثقة متحريا مبلو السداد، ولم يزل قاضيا حي توفي المأمون، فامتحن أبو الطيب هذا وقتل أبوه، وسجن هو بسجن «وبذة» فمكث فيه إلى أن توفي في شوال سنة 492، وذكر ابن مطاهر أنه عهد قبل موته أن يدفن بكبلة، وأن يكتب في حجر يوضع على قبره:
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس
فامتثل ذلك. وأبو القاسم سلمة بن سليمان المكتب، وكان شيخا فاضلا. وأبو محمد سرواس بن حمود الضمنهاجي، كان معلما للقرآن، توفي في ربيع الأول سنة 391. وصاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن صاعد
7
التغلبي، يكنى أبا القاسم أصله من قرطبة، روى عن أبي محمد بن حزم، والفتح بن القاسم، وأبي الوليد الوقشي واستقضاه المأمون يحيى بن ذي النون بطليطلة، وكان متحريا في أموره. واختار القضاء باليمين مع الشاهد الواحد في الحقوق، وبالشهادة على الخط، وقضى بذلك، وكانت ولادته بالمرية سنة 420، وتوفي بطليطلة، وهو قاضيها، في شوال سنة 462، وصلى عليه يحيى بن سعيد بن الحديدي. وأبو الحسن صادق بن خلف بن صادق بن كتيل الأنصاري، من أهل طليطلة، سكن برغش،
8
وكان رحل إلى المشرق، فحج ودخل بيت المقدس، وأخذ عن نصر بن إبراهيم المقدسي، وأخذ عن أبي الخطاب العلاء بن حزم، وذلك في البحر في انصرافهما من الشرق إلى الأندلس، وكتب بخطه علما كثيرا، وكان فاضلا. دينا، عفيفا، متواضعا، توفي بعد سنة 470. وأبو محمد عبد الله بن عبد الله بن ثابت بن عبد الله الأموي، حدث عنه الصاحبان بطليطلة، وقالا إنه ولد سنة 306، وتوفي سنة 382. وأبو محمد عبد الله بن محمد بن صالح بن عمران التميمي، حدث عنه الصاحبان أيضا، وقالا كان صاحبنا في السماع، وتوفي سنة 384.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد الجهيني الطليطلي، سكن قرطبة، وسمع فيها من قاسم بن أصبغ، وصحب القاضي منذر بن سعيد، ورحل إلى المشرق سنة 342، وكانت رحلته وسماعه مع أبي جعفر بن عون الله، وأبي عبد الله بن مفرج، فلقوا جلة العلماء بالمشرق، ولما رجعوا إلى الأندلس رغب الناس إليه أن يحدث فقال: لا أحدث ما دام صاحباي أبو جعفر بن عون الله، وأبو عبد الله بن مفرج حيين، فلما ماتا جلس للسماع، وأخذ عنه العلماء الكبار: أبو الوليد بن الفرضي والقاضي أبو المطرف بن فطيس، وأبو عمر بن عبد البر، وأبو عمر بن الحذاء، والخولاني، وغيرهم.
قال ابن الحذاء: كان أبو محمد هذا شيخا فاضلا، رفيع القدر، عالي الذكر، عالما بالأدب واللغة ومعاني الشعر، ذاكرا للأخبار، حسن الإيراد لها، وقورا، وما رأيت أضبط لكتبه وروايته منه: وقال الخولاني: كان شيخا ذكيا، حافظا لغويا، رحل إلى المشرق، وسمع جلة العلماء بمكة وبمصر وبالشام، وأسن ونيف علي الثمانين بثلاثة أعوام، وصحبه الذهن إلى أن مات. قال ابن الحذاء: ولد سنة 310، وتوفي يوم الاثنين لسبع بقين من ذي الحجة سنة 395، زاد ابن حيان: ودفن بمقبرة متعة، وصلى عليه القاضي أبو العباس بن ذكوان. وكان السلطان قد تخير أبا محمد بن أسد هذه لقراءة الكتب الواردة عليه بالفتوح بالمسجد الأعظم بقرطبة، لفصاحته، وجهارة صوته، وحسن إيراده، فتولى ذلك مدة، إلى أن ضعف، وثقل بدنه، فاستعفى السلطان من ذلك فأعفاه، ونصب سواه، فكان يقول: ما وليت لبني أمية قط ولاية غير قراءة كتب الفتوح على المنبر، فكنت أتحمل الكافة دون رزق، ومنذ أعفيت منها كسلت، وخامرني ذل العزلة. وكان حاضر الجواب، حار النادرة، وأخباره كثيرة. وكان يستحسن الاستخارة بالمصحف.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن نصر بن أبيض بن محبوب بن ثابت الأموي النحوي، من طليطلة، سكن قرطبة، أخذ عن جلة العلماء، وكان أديبا حافظا، نبيلا، أخذ الناس عنه ، وجمع كتابا في الرد علي محمد بن عبد الله بن مسرة، أكثر فيه من الحديث والشواهد، وأخذ عنه الصاحبان ابن شنظير وابن ميمون، وقالا: إن مولده في شعبان سنة 329، وسكناه بزقاق دحين، وصلاته بمسجد الأمير هشام بن عبد الرحمن، توفي سنة 399 أو سنة 400. وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عثمان، المعروف بابن القشاري، من طليطلة، وخطيب جامعها، كان ثقة دينا ورعا، قليل التصنع. وكان الغالب عليه الرأي، وكان مشاورا في الأحكام، وكان يعقد الوثائق بدون أجرة، وكان من الشعراء. توفي ليلة السبت لليلتين خلتا من شعبان سنة 417، وصلى عليه أبو الطيب بن الحديدي.
وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عثمان بن سعيد بن زنين بن عاصم بن عبد الملك بن إدريس بن بهلول بن أزرق بن عبد الله بن محمد الصدفي، روى ببلده عن أبيه، وعن عبدوس بن محمد، وعن أبي عبد الله بن عيشون وغيرهم، وبقرطبة عن أبي جعفر بن عون الله، وأبي عبد الله بن مفرج، وخلف بن قاسم وغيرهم، وكتب بمدينة الفرج عن أبي بكر بن ينق، وأبي عمر الزاهد، وأبي زكريا بن مسرة، ورحل إلى المشرق مع أبيه سنة 381، فحج وسمع بمكة وبمصر وبالقيروان ثم عاد إلى طليطلة بلده، فأخذ عنه أهلها، ورحل الناس إليه من البلدان. وكان فاضلا عابدا زاهدا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، يتولى ذلك بنفسه، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وله في هذا المعنى كتاب. وكان مع تواضعه مهابا مطاعا، يجله جميع الناس، ولا يختلف اثنان في فضله. وكان مواظبا علي الصلاة بالمسجد الجامع، ومن جملة أوصافه أنه كان يتولى شغل كرمه بيده، وكان كثير الصدقات، وتوفي سنة 424، وما رؤي علي جنازة بطليطلة ما رؤي على جنازته من ازدحام الناس لأجل التبرك به. وأبو محمد عبد الله بن بكر بن قاسم القضاعي، روى عن كثير من الشيوخ، ورحل إلى المشرق حاجا سنة 407، وسمع بمكة وبمصر وبالقيروان، وكان فاضلا ورعا عفيفا سليم الصدر، منقبضا عن الناس، توفي سنة 431. وعبد الله بن سعيد بن أبي عوف العاملي الرباحي، انتقل من قلعة رباح إلى قرطبة، واستوطنها، ورحل حاجا، وكان ورعا، مداوما علي صلاة العشاء. وكان في رمضان يرابط في حصن ولمش، توفي سنة 432.
وعبد الله بن موسى بن سعيد الأنصاري، المعروف بالشارقي، يكنى أبا محمد أخذ عن القاضي بقرطبة، يونس بن عبد الله، وعن أبي عمر الطلمنكي، وعن أبي عمر بن سميق، وأبي محمد الشنتجالي وغيرهم، وحج وسمع في المشرق من أبي إسحاق الشيرازي ورجع إلى الأندلس واستوطن طليطلة، وانقطع إلى الله تعالى. ورفض الدنيا بلا أهل ولا ولد، إلى أن مات سنة 456، واحتفل الناس بجنازته. وكان مع زهده وتنكسه حصيف العقل، نقي القريحة، جيد الإدراك، ولا عجب في صفاء ذهن من رضي من الطعام بالسير، وكان في آخر أمره عزم علي الحج ثاني مرة، فأرسل إليه القاضي زيد بن الحشا وقال له: قد قمت بالفرض، فهذه المرة الثانية هي نافلة، والذي أنت فيه الآن آكد. فمنعه من الخروج حرصا علي وجوده في طليطلة معلما مهذبا للناس. وأبو محمد عبد الله بن سليمان المعافري، يعرف بابن المؤذن كان من أهل العلم والخير غالبا عليه الحديث والأدب والقراءة، وكان ملازما بيته، لا يخرج إلا لصلاة الجمعة أو لباديته. وكان صرورة لم يتزوج قط، وتوفي سنة 460. وأبو محمد عبد الله بن محمد بن جماهر الحجري، روى عن أبي عبد الله بن الفخار، ورحل حاجا، فروى عن الجلة من العلماء، وكان له حظ وافر من الحساب والفرائض، وتوفي سنة 463. وأبو بكر عبد الله بن على بن أبي الأزهر الغافقي الطليطلي، سكن المرية، وحج، ولقي أبا ذر الهروي، وأبا بكر المطوعي، وكان من أهل العلم، أخذ الناس عنه، ومات سنة 463. وعبد الله بن محمد بن عمر، يعرف بابن الأديب، كنيته أبو محمد، روى عن الصاحبين ابن شنظير وابن ميمون، وعن عبدوس بن محمد، وعن محمد الخشني، وغيرهم، وعاش طويلا، ومات بعد الثمانين والأربعمائة.
وعبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي، يعرف بابن العمال كنيته أبو محمد، روى عن أبي عمر بن عبد البر، وعن ابن شق الليل، وابن ارفع رأسه، وأخذ عن أبيه فرج بن غزلون، وعن القاضي أبي زيد الحشا، وكان شاعرا مفلقا، ومع الأدب حافظا للحديث متقنا للتفسير، له مجلس حفل، يقرأ فيه التفسير، وعاش طويلا. واستقضى بطلبيرة بعد أبي الوليد الوقشي، وتوفي سنة 487 وقد نيف علي الثمانين. وأبو محمد عبد الله بن يحيى التجيبي، من أهل إقليش، يعرف بابن الوحشي، قرأ بطليلطة وأخذ عن أبي عبد الله المغامي، وعن أبي بكر بن جماهر، وكان من أهل الفضل والنبل والذكاء. اختصر كتاب مشكل القرآن لابن فورك، وتوفي سنة 502 وهو قاض ببلده إقليش.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن عثمان بن سعيد بن ذنين بن عاصم بن إدريس بن بهلول بن أزراق بن عبد الله بن محمد الصدفي، روى عن أبي المطرف بن مدراج وأبي العباس بن تميم، وغيرهما، ورحل إلى المشرق سنة 381، ولقي بمكة أبا القاسم السقطي وأبا الطاهر العجيفي، ولقي بمصر أبا الطيب بن غلبون، وأبا إسحاق الثمار، وغيرهما، ولقي بالقيروان أبا محمد ابن أبي زيد، وأبا جعفر بن دحمون. وغيرهما. وكان له عناية كاملة بالحديث، وكان في غاية الورع، تقرأ عليه كتب الزهد والرقائق فيعظ الناس بها، وله تواليف، منها كتاب عشرة النساء في عدة أجزاء. وكتاب المناسك وكتاب الأمراض. ولد سنة 327، ومات سنة 403 وله 79 سنة. وأبو بكر عبد الرحمن بن منخل المعافري، سكن طليطلة، وله رحلة إلى المشرق أخذ فيها عن ابن غلبون المقرئ، وحدث عنه حاتم بن محمد، قرأ عليه بطليطلة سنة 418. وأبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن خالص الأموي له رحلة إلى المشرق، وكان من أهل الخير والصلاح، حدث عنه جماهر بن عبد الرحمن وغيره.
وأبو محمد عبد الرحمن
9
بن محمد بن عباس بن جوشن بن إبراهيم بن شعيب بن خالد الأنصاري، يعرف بابن الحصار، صاحب الصلاة والخطبة بالمسجد الجامع بطليطلة، روى عن علماء من أهل بلده، من أهل ثغورها، والقادمين عليها، وسمع أيضا بقرطبة، ورحل إلى المشرق، وحج وهو حديث السن، وعني بالرواية والجمع، وكانت الرواية أغلب عليه من الدراية، وكان ثقة صدوقا، وأخذ عنه حاتم بن محمد وأبو وليد الوقشي، وجماهر بن عبد الرحمن، وأبو عمر بن سميق وأبو الحسن ابن الألبيري، وغيرهم من المشاهير. وفى آخر عمره ضعف عن إمامة الجامع فلزم داره، وتوفي سنة 438، رواه أبو الحسن الألبيري. وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن أسد، روى عن الصاحبين في بلدة طليطلة، وله رحلة إلى المشرق، وكان عالما، فاضلا، جوادا، متواضعا، توفي في شعبان سنة 442. وأبو أحمد عبد الرحمن بن أحمد بن خلف، المعروف بابن الحوات، له رحلة إلى المشرق، حج فيها، ولقي أبا بكر المطوعي، وكان إماما. قال الحميدي إنه كان يتكلم في الفقه والاعتقادات بالحجة القوية، وله تواليف، وكان من كبار الأدباء. وتوفي قريبا من سنة 450، وقيل إنه توفي بالمرية في المحرم سنة 448، وقد أربى علي الخمسين. وأبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن زكريا، يعرف بابن زاها، سمع من عبدوس بن محمد، ومن الخشني، وكان نبيلا فصيحا، أنيس المجلس، كثير المثل والحكايات، توفي في صفر سنة 449. وعبد الرحمن بن إسماعيل بن عامر بن أبي جوشق، يكنى أبا المطرف، روى عن عبدوس بن محمد، وعن الخشني وغيرهما في بلده، ثم سمع بقرطبة من خلف بن القاسم، وأبي زيد بن العطار، وأبي مطرف القنازعي، وابن ثبات وغيرهم. وكان معتنيا بجمع الآثار، وكتب بخطه علما كثيرا. وكان من الثقات. وتوفي بعد سنة 450.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى، يعرف بابن البيرولة، سمع من الخشني وأبي بكر بن زهر، وأبي محمد بن ذنين، والتبريزي، وابن سميق وكان من أهل النباهة والفصاحة،
10
واعظا، متواضعا، حسن الخلق، سالم الصدر، توفي في أول ربيع الأول سنة 465، وصلى عليه يحيى بن الحديدي. وعبد الرحمن بن لب بن أبي عيسي بن مطرف بن ذي النون، يكنى أبا محمد، روى عن أبي عمر الطلمنكي، وروى عنه أبو حسن الألبيري المقرئ.
وأبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن، المعروف بابن الحشا، قاضي طليطلة، أصله من قرطبة، سمع بالمشرق من أبي ذر الهروي، وأبي الحسن محمد بن علي بن صخر، وأحمد بن علي الكسائي، وعبد الحق بن هارون الصقلي، وروى بمصر عن أبي القاسم عبد الملك القمي وغيره، وبالقيروان عن أبي عمران الفاسي وغيره، وروى بقرطبة عن القاضي يونس بن عبد الله، وعن القنازعي، وأخذ بدانية عن أبي عمر بن عبد البر، وأبي عمر المقري وغيرهما. وكان من أهل العلم والفهم، سري البيت عالي الشأن، استقضاه المأمون يحيى بن ذي النون بطليطلة، بعد أبي الوليد بن صاعد، في الخمسين والأربعمائة، وحمده أهل طليطلة في قضائه، ثم صرف عن قضائها في الستين، وسار إلى طرطوشة، واستقضي بها، ثم صرف عن قضاء طرطوشة، فاستقضي بدانية، إلى أن توفي بها سنة 472، ذكر تاريخ وفاته ابن مدير. وعبد الرحمن بن قاسم بن ما شاء الله المرادي، كنيته أبو القاسم، كان حافظا للمسائل والرأي، طاهرا وقورا، توفي في رجب من سنة ست وسبعين وأربعمائة. وأبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن سلمة الأنصاري، روى عن أبي محمد بن الخطيب، وأبي عمر الطلمنكي، وحماد الزاهد، وأبي بكر بن زهير وغيرهم، وكان حافظا للمسائل، دريا بالفتوى، وقورا، وسيما، حسن الهيئة، قليل التصنع، مواظبا علي الصلاة في الجامع، وكان ثقة في روايته، وكان الرأي غالبا عليه. وامتحن في آخر عمره مع أهل بلده، بحسب عبارة ابن بشكوال، وسار إلى بطليوس فتوفي بها فجأة، عقب صفر من سنة 478، وظاهر من هنا أنه خرج من طليطلة يوم استولى عليها الإسبانيول، لأنهم فتحوها في المحرم، أو في صفر سنة 478 كما لا يخفى. وأبو المطرف عبد الرحمن بن عبد الله بن أسد الجهني، سكن طليطلة، روى عن ابن يعيش، وابن مغيث، وغيرهما، وحج، وأخذ بمكة عن أبي ذر الأموي، وغيره، وكان ثقة، وشوور في الأحكام، وكان متواضعا توفي في بلده، في الثمانين والأربعمائة، أي بعد استيلاء الإسبانيول.
وأبو الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله التجيبي، المعروف بابن المشاط أخذ عن علماء طليطلة وغيرهم، وكان حافظا ذكيا وأديبا لغويا، شاعرا محسنا. سكن مدة بأشبيلية، وتولى بها الأحكام، ثم صرف عنها، وقصد مالقة، إلى أن توفي بها ليلة الجمعة لسبع ليال من رمضان سنة الخمسمائة، وشهد جنازته جمع عظيم. وأبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن يوسف الأموي، من أهل طليطلة سكن قرطبة، المعروف بابن عفيف، وهو جده لأمه، سمع من علماء طليطلة وغيرهم. وكان شيخا فاضلا عفيفا، مشهور العدالة، وكان يعظ الناس، وتولى الصلاة بالمسجد الجامع بقرطبة، قال ابن بشكوال: كان كثير الوهم في الأسانيد، عفا الله عنه، توفي يوم الجمعة ودفن إثر صلاة العصر من يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخرة سنة 521 ودفن بمقبرة ابن عباس، وصلى عليه القاضي أبو عبد الله بن الحاج. وأبو مروان عبد الملك محمد بن شق الليل، سمع بطليطلة بلده من الصاحبين، وكان زاهدا ورعا، توفي في ربيع الآخرة سنة عشر وأربعمائة. وأبو بكر عبد الصمد بن سعدون الصدفي المعروف بالركاني أخذ عن علماء طليطلة بلده، ثم رحل إلى المشرق وحج، وتوفي بعد سنة 475. وأبو حفص عمر بن سهل بن مسعود اللخمي المقرئ، روى ببلده طليطلة عن علمائها، ورحل إلى المشرق، ولقي كثيرا من العلماء، وكان إماما في كتاب الله حافظا للحديث الشريف، ولأسماء الرجال وأنسابهم خفيف الحال، قانعا راضيا، توفي بعد سنة 442 وحدث عنه ابن البيروله. وأبو حفص عمر بن محمد بن عبد الوهاب بن الشراني الرعيني، كان مفتيا، توفي في رجب سنة تسع وأربعين بعد الأربعمائة.
وأبو حفص عمر بن عمر بن يونس بن كريب الأصبحي، أصله من سرقسطة، روى عن الجلة، مثل القاضي أبي الحزم خلف بن هشام العبدري، والقاضي أبي عبد الله بن الحذاء، والقاضي عبد الرحمن بن جحاف، وأبي عمر الطلمنكي، وأبي بكر بن زهر وغيرهم، وكان فاضلا ثقة، وأسن، وتوفي بطليطلة سنة ست وسبعين وأربعمائة. وأبو بكر عثمان بن عيسى بن يوسف التجيبي، يعرف بابن ارفع رأسه، كان عالما فاضلا، رأسا في مذهب مالك ، تولى قضاء طلبيرة. وأبو بكر عثمان بن محمد المعافري المعروف بابن الحوت، المتوفى سنة 449. قال ابن بشكوال: وكان من خيار المسلمين وفضلائهم. وأبو الحسن علي بن فرجون الأنصاري النحوي، كان شيخا لغويا نحويا شاعرا، جوادا، لا يمسك شيئا، مؤثرا على نفسه، رقيق القلب، إذا سمع القرآن خشع وبكى. وأبو الحسن علي بن أبي القاسم بن عبد الله بن علي المقرى، من سرقسطة سكن طليطلة، روى بالمشرق عن أبي ذر الهروى، وأبي الحسن بن صخر، وأخذ عن القاضي الماوردي كتابه في التفسير، وكان رجلا صالحا، قدم إلى قرطبة في آخر عمره، وأقام فيها سبعة أشهر في الفندق الذي نزل فيه منقبضا، لم يتعرض للقاء أحد، إلى أن مات في ربيع الأول سنة 472. وأبو الحسن علي بن سعيد بن أحمد بن يحيى بن الحديدي التجيبي، كان فقيها في المسائل بصيرا بالفتيا، توفي في شوال سنة 474.
وأبو الإصبغ عيسى بن حجاج بن أحمد بن حجاج بن فرقد الأنصاري؛ أصله من طليطلة؛ وسكن قرطبة، حدث عنه الصاحبان؛ وقالا: مولده سنة 318، وله رحلة إلى المشرق. وأبو الإصبغ عيسى بن علي بن سعيد الأموي، روى عن أبيه، وعن أبي زيد العطار، والخشني، وتوفي سنة 435، وله رحلة إلى المشرق. وأبو الإصبغ عيسى بن فرج بن أبي العباس التجيببي، المغامي أخذ عنه ابنه أبو عبد الله المغامي وتوفي في مستهل جمادى الأولى عام أربع وخمسين وأربعمائة. وأبو عبيدة عامر بن إبراهيم بن عامر بن عمروس الحجري من أهل قرطبة سكن طليطلة روى عنه أبو الحسن ابن الألبيري المقرئ، كان حليما وقورا خادما للعلم، وأخذ عنه أبو المطرف ابن البيروله. وقال: شيخا فاضلا حاسبا كاتبا. إمام مسجد ابن ذني القاضي بالحزام
11
من طليطلة سمع الناس منه ومات بعد سنة 433. وأبو الإصبغ عسلون بن أحمد بن عسلون، حدث عنه الصاحبان. وقالا: كان رجلا صالحا مستورا. جالسناه وصحبناه، ولزم الانقباض، ولم تزل أحواله صالحة إلى أن توفي. وكان مولده عام 320.
وأبو النصر فتح بن إبراهيم الأموي، يعرف بابن القشاوي، رحل إلى المشرق، وسمع بالقيروان، وبمصر، وبمكة المكرمة. وكان شيخا صالحا، فاضلا، مجاهدا، صواما قواما متصدقا. بنى بطليطلة مسجدين أحدهما بالجبل البارد، والآخر بالدباغين وكان يلزم الصلاة في المسجد الجامع. وبنى حصن «وقش»، وحصن «مكادة»، في زمن المنصور بن أبي عامر. توفي أول ليلة من رجب سنة 403، وكانت وفاته ليلة الجمعة، ودفن نهار الجمعة بعد صلاة العصر، وصلى عليه عبد الله بن ماطور. وفرج بن غزلون بن العسال اليحصبي الطليطلى، روى عن شيوخها، وحدث عنه ابنه أبو محمد عبد الله بن فرج الواعظ. وأبو الحسن فرج بن أبي الحكم بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم اليحصبي، وكان من العلماء المعدودين، وكان حفيل المجلس، توفي في 10 ذي الحجة سنة 448، وحبس داره علي طلبة السنة. وفرج بن غزلون بن خالد الأنصاري، حدث عن فتح بن إبراهيم وغيره، وكان حسن الخط. وفرج مولى سيد بن أحمد بن محمد الغانقي، يكنى أبا سعيد، رحل إلى المشرق، وفي حجة لقي أبا ذر الهروي، وأجاز له، وكان رجلا صالحا ثقة. قال ابن بشكوال: أخبرنا عنه أبو الحسن عبد الرحمن بن عبد الله العدل، وأثنى عليه وغيره من شيوخنا، وتوفي بعد سنة ست وسبعين وأربعمائة. وأبو سعيد الفرج بن أبي الفرج بن يعلى التجيبي، تولى أحكام القضاء بطليطلة، وكان دينا فاضلا، عالما عاقلا، حسن السيرة في قضائه، محببا إلى الناس، معظما عندهم. توفي سنة 470 في شهر رجب. وأبو نصر فتحون بن محمد بن عبد الوارث بن فتحون التجيبى، حدث عنه الصاحبان توفي ليلة الثلاثاء لست خلون من ربيع الأول سنة 393، وصلى عليه ابن سائق. وأبو نصر فتحون بن عبد الرحمن بن فتحون القيسي، روى عن علماء بلده، وكان رجلا معدلا حسن الأخلاق، توفي سنة 464 في رجب. وفيره بن خلف بن فيره اليحصبي، من أهل طليطلة كان من أهل المعرفة بالقراءات، حسن الصوت، تولى الصلاة والخطبة بجامع طليطلة. وكان يكنى بأبي جديدة، فأشار عليه ابن يعيش بأن يتكنى بغيرها، فأبى وقال: الكنية القديمة أولى بنا.
وأبو محمد قاسم بن محمد بن عبد الله الأموي، يعرف بابن طال ليله، روى عن الحسن بن رشيق ، وابن زياد اللؤلؤي، وتميم بن محمد، وحدث عنه أبو عبد الله بن عبد السلام الحافظ، وغيره، توفي بعد سنة سبع وأربعمائة.
وأبو محمد قاسم بن محمد بن سليمان الهلالي القيسي، روى عن الصاحبين، وعن عبدوس بن محمد، وعن أبي عمر الطلمنكي، ويونس بن عبد الله القاضي، ومحمد بن نبات، وابن الفرضي، وابن العطار، وابن الهندي، وجماعة كثيرة من علماء الأندلس. ورحل إلى الشرق للحج، وأخذ عن أبي ذر الهروي وغيره. وكان عظيم الاجتهاد في العلم، مع الصلاح والانقباض، وكانت جل كتبه بخط يده، وكان ثقة في روايته، حسن الخط، وكانت له حلقة في الجامع، يعظ فيها الناس، ولم يكن يذكر عنه من أمر الدنيا شيء. وكان سيفا علي أهل الأهواء، صليبا في الحق، وروى بعضهم أنه كانت به سلاسة بول لا تفارقه، فإذا جلس في الجامع ارتفع ذلك عنه إلى أن ينقضي مجلسه، فإذا تقوض المجلس وعاد إلى منزله عاد إليه المرض وكانت وفاته سنة 458 في رجب.
وأبو محمد قاسم بن عبد الله بن ينج، له رواية عن أبي جعفر بن مغيث وغيره. كان من أهل العلم والفهم، توفي بقرطبة في رمضان سنة 498، ودفن بالربض. وأبو عبد الله محمد بن تمام بن عبد الله بن تمام، روى عن أبيه تمام بن عبد الله وغيره، ورحل إلى المشرق مع أبي عبد الله بن عابد، وكان عالما متفننا، شاعرا، حسن الخط، مهيبا، إلا أنه كان جشعا في الأكل. وقتله أهل طليطلة سنة أربعمائة، أو إحدى وأربعمائة. وأبو عبد الله محمد بن يبقى بن يوسف بن أرمليوث بن عبدري الصيدلاني سكن بجانة، وأصله من طليطلة. له رحلة إلى المشرق، سمع فيها من العلماء، ثم في طريقه إلى الأندلس أسرته الروم، ثم تخلص وسكن المرية. وأبو عبد الله محمد
12
بن إبراهيم بن أبي عمرو المعافري، روى بطليطلة عن ابن عيشون وغيره، وله رحلة سمع فيها من أبي قتيبة سلم بن الفضل ، ومن أبي بكر بن خروف، وتوفي في نحو الأربعمائة. وأبو عبد الله محمد بن قاسم بن مسعود القيسي، روى عن أبي عبد الله بن الفخار، وابن القشاري، وكان من أهل العناية بالعلم والفقه، مشاورا في الأحكام، كتب لقضاة طليطلة. وتوفي في رمضان سنة 466. وأبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن حفص ابن الشراني، وكان يروي عن صهره محمد بن مغيث، وعن أبي بكر بن زهر. وكان الغالب عليه الورع. وترك الرئاسة ولزم الانقباض عن الناس، لا يخرج من بيته إلا لما لا بد له منه، ولا ينبسط مع أحد في الكلام، وكان مع ذلك إذا قصده قاصد يحسن لقاءه، وتوفي سنة 471 في صفر. وأبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن سليمان بن هلال القيسي، روى عن أبيه، وعن أبي عمر الطلمنكي وغيرهما، وكان له حظ في الفقه والأدب توفي سنة 472 في جمادى الآخرة. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن حزم الأنصاري، من طليطلة، تولى قضاء طلبيرة، وتوفي سنة 478، أي سنة سقوط طليطلة، وله رحلة إلى المشرق. وأبو عبد الله محمد بن عيسى بن فرج بن أبي العباس بن إسحاق التجيبي المغامي
13
المقري، روى عن أبي عمرو المقري، وعن أبي محمد مكي بن أبي طالب المقري، وعن أبي الربيع سليمان بن إبراهيم. وكان إماما في القراءات، ومن أهل الصلاح توفي في أشبيلية في منتصف ذي القعدة سنة 485، وحبس كتبه على طلبة العلم الذين بالعدوة.
وأبو بكر محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن جماهر الحجري، روى ببلده طليطلة عن عمه أبي بكر جماهر بن عبد الرحمن، وأبي محمد قاسم بن هلال، وأبي بكر ابن العواد وغيرهم، ورحل إلى المشرق مع عمه أبي بكر سنة 452، وأدى الفريضة وسمع بمكة من أبي معشر الطبرى وكريمة المروذية وغيرهما، وبمصر من أبي عبد الله القضاعي وأبي نصر الشيرازي وغيرهما، وبالإسكندرية من أبي علي بن معافى، قال ابن بشكوال: كان معتنيا بالجمع والإكثار والرواية عن الشيوخ، لا كبير علم عنده. وقال : توفي بمدينة طليطلة، أعادها الله، في أيام النصارى، دمرهم الله، سنة 488، انتهى، أي بعد سقوط طليطلة بعشر سنوات.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن قاسم البكري، روى ببلده عن أبي بكر جماهر بن عبد الرحمن، وأبي الحسن بن الألبيري، وابن ما شاء الله وغيرهم، وأجاز له أبو عمر بن عبد البر، ورحل إلى المشرق وحج، وأخذ بمكة والإسكندرية، وقدم قرطبة في شعبان سنة 481، وسكن باجه وغيرها من بلاد الغرب، وتوفي بباجة. وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن مزاحم الأنصاري الخزرجي، أصله من لشبونة، سكن طليطلة، وله رحلة إلى المشرق، وكان النهاية في علم العربية، ومن تآليفه كتاب الناهج للقراءات بأشهر الروايات أخذ عنه أبو الحسن العبسي المقرئ، وابن مطاهر توفي سنة 502 في بدايتها.
وأبو عبد الله محمد بن على بن محمد الطليطلي، يعرف بابن الديوطي، سمع من أبي الوليد الباجي وقاسم بن هلال وغيرهما، وبعد أن استولى الإسبانيول على طليطلة خرج إلى بر العدوة، فسكن فاس ثم سبتة، وولي خطابة الموضعين. وكان ضريرا صالحا، وتوفي وهو خطيب سبتة سنة 503 في محرم.
وأبو عامر محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم،
14
من أهل طليطلة سكن قرطبة، روى عن علماء طليطلة، وأجاز له أبو بكر جماهر بن عبد الرحمن، والقاضي أبو الوليد الباجي، وأبو العباس العذري، وأبو الوليد الوقشي وكانت عنده جملة كثيرة من أصول علماء طليطلة وفوائدهم، وكان ذاكرا لأخبارهم وأزمانهم، فكان يحتاج إليه بسببها. قال ابن بشكوال في الصلة: ترك بعضهم التحديث عنه لأشياء اضطرب فيها من روايته، شاهدتها منه مع غيري، وتوقفنا عن الرواية عنه، وكنت قد أخذت عنه كثيرا، ثم زهدت فيه لأشياء أوجبت ذلك غفر الله له، وتوفي رحمة الله عشي يوم الجمعة، ودفن بعد صلاة العصر من يوم السبت السابع عشر من ربيع الأول سنة 523، ودفن بالربض، وصلى عليه أبو جعفر بن حمدين.
وأبو الفضل محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان التميمي البغدادي، سكن طليطلة، وهو من بيت علم وأدب ، خرج إلى القيروان في أيام المعز بن باديس فدعاه إلى دولة بني العباس فاستجاب لذلك، ثم وقعت الفتن هناك، فخرج إلى الأندلس، ولقي ملوكها وحظي عندهم بأدبه وعلمه واستقر بطليطلة، في كنف المأمون بن ذي النون، وتوفي بها ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة 455 قال ابن بشكوال: وذكر أن أبا الفضل هذا كان يتهم بالكذب، عفا الله عنه. وأبو عمران موسى بن عبد الرحمن يعرف بالزاهد، من أهل الثغر، قدم طليطلة مجاهدا، كانت له رحلة إلى المشرق حدث عنه الصاحبان بطليطلة وقالا: قتل في ربيع الآخر سنة 378. وموسى بن قاسم بن خضر كان الغالب عليه قراءة الآثار، وكان فاضلا أصيب في إحدى الغزوات سنة 443.
وموسى بن عبد الرحمن يعرف بابن جوشن كان فاضلا له أخلاق حسان، وآداب لطيفة، حسن اللقاء لا يمر بأحد إلا سلم عليه، توفي سنة 448، ذكره ابن مطاهر. وأبو عبد الرحمن معاوية بن منتيل بن معاوية، رحل إلى المشرق وحج، وحدث عنه الصاحبان في طليطلة وقالا: إنه توفي سنة 375 في جمادى الآخرة. وأبو عبد الملك مروان بن عبد الله بن مروان التجيبي يعرف بابن الباليه رحل إلى المشرق وانصرف وكان زاهدا فاضلا ورعا، منقبضا عن الناس، بهي المنظر دعي ليتولى الأحباس فرفض واعتذر. ذكره ابن طاهر.
وأبو بكر مفرج بن خلف بن مغيث الهاشمي المعروف بابن الحصار. كان فقيها عارفا بالفتوى، يعقدها باختصار وإيعاب لفقهها؛ وتأثل منها مالا عظيما، وكان معتصما بالسنة مبغضا لأهل البدع. وأبو القاسم محسن بن يوسف روى عن مشيخة بلده طليطلة، وحدث عنه الصاحبان وقالا: توفي سنة 374.
وأبو القاسم محبوب بن محبوب بن محمد الخشني، روى عن محمد بن إبراهيم الخشني، وعن الصاحبين، وكان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية بصيرا بالحديث وعلمه، فهما ذكيا، وكان فهمه أكثر من حفظه، مع صلاح وفضل، ومات سنة 446 في المحرم. ومفرج الخراز، يكنى أبا الخليل، كان من الفقهاء العباد الزهاد ، روى عن أبي عمر بن عبد البر وغيره، وكان صائما مدة ستين سنة ، وسكن بناحية طليطلة، وتوفي عند السبعين وأربعمائة، ذكره ابن مدير. وأبو سعيد ميمون بن بدر القروي ذكره ابن بشكوال في الغرباء، وهو من أهل بغداد، قدم الأندلس، وسكن طليطلة مرابطا بها، حدث عنه أبو محمد بن ذنين الزاهد، وقال هذا في خبره إنه ولد سنة 313. وأبو القاسم نعم الخلف بن يوسف، حدث عن عبد الرحمن بن عيسى بن مدراج، وعن محمد بن فتح الحجاري، وحدث عنه الصاحبان بطليطلة وقالا إنه توفي سنة ثلاث أو أربع وتسعين وثلاثمائة. ووهب بن إبراهيم بن وهب القيسي، وكان خيرا فاضلا ثقة، ورحل إلى المشرق، وتوفي في ذي الحجة سنة 453، ودفن يوم الأضحى.
وأبو الوليد هشام بن إبراهيم بن هشام التميمي، وكان له حظ وافر من الأدب، وشوور في الأحكام، وكان فارسا شجاعا استشهد سنة تسع عشر وأربعمائة.
وأبو الوليد هشام بن عمر بن محمد بن أصبغ الأموي، المعروف بابن الحنشي، كان نبيلا، ورحل إلى المشرق حاجا، ولقي بها جماعة من العلماء، وعاد إلى الأندلس بكتب كثيرة، وكان من أهل الخير والانقباض والثورة. وأبو الوليد هشام بن محمد بن سليمان بن إسحاق بن هلال القيسي السايح، روى عن عبدوس بن محمد، وعن محمد الخشني، وعن تمام بن عيشون، وعبد الرحمن بن ذنين من مشيخة طليطلة، وروى بقرطبة عن القاضي يونس بن عبد الله، وعبد الوارث بن سفيان، وابن نبات وابن العطار، وابن الهندي، وغيرهم، ورحل إلى المشرق حاجا، فلقي بمكة أبا يعقوب ابن الدخيل وأبا الحسن بن جهضم، وأبا القاسم السقطي، وسمع بالقيروان من أبي حسن القابسي وأبي عمران الفاسي، وكان زاهدا، فاضلا، متبتلا منقطعا عن الدنيا صواما قواما، حسن الخط، جيد الضبط، كتب بخطه علما كثيرا، وكان يصوم رمضان في الفهمين
15
ويصنع في عيد الفطر طعاما كثيرا لأهل الحصن ولمن هناك من المرابطين، وينفق المال الكثير، وكان يرابط بنفسه في الثغور، ويلبس الخشن من الثياب، وتوفي في العشرين والأربعمائة. وهشام بن محمد بن حفص الرعيني المعروف بابن الشراني قرأ علي ابن يعيش وكان يجله ويكرمه، وكان حافظا لمذهب مالك عاقلا حسن السمت وتوفي بطليطلة وصلى عليه ابن الفخار.
وهشام بن قاسم الأموي، ويكنى أبا الوليد، قرأ علي محمد بن يعيش، وعني بالعلم وكان متمولا. وأبو الوليد هشام بن محمد بن أحمد الأنصاري، قرأ علي يوسف بن أصبغ، وامتحن في آخر عمره، ومات مقتولا سنة 434 في آخر ذي الحجة. وأيضا أبو الوليد هشام بن محمد بن مسلمة الفهري، له رحلة في المشرق، استفاد فيها علما، وكان مشاورا في الأحكام ووقعت عليه محنة عظيمة، وتوفي سنة 469 في صفر. وأيضا أبو الوليد هشام بن أحمد بن خالد بن هشام النكتاني المعروف بالوقشي، أخذ العلم عن أبي عمر الطلمنكي، وأبي محمد بن عباس الخطيب، وأبي عمر السفاقسي، وأبي عمر بن الحذاء، وأبي محمد الشنتجالي، وغيرهم، قال القاضي صاعد
16
بن أحمد: أبو الوليد الوقشي أحد رجال الكمال في وقته، باحتوائه علي فنون المعارف، وجمعه لكليات العلوم، وهو من أعلم الناس بالنحو واللغة، ومعاني الأشعار، وعلم الفروض وصناعة البلاغة، وهو شاعر مجيد متقدم، حافظ للسنن، ولأسماء نقلة الأخبار، بصير بأصول الاعتقادات وأصول الفقه، واقف علي كثير من فتاوى فقهاء الأمصار نافذ في علم الشروط والفرائض، متحقق بعلم الحساب والهندسة، مشرف علي جميع آراء الحكماء، حسن النقد للمذاهب، ثاقب الذهن في تمييز الصواب، يجمع ذلك إلى آداب الأخلاق، وحسن المعاشرة، وصدق اللهجة.ا.ه.
قال أبو بكر عبد الباقي بن محمد الحجاري: وكان شيخنا أبو محمد الريولي يقول: وكان من العلوم بحيث يقضى له في كل علم بالجميع، توفي بدانية يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لليلة بقيت لجمادى الآخرة من سنة 489، وقد نيف على الثمانين. ويظهر أنه ممن رحل عن طليطلة بعد استيلاء النصارى عليها.
ويحيى بن عبد الله بن ثابت الفهري النحوي، المكنى بأبي بكر، كان من علماء العربية والفقه، وكان لسنا شاعرا، وتوفي سنة 426 في صفر. وأبو بكر يحيى بن محمد بن يحيى الأموي، كان أديبا شاعرا، حسن الخط، وقورا، حسن السمت توفي في الواحدة والستين والأربعمائة.
وأبو بكر يحيى بن سعيد بن أحمد بن يحيى بن الحديدي، سمع من علماء طليطلة، وكان نبيلا، فصيحا، فطنا، مقدما في الشورى، كانت له مكانة عظيمة عند المأمون يحيى بن ذي النون، الذي لم يكن يقطع في شيء إلا بمشورته، ودخل مع المأمون قرطبة لما ملكها، وكان مستوليا علي أمره، فلما توفي المأمون استثقله حفيده القادر بالله، حتى قتل بقصره يوم الجمعة في المحرم سنة 468.اه. ملخصا عن ابن بشكوال والقادر ابن ذي النون هو الذي بحمقه وسوء تدبيره أضاع طليطلة، وكان السبب في هذا الخرق الذي عجز المسلمون عن سده، حتى أدى إلى ضياع جميع الأندلس. وأبو عمر يوسف بن أصبغ بن خضر الأنصاري، أخذ عن الخشني، وابن ذنين، وغيرهما واعتنى بالعلم إلى الغاية، وكانت وفاته سنة 431 في صفر.
17
وأبو عمر يوسف بن عمر الجهني، يعرف بابن أبي ثلة، كان عالما بالفرائض والآداب، وعلم النجوم واستبحر في ذلك وتوفي في الخامسة والثلاثين والأربعمائة. وأبو عثمان سعيد بن عثمان البنا الشيخ الصالح المرابط بالفهمين من قرى طليطلة. ويوسف بن موسى بن يوسف الأسدي، يعرف بابن البابش أخذ عن ابن مغيث وشوور في الأحكام وولد ببلدة ولمش ودفن بها سنة 475 في ذي القعدة.
وأبو عبد الله يوسف بن محمد بن بكير الكناني، سمع من أبيه القاضي محمد بن بكير، كان عالما بالفقه والحديث والفرائض، رحل إلى الشرق وحج، ثم رجع إلى الأندلس، وتولى قضاء قلعة رباح، فحسنت سيرته، وكان حسن الرأي والهيئة، مات سنة 475 في ذي الحجة.
وأبو الوليد يونس بن محمد من أهل قرطبة، سكن طليطلة. وأبو الوليد أيضا يونس بن أحمد بن يونس الأزدي، يعرف بابن شوقه، روى عن أبي محمد بن هلال وجماهر بن عبد الرحمن، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي عمر بن سميق القاضي، وغيرهم كان فاضلا، بارا بإخوانه، من أحسن الناس خلقا، وأكثرهم بشاشة، لا يخرج من منزله إلا لأمر مؤكد، وكان الغالب عليه من الحديث ما فيه الزهد والرقائق. وهو من أهل طليطلة، لكنه مات في مجريط سنة 474، في ربيع الأول. وأبو الوليد أيضا يونس بن محمد بن عام الأنصاري، كان فقيها مفتيا، صالحا، منقبضا عن الناس، توفي في جمادى الآخرة سنة 478، أي بعد سقوط طليطلة بأشهر قلائل.
وأبو بكر بعيش بن محمد بن يعيش الأسدي، له رحلة إلى المشرق، وكانت له عناية كثيرة بالعلم، وكان فقيها. تولى الأحكام ببلده طليطلة، ثم صار إليه تدبير الرئاسة فيه. ونفع الله به أهل موضعه. ثم خلع عن ذلك وسار إلى قلعة أيوب، وتوفي بها سنة 418، على رواية ابن مطاهر، أو في التي بعدها علي رواية ابن حيان.
وفاطمة بنت يحيى بن يوسف المغامي، أخت الفقيه يوسف بن يحيى المغامي، من إحدى قرى طليطلة، كانت عالمة، فاضلة، فقيهة، استوطنت قرطبة، وبها توفيت سنة 319 ودفنت بالربض، ولم ير على نعش امرأة قط ما رؤي علي نعشها، وصلى عليها محمد بن أبي زيد. ومحمد بن أحمد بن عدل الفقيه المحدث، قرأ كتاب مسلم على أبي محمد الشنتجالي بطليطلة. ومحمد بن أحمد بن محمد بن غالب، يروي أيضا عن الشنتجالي.
وأبو عبد الله محمد بن عيشون، يعرف بابن السلاخ. قال ابن عميرة في بغية الملتمس: غلب عليه الفقه، وله فيه كتاب، وهو من المشهورين. وأبو عبد الله محمد بن الفرج بن عبد الولي الأنصاري، رحل إلى الشرق، وسمع بالقيروان، وبمصر، وبمكة، وكان رجلا صالحا، ثقة، ضابطا، كانت وفاته بعد الخمسين وأربعمائة. وأبو عبد الله محمد بن موسى بن مغلس. قال ابن عميرة في بغية الملتمس: فقيه موثق متفنن محدث. وأحمد بن سهل بن الحداد، قال ابن عميرة: فقيه مقرئ توفي سنة 387. وإسماعيل بن أمية، كان محدثا، ومات سنة 303. وإسحاق بن إبراهيم بن مسرة، مات بطليطلة، لثمان بقين من رجب سنة 352، قاله ابن عميرة. وإسحاق بن إبراهيم، غير الأول، قال ابن عميرة: فقيه، توفي بطليطلة سنة 364، قاله ابن عميرة أيضا. وإسحاق بن ذقابا، بالذال، وقيل بالزاي محدث، ولي القضاء بطليطلة ومات بها سنة 303.
وزكريا بن عيسى بن عبد الواحد، توفي ببلده طليطلة، سنة 294، عن بغية الملتمس. وسليمان بن هارون الرعيني، أبو أيوب من محدثي طليطلة مات سنة 279 عن بغية الملتمس أيضا.
وسعيد بن أبي هند، من قدماء الأندلسيين، أصله من طليطلة، وسكن قرطبة وقيل في اسمه: عبد الوهاب، يروي عن مالك بن أنس رضي الله عنه، ذكره محمد بن حارث الخشنى في كتابه، وزعم أن مالكا كان يقول لأهل الأندلس، إذا قدموا عليه: ما فعل حكيمكم ابن أبي هند؟ توفي سعيد المذكور في أيام عبد الرحمن بن معاوية أمير الأندلس. وقد ترجم صاحب بغية الملتمس شخصا يقال له عبد الرحمن بن محمد بن عباس، ويكنى أبا محمد، غير الأول، وقال إنه صاحب الصلاة بجامع طليطلة، وإنه فقيه مشهور، وذكر مشايخه، مثل أبي غالب ابن تمام، ومحمد بن خليفة البلوي، وعبد الله بن عبد الوارث، وخطاب بن سلمة ابن بترى، وغيرهم، ولكن لم يذكر سنة وفاته. وأبو الحسن عبد الرحمن بن عبد الله بن يوسف، المعروف بابن عفيف، قال في بغية الأندلس: فقيه فاضل، يروي عنه ابن النعمة، وأبو عبد الله بن سعادة، كتب إليه سنة 514، وهو يروي عن جماهر بن عبد الرحمن بن جماهر، وأبو هند عبد الرحمن بن هند الأصبحي، روى عن مالك بن أنس ومات ببلده طليطلة بعد المائتين.
وكليب بن محمد بن عبد الكريم، كنيته أبو حفص، وقيل أبو جعفر، طليطلي، رحل إلى مكة فأقام بها مدة، ثم رجع إلى مصر فمات بها سنة 300. وكان فقيها محدثا، ترجمه ابن عميرة في بغية الملتمس. وعيسى بن محمد بن دينار، سمع من محمد بن أحمد العتبي، مات بالأندلس، في أيام الأمير عبد الله بن محمد الأموي ترجمه أيضا ابن عميرة في بغية الملتمس. ثم ترجم رجلا آخر اسمه عيسى بن دينار ابن وافد الغافقى صحب عبد الرحمن بن القاسم العتقي صاحب مالك ابن أنس وكان إماما في الفقه على مذهب مالك وعلى طريقة عالية من الزهد والعبادة. ويقال إنه صلى الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة وكان يعجبه ترك الرأي والأخذ بالحديث توفي سنة 212. وعلي بن محمد بن مغاور، فقيه طليطلي، يروي عن أبي علي الصدفي. وعلي بن عيسى بن عبيد الطليطلي صاحب المختصر في الفقه، فقيه مشهور ترجمه ابن عميرة في بغية الملتمس. وعبدوس بن محمد بن عبدوس، يكنى أبا الفرج، فقيه محدث مشهور، توفي سنة تسعين وثلاثمائة. وهشام بن حسين من علماء طليطلة، رحل إلى مصر، وسمع من عبد الرحمن بن القاسم، وأشهب بن عبد العزيز، مات قريبا من سنة عشرين ومائتين. وأبو عمر يوسف بن يحيى الأزدي المغامي، قال ابن عميرة في البغية: قال بعضهم: هو من ولد أبي هريرة، رحل إلى المشرق، وسمع بمصر من يوسف بن يزيد القراطيسي وغيره، وكانت له رحلة إلى مكة واليمن، ومات بالقيروان سنة 283. وقيل 285. وأبو الحسن بن فرجون، وكان من الأدباء. وابن فضيل الطليطلي، وكان من الشعراء. وجودي بن عثمان النحوي العبسي، من أهل مورور، أصله من طليطلة، رحل إلى المشرق، فلقي الكسائي والفراء وغيرهما، وهو أول من أدخل إلى الأندلس كتاب الكسائي وله تأليف في النحو يسمى «منبه الحجارة» ترجمه ابن الأبار، وقال: كانت له حلقة، وأدب أولاد الخلفاء، وظهر على من تقدمه، توفي سنة 198، وصلى عليه الفرج بن كنانة القاضي.
وجرير بن غلاب الرعيني، تولى قضاء طليطلة أيام ثورتها على الأمير الحكم بن هشام، وهى الثورة التي تقدم ذكرها، وانتهت بقتل عدة مئات من أعيان طليطلة في قصر البلدة، وردت ترجمة جرير المذكور في التكملة لابن الأبار. وحريز بن سلمة الأنصاري، من أهل طليطلة، سكن بطليوس، وهو ابن عم القاضي أبي المطرف بن سلمة، كان من الفقهاء المشاورين. ومن الأدباء. ترجمة ابن الأبار في التكملة. وخلف ابن تمام، يكنى أبا بكر، من أهل قلعة عبد السلام، من عمل طليطلة، حدث عنه أبو محمد بن ذنين. وخليفة بن إبراهيم، أبو بكر، طليطلي، حدث عنه أبو الأصبغ عسلون بن أحمد، من شيوخ الصاحبين. ومحمد الأسدي، المعروف بابن بنكلش من علماء طليطلة، وصفه الصاحبان بالفقه والزهد. ومحمد بن حزم بن بكر التنوخي، من طليطلة سكن قرطبة، يعرف بابن المديني، صحب محمد بن مسرة الجبلي قديما، واختص بمرافقته في طريق الحج، ولازمه بعد انصرافه، وكان من أهل الورع، ولما كان في المدينة المنورة كان يتتبع آثار النبي
صلى الله عليه وسلم ، ليستدل على أمكنة سكناه، وجلوسه. ويتبرك بذلك. ومحمد بن يحيى بن آدم التنوخي، من أهل طليطلة، كتب إلى الصاحبين بمعلومات عن رجاله. ومحمد بن رضا بن أحمد بن محمد، من أهل طليطلة، كان هو وأخوه أحمد من أهل الرواية والعناية بالفقه، وقد سمعا جميعا المدونة من خلف بن أحمد المعروف بالرحوي في سنة 423، قال ابن الأبار: وقفت على ذلك. ومحمد بن قاسم بن محمد بن إسماعيل بن هشام بن محمد بن هشام بن الوليد بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية القرشي المرواني، من أهل قرطبة، يعرف بالشبانسي، سكن طليطلة، وكان ممن ترك قرطبة بعد الفتنة فيها وصار في طليطلة كاتبا للرسائل لأنه كان متقدما في البلاغة بارع الكتابة. قال ابن الأبار: وكان آخر من بقي من أكابر أهل صناعته، توفي سنة 447، ذكره ابن حيان. ومحمد بن أحمد بن سعدون، يكنى أبا بكر، له رحلة إلى الشرق، سمع فيها من أبي ذر الهروي، حدث عنه القاضي أبو عامر بن إسماعيل الطليطلي، ترجمه ابن الأبار. ومحمد بن شداد، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الحداد، يروي عن الحافظ ابن عبد السلام المعروف بابن شق الليل. وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعيد بن عيسى الكناني من طليطلة، سكن بلنسية، روى عن أبي بكر أحمد بن يوسف بن حماد سمع منه مختصر الطليطلي في الفقه، وروى عنه أبو الحسن بن هذيل المقرئ، وكان فقيها أديبا، أصوليا، متكلما، ووقعت عليه محنة في بلنسية من أبي أحمد بن جحاف الأخيف فخرج إلى المرية وتوفي قبل الخمسمائة. ذكره ابن الأبار.
وأبو عبيد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري المقري من أهل طليطلة نزل مدينة فاس يعرف بابن فرقاشش، أخذ القراءات بطليطلة عن المغامي، وأبي الحسن بن الألبيري وكان مقرئا جليلا. له تأليف في اختلاف القراء السبعة. أخذ عنه أبو إسحاق الغرناطي في مقدمة غرناطة وإقرائه منها بمسجد حمزة سنة 512. وأبو محمد بن محمد بن عبد الله الطليطلي، روى عن عبد الله بن سعيد بن رافع الأندلسي، وزياد بن عبد الرحمن القيرواني، والحسن بن رشيق المصري. وحدث عنه الصاحبان بطليطلة ونصر المصحفي النقاط، كان يقرئ القرآن، وينقط المصاحف، أخذ عنه محمد بن عبد الجبار الطليطلي، فلما قرأ على إبراهيم النحاس أعجبته قراءته. ونصر بن سيد بونه بن خلف الطائي، له رحلة إلى المشرق حاجا، وسمع بدانية من الفقيه أبي عبد الله بن الصايغ، الذي أجاز له سنة 466.
ونجدة بن سليم بن نجدة الفهري الضرير من أهل قلعة رباح، سكن طليطلة، يكنى أبا سهل، روى عن أبي عمرو المقري، وأبى محمد الشنتجالي، وأبى محمد بن عباس الطليطلي وغيرهم، وتصدر بطليطلة لإقراء القرآن وتعليم العربية، وتوفي بعد سنة 475 ذكره ابن الأبار. وأبو محمد عبد الله بن يونس، كان من أهل العلم والعبادة والجهاد وترك الدنيا، والتهجد بالقرآن. وقد حج بيت الله، وعاد إلى الأندلس، ولحقته سعاية من قبل عامل طليطلة، في أيام المنصور بن أبي عامر، فأسكنه قرطبة مدة سنتين، ولكن لم يمد يده إلى شيء من نعمته ونشبه، وكان ذا ثروة طائلة، ولما أقام بقرطبة لم يلق فيها أحدا، ولا طلب إلى سلطانة شفيعا، إلى أن صرفه مكرما إلى وطنه، وتوفي بعد قليل من تسريحه، سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وسنه نحو الثمانين. وكان مع تقواه من أهل الأدب، والبصر بالعربية، ترجمه ابن الأبار. وأبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بالأشهب، حدث عنه أبو الحسن عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف ترجمه ابن الأبار أيضا في التكملة.
وعبد الله بن محمد بن علي بن عبيد الله بن سعيد بن محمد بن ذي النون الحجري (بسكون الجيم بعد فتح الحاء) من حجر ذي رعين، أصله من طليطلة، سكن المرية وهم في الأصل من بني ذي النون، أمراء طليطلة ، كما كان يقول. ولما تحولوا من طليطلة نزلوا حصنا اسمه قنجاير بينه وبين المرية ثلاثون ميلا على الجادة إلى مالقة. سمع صحيح مسلم من أبي عبد الله بن زغيبة، وروى عن أبي القاسم بن ورد، وأبي الحجاج بن يسعون، وأبي عبد الله ابن أبي أحد عشر، وأبي محمد الرشاطي وغيرهم، وذلك في المرية. ثم رحل إلى قرطبة، فروى عن أبي القاسم بن بقي، وأبي الحسن ابن مغيث، وأبي بكر بن العربي وغيرهم، ولقي بأشبيلية شريح بن محمد، وقرأ عليه صحيح البخارى في رمضان سنة 534، وكان شريح بطول العمر قد انفرد بعلو الإسناد في صحيح البخاري لسماعه إياه من أبيه وأبي عبد الله بن منظور، عن أبي ذر (الهروي) فكان الناس يرحلون إليه بسببه، وكان قد عين لقراءته شهر رمضان، فيكثر الازدحام عليه في هذا الشهر من كل سنة، قال ابن الأبار في التكملة: إن عبد الله المذكور كان الغاية في الصلاح والورع والعدالة، وكان أبو القاسم بن حبيش يقول: إنه لم يخرج على قوس المرية أفضل منه. قال ابن الأبار: وأشبه أبا القاسم ابن بشكوال في إكثاره وتولي الصلاة والخطبة بجامع المرية، ودعي إلى القضاء فأبى. ولما تغلب العدو على المرية أول مرة خرج إلى مرسية، فدعي إلى ولايات أباها، ثم خرج إلى مالقة، ثم أجاز البحر قاصدا إلى فاس، ثم عاد إلى سبته وأقام يقرئ القرآن، ويسمع الحديث ويرحل إليه الناس، لعلو إسناده وحسن ضبطه، وكان له خط حسن، وكانت ولادته بقنجاير سنة 505، وتوفي ليلة الأحد من صفر سنة 591، بسبتة، وهو ابن خمس وثمانين سنة، ودفن بالموضع المعروف بالمنارة، وكانت له جنازة مشهودة، روى ذلك ابن الأبار في التكملة، ونحن ننقله ملخصا.
وأبو الحسن عبد الرحمن بن أبي بكر محمد بن محمد بن مغيث الصدفي، أخذ مشيخة بلدة طليطلة، وقدم بلنسية في وجوه أهل طليطلة، للعقد على ابنة المأمون بن ذي النون، مع المظفر عبد الملك بن المنصور، عبد العزيز بن أبي عامر، فسمع معهم من أبي عمر بن عبد البر سنة 451، وكان هذا الرجل من بيت شهير بالعلم والفقه في طليطلة، وهو الذي صلى على أبي جعفر أحمد بن سعيد اللورانكي عند وفاته في طليطلة سنة 469.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن يحيى بن وافد بن مهند اللخمي، رحل إلى قرطبة، فتعلم فيها الطب على أبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي وكان مع تقدمه في علم الطب فقيها أديبا متفننا، وله في الطب كتاب الأدوية المفردة استعمله الناس، وكتاب الوساد. وله في الفلاحة مجموع مفيد، وكان عارفا بوجوهها وهو الذي تولى غرس جنة المأمون بن ذي النون الشهيرة بطليطلة ولد سنة 389، توفي منتصف يوم الجمعة، لعشر بقين من رمضان سنة سبع وستين وأربعمائة.
وأبو زيد عبد الرحمن بن سعيد الأنصاري، لقي أبا الحسن بن الألبيري المقري وأخذ عنه، وحدث عنه أبو بكر بن الخلوف، بكتاب الاستذكار، لمذاهب القراء السبعة المشهورين في الأمطار، لابن الألبيري المذكور، قال ابن الأبار: وقد تقدم ذكر محمد بن عبد الرحمن الأنصاري الطليطلي المقري، وروايته عن أبي عبد الله المغامي، ولعله ابن هذا. وعبد الجبار بن قيس بن عبد الرحمن بن قتيبة بن مسلم الباهلي، من أهل طليطلة، ولي قضاءها من قبل الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل.
وأبو الحسن على بن عبد الرحمن بن يوسف الأنصاري من ولد سعد بن عبادة يعرف بابن اللونقة، روى عن أبي عمر بن عبد البر، وأبى العباس العذري وغيرهما وكان فقيها ورعا، وأخذ علم الطب عن أبي المطرف بن واقد، وكان خرج من طليطلة قبل تغلب الروم عليها، وأقام بقرطبة، ومات فيها سنة ثمان أو تسع وتسعين وأربعمائة. ترجمة ابن الأبار. وأبو الحسن علي بن أحمد بن أبي بكر الكناني، يعرف بابن حنين الطليطلي، ثم القرطبي، نزيل فاس، سمع بقرطبة، وبجيتان، وحج سنة خمسمائة وبعدها مرتين، ولقي أبا حامد الغزالي، وصحبه، وسمع منه أكثر الموطأ وأقام ببيت المقدس تسعة أشهر يقرئ القرآن، وفي سنة 503 كان في مدينة فاس، توفي سنة 569 معمرا، لأنه ولد سنة 476، ترجمه ابن الأبار. وسعيد بن محمد المعروف بابن البغونش، يكنى أبا عثمان، قرأ بقرطبة علم العدد والهندسة، وأخذ عن أبي محمد بن عبدون الحلبي، وسليمان بن جلجل، علم الطب. واتصل بأمير طليطلة الظافر إسماعيل بن ذي النون، ثم انقبض عن الناس، ومال إلى العبادة في دولة ابنه المأمون يحيى بن ذي النون، وتوفي في رجب سنة 444، عن خمس وسبعين سنة. وأبو عثمان سعيد بن عيسى بن أحمد بن لب الرعيني، يعرف بالأصفر، وبالقصيري لولادته بقصير عطية، ولد سنة 381، ورحل إلى قرطبة في طلب العلم سنة 399، وقرأ بقرطبة وبمالقة على أبي الحسن الزهراوى، وعلى أبي عثمان نافع، وكان مقدما في علم العريبة، وتوفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأنصاري المقرئ الضرير، يعرف بالمجنقوني، سكن قرطبة، وأصله من طليطلة كان من جلة أصحاب أبي عمر المقرئ، وسمع الحديث على أبي بكر جماهر بن عبد الرحمن الحجرى، وكان ثقة فاضلا عفيفا منقبضا، وكان إمام مسجد طرفة بالمرية، وكانت وفاته عقب شعبان سنة سبع عشرة وخمسمائة. وأبو بكر يحيى بن أحمد من طليطلة، نزل أشبيلية بعد تغلب الروم على وطنه. قال ابن الأبار: إنه كان يتقدم أدباء عصره تفننا في الآداب، وتصرفا في النظم توفي سنة 545.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن موسى بن عبد السلام الأنصاري، يعرف بابن شق الليل، سمع بمصر أبا الفرج الصوفي، وأبا القاسم الطحان، وأبا محمد بن النحاس، وغيرهم، وكان قد قرأ على علماء طليطلة، وكان غالبا عليه علم الحديث، مع معرفة أسماء رجاله. وكان مليح الخط، جيد الضبط، شاعرا مجيدا، لغويا، صالحا فاضلا، توفي بطلبيرة يوم الجمعة منتصف شعبان سنة 455، ترجمة ابن بشكوال، وذكره المقري في من رحل من أهل الأندلس إلى الشرق. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن سهل الأموي الطليطلي، المعروف بالنقاش، نزل مصر، وقعد للإقراء بجامع عمرو بن العاص، وأخذ عنه جماعة، وتوفي بمصر سنة 529، ورد ذكره في نفح الطيب. وأبو زكريا يحيى بن سليمان، قدم إلى الإسكندرية، ثم رحل إلى الشام، وأقام بحلب، وله ديوان شعر أكثر فيه من المديح والهجاء، قال بعض من طالعه: ما رأيته مدح أحدا إلا وهجاه. عن نفح الطيب. وأبو محمد عبد الله بن العسال الطليطلي، له شعر قرأته في صفحة 148 من الجزء الثاني من نفح الطيب. وعبد الله بن المعلم الطليطلي. ومحمد بن خيرة العطار كان متقنا لعلم العدد والفرائض علم بذلك في قرطبة، ذكره القاضي صاعد، ترجمة ابن الأبار في التكملة. وأحمد بن محمد بن الحسن الطليطلي، من شيوخ الصاحبين.
وأبو جعفر أحمد بن خميس بن عامر بن منيح من أهل طليطلة، قال القاضي صاعد بن أحمد عنه: أحد المعتنين بعلم الهندسة والنجوم والطب، وله مشاركة في علوم اللسان، وحظ صالح في الشعر، وهو من أقران أبي الوليد هشام بن أحمد ابن هشام، وأبي إسحاق إبراهيم بن لب إدريس التجيبي، المعروف بالقويدس. كان من أهل قلعة أيوب، ثم أخرج عنها، واستوطن طليطلة، وتأدب فيها، وبرع في علوم العدد والهندسة والفرائض، وقعد للتعليم بذلك زمانا طويلا وكان له بصر بعلم هيئة الأفلاك، وحركات النجوم، وعنه أخذت كثيرا من ذلك، وكان له مع ذلك نفوذ في العربية، وقد أدب بها زمانا بطليطلة، وتوفي رحمه الله ليلة الأربعاء، لثلاث بقين من رجب سنة أربع وخمسين وأربعمائة. انتهى.
ثم ذكر القاضي صاعد بعض من عني بالفلسفة من أهل الأندلس فقال: وفي زماننا هذا أفراد من الأحداث منتدبون بعلم الفلسفة، ذوو أفهام صحيحة، وهمم رفيعة قد أحرزوا من أجزائها، فمنهم من سكان طليطلة وجهاتها: أبو الحسن علي بن خلف بن أحمر. وأبو إسحاق إبراهيم بن يحيى النقاش المعروف بوليد الزرقيال. وأبو مروان عبد الله بن خلف الأستجي. وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن غالب التهلاكي. وعيسى بن أحمد بن العالم. وإبراهيم بن سعيد السهلي الإسطرلابي. (ثم قال): وأعلمهم بحركات النجوم، وهيئة الأفلاك، أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى النقاش، والمعروف بولد الزرقيال، فإنه أبصر أهل زماننا بأرصاد الكواكب، وهيئة الأفلاك وحساب حركاتها، وأعلمهم بعلم الأزياج، واستنباط الآلات النجومية.ا.ه.
ثم ذكر القاضي صاعد غير هذا من الحكماء وعلماء الفلك والرياضيين، من أهل الأندلس، ممن سنذكرهم عند الوصول إلى ذكر بلدانهم. ثم ذكر علماء الطب فقال ما يلي: وكان بعد هؤلاء إلى هذا جماعة من أشهرهم: أبو عثمان سعيد بن محمد بن البغونش، وكان من أهل طليطلة، رحل إلى قرطبة بطلب العلم، فأخذ عن مسلمة بن أحمد علم العدد والهندسة، وعن محمد بن عبدون الجبلي وسليمان بن جلجل، وابن الشناعة، ونظرائهم، علم الطب. ثم انصرف إلى طليطلة، واتصل بأميرها الظافر إسماعيل بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن عامر بن مطرف بن ذي النون، وحظي عنده وكان أحد مديري دولته، ولقيته فيها بعد ذلك، في صدر دولة المأمون ذي المجد يحيى بن الظافر بن إسماعيل بن ذي النون، وقد ترك قراءة العلم، وأقبل على قراءة القرآن. ولزوم داره، والانقباض عن الناس، فلقيت منه رجلا عالما، جميل الذكر والمذهب، حسن السيرة، نظيف الثياب، ذا كتب جليلة، في أنواع الفلسفة وضروب الحكمة. وتبينت منه أنه قد قرأ الهندسة وفهمها، والمنطق وضبط كثيرا منه. ثم أعرض عن ذلك، وتشاغل بكتب جالينوس وجمعها، وتناولها بتصحيحه ومعاناته، فحصل له بتلك العناية فهم كثير منها. ولم يكن له دربة في علاج المرضى، ولا طبيعة نافذة في فهم الأمراض. وتوفي عند صلاة الصبح يوم الثلاثاء أول رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة، وعمره خمس وسبعون سنة. ا.ه.
ثم ترجم القاضي صاعد الوزير أبا المعارف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن يحيى بن وافد بن مهند اللخمي، قال عنه: أحد أشراف أهل الأندلس وذوي السلف الصالح منهم، والسالفة القديمة فيهم، عني عناية بالغة بقراءة كتب جالينوس وتفهمها، ومطالعة كتب أرسطاطاليس، وغيره من الفلاسفة، وتمهر في علوم الأدوية المفردة، حتى ضبط منها ما لم يضبط أحد في عصره. وألف فيها كتابا جليلا لا نظير له جمع فيه ما تضمنه كتاب ديوسفوريدوس، وكتاب جالينوس المؤلفين في الأدوية المفردة، ورتبه أحسن ترتيب. وهو مشتمل على قريب من خمسمائة ورقة، وأخبرني عنه أنه عانى جمعه، وحاول ترتيبه، وتصحيح ما ضمنه من أسماء الأدوية وصفاتها، وأودعه إياه من تفصيل قواها، وتحديد درجاتها، من عشرين سنة، حتى كمل موافقا لغرضه، مطابقا لبغيته. وله في الطب منزع لطيف، ومذهب نبيل. وذلك أنه لا يرى التداوي بالأدوية، ما أمكن التداوي بالأغذية، أو ما كان قريبا منها، فإذا دعت الضرورة إلى الأدوية فلا يرى التداوي بمركبها، ما وصل إلى التداوي بمفردها. فإن اضطر إلى المركب لم يكثر التركيب. بل اقتصر على أقل ما يمكن منه. وله نوادر محفوظة، وغرائب مشهورة، في الإبراء من العلل الصعبة، والأمراض المخوفة، بأيسر العلاج وأقربه، وهو في وقتنا هذا حي مستوطن مدينة طليطلة وأخبرني أنه ولد في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. ا.ه.
ثم ذكر القاضي صاعد علماء آخرين من بلده، اشتهروا بالفلسفة والطب والفلك والهندسة فقال: ثم من أحداث عصرنا، ممن يعتني بطلب الفلسفة: أبو الحسن عبد الرحمن بن خلف بن عساكر، اعتنى بكتب جالينوس عناية صالحة، وقرأ كثيرا منها على أبي عثمان سعيد بن محمد بن بفونش، واشتغل أيضا بصناعة الهندسة والمنطق، كانت له عبارة بالغة، وطبع فاضل في المعاناة، ومنزع حسن في الفلاح، وهو مع ذلك صنع
18
اليدين، متصرف في ضروب من الأعمال اللطيفة، والصناعات، ساع في نيلها، وله من جودة القريحة، وصحة الفهم، ما يمكنه من بلوغ إلى المراتب الراقية من الفلسفة، إن أعانه جد، وساعده حال.
وأما صناعة أحكام النجوم فلم تزل نافعة بالأندلس قديما وحديثا، واشتهر بتقليدها جماعة في كل عصر إلى وقتنا هذا. فكان من مشاهيرهم في زماننا هذا، وزمان بني أمية: أبو بكر يحيى بن أحمد، المعروف بابن الخياط، كان أحد تلاميذ أبي القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي في علم العدد والهندسة. ثم مال إلى أحكام النجوم، فبرع فيها، واشتهر في علمها، وخدم بها سليمان بن الحكم بن الناصر لدين الله أمير المؤمنين في زمان الفتنة، وغيره من الأمراء. وكان آخر من خدم بذلك معتنيا بصناعة الطب دقيق العلاج، وكان حصيفا، حليما، دمثا، حسن السيرة، كريم المذهب، توفي بطليطلة سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وقد قارب ثمانين سنة. ا.ه. (ثم قال): ومنهم من أحداث عصرنا أبو مروان عبيد الله بن خلف، أحد المتحققين بعلم الأحكام، والمشرفين على كتب الأوائل، فلا أعلم أحدا في الأندلس في وقتنا هذا ولا قبله، وقف من أسرار هذه الصناعة وغرائبها على ما وقف عليه. وله في التسيرات، ومطارح الشعاعات، وتعليل بعض أصول الصناعة، رسالة فاضلة، لم يتقدمه أحد إليها. كتب بها إلي من مدينة قونكة. ا.ه.
هؤلاء هم علماء العرب المنسوبون إلى طليطلة، من فقهاء، ومحدثين، وحكماء، ومتكلمين، وشعراء، ومنشئين، وأطباء، ومهندسين، وحكماء ورياضيين، ممن وقفنا على أخبارهم. ولا شك في أنه ند منهم من لم نقف على خبره، أو من وقع منا سهو عن تقييد ترجمته، والإحاطة غير ممكنة، كما لا يخفى. وإن فاتنا شيء ووقفنا على فوته قيدناه ليلحق بالطبعة الآتية إن شاء الله.
فأما الذين ينسبون إلى طليطلة من كبار الرجال في دور النصرانية، فأشهرهم الكردينال «بادرو غونزالز دو مندوزا»
19
الذي كان أكبر موقد لنار الحرب على غرناطة، توفي سنة 1495. والكردينال «شيمينيس دوسيزناروس»
20
المتوفى سنة 1517، وهو صاحب ديوان التفتيش الشهير، الذي كان يحرق بالنار المسلمين واليهود الذين يأبون التنصر، أو يتنصرون ظاهرا، ثم يأتي من يخبر عنهم بأنهم لا يزالون يدينون بدينهم سرا. والكرادلة «رودريقو»،
21
و«فونسيكا»،
22
و«تينوريو»،
23
باني قنطرة طليطلة الأخيرة. و«تافيره»،
24
و«لورانزانه»،
25
وكلهم كانوا رؤساء أساقفة أسبانية. وفى طليطلة مات الشاعر أغسطين كابانيا،
26
سنة 1669 وولد فرنسيسكو روجاس زورلا
27
سنة 1607.
هوامش
الفصل الثاني
طلبيرة
ومن الأعمال الشهيرة التي كانت مضافة إلى طليطلة في زمان العرب طلبيرة،
1
وهى على مسافة 135 كيلومترا من مجريط، وسكانها اليوم أحد عشر ألف نسمة، واقعة على ضفة نهر تاجه، ولها جسر 25 قوسا باق من القرن الخامس عشر، وفيها باب روماني قديم، وأبراج عربية من زمن بني أمية . وفى هذه البلدة هزم الإنكليز جيش بونابرت في 28 يوليو سنة 1809. ويوجد ثلاث بلاد باسم طلبيرة في أسبانية: طلبيرة على ضفة وادي يانه، من عمل بطليوس في غرب الأندلس وهى قرية صغيرة، وطلبيرة هذه ذات الشأن، وكانت تعد من أعمال طليطلة. وطلبيرة يبجة على 30 كيلومترا من طلبيرة الكبرى.
قال ياقوت الحموي: طلبيرة بفتح أوله وثانيه، وكسر الباء الموحدة، ثم ياء مثناة من تحت ساكنة، وراء مهملة: مدينة بالأندلس، من أعمال طليطلة، كبيرة، قديمة البناء، على نهر تاجه بضم الجيم. وكانت حاجزا بين المسلمين والإفرنج، إلى أن استولى الإفرنج عليها فهي في أيديهم الآن، فيما أحسب. وكان قد استولى عليها الخراب، فاستجدها عبد الرحمن الناصر الأموي، ولطلبيرة حصون ونواح عدة. ا.ه.
وينتسب إلى طلبيرة عدد كبير من أهل العلم، مما يدل على عمرانها العظيم في أيام العرب، منهم: أبو الحسن عبد الرحمن بن سعيد بن شماخ، روى ببلده عن أبي الوليد مرزوق بن فتح، وروى عن أبي عبد الله المغامي، وكان من أهل الذكاء والمعرفة، توفي في شوال سنة 520. وأبو الوليد عبد ربه بن جهور القيسي، روى عن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد السلام الحافظ وغيره، وروى عن ابنه إبراهيم بن عبد ربه. وأبو القاسم عيسى بن إبراهيم بن عبد ربه المذكور، سكن شريش، ورحل إلى المشرق ودخل بغداد، وأخذ عن الحريري صاحب المقامات، وكان أديبا بارعا صالحا ثقة، مات بأشبيلية وسط سنة 527.
وأبو الحسن علي بن موسى بن إبراهيم بن حزب الله، من أهل طلبيرة سكن سرقسطة، روى عن أبي عمر المديوني، ورحل إلى المشرق وحج، وأدرك الجلة من الرجال، وحدث عنه أبو عمرو المقرئ وأبو حفص بن كريب، وكان كثير الرواية، غير أن العبادة غلبت عليه، فامتنع عن الرواية إلا يسيرا، واعتزل الناس، وكان يختم القرآن في ثلاث ليال. قال ابن بشكوال: ولم ألق مثله في الزهد والتبتل رحمه الله. وأبو نصر فتوح بن عبد الرحمن بن محمد الأنصاري، روى عنه أبو الوليد مرزوق بن فتح ، وقال: كان الغالب عليه الرأي.
وأبو عبد الله محمد بن فتوح بن علي بن وليد بن محمد بن علي الأنصاري، روى عن أبي جعفر بن مغيث وثائقه، وأخذ عن أبي عمر بن عبد البر، وأبي عمر بن سميق، وأبي عمر الطلمنكي، وعن التبريزي. وكان عالما بالرأي والوثائق، تولى أحكام القضاء بغرناطة وتوفي بمالقة، أول يوم من صفر سنة 498. وأبو الوليد مرزوق بن فتح بن صالح القيسي، روى عن أبي عبد الله محمد بن عبد السلام الحافظ، وعن أبي العباس بن فتوح وعن التبريزي، والسافقسي، وعن أبي محمد الشنتجياني، وأبى محمد بن عباس الخطيب، ورحل إلى المشرق حاجا، ولقي بمكة أبا ذر الهروي في موسم سنة 428، وكان من أهل المعرفة والنباهة، توفي في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. وأبو الفتوح نصر بن عامر بن أنس الأنصاري، روى عن عبد الرحمن بن مدراج وروى عنه ابن عبد السلام الحافظ، وأبو محمد بن خزرج. وقال هذا عنه: كان من أهل العلم، ثقة ثبتا، مشهورا بالعناية والسماع، وذكر أنه أجاز له سنة 416. وأبو العباس وليد بن محمد بن فتوح الأنصاري، روى عن عبدوس بن محمد، وله رحلة إلى المشرق، وكان يغلب عليه الرأي.
وأبو العباس أحمد بن عمر المعافري المرسي، أصله من طلبيرة، يعرف بابن إفرند. وخلف المقري مولى جعفر الفتي، يكنى أبا القاسم، له رحلة إلى المشرق، سمع فيها بالقيروان من أبي محمد بن أبي زيد، ولازمه سنين عدة، وأقام بالمشرق سبعة عشر عاما، وحج ثلاث حجج، وقرأ القرآن بمصر على ابن غلبون المقرئ، ودخل بغداد والبصرة والكوفة، قال ابن بشكوال: قرأت خبره كله بخط أبي بكر المصحفي، وذكر أنه لقيه بطلبيرة، وقال: كان رجلا صالحا متبتلا، دائم الصيام، عابدا، يسكن المسجد، ويحاول عجن خبزه بيده، وكان قصيرا مفرط القصر، وكان فقيها يقظا، وذكر أنه أخذ عنه سنة ثمان وأربعمائة. وأبو بكر خلف بن يوسف بن نصر المعروف بالمغيلي، أخذ عن أبي عبد الله بن عيشون مختصره في الفقه، وحدث عنه الصاحبان في طليطلة، وقالا: توفي في شعبان سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
هوامش
الفصل الثالث
قشبرة
ومن أعمال طليطلة بلدة يقال لها قشبرة، بضم أوله وثانيه، وسكون الباء. قال ياقوت الحموي: وجدت بعض المغاربة كتبه بالواو (قشوبره). وهى من إقليم شنثلة ينسب إليها أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد الأنصاري القشبري، سمع بالحديث بأصبهان من أبي الفتوح بن محمود بن خلف العجلي، ومحمد بن زيد الكراني، وحدث فيما وراء النهر ببخارى وسمرقند، وكان عالما بالهندسة، وتوفي بسمرقند.
الفصل الرابع
أقليش
ومن أعمال طليطلة أيام العرب أقليش، ذكرها ياقوت في المعجم فقال: بضم الهمزة، وسكون القاف، وكسر اللام وياء ساكنة، وشين معجمة: مدينة بالأندلس من أعمال شنت برية، وهى اليوم للإفرنج. وقال الحميدي: أقليش بليدة من أعمال طليطلة، ينسب إليها أبو العباس أحمد بن القاسم المقري الأقليشي.وأبو العباس أحمد بن معروف بن عيسى بن وكيل التجيبي الأقليشي. قال أحمد بن سلفة.
1
في معجم السفر: كان من أهل المعرفة باللغات، والأنحاء والعلوم الشرعية. ومن جملة أساتيذه أبو محمد بن السيد البطليوسي، وأبو الحسن بن سبيطة الداني، وأبو محمد القلني، وله شعر، وكان قد قدم علينا الإسكندرية سنة 546، وقرأ علي كثيرا، وتوجه إلى الحجاز، وبلغنا أنه توفي بمكة. ا.ه.
وعبد الله بن يحيى التجيبي الأقليشي، أبو محمد، يعرف بابن الوحشي، أخذ بطليطلة عن المغامي المقرئ القراءة، وسمع بها الحديث، وله كتاب حسن في شرح الشهاب واختصر كتاب مشكل القرآن، لابن فورك. وتولى أحكام بلده في آخر عمره وتوفي سنة اثنتين وخمسمائة. ا.ه.
قلنا: وممن ينسب إلى أقليش من العلماء خلف بن مسلمة بن عبد الغفور، كان قاضيا في أقليش يكنى أبا القاسم روى بقرطبة عن أبي عمر بن الهندي، وأبي عبد الله ابن العطار، وأخذ عنها كتاب الوثائق من تأليفهما، وجمع كتابا في الفقه سماه بالاستغناء. وأبو القاسم خلف بن مسعود بن أبي سرور، روى بقرطبة عن شيوخها وحدث عنه القاضي محمد بن خلف بن السقاط. وأبو محمد عبد الله بن يحيى التجيبي المعروف بابن الوحشي، الذي ذكره ياقوت في المعجم كما تقدم. وأبو الربيع هشام بن سليمان المقري، له كتاب في القراءات. وأبو العباس أحمد بن قاسم بن عيسى بن فرج بن عيسى اللخمي المقري الأقليشي سكن قرطبة.
2
وأبو العباس الأقليشي أحمد بن معد بن عيسى التجيبي الأندلس الداني. قال الحنبلي في شذرات الذهب. إنه مات سنة 505، وسمع أبا الوليد ابن الدباغ، وأخذ بمكة عن الكروخي، وكان زاهدا عارفا، وله شعر في الزهد، وتصانيف من جملتها كتاب المعجم. انتهى.
وكان والده أبو بكر معد بن عيسى بن وكيل التجيبي، نزيل دانية، من العلماء أيضا، وقد حدث عنه ابنه المذكور، ذكر ذلك ابن الأبار في التكملة. وأبو المطرف عبد الرحمن بن خلف التجيبي، روى عن أبي عثمان سعيد بن سالم المجريطي، ورحل حاجا سنة 346. وبهلول بن فتح من أهل أقليش، له رحلة إلى المشرق حج فيها، وكان رجلا صالحا. وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن فتحون من أهل أقليش وقاضيها رحل إلى المشرق وحج، وسمع بمكة، من كريمة المروزية، وسمع بمصر من أبي إسحاق الحبال، وأبي نصر الشيرازي، وأبي الحسن محمد بن مكي الأزدي، وكان سماعه منهم مع أبي عبد الله الحميدي سنة 450، وكان خطيبا محسنا، استقضى بأقليش بلده، ثم أعفي من القضاء، ثم دعي إلى قضاء وبذى فأبى وعزم عليه في ذلك وجاءه أهل وبذى لهذا الغرض، وباتوا ليلتهم في أقليش، وتوفي أبو إسحاق في صبيحة تلك الليلة. وأبو إسحاق إبراهيم بن ثابت بن أخطل من أهل أقليش، سكن مصر، وكان دخوله إليها بعد سنة 390 واستوطنها، وكان مقرئا، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين بعد الأربعمائة. ا.ه.
وينسب إلى بعض قرى أقليش حلالة بن حسن الفهري، ذو الوزارتين، يعرف بابن المديوني سكن سرقسطة وقونكة، ثم سكن غرناطة، وعلم فيها النحو والأدب.
هوامش
الفصل الخامس
قونكة
وغير بعيد عن طليطلة «مدينة قونكة
Ceuenca » وهى مركز مقاطعة، وسكانها اليوم بضعة عشر ألفا. وهى الآن قسمان: البلدة القديمة وهى جنينة على قمة شاهقة ، عليها حسن، وأمامها وادي شقر
1
وإلى الشمال الغربي من المدينة تقع البلدة الجديدة وفي قونكة كنيسة قديمة من القرن السادس عشر، فيها مقابر عائلة البرنس
Albornoz
ويسير الراكب من أرانجويش إلى قونكة. شرقا مسافة 152 كيلومترا، وقد كان العرب عمروا قونكة، وكانت تابعة لشنترية، فأخذها منهم الأزفونش الثامن سنة 1177. قال ياقوت في المعجم: قونكة مدينة بالأندلس من أعمال شنترية ينسب إليها إبراهيم بن محمد بن خيرة أبو إسحاق القونكي، روى ببلدته عن قاضيها أبي عبد الله بن محمد بن خلف بن السقاط، وسكن قرطبة وأخذ بها عن أبي علي العسالي وعن عبد الله بن كرج وكان حافظا للحديث ومات في شوال سنة 517. قاله ابن بشكوال.
هوامش
الفصل السادس
البسيطة
ومن المدن التي تقع في الجانب الشرقي من طليطلة مدينة البسيطة وهى كاسمها في بسيط من الأرض وسكانها اليوم خمسة عشر ألفا، وهى قسمان: المدينة القديمة، والمدينة الجديدة، وهى في أسفل القديمة، ويمر بها الطريق الحديدي الذاهب من مجريط إلى القنت والسواحل الشرقية.
الفصل السابع
شنتجالة
وعلى مقربة من البسيطة مدينة شنتجالة، وهى بلدة معروفة جدا في أيام العرب وموقعها على مسافة 298 كيلومترا من مجريط، ولها حصن مرتفع علي راية تعلو مائتي متر. وبجانب هذا الحصن كهوف كثيرة مسكونة. وشنتجالة هي ملتقى خطي الحديد: خط مرسية، وخط قرطاجنة، وقد ورد ذكرها في ما نقلناه عن جغرافي العرب، عندما تكلموا على تقسيمات الأندلس. ولنذكر الآن ما قاله ياقوت في معجمه:
شنتجالة بالأندلس. وبخط الأشتري: شنتجيل، بالياء ينسب إليها سعيد بن سعيد الشنتجالي أبو عثمان، حدث عن أبي المطرف بن مدرج وابن مفرج وغيرهما. وحدث عنه أبو عبد الله محمد بن سعيد بن بنان. قال ابن بشكوال: وعبد الله بن سعيد بن لباج الأموي الشنتجالي المجاور بمكة، وكان من أهل الدين والورع والزهد. وأبو محمد رجل مشهور لقي كثيرا من المشايخ، وأخذ عنهم وروى، وصحب أبا ذر عبد الله بن أحمد الهروي الحافظ، ولقي أبا سعيد السجزى، وسمع منه صحيح مسلم، ولقي أبا سعد الواعظ ، صاحب كتاب شرف المصطفى، فسمعه منه، وأبا الحسين يحيى بن نجاح، صاحب كتاب سبل الخيرات، وسمعه منه. وأقام بالحرم أربعين عاما لم يقض فيه حاجة الإنسان، تعظيما له، بل كان يخرج عنه إذا أراد بذلك، ورجع إلى الأندلس في سنة 430. وكانت رحلته سنة 391، وأقام بقرطبة إلى أن مات في رجب سنة 436.ا.ه.
قلنا: ويقال إن أبا محمد عبد الله بن لباج المذكور حج خمسا وثلاثين حجة.
هذا وممن ينسب من العلماء إلى شنجالة أبو الوليد يونس بن أبي سهولة بن فرج بن بنج اللخمي، سكن دانية، وتوفي بها سنة 514. وأبو الحسن مفرج بن فيرة الشنجالي. وخديجة بنت أبي محمد عبد الله بن سعيد الشنجالى، وكانت من الفاضلات المحدثات. وأما أبو الحسن مفرج بن فيرة فكان قد أخذ عن أبي الوليد الوقشي، وأبى عبد الله بن خلصة الكفيف. وتوفي حول 480.
وبالقرب من شنجالة بلدة يقال لها ألبيرة
Alpera
يوجد بجانبها كهفان فيهما نقوش من العصر الجليدي، من رسوم حيوانات ورجال.
وهناك أيضا قرية المنصة
Almansa
وأصل هذه اللفظة «المصنع» وذلك أنه يوجد فيها بركة ماء كبيرة طولها ألفا متر، في عرض ألفين، في عمق ثمانين مترا، وهذا المصنع مبني على واد، والسد ينخفض كلما ذهب صعدا. ويوجد في قرية المصنع حصن من زمن العرب مشرف علي تلك السهول. وقد مررت في سياحتي إلى أسبانية بهذه الأمكنة كلها.
الفصل الثامن
مكادة
ومن أعمال طليطلة المعروفة في أيام العرب «مكادة» بفتح أوله وتشديد ثانيه وبعد الألف دال مهملة. قال ياقوت: مدينة بالأندلس من نواحي طليطلة هي الآن للإفرنج (ياقوت توفي سنة 626) قال ابن بشكوال: سعيد بن يمن بن محمد بن عدل بن رضا بن صالح بن عبد الجبار المرادي، من أهل مكادة، يكنى أبا عثمان، روى عن وهب بن مسرة وعبد الرحمن بن عيسى وغيرهما وتوفي في ذي القعدة سنة 437. وأخوه محمد بن يمن بن محمد بن عدل، رحل إلى المشرق روى عن الحسن بن رشيق وعمر بن المؤمل. وأبو محمد بن أبي زيد ، وكان رجلا صالحا خطيبا بجامع مكادة حدث عنه جماعة، ومات بعد سنة 450 ا .ه.
وممن ينسب إلى مكادة أبو عثمان سعيد بن عثمان، وكان معتنيا بالحديث وسماعه وحدث، قال ابن بشكوال: ورأيت السماع عليه مقيدا في كتابه سنة 421 بطلمنكة في جامعها.
الفصل التاسع
قلعة عبد السلام
ومن أعمال طليلطة قلعة عبد السلام، وإليها ينسب من أهل العلم أبو بكر خلف بن تمام، حدث عنه أبو محمد بن ذنين. وإبراهيم بن سعيد بن سالم بن أبي عصام القلعي، يروي عن محمد بن القاسم بن مسعدة، وعن عبد الرحمن بن عيسى بن مدراج وغيرهما روى عنه الصاحبان وقالا: قدم علينا طليطلة مجاهدا، وتوفي في التسعين وثلاثمائة. وأبو عمر يوسف بن عمر بن يوسف الأنصاري الخزرجي، يعرف بابن الفخار، يحدث عن مسعود بن سعيد بن عبد الرحمن، حدث عنه أبو محمد بن ذنين.
الفصل العاشر
بالنسية
هذا ومن المدن المعدودة في قشتالة بالنسية، غير بلنسية الشرقية، وهى مدينة أيبيرية قديمة، استولى عليها الرومان بعد مقاومة شديدة. وفى القرن الثاني عشر صارت مقرا لملوك قشتالة، وفى أيام شارلكان ثار أهلها في جملة من ثار به فأفحش الإمبراطور فيها النكاية، وأسقطها عن عظمتها، وفيها كنيسة عظيمة بديعة الصنعة، هي الكنيسة الكبرى، وفيها كنائس أخرى أيضا، وسكانها اليوم بضعة عشر ألفا.
الفصل الحادي عشر
ليون
ومدينة ليون وهى من المدن الشهيرة، ولها مقاطعة يقال لها مقاطعة ليون، ولكنها اليوم قد نزلت عن درجتها الأولي، ولا يزيد سكانها علي خمسة عشر ألفا، وهى من المدن القديمة التي استولى عليها الرومان، وجعلوا فيها مركز قيادة عسكرية. ثم استولى عليها القوط، ولبثت في أيديهم إلى أن فتحها العرب سنة 983، ثم استرجعها الإسبانيول، وعظم أمرها في القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر، ثم انضمت إلى قشتالة مملكة واحدة، وكنيستها الجامعة من أبدع محدثات الأسلوب القوطي في البناء، وأول حجر وضع فيها كان سنة 1200، وفيها كنائس وأديار متعددة، وآثار تدل على عظمتها السالفة. ثم مدينة
الفصل الثاني عشر
طلمنكة
فالعرب يلفظونها بالطاء، وأما الأسبان فيلفظونها بالسين، وهي بلدة متوسطة، سكانها 25 ألفا، واقعة على نهر طورمس، وهى مركز مقاطعة وأسقفية، وإنما اشتهرت من القديم بمدرستها الجامعة، وهى في بسيط من الأرض، وهواؤها شديد الاختلاف أشبه بهواء برغش، ففي الشتاء يشتد فيها البرد، كما في برغش وآبلة، وفى الصيف حرها لا يطاق. وكان اسمها في القديم سالامانتيكا. واستولى عليها أنيبال القرطاجني سنة 217 قبل المسيح، ثم كانت في زمن الرومان تابعة لولاية لوزيطانية، ولما جاء العرب وقعت عليها الوقائع الشداد بينهم وبين الأسبان، لكونها واقعة على الطريق السلطاني الروماني، المؤدي من ماردة إلى أسترقه. وقد استردها الأسبان من أيدي العرب في جملة ما استردوه من شمالي أسبانية، وصارت قاعدة مملكة ليون، وحصنها الأذفونش السادس الذي استولى علي طليطلة، ولأجل أن يجعل الأذفونش فيها حامية كثيفة استجلب إليها كثيرا من الغرباء، لا سيما من الإفرنجة، ولكن عظمة طلمنكة لم تبدأ حقا إلا بالمدرسة الجامعة التي بناها أذفونش التاسع سنة 1230،
1
وقد قارن النجاح هذه المدرسة، فازدهرت، وشاع ذكرها، وصارت تعد من أكبر جامعات أوربة، نظير جامعة باريزوا كسفورد. وكان فيها سبعة آلاف طالب
2
في القرن السادس عشر، وكانوا من جميع أقطار الأرض. وجاء في دليل بديكر أن هذه المدرسة كانت هي التي تنشر معارف العرب في بقية أوربة.
شكل 16-1: نهر طورمس وجسر روماني في طلمنكة.
شكل 16-2: من مباني طلمنكة.
ولم تبدأ طلمنكة بالانحطاط إلا في زمن فيليب الثاني عند ما نقل كرسيه من طليطلة، وجعل مركز الأسقفية في بلد الوليد بدلا من طلمنكة. وأهم من ذلك أنه كان فيها عدد كبير من الموريسك، أي بقايا العرب، فلما أجبرهم على الجلاء سنة 1610 تناقص بذلك جدا عمران المدينة. وفى زمن بونابرت عندما استولى الفرنسيس على أسبانية، جعلوا طلمنكة قاعدة حربية، فهدموا كثيرا من حاراتها. وفى طلمكنة ساحة عمومية مربعة، هي من أجل ساحات أسبانية، وفيها جسر روماني قديم، وفيها كنائس متقنة كسائر كنائس أسبانية. وفيها خزانة خاصة بالمدرسة الجامعة، إلا أن المدرسة ليست اليوم على شيء من أهميتها الماضية، وعدد الطلبة فيها لا يتجاوز ثلاثمائة. وكم في طلمنكة من أثر قديم ، وبناء فخم، ودور مرخمة، وأحجار مخرمة.
وقد ذكر ياقوت الحموي طلمنكة فقال: بفتح أوله وثانيه، وبعد الميم نون ساكنة، وكاف: مدينة بالأندلس من أعمال الإفرنج اختطها محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك. خرج منها جماعة منهم أبو عمرو، وقيل أبو جعفر، أحمد بن محمد بن عبد الله بن لب بن يحيى بن محمد المعافري المقري الطلمنكي، وكان من المجودين في القراءة، وله تصانيف في القراءة روى الحديث وعمر حتى جاوز التسعين، يروي عنه محمد بن عبد الله الخولاني. ا.ه.
ثم قلت: وكان أبو عمرو الطلمنكي من أشهر علماء الأندلس، من أخذ عنه عد نفسه قد رزق حظا كبيرا، وكثيرا ما يدور ذكره في تراجم العلماء، وقد سار على أثره ابنه أبو بكر عبد الله بن أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله بن لب المعافري الطلمنكي.
3
شكل 16-3: ميدان ميور بطلمنكة.
هوامش
الفصل الثالث عشر
زمورة
وعلى مسافة ستين كيلومترا من طلمنكة، مدينة زمورة، مبنية فوق صخرة عالية يجري تحتها الوادي الجوفي، وكانت من قديم الزمان قلعة منيعة تتصادم أمامها الجيوش وطالما وقعت عندها الملاحم، بين العرب والإفرنج، ولا تزال آثار حصونها مائلة، وفيها كنائس مذكورة، أبدع فيها الصناع، ولها جسر أنيق المنظر على واديها وليست في يومنا هذا من المدن المعدودة، وينسب إليها رئيس جمهورية أسبانية السابق، الذي يقال له «قلعة زمورة»
Alcala-Zamora ، الذي ترأس جمهورية أسبانية في السنوات الأخيرة بعد سقوط الملكية فيها. وقد كانت العرب استولت على زمورة، ثم استرجعها الأسبان في زمن الملك فرويلة بن أذفونش بن بطره، أيام عبد الرحمن الداخل بسبب فتن العرب بعضهم مع بعض، إلا أن عبد الرحمن الناصر استرجعها وأنزل بها المسلمين. ثم بعد وفاة الحكم المستنصر استرجع النصارى تلك المدن، فزحف عليهم المنصور سنة 378، وافتتح ليون وحاصر زمورة، وأخذها عنوة، وأوطن المسلمين زمورة سنة 389، إلى أن كانت الفتنة في قرطبة، فرجعت إلى النصارى، وكان عامل المنصور على زمورة أبو الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي.
الفصل الرابع عشر
أشتوريش وجليقية
إن مقاطعة أشتوريش القديمة هي اليوم ولاية أوفيدو
Oviedo
ويقول لها العرب أوبيط وهذه الولاية عدد سكانها يناهز سبعمائة ألف، واقعة إلى الغرب من بلاد الباشكونس، وجبال قنتبرية، إلى خليج بسقاية أو غشقونية
Biscaye ou Gascogne
وأما مدينة أوبيط فأصل اسمها أوبيطوم، وسكانها 25 ألفا وفيها كرسي أسقفية ومدرسة جامعة.
وأصل بناء هذه المدينة أن الملك فرويلة الأول بني هناك ديرا في القرن الثامن للمسيح، ثم جعل الأذفونش الثاني هناك مقره فتكونت بجانب هذا الدير بلدة ولم يقدر العرب ولا النورمنديون أن يستولوا على أوبيط. وموقع هذه البلدة هو على رابية مشرفة على نهر «نوره» وأرضها منبسطة موصوفة بالخصب وفيها كنيسة جامعة تشتمل على كثير من بدائع التصاوير وليست بالكنيسة الوحيدة.
وغير بعيد عن أوبيط مدينة جيجون وفيها ثلاثون ألف نسمة، ولها مرسى عظيم على خليج بناها الرومانيون. ولما جاء العرب استولوا عليها مدة قصيرة من سنة 715 إلى سنة 722 لأن الأمير بيلاي، وهو أول أمير أسباني مستقل بعد مجيء العرب كما سيأتي الكلام عليه، عاد فاسترجعها وصارت مركزا لملوك أشتوريش وتعاقبت عليها من ذلك الوقت أدوار مختلفة. وقد استفادت جدا من مد السكة الحديدية إليها سنة 1884. وفيها مدرسة للتجارة والملاحة. وفى هذه المدرسة خزانة كتب فيها 5500 مجلد وعدد كبير من التصاوير. وفى ساحة جيجون تمثال لبيلاي البادئ بتحرير أسبانية. ومن مدن أشتوريش بلدة أستورقة
Astorga
وهى رومانية كانت في القديم عامرة ومركزا لجنوبي أشتوريش. وقد وصل إليها العرب وهدموا حصونها ولعل استورقة
1
هذه هي التي يسميها ياقوت باستوريس ويقول عنه: حصن من أعمال وادي الحجارة بالأندلس، أحدثه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، عمره في نحر العدو. ولا تزال أسوار استورقة ماثلة، والحكومة تحافظ عليها خدمة للتاريخ. وحول استورقة جبال يسكنها جيل من الناس يقال لهم المغاراتوس
Magaratos
يظن أنهم سلالة للأمة الأيبيرية وهم أهل جد ونشاط ذوو زراعة وصناعة ولكنهم على أشد ما يكون من المحافظة على عاداتهم القديمة ولهم أزياء خاصة بهم، ولا يتزوج بعضهم إلا من بعض. ثم مدينة لوغو
Lugo
وهى من زمن الرومانيين، ولها سور لا يزال قائما، وعليه أبراج كثيرة، وقد استولى على هذه البلدة العرب، فيما استولوا عليه. وهناك بلدة يقال لها بيتنزوس
Betanzos
سكانها عشرة آلاف، واقعة على نهير بين كروم وأعناب، وهي من البلاد التي استولى عليها العرب، وفيها حصن باق من أيامهم.
هوامش
الفصل الخامس عشر
كورونية
وهناك مدينة كورونية، فيها أربعون إلى خمسين ألفا من السكان، مركز لمقاطعة بهذا الاسم، واقعة على لسان من الأرض، بين جونين من البحر، أحدهما إلى الشرق اسمه «الباهية» والآخر إلى الغرب اسمه «أورزان»، وكان للبلد حصون هي مهملة الآن، وهى مدينة أيبيرية قديمة. وكان يقال لها في زمن الرومان «بريفانتيوم»، ثم أطلق عليها اسم «كورنيوم»، في القرون الوسطى. وقد استولى عليها العرب في ما استولوا عليه، وصارت تابعة لقرطبة. ومن مرسى هذه البلدة ذهب أسطول فيليب الثاني سنة 1588، المؤلف من 130 سفينة حربية، عليها ثلاثون ألف مقاتل، لغزو إنجلترا، انتقاما عن قتل مارية ستوارت، ولكن الإنجليز عادوا فأحرقوا كورونية سنة 1598، وكذلك بقرب كورونية في 4 يونيو سنة 1747 تغلب الأسطول الإنكليزي على الأسطول الإفرنسي، ثم في 22 يوليو 1805 أحرق الإنكليز أسطولا فرنسيا إسبانيوليا متحدا.
والبلدة قسمان: أعلى وأسفل. فالقسم الأعلى هو القديم منها، والقسم الأدنى هو الجديد. وكان في الماضي حارة لصيادي السمك، فاليوم صارت فيه مساكن المترفين، وشوارعه على الطراز الجديد، بخلاف القسم الأعلى الذي شوارعه ضيقة، وبيوته قديمة. وفى تلك البلدة إلى الشمال الغربي، على لسان داخل في البحر، فوق جندل كبير علوه 56 مترا؛ منارة للسفن من زمان الرومانيين.
وعلى مقربة من كورونية بلدة الفرول
Ferrol
وهو المرسى الحربي الوحيد لأسبانية على الإقيانوس الأطلانتيكي، وسكان هذا المرسى 25 ألفا وفيه مسلحة ودار صنعة للمراكب، ومدرسة بحرية.
ومدينة أورنس
Orense
سكانها عشرة آلاف واقعة على ضفة نهر مينيو
Mino
وهى مركز مقاطعة، وكانت في زمان الرومانيين يقال لها أوريوم
Aurium
لوجود الذهب في نواحيها؛ مما يدل عليه اسمها، وقد غزاها العرب سنة 716، ثم عاد الأذفونش الثالث فبناها وأحكم أسوارها سنة 884، ولها جسر على نهر مينو بسبع أقواس.
ثم مدينة فيغو
Vigo
وسكانها ثلاثون ألفا، وهى مرسى حربي وتجاري، مبنية على منحدر رابية، عليها حصن سان سابستيان. وقد وقعت فيها واقعة بحرية سنة 1702 بين الإنجليز والهولنديين من جهة، والفرنسيس والأسبان من جهة أخرى، وفي هذه البلدة أيضا حارة بشوارع ضيقة، وحارة عصرية جديدة.
ثم مدينة بونت فيدرا
وهى صغيرة سكانها عشرة الآلاف ولها مرسى على البحر.
الفصل السادس عشر
شنت ياقب
وهى بلدة سكانها 15 ألف نسمة، وكانت قاعدة مملكة جليقية. وكان لها الشأن الأول، فنزلت عن معاليها السالفة، ورجعت مركز مقاطعة، وكرسي رئاسة أساقفة. وفيها مدرسة جامعة بناها المطران فونسيكا سنة 1532، وهى قديما وحديثا مدينة أسبانية المقدسة، يحج إليها الأحامس في الدين الكاثوليكي من جميع أسبانية والبلدان المجاورة، وذلك لأنه يوجد حكاية متواترة عند الإسبانيول بأن أحد الحواريين وهو يعقوب بن زبدة، قد ذهب إلى أسبانية، ونشر فيها العقيدة المسيحية، وهذه الحكاية لها رضخ يرجع إلى القرن الرابع للمسيح، إلا أنها بدأت ترسخ في أذهانهم في القرن السابع، ثم بمرور الأيام صارت هذه القصة تجر ذيولا. منها: أن عظام الحواري يعقوب كانت مدفونة في ذلك المحل الذي استشهد فيه، ولم يكن أحد يهتدي إلى مكانها إلى أن كشفها المطران تدمير الإيري
Tbeodemir D’lria
فبنيت الكنيسة الحاضرة على القبر، وأما لفظة كومبوستالا، أي حقل النجمة، فقد قالوا فيها إنها جاءت من جهة أن المطران اهتدى إلى القبر بنجمة أضاءت له وقد فند دليل بديكر هذا القول، وذهب إلى أن الاسم سابق لقصة الحواري يعقوب، وكيف كان الأمر فالإسبانيول يعدون القديس يعقوب، دفين شنت ياقب، بزعمهم، حامي أسبانية وشفيعها، وبه كانوا يستغيثون في حروبهم مع المسلمين، وطالما رأوه بزعمهم متقلدا سلاحه، يقاتل في صفوفهم، وأول من بنى على هذا القبر هو الأذفونش الأول، ولكن الكنيسة التي بناها هذا الأذفونش هدمها الغازي الكبير المنصور بن أبي عامر المعافري سنة 997 للمسيح ثم جددوا بناءها، ومازالوا يزيدون في شنت ياقب الأديار والكنائس حتى أصبح فيها 46 بيعة و288 مذبحا و114 جرسا و36 رهبانية، وفى هذا ما يكفى لإثبات قدسيتها التامة عند الإسبانيول، وكونها لهم الحرم الأعظم.
وقد كان الابتداء ببناء الكنيسة العظمى سنة 1078، ومازال الأساقفة يشتغلون ببنائها إلى سنة 1211، ولها رتاج كبير، على جانبه برجان، ارتفاع الواحد منهما سبعون مترا وفى أعلى الحائط تمثال للقديس يعقوب. وداخل الكنيسة له منظر مؤثر بكثرة الأساطين والمماشي والقباب، والمذبح الأعظم واقع على القبر، ويقال إن فيه خمسمائة كيلو جرام من الفضة، وفى محراب يعلو المذبح تمثال ليعقوب الحواري مزين بالفضة والذهب والحجارة الكريمة، وينزلون إلى القبر بدرج أمام المذبح الأكبر، وهناك مرقد يعقوب واثنين من رفاقه، وفى هذه الكنيسة قبور لا تكاد تحصى لأعاظم الإسبانيول وملوكهم مثل فرديناند الثاني، وأذفونش التاسع، ملك ليون، وامرأة أذفونش السادس، وامرأة بطرس الغاشم وغيرهم. وفيها تصاوير وتهاويل وتماثيل لأشهر المصورين والنحاتين. ولا يسع الكاتب أن يصف جميع ما في شنت ياقب من المعاهد الدينية، والآثار الفنية لكثرتها، وتنافس الملوك والأخبار في البذل والإنفاق عليها. أما غزوة المنصور بن أبي عامر لهذه البلدة فقد ذكر المقري في نفح الطيب ما يلي: ومن ذلك غزوة المنصور لمدينة شنت ياقب، قاصية غليسية، وأعظم مشهد للنصارى في بلاد الأندلس، وما يتصل بها من الأرض الكبيرة، وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا، وللكعبة المثل الأعلى، فيها يحلفون، وإليها يحجون، من أقصى بلاد رومة وما وراءها، ويزعمون أن القبر المزور فيها قبر ياقب الحواري أحد الاثني عشر، وكان أخصهم بعيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم يسمونه أخاه، للزومه إياه، وياقب بلسانهم: يعقوب، وكان أسقفا يبيت المقدس، فجعل يستقري الأرضين، داعيا لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية. ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها، وله مائة وعشرون سنة شمسية، فاحتمل أصحابه رمته فدفنوها بهذه الكنيسة، التي كانت أقصى أثره، ولم يطمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها. ولا الوصول إليها لصعوبة مداخلها، وخشونة مكانها ، وبعد شقتها، فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيا بالصائفة، يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وهى غزوته الثامنة والأربعون. ودخل على مدينة «قورية»
1
فلما وصل إلى مدينة غليسية، وإياه عدد عظيم من القوامس
2
المتمسكين بالطاعة في رجالهم، وعلى أتم احتفالهم، فصاروا في عسكر المسلمين، وركبوا في المغاورة سبيلهم.
شكل 22-1: كنيسة شنت ياقب المشهورة.
وكان المنصور تقدم في إنشاء أسطول كبير في الموضع المعروف بقصر أبي دانس من ساحل غرب الأندلس، وجهز برجاله البحريين، وصنوف المترجلين، وحمل الأقوات والأطعمة، والعدة والأسلحة، استظهارا على نفوذ العزيمة، إلى أن خرج لموضع برتقال، على نهر «دويرة» فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه، فعقد هناك من هذا الأسطول جسرا بقرب الحصن الذي هناك، ووجه المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند، فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدو، ثم نهض منه يريد شنت ياقب، فقطع أرضين متباعدة الأقطار، وقطع بالعبور عدة أنهار كبار، وخلجان يمدها البحر الأخضر
3
ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فرطارس وما يتصل بها، ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعورة لا مسلك فيه ولا طريق، لم يهتد الأدلاء إلى سواه، فقدم المنصور الفعلة بالحديد. لتوسعة شعابه، وتسهيل مسالكه، فقطعه العسكر، وعبروا بعده وادي «منية»
4
وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين، وانتهت مغيرتهم إلى دير فشان،
5
وبسيط بلنبه على البحر المحيط، وفتحوا حصن شنت بيلايه، وغنموه وعبروا بساحته إلى جزيرة من البحر المحيط، لجأ إليها خلق عظيم من أهل تلك النواحي فسبوا من فيها ممن لجأ إليها، وانتهى العسكر إلى جبل مراسية،
6
المتصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط، فتخللوا أقطاره، واستخرجوا من كان فيه، وحازوا غنائمه، ثم أجاز المسلمون بعد هذا خليجا في معبرين. أرشد الأدلاء إليهما. ثم إلى نهر آبلة، ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة، كثيرة الفائدة، ثم انتهوا إلى موضع من مشاهد ياقب صاحب القبر، تلو مشهد قبره عند النصارى في الفضل ، يقصد نساكهم له من أقاصي بلادهم، ومن بلاد القبط والنوبة وغيرهما، فغادره المسلمون قاعا، وكان النزول بعده على مدينة شنت ياقب البائسة، وذلك يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان فوجدها المسلمون خالية من أهلها، فحاز المسلمون غنائمها، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها وعفوا آثارها، ووكل المنصور بقبر ياقب من يحفظه ويدفع الأذى عنه، وكانت مصانعها بديعة محكمة فغودرت هشيما، كأن لم تغن بالأمس.
شكل 22-2: مدرسة الطب في شنت ياقب.
وانتسفت بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت الجيوش إلى مدينة شنت مانكش منقطع هذا الصقع على البحر المحيط، وهى غاية لم يبلغها قبلهم مسلم، ولا وطئها لغير أهلها قدم، فلم يكن بعدها للخيل مجال، ولا وراءها انتقال.
وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقب، وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله،
7
فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أردون، يستقريه عائنا، حتى وقع في عمل القوامس المعاهدين، الذين في عسكره، فأمر بالكف عنها، ومر مجتازا حتى خرج على حصن بيليقية من افتتاحه، فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم، وكساهم وكسا رجالهم، وصرفهم إلى بلادهم، وكتب بالفتح من بيليقية، وكان مبلغ ما كساه في غزاته هذه لملوك الروم، ومن حسن غناؤه من المسلمين، ألفين ومائتين وخمسا وثمانين شقة من صنوف الخز الطرازي، وواحدا وعشرين كساء من صوف البحر، وكساءين عنبريين، وأحد عشر سقلاطونا، وخمسة عشر مريشا، وسبعة أنماط ديباج، وثوبي ديباج رومي، وفروى فنك.
ووافى جميع العسكر قرطبة غانما، وعظمت النعمة والمنة على المسلمين، ولم يجد بشنت ياقب إلا شيخا من الرهبان جالسا على القبر، فسأله عن مقامه، فقال: أونس يعقوب فأمر بالكف عنه.ا.ه.
شكل 22-3: الراهب الذي يؤنس يعقوب الحواري عندما وصل المنصور بن أبي عامر إلى شنت ياقب وفر جميع الرهبان.
هوامش
الفصل السابع عشر
أراغون ونبارة
هاتان المملكتان هما متجاورتان، يسقي كلا منهما نهر أبره، وهذا النهر له منبعان أحدهما يقال له «هيجار
Higar » يتفجر من جبل يقال له «كورد»
Cardel
عليه الثلج صيفا وشتاء، وتنحدر منه مياه إلى الوادي الجوفي، منحدرة إلى الغرب ومن مياهه ما ينحدر إلى الشرق، وهى مياه هيجار التي تجري مسافة 16 كيلومترا، ثم تلتقي مع مياه أبره، التي تنبع من غربي مكان يقال له «رينوزه»
Reinosa
وهذا الوادي يخرج من بحيرات صغيرة بين تلك الجبال المتفرعة من البرانس، ثم يمد أبره عدة أنهار، حتى يعدل ماؤه، عندما يصل إلى ميرانده، بعشرين ألف متر مكعب في الثانية. وعندما يصل إلى لوكروني، بواحد وثلاثين ألف متر مكعب. فإذا وصل إلى تطيلة صار يصب 45200 متر مكعب في الثانية. وهو يسقي عند تطيلة جانبا من بسيط أراغون الذي لولا أبره لكان أشبه بصحراء أفريقية.
ولكن لا يستفيد من مياه أبره وفروعه إلا جزء قليل من هذه الصحراء، بحيث إن بعض أهالي الأماكن المأهولة من أطرافها هم في غناء شديد من جهة الماء، فقد صح في أهلها المثل القائل: أيا عطشي والماء يجري. قيل إن عامل بلدة تارديانته
Tardienta
جمع أهالي بلدته ليوزع عليهم الماء الباقي في الصهريج العمومي، فكان نصيب العائلة الواحدة عشرة ليترات من الماء، وهو ماء من كدورته يؤكل ولا يشرب.
فلو كان هناك جداول من أبره لتحولت تلك الصحراء جنانا غناء. والسائح يرى البلاد هناك على طرفي نقيض، فبينما صحراء «فيولاده»
Violada
هي كفيافي بني أسد، إذا ضواحي سرقسطة غير بعيدة عنها، هي كغوطة دمشق. وقد شق الإسبانيول جدولين من أبره عند سرقسطة وتطيلة، وسقوا بهما أراضى واسعة، ولا يزالون يشقون منها جداول إلى يومنا هذا في أراغون وكتلونية. وبالإجمال فلولا إبره لكانت الحياة متعذرة في أكثر مملكة أراغون، وفى قسم كبير من كتلونية.
مملكة نبارة القديمة هي اليوم مقاطعة بهذا الاسم، مساحتها 10500 كيلومتر مربع، وعدد سكانها ثلاثمائة وخمسة عشر ألف نسمة. أما أراغون فهي عبارة عن مقاطعة سرقسطة، ومساحتها 17424 كيلومترا مربعا، وسكانها 448995 نسمة. ومقاطعة وشقة، ومساحتها 15149 كيلومترا مربعا، وأهلها 248257 نسمة. ومقاطعة ترول
Teruel ، ومساحتها 14818 كيلومترا مربعا، وسكانها 255491 نسمة.
وإذا توجه الراكب بالسكة الحديدية من مجريط قاصدا إلى سرقسطة، فإن أهم ما يمر به من البلاد هو القلعة المسماة بقلعة هينارس، على مسافة 34 كيلومترا من مجريط. وهذه البلدة هي رومانية، كانوا يقولون لها «كومبلوتوم» ولما جاء العرب استولوا عليها، وبعد خروجهم من هناك أسس الكردينال شيميناس رئيس أساقفة طليطلة فيها مدرسة جامعة، تضاهي مدرسة طلمنكة، وبقيت فيها إلى سنة 1836 فنقلوها إلى مجريط. وإلى هذه البلدة ينسب الكاتب الشهير سرفنتس
Cervantes
صاحب كتاب الدون كيشوط، وعدد سكان البلدة اليوم اثنا عشر ألف نسمة. وفي هذه البلدة بقايا حصون عربية. وضواحي هذه البلدة ناضرة بهيجة.
الفصل الثامن عشر
وادي الحجارة1
ثم على مسافة 57 كيلومترا من مجريط تقع وادي الحجارة، وسكانها اليوم بقدر سكان القلعة، وهى مبنية على الضفة اليمنى من نهر هينارس. وفى هذه البلدة تزوج فيليب الثاني بالملكة إيزابلا، من آل فالوا، وفيها مات الكاردينال بادرو مندوزه، وفيها مدفن الكونت طانديلا، أول قائد عسكرى لغرناطة بعد استيلاء الإسبانيول عليها.
شكل 25-1: أحد مناظر وادي الحجارة اليوم.
وقد كانت مدة بقاء العرب في وادي الحجارة 367 سنة. قال ياقوت الحموي في المعجم فرج بالتحريك والجنم، مدينة بالأندلس تعرف بوادي الحجارة، وهى بين الجوف والشرق من قرطبة، ولها مدن بينها وبين طليطلة. وينسب إليها أيوب بن الحسين بن محمد بن أحمد بن عوف بن حميد بن تميم، يكنى أبا سليمان، ويعرف بابن الطويل، رحل إلى المشرق، ثم استقضاه الحكم المستنصر ببلده، وكان أديبا حكيما، قدم قرطبة، وروى عنه ابن الفرضي، وتوفي سنة 383 بوادي الحجارة ذكر ذلك ابن الفرضي. انتهى.
وقال ابن حوقل عن وادي الحجارة: مدينة كبيرة، ثغر مشهور الحال، مسور بحجارة، وهى ذات أسواق، وفنادق، وحمامات، وحاكم، ومحلف، وبها تسكن ولاة الثغور، كأحمد بن يعلى وغالب، وعليها أكثر جهاد جليقية، ومنها إلى شعراء القوارير، وبها منهل تنزله الرفاق مرحلة، ومنها إلى مدينة سالم مرحلة. انتهى.
وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية: أن وادي الحجارة يقال لها أيضا مدينة الفرج، نسبة إلى عائلة من البربر يقال لهم بنو فرج كما روى اليعقوبي. وكان فتح العرب لهذه البلدة سنة 714، زحف إليها موسى بن نصير وطارق بن زياد معا، وبقيت في أرض العرب إلى سنة 1060، إذ استرجعها منهم الملك فرديناند القشتالي، ولكن عاد العرب ففتحوها مرة ثانية، وبقيت في أيديهم إلى سنة 1081، فافتتحها ألفاريانس دومينية
Alvar Ganes de Minaya
من أبناء عم القمبيدور، الملقب بالسيد، ومن قواد الأذفونش السادس، وكانت معدودة من القلاع العربية الحصينة وخرج منها كثير من أهل العلم، كما يظهر من المكتبة العربية الأسبانية. أي مطبوعات قديرة،
2
والنسبة إلى هذه البلدة حجاري، وهناك مؤرخ معروف اسمه الحجاري، أصله من وادي الحجارة. ولما كانت في أيدي العرب كان قد بقي فيها عدد غير قليل من المسحيين. انتهى.
هوامش
الفصل التاسع عشر
من انتسب من العلماء إلى وادي الحجارة
منهم أبو بكر يحيى بن الفتح بن حنش الأنصاري الحجاري، يروي عنه محمد بن عبد الرحيم. ومحمد بن عذرة الحجاري، سمع من محمد بن وضاح وغيره، ومات بالأندلس سنة 313. وأبو عبد الله محمد بن يونس الحجاري، روى عن أبي عمر الطلمنكي، وأبي محمد بن الأسلمي وغيرهما، وكان مقدما بالمعرفة والنحو واللغة، وكتب الأشعار والأخبار، واستأدبه المظفر بن الأفطس، صاحب بطليوس لنفسه ولبنيه، وسكن بطليوس، وتوفي بها سنة اثنتين أو ثلاث وستين وأربعمائة. وأبو عثمان سعيد بن علي ابن يعيش بن أحمد بن خلف الأموي، حدث عنه ابن أبيض، وكان من أهل السنة والخير، مولده سنة 316. ومحمد بن إبراهيم بن حيون الحجاري، كان إماما في الحديث حافظا لعلله، بصيرا بطرقه، لم يكن في الأندلس في وقته أبصر به منه، سمع من أبي عبد الله الخشني، وابن وضاح، وابن مسرة.
ثم رحل إلى المشرق، فتردد هناك نحوا من خمس عشرة سنة، سمع فيها بصنعاء من أبي يعقوب الدبري وعبيد بن محمد الكشوري، وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وأبى مسلم الكشي، ومحمد بن علي الصايغ، وغيرهم، وببغداد من جماعة، منهم عبد الله بن أحمد بن حنبل، وروى عن القاضي أبي عبد الرحمن أحمد بن حماد بن صفيان الكوفي، لقيه بالمصيصة سنة 294، وسمع بمصر من عبد الله بن أحمد بن عبد السلام الخفاني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، سمع من ابن قتيبة بعض كتبه، ورجع إلى الأندلس، وأخذ عنه الكثيرون، وكان من الشعراء وتوفي بقرطبة عقب ذي العقدة سنة 305.
1
ومفرج بن يونس بن مفرج بن محمود بن فتح بن نصر بن هلال الحجاري المكتب، سكن قرطبة، وكان يعلم بمسجد سرور، وكان شيخا صالحا. وأبو بكر محمد بن القاسم بن مسعدة البكري الحجاري، المكنى أبا عبد الله، سمع بقرطبة من الحسن بن سعد، وحدث عنه بالناسخ والمنسوخ، وسمع من غيره بقرطبة، ورحل إلى المشرق، سمع فيها من ابن الأعرابي بمكة، ومن محمد ابن أيوب الصموت بمصر.
وأبو بكر محمد بن القاسم الكاتب، يعرف باسكنهادة، سكن قرطبة، وهو من وادي الحجارة، وارتحل إلى المشرق بعد الفتن التي جرت بقرطبة، وحولت أحوالها فجال في العراق والشام وحلب، ثم عاد إلى الأندلس واستقر بدانية،
2
وطاب مقامه بها. وأبو بكر عبد الباقى بن محمد ابن سعيد الأنصاري، المعروف بن برال ومحمد ابن إبراهيم بن إسحاق الحجاري.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف، الوراق التاريخي الحجاري، ألف للخليفة الحكم المستنصر كتابا ضخما في ممالك أفريقية ومسالكها، وألف أيضا كتبا جمة في أخبار ملوكها وحروبهم، وفي أخبار تيهرت، ووهران، وسجلماسة، ونكور إلخ. قال أبو محمد بن حزم: ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع، آباؤه من وادي الحجارة، ومدفنه قرطبة، وهجرته إليها، وإن كانت نشأته بالقيروان.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن لب بن صالح بن ميمون بن حرب الأموي الحجاري المقرئ، سكن قرطبة، يعرف بالريوله، ولد سنة 344، وكان في قرطبة إماما لمسجد ابن حيويه، وله رحلة إلى المشرق، روى فيها عن أبي بحر الشيرازي، وروى عن الحسن بن رشيق، وكان من أهل الفضل والخير، حسن الصوت، مجودا للقرآن. وأبو بكر عبد الله بن محمد بن فتح، روى عن أبيه محمد بن فتح، كتاب جهاد النفس من تأليفه، حدث عنه أبو الفرج بن فتح السالمي، من شيوخ المنذر بن المنذر الحجاري وأبو محمد عبد الله بن محمد الأنصاري، يعرف بابن بيير، سمع من أبي عيسى الليثي، حدث عنه بالموطأ، وأبى عمرو أحمد بن ثابت التغلبي، وغيرهما. روى عنه أبو عبد الله بن شق الليل الطليطلي، ذكره ابن الدباغ، ترجمه ابن الأبار في التكملة. وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عيسى بن وليد النحوي، يعرف بابن الأسلمي، ويقال فيه أيضا ابن الأسلمية. روى بوادي الحجارة عن أبي الحسن بن معاوية بن مصلح، وأبى عبد الله بن مسعدة، وأبى عمر المديوني، وأبى بكر بن ينق، وأبى عبد الله بن خلف بن سعيد الشولة، وروى بقرطبة عن أبي جعفر بن عون الله. سمع منه صحيح البخاري، وعن القاضي عبد الله بن مفرج، وسمع بقلعة أيوب عن أبي محمد بن قاسم، وبقلعة عبد السلام عن أبي عمر بن عمران الفخار، وروى أيضا عن أبي حفص عمر بن علي الحجاري، وأخذ عن أبي إسحاق بن شنظير، وأبى محمد بن ذنين، من علماء طليلطة، وأخذ عن أبي عمر الطلمنكي، وأجاز له الحسن بن رشيق، مع جاره أبي الحكم المنذر بن المنذر الحجاري. قال ابن الأبار: أحد الأئمة المتفننين في العلوم، المتقدمين في معرفة لسان العرب، والإحاطة به، المشار إليهم بالكمال، مع النزاهة والاعتدال، وله تواليف منها كتاب تفقيه الطالبين، وكتاب الإرشاد إلى إصابة الصواب في الأشربة، وتوفي بعد العشرين وأربعمائة، وقيل إنه كان يختم كتاب سيبويه كل خمسة عشر يوما، وكان عفيف النفس وقورا.
وأبو محمد عبد الله بن محمد، المعروف بابن الأثرم، كان من أهل المعرفة بالنحو والأدب معلما بذلك، أخذ عنه أبو حاتم الحجاري وغيره، ذكره ابن عزير. وأبو محمد عبد الله بن على بن المنذر بن المنذر بن على بن يوسف الكنانى، كان من أصحاب أبي العيش معمر بن معذل الحجاري، وكان راوية فقيها، له وقوف على النحو والأدب، ذكره ابن عزير. وأبو الحسن إسماعيل بن عيسى بن محمد بن بقي. وإسماعيل بن أحمد الحجاري، كان من أهل الفضل محدثا. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن مطرف الحجاري، المعروف بابن الموره. يروي عن أبي محمد الشنتجالي، وكان محدثا ، وقال ابن الأبار: وقفت على إجازته لبعض رواته في سنة 465. ومحمد بن الدباغ أخذ عن إبراهيم بن حفص، وصحب القاسم بن فتح، وسفر بينه وبين أبي محمد بن حزم في مسائل وجوابات كانت بينهما، وكان أبرع أهل وقته في النحو والأدب. ذكره ابن عزير. وأبو عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن بقاء الأنصاري، من أهل بلغي وسيأتي ذكرها. وكان يسكن في وادي الحجارة، ويقرئ فيها بالمسجد الجامع، ولد في الثاني والعشرين من شعبان سنة 454، وأخذ القراءات عن أبي داود بن نجاح، ورحل إلى الشرق حاجا، وقدم دمشق، وأقرأ بها القرآن بالسبع. وتوفي يوم الأربعاء عند صلاة العصر، ودفن يوم الخميس، عند صلاة الظهر، الثاني من ذي الحجة سنة 512، ودفن في مقبرة الصحابة، بالقرب من قبر أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال ابن عساكر: وشهدت أنا غسله والصلاة عليه ودفنه.
وأبو العيش معمر بن عبد الله بن معذل الباهلي، أخذ عن إبراهيم بن حفص الحجاري، وكان من كبار أصحابه، عارفا بالعربية، مع الفقه والحديث، والمشاركة في سائر العلوم، حدث عنه إسماعيل بن عيسي الحجاري، وأبو بكر البلجاني وغيرهما. وأبو عبد الله بن محمد بن عثمان بن حسين البكري الحجاري، روى بوادي الحجارة عن أبي بكر عبد الباقي بن برال، وأبى الربيع سليمان بن خلف الطحان، وأجاز له أبو عبد الله بن الموره الحجاري، وأبو الوليد الوقشي، كتب إليه من بلنسية سنة 485 قال ابن الأبار: ورأيت السماع عليه في سنة 519. وأبو الحسن عبد الرحيم بن قاسم بن محمد بن النحوي، كان عالما، فاضلا، صالحا، كثير البكاء والعبادة توفي سنة 543 في قرطبة. وأبو الحسن علي بن المنذر بن المنذر بن علي الكناني. روى عن أبي عمر الطلمنكي، وأبي عمر بن عبد البر، وله رحلة إلى المشرق، توفي في نحو الثمانين وأربعمائة. وابن أمنية الحجاري الفقيه الشافعي، ذكره ابن حزم وأثنى عليه. وأبو الحسن سعيد بن محمد بن سعيد الجمحي المقرئ، المعروف بابن قوطة له رحلة قرأ فيها على جماعة، وأخذ أيضا عن أبي الوليد الباجي، وأقرأ القرآن بوادي الحجارة، وتوفي ببلدة طرسونة من الثغر سنة ثمان أو تسع وخمسمائة.
وسعيد بن عمر، من أهل وادي الحجارة، روى عن وهب بن مسرة، وسمع بقرطبة من أبي بكر بن الأحمر، وحدث عنه الصاحبان وقالا: توفي بالمشرق في نيف وثمانين وثلاثمائة. وسعيد بن مسعدة الحجاري المحدث، مات سنة 273، وقيل سنة 288، وذكر ذلك ابن عميرة في بغية الملتمس. وأبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن لب الأنصاري، روى عن وهب بن مسرة، وابن الأحمر، وأبي ميمونة، ومحمد ابن فتح الحجاري، وحدث عنه الخولاني، وأبو عبد الله بن عبد السلام الحافظ.
وأبو القاسم عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، يعرف بابن غرسية، روى بوادي الحجارة عن محمد بن فتح، وعن محمد بن عبد الرحمن الزبادي، وغيرهما، حدث عنه الصاحبان وقالا: كان رجلا صالحا، وتوفي سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وثلاثمائة. وأبو بكر عبد الباقي بن محمد بن سعيد بن أصبغ بن قريال الأنصاري، روى عن المنذر بن المنذر، وأبي الوليد هشام الكناني، وأبي محمد بن الفتح، وأبي عمر الطلمنكي. قال ابن بشكوال: وكان نبيلا، حافظا، ذكيا، أديبا، شاعرا، محسنا، سكن في آخر عمره بالمرية، وأخبرنا عنه غير واحد من شيوخنا، وتوفي في مستهل رمضان سنة 502 ببلنسية، وكان مولده سنة 416.
وأبو الحكم منذر بن منذر بن علي بن يوسف الكناني، روى ببلده عن أبي الحسن علي بن معاوية بن مصلح، وأبي بكر بن موسى، وأحمد بن خلف المديون وعبد الله بن القاسم بن مسعدة، وأبي سليمان أيوب بن حسين، قاضي مدينة الفرج، أي وادي الحجارة، وروى أيضا عن عبد الله بن قاسم بن محمد القلعي، ورحل إلى المشرق فحج، وأخذ عن أبي بكر أحمد بن محمد الطرسوسي، وأبي عبد الله محمد بن أحمد البلخي، وأخذ بمصر عن الحسن بن رشيق وغيره، وأخذ بالقيروان عن أبي محمد بن أبي زيد، وأبى الحسن القابسي، وكان رجلا صالحا، قديم الطلب للعلم، وكثير الكتب، موثوقا فيما يرويه، قال ابن بشكوال : وكان ينسب إلى غفلة كثيرة، وتوفي سنة 423. وأبو بكر أحمد بن موسي بن ينق، سمع من وهب بن مسرة معظم ماعنده، وكان رجلا صالحا، ثقة، حدث عنه الصاحبان، وأبو محمد بن ذنين من علماء طليطلة، وقالوا: توفي في ذي القعدة سنة 379، وكان مولده سنة 306. وأبو عمر أحمد بن خلف بن محمد بن فرتون المديوني الزاهد الراوية، سمع ببلده وادي الحجارة من وهب بن مسرة، وسمع بطليطلة من عبد الرحمن بن مدراج، ورحل إلى المشرق، وروى عن أبي الفضل محمد بن إبراهيم الديبلي المكي، والحسن بن رشيق المصري، وأبى محمد بن الورد، وأبى الحسم النيسابوري، وأبي علي الأفيوطي، وأبي حفص الجرجيري، وحدث عنه أبو عمر الطلمنكي، والمنذر بن المنذر الكناني، وأبو محمد بن أبيض. وكان زاهدا، ثقة فيما يرويه. ومن روايته عن وهب بن مسرة قال: دخلت على محمد بن وضاح بين المغرب والعشاء مودعا، فقلت له: أوصني رحمك الله، فقال: أوصيك بتقوى الله عز وجل، وبر الوالدين، وحزبك من القرآن فلا تنسه، وفر من الناس، فإن الحسد بين اثنين، والنميمة بين اثنين، والواحد من هذا سليم. وروى عن النيسابوري عن أبي عبد الرحمن النسائي قال: ما نعلم في عصر ابن مبارك رجل أجل من ابن المبارك، ولا أعلى منه، ولا أجمع لكل خصلة محمودة، هذا، وممن روى عن أحمد بن فرتون المديوني الصاحبان، أبو إسحاق بن شنظير، وأبو جعفر بن ميمون، وكذلك أبو محمد بن ذنين، وقالوا جميعا: توفي سنة 377، وقال أبو محمد: يوم الخميس في المحرم، وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وصلى عليه أبو بكر أحمد بن موسى.
وعلي بن معاوية بن مصلح، يكني أبا الحسن، رحل إلى المشرق وسمع بمكة من عمر بن أحمد الجمحي، وأبى الحسن الخزاعي، وأبى إسحاق الديبلي، وأبى بكر الآجري وسمع بالمدينة من قاضيها عبد الملك المرواني، وسمع بمصر من الحسن بن رشيق، والحسن بن الخضير، وأبي محمد بن الورد، وغيرهم، وسمع بالإسكندرية من أبي العباس بن سهل العطار وغيره. وسمع بقرطبة من أبي بكر القرشي، وإسماعيل بن بدر وغيرهما، وسمع بطليطلة من ابن مدراج وغيره، وبوادي الحجارة من وهب بن مسرة ومحمد بن القاسم بن مسعدة، وحدث عنه الصاحبان وغيرهما، وكان شيخا فاضلا ثقة توفي في رجب سنة 397، ومولده سنة 313، وذكر مولده ووفاته الحافظ بن عبد السلام. وأبو زكريا يحيى بن محمد بن وهب بن مسرة بن حكم بن مفرج التميمي سمع ببلده، وادي الحجارة، من جده وهب بن مسرة وغيره، ورحل إلى المشرق، وروى عن أبي بكر الطرسوسي، والحسن بن رشيق، وأبي الطيب الحريري، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، واختصر كتاب الأسماء والكنى للنسائي، وأخذ عنه الناس كثيرا قال ابن شنطير: توفي يوم الجمعة عقب ذي القعدة سنة 394، ومولده سنة 334. وأبو الحسن عبد الرحيم بن قاسم بن محمد بن النحوي المقرئ، كان من أهل المعرفة والفضل والذكاء والحفظ، قوي الأدب، ومع ذلك كان دينا، عابدا، كثير الصلاة قوام الليل متهجدا، كثير البكاء، حتى أثر ذلك بعينيه، توفي عقب شعبان من سنة 543 ذكر ذلك ابن بشكوال، وكانت وفاته بقرطبة. وأبو محمد عبد الله بن علي بن المنذر بن المنذر بن علي بن يوسف الكناني، وقد تقدمت ترجمة أبيه أبي الحسن علي بن المنذر، وكان عبد الله هذا راوية، فقيها عالما بالنحو، أديبا، وصحب أبا العيش معتز بن معذل الحجاري.
وأبو مروان عبد الملك بن غصن الخشني الشاعر، وكان من الأدباء المعدودين، وامتحنه المأمون بن ذي النون، صاحب طليطلة، وسجنه في وبذة مع جماعة غضب عليهم، فألف حينئذ كتابه المعروف بكتاب «السجن والمسجون والحزن والمحزون». ضمنه ألف بيت من شعره وروايته، ثم أطلق سبيله، فسار إلى بلنسية، ثم إلى قرطبة وتوفي سنة 454 في غرناطة. وأبو نصر الفتح بن يوسف بن محمد المعروف بابن الريول والد الحافظ أبي محمد قاسم، من وادي الحجارة، روى ببلده عن القاضي أيوب بن حسين، وبقرطبة عن أحمد بن ثابت وغيره، وحدث عنه ابنه أبو محمد بن الفتح، وأخذ عنه أحمد بن بدر سنة 408.
ثم ابنه أبو محمد قاسم بن الفتح، روى عن أبيه، وعن أبي عمر الطلمنكي، وأبى محمد الشنتجيالي، ورحل إلى المشرق وأدى الفريضة، وروى عن أبي عمران الفاسي وغيره وكان عالما بالحديث عارفا باختلاف الأئمة، قارئا بالقراءات السبع، مفسرا، متكلما شاعرا، أديبا زاهدا، ورعا، صادق اللهجة، وكان لا يرى التقليد، وله تآليف حسنة ومن شعره:
يا طالبا للعلاء مهلا
ما سهمك اليوم بالمعلى
كم أمل دونه اخترام
وكم عزيز يذوق ذلا
أبعد خمسين قد تولت
تطلب ما قد نأى وولى
في الشيب، إما نظرت وعظ
قد كان بعضا فصار كلا
قال أبو القاسم بن صاعد: كان أبو محمد القاسم بن الفتح واحد الناس في وقته في العلم والعمل، سالكا سبيل السلف في الورع والصدق، والبعد عن الهزل، متقدما في علم اللسان والقرآن، وأصول الفقه وفروعه، ذا حظ جليل من البلاغة، ونصيب صالح من قرض الشعر. وتوفي رحمه الله على ذلك جميل المذهب، سديد الطريقة، عديم النظير، وذكره الحميدي، ووصفه بالعلم والزهد، وأنشد له من زهدياته:
يا معجبا بعلائه وغنائه
ومطولا في الدهر حبل رجائه
كم ضاحك أكفانه منشورة
ومؤمل والموت من تلقائه
قال أبو بكر عبد الباقي بن بريال الحجاري: إنه كان إماما مختارا، ولم يكن مقلدا، وكان يقول بالعلة المنصوص عليها والمعقولة، ولا يقول بالمستنبطة، ومضى عليه دهر وهو يقول بدليل الخطاب، ثم ظهر له فساد هذا القول، فنبذه. وتوفي في بلده، بعد مطالبة جرت عليه من جهة القضاة بها، رحمه الله، وكانت وفاته سنة 451، قاله ابن صاعد.
وأبو حفص عمر بن علي الحجاري، روى عن أبي جعفر بن عون الله، وابن مفرج وغيرهما، وله رحلة إلى المشرق سمع فيها من علماء جلة، وحدث عنه الخولاني وأجاز له سنة 397، رواه ابن بشكوال. وطاهر بن أحمد بن عطية المري القاضي، أصله من وادي الحجارة، يكنى أبا محمد، روى عن أبي بكر بن بشر، وأجاز له ولابنه عبد الله بن طاهر في سنة 537، يحدث عنه أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأشبيلي، ذكره ابن بشكوال. وأبو محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري، المؤرخ الشهير، صاحب المسهب، وولداه أحمد ومحمد، وحفيداه موسى وعلي وكلهم من أهل العلم. وسعد بن عمر. وأحمد بن سعيد بن مسعدة، ذكره صاحب بغية الملتمس.
ومن المدن القريبة من وادي الحجارة على ضفة نهر هناوس «سيفوانه»
Siguenza
وكان اسمها عند الرومانيين «سيغونطية
Segontia »، وقد استولى عليها العرب، وفيها من آثارهم قصر لا يزال معروفا، وفيها كنيسة قديمة، بنيت سنة 1102 وسكان هذه البلدة خمسة آلاف نسمة، وغير بعيد عنها بلدة يقال لها «الكنيسة»
Alconeza .
والسكة الحديدية بين مجريط وسرقسطة ترتفع إلى علو 1191 مترا عن سطح البحر، و551 مترا عن مجريط، وتدخل في نفق يقال له «هورنه» ثم ينحدر الخط الحديدي، ولا يزال ينحدر حتى يصل إلى سرقسطة، وعلى هذا الخط، بين البلدتين بلاد كثيرة منها «ترالبه»
Tarrlb
و«المازان»
Alamazan
و«صوريه»
Soria . والعرب يقولون لها شورية، وهي بلدة قديمة، سكانها سبعة آلاف نسمة وموقعها على الضفة اليمنى من نهر دوروه، ولكن الأراضي حولها قليلة الجداء، وفي هذه البلدة أيضا أديار وكنائس قديمة، ومتحف فيه آثار أيبيرية وأخرى رومانية عثروا عليها في أخربة بلدة «نومنسه»
Numance .
وهي بلدة أيبيرية قديمة، عندما زحف الرومان إلى أسبانية، كانت من أشدها مقاومة. فحاصرها هؤلاء مدة سنوات إلى أن فتحوها عنوة سنة 133 قبل المسيح وجعلوها دكا. وبقيت خاوية على عروشها. وفي سنة 1905، إلى 1912، قام الأستاذ المسمى «شولتن»
Sculthen
بأعمال حفر مهمة للكشف عن بقايا هذه المدينة الأيبيرية، التي دمرها سيبون الروماني، فكشف منها جانبا. وانكشفت له أيضا مستعمرة رومانية، وأماكن المعسكرات التي كانت لسيبون عندما أحاط بالبلدة، ثم كشف الإسبانيول بعد شولتن مساكن أيبيرية قديمة.
ومن شورية يذهبون بالعربات إلى «كستيجون»
Cesijon
و«كالهرة»
Celaharo
و«خرسونه».
هوامش
الفصل العشرون
مدينة سالم
ثم مدينة سالم، والإسبانيول يقولون لها مدينة «سالي» ويلفظونها بالثاء لا بالسين، وهي في موضع رفيع منيع، وقد كان للعرب فيها قلعة شهيرة، جعلوها من أهم الثغور في وجه الإسبانيول والبلدة المعروفة من قبل العرب ولا تزال فيها آثار رومانية من القرن الأول بعد المسيح إلا أن العرب حصنوها واعتنوا بها وكانت مركزا عسكريا عظيما. وكان يقال لمدينة سالم «الثغر الأوسط»، فقد كانوا يقسمون الثغور إلى كور منها: الثغر الأعلى، ويقال له أيضا الثغر الأقصى، وهذا الثغر هو سرقسطة وكورتها، ثم الثغر الأوسط ويقال له أحيانا الأدنى، وهو مدينة سالم وكورتها وطليطلة، وكان يوجد ثغر ثالث، وهو ثغر «قويمرة» وربما أضيف إلى الثغر الأوسط بعض الأحيان.
وكان ولاة هذه الثغور قوادا، وكان أكثرهم من أبناء البيوتات، سواء من العرب، أو من البربر، أو من المولدين، وذلك مثل التجبييين، وبني هود، وبني رزين، وبني ذي النون، وبني قسي، وهؤلاء أسبانيون دانوا بالإسلام، وكان من أشهر قواد الثغور في زمن بني أمية غالب بن عبد الرحمن، فهو الذي في سنة 335 هجرية رمم حصون مدينة سالم، بعد أن خربت، وهو الذي في سنة 342 زحف على قشتالة، وأوقع بأهلها، وبقي في قيادة الثغر الأوسط إلى زمن الحكم المستنصر، فانتدبه لإمارة الجيوش في أفريقية، عندما عزم على محاربة الأدارسة. وفي إحدى غزواته بين العدوة استصحب معه القاضي محمد بن أبي عامر، فاتصل به، وانعقدت بينهما مودة أكيدة، انتهت بأن غالبا أزوج محمد بن أبي عامر ابنته، وبواسطة هذه المصاهرة ترقى ابن أبي عامر. وحاز رتبة ذي الوزارتين، ومازال يترقى في الدولة حتى صار هو الحاجب الكبير، وحتى غلب على الدولة كلها، وحجر الخليفة هشام، ولم يبق له إلا اسم الخلافة، وأخيرا وقعت الوحشة بين القائد الكبير غالب بن عبد الرحمن وصهره محمد بن أبي عامر، الذي تلقب بالمنصور، وذلك بعد أن استفحل أمره، ورأى فيه غالب خطرا على الدولة، فأدى ذلك إلى الحرب بينهما، وجرح غالب بن عبد الرحمن في الواقعة ومات، وفقدت الدولة الأموية بموته ركنا من أعظم أركانها.
وفي مدينة سالم هذه دفن المنصور بن أبي عامر، كما هو معروف في التاريخ، وكان قد توفي في الغزوة الأخيرة
1
فاحتملوه إلى مدينة سالم، ودفن فيها. قال ابن خلدون: هلك المنصور أعظم ما كان ملكا، وأشد استيلاء، سنة أربع وتسعين وثلاثمائة بمدينة سالم، منصرفه من بعض غزواته، ودفن هناك. وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه. ا.ه. وزاد المقري على ذلك في النفح الطيب: مما حكى أنه مكتوب على قبر المنصور رحمه الله تعالى:
آثاره تنبيك عن أخباره
حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله
أبدا ولا يحمي الثغور سواه
قال: وعن شجاع مولى المستعين بن هود: لما توجهت إلى أذفونش، وجدته في مدينة سالم، وقد نصب على قبر المنصور بن أبي عامر سريره، وامرأته متكئة إلى جانبه، فقال لي: يا شجاع أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين، وجلست على قبر ملكهم؟ قال: فحملتني الغيرة أن قلت له: لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه، ما سمع منك ما يكره سماعه، ولا استقر بك قرار! فهم بي، فحالت امرأته بيني وبينه وقالت له: قد صدقك فيما قال، أيفخر مثلك بمثل هذا؟ وقال في موضع آخر: وتوفي رحمه الله في غزاته للإفرنج بصفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وحمل في سريره على دولته ستا وعشرين سنة، غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة. قال انتهى كلام ابن سعيد وفي بعضه مخالفة لبعض كلام ابن خلدون. ثم نعود إلى الكلام على مدينة سالم فنقول: إن ياقوت الحموي يذكرها في المعجم تحت اسم «سالم» ويقول: مدينة الأندلس، تتصل بأعمال باورشة،
2
وكانت من أعظم المدن وأشرفها، وأكثرها شجرا وماء، وكان طارق لما افتتح الأندلس ألفاها خرابا، فعمرت في الإسلام، وهي الآن بيد الإفرنج.ا.ه.
شكل 29-1: المنصور بن أبي عامر يجود بنفسه بين أيدي ابنه وقواده وأطبائه.
وجاء في صبح الأعشى: مدينة سالم قال ابن سعيد: وهي بالجهة المشهورة بالثغر من شرقي الأندلس (والحقيقة أنها من شماليها إلى الشرق أو من جوفيها على رأي الأندلسيين) قال: وهي مدينة جليلة. قال في تقويم البلدان: وبها قبر المنصور بن أبي عامر.
وفي مدينة سالم قبور عائلة إسبانيولية نبيلة يقال لها عائلة دوق مدينة سالم
Duc du Medinaceli . وكورة مدينة سالم قاحلة، قليلة الزرع والضرع، ويكثر في أرضها الجفصين.
وعلى مسافة ثلاثين كيلومترا من مدينة سالم بلدة شنتا مرية
Santa Maria de Huerta . وبالقرب من شنتا مرية هذه، بينها وبين «أديزه»
Ariza
خرابات مدينة أيبيرية قديمة يظن أنها مدينة أركوبريقه
Arcobriga . ثم تمر ببلدة أريزة، وهي داخلة في حدود أراغون، وحول هذه المدينة الصغيرة كهوف ومغاور كانت مسكونة في القديم. والغالب على أرض هذه البلدة الصخور والجنادل، ولون التراب أحمر إلى السواد، ويمر بها نهر شلون
3
وماؤه يميل إلى الحمرة، وكانت من ملحقات مدينة سالم في أيام العرب بلدة يقال لها «شمونت» قال ياقوت: شمونت بالفتح والتشديد وسكون الواو وفتح النون، قرية من أعمال مدينة سالم بالأندلس، لها ذكر في أخبارهم، انتهى. وقال أبو الفداء: إن مدينة سالم كانت قاعدة الثغر الأوسط، وقال الإدريسي إنها مدينة عامرة ذات بساتين ورياض. وجاء في الإنسيكلوبيدية الإسلامية ما معناه إن مدينة سالم واقعة في نصف الطريق بين مجريط وسرقسطة، وارتفاعها عن سطح البحر ألف متر. وليست هي مدينة ابن السالم، التي هي من ملحقات أشبيلية، وكانت في زمان العرب مركز الجيوش المرابطة في الثغور، ومنها تخرج إلى قتال العدو، وإليها تتراجع، وبها تعتصم في حال الفشل. وكانت قد سقطت مكانتها حينا من الدهر، إلى أن تولى الخليفة الناصر، فأعاد عمرانها في سنة 335 للهجرة، عن يد القائد غالب، وبقيت في أيدي المسلمين إلى أن استرجعها المسيحيون. ثم المسلمون فاسترجعوها. ثم عاد المسيحيون فأجلوهم عنها، عندما أخذ الإسلام في الأندلس بالتقهقر.
4
هوامش
الفصل الحادي والعشرون
من انتسب من أهل العلم إلى مدينة سالم
إن العرب لم يحلوا في محل، ولو مدة قصيرة إلا وحلت مدنيتهم معهم فيه. واشتغلوا هنا بالعلم والأدب، وعكفوا على الإقراء، والتدريس، وتصنيف الكتب.
فمن المنسوبين إلى مدينة سالم من أهل العلم أبو الحسن علي بن يوسف القيسي السالمي، سكن جيان. وأخذ القراءات عن محمد بن أحمد بن الفرا، وتصدر للإقراء. ذكره ابن الأبار في التكملة. وأبو الحسن علي بن موسى بن علي بن موسى بن محمد بن خلف الأنصاري السالمي الجياني، المعروف بابن النقرات. كان من القراء، ونزل مدينة فاس ، وإليه ينسب الكتاب الموسوم بشذور الذهب في الكيمياء، ذكره التجيبي وأثنى عليه بالصلاح والورع وقال: سألته عن مولده فقال: سنة 515، وبقي إلى سنة 93. وأبو الأصبغ عيسى بن أبي يونس بن أسد اللخمي، قرأ على أبي العباس بن هاشم المقرئ، وعلى غيره، وتوفي ببلده سنة 482، على رواية ابن بشكوال. ومنه يفهم أن الإسبانيول افتتحوا طليطلة نهائيا قبل مدينة سالم، لأن الروايات متفقة تقريبا على أنهم استولوا على طليطلة سنة 478، ومدينة سالم هي إلى الشمال من طليطلة بمسافة بعيدة، فما كذب الذي قال:
الثوب ينسل من أطرافه وأرى
ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
هذا إلا إذا كان هذا الرجل أقام بمدينة سالم من بعد استيلاء الأسبان عليها.
ثم أبو الحسن علي بن إبراهيم بن فتح، يعرف بابن الإمام، أخذ عن أبي عمر بن عبد البر وأبي الوليد الباجي وغيرهما، وكان من أهل النبل والأدب، توفي سنة 479، وله ثلاث وستون سنة. ذكره ابن مدير، وعنه قال ابن بشكوال. وأبو الأصبغ عيسى بن عبد الرحمن بن سعيد الأموي المقرئ، سمع من القاضي ابن السقاط، وكان من أهل العلم، وتوفي بمصر سنة ثمان وتسعين بعد الأربعمائة. وأبو العاص حكم بن محمد بن إسماعيل بن داود القيسي السالمي، من ساكني سرقسطة، أخذ عن جماعة من علماء الأندلس، ثم رحل إلى المشرق، فأخذ عن ابن رشيق وغيره، وكان صالحا ورعا تولى الصلاة بجامع سرقسطة، وحدث عنه الصاحبان، وذكر وضاح بن محمد السرقسطي أنه توفي سنة 399، نقلا عن ابن بشكوال. وأبو عامر محمد بن أحمد بن عامر البلوي، من أهل طرطوشة وسكن مرسية، وأصله من مدينة سالم، كان من أهل العلم والأدب مؤرخا، له كتاب اسمه «درر القلائد وغرر الفوائد» وله في اللغة العربية كتاب حسن، وله كتاب في الطب سماه «الشفاء» وكتاب في التشبيهات، وكان له حظ من قرض الشعر، وتوفي سنة 599. ترجمه ابن الأبار في التكملة. ومحمد بن أحمد البلوي السالمي، قال في بغية الملتمس: إنه فقيه أديب، له كتاب جمع فيه علوما، وجدد من الدهر آثارا ورسوما، سماه «كتاب السلك المنظوم والمسك المختوم» ولم يذكر ابن عميرة في البغية أين سكن محمد بن أحمد البلوي، ولم نعلم هل هو أبو عامر محمد ابن أحمد البلوي، الذي سكن طرطوشة، وترجمه ابن الأبار، وله كتاب «درر القلائد وغرر الفوائد» أم هو غيره. كما أن ابن عميرة لم يذكر سنة وفاته، بحيث يترجح عندنا أن هذا البلوي محمد بن أحمد هو واحد، لا اثنان تشابه اسماهما؟
وأبو زيد خالد بن أحمد بن أبي زيد الرصافي، ولي قضاء مدينة سالم وامتحن بالنهب عند قتل واليها ذي الوزارتين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن باق، الكاتب القرطبي سنة 419، وكان يلقب بجبل الثلج. من خط ابن حبيش. قاله ابن الأبار في التكملة. وخلف بن يامين، من أهل مدينة سالم وقاضيها. قال ابن الأبار حضر مع غالب مولى الناصر، ووثوبه على محمد بن أبي عامر، إذ حاول الفتك به فقبض على أسفل كمه لما أهوى إليه بالسيف، فنثر خربته، وجعل يناشده الله حتى أدهشه، وأفلت ابن أبي عامر، وعدا غالب عليه (أي على خلف) بعد ذلك، فقتله أفظع قتلة، لخروج مدينة سالم عن يده. وذلك في منسلخ شهر رمضان سنة 369 انتهى. ومن هنا يعلم أن مدينة سالم تداولها المسلمون والنصارى مرارا لأن بعد هذا التاريخ دفن فيها محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور، وكانت يومئذ في أيدي المسلمين. وخلف بن محمد بن خلف المقرئ، روى عن أبي عمرو المقرئ، وأخذ عنه أبو الحسن بن قوطة الحجاري، سمع منه في شعبان سنة 476. وأبو الوليد يونس بن عيسى بن خلف الأنصاري، سمع من أبي عبد الله بن السقاط، وقرأ على أصحاب أبي عمرو المقرئ، قال ابن بشكوال: أخذ عنه أصحابنا، وقرأ بخط بعضهم أنه توفي سنة 508. ويعيش بن خلف الأنصاري، روى عن أبي عمرو المقرئ، وكان عنده علم وخير. وقد حدث، وأخذ عنه، عن ابن بشكوال. ونصر بن عيسى بن نصر بن سحابة من أهل مدينة سالم، سكن سرقسطة، كان من أهل الأدب والمعرفة بالعروض، وله في العروض كتاب، صنعه للمؤتمن بن المقتدر بن هود. قال ابن الأبار في التكملة: وكان له خط من النظم ضعيف، وله رواية عن أبي الحسن بن سيده. وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم شاس القيسي، من أهل مدينة سالم، سكن سرقسطة، كان أديبا كتب عنه ابن سيدراي. وأبو القلعي كامل السالمي الحكيم، حكى عنه أبو داود المؤيدي في حفظ أبي عمرو المقرئ، وذكر أنه كان رفيقا له.
وأبو محمد الغالب بن يوسف السالمي، كان عالما بالأصول، سكن سبتة، ثم مراكش وتوفي فيها سنة 576.
وأبو عبد الله محد بن موسى الأنصاري، كان من القراء أخذ عن المغامي.
وأبو مروان عبد الله بن خلف بن محمد الخولاني المكتب، أصله من مدينة سالم، سكن غرناطة وتصدر للإقراء بها. وكان من جلة القراء مع الصلاح والزهد، أخذ عنه أبو بكر بن الخلوف وأبو الحسن بن ثابت، ترجمه ابن الأبار في التكملة.
الفصل الثاني والعشرون
الحمة
وعلى مسافة 219 كيلومترا من مجريط إلى الشرق وعلى مقربة من أريزة توجد بلدة الحمة
Alhama
حمة أراغون، فيها مياه معدنية سخنة، ومن ذلك اسمها «الحمة» وأينما وجد العرب مياهها حارة تنبع من الأرض، سموها حمة
1
وبقرب هذه المياه الحارة يجري نهر شلون
2
بين الصخور، وضواحي هذه البلدة هي في غاية النضارة وينحدر من نهر «بيبدره»
هناك اثنا عشر خلالا، إحداها ينصب من علو 44 مترا، وفي تلك النواحي كهوف تستحق الفرجة.
شكل 32-1: الحامة في أراغون.
شكل 32-2: شلال الحمة.
شكل 32-3: شلال أخر.
ثم بلدة «بوبيرقة» وعندها جسر على نهر شلون. ثم بلدة «عتيقة»
Ateca
وهي بلدة قديمة وسكانها 3100 نسمة كان لها قلعة في زمن العرب افتتحها القمبيذور سنة 1073 وأخرج منها، ولا تزال فيها أبراج من أيام العرب.
وعلى مسافة 245 كيلومترا من مجريط إلى الشرق.
هوامش
الفصل الثالث والعشرون
قلعة أيوب
والأسبان يقولون كلاتايود
وهي الآن بليدة لا يزيد عدد سكانها على عشرة آلاف نسمة، لكنها في موضع من أبدع المواقع منظرا، على وادي جالون يشرف عليها قلعة تسمى قلعة أيوب ، يقال إن بانيها هو أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى بن نصير ولذلك انتسبت إليه. ومباني هذه البلدة من الطين المجفف في الشمس، وعليها علامة الفقر. وفيها كنيسة يقال لها كنيسة سانتامرية، كانت في الأصل جامعة، ولها منارة للجرس كانت في أصلها مئذنة، وكنيسة أخرى يقال لها كنيسة القبر المقدس، لها برجان، وكانت في الماضي أعظم مركز لفرسان الهيكلين في أسبانية. وقد بنيت هذه الكنيسة سنة 1141 أي بعد إجلاء العرب عن قلعة أيوب باثنتين وعشرين سنة، لأن الأذفونش الأول ملك أراغون انتزع قلعة أيوب من أيدي العرب سنة 1119.
وفي جوار قلعة أيوب كهوف وغيران يسكن فيها البشر، أشهرها الكهف الذي يقال له المررية
Moreria ، وكذلك المغاور التي يقال لها «كامينوسوليداد»
Camino de Soledad . وإلى الشرق من قلعة أيوب على الطريق السلطاني المؤدي من ماردة إلى سرقسطة، كانت مدينة «بيلبيليس»
Bilbilis . وهي بلدة بناها بعض الجالية الإيطالية في أثناء المائة الأولى من التاريخ المسيحي، وكانت موصوفة بحسن الصياغة، وبإتقان صنعة الأسلحة، وبتربية الخيل المسومة. ومن قلعة أيوب إلى بلنسية 294 كيلومترا بالقطار الحديدي، الذي يسير كل يوم، ومنها إلى يرول
Teuel
يسير عليه القطار أيضا ثم إن السكة الحديدية تمتد من قلعة أيوب في وادي جلق
Giloca
فلا يسير القطار أكثر من خمسة كيلومترات حتى يصل إلى بلدة يقال لها «باراكولوس»
paracuellos ، وبعد خمسة كيلومترات أخرى إلى بلدة يقال لها «مالونده فيلية»
Maluenda Velilla ، وفيها عدد من الكنائس، وبعد ثلاثة كيلومترات لا غير إلى موراته
Morata ، ثم على مسافة تقرب منها إلى قرية يقال لها «فنت جلق» في أرضها معدن من الجفصين والمرمر. ثم على مسافة قريبة من هذه بلدة «فيلا فليش»
Villa Feliche ، واقعة بين أكمتين وفيها آثار مساجد إسلامية. والسكة الحديدية في هذه المسافة تخترق الجبل في عدة أماكن. وعلى 35 كيلومترا من قلعة أيوب مدينة دورقة، وليس فيها الآن إلا أربعة آلاف نسمة، لكنها في موقع بديع خفيف على الروح، ضمن واد عميق من جلق. وقد كانت هذه البلدة من زمان الأيبيريين، ولكنها عمرت كثيرا في أيام العرب، إلى أن فتحها الأذفونش الأول صاحب أراغون سنة 1121 وأجلى العرب عنها، ولها قلعة من بناء العرب معروفة بقلعة دورقه، وسور عظيم طوله ثلاثة كيلومترات، وعليه 114 برجا.
وإلى الشمال الشرقي من دورقة، وهناك منظر من أبدع المناظر، سرداب طويل، يزيد على خمسمائة متر، ويعلو على ستة أمطار، لأجل تصريف المياه، في وقت الفيضان، نحو وادي جلق. وعلى مقربة من دورقة بلدة في سهل مريع تسمى «باغنه»
Bagiena ، وبلدة أخرى اسمها كلموشه
Calamocha
ثم بلدة تسمى كاميرال
Caminreal
على نهير يقال له «ريجه» واقع على الطريق السلطاني بين قاعدتي سرقسطة وبلنسيه.
الفصل الرابع والعشرون
من نبغ من أهل العلم من أهل قلعة أيوب
ولنذكر الآن بعض ما جاء في كتب العرب وغيرها عن قلعة أيوب. قال ياقوت: مدينة عظيمة جليلة القدر بالأندلس بالثغر، وكذا ينسب إليها، فيقال: ثغري، من أعمال سرقسطة، بقعتها كثيرة الأشجار، والأنهار، والمزارع، ولها عدة حصون. وبالقرب منها مدينة لبلة. ينسب إليها جماعة من أهل العلم، منهم محمد بن قاسم بن خرة، من أهل قلعة أيوب، يكنى أبا عبد الله، رحل سنة 338، سمع بالقيروان من محمد بن أحمد بن نادر، ومحمد بن نصر الثغري، يكنى أبا عبد الله، أصله من سرقسطة، كان حافظا للأخبار والأشعار، عالما باللغة والنحو خطيبا بليغا، وكان صاحب صلاة قلعة أيوب. قال ابن الفرضي: أحسب أن وفاته كانت في نحو سنة 345. انتهى.
قلنا: لم يذكر ياقوت استيلاء النصارى على قلعة أيوب، ونظن ذلك قد فاته سهوا، لأنه في أيام ياقوت الحموي المتوفى في 626 للهجرة، كان مضى على قلعة أيوب نحو مائة وعشرين سنة وهي في يد الإسبانيول. وقد ذكر ياقوت تحت لفظة الثغر ترجمة أبي محمد بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن حزم بن خلف الثغري، من أهل قلعة أيوب، سمع بتطيلة من ابن شبل، وأحمد بن يوسف بن عباس، وبمدينة الفرج من وهب بن مسرة، ورحل إلى الشرق سنة 350، فسمع ببغداد من أبي علي الصواف، وأبي بكر بن حمدان، سمع منه مسند أحمد بن حنبل والتاريخ، دخل البصرة والكوفة ، وسمع بها، وسمع بالشام ومصر وغيرهما، من جماعة يكثر تعدادهم، وانصرف إلى الأندلس، ولزم العبادة والجهاد، واستقضاه الحكم المستنصر بموضعه، ثم استعفاه منه فأعفاه، وقدم قرطبة في سنة 375، وقرأ عليه الناس. قال ابن الفرضي: وقرأت عليه علما كثيرا، فعاد إلى الثغر، فأقام إلى أن مات. وكان يعد من الفرسان وتوفي سنة 383 بالثغر من مشرق الأندلس. ا.ه.
قلنا: وممن ينسب إلى قلعة أيوب من أهل العلم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن عبد الحميد التجيبي، ويعرف بالقبريري، كان فقيها مالكيا جليلا، بصيرا بالمذهب، حافظا للرأي، وله مسائل في الآذان، وفي الحضانة وكتاب سماه «بالانتصار لابن العطار فيما رده عليه أبو عبد الله بن الفخار» وقد روى عنه أبو عبد الله بن سيدراي القلعي، ذكره القنطري، وقال في نسبه: محمد بن عبد الله بن عيسى بن محمد بن عبد الحميد، وذكر أنه كان من كبار الفقهاء الحفاظ وكان شاعرا، روى هذا ابن الأبار في التكملة. أبو عبد الله محمد بن أحمد الكفيف يعرف بابن الحاج، حدث عنه ابن عبد السلام الحافظ وقال: أجاز لنا كتاب الشريعة لأبي بكر الآجري، وكان قد كف بصره. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن سعيد بن مطرف التجيبي القلعي، يعرف بالبيراني، روى عن أبي محمد بن عتاب، وكان من أهل العلم والفضل، حدث عنه ابنه أبو حفص عمر، وتوفي بعد الأربعين والخمسمائة. ذكره ابن الأبار. وأبو عبد الله محمد بن سليمان بن سيدراي الكلابي الوراق القلعي، سكن ببلنسية، كان يروي عن أبي الحسن بن واجب وأبي بكر بن العربي وأبي الأصبغ المنزلي، وأبي عبد الله القبريري، سمع منه المدونة ثلاث مرات، وخرج من بلده لما تغلب العدو عليه، بعد وقيعة كتندة في سنة 514، فكان يبيع الكتب في دكان له، وكان أبوه من قبله وراقا، توفي ببلنسية في رجب سنة 548، وقد نيف على السبعين، وقيل بلغ الثمانين.
وأبو عمر يوسف بن يونس الأموي، يعرف بالمروي، له رحلة إلى المشرق أخذ فيها عن أبي الوشا، وأبي حفص بن عراق، ورايق الصقلي وغيرهم، وأخذ ببلدة قلعة أيوب عن القاضي أبي محمد عبد الله بن قاسم، وأخذ عنه الصاحبان وأبو عمر المقري.
وأبو الطيب سعيد بن فتح الأنصاري، من قلعة أيوب، أخذ القراءات عن أبي داود، وابن الدوش، وابن البياز وغيرهم، وتصدر للإقراء بمرسية، وكان متفننا أديبا، أخذ عنه أبو عبد الله بن فرج المكناسي وغيره، توفي بقرطبة سنة خمس عشرة أو ست عشرة وخمسمائة. وذكره ابن الأبار. وأبو محمد يحيى بن محمد بن حسان القلعي، أخذ القراءات عن أبي جعفر بن حكم، ورحل، فلقي بالمهدية أبا عبد الله بن الحداد الأقطع، وأخذ عن أبي عبد الله الطرابلسي، وتصدر للإقراء في قلعة أيوب، وأخذ عنه أبو عمرو عثمان البلجيطي،
1
وكانت وفاته سنة 512، ذكره ابن الأبار. وأبو القاسم إسماعيل بن أبي الفتح، قال ابن بشكوال: كان فقيه جهته، من أهل العلم والتقدم في الفتوى، توفي في نحو الخمسمائة. أفادنيه ابن عياض. وأبو القاسم إسماعيل بن يونس الموري، حدث عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن قاسم الثغري وغيره، حدث عنه أبو عمرو المقري وأبو حفص بن كريب وغيرهما. وأبو عثمان سعيد بن يوسف بن يونس الأموي، له رحلة إلى المشرق روى فيها عن أبي بكر بن عمار الدمياطي، وأبي إسحاق إبراهيم بن أبي غالب المصري، وأبي محمد بن النحاس وغيرهم، حدث عنه الصاحبان، وأبو عبد الله بن عبد السلام، وقال: توفي في عقب ذي الحجة سنة 397. وأبو يونس عبد العزيز بن عبد الله بن هذيل العبدي القلعي، يروي عن أبي الوليد الباجي، سمع منه صحيح البخاري بسرقسطة في جيئته رسولا إليها سنة 470، روى عنه أبو الحسين بن حفصيل السرقسطي. وأبو مروان بن الصيقل الوشقي، وكان أديبا فقيها مشاورا. وأبو محمد عبد الرحيم بن عبد الجبار بن يوسف بن عبد الرحيم بن أحمد الشعنتي، وشعنت حصن في قلعة أيوب، خرج من بلده سنة 511، نزل بمرسية سنة 526، وتصدر بها للإقراء. وأبو يونس عبد الله بن هذيل العبدري، والد عبد العزيز بن عبد الله بن هذيل. وأبو محمد عبد الله بن عبد الله بن عبد الله (ثلاثا) بن محمد بن قاسم القلعي، تولى قضاء قلعة أيوب بعد أبيه، وتوفي سنة 487.
وأبو بكر عبد الله بن عبد الله بن محمد بن قاسم بن حزم يعرف بالبطروري نسبة إلى قرية منها بوادي جلق، وهو والد القاضي أبي محمد القلعي، توفي سنة 425.
هوامش
الفصل الخامس والعشرون
من نبغ من أهل العلم من مدينة دورقة
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الله بن سعيد الدورقي، يعرف بابن زرياب، لقي أبا بكر بن العربي، وكان من أهل العلم والزهد، فقيها مشاورا، توفي ببلنسية ليلة الخميس منتصف رمضان سنة 522. ذكره ابن الأبار في التكملة. وأبو القاسم محمد بن عبد العزيز بن محمد بن سعيد بن معاوية بن داود الأنصاري، أصله من دورقة، وسكن أبوه قرطبة، وكان يقال له الدروقي، روى عن أبيه عبد العزيز وعن أبي علي الصدفي، وعن أبي بكر بن العربي، وكان من أهل الحفظ للحديث. قاله ابن الدباغ، وتوفي في حياة أبيه قبل العشرين وخمسمائة، ذكره ابن الأبار. وأبو محمد عبد العزيز بن محمد بن معاوية الأنصاري. يعرف بالدروقي الأطروش، قال ابن بشكوال: روى عن أبي بكر محمد بن مفوز، وأبي علي حسين الصدفي، وأبي عبد الله الخولاني، وسمع من جماعة من شيوخنا بقرطبة وغيرها. وكان معتنيا بالحديث وكتبه وتقييده، حافظا له، عارفا بعلله وطرقه، وصحيحه وسقيمه، وأسماء رجاله، مقدما في جميع ذلك على أهل وقته، سمعنا منه، وأجاز لنا بلفظه ما رواه وجمعه، وكان حرج الصدر، نكد الخلق، توفي رحمه الله في ربيع الآخر سنة 524. انتهى. قلنا: وجاء في معجم البلدان تحت اسم «دورقة» بالدال قبل الواو، ترجمة عبد العزيز هذا ولكنه كناه بأبي الأصبغ لا أبي محمد، عبد العزيز بن محمد بن سعيد بن معاوية بن داود الأنصاري الدروقي الأطروشي. وقال ياقوت: كان من أهل المعرفة بالحديث والحفظ وله تآليف ، وكان عسرا سيئ الأخلاق، قلما يصبر على خدمة أحد، وكان له ولد من أهل الفقه والمعرفة يقال له محمد بن عبد العزيز، مات قبل أبيه. قال ياقوت: وأبو زكريا يحيى بن عبد الله بن خيرة الدورقي المقري، بلغ الإسكندرية، وحضر عند أبي طاهر السلفي، وكتب عنه. انتهى ملخصا.
ومن الغريب أن ياقوت الحموي ذكر في معجمه دروقة، بفتح أوله وثانيه، وسكون الواو. وهنا قدم الراء على الواو، وقال إنها بلدة أو قرية بالأندلس، ينسب إليها أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن خيرة الدروقي المقري، قال السلفي: قدم علينا الإسكندرية سنة 529، وسألته عن مولده فقال: سنة 464 بدروقة، وقرأت القرآن على أبي الحسين يحيى بن إبراهيم اليسار القرطبي بمرسية، وسمعت الحديث على أبي محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل القاضي بسرقسطة. انتهى، ثم قال: ومات بقفط من الصعيد سنة 530 انتهى. ثم رجع ياقوت فذكر بلدة اسمها دورقة، بتقديم الواو على الراء، وقال إنها مدينة من بطن سرقسطة، ينسب إليها جماعة، منهم أبو محمد عبد الله بن جوشن الدروقي المقرئ النحوي، كان آية في النحو، وتعليل القراءات، وله شعر حسن، وسكن شاطبة وبها توفي سنة 512. ثم ذكر ياقوت ترجمة أبي الأصبغ عبد العزيز الأطروشي، وأبي زكريا يحيى بن خيرة الدروقي، وذلك بعد أن كان ذكر ترجمة ابن خيرة المذكورة تحت اسم دروقة، لا دورقة. والحقيقة أنه لا يوجد بلدتان إحداهما دروقة، والأخرى دورقة. وإنما هي بلدة واحدة يتلفظ بعضهم باسمها بتقديم الراء على الواو، والآخرون بتقديم الواو على الراء.
والذي في الصلة لابن بشكوال، وفي التكملة لابن الأبار، هو دروقة بتقديم الراء على الواو، وهكذا يتلفظ بها الإسبانيول. وممن ينسب إليها، عدا من تقدم ذكرهم، أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى بن أبي العافية الأنصاري الدروقي، روى عن أبي القاسم بن حبيش، وأبي القاسم السهيلي، وأحمد بن إبراهيم الدروقي. وأما محمد بن عبد الله بن جوشن المقرئ النحوي، فقد أخذ القراءات بسرقسطة عن أبي زيد بن الوراق، وأبي جعفر بن الحكم، وأخذ العربية عن أبي جعفر بن باق. وكان له معرفة بعلم الكلام، ومشاركة في الطب، وكانت وفاته سنة 514، وهو دون الأربعين، هذا ما قرأناه عنه، وياقوت يقول: إن وفاته كانت سنة 512.
الفصل السادس والعشرون
ترول
وعلى مسافة 131 كيلومترا من قلعة أيوب إلى الجنوب، بلدة ترول
Teruel ، وسكانها 12 ألفا، وهي مركز جنوبي أراغون، وموقعها على وادي الأبيار،، وفيها آثار أسوار من القرون الوسطى، وفيها قناة معلقة، وهي إلى الشرق من مملكة بلنسية القديمة، ومنها يقطعون النهر الذي يقال له المجر، وعليه جسر علوه 42 مترا، وفي تلك الناحية بلدة يقال لها «جريقة»
Gerica ، وفي هذه البلدة آثار حصن عربي قديم استولى عليه جقوم الأول، ملك أراغون سنة 1235، والخط الحديدي ينحدر من هناك إلى بسائط مملكة بلنسية القديمة، وفي مقاطعة ترول هذه يضع الجغرافيون مدينة شنتمرية الشرق.
الفصل السابع والعشرون
شنتمرية ابن رزين
جاء في الأنسيكلوبيدية الإسلامية أن شنتمرية الشرق، ويقال لها شنتمرية ابن رزين، هي مدينة على نهر «تريه»
Turia
الذي يقول له العرب وادي الأبيار المنحدر من مقاطعة ترول في جنوبي أراغون. وقد ورد ذكر هذه البلدة في تاريخ ابن عذاري، عند كلامه على ذهاب أمير شنتمرية، الذي هو ابن رزين من البربر وذلك إلى قرطبة، لأجل حلف يمين الأمانة للخليفة عبد الرحمن الناصر. وقد سموا هذه البلدة شنتمرية ابن رزين، ومنها جاء اسم «البراسين» الذي هو اليوم اسم تلك المقاطعة
Albarracin
ويقال لها شنتمرية الشرق، تمييزا لها عن شنتمرية الغرب، التي هي اليوم في البرتغال، ومركزها قريب من مرسى «فارو»
Faro .
جاء في الأنسيكلوبيدية المذكورة أنه بعد سقوط بني أمية في قرطبة، ومجيء ملوك الطوائف، استقل بشنتمرية الشرق أبو محمد هذيل بن خلف بن لب بن رزين، ثم جاء بعده أخوه أبو مروان عبد الملك بن خلف، ثم خلفه ابنه أبو محمد هذيل الثاني الملقب بعز الدولة، وجاء بعده ابنه مروان عبد الله الثاني الملقب بحسام الدولة، وذلك سنة 496 للهجرة، وفق 1102 للميلاد. وفي سنة 1087 انضم ابن رزين إلى القسيذور الملقب بالسيد، وزحف معه لحصار بلنسية سنة 1094 ثم إن شنتمرية ابن رزين انتهى أمرها باستيلاء الدون بتره رويز الصخرة
Raiz de Azagra
عليها، فخرجت من يد الإسلام، وفي سنة 1231 اندمجت في مملكة أراغون. انتهى.
وقد اطلعنا على ذيل لكتاب «البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب» لأبي العباس بن عذارى المراكشي طبعه الأستاذ لاوي بروفنسال مع الجزء الثالث من كتاب ابن عذارى، وفيه نتف من أخبار ملوك الطوائف. ومن الجملة ذكر دولة بني رزين هؤلاء. قال الكاتب: ذكر دولة بني رزين ملوك شنتمرية الشرق، وهي مدينة عظيمة في شرقي الأندلس، ويعرفون ببني الأصلع، لما اشتعلت الفتنة بالأندلس في ثورة ابن عبد الجبار، وثار كل رئيس بموضع، ثار ابن الأصلع بشنتمرية ويقال لها السهلة، واسمه هذيل بن خلف بن لب بن رزين البربري، وكنيته أبو محمد بويع لها بها سنة ثلاث وأربعمائة، وكان من أكابر ناس الثغر، وكان بارع الجمال، حسن الخلق، جميل العشرة، ظاهر المروءة، لم ير في الأمراء أبهى منه منظرا مع طلاقة لسانه، وإدراك حوائجه ببيانه، وكان أرفع الملوك همة في اكتساب الآلات، واقتناء القينات، اشترى جارية الطبيب أبي عبد الله الكناني بثلاثة آلاف دينار.
قال ابن حيان في تاريخه: لم ير في زمانها أخف منها روحا، ولا أسرع حركة ولا ألين أعطافا، ولا أطيب صوتا، ولا أحسن غناء، ولا أجود كتابة، ولا خطا، ولا أبدع أدبا، ولا أحضر شاهدا، مع السلامة من اللحن في كتابها وغنائها، لمعرفتها بالنحو واللغة والعروض، إلى المعرفة بالطب، وعلم الطبائع، ومعرفة بالتشريح، وغير ذلك مما يقصر عنه علماء الزمان. وكانت محسنة في صناعة الثقاف، والمجاولة بالتراس واللعب بالرماح والسيوف والخناجر المرهفة، لم يسمع لها في ذلك بنظير ولا مثل ولا عديل
1
ثم إن الأمير هذيل اشترى كثيرا من الجواري الحسنات المشهورات بالتجويد، طلبهن في كل جهة، فكانت ستارته أحسن ستائر ملوك الأندلس. وكان مع هذه الأوصاف كنفا للقصاد، ومنهلا عذبا معينا للوراد، سهل المأخذ، لم يزل على أحسن حالاته إلى أن أدركته منيته، فمات بالسهلة، سنة ست وثلاثين وأربعمائة، فكانت دولته ثلاثا وثلاثين سنة كاملة آمنة هادئة.
وولي بعده ابنه عبد الله بن هذيل بن خلف بن لب بن رزين، بويع له يوم موت أبيه سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان في أيام أبيه يسمى حسام الدولة، وكان بالعكس من أبيه. قال ابن حيان: وكان سيئة الدهر، وعار العصر، جاهلا لا متجاهلا، وخاملا لا متخاملا، قليل النباهة، شديد الإعجاب بنفسه، بعيد الذهبة بأمره، زاريا على أهل عصره، إن ذكرت الخيل فزيدها، أو الدهاة فسعدها وسميدها، أو الشمراء فجرولها وأسيدها، أو الأمراء فزيادها ويزيدها، أو الكتاب فبديع همذان، أو الخطابة فقس وسحبان، أو النقد فقدامة، والعلم ليس منه ولا كرامة، خلي من المعارف، وشعره أهتف من كال هاتف، ومنه قوله الذي هو جسم بلا روح، وليل بلا صبوح:
أدرها مداما كالغزالة مزة
تلين لرائيها وتأبى عن اللمس
وتبدو إلى الأبصار دون تجسم
على أنها أشفى على الذهن والحس
وقوله أيضا:
يا رب ليل أطال الهجر مدته
فأيأس العمر من إدراك منتصفه
ليل تطاول حتى ما تبين لي
عند التأمل أن الدهر من صدفه
وقوله:
أنا ملك تجمعت في خمس
هي للأنام محيي ومميت
هي ذهب وحكمة ومضاء
وكلام في وقته وسكوت
إلى غير هذا من سخفه. انتهى كلام ابن حيان. ومن لعمري لا يوافقه عليه؟
وذكره الفتح بن خاقان في كتابه «قلائد العقبان» فأثنى عليه بما ليس فيه من المحاسن، ووصفه بصفات ليس هو بأهل لها، ثم قال بعدها: إلا أنه كان يتشطط على ندامة، ولا يرتبط في مجلس مدامة، فربما عاد إنعامه بؤسا، وانقلب ابتسامه عبوسا، فلم تتم معه سلوة، ولا فقدت في ميدانه كبوة، وقليلا ما كان يقبل، ولا يناجي المذنب عنده إلا الحسام الصقيل.
ففهم من هذا الوصف هوره وحماقته، وسرعته إلى القتل، ولم يزل على ذلك من أفعاله إلى أن مات بحصن السهلة، غدوة الاثنين التاسع من شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة، فكانت دولته ستين سنة. انتهى.
قلنا: فما كان أصبر رعيته على نار هذه المحنة، التي استمرت ستين سنة! ثم جاء في هذا الذيل ذكر ولده يحيى بن عبد الملك بن هذيل بن خلف بن لب بن رزين، بويع له يوم موت أبيه، بعهده ووصيته، وسلك في التخلف مسلك أبيه، مدمنا للخمر، مكثرا من الغثيان، ضعيف العقل، وممن ضعف عقله أن الفنش (يعني به الأذفونش السادس) لما أخذ الثغور وتملكها، أهدى إليه كل ملك من ملوك الطوائف الهدايا الجليلة، فلم يلتفت إلى أحد منهم، ولا كافأه على هديته. فأهدى إليه حسام الدولة يحيى هذا هدية جليلة، من الحلي والحلل، والخيل والبغال، وتحف الملوك، يعجز عنها الوصف، فأعجب الفنش هديته، فكافأه عليها بقرد. فكان من ضعف عقله يفخر بذلك القرد على ملوك الأندلس. فانظر إلى هذا السخف وهذا الخذلان! ولم يزل على سخفه وخذلانه إلى أن خلعه المرابطون بيوم الاثنين الثامن من رجب سنة سبع وتسعين وأربعمائة، فكانت دولته سنة واحدة. وانقرضت دولتهم. ا.ه.
ولما كانت شنتمرية ابن رزين معمورة بالعرب، خرج منها عدد من أهل العلم لأنهم أينما حلوا كانوا يقيمون سوق المعارف على ساقها.
هوامش
الفصل الثامن والعشرون
من نبغ من أهل العلم في شنتمرية ابن رزين
أبو عيسى لب بن عبد الجبار بن عبد الرحمن يعرف بابن ورهزن، سمع من أبيه ومن القاضي أبي بكر بن العربي، لقيه بكولية من الثغور الشرقية حتى غزاها مع الأمير أبي بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين في جمادى الآخرة سنة 522، وسمع أيضا من أبي مروان بن غردي، وولى الأحكام بشاطبة، ثم ولي قضاء بلدة شنتمرية بآخرة من عمره مضافة إلى البونت من أعمال بلنسية. وتوفي سنة 538 وقد نيف على الستين. ترجمة ابن الأبار في التكملة. وأبو عيسى لب بن عبد الملك بن أحمد بن محمد بن نذير الفهري من أهل شنتمرية الشرق، سكن بلنسية، روى عن أبيه أبي مروان، وتولى قضاء بلدة وراثة عن أبيه، ثم سعى إلى السلطان فغربه عن وطنه وأسكنه حضرته بلنسية إلى أن توفي بها بعد سنة 540، حدث عنه ابنه أبو العطاء وهب بن لب. وأبو عبد الله محمد بن مسعود بن خلف بن عثمان العبدري من شنتمرية الشرق، سكن مرسية ورحل حاجا، وسمع من أبي علي الصدفي. وأبو مروان عبد الملك بن أحمد بن محمد بن نذير بن وهب بن نذير الفهري، سمع ببلدة شنتمرية الشرق من أبيه، وبمدينة سالم من أبي الحسن علي بن الحسن صاحب الصلاة فيها، وتولى القضاء ببلده، وتوفي بعد التسعين والأربعمائة. وأبو الوكيل عبد الجبار بن عبد الرحمن بن ورهون من أهل شنتمرية الشرق وقاضيها، روى عن أبي مروان بن نذير في شنتمرية سنة 489. وأبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن قيروه بن وهب بن غردي من أهل مرسية، أصله من شنتمرية الشرق، له رحلة إلى المشرق، ذكر ابن بشكوال أنه توفي سنة 425. وأبو مروان عبد الملك بن مسرة بن فرج بن خلف بن عزير اليحصبي من أهل قرطبة، أصله من شنتمرية الشرق، ومن مفاخرها وأعلامها، اختص بالقاضي أبي الوليد بن رشد وجمع بين الحديث والفقه، وكان على منهاج السلف الصالح، وتوفي سنة 552.
وأبو الخيار مسعود بن عثمان بن خلف العبدري، والد أبي عبد الله محمد بن مسعود بن عثمان العبدري. وأبو جعفر أحمد بن بقاء بن مروان بن مميل اليحصبي، من أهل شنتمرية الشرق، نزل مرسية، وتوفي سنة 544. وأبو العطاء وهب بن لب بن عبد الملك بن أحمد بن محمد بن وهب بن نذير الفهري من شنتمرية الشرق، سكن بلنسية، وتولى قضاءها مع الخطابة، وتوفي سنة 595، ترجمه ابن الأبار، وترجم والده أبا عيسى لب بن عبد الملك. وأبو عبد الله محمد بن وهب بن نذير بن وهب بن نذير الفهري، له ولأهل بيته نباهة، وبسماع العلم عناية، توفي صفر سنة 433 قاله ابن الأبار.
ثم إن ابن عذارى في البيان المغرب في أخبار بني رزين، بدأ بذكر أبي مروان عبد الملك الملقب بحسام الدولة، فنقل عن ابن حيان ما يلي: كان جده هذيل بن خلف بن لب بن رزين، المعروف بابن الأصلع صاحب السهلة، موسطة ما بين الثغر الأقصى والأدنى من قرطبة، فإنه كان من أكابر برابر الثغر، ورث ذلك عن سلفه، ثم سما لأول الفتنة (أي فتنة قرطبة الكبرى) إلى اقتطاع عمله، والإمارة لجماعته، والتقبل لجاره إسماعيل بن ذي النون، في الشروع عن سلطان قرطبة، فاستولى له من ذلك ما أراد هو وغيره من جميع من انتزى في الأطراف، شرقا وغربا، وقبلة وجوفا. إلا أن هذيلا هذا مع تعزز على المخلوع هشام (أي ابن الحكم المستنصر) لم يخرج عن طاعته، ولا وافق الحاجب منذرا، ولا جماعة المتمالثين على هشام، في شأن سليمان عدوه (سليمان بن الحكم بن الناصر، وكان يسمى بالمستعين)، إلى أن ظفر بهشام، فسلك هذيل مسكله، فرضي منه سليمان بذلك، وعقد له على ما في يده هنالك لعجزه عنه، فزاد ذلك بعادا منه، وتمرس به الحاجب منذر بن يحيى، مدرجا له في طي من استعمله، واشتمل عليه من سائر أمراء الثغر النازلين في ضبته، فأبت له نفسه الخنوع له، والانضمام إليه، فرد أمره وحاده، وأجاره منعة معقله، وظاهر أعداء منذر، حتى حالف الموالي السامريين، واستمر معهم على دعوة هشام المخلوع. وقطع دعوة سليمان. وكانت واقية الله له كونه موسطة الثغر، فصار ذلك أرد الأشياء عنه، فسلم من معرة الفتنة أكثر وقته، وتخطته الحوادث لقوة سعده، واقتصر مع ذلك على ضبط بلده، الرسوم بولاية عهده، وترك التجاوز لحده، والامتداد إلى شيء من ولاية غيره، فاستقام أمره، وعمر بلده، وقطع بعد جمهور الثوار بالأندلس شأو الحياة.
وليس في بلد الثغر أخصب بقعة من سهلته المنسوبة إلى بني رزين سلفه في اتصال عمارتها. فكثر ماله. إذ ناغى جاره وشبيهه في جمع المال، إسماعيل بن ذي النون، ونافسه في خلال البخل، وفرط القسوة. وكان مع ذلك شابا جميل الوجه حامي الأنف، غليظ العقاب، جبارا، مستكبرا، صار إليه أمر والده منبعث الفتنة، وهو فتى في العشرين من سنه، فأنجده الصباء على الجهالة، وقواه الشباب على البطالة، فبعد في الشرور شأوه، فلم يحالف أحدا من الأمراء على أ داء الإتاوة، ولا حظي أمراء الفتنة منه بسوى إقامة الدعوى فقط، دون معونة بدرهم، ولا إمداد بفارس، ولا شارك الجماعة في حلو ولا مر، على كثرة ما طرق الحضرة من خطوب دهم، استخفت البطاء، وقربت البعداء، فضلا عن الأولياء، إلا ما كان من هذه الحية الصماء، فإنه لم يزل على تصامه عن كل نداء، إلى أن مضى لسبيله، والأخبار متتابعة عن جهله وفظاظته، حتى زعموا أنه سطا بوالدته، وتولى قتلها بيده، لتهمة لحقتها عنده، وكانت أشنع ما كان من كبائره.
ثم ذكر ابن حيان ما تقدم نقله عن هذيل هذا من مغالاته في شراء القيان
1
ثم ذكر ابن عذارى عن حسام الدولة أبي مروان ابنه خلاف ما جاء في الذيل المتقدم ذكره، فإنه قال عنه: كان له طبع يدعوه فيجيب، ويرمي بغرة الصواب على قومه فيصيب، على ازدراء كان منه بالأمة، وقلة استجداء لمن عني بالأخذ من الأئمة وربما جالسهم مباحثا، بين مغالطة وأنفة، وبالجملة فلو جرى ذو الرئاستين على عفوه، لبلغ منتهى شأوه. قال: وكان شاعرا مجيدا، ومن شعره:
يا رب ليل أطال الهجر مدته إلخ. وقد تقدم هذان البيتان.
ولنعد إلى قلعة أيوب متوجهين صوب سرقسطة قاعدة الثغر الأعلى فنقول:
إن الخط الحديد يمر بينها وبين سرقسطة على ثمانية جسور، معقودا أكثرها على نهر شالون، وهو يخترق جبال بيكور،
2
وإن منظر ضفاف نهر شالون هو من أبدع مناظر الأندلس، بما فيه من خضرة ناضرة، وجنان زاهرة، تحاذي القفار اليابسة التي بإزائها، أشبه شيء بغوطة دمشق، بحذاء جبل الصالحية الموجود، ولا تزال القرى والقصاب منتظمة بلبة نهر شالون إلى أن تبلغ سرقسطة، ومن جملتها بلدة «كالاتوراو»
3
وهي مدينة قديمة رومانية، حصنها العرب وأقاموا بها، وبالقرب منها بلدة «ساليلاس»
4
وفيها بيوت منحوتة في الجبل، ثم بلدة أبيلة، ولعلها التي يقول العرب لبلة، من عمل سرقسطة، وهي بحذاء سلسلة جبال يقال لها شارات «مولا»
5
وبحذاء تلك الجبال بلدة «روطة» وفيها حصن قديم من بناء العرب. قال ياقوت في معجم البلدان: روطة بضم أوله وسكون ثانيه وطاه مهملة، حصن من أعمال سرقسطة بالأندلس، وهو حصين جدا على وادي شلون. ثم بلدة يقال لها «بلازنسيا» على شالون، ثم «كازيتاس» على مقربة من سرقسطة، ومن الصقلب مسافة 341 كيلومترا من مجريط تقع مدينة سرقسطة عاصمة مملكة أراغون في القديم، ومركز ولاية أراغون اليوم.
وقبل أن ندخل في مبحث أراغون وسرقسطة، نرى مناسبا أن نتكلم عن:
هوامش
الفصل التاسع والعشرون
سلسلة جبال البرانس
هذه هي الجبال الفاصلة بين فرنسة وأسبانية. ولما انتخب الأسبان حفيد لويس الرابع عشر ملك فرنسة ملكا عليهم قال له جده: يا ولدي لم يبق برانس. وذلك إشارة إلى أن هذه الجبال هي الحد الحاجز بين المملكتين.
وهي ممتدة من البحر المتوسط الاطلانطيكى، وبدايتها من جهة البحر المتوسط رأس «كريوس»
Créus
في أرض أسبانية، وهو متصل «برأس سربار»
Cerbére
من أرض فرنسة شمالي مرسى «بو»
ونهايتها عند الأطلانتيكي نهر «بيداسوا»
Bidassoua
الذي يصب ماؤه في خليج غشقونية
Gascogne
وفي وسط هذا النهر جزيرة الحجال التي اصطلحت المملكتان أن تجعلها منطقة متحايدة بينهما.
عرض هذه الجبال هو من الغرب 30 و42 إلى 20 و43، ومن الشرق من 20 و41 إلى 43، فهي مائلة من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي. وكلما تقدمت نحو البحر الرومي يزداد عرضها. وثخانة هذه السلسلة الجبلية هي 55380 كيلومترا مربعا، من أصلها 38565 كيلومترا مربعا في المنحدر الإسبانيولي، و16815 في المنحدر الفرنسي، فمنها إذن الثلثان في أرض أسبانية، والثلث في أرض فرنسة. وهذه السلسلة حفظت في الجنوب هيئتها الأصلية أكثر مما حفظت في الشمال، وذلك بسبب كون الجنوب أصفى أفقا، وأكثر شعاع شمس، بحيث إن المياه تتبخر فيه بسرعة. فأما في الشمال فالرطوبة الزائدة، والرياح الشديدة الهابة من الشمال، أحدثت في هذه الجبال بكرور الدهارير تغييرات عظيمة. وكثيرا ما تبددت النجود لاحقة بالسهول. ويزداد هذا التفكك في البرانس الشمالية، كلما قربت من الأوقيانوس. وارتفاع البرانس يتدرج من المكان الذي يقال له «رون»
Rhune
وعلوه تسعمائة مترا مقابلا للأوقيانوس إلى قمة «أنيتو»
Anto ، وعلوها 3404 أمتار، وهي أعلى قمة في الجبال المسماة بالجبال الملعونة
Maidits
وفي جميع السلسلة. وهناك قمم أقل ارتفاعا، مثل قمة «آني»
Anie
التي علوها 2504 أمتار، وقمة «أوساو»
Ossau
وعلوها 2885 مترا، وقمة «بلايطس»
Balaitous
وعلوها 3146 مترا، وذروة «فينمال»
Vignemale ، وعلوها 3298 مترا، وذروة الجبل الضائع
Mont Perdin
وعلوها 3352 مترا، وقمة «بوزالس»
وعلوها 3367 مترا.
وإلى الشرق من الجبال الملعونة، ومن قمة أنيتو، تهبط الارتفاعات إلى 2758 مترا، ولكن يبقى ارتفاع كبير لا يهبط، فإن جبل كانيفو
Canigou
المشرف على البحر المتوسط لا يقل ارتفاعه عن 2785 مترا.
أما المعابر التي في جبال البرانس، والتي يقال لها عند العرب أنفسهم «البرتات» فهي تعلو بحسب علو الجبال، وتكثر عقابها، ويمر السائر فيها بكثير من مناسب الثلج. وفيها طرق معبدة أحيانا، تمر عليها العربات إلا أنه يوجد أماكن ليست فيها طرق صالحة للعربات، وإنما هي شعاب يصعب حتى على البغال العبور منها. ومن هذه المعابر أو البرتات،، معبر مركادو
Marcadau
ارتفاعه 2556 مترا، وهو يفضي من المكان الذي يسمى كونريه
Cauterets
إلى حمامات بانتيكوزه
التي علوها 1673 مترا في جوف نهر كالدارس
Caldares
وهو من الأنهر التي تنصب في جلق، نهر سرقسطة. وقبل الوصول إلى بنتيكوز يمر السائح ببحيرات ماشيماسة
Machi Massa
ويرى شلالا عظيما يقال له ليفازه
Levaza
وكثيرا ما يذهب السياح إلى هناك لمشاهدة جمال الطبيعة.
وكل شيء يراه الإنسان هناك يراه صغيرا بالنظر لعظمة الجبال الشماء، فالبشر أشبه بالنمل، والمباني التي لو كانت في أماكن أخرى لكانت شاهقة، لا يكاد الرائي يبصرها. وفي أوسط جبال البرانس نقطة يقال لها غافارني
Gavarnie
علوها 1346 مترا، منها ينفذون من مضيق يقال له مضيق رولان
Breche de Roland
علوه 2804 أمتار، وهو مضيق وعر، يمرون منه على مثلجة لا تخلو من خطر، لأنها أبدا تقذف بالصخور، وبقطع الثلج الكبار، وقد سبق هلاك المارة من هناك.
ومن المعابر المشهورة البروت المسمى فينسك
Venasque
علوه 2448 مترا، ويذهبون إليه من لوشون، وفي أيام الصيف تكثر القوافل المارة منه بالسياح أو بالتجار، وهناك معبر يقال له البرش
La Peereche
بين سردانية
Cerdagne
وكابسير
Capcir
وكانت تمر به بينهما طرق رومانية قديمة، وعلوه 1600 متر، ثم معبر برتوس
يفيض الناس منه على سهول أمبوردانية
Ampurdan
ومن هنا يقع المرور بين باربينيان
في فرنسة، وجيرونة
Girona
في أسبانية. وهذا المعبر هو البورت الأعظم، والأقدم، وطالما مرت به جيوش العرب في غزواتها للأرض الكبيرة.
أما الحدود هناك بين فرنسة وأسبانية فلا تسل عنها، بل هي مما يصح أن يقال فيه: كيفما اتفق. فأية هيئة سياسية تقدر أن تسير أشهر في تلك الجبال الشامخة في جوار المثالج الهائلة، حتى تعين حدودا معقولة بين المملكتين؟ فلذلك تجد أنهارا إسبانيولية منابعها فرنسية، وأخرى فرنسية منابعها إسبانيولية، وترى كثيرا من الجبال والوهاد متشابكة بين فرنسة وأسبانية تشابكا فظيعا. ولجميع أقسام أسبانية حظ من البرانس، ولكن أوفرها حظا منها مملكة أراغون، فإن الجبل الضائع، وجبل مالاديتا
Maladeta ، هما أراغونيان. والفاصل بين برانس أراغون وبرانس كتلونية واد يقال له ريباغورزانة
Ribagorzana .
أما الجبال المسماة بالجبال الملعونة، فهي تابعة لبلاد أراغون، وأعالي ذراها تبلغ ثلاثة ألاف متر، فهي من شواهق جبال أوربة. ولو كانت هذه الجبال في آسية أو أمريكا لما كانت بهذه الجلالة، لأن جبال حملايا في آسية ترعى فيها الغنم إلى ارتفاع ستة آلاف متر. وفي أمريكا الجنوبية توجد بلاد مسكونة في الجبال على ارتفاع أربعة آلاف متر. وفي جزيرة العرب تجد قرى وقصبات عامرة على ارتفاع ثلاثة آلاف متر. فكوكبان من اليمن بلدة تعلو عن سطح البحر ثلاثة آلاف متر، وصنعاء اليمن تعلو 2342 مترا. وصعدة مدينة تعلو 2216 مترا، والروضة 2306 أمتار، وتلا 2861 مترا، وزمرمر 2698 مترا. وشبام 2635 مترا. وذمار 2431 مترا وبوعان 2936 مترا. وسوق الخميس 2372 مترا، ومناخة 2321 مترا. وعمران 2302 أمتار. وأبها من عسير 2275 مترا. وغامد من عسير 2110 أمتار.
والسبب في كون ارتفاعات كهذه توجد عليها المساكن، هو قربها من خط الاستواء،
1
وعدم نزول الثلوج عليها إلا النادر الأندر. فلو كانت هذه الجبال في سورية لما استطعت سكناها أصلا، لأنها تكون مغمورة بالثلج أكثر أشهر السنة. هذا وإن غلظ جبال البرانس هو أعظم من غلظ جبال الألب، فمسافاتها بعيدة، والسفر فيها متعذر جدا، لعدم وجود مراكز يمكن استمداد الغذاء ولوازم المعيشة منها. فمن أراد أن يتوقل جبال البيرانس، لزمه أن يحمل معه جميع اللوازم إلى مدة مديدة، وليس هذا بالأمر السهل. لهذا بقيت أكثر أراضي البيرانس مجهولة طول الدهر، ولم يبدأ الناس أن يعرفوا عنها ما يجب العلم به إلا من خمسين سنة. وأعلى قمم الجبال الملعونة من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي هي قمة ألب، علوها 3119 مترا، وقمة روسل
Russel
وعلوها 3198 مترا. والقمة المسماة «مالديتا» علوها 2312 مترا. وأكثر ما يتراكم الثلج ويستمر هو في نواحي قمة مالديتا. وأما القمة العليا على الجميع وهي أنيتو، فإن الثلج المحيط بها من كل الجهات، وقد وصل إليها السياح بشق الأنفس، ومن جملتهم الكونت روسل
Russel
الذي كتب عن سياحته هذه تذكرة بديعة.
أما الجبل الضائع فعلوه 3352 مترا، ومكانه متوسط بين حرارة الجنوب، وبرد الشمال، وبين أشعة الشمس المحرقة من جهة أسبانية، والضباب الكثيف المطبق من جهة فرنسة. وفي حذاء الجبل الضائع يوجد مزارع لفلاحي الأراغون، ويبدأ العمران، وهناك نهر يقال له «آره»
Ara
عليه بلدة يقال لها بروتو
Broto
وحولها قرى، وتجد قرى وقصابا، وهناك مكان غربي شاردة بارسيز
Berciz
يقال له «بارنكومسكون»
Berranco de Mascum
وفيه بلدة يقال لها القصر
Alquezar
وسواء كان القصر أو المسكون فلفظه عربي، ولا تزال في هذه البلدة آثار من زمن العرب، وقد قرأت أنه في القرن التاسع كان للعرب مسلحة في هذه البلدة، ومنها كانوا يحرسون معابر جبال البيرانس، وكانوا قد جعلوا محارس على القمم المشرفة على تلك المعابر، وهي أبراج، كل برج منها يقابل أخاه، فإذا أحسوا عدوا أوقدوا النيران من برج إلى برج، فكانوا دائما على حذر وأهبة. ومن هذه الأبراج برج مديانو
Mediano
المشرف على وادي انترمون
Eutremon
وأبراج أبيزنده
Abizanda
وأرتازونه
Artasona
واستاديلا
Estadilla
على وادي الغراده
Elgrado
وأبراج أولفينا
Olvena
وبينابار
Benebarre
والساموره
Alsamora
وهي في وادي «ريبا وغورزانه» المتقدم ذكرها، وكانت على وادي بلاريزا
قلاع للعرب لأن هؤلاء طاردوا الإسبانيول، لأوائل الفتح، إلى أن أقبعوهم في الكهوف والمغاور. وسيأتيك خبر صخرة بيلاي التي آوى إليها بيلاي، ولم يبق معه سوى ثلاثين علجا، والإسبانيول يقولون لهذه الصخرة صخرة «كوفا دونقه»
Covalouga
وكان بطل آخر يسمى غرسي شيمنيس
Gerci-Jimenez
قد لجأ بجماعة إلى أعالي بلاد أراغون ، فطاردهم عبد الرحمن الأموي، وأرسل جيشا، فاستولى على بلدة جاقة
Jaca
واكتسح وادي أراغون، ودمر قصبة أنسة
Ainsa
عند ملتقى نهري «آره» و«سنكه ».
ولكن إلى الغرب من جاقة، في بربة عاصية، اجتمع فل المشردين، على رأسهم جوان أتارس
Alares
وكان من رفاق لذريق آخر من ملوك القوط، وصار كل من انهزم ينضم إلى هؤلاء الشذاذ.
ثم زحف غرسي المذكور ومعه خمسمائة مقاتل، فاجتاز وادي جلق إلى وادي آره، وهجم على العرب بغتة بقرب «أنسة» فهزمهم، وانتعش بذلك أصحابه، وبايعوه باسم ملك سوبراربه
Sobrarbe
وجعلوا أنسة قاعدة للمملكة الجديدة. ولما كان عددهم قليلا لم يكونوا في بادئ الأمر يجرءون على الخروج من جبالهم التي كانت تقاتل معهم، ولكن بفتن العرب بعضهم مع بعض بصورة مستمرة، وكانت تلوح للأراغونيين كل يوم غرة فينتهزونها، وينحدرون إلى الأمام، ويأخذون قلعة بعد قلعة، ويدمرون حصنا بعد حصن، إلى أن بلغوا مدينة وشقة
Huesca ، وجعلوها قاعدة مملكة سوبراربه، ثم صارت بعد ذلك تسمى مملكة أراغون، وكان استرجاع الإسبانيول لوشقة سنة 1096 بعد حصار شهير قتل فيه ملك أراغون شانجه راميريس. وفي وشقة آثار قديمة كثيرة.
هوامش
الفصل الثلاثون
سرقسطة أو الثغر الأعلى وبنبلونة
قد تقدم لنا ذكر منبع وادي أبره، وقول الناس إن أصله راشح من وادي «هيجار» حتى قالوا إنه إذا جرت سيول بسبب الزوابع اضطرب لها وتعكر ماء هيجار بتعكر أيضا ماء أبره. وعلى كل حال فأبره يمده وادي «هيجار» ومنبع «رينوزة» وهو حياة مملكة أراغون، وقسم من كتلونية. وكلما تقدم إلى الشرق تنضم إليه أنهر من الشمال ومن اليمين، ولا سيما الأنهر التي تأتيه من الشمال، فهي ذات بال، وينحدر إلى أراغون من البيرانس مياه لا تحصى أنهارها.
ومن المدن المعدودة في تلك الناحية مدينة بنبلونة،
1
يقال إن الرومانيين أحدثوها، ثم استولى عليها القوط، ثم العرب سنة 738، ولكن العرب لم تطل مدة استيلائهم عليها، قيل إنهم لم يلبثوا فيها إلا بضعة عشرة سنة، وإن النباريين استرجعوها، ثم استغاثوا بشارلمان الذي جاء من فرنسة، وحاصر سرقسطة، فرده العرب عنها ، ففي أثناء رجوعه، كان النباريون والبشكونس قد رأوا من جيشه ما أثار حفائظهم، فمكنوا له في الجبال وأوقعوا به.
ولا تزال بنبلونة
2
حافظة حصونها وآثارها القديمة، وهي أهم مدينة في تلك الجبال. وموقعها من نره آرغه
Arag
وتأتي بعدها مدينة جاقة، وفيها أيضا قلاع وحصون وأبراج. ومن تلك الجبال يخرج نهرا جلق
Gallego
الذي يمر بأراضي سرقسطة، ويتصل بأبره. فأما سرقسطة فهي على الضفة اليمنى من أبره، ولها ربض على الضفة اليسرى منه. ويقال لهذا الربض الطاباس
Altavas ، وبين البلدة والربض جسر حجر.
وسرقسطة بلدة كبيرة سكانها يناهزون 120 ألف نسمة، وفيها مدرسة جامعة، ودار أسقفية، وهي مركز قيادة جيش أراغون، وضواحيها تشرب من القناة التي يقال لها القناة السلطانية التي شقها رجل يقال لها بينياتلي
، وله بسرقسطة تمثال. وكل من نهر هورفه
Huerva
وأبره وجلق يمر بأرض سرقسطة. ومن سرقسطة يسرح النظر في بسائط أراغون.
وسرقسطة مدينة جيدة الهواء، معتدلة لا يشتد الحر فيها ولا البرد. ومنها قسم جدي، وقسم لا يزال على قدمه. وكان العرب يبالغون بمحاسنها، وقد مر بنا قولهم إلى الحيات لا تعيش فيها، وإنه إذا جيء إليها بأفعى لا تلبث أن تموت حالا. وقالوا إن الفواكه فيها تبقى مدة طويلة لا تتعفن، ولكننا لم نجد لها هذه الأوصاف في كتب الإفرنج. وفيها من الكنائس الشيء الكثير، وأعظمها كنيسة سيو
Seo
وقد بنيت على أنقاض المسجد الأعظم الذي كان للمسلمين، ويقال إن باني هذا المسجد هو التابعي حنش بن عبد الله الصنعاني رضي الله عنه، وإنه توفي سنة 100 للهجرة، ودفن مع أحد أصحابه بإزاء المحراب. ثم إن هذا المسجد ضاق عن جماعة المسلمين، فوسعوه سنة 342، في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي. ولما استرجع النصارى سرقسطة هدموا المسجد، ولم يبقوا من بنائه إلا القليل، وبنوا الكنيسة العظمى سيو على مقتضى الفن القوطي، وأتقنوا بناءها إلى النهاية. ومن الغريب أن فيها رواقا من النحاس الأصفر، هو أبدع شيء فيها، قد رأيته عندما زرت سرقسطة، وشاهدت هذه الكنيسة. والبناء الذي بنى هذا الرواق هو مهندس عربي اسمه الرامي
Alrami ، صنعه سنة 1498 على ما في دليل بديكر.
وفي هذه الكنيسة قبر فرنندو حفيد الملك فرديناند الكاثوليكي. والكنيسة وإن كانت على طرز البناء القوطي، ففيها كثير من الزليج والصنعة العربية، وذلك أن سرقسطة لا تزال حافظة مسحة عربية قوية، بقي كثير من صناع العرب ساكنين في المدينة لأجل أسباب معيشتهم، وكانت لهم علاقات وطيدة مع المسيحيين من أهل سرقسطة. وكذلك بقي فيها اليهود الذين كانت ثقافتهم عربية، فلم يبرحوا المدينة. ثم استولى فرديناند وإيزابلا على غرناطة، وضيقوا على مسلمي الجنوب ذلك التضييق الفاحش، لم يجدوا لزوما لمثل هذا التضييق في الجهات الشمالية، حيث المسلمون مبعثرون في مدن متعددة، ولم تكن لهم أدنى قوة سياسية هناك، فمن أجل هذا بقي مسلمون كثيرون، ويهود كثيرون، في سرقسطة وبرشلونة. وكان منهم صناع كثيرون متمسكون بتقاليدهم الشرقية. وكانت لهم آثار كثيرة لا تزال محفوظة إلى الآن. ومن أهم هذه الآثار هو حائط القرميد الذي في كنيسة السيو، وكذلك برج الساعة الذي بني في زمن الملك فرديناند، وثبت نحو من أربعمائة سنة، ثم تداعى إلى الخراب، فهدموه خوفا من خطر سقوطه
3
وهناك برج آخر لكنيسة سان ميشال المعروفة بسان ميشال النباريين، فهو أيضا مصنوع بالقرميد والزليج. وقبة الجرس في كنيسة المجدلية أصلا منارة جامع، وهي مزينة بالزليج والفسيفساء.
ومن مباني العرب المشهورة في سرقسطة، المحفوظ منها جانب إلى اليوم، قصر الجعفرية، شرقي البلدة، على ضفة أبره. وهو الآن ثكنة عسكرية. قرأت في دليل بديكر أن بانيه هو أبو جعفر أحمد، بناه في القرن الحادي عشر للمسيح، ولم أطلع على ترجمة لأبي جعفر أحمد هذا، ويغلب على ظني أن باني هذا القصر هو المقتدر بالله بن هود، ملك سرقسطة، وقد كان يكنى بأبي جعفر فقيل لقصره الجعفرية، نسبة إليه. وكذلك كان يقال للمستعين الثاني ابن هود «أبو جعفر».
وقد زرت هذا القصر في شهر يونيو سنة 1930، فلم أجد فيه من آثار العرب المحفوظة سوى جامع صغير ومقصورة. وفي هذا القصر الغرفة التي ولدت فيها سنة 1270 القديسة اليصابات ملكة البرتغال. وبالاختصار فمن جهة الصنعة تتلاقى في سرقسطة أوربة وآسية. وفي قصر الجعفرية مثال بارز لهذا الأمر. وقد كان ملوك أراغون بعد أن استولوا على سرقسطة، جعلوا إقامتهم في هذا القصر، ثم صار مركزا لديوان التفتيش. وسنة 1809 في أثناء الحرب بين الفرنسيس والإسبانيول، تهدم الجانب الأعظم من الجعفرية، ثم رمموه، وجعلوه ثكنة للعساكر.
ومن المباني المشهورة في سرقسطة كنيسة سيدة بيلار
وهي الكنيسة الثانية بعد كنيسة السيو في تلك البلدة، وقبابها مزخرفة بالزليج العربي، وفيها العمود الذي يزعمون أنه تجلت عليه السيدة العذراء للحواري يعقوب، عندما كان ذاهبا إلى شنت ياقب، وفي هذه الكنيسة من الصنعة والزخرف، وفي خزانتها من الكنوز ما يعجز القلم عن وصفه. وهناك كنيسة ثالثة شهيرة يقال لها سان بابلو، ولها برج مبني على الطراز العربي، وفيه كثير من الزليج الأخضر والأبيض.
وفي سرقسطة حارات جديدة بشوارع واسعة، على الطراز الحديث، ولكن لا يزال فيها أيضا حارات قديمة، ذات شوارع ضيقة، وأما القناة الإمبراطورية المشتقة من أبره فإنما سميت بذلك نسبة للإمبراطور شارلكان، وكان الابتداء بشقها سنة 1528، وهي تتبع الضفة اليمنى من أبره، وطولها 88 كيلومترا.
وبساتين سرقسطة غاية في البداعة، فيها التين والزيتون واللوز والكرم وأصناف الفواكه، وأما نهر جلق فأصل اسمه عند الأسبان غالبقو
Gallego
ولكن العرب قالوا له جلق لأنه كاسم دمشق التي يقال لها جلق. وجاء في نفح الطيب أن موسى بن نصير لما وصل إلى سرقسطة وشرب من مائها، استعذبه جدا، وقال إنه لم يشرب بالأندلس أعذب منه، وسأل عن اسم النهر الذي منه هذا الماء، فذكروا له اسمه، فقال: إذن هذا نهر جلق، وهذه غوطة دمشق، لأن البساتين التي تحدق بسرقسطة تشبه غوطة الشام.
وجاء في معجم البلدان لياقوت الحموي عن سرقسطة ما يلي:
سرقسطة، بفتح أوله وثانيه، ثم قاف مضمومة، وسين مهملة ساكنة، وطاء مهملة: بلدة مشهورة بالأندلس، تتصل أعمالها بأعمال تطيلة، ذات فواكه عذبة لها فضل على سائر فواكه الأندلس، مبنية على نهر كبير ، وهو نهر منبعث من جبال القلاع، وقد انفردت بصنعة السمور، ولطف تدبيره، يقوم في طرزها بكمالها، منفردا بالنسج في منوالها، وهي الثياب الرقيقة المعروفة بالسرقسطية. هذه خصوصية لأهل هذا الصقع. هذا السمور المذكور هنا لا أتحقق ما هو، ولا أي شيء يعني به: إن كان نباتا عندهم، أو وبر الدابة المعروفة؟ فإن كانت الدابة المعروفة فيقال لها الجندبادستر أيضا، وهي دابة تكون في البحر، وتخرج إلى البر وعندها قوة ميز. وقال الأطباء: الجندبادستر حيوان يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلا إلى خصاه، فيخرج ذلك الحيوان من البحر، ويسرح في البر، فيؤخذ ويقطع منه خصاه، ويطلق، فربما عرض له الصيادون مرة أخرى، فإذا علم أنهم ماسكوه استلقى على ظهره، وفرج بين فخذيه، ليريهم موضع خصيته خاليا، فيتركونه حينئذ.
وفي سرقسطة معدن الملح الذراني، وهو أبيض صافي اللون، أملس خالص، ولا يكون في غيرها من بلاد الأندلس.
قال: ولها مدن ومعاقل، وهي الآن بيد الإفرنج، صارت بأيديهم منذ سنة 512 انتهى.
ثم ذكر من ينسب إلى سرقسطة من العلماء، وسنأتي على هذا البحث. وقد تقدم فيما نقلناه عن نفح الطيب ما ذكره العرب بين مزايا هذه المدينة، وقالوا إنها هي أم تلك الكورة التي يقال لها الثغر الأعلى، وكانت تسمى بالبيضاء. ونقلوا عن الحجاري في كتابه «المسهب» أن السمور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة، يوجد في البحر المحيط بالأندلس، من جهة جزيرة برطانية، ويجلب إلى سرقسطة، ويصنع بها. جاء في نفح الطيب: ولما ذكر ابن غالب وبر السمور الذي يصنع بقرطبة قال: هذا السمور المذكور هنا لم أتحقق ما هو، ولا ما عني به إن كان هو نباتا عندهم، أو وبر الدابة المعروفة، فإن كانت الدابة المعروفة، فهي دابة تكون في البحر، وتخرج إلى البر، وعندها قوة ميز. وقال حامد بن سمحون الطبيب، صاحب كتاب «الأدوية المفردة»: هو حيوان يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلا إلى خصاه، فيخرج الحيوان من البحر في البر، فيؤخذ، وتقطع خصاه ويطلق، فربما عرض للقناصين مرة أخرى، فإذا أحس بهم، وخشي أن لا يفوتهم، استلقى على ظهره، وفرج بين فخذيه، ليرى موضع خصيته خاليا، فإذا رآه القناصون كذلك تركوه. قال ابن غالب: ويسمى هذا الحيوان أيضا الجند باستر، والدواء الذي يصنع من خصيته هو من الأدوية الرفيعة، ومنافعه كثيرة. إلخ.
قلنا: أنت ترى أن هذه العبارات هي عبارات ابن غالب في وصف هذا الحيوان، وهو الذي قال: وهذا السمور المذكور هنا لا أتحقق ما هو، ولا أي شيء يعنى به. والحال أن ياقوت الحموي يذكر هذه العبارة بدون أن يرويها عن ابن غالب، بل يسوقها كأنها منه، وإنما تصرف في بعض جملها، وزاد ونقص. وبدلا من قول ابن سعيد: قال حامد بن سمحون الطبيب، جعل: قال الأطباء. فأخل ياقوت هنا بأمانة النقل.
وأما أن سرقسطة لا تدخلها عقرب ولا حية، وإذا جيء إليها بشيء من ذلك مات لحينه، وأن القمح لا يتعفن ولو بقي مائة سنة، وأن العنب يؤكل فيها ولو تعلق ستة أعوام، وأنه لا يسوس فيها الخشب، ولا يدخل العث على أثوابها، صوفا كان أو حريرا أو كتانا، إلى غير ذلك مما جاء في كتب العرب، فلم أجد شيئا من هذه الأوصاف في كتاب الأوربيين عن سرقسطة. وسألت عن ذلك بعض أدباء الإسبانيول فلم يجيبوني بأجوبة شافية.
وجاء في الأنسيكلوبيدية الإسلامية ما ملخصه: سرقسطة مدينة من أسبانية هي مركز مقاطعة سرقسطة اليوم، وقاعدة مملكة أراغون في القديم، واقعة على يمين نهر أبره، ارتفاعها عن البحر 184 مترا، وهي في وسط بقعة خضراء بديعة، واسمها سرقسطة هو الاسم الذي أعطاه إياها أغسطس الروماني، مشتق من سيزارية أوغسطة
Caesarea Ongusla
فالعرب قالوا لها سرقسطة، والنسبة إليها عندهم سرقسطي، ومنذ فتحها العرب إلى أن استرجعها المسيحيون كانت تعد من قواعد المملكة الإسلامية الكبرى، وبسببب موقعها الجغرافي كانت مركز الثغر الأعلى. وفي أيام الإدريسي، أي القرن الثاني عشر، كانت معمورة جدا، وكان يقال لها المدينة البيضاء، نظرا لبياض أسوارها، وكانت فواكهها معدودة من أحسن فواكه الأندلس، وكان فرو السمور الذي يصنع بها مشهورا في كل العالم الإسلامي.
وقد استولى العرب على سرقسطة سنة 94 للهجرة، وفق 712، بعد أخذهم طليطلة بقليل. زحف إليها موسى بن نصير ففتحها، وفتح القصاب، والحصون التي حولها. وروى ايزيدور الباجي
4
أن العرب عاثوا فيها، وعاملوا أهلها بأقصى الشدة. وفي أيام يوسف بن عبد الرحمن الفهري أمير الأندلس كانت من القواعد الكبار، وتولى عليها الصميل بن حاتم، وكان ذلك سنة 132. ولما جاء شارلمان يحاول فتحها سنة 778 مسيحية، كان فيها واليا الحسين بن يحيى الخزرجي، فحاصرها شارلمان، فامتنعت عليه، وإذ ذاك جاء الخبر إلى شارلمان من بلاد الرين بخطب أوجب انصرافه إلى بلاده، فقفل بعساكره، ولما صار إلى مضيق رونسفو
Rancevaux
5
كمن له هناك البشكنس وأوقعوا بجيشه، وكانت وقيعة شنيعة تخلد ذكرها بأنشودة رولان.
وفي سنة 164 زحف إليها عبد الرحمن الداخل ففتحها، ولكنها عادت فخرجت من أيدي الأمويين، فسرح إليها هشام سنة 175 جيشا عقد لواءه لعبيد الله بن عثمان، فاستولى عليها، ثم عادت فانتقضت سنة 181، وكان خلائف قرطبة يسرحون إليها الزحف بعد الزحف، فتارة ينجحون وتارة يفشلون، وفي أواخر القرن الثامن عظم أمر عائلة يقال لها بنو قصي، فاستولت على أراغون، وهي عائلة إسبانيولية دانت بالإسلام، وأحد رؤساء هذه العائلة موسى بن فورتونيو
Fortinio
6
صهر إينيقوار يستة
Inigo Arista ، أول ملك على بنبلونة، انحاز إلى الأمير هشام الأموي، وساعده على استرجاع سرقسطة. ثم إن موسى الثاني من أفراد هذه العائلة كان واليا على تطيلة وقائدا لجيوش عبد الرحمن الثاني التي كانت تغير على حدود الإفرنجة، وقد كان لموسى هذا مواقف جهاد في رد عادية النورمانديين الذين كانوا نزلوا في البرتغال.
وسنة 852 لما تولى الأمير محمد الأموي كان موسى بن قصي عاملا له على سرقسطة وتطيلة ووشقة، وكان أشبه بأمير مستقل، وطالما تبادل الهدايا مع ملوك النصارى، مثل شارل الأصلع، ملك فرنسة، إلا أنه في سنة 860 تغلب أوردونة الأول ملك ليون على موسى، ولم يلبث أن قتل بعد ذلك بسنتين، وبعد موته انتقض بنو قصي على خلائف قرطبة. فعول الأمير محمد الأموي على التجيبيين لإدخال بني قصي في الطاعة، وولى عبد الرحمن التجيبي على الثغر الأعلى.
والتجيبيون عائلة عربية استقرت في سرقسطة من أول الفتح (وكان أهالي سرقسطة ونواحيها عربا صراحا كما هو معلوم في التاريخ). وفي سنة 888 بلغ الأمير عبد الله الأموي خبر مكيدة تدبر عليه في سرقسطة، فولى محمد بن عبد الرحمن التجيبي الملقب بالأنقر، وأمره بالفتك بعامل سرقسطة، فأنفذ الأمر، ولكنه استبد بالإمارة، وقتل محمد بن لب زعيم بني قصي، وتوارث الإمارة عقبه إلى زمن عبد الرحمن الناصر، الذي أحسن إلى التجيبيين، ولكن أحدهم محمد بن هاشم خلع الطاعة سنة 934، وانضم إلى روميروه الثاني ملك ليون، وإلى ملك نبارة، وأثار جميع أهالي الثغر الأعلى على الخليفة، فزحف الخليفة بنفسه، وأخذ قلعة أيوب عنوة، وحاصر سرقسطة وضيق عليها، إلى أن لاذ محمد بن هاشم بطلب العفو، فعفا الناصر عنه، وأقره على إمارته، وخلفه ابنه يحيى التجيبي، الذي صار من قواد الناصر، وابنه الحكم المستنصر. وتولى سرقسطة سنة 975.
وفي أيام حجابة المنصور بن أبي عامر أراد عامل سرقسطة عبد الرحمن بن مطرف بن محمد بن هاشم التجيبي أن يشق عصا الطاعة. فتغلب عليه المنصور وقتله سنة 989. ولما سقطت الخلافة في قرطبة كان الوالي على سرقسطة أحد أحفاد يحيى المذكور، وخلفه ولده المنذر، الذي اتفق مع الصقالبة على البربر، وأعلن نفسه ملكا على سرقسطة، وتعاهد مع ملوك قشتالة وبرشلونة، وفي أيامه استتبت الراحة في سرقسطة وازداد عمران البلدة، وبلغت أوج مجدها.
وكان للمنذر التجيبي هذا أبهة ملك، ونعمة عيش، تغنت بهما الشعراء. ومن جملتهم ابن دراج القسطلي. واستمر حكم المنذر إلى سنة 1023 مسيحية، فخلفه ابنه المظفر، ولم تطل مدته، فخلفه ابنه المنذر الثاني، معز الدولة، فاستمرت إمارته عشر سنوات. ثم خرج عن طاعة الخليفة هشام الثاني، فقتله، فقتله ابن عمه عبد الله بن الحكم، وكاد يستولى على الإمارة، فثار به الأهالي، واشتعلت الفتنة بينهم، حتى جاء عامل لاردة، أبو أيوب سلمان بن محمد بن هود، فدخل البلدة، ومهد الأمور، واستأثر بالإمارة لنفسه ، ثم اتخذ لقب المستعين، وهو مبدأ دولة بني هود، التي كان مركزها سرقسطة، وكان يتبعها لاردة وطليطلة، وقلعة أيوب، وكانت وفاة المستعين هذا سنة 438، وفق 1046، وخلفه أحمد المقتدر سيف الدولة إلى سنة 474، ثم يوسف المؤتمن إلى سنة 478، ثم أحمد المستعين الثاني. وقتل في معركة بينه وبين النصارى اسمها معركة فلتيرة
Valtierra ، وخلفه ابنه عبد الملك عماد الدولة، وفي أيامه انتزع النصارى سرقسطة من أيدي المسلمين في 4 رمضان سنة 512.
شكل 45-1: سرقسطة.
شكل 45-2: ملعب الثيران في سرقسطة.
قال لاوي بروفنسال: إنه لا يوجد عندنا معلومات كافية عن أيام دولة بني هود، وإن أرقام التواريخ المتعلقة بهم يناقض بعضها بعضا. وقد ثبت أنه قبل استيلاء النصارى على سرقسطة بتسع سنوات كان جيش المرابطين قد احتلها، وأدخلها تحت حكم علي بن يوسف بن تاشفين، وذلك في أول ذي القعدة سنة 503.
ولم يبق من آثار المسلمين في سرقسطة شيء كثير، لأنها بمرور الأعصر تهدمت مرارا، وبنيت مرارا، بكثرة ما وقع عليها من المحاصرات الشديدة، أما كنيسة السيو المبنية مكان الجامع الأعظم ففي الشمال الشرقي منها حائط مزين بالزليج، يظهر أنه من أيام العرب.
7
وروى بعض المؤرخين والجغرافيين أن باني المسجد الأعظم الذي في محله بنيت كنيسة السيو هو التابعي حنش بن عبد الله الصنعاني
8
المتوفى سنة مائة للهجرة. والآن لا يوجد بناء عربي جدير بالذكر في سرقسطة سوى الجعفرية نسبة إلى جعفر أو ابن جعفر، ولا نعلم من هو (قلت: يظهر لي أنها من بناء المقتدر أو المستعين الثاني ابن المؤتمن بن هود وكان يقال لكل منهما أبو جعفر. والله أعلم). فهذا البناء حصلت فيه تغييرات كثيرة، وتهدم جانب منه سنة 1809، ولم يبق منه سوى مسجد صغير: 22 مترا مربعا، فوقه قبة بديعة علوها 14 مترا قائمة على أعمدة من المرمر، لها قواعد بديعة، وله محراب بحفر وتنزيل. ويغلب على الظن أن الجعفرية هي من جملة أبنية بني هود التي لم تحفظ منها إلا اسم قصر السرور.
شكل 45-3: نهر أبرة في سرقسطة.
شكل 45-4: كنيسة السيو في سرقسطة.
وممن ينتسبون إلى سرقسطة من العلماء المحدث الكبير أبو علي الحسين بن محمد بن قيرة بن حبون الصدفي، المعروف بابن سكرة، ولد سنة 452، وقتل شهيدا في واقعة كتندة سنة 514، ولأجل تراجم تلاميذه جمع ابن الأبار المعجم الذي نشره قديرة في المجلد الرابع من المكتبة العربية الأسبانية. ا.ه.
قلنا: وكان لبني هود في سرقسطة قصور متعددة لم يبق لها أثر، منها دار السرور ومنها قصر الذهب، اللذان يقول فيها ابن هود:
قصر السرور ومجلس الذهب
بكما بلغت نهاية الطرب
وجاء في صبح الأعشى ذكر سرقسطة قال: قال في تقويم البلدان: سرقسطة بفتح السين والراء المهملتين، وضم القاف، وسكون السين الثانية، وفتح الطاء المهملة، وهاء في الآخر: مدينة من شرقي الأندلس، موقعها في أواخر الإقليم الخامس من الأقاليم السبعة، قال ابن سعيد: حيث الطول إحدى وعشرون درجة وثلاثون دقيقة، والعرض اثنتان وأربعون درجة وثلاثون دقيقة، قال في تقويم البلدان: وهي قاعدة الثغر الأعلى، وهي مدينة أزلية بيضاء في أرض طيبة، قد أحدقت بها من بساتينها زمردة خضراء، والتف عليها أربعة أنهار، فأضحت بها مرصعة مجزعة، ولها متنزهات، منها قصر السرور، ومجلس الذهب.
ثم قال في محل آخر: وأما سرقسطة والثغر فاستولى عليهما بقية بني هود، إذ كان منذر بن يحيى بن مطرق بن عبد الرحمن بن محمد بن هاشم التجيبي، صاحب الثغر الأعلى بالأندلس، وكانت دار إمارته سرقسطة. ولما وقعت فتنة البربر آخر أيام بني أمية، استقل منذر هذا بسرقسطة والثغر، وتلقب بالمنصور، ومات سنة أربع عشرة وأربعمائة، وولي مكانه ابنه يحيى. وتلقب بالمظفر، وكان أبو أيوب سليمان مستقلا بمدينة تطيلة ومدينة لاردة، من أول الفتنة، وجدهم هود هو الداخل إلى الأندلس، فتغلب سليمان المذكور على المظفر يحيى بن المنذر، وقتله سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وملك سرقسطة والثغر من أيديهم، وتحول إليها، وتلقب بالمستعين واستفحل ملكه. ثم ملك بلنسية ودانية، وولى على لاردة ابنه أحمد المقتدر، ومات سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، فولي ابنه أحمد الملقب بالمقتدر سرقسطة وسائر الثغر الأعلى، وولي ابنه يوسف الملقب بالمظفر لاردة، ومات أحمد المقتدر سنة أربع وسبعين لتسع وثلاثين سنة من ملكه. فولي بعده ابنه يوسف المؤتمن، وكان له اليد الطولى في العلوم الرياضية، وألف فيها التآليف الفائقة، مثل «المناظر» و«الاستكمال» وغيرهما، ومات سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. وولي بعده ابنه أحمد الملقب بالمستعين، ولم يزل أميرا بسرقسطة إلى أن مات شهيدا سنة ثلاث وخمسمائة، في زحف ملك الفرنج إليها. وولي بعد ابنه عبد الملك، وتلقب عماد الدولة، وزحف إليه الطاغية أذفنش ملك الفرنج، فملك منه سرقسطة، وأخرجه منها واستولى عليها سنة ثنتي عشرة وخمسمائة، ومات سنة ثلاث عشرة. وولي ابنه أحمد، وتلقب سيف الدولة والمستنصر، وبالغ في النكاية في الطاغية ملك الفرنج، ومات سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وكان من ممالك بني هود هؤلاء طرطوشة، وقد كان ملكها مقاتل أحد الموالي العامريين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ومات سنة خمس وأربعين. وملكها بعده يعلى العامري، ولم تطل مدته، وملكها بعده نبيل أحدهم، إلى أن نزل عنها لعماد الدولة أحمد بن المستعين بن هود سنة ثنتين وخمسين وأربعمائة، فلم تزل في يده ويد بنيه بعده إلى أن غلب عليها العدو المخذول فيما غلب عليه من شرق الأندلس. انتهى
شكل 45-5: صورة بنبلونة.
شكل 45-6: صورة بنبلونة (منظر عمومي).
وجاء في كتاب «أخبار مجموعة» أقدم كتاب في تاريخ الأندلس - كتب فيما يظهر لعهد المستنصر بن الناصر الأموي - كلام عن مدينة سرقسطة وما جرى بها من الحوادث، لأول الفتح الأموي، قال: ثار سليمان الأعرابي بسرقسطة، وثار معه حسين بن يحيى الأنصاري، من ولد سعد بن عبادة، فبعث إليه الأمير (عبد الرحمن الداخل) ثعلبة بن عبد، في جيش، فنازل أهل المدينة وقاتلهم أياما. ثم إن الأعرابي طلب الفرصة من العسكر، فلما وضع الناس عن أنفسهم الحرب، وقالوا قد أمسك عن الحرب، وأغلق أبواب المدينة، لم يشعر الناس حتى هجم على ثعلبة فأخذه في المظلة، فصار عنده أسيرا، وانهزم الجيش، فبعث به الأعرابي إلى قارلة
9
فلما صار عنده، طمع قارلة في مدينة سرقسطة من أجل ذلك، فخرج حتى حل بها، فقاتله أهلها ودافعوه أشد الدفع، فرجع إلى بلده. وخرج الأمير غازيا إلى سرقسطة، فقبل أن يبلغ الأمير سرقسطة عدا حسين بن يحيى الأنصاري على الأعرابي يوم جمعة، فقتله في المسجد الجامع، وصار الأمر لحسين وحده فنزل به الأمير، وكان عيسون بن سليمان الأعرابي قد هرب إلى أربونة. فلما بلغه نزول الأمير بسرقسطة أقبل فنزل خلف النهر، فنظر يوما إلى قاتل أبيه قد خرج عن المدينة، وصار على جرف الوادي، فأقحم عيسون فرسا له كان يسميه الناهد، وقتله، ثم رجع إلى أصحابه، فسمى ذلك الموضع إلى اليوم مخاضة عيسون، ثم استدعاه الأمير حتى صار في عسكره، وحارب سرقسطة معه، فلما ضاق أهل المدينة من الحصار طلب حسين الصلح، وأعطى ابنه رهينة، فقبل ذلك الأمير منه، ورجع عنه. وكان اسم ابنه ذلك سعيدا، وكان نجدا، فلم يقم في عسكر الأمير إلا يوما، حتى أعمل الحيلة فهرب إلى أطيان له بأرض بليارش، ومضى الأمير فدوخ بنبلونة، وقلنيرة، وكر على البشكنس، ثم على بلاد الشرطانيس، فحل بابن بلاسكوط، فأخذ ولده رهينة، وصالحه على الجزية. (إلى أن يقول): إن حسين بن يحيى الأنصاري متولي سرقسطة، عاد إلى نفاقه، قال: فخرج إليه الأمير غازيا، ونصب على سرقسطة المجانيق، فيقال إنه حفها بستة وثلاثين منجنيقا، وضيق على أهلها أشد الضيق. فترامى القوم إليه، وأسلموا إليه حسينا، فلم يقتل من أهل المدينة غيره، وغير رجل من أهلها يقال له رزق من البرانس. انتهى
شكل 45-7: ملاقاة سليمان الأعرابي مع شارلمان.
شكل 45-8: صورة نهر أرقا في بنبلونة.
وقد اشتهرت سرقسطة من قديم الدهر بشدة المقاومة لمن يحاصرها، فقبل الفتح العربي كان قد غزاها سنة 533 شيلد برت
Childeberte ، ملك الإفرنج، وكذلك كلوتار الثاني
Clotaire ، وقاومتهما مقاومة خارقة للعادة. ولما جاءها شارلمان بنفسه عجز عنها، وكثيرا ما زحف إليها بنو أمية بجيوشهم فلم ينالوا منها وطرا. ولما استرجعها أذفنش الأول ملك أراغون من أيدي العرب، واستمرت الحرب عليها خمس سنوات، وما دخل الإسبانيول سرقسطة إلا بعد حصار شديد اتصل تسعة أشهر.
ومن أشد مدافعاتها المشهورة الدفاع الذي دافعت به الفرنسيس سنة 1808 و1809، وذلك في حرب الاستقلال، فقد زحف إليها الفرنسيس بجيش جرار ، يقوده أربعة قواد، كل منهم برتبة مارشال، وكان الذين تولوا كبر المقاومة: شابا من أهلها اسمه بلافوكس
وقسيسا اسمه سنت ياغوساس وجلا كان يقال له العم واسمه جورج إيبور
Ibort ، وانضم إليهم اثنان من الفلاحين، أحدهما ماريانو سيريزو
Cerezo ، والآخر مارين، فهؤلاء أثاروا حمية الأهالي، ووقفت البلدة كلها وقفة الرجل الواحد في وجه الفرنسيس، وبعد حصار شهرين اضطر المارشال لففر
Lefepvre
أن يرفع الحصار. ثم عاد إليها الفرنسيس بجيش عدده ثلاثون ألفا، وكان السرقسطيون قد زادوا تأهبهم للدفاع، ولكن لم يكن سور بلدتهم يعلو أكثر من ثلاثة إلى أربعة أمتار، فترك السرقسطيون الدفاع عن دير يسوع، على ضفة أبره من اليمين، وتركوا أيضا الدفاع عن دير «طوريروه» وجمعوا أنفسهم إلى داخل المدينة، وبدأ القتال بشدة لم يسبق لها مثيل، فوضع الفرنسيس خمسين مدفعا تقذف بالنار الدائمة، إلى أن خرقوا السور من ثلاث جهات. وفي 22 يناير سنة 1809 دخل المارشال «لان» إلى البلدة من جهة دير سنتا الغراسيه. ولكن الأهالي استمروا يقاومون عن بيت بيت، ويقاتلون في شارع شارع، فقتل وجرع من الفريقين أربعة وخمسون ألف نسمة في مدة ستين يوما. ولم تعول البلدة على الاستسلام إلا بعد أن فتكت بأهلها المجاعة والأمراض. وقد لقبت سرقسطة من أجل ذلك الدفاع بالخالدة
Inmorial
وكذلك كان لها موقف شديد في الحرب الكارولسية ضد الكارلوسيين.
شكل 45-9: صورة بنبلونة.
أما تاريخها القديم قبل العرب فالمعلوم منه أن السويفيين
Sueves
استولوا عليها سنة 452، وأن القوط دخلوها سنة 476، وأنها كانت في زمن الأبيريين يقال لها «سالدوبه»
Salduba ، وأن أغسطس قيصر رومة اعتنى بها، ومن اسمه اشتق اسمها.
10
هوامش
الفصل الحادي والثلاثون
من انتسب إلى سرقسطة من أهل العلم
قال ياقوت الحموي: وينسب إلى سرقسطة أبو الحسن علي بن إبراهيم بن يوسف السرقسطي، قال السلفي: كان من أهل المعرفة والخط. وكان بيني وبينه مكاتبة. وأنبل من نسب إلى سرقسطة ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف بن سليمان بن يحيى العوفي، من ولد عوف بن غطفان، سمع بالأندلس، ثم رحل إلى الشرق هو وابنه قاسم، فسمعا بمكة ومصر، وتوفي ثابت بسرقسطة عن 95 سنة، وكان مولده سنة 217. وابنه قاسم بن ثابت كان أعلم من أبيه، وأنبل وأروع، ويكنى أبا محمد، رحل مع أبيه فسمع معه، وعني بجمع الحديث واللغة، فأدخل إلى الأندلس علما كثيرا. ويقال إنه أول من أدخل كتاب العين للخليل إلى الأندلس. وألف قاسم بن ثابت كتابا في شرح الحديث سماه كتاب الدلائل، بلغ فيه الغاية من الإتقان، ومات قبل كماله، فأكمله أبوه ثابت بعده. قال ابن الفرضي: سمعت العباس بن عمرو الوراق يقول: سمعت أبا علي القالي يقول: كتبت كتاب الدلائل، وما أعلم وضع في الأندلس مثله. ولو قال إنه ما وضع في الشرق مثله ما أبعد. وكان قاسم عالما بالحديث والفقه، متقدما في معرفة الغريب والنحو والشعر، وكان مع ذلك ورعا ناسكا أريد على أن يلي القضاء بسرقسطة فامتنع من ذلك وأراد أبوه إكراهه عليه، فسأله أن يتركه يتروى في أمره ثلاثة أيام، ويستخير الله فيه، فمات في هذه الثلاثة الأيام. يقولون إنه دعا لنفسه بالموت، وكان يقال إنه مجاب الدعوة، وهذا عند أهله مستفيض. قال الفرضي: قرأت بخط الحكم المستنصر بالله: توفي قاسم بن ثابت سنة 302 بسرقسطة، وابنه ثابت بن قاسم بن ثابت من أهل سرقسطة، سمع أباه وجده، وكان مليح الخط، حدث بكتاب الدلائل، وكان مولعا بالشراب وتوفي سنة 352. قال: وجدته بخط المستنصر بالله أمير المؤمنين، انتهى. قلنا: لا يخفى أن الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر كان معدودا من العلماء والحكماء، وقد ترك آثارا من قلمه.
قلنا: وممن ينسب إلى سرقسطة من أهل العلم أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن فرتش، ابن عم القاضي محمد بن إسماعيل، روى عن أبي عمر الطلمنكي والقاضي أبي الحزم بن أبي درهم، وابن محارب، وغيرهم. واستقضي ببلده، وكان فاضلا دينا عالما، أخذ الناس عنه ولد سنة 390، وتوفي سنة 480. ترجمه ابن بشكوال. وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن سعيد العبدري، يعرف بابن سماعة، من أهل سرقسطة خطيبها، حدث عن أبي عمر الطلمنكي وغيره، وحدث عنه أبو علي بن سكرة، وقال: هو مشهور بالصلاح التام، وأجاز له. وقال: توفي في سنة 472، ودفن هو وأبو الحسين بن القاضي أبي وليد الباجي، وصلى عليهما في وقت واحد، وموضع واحد. وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن هاشم الهاشمي، سمع من القاضي محمد بن فرتش، وأبي القاسم مفرج بن محمد الصدفي، وسمع بمصر من أبي العباس بن نفيس مسند الجوهري، وسئل عنه أبو علي بن سكرة فقال: رجل صالح، كان يحفظ الموطأ والبخاري، ورأيته يقرأ من حفظه كتاب البخاري على الناس في ما بين العشائين بالسند والمتابعة، لا يخل بشيء من ذلك. وأبو عبد الله محمد بن حارث بن أحمد بن منيوه النحوي، كان من جلة أهل الأدب، روى عن أبي عمر أحمد بن صارم الباجي، وحدث عنه أبو الحسن علي بن أحمد المقرئ، لقيه بغرناطة سنة 473 وأخذ عنه. وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله المقرئ، روى عن أبي عبد الله بن شريح، وأبي عبد الله بن مهلب. قال ابن بشكوال: أخذ عنه القراءات شيخنا القاضي الإمام أبو بكر بن العربي، وذكر أنه كان شيخا صالحا، وكان يقرئ الناس بحاضرة أشبيلية، وتوفي بعد سنة 500.
وأبو زيد عبد الرحمن بن موسى بن محمد بن عقبى الكلبي، كان فقيها عالما زاهدا ورعا، لم يمسح على الخفين قط، وكان مع ذلك يفتي بالمسح. وأراد المقتدر بن هود أن يوليه الأحكام فأبى عليه، وحلف ألا يقبلها، فأعفاه منها، وتوفي سنة 468 في المحرم. وأبو المطرف عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن فرنش، كان فقيها أديبا دينا عاقلا من أخط الناس، وكان فصيح اللسان، عارفا بعقد الشروط، وكتب لابن عمه القاضي محمد بن إسماعيل بن فرتش، وتوفي سنة 468. ترجمه ابن بشكوال، وترجم الذي قبله. وكذلك في صلة ابن بشكوال ترجمة أبي زيد عبد الرحمن بن شاطر، من أدباء سرقسطة. قال: كان ذا فضل وأدب وافر وشعر، ثم انزوى ولزم الانقباض. ومن شعره:
ولائمة لي إذ رأتني مشمرا
أهرول في سبل الصبا خالع العذر
تقول: تنبه ويك من رقدة الصبا
فقد دب صبح الشيب في غسق الشعر
فقلت لها: كفي عن العتب واعلمي
بأن ألذ النوم إغفاءة الفجر
ومن تراجم ابن بشكوال سيرة أبي زيد عبد الرحمن بن سنتيل الأنصاري، من أهل سرقسطة، كان صهر القاضي أبي علي بن سكرة، وقد أخذ عنه أبو علي تبركا به، روى عن القاضي محمد بن فرتش، وكان صالحا ورعا منقبضا، مقبلا على ما يعنيه ويقربه من ربه عز وجل، وكان ممن يتبرك بلقائه، وكان أيضا أديبا شاعرا.ومن شعره:
سأقطع عن نفسي علائق جمة
وأشغل بالتلقين نفسي وباليا
وأجعله أنسي وشغلي وهمتي
وموضع سري والحبيب المناجيا
وكتب إلى القاضي أبي علي بن سكرة:
كتبت لأيام تجد وتلعب
ويصدقني دهري ونفسي تكذب
وفي كل يوم يفقد المرء بعضه
ولا بد أن الكل منه سيذهب
وأبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن أبي الخير بن علي الأنصاري، من أهل سرقسطة، سكن قرطبة، روى بسرقسطة عن القاضي أبي الوليد الباجي، واختص به، وعن القاضي أبي محمد بن فرتش، وعن أبي العباس العذري، ومحمد بن سعدون القروي، وأبي داود المقري، وكان عارفا بالأصول والفروع، معنيا بالقراءات وتجويدها، حافظا للقرآن العظيم، حسن الصوت به، جميل العشرة، كامل المروءة، بارا بإخوانه، قال ابن بشكوال: أخذ عنه أبو علي الغساني الحافظ، ورأيت قراءاته مقيدة عليه في أحد كتبه، وحدث عنه أيضا القاضي أبو عبد الله بن الحاج في برنامجه، وغيره من كبار شيوخنا، وقرأت عليه كثيرا من روايته، وأجاز لي ما رواه بخطه غير مرة، وصحبته إلى أن توفي رحمه الله ضحوة يوم السبت، ودفن يوم الأحد الثاني عشر من رجب سنة 518، ودفن بمقبرة الربض، وصلى عليه أخوه أبو جعفر.
وأبو الطاهر محمد بن يوسف بن عبد الله التميمي من أهل سرقسطة، سكن قرطبة، قال ابن بشكوال عنه: صاحبنا سمع من أبي علي الصدفي كثيرا، ومن أبي محمد بن ثابت، وأبي عمران بن أبي تليد، وأبي محمد بن السيد، وبقرطبة وأشبيلة من غير واحد من شيوخنا. وكان مقدما في اللغة العربية، شاعرا محسنا، وله مقامات من تأليفه، أخذت عنه واستحسنت، قال وتوفي رحمه الله بقرطبة في جمادى الأولى من سنة 538. وأبو القاسم مسعود بن علي بن آدم، حدث عنه أبو عمرو المقري، وأبو القاسم مفرج بن محمد الصدفي، روى بالمشرق عن أبي القاسم الجوهري مسنده في الموطأ، وعن أبي حسن الحلبي، قال ابن بشكوال: سمع الناس منه ببلده سرقسطة، وكان شيخا صالحا، وتوفي في جمادى الآخرة سنة 440، ودفن بباب القبلة. وأبو عبد الله مزاحم بن عيسى، روى عن أبي إسحاق بن شعبان، وأبي القاسم حمزة بن محمد وغيرهما، توفي سنة 394. وأبو العباس الوليد بن بكر بن مخلد بن أبي زياد العمري رحل وسمع من الحسن من رشيق وطبقته، وألف كتابا اسمه «الوجازة، في صحة القول بالإجازة» وذكر أنه لقي في رحلته نيفا على ألف شيخ، بين محدث وفقيه، وسمع منهم، وقد سمع من أبي عباس الوليد السرقسطي المذكور: أبو ذر الهروي، وأبو عمر المليحي وأبو القاسم بن الحسن التنوخي، وغيرهم، قال ابن بشكوال: ذكره الخطيب وقال: كان ثقة أمينا كثير السماع والكتاب في بلده وفي الغربة، وهو عالم فاضل. وقال الخطيب: حدثني القاضي أبو العلاء محمد بن علي الواسطي قال: توفي الوليد بن بكر الأندلسي بالدينور سنة 392. وأبو محمد وضاح بن محمد بن عبد الله بن مطرف بن عباد الرعيني، سمع من أبي بكر الطلمنكي، وأبي عبد الله بن الحذاء، وأبي بكر بن زهر وغيرهم، ورحل إلى المشرق سنة 418، فلقي بالقيروان أبا عمران الفاسي، وأخذ عنه، ولقي بمصر أبا القاسم عبد الجبار بن أحمد بن عمر الطرسوسي، قال ابن بشكوال: ومولده سنة 381، قرأته بخط أبي الوليد صاحبنا. وأبو محمد يحيى بن إبراهيم بن محارب، روى عن القاضي أبي محد الثغري ، وعبدوس بن محمد، ورحل إلى المشرق وحج، وروى عن أبي القاسم السقطي، وأبي موسى بن حنيف وغيرهما، وكان فاضلا زاهدا، روى عنه الصاحبان ، وقاسم بن هلال، وعمر بن كريب، وموسى بن خلف بن أبي ادرهم، ووضاح بن محمد السرقسطي، وقال: كان من أهل الدين والورع، ما رأيت أورع منه في وقته. توفي سنة 414. ترجمه ابن بشكوال.
وأبو الحسن يحيى بن فرج بن يوسف الأنصاري، له رحلة إلى المشرق سنة 425 سمع فيها من محمد بن الفضل بن نظيف وغيره، وكتب بخطه علما كثيرا، وتصدر للإقراء ببلدة سرقسطة، وكان يعرف فيها بابن المصري. وأبو الحجاج يوسف بن موسى الكلبي الضرير، له سماع من أبي مروان بن سراج، وأبي علي الجياني وغيرهما، وكان من أهل النحو، متقدما في علم التوحيد. قال ابن بشكوال: وهو آخر أئمة المغرب، أخذ عن أبي بكر المرادي، وكان مختصا به، وله تصانيف حسان، وأراجيز مشهورة، وانتقل أخيرا إلى العدوة، وسكن حضرة السلطان، فتوفي بها سنة عشرين وخمسمائة. وأبو سعيد خلف بن عثمان بن مفرج، كانت له رحلة إلى المشرق، وحج فيها، وكان خيرا فاضلا، مشاورا في الأحكام ببلدة سرقسطة. توفي في ربيع الأول سنة 434. ذكره ابن بشكوال. وأبو علي الحسن بن محمد بن هالس الأزدي المقرئ، سمع من القاضي أبي عبد الله بن فرتش تاريخ ابن خيثمة، وروى عن أبي عمرو المقرئ، وأجاز له في صفر سنة 404، وكان من جلة أصحابه. وهو أحد الشهود على أبي عمر الطلمنكي بخلاف السنة. قال ابن الأبار: غفر الله له. وحسين بن إسماعيل بن حسين الغفاري، من أهل سرقسطة، وأحد شهودها المعدلين، ونبهائها. قال ابن الأبار في التكملة: قرأت اسمه بخط أبي الحكم بن غشليان في نسخة العقد المرتسم ببراءة أبي عمر الطلمنكي، وإسقاط شهادة الذين نسبوه إلى مخالفة السنة. وذلك عن رأي القاضي محمد بن عبد الله بن فرتون في سنة خمس وعشرين وأربعمائة. وأبو الحزم خلف بن محمد بن خلف بن أحمد بن هاشم العبدري، صاحب الأحكام بسرقسطة، جده لأبيه ، وهو المعروف بالقروذي، كان قاضي الجماعة بسرقسطة، وجده لأمه أبو الحزم خلف بن أبي درهم، كان قاضي وشقة، روى عن خاله أبي هارون موسى بن خلف وغيره، وأجاز له جده ابن أبي درهم، وقدم للنظر في جامع بلده سنة 441، ثم تولى الأحكام سنة سبع وستين. وكان فقيها زاهدا، محببا إلى الخاصة والعامة. وكان المستعين أبو جعفر بن المؤتمن بن هود يعرف له حقه ويكرمه، وكان يعوده في مرضه، ولد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 412، وتوفي ليلة الأحد الموفي ثلاثين لذي الحجة سنة 493، ودفن بمقبرة باب القبلة ظهر يوم الأحد، وشهد المستعين جنازته، ومشى أمامها راجلا من داره إلى قبره، وتسامع الناس بموته فابتدروا حضورها، ولم يعهد بسرقسطة مثلها. وكان قد أوحى المستعين بالصلاة عليه، فقدم لذلك أبا عبد الله بن الصراف، صاحب الصلاة، وكفل ابنته، ولم يكن له عقب غيرها، فضمها إلى قصره. أكثره من أبي محمد بن نوح. وسماه عياض القاضي في الذين لقيهم أبو علي بن سكرة الصدفي بسرقسطة. وذكر ابن الدباغ أنه يحدث عنه، وقال: كان أحد الجلة الفضلاء، وذكره ابن بشكوال مختصرا ا.ه. قاله ابن الأبار في التكملة.
ومن هنا يعلم أن المستعين الثاني بن المؤتمن بن هود كان يكنى بأبي جعفر، فهو الذي يترجح أن يكون قصر الجعفرية منسوبا إليه.
وأبو القاسم خلف بن خلف بن محمد بن سعيد بن إسماعيل بن يوسف الأنصاري يعرف بابن الأنقر، روى ببلدة سرقسطة عن أبي عبد الله بن الفراء الجياني، وعن عبد الله بن سماعة، صاحب الأحكام، وعن أبي عبد الله بن هاشم، وأبي عبد الله محمد بن يحيى بن فرتش، تفقه به، وصحبه ثمانية عشر عاما، يسمع عليه المدونة، ويقرؤها، وأخذ العربية والآداب عن أبي عبد الله بن ميمون الحسيني، وذكر أبو عمرو زياد بن الصفار أن له رواية عن أبي عمر بن عبد البر، وكان من أهل الفقه والحديث والأدب، مقدما في الحفظ، صدر في المفتين يقرض من الشعر يسيرا. قال ابن الأبار في ترجمته: خرج من سرقسطة بعد أن استولى الروم عليها، واستوطن بلنسية أول سنة 517، ودرس بها وأسمع وأفتى، وشاوره قاضيها أبو الحسن بن واجب ، وكان بسرقسطة يشاوره قاضيها أبو القاسم بن ثابت، ولم تخرج بلاد الثغر الشرقي أفضل منه ومن أبي زيد بن منتيال الخطيب، وكانا متعاصرين يشار إليهما بالعلم والصلاح. قال أبو بكر بن رزق: درس الفقه، وبرع فيه، واستفتى ببلده، ولزم الانقباض والزهد في الدنيا، وكان موصوفا بالصلابة في الحق، والقوة في الدين، مع حسن الخلق ولين الجانب، اختلفت إليه وأخذت عنه، وكتب لي بخط يده، وروى عنه أبو مروان بن الصيقل، وأبو بكر بن نمارة، وأبو محمد أيوب بن نوح وغيرهم. ومن قول ابن الأنقر السرقسطي المذكور:
احفظ لسانك والجوارح كلها
فكل جارحة عليك لسان
واخزن لسانك ما استطعت فإنه
ليث هصور والكلام سنان
توفي عن سن عالية، تنيف على الثمانين، ليلة الجمعة منسلخ شوال سنة 519. قرأت بعض ذلك بخط ابن نمارة. وعن ابن رزق أنه توفي في أول سنة عشرين، ودفن بمقبرة باب بيطالة، لصق قبر بلدية وصاحبه أبي زيد بن منتيال، انتهى، عن ابن الأبار. وأبو الحسن ذيال بن عبد الرحمن بن عمر الشريوني، من شريون بالثغر الشرقي
1
له سماع بسرقسطة من أبي الوليد الباجي، مع أبي داود المقري، وأبي محمد الركلي سنة 463. عن ابن الأبار.
وطاهر بن محمد بن طاهر بن عبد الرحمن القرشي الزهري، من ولد أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوض، يعرف بابن الناهض، سكن سرقسطة، وروى عن أبي ذر الهروي، وأبي عمر الطلمنكي، وكان حسن الخط، ذكره ابن حبيش. ا.ه. عن ابن الأبار. وأبو بكر الكميت بن الحسن. قال ابن الأبار في التكملة: سكن سرقسطة، وكان من شعراء عماد الدولة أبي جعفر بن المستعين بالله أبي أيوب بن هود. قال الحميد: لقيته وقرأت عليه كثيرا من شعره. ا.ه.، قلت: قد كني هنا بأبي جعفر عماد الدولة ابن المستعين بالله بن هود، وعماد الدولة هو عبد الملك بن المستعين الثاني . والحال أن تقدم لابن الأبار في ترجمة أبي الحزم خلف العبدري أن المستعين بالله هو الذي كان يكنى بأبي جعفر، فلا تعلم هل الأب المستعين هو الذي كان يكنى بأبي جعفر أم هو الابن عبد الملك عماد الدولة؟ ولا شك بوقوع خطأ في النسخ. ومحمد بن نصر الجهني، كان أبوه نصر من أهل قرطبة، انتقل منها إلى سرقسطة عند هيج أهل الربض، وهو أخو إبراهيم بن نصر، قال ابن الفرضي: شاركته في رحلته، يعني التي سمع فيها من يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن إسماعيل الترمذي، والحارث بن مسكين، والمزني، والربيع بن سليمان صاحب الشافعي وغيره. ومحمد بن أحمد بن عبد الله بن سليمان بن صالح بن تمام العذري، يعرف بابن فرتش، وهو جد القاضي محمد بن إسماعيل بن محمد، رحل حاجا، ولقي محمد بن اللباد وغيره، وولي قضاء سرقسطة بلده، وقضاء تطيلة للخليفة الناصر وابنه المستنصر، ترجمه ابن الأبار. وأبو عبد الله محمد بن بسام بن خلف بن عقبة الكلبي، من أهل سرقسطة، وإمام الجامع بها، يروي عن أخيه عبد الله بن بسام، حدث عنه الصاحبان.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قاسم يعرف بابن الأنصاري، روى عن أبيه، وولي أحكام القضاء ببلده سرقسطة، حدث عنه ابن عبد السلام. انتهى عن ابن الأبار. ومحمد بن إسماعيل بن محمد، قاضي سرقسطة، وهو ابن فرتش، رحل مع أبيه إسماعيل، فسمع بالقيروان من أبي عمران الفاسي سنة 410.
ومحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن صمادح التجيبي، من أهل سرقسطة، كان واليا على وشقة، ثم تخلى عنها لابن عمه منذر بن يحيى التجيبي، كان مع رياسته من أهل العلم والأدب، له اختصار في غريب القرآن، استخرجه من تفسير الطبري، رواه عنه ابنه أبو الأحوص، معن بن محمد أمير المرية. قال ابن الأبار: ذكر ذلك ابن عبيد الله، ووقفت على وصيته لمعن هذا، منقولة من خط أبي بكر بن زهر، وحكى ابن حيان أنه هلك عطبا في البحر الرومي وكان قد ركبه من دانية يبغي الحج في مركب تأنق في صحبته، واستجاد آلته وعدته، وتخير أعدل الأزمنة، ومعه خلق كثير تشاحوا في صحبته، فعطب جميعهم سوى نفر منهم، تخلصوا للإخبار عنهم، ومضى هو لم يغن عنه حزمه ولا قوته، فكان اليم أقصى أثره. وذلك في سنة 419، زاد ابن زهر في جمادى الأولى بين يابسة والأندلس. انتهى
قلت: وغير بعيد من هناك، بالقرب من مينورقة، على مسافة خمسة كيلومترات من مرسى سيوداديلة
Ciadadela
غرق في عشرة فبراير سنة 1910 باخرة فرنسية اسمها الجنرال شانزي، وعطب جميع ركابها، إلا شخصا واحدا لا غير.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن فرتون، من أهل سرقسطة، وقاضي الجماعة بها، وهو الذي انتصر لأبي عمر الطلمنكي من الذين شهدوا عليه بأنه حروري سفاك للدماء، يرى وضع السيوف على صالحي المسلمين، فأسقط شهاداتهم، وكانوا خمسة عشر من الفقهاء والنبهاء بسرقسطة. وأسجل بذلك على نفسه في سنة 425. انتهى من تكملة ابن الأبار. ومحمد بن رافع بن غريب الأموي أحد الشاهدين على الطلمنكي بخلاف السنة، وذلك لتشدده على أهل عصره وغيرهم ممن حركهم لمطالبته، فحضروا عند رافع بن نصر، وهو ابن أخي محمد هذا، وكتبوا رسما أوقعوا عليه شهاداتهم بما ذكر، فأسقطها القاضي ابن فرتون، وقمع تلك الجماعة ممتعضا للطلمنكي. ذكره ابن الأبار. ومحمد بن يحيى بن محمد التجيبي كان معدودا في فقهاء سرقسطة ونبهائها، وشاوره القاضي محمد بن عبد الله بن فرتون في قضية الطلمنكي والشاهدين عليه بخلاف السنة، وعفا الله عن جميعهم، فأفتى بإسقاط شهاداتهم.
وأبو عبد الله محمد بن وهب بن محمد بن وهب، وهو المعروف بنوح الغافقي، كان معدودا من فقهاء سرقسطة، توفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من رمضان سنة 458، ودفن لظهر يوم الخميس بعده. وأبو عبد الله محمد بن ميمون القرشي الحسيني من أهل سرقسطة، ومن ولد الحسين بن علي رضي الله عنهما، روى عن أبي عمر القسطلي وغيره، وكان من أهل العلم بالعربية والآداب، مدرسا لها ، وعنه أخذ أبو القاسم بن الأنقر، وأبو مروان عبد الملك بن هشام وغيرهما، ولأبي محد الركلي
2
إجازة منه. قال ابن الأبار في التكملة : قرأت بخط ابن الأنقر، وحدثني أبو عبد الله بن نوح عن أبيه أيوب، وأبو الخطاب بن واجب عن ابن رزق جميعا قال: حدثني الفقيه الأديب النحوي أبو عبد الله محمد بن ميمون الحسيني، قراءة مني عليه في مسجد الجزارين بسرقسطة، قال: كانت لي في صبوتي جارية، وكنت مغرى بها، وكان أبي رحمه الله يعذلني فيها، ويعرض لي ببيعها، لأنها تشغلني عن الطلب، فكان عذله يزيدني إغراء بها، فرأيت في المنام كأن رجلا يأتيني في زي أهل المشرق كل ثيابه بيض، وكان يلقي في نفسي أنه الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان ينشدني:
تصبو إلى مي ومي لا تني
تزهى ببلواك التي لا تنقضي
ونجارك القوم الألي ما منهم
إلا إمام أو وصي أو نبي
فاثن عنانك للهدى عن ذا الهوى
وخف الاله عليك ويحك وارعوي
قال: فانتبهت فزعا مفكرا فيما رأيته، فسألت الجارية: هل كان لها اسم قبل أن تتسمى بالاسم الذي أعرفه؟ فقالت لا. ثم عاودتها، حتى ذكرت أنها كانت تسمى بمية، فبعتها حينئذ، وعلمت أنها وعظ وعظني الله عز وجل به، وبشرى.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يونس بن حبيب بن إسماعيل الأنصاري، روى عن أبي عمر بن عبد البر، وأبي عمرو المقري، وأبي الوليد الباجي، وأبي عبد الله بن فرتش القاضي، وأبي عبد الله بن سماعة، وأبي الوليد الوقشي، ورحل حاجا، فقدم دمشق، وحدث بها عن هؤلاء، ذكره ابن عساكر وقال: سمع منه أبو محمد بن الأكفاني، وحكى عنه تدليسا ضعفه به. وتوفي في جمادى الأخرى، وقيل في رجب سنة 477. عن ابن الأبار. وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عباس يعرف بابن المواق، روى عن الباجي وابن سعدون القروي وغيرهما. وتولى قضاء روطة من أعمال سرقسطة، وكان فقيها حافظا، وأديبا ماهرا، توفي سنة 503 عن ابن حبيش. قاله ابن الأبار. وأبو عبد الله محمد بن عبد الملك التجيبي المقرئ، قال ابن الأبار: أحسبه سرقسطيا. يروي عن محب بن حسين أحد أصحاب ابن سفيان، مؤلف الهادي في القراءات، أخذ عنه أبو مروان بن الصيقل. وأبو عبد الله محمد بن وهب بن محمد بن وهب بن محمد بن وهب، وهو المعروف بنوح الغافقي، كان فقيها مشاورا معظما عند الخاصة والعامة، يرعاه السلطان ويأتمنه على حرمه وقصره. وخرج من وطنه بعد أن ملكته الروم، فنزل بلنسية، وولاه القاضي حسن بن واجب قضاء جزيرة شقر، وبها توفي ليلة الخميس آخر شهر صفر سنة 518، ودفن بقبلي جامعها، حدث عنه ابنه أيوب. قال ابن الأبار: وبخطه قرأت وفاته. قلنا: ظاهر أن المترجم هنا هو حفيد محمد بن وهب بن محمد بن وهب، المعروف بنوح الغافقي، المتوفى سنة 458، وقد تقدمت ترجمته. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن سهل الأنصاري الأوسي، من أهل سرقسطة، سكن بلنسية، يعرف بابن الخراز، روى عن أبي عبد الله بن أوس الحجاري، وأبي العباس العذري، وأبي الوليد الوقشي، واختص به، وسمع منه روايته، وهو كان القارئ لما يؤخذ عنه، وكان أديبا، وشاعرا، راوية، مكثرا، حسن الخط. وكان أبوه أبو جعفر أيضا شاعرا، وهو الذي خاطبه أبو عامر بن غرسية بالرسالة المشهورة. حدث عنه أبو محمد القلني،
3
وأبو عبد الله بن إدريس المخزومي، وأبو الطاهر التميمي وغيرهم، وقال ابن الدباغ: أقرأ القرآن بالثغر، وكان عنده أدب صالح. عن ابن الأبار. وأبو عبد الله محمد بن عقال المقري، سمع من الباجي والعذري، وله رحلة حج فيها، حدث عنه أبو الفضل بن عياض. وأبو القاسم محمد بن عبد العزيز بن محمد بن سعيد بن معاوية بن داود الأنصاري، سرقسطي أصله من دروقة، وقد تقدمت ترجمته فيمن انتسب إلى دروقة، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة، وثكله أبوه. وأبو بكر محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن أحمد العذري، يعرف بابن فرتش، روى عنه عمه القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد، سمع منه مسند أبي بكر البزار، ومنه سمعه أبو علي الصدفي، وكان أبو علي هذا قد استجاز له ولجماعة معه أكثر شيوخه الجلة بالمشرق، كأبي الفوارس الزينبي، وابن خيرون، والمبارك بن عبد الجبار وطبقتهم، وولي الأحكام بسرقسطة، ثم خرج منها بعد غلبة العدو عليها، وجول ببلاد الأندلس، وحدث، وسمع منه بغرناطة أبو جعفر بن الباذش، وأبو عبد الله النميري. وحكى عنه ابن بشكوال وفاة جده القاضي محمد بن إسماعيل. وتوفي بعد الثلاثين وخمسمائة. عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن أبي سعيد الفرج بن عبد الله البزار، لقي بدانية أبا الحسن الحسن الحصري، وسمع منه بعض منظومه، ورحل حاجا، ودخل العراق، فأجاز له ابن خيرون، والحميدي. وأبو زكريا التبريزي، والمبارك بن عبد الجبار، وهبة الله بن الأكفاني وغيرهم، ونزل الإسكندرية وحدث بها، وأخذ عنه الناس، وتوفي هناك. وأبو عبد الله محمد بن خليل بن يوسف بن نظير الأنصاري، من أهل سرقسطة، سكن بلنسية، أخذ عن أبي المطرف بن الوراق، وأبي محمد بن سمحون، وكان سماعه من هذا في سنتي ثلاثين وإحدى وثلاثين وخمسمائة. عن ابن الأبار. وأبو حاتم محمد بن أحمد بن عيسى بن إبراهيم بن مزاحم من أهل سرقسطة، كان معنيا بالفقه، موصوفا بالزهد والنزاهة، توفي ببلنسية عصر يوم الخميس الثالث عشر لرجب سنة 533. نقل ذلك ابن الأبار عن أيوب بن نوح.
وأبو جعفر محمد بن حكم بن محمد بن أحمد بن باق، من أهل سرقسطة، جده ذو الوزارتين محمد بن أحمد صاحب مدينة سالم، قتل فيها سنة 420، روى أبو جعفر عن أبي وليد الباجي، وأبي عبد الله محمد بن يحيى بن هاشم والقاضي أبي الأصبغ بن عيسى، وأبي جعفر بن جراح، وأبي عبيد البكري، وعبد الدائم القيرواني، وأبي الفوارس بن عاصم وغيرهم، واستقر بمدينة فاس وأفتى بها، وولى أحكامها، وأقرأ العربية، وكان ذا حظ من علم الكلام، حسن الخلق، قوالا بالحق، وله شرح على الإيضاح لأبي علي الفارسي، وكان واقفا على كتبه، وعلى كتب أبي الفتح بن جني، وأبي سعيد السيرافي، وقد حدث عن أبي جعفر المذكور أبو الوليد بن خيره وأبو مروان بن الصيقل الوشقي، وأبو محمد بن رحمان، وأبو عبد الله الأندي، وأبو محمد بن بونة، وأبو الحسن اللواتي، وغيرهم، وتوفي بتلمسان في نحو سنة 538، روى ابن الأبار أكثر هذه الترجمة عن ابن حبيش. أبو بكر بن محمد بن يوسف بن سليمان بن محمد بن خطاب القيسي، من أهل سرقسطة، سكن مرسية، يعرف بابن الجزار، أخذ العربية عن أبي بكر بن الفرضي، وأبي محمد البطليوسي، وسمع الحديث من أبي علي الصدفي، وأبي محمد بن أبي جعفر، وأجاز له أبو عبد الله الخولاني، وقعد للتعليم بالعربية، وكان مشاركا في القراءات، أديبا كاتبا شاعرا، وجرت بينه وبين أبي عبد الله بن خلصة مسائل في إعراب آيات من القرآن ظهر عليه فيها، وضمن ذلك رسالة أخذها عنه أبو عبد الله المكناسي في اختلافه إليه لقراءات النحو عليه، وقال: قتل بناحية غرناطة سنة 540. تلخيصا عن ابن الأبار. وأبو عبد الله محمد بن سليمان التجيبي السرقسطي، منها نزل المرية، كان من أهل المعرفة بالقراءات والفرائض والحساب، وله في ذلك تواليف. وأبو الوليد محمد بن عريب بن عبد الرحمن بن عريب العبسي من أهل سرقسطة، سكن شاطبة، روى عن أبي علي الصدفي وأبي محمد بن عتاب، وأبي بكر بن العربي، وأبي القاسم بن ورد، وأجزل له الرئيس أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن طاهر، وأبو بكر غالب بن عطية، وأبو الحسن بن الباذش وغيرهم، وتصدر للإقراء بشاطبة، وولى بها الصلاة والخطبة، قال ابن الأبار في التكملة: أخذ عنه شيخنا أبو عبد الله بن سعادة المعمر قراءة نافع، وأجاز له جميع رواياته. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن مجبر التجيبي السرقسطي، نزيل مصر، كان مقرئا متصدرا بمقربة من جامعها العتيق، ذكره ابن حوط الله وقال: أجاز لي في سنة 584 قاله ابن الأبار. وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد الرعيني السرقسطي، يلقب بالركن، كان فقيها متحققا بعلم الكلام، متقدما فيه، يناظر عليه في الإرشاد لأبي المعالي وغيره، تولى قضاء معدن عوام، بمقربة من مدينة فاس ، أخذ عنه أبو الحسن بن خروف، وأبو سليمان بن حوط الله، لقيه بمالقة سنة 587، وقال توفي سنة 598. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الأنصاري من أهل غرناطة، أصله من سرقسطة، يعرف بابن الصقر، روى عن أبيه أبي العباس وأبي عبد الله النميري، وغيرهما، وولي القضاء، وكان بارع الخط، وكتب علما كثيرا.
وأبو سعيد مسعود بن سعيد من أهل سرقسطة، وصاحب الصلاة بها، روى عن أبي بكر اللآجري، حدث عنه أبو الحزم خلف بن مسعود بن الجلاد الوشقي. قال ابن الأبار في التكملة: وذكر ابن الفرضي مسعود بن عبد الرحمن الحنتمي الثغري، وكناه أبا سعيد، وقال إنه سكن قرطبة، ولم يذكر له رواية عن الآجري، ولا جعله من أهل سرقسطة، ولا أدري أهو هذا وغلط في نسبه أم غيره؟ قلنا: لا يوجد دليل على كون ابن الفرضي قصد بمسعود بن عبد الرحمن الحنتمي رجلا اسمه مسعود بن سعيد كان صاحب الصلاة في سرقسطة.
وأبو الأحوص معن بن معن بن معن الأنصاري، نسبة في البربر، ويتولى الأنصار، من أهل سرقسطة، وأحد رجالاتها، ومدرك جماعتها. قال ابن الأبار: قرأت اسمه ونسبه في الأمان الذي عقده الناصر عبد الرحمن بن محمد لصاحب سرقسطة محمد بن هاشم التجيبي، عند انخلاعه عنها، وولي قضاء بلده سرقسطة سنة 326 من قبل الناصر، وكان حصيف العقل، معروفا بالدهاء، له فهم وإدراك، ولا ينسب إليه فقه ولا علم، ذكر ذلك محمد بن حارث، ولم يزل قاضيا بسرقسطة إلى أن توفي سنة 330. ونصر بن عيسى بن نصر بن سحابة، من أهل مدينة سالم، سكن سرقسطة، وكان أديبا ذا معرفة بالعروض. قال ابن الأبار في التكملة: وقفت له على تأليف في العروض ليس بذلك، صنعه للمؤتمن أبي عمر يوسف بن المقتدر أبو جعفر بن هود، صاحب سرقسطة، ولابنه وولي عهده أبي جعفر المستعين. ا .ه.
ظهر من هنا أن كلا من المقتدر بن هود وابنه المستعين الثاني يكنى بأبي جعفر، وأن قصر الجعفرية هو منسوب إليهما.
وأبو العلاء نام بن محمد بن ديسم بن نام، كان من أهل الأدب والبلاغة، وكتب لبعض الرؤساء، وكان يقرض الشعر، قال ابن الأبار: واستجاز له أبو علي الصدفي، ومن خطه نقلت اسمه، ولجماعة معه من أهل سرقسطة وبلادها، وتوفي سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. وأبو محمد عبد الله بن ثابت بن سعيد بن ثابت بن قاسم بن ثابت بن حزم العوفي، كان يحدث بالدلائل، تأليف جده الأعلى قاسم بن ثابت، عن أبيه، متصلا في سلفه إلى المؤلف، وكان فقيها مشاورا جليلا، عريقا في النباهة والعلم، شاوره القاضي محمد بن عبد الله بن فرتون فيما شهد به علي أبي عمر الطلمنكي، من كونه حروريا على خلاف السنة، وكان معه جماعة هو صدرهم، فأفتوا بإسقاط شهادات المتألبين على الطلمنكي. حدث عن أبي محمد المذكور ابنه القاضي أبو القاسم ثابت بن عبد الله، آخر من حدث من أهل بيتهم. وأبو محمد عبد الله بن علي الأنصاري من ذرية الحسين بن يحيى بن سعيد بن قيس بن سعد بن عبادة، تولى الصلاة ببلده مضافة إليه من قبل المؤتمن أبي عمر يوسف بن المقتدر أبي جعفر بن هود، وكان فاضلا من بيت علم ورئاسة، وكانت وفاة المؤتمن في سنة 478، روى ذلك ابن الأبار عن محمد بن نوح. وعبد الله بن سعيد بن عبد الله اللخمي أحد الفقهاء المشاورين في سرقسطة، وهو ممن أفتى بإسقاط شهادة من شهدوا على الطلمنكي بمخالفته للسنة. وأبو محمد عبد الله بن موسى بن ثابت، له سماع من أبي العباس العذري، أخذ عنه صحيح مسلم. وأبو الحسين عبد الله بن مروان بن عبد الله بن محمد بن حفصيل، من ولد حفص بن سليمان، راوية عاصم بن أبي النجود القارئ، أخذ عن أبي يونس عبد الله بن هذيل القلعي، وأخذ عنه أبو عمرو البلجيطي المقرئ. وأبو بكر عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عمير الثقفي، روى ببلده سرقسطة عن صاحب الأحكام أبي الحزم خلف بن هاشم، وأخذ عن أبي علي الصدفي. قرأ عليه بمرسية رياضة المتعلمين لأبي نعيم في سنة 495، وسمع بقرطبة من أبي بحر الأسدي بعد خروجه من سرقسطة سنة 516، وتوفي بمدينة فاس سنة 529 ذكر وفاته ابن حبيش.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مقاتل التجيبي، من أهل بلنسية، أصله من سرقسطة، صحب القاضي أبا بكر بن أسد، وتفقه به، وحضر مجلس أبي محمد بن عاشر، وكان فقيها عارفا بعقد الشروط متقنا لها، قال أبو محمد بن نوح: توفي ليلة الجمعة الثالث والعشرين من صفر سنة 552، ترجمه ابن الأبار. وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي يحيى بن محمد بن مطروح التجيبي، من أهل بلنسية، أصله من سرقسطة، سمع أباه وأبا العطاء بن نذير، وأبا عبد الله بن نسع، وأبا الحجاج بن أيوب، وأبا الخطاب بن واجب، وأبا ذر الخشني، والقاضي أبا بكر عتيق بن علي وغيرهم. وأكثر من أخذ عنه هو أبو عبد الله بن نوح، فقد تلقى عنه القراءات والأدب، ولازمه طويلا، وأجاز له أبو بكر بن الجد، وأبو عبد الله بن الفخار، وأبو عبد الله بن زرقون، وأبو القاسم بن حبيش، وأبو الحسن بن كوثر وغيرهم، وأجاز له من أهل المشرق أبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله بن الحضرمي، وأبو الثناء الحراني، وأبو طالب التنوخي وغيرهم. وقال ابن الأبار: وولي بآخرة من عمره دانية، ثم صرف بي عندما قلدت ذلك في رمضان سنة 633، ثم أعيد إلى قضائها بعد ذلك، لما استعفيت منه، وكان فقيها عارفا بالأحكام، عاكفا على عقد الشروط، من أهل الشورى والفتيا، أديبا شاعرا مقدما فكها، صدوقا في روايته، سمعت منه حكايات وأخبارا، وأنشدني لنفسه ولغيره كثيرا، وأجاز لي غير مرة لفظا جميع ما رواه وأنشأه، وروى عنه بعض أصحابنا. توفي ببلنسية مصروفا عن القضاء عند المغرب من ليلة الجمعة التاسع لذي القعدة سنة 536، والروم محاصرون بلنسية، ودفن بمقبرة باب الحنش لصلاة ظهر الجمعة، قبل امتناع الدفن بخارجها، ومولده سنة 574 انتهى. وأبو عبد الله بن الصفار، أخذ بسرقسطة عن أبي العباس أحمد بن علي بن هاشم المقري المصري في مقدمة سرقسطة سنة 420، ذكره أبو عمر بن الحذاء في برنامجه. وأبو مروان عبيد الله بن هاشم بن خلف بن أحمد بن هاشم العبدري، روى عن أبي هارون موسى بن أبي درهم، وسمع من أبي وليد الباجي، وهو كان القارئ، عليه لصحيح البخاري بسرقسطة في رجب سنة 463، وأخوه أبو الحزم خلف بن هاشم هو أيضا من علماء سرقسطة.
وأبو الحكم عبيد الله بن علي بن عبيد الله بن غلندة الأموي، مولاهم، من أهل سرقسطة، لما تغلب العدو على بلده خرج مع أبيه وجده إلى قرطبة، وأخذ عن أبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي بكر يحيى بن الفتح الحجاري، ثم رحل عن قرطبة إلى أشبيلية فأوطنها، وكان أديبا شاعرا، وطبيبا ماهرا، وكان صناع اليدين أبرع الناس خطا، وأحسنهم ضبطا، وكتب علما كثيرا. قال ابن الأبار في التكملة: وأنشدني له بعض أصحابنا من لزومياته:
إذا كان إصلاحي لجسمي واجبا
فإصلاح نفسي لا محالة أوجب
وإن كان ما يفنى إلى النفس معجبا
فإن الذي يبقى إلى العقل أعجب
وتوفي بمراكش سنة 581، وحدثني الثقة أنه بلغ سبعا وتسعين سنة ا.ه. وأبو زيد عبد الرحمن بن محمد الأموي البزار، يعرف بابن الصراف، روى عن أبي محمد الأصيلي، وأبي بكر بن موهب القبري، حدث عنه ابن أخيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب بسرقسطة، ترجمه ابن الأبار. وعبد الرحمن بن عبد الله بن ميسرة، من أهل سرقسطة وقاضيها، ذكره أبو محمد بن نوح وقال: توفي يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت لرجب سنة 442. ودفن يوم الأربعاء بعده، قال: وولي القضاء في آخر شعبان من السنة محمد بن إسماعيل بن فورتش. وفي هذه السنة، ولإحدى عشرة ليلة بقيت لرجب، احترق مع جامع سرقسطة البلاط الشرقي. نقلا عن ابن الأبار. وأبو القاسم عبد الرحمن بن فرتون الأنصاري، روى عن أبي عمرو المقري، وحدث عنه بحياته بكتاب «تفكر الحافظ » من تأليفه، قال ابن الأبار: وقفت على ذلك في نسخة عتيقة منه، ويقال إن هذا الكتاب هو أول من ألفه أبو عمرو. وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله بن عياض اليحصبي المكتب، كان من القراء، ومن علماء الحساب، وأدب بذلك، أخذ عنه أبو علي الصدفي، وعنده أكمل حفظ القرآن. وأبو القاسم عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الرحمن بن فورتش، رحل حاجا فسمع بمكة أبا ذر الهروي، وأجاز له أبو عمرو السفاقسي، ولأخيه القاضي أبي عبد الله محمد بن يحيى بن فورتش، لقيه أبو علي الصدفي ولم يسمع منه شيئا. وعبد الرحمن بن موسى بن ميسرة من أهل سرقسطة أو ناحيتها، يحدث عن أبي الفوارس منجي بن موسى من أصحاب أبي بكر بن الخطيب.
وأبو بكر عبد الرحمن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عمير الثقفي، من أهل سرقسطة، سكن قرطبة، روى عن أبيه وعمه أبي بكر عبد الله بن يحيى، وأبي عامر بن شروية، وأبي الحسن بن مغيث، وأبي بكر بن العربي، وأبي عبد الله بن مكي، وأبي مروان بن مسرة، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي الحكم بن غشليان، وأبي بكر يحيى بن موسى، سمع من منه بقرطبة فوائد ابن صخر. وكان من أهل العناية بالرواية، حسن الخط والضبط، أزعجته الفتنة بقرطبة [فذهب] إلى ميورقة فنزلها وحدث بها، وسمع منه أبو محمد بن سهل المنقودي، وغيره سنة 538، رواه ابن الأبار. وعبد الملك بن هشام التجيبي، ويكنى أبا مروان، روى عن أبي عبد الله محمد القسطلي. وعبد العزيز بن جوشن، من أهل سرقسطة، كان فقيها مشاورا، وولي الصلاة بجامعها. وكان ممن أفتى بإسقاط شهادات المتألبين على أبي عمر الطلمنكي.
وأبو جعفر عبد الوهاب بن محمد بن حكم الأنصاري، من سرقسطة، أخذ القراءات بطليطلة عن أبي عبد الله المغامي ، وأجاز له أبو الفضل بن خيرون، من بغداد، في رمضان سنة 486، وتصدر ببلده للإقراء، ومن مشاهير تلاميذه أبو محمد عبد الله بن إدريس بن سهل المقرئ، نزيل سبتة، وأبو محمد يحيى بن محمد بن حسان القلعي، وأبو عبد الله محمد بن عيسى بن بقاء البلغي، نزيل دمشق، وأبو محمد بن سعدون الوشقي الضرير وغيرهم، واستشهد في وقيعة وشقة سنة 489، في آخر ذي القعدة أو أول ذي الحجة منها، وهي إحدى الوقائع الفاجعات بالأندلس. قتل فيها نحو عشرة آلاف من المسلمين، ذكر ذلك ابن الأبار القضاعي في التكملة.
وأبو عمر عثمان بن فرج بن خلف العبدري السرقسطي، حج فسمع من الرازي ومن أبي بكر بن عبد الله بن طلحة اليابري، وأبي الحجاج بن زياد الميورقي، وأبي الحسن علي البيهقي الزاهد، وسكن بالقاهرة. قال ابن الأبار: وروى عنه من شيوخنا أبو عبد الله الألشي، لقيه في جمادى الآخرة سنة سبعين وخمسمائة. وأبو عمرو عثمان بن يوسف بن أبي بكر بن عبد البر بن سيدي بن ثابت الأنصاري السرقسطي، ويقال له البلجيطي، أخذ القراءات عن أبي زيد الوراق، ويحيى بن محمد القلعي، وأخذ عن أبي زيد بن حياة قراءة نافع، واختلف إلى أبي جعفر بن شريح، وأبي الحسن بن طاهر في أخذ العربية، وسمع التيسير من أبي الحسن بن هذيل سنة 521 واستوطن «لريه» ثم ولى قضاءها، وكان قارئا ضابطا، محققا إخباريا ذاكرا، وأسن، وأخذ عنه الناس. قال ابن الأبار: وأخذ عنه من شيوخنا أبو عبد الله الشوني وأبي الربيع بن سالم، وكانت ولادته سنة 487، ووفاته في منتصف ذي القعدة سنة 577. وأبو الحسن علي بن عبد الله بن موسى بن طاهر الغفاري السرقسطي البرجي، وبرجه من أعمال سرقسطة، كان من القراء، توفي سنة خمس أو ست وثلاثين وخمسمائة. وأبو الحسن علي بن يوسف بن الإمام، من أدباء سرقسطة، وكان زاهدا روى عنه أبو الوليد بن خيرة الفقيه.
وأبو العلاء همام بن يحيى بن همام السرقسطي، كان كاتبا بليغا متفننا، بديع الخط، كتب عن المقتدر بالله أبي جعفر بن هود، ثم عن ابنه المؤتمن، ثم عن المستعين بن المؤتمن، وتوفي في الدولة اللمتونية، عن ابن الأبار. ومثله ابنه أبو بكر يحيى بن همام بن يحيى السرقسطي، المعروف بابن أرزاق، كان من أهل الأدب مع بداعة الخط، وكتب للمستعين أبي جعفر بن هود مع أبيه همام، وكتب ليوسف بن تاشفين، ثم لابنه علي، واستدعي إلى مراكش سنة 495، وكانت وفاته بقرطبة سنة 537، عن ابن الأبار. وأبو بكر يحيى بن محمد السرقسطي، نزيل مرسية، يعرف باللباني، أخذ عن أبي الوليد الوقشي، وأبي الحسن بن أفلح النحوي، وكان ماهرا في علم العربية، حافظا للغة، أقرأ بمرسية وغيرها، وأخذ عنه أبو عبد الله بن سعادة، وأبو علي بن عريب، وغيرهما، وتوفي في نحو العشرين وخمسمائة. ومحمد بن سليمان بن تليد ولي القضاء بسرقسطة، ووشقة، يروي عن محمد بن أحمد العتبي، ومحمد بن يوسف بن مطروح الربعي، توفي سنة 295 ترجمه ابن عميرة الضبي في بغية الملتمس. ومحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله السرقسطي الفقيه المقرئ، روى عنه أبو بكر بن العربي وغيره.
وأبو إسحاق إبراهيم بن نصر السرقسطي، حدث عن أحمد بن عمرو بن السرح ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ويحيى بن عمر، روى عنه عثمان بن عبد الرحمن، ترجمه ابن عميرة في بغية الملتمس.
وإبراهيم بن هارون بن سهل، قال ابن عميرة: قاضي سرقسطة من ثغور الأندلس، فقيه محدث، مات بها سنة ست وتسعين ومائتين.
وحفص بن عبد السلام السلمي، قال ابن عميرة: سرقسطي، روى عن مالك بن أنس، مات بالأندلس قريبا من سنة مائتين.
ورزين بن معاوية، قال ابن عميرة: سرقسطي محدث، توفي سنة 524 بمكة، زادها الله شرفا.
وسليمان بن مهران السرقسطي، أديب شاعر مشهور، له جلالة وقدر، روى أبو محمد بن حزم عن محمد بن الحسن المذحجي قال: أنشدني سليمان بن مهران، في مجلس الوزير أبي الأصبغ عيسى بن سعيد وزير المظفر عبد الملك بن المنصور محمد بن أبي عامر:
خليلي ما للريح تأتي كأنما
يخالطها عند الهبوب خلوق
أم الريح جاءت من بلاد أحبتي
فأحسبها عرف الحبيب تسوق
سقى الله أرضا حلها الأغيد الذي
لتذكاره بين الضلوع حريق
أصار فؤادي فرقتين فعنده
فريق وعندي في السياق فريق
وأبو الربيع سليمان بن حارث بن هاروق الفهمي، قال ابن عميرة: فقيه سرقسطي، توفي بالإسكندرية سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
وأبو عبد الله محمد بن بسام بن خلف بن عقبة الكلبي من أهل سرقسطة وإمام الجامع بها، يروي عن أخيه عبد الله بن بسام، حدث عنه الصاحبان. وحسان بن عبد السلام السلمي، يروى عن مالك بن أنس، قال ابن عميرة: ذكره محمد بن حارث الخشني، وأبو عثمان سعيد بن فتحون السرقسطي، يعرف بالحمار. قال ابن عميرة: له أدب وعلم وتصرف في حدود المنطق، وهو مشهور. وعبد الله محمد بن زرقون السرقسطي. قال ابن عميرة: بتقديم الزاي على الراء، محدث، روى عن أصبغ بن الفرج. روى عنه محمد بن وضاح، ومن جملة ما روى عنه رواية عن أصبغ بن الفرج عن ابن وهب، وهي: ما يحل لأحد أن يرد شيئا بغير علم، ولا يقول شيئا بغير ثبت. ولقد سمعت مالكا يقول: والله ما أحب أن تكتبوا عني كل ما تسمعون مني. قال ابن وهب: ولو عرضنا على مالك كل ما كتبنا عنه لمحا ثلاثة أرباعه. وعبد الله بن أبي النعمان قاضي سرقسطة، قال ابن عميرة: من أهل العلم والفضل، مات سنة خمس وسبعين ومائتين. وأبو الحكم عبد الرحمن بن عبد الملك بن غشليان السرقسطي، توفي بقرطبة سنة 541 قاله ابن عميرة. وعبد الأعلى بن الليث، يكنى أبا وهب، من أهل سرقسطة، محدث له رحلة، مات بالأندلس سنة 275، ذكره ابن عميرة في البنية. وكلثوم بن أبيض المرادي، يكنى أبا عون، من أهل سرقسطة، محدث له رحلة، مات بالأندلس سنة 253، ذكره أيضا ابن عميرة. وأبو مروان بن الأنصاري السرقسطي، من ذرية الحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي أمير سرقسطة، كان فقيها فاضلا زاهدا، وكان أمراء بلده بنو هود يتناغون في إكرامه واحترامه. ذكره ابن نوح عن ابن الأبار.
وأبو محمد لب بن عبد الله، من أهل سرقسطة، قال ابن عميرة: محدث ، كان فاضلا زاهدا، كتب عن أهل الأندلس ولم يرحل، وكانت وفاته في صدر أيام الأمير عبد الله بن محمد. قاله أبو سعيد. وموسى بن علي بن رباح، قال ابن عميرة: يقال إن قبره بسرقسطة بإزاء قبر حنش بن عبد الله. وأبو عبد العزيز عبد الرءوف بن عمر بن عبد العزيز، محدث معروف، قال ابن عميرة: مات بلاردة من ثغور الأندلس سنة ثمان وثلاثمائة. والوليد بن عبد الخالق بن عبد الجبار بن قيس بن عبد الله الباهلي القاضي، من أهل سرقسطة، ذكره محمد بن حارث الخشني، ترجمه ابن عميرة في بغية الملتمس. وأبو الحجاج يوسف بن محمد السرقسطي، قال ابن عميرة: كان قارئا لكتب الحديث محسنا، توفي بعد السبعين وأربعمائة. والفقيه أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول السرقسطي، جاء في نفح الطيب ذكره، وقال: إنه قد ذكره العماد الأصفهاني في الخريدة، ذكره السمعاني في الذيل، وأنه دخل بغداد في حدود سنة ست عشرة وخمسمائة، ومن شعره:
أبا شمس إني إن أتتك مدائحي
وهن لآل نظمت وقلائد
فلست بمن يبغي على الشعر رشوة
أبى ذاك لي جد كريم ووالد
وإني من قوم قديما ومحدثا
تباع عليهم بالألوف القصائد
وأبو مروان محمد بن يوسف بن مرونجوش، قال ابن عميرة: سرقسطي فقيه، توفي سنة تسع عشرة وخمسمائة. وعبد الله بن سعيد بن عبد الله اللخمي.
وأبو محمد بن عبد الله بن محمد بن سندور بن منتيل بن مروان التجيبي، سمع أبا عمر بن عبد البر، وأبا الوليد الباجي، وأبا العباس العذري، وأبا عمر الطلمنكي، وكتب بخطه علما كثيرا، وتوفي قبل الخمسمائة.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن طريف، قال ابن الأبار: كان من أهل المعرفة بالعربية، مع حظ من قرض الشعر، وكان في نحو الخمسمائة. وأبو محمد يعيش بن محمد بن فتحون من أهل الثغر، له رحلة إلى المشرق، روى فيها عن أبي الطاهر العجيفي، وأبي القاسم الجوهري وغيرهما، حدث عنه محمد بن عبد السلام الحافظ. ويوسف بن عبد الملك ثغري، يكنى أبا عمر، روى عن وهب بن مسرة وغيره، حدث عنه الصاحبان وقالا: توفي في المحرم سنة 387. وخلف بن سيد. من أهل الثغر الشرقي، يحدث عن عيسى بن موسى بن الإمام، لقيه بتطيلة، وأخذ عنه. وأبو الحسن ذيال بن عبد الرحمن بن عمر الشريوني الثغري، سمع بسرقسطة من أبي الوليد الباجي وغيره سنة 463. وأبو عبد الله محمد بن جعفر الهمذاني، يعرف بالشرقي، نسبة إلى شرق الأندلس، قرأ بجامع قرطبة، ذكره ابن الدباغ ووصفه بالعلم والنبل، وتوفي سنة 513، قاله ابن الأبار. وأبو الربيع الخصيب بن محمد بن خصيب بن الخزاعي. وأبو الطاهر الأشتركوني، من أشتركوني، حصن من أعمال تطيلة، اسمه محمد بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم، سمع من جلة العلماء، وتحقق باللغة والأدب، وألف المسلسل، وأنشأ المقامات اللزومية، ومات بقرطبة سنة 538. ومن عادة الأندلسيين أنهم إذا أطلقوا الثغر أرادوا به سرقسطة أو إحدى جهاتها، وقد ينسبون إلى الثغر فيقولون فلان الثغري، ويكون من سرقسطة، أو من وشقة، أو تطيلة أو من لاردة، وهلم جرا من المدن التي كانت يومئذ آخر بلاد المسلمين، أو من ملحقاتها.
فمن هؤلاء أبو حديدة ناهض بن عريب، قال ابن الأبار: من أهل الثغر الشرقي روى عن زكريا بن النداف. وأبو يونس عبد العزيز بن عمر بن حبنون، من أهل منتشون، من أهل الثغر الشرقي، سمع من أبي الوليد الباجي صحيح البخاري بسرقسطة سنة 463 وولي الأحكام بموضعه. قال ابن الأبار: قرأت ذلك بخط أبي داود المقرئ. وأبو الأصبغ عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن خلف الأموي، من أهل بلشند. قال ياقوت: بسكون اللام وفتح الشين وسكون النون، من نواحي سرقسطة بالأندلس، وفيها حصن يعرف ببني خطب، روى عن أبي محمد بن أبي جعفر، سمع منه، وحكى عنه أنه كان يقول: سمعت كتاب صحيح البخاري على أبي الوليد الباجي، ولكني لا أحدث به عنه، لأنه كان يصحب السلطان. وأبو الحجاج يوسف بن إبراهيم العبدري المعروف بالثغري، قال ابن عميرة: فقيه محدث راوية، عارف أديب، انتقل إلى مرسية في الفتنة واقتنع ولم يتعرض لظهور، وكان قد غص به جماعة من الفقهاء بمرسية حين وصلها، فسعى له في الخطبة بجامع قليوشة من قرى مدينة أوريوالة، وانتقل إليها، سمعت عليه بعض كتاب الموطأ، يروي عنه جماعة، منهم أبو الحسن بن مغيث والحافظ أبو بكر وأبو الوليد بن رشيد، وأجاز له أبو الحسن رزين بن معاوية العبدري، وتوفي سنة 560. وكان مولده سنة 472 ببلده ا.ه. قلت: قرأت في بعض الكتب أن القاضي أبا يوسف كان محدثا، فلما اتصل بهارون الرشيد تحامى الناس سماع حديثه.
وخلف بن سيد من أهل الثغر الشرقي يحدث عن عيسى بن موسى بن الإمام لقيه بتطلية، وأخذ عنه.
وخلف بن موسى بن فتوح المقرئ، يكنى أبا القاسم، ويعرف بالأشبري، وأشبرة قرية من قرى سرقسطة. كان مقرئا، أخذ عنه أبو علي بن بشر السرقسطي وغيره، ذكره ابن الدباغ، عن ابن الأبار. وأبو عبد الله محمد بن فتح الأنصاري الإمام الثغري، قال أبو عمرو المقرئ أنشدني أبياتا في الزهد منها:
كم من قوي قوي في تقلبه
مهذب الرأي عنه الرزق ينحرف
ومن ضعيف ضعيف الرأي مختبل
كأنه من خليج البحر يغترف
وغالب بن عبد الله الثغري، شاعر أديب، ذكره ابن عميرة.
وأبو القاسم خلف بن عيسى، من أهل الثغر الشرقي، وليس بابن أبي درهم، روى عن أبي عمر بن الهندي، وأبي عبد الله بن العطار. ذكره ابن الأبار. ومحمد بن سعيد بن ثابت العبدري، من أهل الثغر الشرقي، أبو عبد الله، حدث عنه أبو زاهر سعيد بن أبي زاهر، وكان صاحب الصلاة بموضعه. ذكره ابن الأبار نقلا عن ابن حبيش. وأبو عبد الله محمد بن فرج بن جعفر بن خلف القيسي، من أهل الثغر الشرقي، سكن غرناطة، يعرف بابن أبي سمرة، أخذ القراءات عن أبي جعفر أحمد بن عبد الحق الخزرجي، وأبي القاسم بن النحاس، وأبي الحسن بن كرز وغيرهم. ودرس العربية ولقيه أبو عبد الله بن حميد بغرناطة سنة 535 ذكره ابن الأبار.
وممن ينسب إلى سرقسطة من المشاهير، وإن لم يكن من أهل العلم: إبراهيم بن محمد بن مفرج بن همشك، وهمشك جده نصراني أسلم على يد بني هود بسرقسطة وكان مقطوع إحدى الأذنين، فكان النصارى إذا رأوه في القتال قالوا (همشك) معناه ترى مقطوع الأذنين، فإن (هاء) عندهم قريب من (أما) بالعربية. والمشك في لغتهم هو المقطوع الأذنين.
وإبراهيم هذا لما خرج بنو هود من سرقسطة نشأ تحت الخمول. قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة في صفحة 160 من الطبعة المصرية: إنه كان شهما متحركا خدم بعض الموحدين بالصيد وتوسل بدلالة الأرض، ثم نزع إلى ملك قشتالة، واستقر مع النصارى، ثم انصرف إلى بقية اللمتونيين بالأندلس، بعد شفاعة وإظهار توبة. ولما ولي يحيى بن غانية قرطبة ارتسم لديه برسمه، ثم كانت الفتنة عام تسعة وثلاثين.
وثار ابن أحمر بقرطبة، وتسمى بأمير المؤمنين، فبعثه ابن غالية رسولا، ثقة بكفايته ودربته، لمحاولة الصلح بينه وبين ابن أحمر، فنبه قدره.
ثم غلي مرجل الفتنة وكثر الثوار بالأندلس، فاتصل بالأمير ابن عياض بالشرق وغيره، إلى أن تمكن له الامتياز بحصن شقوبش، ثم تغلب على مدينة شقورة
4
وتملكها، وهي ما هي من النمة، فغلظ أمره، وساوى محمد بن مردنيش أمير الشرق، وداخله حتى عقد معه صهرا على ابنته، فاتصلت له الرئاسة والإمارة، وكان سيفا لصهره المذكور مسلطا على من عصاه، فقاد الجيوش، وافتتح البلاد، إلى أن فسد بينهما، فتفاتنا وتقامعا، وانحاز بما لديه من البلاد والمعاقل، وعد من ثوار الأندلس أولي الشوكة الحادة، والشبا المرهوب، بعد انقباض دولته. قال محمد بن أيوب بن غالب، المدعو بابن حمامة: أبو إسحاق الرئيس شجاع بهمة من البهم، كان جريئا شديد الحزم، سديد الرأي، عارفا بتدبير الحروب، حمي الأنف عظيم السطوة، مشهورا بالإقدام، مرتكبا للعظيمة. قال بعض من عرف به من المؤرخين: إنه وإن كان قائد فرسان، فقد كان حليف فتنة وعدوان، ولم يصحب قط متشرعا، ولا نشأ في أصحابه من كان متورعا، سلطه الله على الخلق وأملى له، فأضر بمن جاوره من أهل البلاد. وقال لسان الدين: كان جبارا قاسيا، فظا غليظا، شديد النكال، عظيم الجرأة والعبث بالناس، بلغ من عبثه فيهم إحراقهم بالنار، وقذفهم من الشواهق والأبراج، وإخراج الأعصاب والرباطات عن ظهورهم، عن أوتار القسى، وضم أغصان الشجر العادي بعضها إلى بعض، وربط الإنسان بينها، ثم تسريحها فيذهب كل غصن بحظه من الأعضاء. قال: ورآه بعض الصالحين في النوم وسأله: ما فعل الله بك فأنشده:
من سره العيث في الدنيا بخلقة من
يصور الخلق في الأرحام كيف يشا
فليصبر اليوم صبري تحت بطشته
مغللا أمتطي جم الغضا فرشا
ثم ذكر لسان الدين شجاعته فقال: زعموا أنه خرج متصيدا، وفي صحبته محاولون له، وقارعوا أوتار الغناء في مائة من الفرسان، فما راعهم إلا خيل العدو هاجمة على غرة، في مائتين من الفوارس، فقالوا: العدو في مائتي فارس! فقال: وإذا كنتم لمائة وأنا لمائة فنحن قدرهم. فعد نفسه بمائة، ثم استدعى قدحا من شرابه وصرف وجهه إلى المغني وقال: غن لي تلك الأبيات، وكان يغنيه بها فتعجبه:
يتلقى الندى بوجه حياء
وصدور القنا بوجه وقاح
هكذا هكذا تكون المعالي
طرق الجد غير طرق المزاح
فغناه بها، واستقبل العدو وحمل عليه بنفسه وبأصحابه حملة رجل واحد، فاستولت على العدو الهزيمة، وأتى على معظمهم القتل، ورجع غانما إلى بلده، ثم انصرفت الأيام، وعاد للصيد في موضعه، وأطلق بازه على حجلة فأخذها، وذهب ليذبحها، فلم يحضره خنجر، فبينما هو يلتمسه إذ رأى نصلا من نصال المعترك، من بقايا الهزيمة فأخذه وذبح الطائر، واستدعى الشراب وأمر المغني فغناه بيتي أبي الطيب:
تذكرت ما بين العذيب وبارق
مجر عوالينا ومجرى السوابق
وصحبة قوم يذبحون قنيصهم
بفضلة ما قد كسروا في المفارق
وقد رأيت من يروي هذه الحكاية عن أحد أمراء بني مردنيش، وعلى كل حال فهي من مستظرف الأخبار.
قال لسان الدين: وفي سنة ست وخمسين وخمسمائة، في جمادى الأولى منها، قصد إبراهيم بن همشك بجمعه مدينة غرناطة، وداخل طائفة من ناسها، وقد تشاغل الموحدون بما دهمهم من اختلاف الكلمة عليهم، وتوجه الوالي بغرناطة السيد أبو سعيد إلى العدوة، فاقتحم ابن همشك غرناطة ليلا، واعتصم الموحدون بقصبتها فنصب لهم المجانيق، وقتلهم بأنواع من القتل، وعندما اتصل الخبر بالسيد أبي سعيد بادر إليها، فأجاز البحر، والتف به السيد أبو محمد، والسيد أبو حفص، بجميع جيوش الموحدين، ووصل الجميع إلى ظاهر غرناطة، وأصحر إليهم ابن همشك، وبرز منها، والتقى الفريقان بمرج الرقاد من خارجها، ودارت بينهم الحرب، فانهزم جيش الموحدين، واعترضت الفل تخوم الفدادين، وجداول الماء التي تتخلل المرج، فاستولى عليهم القتل، وقتل في الوقيعة السيد أبو محمد، ولحق السيد أبو سعيد بمالقة، وعاد ابن همشك إلى غرناطة، فدخلها بجملة من أسرى القوم أفحش فيهم المثلة، بمرأى من إخوانهم المحصورين.
واتصل الخبر بالخليفة، وهو بقرية سلا، فجهز جيشا أصحبه السيد أبا يعقوب ولده والشيخ أبا يوسف بن سليمان زعيم وقته، وداهية زمانه، فأجازوا البحر، والتقوا بالسيد أبي سعيد بمالقة، وتتابع الجمع، والتف بهم من المجاهدين والمطوعة، واتصل منهم السير إلى قرية داق من قرى غرناطة. وكان من استمرار الهزيمة على ابن همشك، لذي جزء لنفسه وجيشه من نصارى وغيرهم ما يأتي ذكره عند اسم مردنيش. ثم قال:
ولما فسد بين ابن همشك وابن مردنيش بسبب بنته التي كانت تحت ابن مردنيش فطلقها، وانصرفت إلى أبيها، وأسلمت إليه ابنها، وسئلت عن إمكان صبرها عنه، فقالت: جرو سوء من كلب سوء! فأرسلت كلمتها في نساء الأندلس مثلا - اشتدت بينهما الفتنة، وعظمت المحنة، وهلك بينهما من شاء الله هلاكه، إلى أن كان أقوى الأسباب في تدمير ملكه.
ولما صرف ابن مردنيش عزمه إلى بلاده، وتغلب على كثير منها، خدم ابن همشك الموحدين، واستجار بهم، وقدم على الخليفة عام خمسة وستين وخمسمائة، فأكرم قدومه، وأقره بمواضعه، إلى أوائل عام أحد وسبعين، فطولب بالانصراف إلى العدوة بأهله وأولاده، وسكن بمكناسة، وأقطع بها أملاكا لها خطر.
وابتلاه الله بفالج غريب الأعراض، فكان يدخل الحمام الحار فيشكو حره بأعلى صراخه ، فيخرج فيشكو البرد كذلك، إلى أن مضى لسبيله، انتهى ببعض تصرف.
وممن ينسب إلى سرقسطة عمر بن مصعب بن أبي عزير بن زوارة بن عمرو بن هاشم العبادي، وقيل العبدري، ذكره ابن عميرة في بغية الملتمس، نقلا عن ابن يونس. وأبو الحكم المنذر بن رضا السرقسطي، سكن بلنسية، وكان من الشعراء. ومظفر الكاتب السرقسطي، خرج من سرقسطة، وسكن غرناطة، وكنيته أبو الفرج، أخذ عن قاسم بن محمد الشيباني، وأبي عمر القسطلي، وصحب أبا بكر المصحفي، ذكره ابن الأبار.
ونسب إلى سرقسطة حكماء وعلماء من اليهود، ومن مشاهيرهم ابن الفوال
5
الطبيب الفيلسوف. ومنهم الفضل حمداي
6
المشهور بالحكمة والرياضيات.
وممن سكن في سرقسطة من الأطباء أبو عبد الله بن الكتاني، وهو من أطباء المسلمين، ترجمه ابن أبي أصيبعة فقال: هو أبو عبد الله محمد بن الحسين المعروف بابن الكتاني، كان أخذ الطب عن عمه محمد بن الحسين وطبقته، وخدم به المنصور بن أبي عامر، وابنه المظفر، ثم انتقل في صدر الفتنة إلى مدينة سرقسطة، واستوطنها، وكان بصيرا بالطب، متقدما فيه، ذا حظ من المنطق والنجوم، وكثير من علوم الفلسفة. قال القاضي صاعد: أخبرني عنه الوزير أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن وافد اللخمي أنه كان دقيق الذهن، ذكي الخاطر، جيد الفهم، حسن التوحيد والتسبيح، وكان ذا ثروة وغنى واسع، وتوفي قريبا من سنة عشرين وأربعمائة، وهو قد قارب ثمانين سنة. قال: وقرأت في بعض تآليفه أنه أخذ صناعة المنطق عن محمد بن عبدون الجبلي، وعمر بن يونس بن أحمد الحراني، وأحمد بن جفصون الفيلسوف، وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم القاضي النحوي، وأبي عبد الله محمد بن مسعود البجائي، ومحمد بن ميمون المعروف بمركوس، وأبي القاسم فيد بن نجم، وسعيد بن فتحون السرقسطي، المعروف بالحمار، وأبي الحارث الأسقف، تلميذ الربيع بن زيد الأسقف الفيلسوف، وأبي مرين البجائي، ومسلمة بن أحمد المرجيطي.
وقد ترجم ابن أبي أصيبعة عالما من علماء الأندلس، وطبيبا من أطبائها، اسمه ابن بكلارش، كان يهوديا ، قال إنه خدم بصناعة الطب بني هود، وله من الكتب كتاب «المجدولة في الأدوية المفردة» وضعه مجدولا، وألفه بمدينة المرية للمستعين بالله أبي جعفر أحمد بن المؤتمن بالله بن هود.
ولا شك في أنه ليس من ذكرناهم هم جميع الذين نبغوا من أهل سرقسطة في العلم والأدب، بل مهما استقصى الإنسان فلا بد من أن يفوته تراجم كثيرة، إما سهوا منه أو من المؤلفين الذين أخذ عنهم، وهذا هو الشأن في كل مدينة حاولنا أن نذكر من خرج منها من العلماء والأدباء.
هذا وفي سرقسطة صدر الأمر من فيليب الثاني ملك أسبانية بإخراج الموريسك أي المسلمين الذين أكرهوا على التنصر، ولبثوا يضمرون الإسلام في قلوبهم، وكان لا يزال منهم عدة ألوف في بلاد أراغون وفي سائر أسبانية، وكان منهم عدد غير قليل في سرقسطة وبرشلونة، وفي مدن قشتالة، وقلما خلت منهم بلدة. فلما صممت الدولة الأسبانية على إخراجهم جميعا من البلاد، بحجة أنهم لا يزالون مسلمين في الباطن، اعترض على ذلك كثيرون من الأهالي، لاسيما أصحاب الأراضي، وقدموا وأخروا، وقالوا لذلك: إن بعض البلاد ستصبح قاعا صفصفا إذا خرج الموريسك منها، فأبى الملك إلا إنفاذ أمره الذي صدر في 23 مايو سنة 1610.
وبمقتضى هذا الأمر كان يجب اجتماع جميع الموريسك ليأتي المعتمد الخاص من قبل الحكومة، ويسير بهم إلى الثغر البحري، الذي سيخرجون منه، وقد جاء في هذا الأمر أن الموريسكي الذي يكون متزوجا بمسيحية أصلية يجوز بقاء امرأته وأولاده، إذا شاءوا البقاء في البلاد. وكذلك المسيحيون الأصليون المتزوجون بموريسكيات إذا أرادوا هم ونساؤهم البقاء في البلاد فلهم ذلك. وكذلك الموريسك الذين تحقق أنهم ارتدوا عن الإسلام ارتدادا صحيحا لا شائبة فيه، فهؤلاء لهم أيضا حق البقاء.
فخرج من الموريسك بضعة عشر ألفا، بطريق نبارة إلى فرنسة. وخرج بضعة عشر ألفا إلى ميناء كمفرنش، والتحقوا ببلاد الإسلام.
وتاريخ المويسك بتفاصيله سنأتي به في جزء خاص، بعد الانتهاء إن شاء الله من جغرافية الأندلس، وتاريخ الدول الإسلامية فيها.
ومن توابع سرقسطة حصن يقال لها شميط، بضم فكسر، ذكره ياقوت في المعجم، وحصن آخر يقال له «قشب»
7
بفتح فسكون. قال ياقوت: حصن من قطر سرقسطة ينسب إليه أبو الحسن نفيس بن عبد الخالق بن محمد الهاشمي القشبي المقرئ، جاور بمكة مدة، قال أبو طاهر السلفي: وقرأ علي بعد رجوعه من مكة وتوجه إلى الأندلس. ومن حصون سرقسطة الحصن المسمى قشتلار
Castellar
وبلدة يقال لها «ألاغون» وبلدة أخرى اسمها «منزلباربا» وبلدة أخرى اسمها برجة. وهي مدينة قديمة سكانها اليوم ستة آلاف نسمة إلى الشمال الغربي من سرقسطة، وهي تناوح شارات مونكايو
Moncayo ، وقد كانت برجة من البلاد المعروفة في زمن العرب. ونبغ فيها أناس من أهل العلم، ومنهم من سكن سرقسطة، وقد تقدم ذكر أحدهم، وهي غير برجة التي هي من أعمال البيرة، فإن برجة سرقسطة هي بضم أولها كان يلفظها العرب كما يلفظها الإسبانيول اليوم
boya
8
وأما برجة البيرة فهي بفتح أولها.
هوامش
الفصل الثاني والثلاثون
تطيلة
وعلى مسافة 78 كيلومترا من سرقسطة مدينة تطيلة، واقعة على الضفة اليمنى من أبره. ولها هناك جسرا 19 قوسا، وسكان هذه المدينة اليوم نحو من عشرة آلاف. ولكنها كانت عظيمة في أيام العرب.
قال ياقوت الحموي في المعجم: تطيلة بالضم ثم الكسر وياء ساكنة ولام: مدينة بالأندلس في شرقي قرطبة، تتصل بأعمال أشقة، هي اليوم بيد الروم
1
شريفة البقعة، غزيرة المياه، كثيرة الأشجار والأنهار، اختطت في أيام الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. وقال أبو عبيد البكري: كان على رأس الأربعمائة بتطيلة امرأة لها لحية كاملة كلحية الرجال، وكانت تتصرف في الأسفار كما يتصرف الرجال، حتى أمر قاضي الناحية القوابل بامتحانها فأجبن عن ذلك، فأكرهنها فوجدوها امرأة، فأمر بحلق لحيتها، ولا تسافر إلا مع ذي محرم. وبين تطيلة وسرقسطة سبعة عشر فرسخا، وينسب إليها جماعة، منهم أبو مروان إسماعيل بن عبد الله التطيلي اليحصبي وغيره. انتهى .
هوامش
الفصل الثالث والثلاثون
من انتسب إلى تطيلة من أهل العلم
عبد الله بن محمد الفهري كانت له رحلة، نقل ابن الأبار القضاعي عن ابن حبيش قال: كان عالما فاضلا، صالحا دينا، من الحفاظ المتقدمين. وأبو عبد الله بن محمد بن عيسى بن القاسم الصدفي، سكن بآخرة مدينة فاس، سمع أبا علي بن سكرة الصدفي، ولازم مجلسه لسماع الحديث، ومسائل الرأي، وكان فقيها عارفا بالوثائق، أديبا شاعرا، استكتبه ابن الملجوم في قضائه بمكناسة، واستخلفه، وتوفي سنة 529، عن ابن الأبار. وأبو حفص عمر بن محمد بن إسماعيل الزاهد المعروف بالترفي، روى بالمشرق عن أبي القاسم بن الصقلي، توفي سنة 379.
وسكن تطيلة من العلماء عبد الرحمن بن الحسين، روى عن عبد الله بن محمد بن يحيى ابن عبد العزيز بن الخراز صاحب الصلاة بقرطبة. وأبو عبد الله محمد بن عيسى المعروف بابن لبريلي من أهل تطيلة وقاضيها. له رحلة إلى المشرق حج فيها سنة 381، ولقي مشيخة المصريين، وأخذ عنهم، وكان موصوفا بالعلم والصلاح، والعفة والشجاعة، والجهاد بثغره. وخرج مع المهدي محمد بن هشام لنصرته، فقتل بعقبة البقر، في صدر شوال سنة 400، عن ابن بشكوال.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد بن موسى بن نعم الخلف الرعيني، من أهل تطيلة، سمع بسرقسطة من القاضي أبي الوليد الباجي، وكان قد رحل حاجا فلقي بمكة أبا معشر الطبري، وبالإسكندرية أبا الفتح السمرقندي، وكان مولده سنة 443، وتوفي سنة 507 في أوريولة، قاله ابن بشكوال. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن مطرف البكري، يروي عن أبي العباس أحمد بن أبي عمر المقري، وأبي الوليد الباجي، وأبي علي بن المبشر، والحصري وغيرهم، توفي بالميرته سنة 521، عن ابن بشكوال. ووليد بن خطاب بن محمد، سمع من أبي بكر التجيبي وغيره، وله رحلة إلى المشرق كتب فيها عن أبي سعيد الماليني، وعن جماعة سواه. وكانت له عناية بالحديث وكان ثقة، رواه ابن بشكوال. وأبو بكر يحيى بن زكريا بن محمد الزهري القرشي، روى ببلدة تطيلة عن عبد الله بن بسام وغيره، وحدث عنه الصاحبان وقالا: كان رجلا صالحا، رحمه الله.
وأبو الحسن داود بن إسماعيل المكتب، حكى عنه أبو عمرو البلجيطي
1
ترجمه ابن الأبار وأبو جعفر أحمد بن علي بن غزلون الأموي، روى عن أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، وهو معدود من كبار أصحابه، وكان من أهل الحفظ والذكاء، وتوفي بالعدوة في نحو 520 قاله ابن بشكوال. وحوشب بن سلمة، قال ابن عميرة: تطيلي منسوب إلى بلدته، ولي قضاءها، ومات بها في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن.
وأبو الوليد حيون بن خطاب بن محمد، يروي عن أبي العاصي حكم بن إبراهيم المرادي، وأبي محمد بن ارفع رأسه، وسهل بن إبراهيم الأستجي وابن الهندي وابن العطار، وله رحلة إلى المشرق حج بها، ولقي الداودي والقابسي، والبراذعي، وله كتاب جمع فيه أسماء الرجال الذين لقيهم، حدث عنه محمد بن سمعان الثغري.
وزكريا بن الخطاب بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن حزم الكلبي محدث، من أهل تطيلة، رحل إلى المشرق حاجا سنة 293، فسمع بمكة كتاب النسب للزبير بن بكار، من الجرجاني، وروى موطأ مالك بن أنس، رواية أبي المصعب الزهري، فكان الناس يأتون إلى تطيلة للسماع منه. وعمر بن يوسف بن موسى بن فهد بن خصيب بن الإمام، تطيلي، توفي سنة 337. ونعم الخلف بن أبي الخصيب، يكنى أبا القاسم، من أهل تطيلة، كان محدثا، شاعرا، زاهدا، مرابطا، غازيا، قتل شهيدا سنة 398، ذكره ابن عميرة في بغية الملتمس. وعامر بن مؤمل، بالميم، وقيل موصل، بالصاد، ابن إسماعيل بن عبد الله بن سليمان بن داود بن نافع اليحصبي، يكنى أبا مروان، محدث من أهل تطيلة، مات في أيام الأمير عبد الله بن محمد الأموي. ومحمد بن علي بن محمد بن شبل بن كليب بن معشر بن عبد الله القيسي. وسعيد بن هارون بن عفان بن مالك بن عبد الله، اليحصبي التطيلي محدث، له رحلة. ذكره محمد بن حارث الخشني عن ابن عميرة.
وإلى الشمال من تطيلة مدينة «الفاره».
2
هوامش
الفصل الرابع والثلاثون
طرسونة
وإلى الجنوب الغربي من تطيلة مدينة طرسونة
Tarazona
على مسافة 22 كيلومترا. واسمها كان عند الرومانيين تورياسو
Turiaso ، سكانها اليوم ثمانية آلاف نسمة ، وفيها كنيسة من بناء القرن الثاني عشر، وقد كانت طرسونة من المدن العربية المعروفة، قال ياقوت في المعجم: بينها وبين تطيلة أربعة فراسخ، معدودة في أعمال تطيلة؛ كان يسكنها العمال ومقاتلة المسلمين إلى أن تغلب عليها الروم، فهي في أيديهم إلى هذه الغاية
1
انتهى. ومن طرسونة إلى شورية
Soria
67 كيلومترا.
شكل 53-1: انكسار جيش شارلمان في باب الشرزي من جبال البرانس.
هذا وينسب إلى طرسونة بعض أهل العلم، منهم أبو إسحاق بن يعلى الطرسوني
2
ثم مدينة كشيجون
Cacijon
على مسافة 94 مترا من سرقسطة، وقصبة «أوليت»
Oliete ، وسكانها نحو من ألفي نسمة، وقصبة طفالة
Tafalla
سكانها خمسة آلاف نسمة، وعلى 88 كيلومترا من سرقسطة بنبلونة الشهيرة، وقد تقدم ذكرها في أثناء الكلام على جبال البيرانس، والإسبانيول يكتبونها بالميم بعد الفاء الفارسية، أي باميلونة، ولكن العرب يكتبونها بالنون، لأنهم لا يأتون بالميم بعد الباء، وإنما يأتون بالنون. وسكان بنبلونة نحو من ثلاثين ألفا، وهي واقعة على ضفة نهر أرقة
Arga
ويحيط بها سور قديم بناها بوسي
الروماني، فانتسبت إليه، وصارت تسمى بومبايلو
ثم تحرفت إلى اسمها الحالي بنبلونة، وكان استيلاء القوط على هذه البلدة سنة 476 للمسيح، ثم في سنة 542 استولى عليها الإفرنج، ثم في سنة 578 جاءها العرب، واستولوا عليها مدة غير طويلة. ومن سنة 905 صارت قاعدة مملكة نبارة
Navarra ، ثم استولى عليها القشتاليون سنة 1512، وفي حصارها جرح أينيقولوبيس ريكالد الذي بعد أن كان قائد عسكر ترهب وأقلع عن الدنيا، وصار هو القديس أغناطيوس لويولا
Loyola
مؤسس الرهبانية اليسوعية.
شكل 53-2: صورة أحد أبواب بنبلونة.
شكل 53-3: صورة باب الكنيسة الكبرى بنبلونة
وفي بنبلونة كنيسة كبرى بدأ بناءها كارلس الثالث ملك نبارة سنة 1397، وفي الزاوية الجنوبية الغربية من الكنيسة شبكة حديدية أصلها سلسلة، كانت تحيط بسرادق الناصر سلطان الموحدين، أخذت منه في الهزيمة الكبرى التي وقعت على المسلمين في وقعة العقاب التي يقول لها الأسبان «لاس نافاس دو طولوزه»
Les Novas de Tolosa .
ومن بنبلونة يصعد السائح إلى جبال البيرانس، وغير بعيد من هناك مضيق رونسقو، ويقال له أيضا رونسفال
Roncevalles
الذي انهزمت فيه ساقة شارلمان وهو قافل من سرقسطة، ويقول له العرب باب الشزري.
ومن بنبلونة إلى سان سبتيان 93 كيلومترا بسكة الحديد. وفي هذه المسافة يقع الخط الحديدي الحد الذي كان فاصلا بين قشتالة الديمة ونبارة. ومن مدن تلك البلاد «الفارة» وسكانها ستة آلاف، ثم «كلهره» وهي مدينة أيبيرية قديمة سكانها عشرة آلاف، واقعة على نهر سيداكوس
Cidacos
وكان اسمها في القديم كالاغوريس ناسيكا
Calagurris Nassica
وفيها كنيسة قديمة جدا فيها عظام بعض شهداء النصرانية. ومن كلهره إلى شورية 99 كيلومترا. وأما الأرض القفر المسماة سولانا
Solana
فتمتد من الأبره إلى أرقة
Arga .
ومن المدن المجاورة لنهر سيداكوس قصبة يقال لها أرنيدو
Arnide
3
ثم بلدة يقال لها لودوسا
Lodosa
فيها كهوف كانت مساكن، ثم بلدة يقال لها آغون سيلو وفيها حصن بأربعة أبراج، ثم مدينة لوكرونتو
Logrono
وكان العرب يقولون لها «لوكروني» وهي بلدة سكانها خمسة عشر ألفا، معدودة من قشتالة القديمة. ومن لوكروني مسافة 25 كيلومترا إلى ناجرة، وهذه بلدة قديمة كان لها شأن في القديم، وفيها قصر كان يسكنه الملوك في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وعلى 19 كليومترا إلى الغرب من ناجره، على طريق برغش، بلدة يقال لها سانتو دومنقه قلصادة. وهي التي ينسب إليها الإمام القلصادي المار الذكر
Santo Domingo de la Calzada
وفيها أربعة آلاف نسمة، ومن لوكروني مسافة قصيرة إلى بلدة استله
Estella .
وقد ورد ذكر ناجره في كتب العرب، قال ياقوت: ناجرة بكسر الجيم، والراء مهملة. مدينة في شرقي الأندلس من أعمال تطيلة، هي الآن بيد الإفرنج، وإلى اليمين من نهر أبره توجد جبال وعرة في وسط الحقول، وذلك عن بلدة «فون مابور»
Fuenmayor
وعندها قنطرة على أبره، ثم بلدة «غوارديه» وأما بلدة هارو
Haro
فهي من ناحية «ريوجه»
Rioja
وسكانها ثمانية آلاف نسمة، وبالقرب منها وادي ميرندة.
ومن سرقسطة يمر الخط الحديدي على الضفة اليمنى من نهر جلق، فعلى مسافة ثمانية كيلومترات يصل إلى بلدة يقال لها «سان جوان موزاريفار» وبالقرب منها بلدة أخرى اسمها «فيلا نوفة » ثم بلدة «زويرة» ثم قصبة يقال لها المدور، سكانها ثلاثة آلاف فيها حصن قديم، ثم بلدة تسمى «تاردينتة»
Tardienta .
ثم مدينة وشقة وهي بلدة في غاية القدم، سكانها اليوم ثلاثة عشر ألفا، لا يزيدون وهي على رابية مشرفة على سهل الهوية
La Hoya ، وكان يقال لهذه البلدة لعهد الرومانيين أوسكا
Osca
وكان سرطوريوس لذلك العهد أسس فيها مدرسة لشبان الأيبيريين. وقد فتح العرب وشقة في ما فتحوه من المدن عندما استولوا على سرقسطة أي في سنة 96 للهجرة، وفق 713، وفي الأنسيكلوبيدية الإسلامية ينقل عن المستشرق قديرة: أن وشقة كانت مركز مقاطعة مستقلة في نواحي سنة 301، لعهد أميرها محمد بن عبد الملك الطويل، وبقيت في يد العرب إلى سنة 1096، من التاريخ المسيحي، فاسترجعها الأسبان، وجعلوها قاعدة مملكة أراجون، وبقيت كذلك إلى سنة 1118، إذ نقلوا مركز الحكم إلى سرقسطة نفسها بعد أن أخرجوا العرب منها.
أما ياقوت الحموي فقال عن وشقة، بفتح أوله، وسكون ثانيه والقاف: بليدة بالأندلس ينسب إليها طائفة من أهل العلم منهم حديدة بن الغمر، له رحلة. وإبراهيم بن عجبيس بن أسباط بن أسعد بن عدي الزيادي الوشقي، كان حافظا للفقه، واختصر المدونة، له رحلة سمع فيها من يونس بن عبد الأعلى، ومات سنة 275. عن ابن الفرضي. وابنه أحمد، سمع من أبيه. وتوفي سنة 322 انتهى.
هوامش
الفصل الخامس والثلاثون
من انتسب إلى وشقة من أهل العلم
خالد بن أيوب أبو عبد السلام، محدث من أهل وشقة. ذكره ابن يونس ونقل ذلك ابن عميرة.
وأبو الحزم خلف بن عيسى بن سعيد الخير، المعروف بابن أبي درهم القاضي من أهل مدينة وشقة، محدث له رحلة، قال الحميدي: ورأيت في نسبه زيادة بخط ابن ابنه القاضي أبي عبد الله يحيى بن القاضي أبي الإصبغ عيسى ابن القاضي ابن الحزم خلف بن عيسى بن سعيد الخير بن أبي درهم بن وليد بن ينفع بن عبد الله التجيبي، سمع بالأندلس أبا عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى بن يحيى، وأبا بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز ، وأبا زكريا يحيى بن سليمان بن هلال بن بطرة، وبمصر من أبي محمد الحسن بن رشيق وطبقته. روى عنه أبو الوليد هشام بن سعيد الخير بن فتحون الكاتب، حدث عنه بالموطأ رواية يحيى بن يحيى. ذكره ابن عميرة.
وأبو عثمان سعد بن سعيد بن كثير المرادي محدث، وشقي، سمع من محمد بن يوسف بن مطروح وطبقته، مات في صفر سنة 306. ذكره ابن عميرة، وكان ابنه سعيد أيضا من أهل العلم. وصالح بن محمد المرادي أبو محمد يعرف بابن الوركاني، وشقي محدث، مات بالأندلس سنة 302، ذكره ابن عميرة.
وعبد الله بن حسن بن السندي، وشقي، توفي سنة 335، عن ابن عميرة.
وعبد الله بن وهب، وشقي محدث، مات سنة 301. عن ابن عميرة.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن إبراهيم بن عجنس بن أسباط الزيادي، من أهل وشقة، مات سنة 314، عن ابن عميرة.
وعبد السلام بن وليد، ولي قضاء وشقة في أيام الأمير الحكم بن هشام الأموي، قال ابن عميرة: ذكره ابن يونس.
وأبو عثمان بن محمد، من أهل وشقة، مات سنة 307، ذكره ابن عميرة.
وهشام بن سعيد الخير بن فتحون، أبو الوليد الكاتب، قال الحميدي: أظن أصله من وشقة، محدث جليل، سمع بالأندلس، ورحل إلى الحج، فسمع بطريقه في القيروان، وبمصر، وبمكة، من جماعة، ورجع إلى الأندلس، فحدث بها، وسمعنا منه. فمن شيوخه بالأندلس القاضي أبو الحزم خلف بن عيسى بن سعيد الخير الوشقي، المعروف بابن أبي درهم، وأبو مهدي عبد الله بن أحمد بن فترى. ومن شيوخه بالقيروان أبو عمران الفاسي، وأبو إسحاق المكناسي، وعتيق بن إبراهيم، وابن عياش الأنصاري، وابن الحواص. ومن شيوخه بمصر عبد الجبار بن عمر، وأبو العباس بن منير، وأحمد بن محمد بن الحاج الأشبيلي. ومن شيوخه بمكة أبو محمد بن فراس الأطروش، وأبو بكر ابن الأسفرائيني، وأبو العباس بن بندار الرازي، وأبو الحسن بن بندار القزويني، وأبو بكر بن الحسن الصقلي، وأبو محمد مكي بن عيسون، وأبو عبد الله محمد بن سهلان الواسطي. وكان أبو الوليد جميل الطريقة منقطعا إلى الخير، مات بعد الثلاثين وأربعمائة.
وأبو عمر يوسف بن مروان بن عيشون المعافري، قال ابن عميرة: وهو وشقي، يروي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وطبقته، ويعرف أهل بيته بوشقه ببني المؤذن، مات بالأندلس سنة 309. وأبو محمد عبد الله بن محمد بن غالب الواشقي القاضي، حدث عن أبي هارون موسى بن هارون بن خلف بن أبي درهم، قال ابن الأبار في التكملة: قرأت ذلك بخط ابن الصيقل المرسي. وأبو محمد بن سعدون بن مجيب بن سعدون بن حسان التميمي الضرير، من أهل وشقة، سكن بلنسية، أخذ القراءات عن أبي المطرف بن الوراق، وأبي جعفر عبد الوهاب بن حكم الوشقي، وأبي القاسم خلف بن أفلح الأموي، وأبي داود المقرئ، وأبي الحسن بن الدوش، وتصدر للإقراء بجامع بلنسية، قال ابن الأبار: وكان من أهل التجويد والتعليل، والضبط والإتقان لهذا الشأن، مشاركا في العربية، وكان يعلم بها، أخذ عنه أبو الربيع بن حوط الله، وأبو العطاء بن نذير، وأبو الوليد بن بسام اللاردي، وغيرهم، وقفت على ذلك، وتوفي قبل الأربعين وخمسمائة. وأبو المطرف عبد الرحمن بن موسى بن خلف بن عيسى بن سعيد الخير بن وليد بن ينفع بن أبي درهم التجيبي، روى عن أبيه أبي هارون وعن غيره، وولي قضاء بلده وشقة وراثة عن سلفه، حدث، وأخذ عنه، قال ابن الأبار: وقفت على ذلك بتاريخ شوال من سنة إحدى وخمسمائة. وأبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن حيات الأنصاري المقرئ من أهل وشقة، نزل سرقسطة، يعرف بابن قرايش، أخذ القراءات عن أبي إسحاق بن دخنيل، وأبي داود المقرئ، وأبي الحسن بن الدوش، وأبي تمام القطيني، وتصدر للإقراء بسرقسطة، وكان مقرئا ماهرا، نحويا حافظا، أخذ عنه أبو الطاهر الأشتركوي، وأبو مروان بن الصيقل. وأبو عمر البلجيطي، وغيرهم، قال ابن الأبار: وتوفي شهيدا بسرقسطة، في الكائنة على أبي عبد الله بن الحاج المتوفى بها سنة 503، وتسمى سنة المرج. قال: بعضه عن ابن حبيش، وسائره عن ابن عياد.
وأبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن قاسم التجيبي، من أهل وشقة، سكن المرية، أخذ القراءات بقرطبة عن أبي جعفر الخزرجي، وأخذ عن أبي القاسم بن النحاس قراءة نافع خاصة، وتصدر بجامع المرية للإقراء، وأخذ عنه الناس، ومن المختصين به أبو العباس البلنسي. قال ابن الأبار: لازمه إلى سنة 527، وأخذ عنه أيضا أبو محمد الشمنتي المقرئ، ذكر ذلك ابن عياد. وأبو مروان عبد الملك بن سلمة بن عبد الملك بن سلمة الأموي، مولاهم، من أهل وشقة، يعرف بابن الصيقل أخذ القراءات عن أبي المطرف بن الرزاق، وأبي زيد بن جهات، وأبي الحسن بن شفيع، وغيرهم.
ولقي أبا محمد بن عتاب، وأبا الوليد بن رشد، وأبا بحر الأسدي، وأبا الحسن بن الأخضر، وأبا عبد الله الموروري، وأبا علي الصدفي، وأبا بكر بن العربي، وأبا عبد الله بن الحاج، وأبا القاسم بن ثابت، قاضي سرقسطة، وأبا محمد الركلي، وأبا محمد البطليوسي، وغيرهم. وأجاز له بعضهم. وقال أبو عبد الله بن عياد: له إجازة من ابن عتاب، وابن رشد، وأبي بحر، ولم ينص على سماعه منهم. قال ابن الأبار: وهو صحيح. وتصدر ببلنسية لإقراء القرآن والنحو والأدب سنين جملة، وكان مشاركا في فنون، فقيها، أديبا، فصيحا، مع الضبط والإتقان. حدث عنه أبو عمر بن عياد وأبو جعفر بن نصرون، وأبو بكر بن هذيل، وشيخنا أبو عبد الله بن نوح وغيرهم، وتوفي بالمرية، منصرفه من العدوة سنة 540. وصارت كتبه ببلنسية، وأمواله بالمرية، لبيت المال.
وأبو يونس عبد العزيز بن زكريا بن حيون، كان من العناية بالعلم، قال ابن الأبار: ولم تكن له رحلة، وتوفي سنة 320. ذكره ابن حارث، وذكر ابن الفرضي أباه زكريا بن حيون. وأبو هارون موسى بن خلف بن عيسى بن أبي درهم التجيبي، قاضي وشقة، سمع أباه، وأبا عمرو السفاقسي وحج في سنة 407، فسمع من أبي عبد الملك البوني كتابه شرح الموطأ، وسمع بالقيروان صحيح البخاري من أبي عمران الفاسي، وأجاز له جماعة. وهو من بيت قضاء وجلالة، حدث عنه ابناه أبو موسى هارون، وأبو المطرف عبد الرحمن، وابن أخته صاحب الأحكام بسرقسطة، أبو الحزم خلف بن محمد العبدري، وحدث عنه سنة 445. عن ابن الأبار. وأبو الحزم خلف بن مسعود بن موسى من أهل وشقة، يعرف بابن الجلاد، حدث عن أبي العاصي حكم بن إبراهيم المرادي، ومسعود بن سعيد السرقسطي، وحكم بن محمد السالمي وغيرهم. حدث عنه بالإجازة أبو هارون موسى بن خلف بن أبي درهم. وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد، يعرف بابن الأبار، روى عن أبيه إسماعيل الوشقي، وعن عبد الله بن حسن السندي، وعن زكريا بن النداف، وغيرهم. وكان من أهل الفقه والحديث. قال ابن الأبار القضاعي: سمع منه أبو الحزم بن أبي درهم، وحدث عنه بالمدونة، وغيرها. ذكر ذلك أبو الوليد الباجي وسواه. وأبو عبد الله محمد بن موسى بن خلف الوشقي، منها. أخذ عن أبي داود المقرئ، ورحل حاجا فلقي ابن الفحام، وأخذ عنه وقفل إلى الأندلس، فأوطن الش، وتولى الصلاة والخطبة بجامعها، وكان بها يقرئ القرآن، وكف بصره بآخرة من عمره، وتوفي قبل الثلاثين وخمسمائة، عن ابن الأبار. وأبو الأحوص معن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن صمادح التجيبي، والي المرية، ودارهم وشقة. كان أميرا مرضي السيرة، عدلا، باسطا للحق، بريئا من الدماء وأموال الناس. وقلد ذلك القضاة وأصحاب الشورى، فما أفتوه به أنفذه بواسطة صاحب الشرطة. وكان ذا حظ من العلم. وقد روى عن أبيه أبي يحيى مختصره لغريب القرآن، الواقع في تفسير الطبري الكبير.
ذكر ذلك أبو محمد بن عبيد الله في برنامجه وقال: وقال الحسن بن أبي الحسن: حدثوا عن الأشراف، فإنهم لا يرضون أن يدنسوا شرفهم بالكذب ولا بالخيانة. قال ابن الأبار القضاعي في التكملة: وتوفي أبو الأحوص هذا بالمرية سنة 443. وأبو بكر أحمد بن سليمان بن محمد بن أبي سليمان قاضي وشقة، روى بالمشرق عن أبي القاسم بن عبد الرحمن بن الحسن الشافعي، وأبي ذر الهروي، وغيرهما. حدث عنه أبو بكر محمد بن هشام المصحفي ، وسمع منه، وأثنى عليه. قاله ابن بشكوال في الصلة.
وكثير بن خلف بن كثير الوشقي، منها روى عن أبي عبد الله بن عيشون ، سمع منه سنة 364، قاله ابن بشكوال. وأبو عيسى لب بن هود بن لب بن سليمان الجذامي، رحل من وشقة إلى المشرق، ودخل بغداد، وسمع بها مع القاضي أبي علي الصدفي على الشيوخ، وصحبه هناك، قاله ابن بشكوال. وهارون بن موسى بن خلف بن عيسى بن أبي درهم، تقدمت ترجمة أبيه أبي هارون موسى، سمع من أبيه، ومن أبي محمد الشنتجالي، وحيون بن خطاب، وغيرهم، واستوطن دانية، وكان قاضيا بها، وخطيبا بجامعها، قال ابن بشكوال: وكانت له معرفة بالأحكام وعقد الشروط وتوفي سنة 484 أو نحوها. وأبو عبد الله يحيى بن عيسى بن خلف بن أبي درهم، سمع من خاله موسى بن عيسى، ومن أبي الوليد الباجي، وكان أبو علي بن سكرة يحسن الثناء عليه، قاله ابن بشكوال. وسعيد بن يحيى الخشاب، محدث وشقي، مات بالأندلس سنة 318. وأبو الحسن علي بن غالب بن محمد بن غالب، من أهل وشقة، له رحلة إلى المشرق، استوطن طرطوشة، وولي الخطبة بجامعها، وتوفي سنة 520 وكان من أهل العلم والفضل. وأبو إسحاق إبراهيم بن دختيل المقرئ، من أهل وشقة، سكن سرقسطة، روى عن أبي عمرو عثمان بن سعيد المقرئ، قال ابن بشكوال: وكان رجلا فاضلا، جيد التعليم، حسن الفهم، أخبرنا عنه غير واحد من شيوخنا، توفي بسرقسطة في حدود السبعين والأربعمائة. ومحمد بن سليمان بن تليد، قاضي وشقة وتولى القضاء بسرقسطة أيضا، يروي عن محمد بن العتبي، وعن محمد بن يوسف بن مطروح الربعي، مات بالأندلس سنة 295. •••
وإلى الشرق من وشقة مدينة «تمريط»
1
مائلة إلى الجنوب، وهي إلى الشمال من لاردة. ذكرها نفح الطيب.
وإلى الشمال من وشقة على مسافة 133 كيلومترا من سرقسطة مدينة «جاقة» سكانها خمسة آلاف نسمة، وهي قاعدة مقاطعة سوبراربه
Sobrarba ، ولها سور وأبراج، وفيها كنيسة بناها راميرو الأول سنة 1040، ثم مدينة «سارينينه»
Sarinena
وسكانها أربعة آلاف نسمة.
ثم مدينة بربشطر،
2
وهي الآن مدينة صغيرة، سبعة آلاف نسمة، ولكن كان لها شأن عظيم في زمان العرب، وهي إلى الجنوب الشرقي من وشقة، جاء ذكرها في معجم البلدان فقال: بربشتر، بضم الباء الثانية، وسكون الشين المعجمة، وفتح التاء المثناة من فوق: مدينة عظيمة في شرق الأندلس، من أعمال بربطانية،
3
وقد صارت للروم في صدر سنة 452، حمل منها لصاحب القسطنطينية في جملة الهدايا سبعة آلاف بكر منتخبة، ثم استعادها المسلمون في إمارة أحمد بن سليمان بن هود في سنة 457، بعد ذلك بخمسة أعوام، فغنموا فيما غنموا عشرة آلاف امرأة، ثم عادت إليهم خذلهم الله، ولها حصون كثيرة، منها حصن القصر، وحصن الباكة
4
وحصن قصر منيونش،
5
وغير ذلك. وينسب إليها خلف بن يوسف المقري البربشتري، أبو القاسم، روى عن أبي عمرو المقري، وأجاز له. وكان من أهل القرآن والحديث والبراعة والفهم، وتوفي في شهر رمضان سنة 451. ويوسف بن عمر بن أيوب بن زكريا التجيبي البربشتري، أبو عمرو، وله رحلة سمع فيها بمصر من الحسن بن رشيق وغيره. وكان يسكن الإسكندرية، وبها حدث. وسمع من أبي صخر بمكة، قاله السلفي. ا.ه.
قلنا إن ما ذكره ياقوت في معجمه عن خلف بن سويف المقري وجدناه منقولا بالحرف تقريبا عن الصلة لابن بشكوال، لا يختلف إلا في قول ابن بشكوال إن وفاة خلف كانت لعشر خلون من رمضان، وإنه مات بالطاعون. وأما يوسف بن عمر بن أيوب التجيبي، فكذلك مترجم في الصلة لابن بشكوال. وإنما يقول في الصلة إن كنيته أبو عمر، وأنه روى بقرطبة عن أبي زكريا بن قطرة، ويقول إن له رحلة إلى المشرق، سمع فيها من أبي الحسن بن رشيق بمصر وغيره. ولكنه يزيد على ذلك بقوله: حدث عنه الصاحبان، وتوفي بعدهما بأندة سنة 408، وحدث عنه أيضا أبو عمرو المقري. فظهر لنا أن ياقوت نقل عن أبي طاهر السلفي قوله إنه سكن الإسكندرية لأن السلفي كان هناك، كما لا يخفى.
وأما فاجعة بربشتر التي مع جميع ما حصل بالإسلام من الفجائع لم يوجد أشق منها ، فقد ذكرها ابن عذارى في البيان المغرب فقال: إن جيش الأردامانيين (؟) نزلوا عليها، وجدوا في قتالها وحصارها جدا عظيما، فكان أهلها يقاتلونهم خارج مدينتهم، وذلك في سنة ست وخمسين وأربعمائة.
وكان الماء يأتيها في سرب تحت الأرض من النهر حتى يدخل إليها فيخترقها، فخرج رجل من القصبة إلى الروم ودلهم عليه، فساروا إليه وهدموه وحالوا بينه وبين الاتصال بفم السرب، فعدم أهلها الماء، ولم يكن لهم صبر على العطش، فراسلوا الروم في أن يسلموهم في أنفسهم وذراريهم ويسلموا إليهم البلد، فأبى الروم من ذلك فجالدهم المسلمون إلى أن دخل الروم عليهم عنوة، فقتلوا المقاتلة، وسبوا الحريم والذرية وحصلوا منها على أموال جليلة، فكان أشد الرزايا بهذه الجزيرة، وحصل بأيدي الروم من نساء أهل بربشتر وذريتهم قرب المائة ألف، حصل من ذلك في سهم رئيسهم اللعين أربعة آلاف نسمة، اختارهن أبكارا من الثمانية أعوام إلى العشرة فأهدى منهن لملكه ما شاء. وكان هذا اللعين يسمى بالبطيبين؟ وذكر أنه حصل في سهمه أخزاه الله، من أوقار الأطعمة والحلي والكسوة خمسمائة حمل. وكان الخطب في هذه المدينة أعظم ما يوصف، لأن الحال كان آل بهم إلى أن ألقوا بأيديهم بسبب الظمأ، وخرجوا من المدينة، وانتشروا في بسيط من الأرض. فلما رأى الطاغية، ضاعف الله عذابه، كثرتهم وانتشارهم، خاف أن تدركهم حمية، في استنقاذ أنفسهم فأمر ببذل السيف فيهم، وبعضهم ينظر إلى بعض من رجال ونساء. فقيل إنه قتل منهم يومئذ نحو ستة آلاف، ثم نادى برفع السيف عنهم، وأمر بخروجهم عن المدينة بالأهل والذرية، فبادروا الخروج منها مزدحمين على أبوابها، فمات في ازدحامهم خلق كثير.
ولما عرض جميع من خرج عن المدينة بفناء بابها، بعد قتل من قتل منهم ظلوا قياما ذاهلين منتظرين نزول القضاء بهم، ثم نودي فيهم بأن يرجع كل ذي دار إلى داره بأهله وولده، وأزعجوا لذلك، ولما استقروا بالدور مع عيالهم وذرياتهم اقتسمهم المشركون، فكل من صارت في حصته دار حازها وما فيها من أهل وولد ومال، فحكم كل علج منهم في من سلط عليه من أرباب الدور، بحسب ما يبتليه الله به منه، يأخذ كل ما أظهره له، ويعذبه فيما أخفى عنه. وربما زهقت نفس المسلم دون ذلك فاستراح، وربما أنظره أجله إلى أسوأ من مقامه ذلك، لأن عداة الله كانوا يومئذ يهتكون حريم أسراهم وبناتهم بحضرتهم، إبلاغا في نكايتهم (إلى أن يقول) فبلغ الكفرة يومئذ منهم ما لا تلحقه الصفة، والحول والقوة لله العظيم.
فلما استولى الروم على هذه المدينة المشئومة ترك فيها اللعين ألف فارس، وأربعة آلاف راجل، ورحل منها إلى بلاده. ولم يكن للنصارى قبل هذه الفعلة مثلها في بلاد المسلمين.
فلما رأى ابن هود هذا الأمر نادى بالنفر للجهاد في سائر بلاد المسلمين، فحميت نفوس أهل الإسلام، وجاءه منهم خلق عظيم لا يحصى عدده، ذكر أنه وصل من سائر بلاد الأندلس ستة آلاف من الرماة العقارة، فنازلوا مدينة بربشتر وتأهبوا لقتال من ورد عليهم من الكفار، فلما عاين الكفار قوة المسلمين وكثرة حماتهم ورماتهم أغلقوا أبوابهم، وتركوا حربهم، وعظم عليهم أمرهم، فأمر ابن هود المقتدر بالله بالنقب لسورها، وأمر الرماة أن ينقبوا السور، لئلا يمنع الكفرة النقابة من النقب. فكان الروم لا يخرجون أيديهم من فوق السور، فنقبوا شقة كبيرة، ودعموا السور وأطلقوا النار في الدعائم، فوقعت تلك الشقة واقتحم المسلمون البلد. ولما عاين الروم ذلك خرجوا من ناحية أخرى على باب آخر فاتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاءوا، ولم ينج منهم إلا اليسير ممن تأخر أجلهم، وسبوا كل ما كان فيها من عيالهم وأبنائهم وقتل من أعداء الله نحو ألف فارس، وخمسة آلاف راجل، ولم يصب من جماعة المسلمين إلا نحو الخمسين، فاستولى المسلمون على المدينة، وغسلوها من رجس الشرك، وجلوها من صدأ الإفك.
قال البكري: أدخل منها سرقسطة نحو ألف سبية، ونحو ألف فارس، ونحو ألف درع، وأموال وأثاث، وكان أخذها في جمادى الأولى من سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فكان بين دخول الروم إليها وعودها للمسلمين سنة كاملة، وشاع لابن هود صنيع في بلاد المسلمين لهذا الفتح الذي اتفق على يديه. انتهى ما قاله ابن عذارى عن فاجعة بربشتر، وانتقام المسلمين لها.
ونقل المقري في النفح عن ابن حيان ما يلي قال: وكان تغلب العدو، خذله الله تعالى، على بربشتر، قصبة بلد برطانية، وهي تقرب من سرقسطة، سنة ست وخمسين وأربعمائة، وذلك أن جيش الأردمليش نازلها وحاصرها، وقصر يوسف بن سليمان بن هود في حمايتها، ووكل أهلها إلى نفوسهم، فأقام العدو عليها أربعين يوما، ووقع ما بين أهلها تنازع في القوت لقلته، واتصل ذلك بالعدو، فشد القتال عليها والحصر لها، حتى دخل المدينة الأولى في خمسة آلاف مدرع، فدهش الناس، وتحصنوا بالمدينة الداخلة، وجرت بينهم حروب شديدة، قتل فيها خمسمائة إفرنجي. ثم اتفق أن القناة التي كان الماء يجري فيها من النهر إلى المدينة تحت الأرض في سرب موزون انهارت، وفسدت، ووقعت فيها صخرة عظيمة سدت السرب بأسره، فانقطع الماء عن المدينة. ويئس من بها من الحياة، فلاذوا بطلب الأمان على أنفسهم خاصة، دون مال وعيال، فأعطاهم العدو الأمان، فلما خرجوا نكث بهم وغدر، وقتل الجميع إلا القائد ابن الطويل، والقاضي ابن عيسى، في نفر من الوجوه، وحصل للعدو من الأموال والأمتعة ما لا يحصى، حتى إن الذي خص بعض مقدمي العدو لحصته، وهو قائد خيل رومة، نحو ألف وخمسمائة جارية أبكارا، ومن أوقار الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل. وقدر من قتل وأسر مائة ألف نفس. وقيل خمسون ألف نفس.
ومن نوادر ما جرى على هذه المدينة لما فسدت القناة، وانقطعت المياه، أن المرأة كانت تقف على السور وتنادي من يقرب منها أن يعطيها جرعة ماء لنفسها، أو لولدها فيقول لها أعطيني ما معك، فتعطيه ما معها من كسوة وحلي وغيره.
قال: وكان السبب في قتلهم أنه خاف ممن يصل لنجدتهم، وشاهد من كثرتهم ما هاله، فشرع في القتل، لعنه الله تعالى، حتى قتل منهم نيفا على ستة آلاف، ثم نادى الملك بتأمين من بقي، وأمر أن يخرجوا، فازدحموا في الباب إلى أن مات منهم خلق عظيم، ونزلوا من الأسوار في الحبال، للخشية من الازدحام في الأبواب، ومبادرة إلى شرب الماء.
وكان قد تحيز في وسط المدينة قدر سبعمائة نفس من الوجوه، وحاروا في نفوسهم وانتظروا ما ينزل بهم، فلما خلت ممن أسر وقتل، وأخرج من الأبواب والأسوار، وهلك في الزحمة، نودي في تلك البقية بأن يبادر كل منهم إلى داره بأهله وله الأمان وأرهقوا وأزعجوا، فلما حصل كل واحد منهم بمن معه من أهله في منزله، اقتسمهم الإفرنج، لعنهم الله تعالى، بأمر الملك، وأخذ كل واحد منهم دارا بمن فيها من أهلها، نعوذ بالله تعالى.
وكان من أهل المدينة جماعة قد عاذوا برءوس الجبال، وتحصنوا بمواضع منيعة، وكادوا يهلكون من العطش، فأمنهم الملك على نفوسهم وبرزوا في صور الهلكى من العطش، فأطلق سبيلهم، فبينما هم في الطريق، إذ لقيهم خيل الكفر ممن لم يشهد الحادثة فقتلوهم إلا القليل ممن نجا بأجله. قال: وكان الإفرنج، لعنهم الله تعالى، لما استولوا على أهل المدينة (وذكر أمورا هنا أمسكنا عن نقلها لأنها مما تنفطر له الكبود وتقشعر الجلود) وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط في ما مضى من الزمان، ولما عزم ملك الروم على القفول إلى بلده، تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيبات ذوات الجمال، ومن صبيانهم الحسان ألوفا عدة، حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه، وترك من رابطة خيله ببربشطر ألفا وخمسمائة، ومن الرجال ألفين.
قال ابن حيان: وأختم هذه الأخبار الموقظة لقلوب أولي الألباب بنادرة يكتفى باعتبارها عما سواها، وهي أن بعض تجار اليهود جاء بربشتر بعد الحادثة، ملتمسا فدية بنات بعض الوجوه، ممن نجا من أهلها، حصلن في سهم قومس من الرابطة فيها كان يعرفه. قال: فهديت إلى منزله فيها. واستأذنت عليه، فوجدته جالسا مكان رب الدار، مستويا على فراشه، رافلا في نفيس ثيابه، والمجلس والسرير كما خلقهما ربهما يوم محنته، لم يغير شيئا من رياشهما وزينتهما، ووصائفه مضمومات الشعور، قائمات على رأسه، ساعيات في خدمته. فرحب بي وسألني عن قصدي، فعرفته وجهه، وأشرت إلى وفور ما أبذله في بعض اللواتي على رأسه، وفيهن كانت حاجتي فتبسم وقال بلسانه: ما أسرع ما طمعت في من عرضناه لك! أعرض عمن هنا، وتعرض لمن شئت ممن سيرته لحصني، من سبي وأسراي، من أقاربك في من شئت منهم. فقلت له: أما الدخول إلى الحصن فلا رأي لي فيه، وبقربك أنست، وفي كنفك اطمأننت، فسمني ببعض من هنا؛ فإني أصير إلى رغبتك، فقال: وما عندك؟ قلت: العين الكثير الطيب، والبز الرفيع الغريب. فقال: كأنك تشهيني ما ليس عندي! يا باجه - ينادي بعض أولئك الوصائف، يريد يا بهجة، فغيره بعجمته - قومي فأعرضي عليه ما في ذلك الصندوق. فقامت إليه، وأقبلت ببدر الدنانير، وأكياس الدراهم، وأسفاط الحلي، فكشفت، وجعلت بين يدي العلج، حتى كادت تواري شخصه، ثم قال لها: أدني إلينا من تلك التخوت، فأدنت منه عدة من قطع الوشي والخز والديباج الفاخر، مما حار له ناظري، وبهت، واسترذلت ما عندي. ثم قال لي: لقد كثر هذا عندي حتى ما ألذ به. ثم حلف بإلهه: إنه لو لم يكن عندي شيء من هذا ثم بذل لي بأجمعه في ثمن تلك، ما سخت بها يدي، فهي ابنة صاحب المنزل، وله حسب في قومه، اصطفيتها لمزيد جمالها لولادتي، حسبما كان قوما يصنعون بنسائنا نحن، أيام دولتهم، وقد ردت لنا الكرة عليهم، فصرنا في ما تراه، وأزيدك بأن تلك الخود الناعمة - وأشار إلى جارية أخرى قائمة إلى الناحية - مغنية والدها، التي كانت تشدو له على نشوائه، إلى أن أيقظناه من نومائه. يا فلانة، يناديها بلكنته: خذي عودك فغني زائرنا بشجوك. قال: فأخذت العود وقعدت تسويه وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها، فتسارق العلج مسحه، واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا، فضلا عن العلج، فصار من الغريب أن حث شربه عليه، وأظهر الطرب منه. فلما يئست مما عنده، قمت منطلقا عنه، وارتدت لتجارتي سواه، واطلعت لكثرة ما لدى القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به ، فهذا فيه مقنع لمن تدبره، وتذكر لمن تذكره!
قال ابن حيان: قد أشفينا بشرح هذه الحالة الفادحة، على مصائب جليلة مؤذنة بوشك القلعة ، طالما حذر أسلافنا لحاقها، بما احتملوه عمن قبلهم من إثارة، ولا شك عند ذوي الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع، وقد أمرنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك، والتمادي عليه على شفا جرب، يؤدي إلى التهلكة لا محالة. انتهى ببعض اختصار.
قال المقري: وذكر بعده كلاما في ذم أهل ذلك الزمان، من أهل الأندلس، وأنهم يعللون أنفسهم بالباطل، وأن من أدل الدلائل على جهلهم اغترارهم بزمانهم، وبعدهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغورهم، حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم، يجوس خلال ديارهم، ويستقري بسائط بقاعهم، ويقطع كل يوم طرفا، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا، صموت عن ذكرهم، لهاة عن بثهم، ما إن يسمع عندنا بمسجد من مساجدنا، أو محفل من محافلنا، مذكر لهم أو داع، فضلا عن نافر إليهم، أو ماش لهم، حتى كأنهم ليسوا منا، أو كأن بثقهم ليس بمفض إلينا، وقد بخلنا عليهم بالدعاء، بخلنا بالعناء، عجائب فاتت التقدير، ولله عاقبة الأمور وإليه المصير. انتهى.
قال المقري: ولقد صدق ابن حيان رحمه الله تعالى، فإن البثق سرى إليهم جميعا كما ستراه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونقل المقري عن ابن حيان أيضا في هذه الفادحة ما يلي: أن بربشتر هذه تناسختها قرون المسلمين، منذ ثلاثمائة وثلاث وستين سنة، من عند الفتوح الإسلامية بجزيرة الأندلس، فرسخ فيها الإيمان، وتدورس القرآن، إلى أن طرق الناعي بها قرطبتنا صدر رمضان من العام، فصك الأسماع، وأطار الأفئدة، وزلزل أرض الأندلس قاطبة، وصير لكل شغلا يشغل الناس في التحدث به، والتساؤل عنه، والتصور لحلول مثله أياما، لم يفارقوا فيها عاداتهم من استبعاد الوجل، والاغترار بالأمل، والاستناد إلى أمراء الفرقة الهمل، الذين هم منهم ما بين فشل ووكل، يصدونهم عن سواء السبيل، ويلبسون عليهم وضوح الدليل. ولم تزل آفة الناس منذ خلقوا في صنفين، هم كالملح فيهم: الأمراء والفقهاء، بصلاحهم يصلحون، وبفسادهم يفسدون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له، ولا مخلص منه.
فالأمراء القاسطون قد نكبوا عن نهج الطريق، زيالا عن الجماعة، وجريا إلى الفرقة. والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدوف عما أكده الله تعالى عليهم، من التبيين لهم، قد أصبحوا ما بين آكل من حلوائهم، وخابط في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذ في التقية من صدقهم. وأولئك هم الأقلون فيهم. فما القول في أرض فسد ملحها، الذي هو مصلح لجميع أغذيتها، وما هي إلا مشفية على بوارها. ولقد طما العجب من أفعال هؤلاء الأمراء! لم يكن عندهم لهذه الحادثة إلا الفزع لحفر الخنادق وتعلية الأسوار، وشد الأركان، وتوثيق البنيان، كاشفين لعدوهم عن السوأة السوأى من إلقائهم يومئذ بأيديهم إليه أمورا قبيحات الصور، مؤذنات الصدور بإعجاز الغير
أمور لو تدبرها حكيم
إذن لنهى وحبب ما استطاعا
انتهى باختصار.
ثم قال ابن حيان: فلما كان عقب جمادى الأولى سنة 57 شاع الخبر بقرطبة برجوع المسلمين إليها - أي إلى بربشتر - وذلك أن أحمد المقتدر بن هود المفرط فيها والمتهم على أهلها، لانحرافهم إلى أخيه، صمد لها مع إمداد الخليفة عباد، وسعى لإصمات سوء المقالة عنه، وقد كتب الله تعالى عليه ما لا يمحوه إلا عفوه، فتأهب لقصد بربشتر في جموع من المسلمين، فجالدوا الكفار بها جلادا ارتاب منه كل جبان، وأعز الله سبحانه أهل الحفيظة والشجعان، وحمي الوطيس بينهم إلى أن نصر الله تعالى أولياءه وخذل أعداءه، وولوا الأدبار مقتحمين أبواب المدينة، فاقتحمها المسلمون عليهم، وملكوها أجمعين، إلا من فر من مكان الوقعة، ولم يدخل المدينة، فأجيل السيف في الكافرين واستؤصلوا أجمعين، إلا من استرق من أصاغرهم، وفدي من أعاظمهم، وسبوا جميع من كان فيها من عيالهم وأبنائهم، ومسكوا المدينة بقدرة الخالق البارئ، وأصيب في منحة النصر المتاح، طائفة من حماة المسلمين الجادين في نصر الدين، نحو الخمسين، كتب الله تعالى شهادتهم وقتل فئة من أعداء الله الكافرين نحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل فغسلها المسلمون من رجس الشرك وجلوها من صدأ الإفك. انتهى.
قلنا قد ظهر من هذا النقل أن المقري، ومن قبله ابن عذارى، إنما نقلا تاريخ فاجعة بربشتر عن ابن حيان لأن بعض الجمل مثل «فغسلها المسلمون من رجس الشرك وجلوها من صدأ الإفك» مذكورة في نفخ الطيب نقلا عن ابن حيان، وأيضا في البيان المغرب لابن عذارى، وكذلك يوجد اتفاق في بعض الروايات مثل أنه استشهد من المسلمين يوم ارتجعوا بربشتر نحو الخمسين، وأن العدو فقد يومئذ ألف فارس وخمسة آلاف راجل، إلا أنه موجود بين روايتي ابن حيان وابن عذارى اختلافات في بعض التفاصيل؛ فإن ابن عذارى لم يذكر تقصير يوسف بن سليمان بن هود في حماية بربشتر، ولا ذكر أيضا أن أحمد المقتدر أخاه فرط في أمرها لانحراف أهلها إلى أخيه يوسف من وجود العداوة بينهما. والحال أنه من سياق الكلام، ومن قول ابن حيان أن العدو أقام يحاصر بربشتر أربعين يوما، يظهر للقارئ أن التفريط وقع من بني هود في أمرها سواء كان يوسف بن هود أو أخوه أحمد، وأن أهل بربشتر كانوا من حزب يوسف، فبهذا السبب تركهم أحمد الذي كان أميرا لسرقسطة ولم ينجدهم. وكذلك يوسف تأخر عن نصرتهم، ولا سبب في ذلك، والله أعلم، سوى خوفه من أخيه، لأنهما كانا في شقاق بعيد، وكل منهما يستنصر بالطاغية ابن ردمير على أخيه فتأخر يوسف وتأخر أحمد عن نجدة أهل بربشتر بخوف كل منهما من الآخر. فجرى على بربشتر ما جرى من الفاجعة التي ندر وقوع مثلها في الإسلام. ولا شك في أنه تحدث المسلمون بهذا الخبر في كل ناد، وجعلوا التبعة في هذه الفجيعة على بني هود، ولاسيما على أحمد بن سليمان بن هود الملقب بالمقتدر صاحب سرقطة لأنه كان أقدر من أخيه على إصراخ أهل تلك البلدة، فلذلك عمد أحمد لإصمات سوء المقالة عنه، كما قال ابن حيان، وصمد إلى بربشتر بجموع المجاهدين واسترجعها ، وشفى صدور المسلمين مما كان فجعهم من حادثتها، فقال ابن عذارى: وشاع لابن هود صنيع في بلاد المسلمين لهذا الفتح الذي اتفق على يديه. ولكن ابن حيان يقول: إن الله تعالى كتب عليه من حادثة بربشتر ما لا يمحوه إلا عفوه. وبالاختصار يظهر للمتأمل أن جميع ما حل بالمسلمين من الفجائع في الأندلس إنما كان نتيجة انقسامهم، واشتغالهم بمحاربة بعضهم بعضا، واستظهارهم بملوك الإسبانيول على إخوانهم، ولما كانت الإمارة الإسلامية موحدة في قرطبة والكلمة مجتمعة، كان يبعد أن يقع بهم ما وقع في ما بعد، وكانوا لو أصيبوا في حادثة واحدة لم يمض وقت حتى يجبروا كسرها، بخلاف ما آل إليه أمرهم في زمن ملوك الطوائف، عندما سقطت الخلافة في قرطبة ووقعت الفتنة الكبرى بين العرب والبربر، وصارت كل مدينة من مدن الأندلس مستقلة بنفسها، فيها أمير المؤمنين ومنبر. فأصل فساد أمر الأندلس إنما كان من سوء أحوال أمرائها، وتنزي جميعهم على الملك، غير ناظرين إلى العواقب، وفي جانب هذا الفساد لم يكن من صلح الفقهاء ما يقوم الأود، بل غلب على هؤلاء حب الدنيا، كما قال ابن حيان في ما نقلناه عنه، وهو عين ما ذكرناه نحن في رسالتنا المشهورة «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» قلت في الصفحة 43 من الطبعة الأولى من تلك الرسالة:
ومن أكبر عوامل تقهقر المسلمين فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص، وظن هؤلاء، إلا من رحم ربك، أن الأمة خلقت لهم، وأن لهم أن يفعلوا بها ما يشاءون، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادة بطشوا به عبرة لغيره، وجاء العلماء المتزلفون لأولئك الأمراء، المتقلبون في نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح، بحجة أنه شق عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة. وقد عهد الإسلام إلى العلماء بتقويم أود الأمراء، وكانوا في الدول الإسلامية الفاضلة بمثابة المجالس النيابية في هذا العصر، يسيطرون على الأمة، ويسددون خطوات الملك ويرفعون أصواتهم عند طغيان الدولة، ويهيبون بالخليفة فمن بعده إلى الصواب، وهكذا كانت تستقيم الأمور، لأن أكثر أولئك العلماء كانوا متحققين بالزهد، متحلين بالورع، متخلين عن حظوظ الدنيا، لا يهمهم أغضب ذلك الملك الجبار أم رضي؟ فكان الخلائف والملوك يرهبونهم، ويخشون مخالفتهم، بما يعلمون من انقياد العامة لهم، واعتقاد الأمة بهم. إلا أنه بمرور الأيام، خلف من بعد هؤلاء خلف اتخذوا العلم مهنة للتعيش، وجعلوا الدين مصيدة للدنيا، فسوغوا للفاسقين من الأمراء أشنع موبقاتهم، وأباحوا لهم باسم الدين خرق حدود الدين. هذا والعامة المساكين مخدوعون بعظمة عمائم هؤلاء العلماء، وعلوا مناصبهم، يظنون فتياهم صحيحة، وآراءهم موافقة للشريعة، والفساد بذلك يعظم ومصالح الأمة تذهب، والإسلام يتقهقر، والعدو يعلو ويتنمر، وكل هذا إثمه في رقاب هؤلاء العلماء. ا.ه.
وقد وضع الأستاذ فقيد الإسلام صاحب المنار رحمه الله حاشية على هذه الجملة قال فيها: وفينا هذه المسألة حقها في المنار، وأهمه مقالة في المجلد التاسع عنوانها «حال المسلمين في العالمين ودعوة العلماء إلى نصيحة الأمراء والسلاطين» أنحينا فيها بالائمة على علماء هذا العصر في تقصيرهم عن نصيحة الملوك والأمراء. ا.ه.
على أن فقهاء الأندلس برغم كل ما ثبت عنهم من التقصير في إقامة أمرائهم على الطريق المستقيم، لا ننكر أنه ضاق ذرعهم أخيرا بفتن ملوك الطوائف التي كان من ورائها تقلص الإسلام شيئا فشيئا، فراسلوا المرابطين ومن بعدهم الموحدين، في بر العدوة حتى أجازوا إلى الأندلس المرة بعد المرة وكانت مواقفهم في جهاد النصارى هي السبب في نسيئة أجل الإسلام في تلك البلاد مدة مائتين إلى ثلاثمائة سنة.
ومما يجب الانتباه إليه بمناسبة حادثة بربشتر هو العمران الزائد الذي وصلت إليه لذلك العهد أسبانية الإسلامية، فأنت ترى أنهم عدلوا سبي تلك البلدة بمائة نسمة أو بخمسين ألفا، ولا شك في أن أهلها لم يكونوا أجمعين من جملة السبي. والحال أن بربشتر لم تكن إلا مدينة من الدرجة الثالثة بالكثير في مدن الأندلس، أي من المدن التي رافائيل بلستر أحصاها بثلاثمائة مدينة في أسبانية المسلمة. فلا هي من الحواضر الكبرى، ولا هي في الثمانين مدينة المعمورة جدا، بل هي في القصاب التي تأتي في الدرجة الثالثة، ومع هذا فقد رأيت ما كان من عدد أهلها، وما ظهر من عظمة ثروتهم وسبوغ نعمتهم، وفي حكاية التاجر اليهودي الذي ذهب لفكاك السبايا ما فيه كفاية.
ولقد ذكرنا أن بربشتر هي من أعمال بريطانية أو برطانية في شرقي الأندلس وبرطانية يقول لها الأسبان بولطانية باللام، وهي إلى الشمال من بربشتر، وإلى الشمال الشرقي من وشقه. وقد نقلنا عن ياقوت في المعجم أنها مدينة كبيرة بالأندلس، يتصل عملها بعمل لادرة، وكانت سدا بين المسلمين والروم، ولها مدن وحصون، وفي أهلها جلادة وممانعة للعدو، وهي في شرقي الأندلس اغتصبها الإفرنج فهي اليوم في أيديهم. ا.ه.
قلنا إن بلطانية أو برطانية هي في وسط جبال البرانس، تقع في الجنوب من الجبل المسمى بالجبل الضائع، وفي الشرق من الشارات التي يقال لها «شارات بانيه»
وأما لاردة فهي إلى الجنوب الشرقي من برطانية. ثم إنه إلى الجنوب من بربشتر تقع مدينة «مونتشون» ويقول لها الأسبانول
Monzon
6
وهي بلدة صغيرة اليوم أهلها أربعة آلاف نسمة ولكنها قديمة، وفيها خرب من زمان الرومان، وعلى صخرة عالية منها، تشرف عليها حصن قديم كان ريموند بيرانجه الرابع أمير برشلونة تخلى عنه سنة 1143 لنظام الفرسان الهيكلي. وبالقرب من حصن مونتشون إلى الشرق بحرا بلدة تمريط
Tamarite
وإلى الجنوب الشرقي من تمريط تقع بلدة يقال لها المنار وبالقرب منها بلدة «بلغى» التي سيأتي ذكرها، وهي من عمل لاردة من بلاد كتلونية.
والطريق من سرقسطة إلى برشلونة بالسكة الحديدية هو على الجنوب الشرقي، بين نهر أبره والقناة الإمبراطورية، وهناك قرية يقال لها باستريز “Pastriz”
وقرية أخرى يقال لها البرجو، ولا شك أنها بحرفة عن البرج، ثم إن على النهر بلدة يقال لها «الفونت» تنتهي عندها القناة الإمبراطورية، وفيها قصور لعائلة نبيلة كانت لها سيادة على الفونت، وغير بعيدة عنها قرية «أغيلار» ثم قصبة يقال لها «بينه» ثم مدينة «كينتو»
Quinio
وهي صغيرة وكلها قصاب على وادي أبره، ثم بلدة قلسة
Gelsa
و«الزائدة»
Zaida
و«اسقاطرون»
Escatron
ثم السهلة ويقول لها الإسبانيول
Azaila .
وعلى مسافة 73 كيلومترا من سرقسطة بلدة صغيرة اسمها هيجار
Hijar
أهلها ألفا نسمة. وعلى مسافة 32 كيلومترا من هيجار بلدة يقال لها الكنيز
Alcaniz
وكان العرب يقولون لها القنيت وهي بلدة قديمة ايبرية. كان اسمها في الماضي أنتورجيس
Anilorgis
وفي هذه البلدة ظفر القرطاجنيون بقيادة الأسد الرئبال أسد روبال
Hesdrubat
بالجيش الروماني سنة 212 قبل المسيح. وبالقرب من القنيت هذه يوجد صخر كبير يقال له «صخر المغربي
Roca del Moro » عليه صور عذملية تمثل كثيرا من الحيوانات، وفي تلك الناحية تجتاز السكة الحديدية وادي لب، وتعود فتدنو من نهر أبره. وأما حصن جبرة فيقع على مائة وكيلومترين من سرقسطة وهذا الحصن يقول له الإسبانيول شبرانة، وقد ذكره ياقوت بهذا الاسم فقال:
شبرانة من ثغور شرق الأندلس بقرب طرطوشة ينسب إليها أديب يقال له الشبراني، وإلى الشمال من جبرة أو شبرانة تقع بلجيط. وبلجيط قصبة من عمل سرقسطة ينسب إليها أناس من أهل العلم قد ورد ذكرهم في تراجم علماء سرقسطة
7
وإلى الجنوب من جبرة مدينة قشب
Caspe
وقد مر ذكرها، وهي سبعة أو ثمانية آلاف نسمة على الصفة اليمنى من وادي أبره، والوادي من عند قشب يدور صوب الشرق، مارا بمكناسة، ويدخل في بلاد كتلونية.
وكانت قشب من الحصون المعروفة عند العرب، وينسب إلى قشب من العلماء أبو الحسن نفيس بن عبد الخالق بن محمد الهاشمي القشبي المقرئ، لقيه السلفي بالإسكندرية، وحج ورجع إلى الأندلس، وذكر السلفي أنه قرأ عليه قبل رجوعه إليها. وقد تقدم ذكره.
ومن أعمال سرقسطة بلدة إلى غربيها يقال لها المنية
almuna
وبلدة أخرى إلى الغرب منها أيضا، بينها وبين دروقة، يقال لها كاريننه
Carinena
ولا نعلم هل هذه التي يقول العرب قلنة، أم هي غيرها؟ قال ياقوت في المعجم: قلنة بلد بالأندلس، قال ابن بشكوال إنه ينسب إليها عبد الله بن عيسى الشيباني أبو محمد، من أهلقلنة حيز سرقسطة، محدث حافظ متقن، كان يحفظ صحيح البخاري، وسنن أبي داود، وله اتساع في علم اللسان، وحفظ اللغة، وله عدة تآليف حسنة، وتوفي ببلنسية عام 530.
وجاء في معجم البلدان أن من جملة حصون سرقسطة حصن اسمه «ملونده
8 » بضم أوله وثانيه، وسكون النون ، ثم دال مهملة. ومن هذا القبيل «بلشند» و«بلطش» اللتان قال ياقوت إنهما من أعمال سرقسطة. ولم نقف على أسمائهما بالأسباني إلى هذه الساعة، ونرجح أنه من أثر التحريف. وذكر ياقوت من جملة حصون سرقسطة حصنا اسمه شلوقة، ينسب إليه علي بن إسماعيل بن سعيد بن أحمد بن لب بن حزم الحزرجي، قرأ على ابن عطية الغرناطي الحديث، والنحو على ابن طراوة المالقي، وأبوه أيضا مقرئ نحوي، لقيهما السلفي (بالإسكندرية) وكتب عنهما. ولا نعلم هل شلوقة هذه هي التي يقول لها الإسبانيول سلوسية
S.lucia ؟ وهي إلى الشرق نحوا من بينية، الواقعة على نهر أبره، إلى الجنوب من سرقسطة.
ومتى تجاوزت تشب تجد نهر أبره قد اتجه إلى الشمال، ودار من حول شارات مكناسة
Sierra de Mequinenza
المعدودة من جبال كتلونية، ثم يعود أبره فينحدر إلى الجنوب، ويعود الخط الحديدي فيتلاقى بأبره، عند بلدة يقال لها فيون، على مسافة 152 كيلومترا من سرقسطة، وهناك الحد بين أراغون وكتلونية ثم ينحدر أبره طالبا طرطوشة، حيث ينصب في البحر، وعلى مسافة 211 كيلومترا بلدة يقال لها مرسى فليست، عدد سكانها أربعة آلاف، وبالقرب منها معدن رصاص، وهي واقعة في واد بهيج، على سفح جبل مولا
Mola
ومن بعدها إلى الشرق بلدة بورجاس دلكامبو
Borjas del Cabmpo
ثم يطل السائح على البحر المتوسط.
هوامش
الفصل السادس والثلاثون
كتلونية
هذه البلدة هي قائمة بذاتها من قديم الدهر، وكثيرا ما كانت مستقلة عن سائر أسبانية، ولم تتحد مع أراغون وقشتالة إلا بعد طرد المسلمين من الأندلس، وأهلها أمة يقال لها الكتالان، لسانهم غير الإسبانيول، والفرق بينهما أن الإسبانيول مشتق من اللاتيني، وهو أقرب إلى اللاتيني من اللغة الكتلونية، وأن هذه اللغة أقرب إلى لغة بروفنسة، التي هي لغة جنوبي فرنسة. وجنس الكتلان على وجه الإجمال لا يود الجنس القشتالي. قال لي رجل من الكتلان، ونحن آتون من مجريط إلى برشلونة: نحن والقشتاليون كالماء والزيت، بمجرد اختلاطنا ينفصل كل فريق منا عن الآخر.
وحدود كتلونية جبال البيرانس من الشمال، وبلاد أراغون من الغرب، وولاية بلنسية من الجنوب ، والبحر المتوسط من الشرق، وكان لكتلونية على هذا البحر من السواحل مسافة أربعمائة كيلومتر من رأس سربيرة
Cerbira
في الشمال إلى مصب نهر سينيه
Cenia ، وأهم مدنها البحرية روزاس
Rosas
وكاداكيس
Cadaques
وبالاموس وبرشلونة وطركونة وسالو
Salou
ولوس الفاكيس
Los Alfaquis . وأهم قسم لها من البرانس الجبال المسماة بجبل نيغرو
Negro
وسان غراو
Sangrau
ومونشارات
Monlserrat
وغيرها، وأهم الأودية المتكونة من هذه الجبال هي وادي أندور، وهو واد له حكومة مستقلة، بين فرنسة وأسبانية، كما لا يخفى، ووادي آنيو
Aneo ، ووادي آرون
Aron ، ووادي آرو
Aro ، ووادي كردونة
Cardona
وغيرها. وأعظم أنهرها نهر أبره، ثم نهر سكر
Segre
ثم نهر لوبريقات
Liobregat
ونهر تير
Ter
ونهر فلوفيه
Fluvia .
والقسم الشمالي من كتلونية شديد البرد. لملاصقته لجبال البرانس، ولكن السواحل هي في غاية الاعتدال، وكذلك القسمان الغربي والجنوبي. وليست البلاد من جهة أرضها معدودة من البقاع الخصيبة في الدنيا. وأكثر أراضيها جبلية، والأوعار فيها كثيرة، إلا أن الكتلان من أكثر الأمم نشاطا وأشدهم ثباتا في العمل، فلذلك ترى في أراضيهم المزارع العظيمة للحبوب، وكروم العنب المالئة للسهل والوعر ومن بساتين الزيتون، من الغياض ما لا يحصى، ومن الأماكن التي تذكر بحسن زراعتها سهول لامبوردان
Lampordan ، وجيرندة، وسيردانيه، وباجس، وبنادس توطركونة وضفاف نهر سيفر، ونهر أبره، ولا تنس فحص طرطوشة، وبقعة لاردة.
ومن حاصلات كتلونية الثمار بأنواعها، والخشب، والبقول، وأكثر ما تباع في فرنسة، وكذلك يستخرجون الخمر بكثرة. ثم إن عندهم في الجبال مواشي كثيرة. أما المعادن فيكثر في كتلونية الجير والجص والملح. وفي طرطوشة وطركونة رخام كثير وبقرب ساليت
Salut
معدن رصاص، والحديد موجود في البرانس، والمياه المعدنية كثيرة أيضا، أشهرها في غاريقة
Garriga
وكالداس
Caldas
وبودا
إلخ.
وأما الصناعة في كتلونية ففي منتهى الازدهار، لاسيما في أرباض برشلونة، ومما لا نزاع فيه أن كتلونية هي أرقى بلاد أسبانية في الصناعة. ومن صناعات كتلونية نسج القطن والصوف والحرير والجوخ، وسائر أنواع المنسوجات. وعمل الورق والصابون والزجاج والسلاح، وغير ذلك، وبسبب ازدهار الصناعة نجد تجارة برشلونة هي أوسع من تجارة أية مدينة في أسبانية، بل برشلونة تعد من أعظم المدن التجارية في العالم. وفي كتلونية عرق فينيقي ثابت في التاريخ، فإن الفينيقيين زاروا تلك البلاد وعمروها، وكانوا يبحثون فيها عن معادن الذهب والفضة، ثم جاء اليونانيون فزاحموا الفينيقيين، وأنشئوا مستعمرات على شواطئ البحر، مثل بلدة روزاس التي قيل لها الروضة، وأنبورياس التي قيل لها أنبوريون
Enporien ، ثم عندما عظمت دولة قرطاجنة جاء القرطاجنيون في القرن الثالث قبل المسيح، وزاحموا اليونانيين وانتشروا في كتلونية. والمظنون أن أسدروبال برقة
Asdrubal Berca
الزعيم القرطاجني هو باني مدينة برشلونة، التي كان اسمها في القديم بارسينو
Bercino .
شكل 57-1: صورة انتصار اينبال على الرومان في واقعة براسيمانو سنة 217 ق.م.
ولما كان الرومانيون حلفاء لليونانيين لم تلبث الحرب أن نشبت بين الرومان والقرطاجنيين، لأن الرومان أرسلوا في سنة 218 قبل المسيح القائد سيبيون
Seipion
وأخاه بأسطول إلى مياه امبوريون، ثم إلى طركونة، ودارت الحرب بين القرطاجنيين والرومان، فانهزم سيبيون وأخوه، وقتلا في المعركة، وفي طركونة نفسها عاد الرومانيون فنزلوا وحشدوا لقتال القرطاجنيين، وصارت هذه البلدة قاعدة للرومان، ومنها امتدوا وانتشروا في أسبانية، وصارت الروضة وامبوريون وبرسينو، أي برسلونة وجيرندة وفيك وبادلوانة ودرطوزة التي سماها العرب طرطوشة، واياردة، التي سموها لاردة وغيزونة وإيزونة وسيقارة، من المدن المعروفة في ذلك الوقت تحت حكم الرومانيين.
وقد ذكر المؤرخون من اللاتين أسماء الشعوب التي كانت معروفة في كتلونية، مثل الكوزتاني
cozetani ، واللاسيتاني
Laciani
والايلارجيت
Ilergeies ، والاينديجيت
Indigetes ، واللاتاني
laletani ، والسيرتاني
Cerretani
والأوزتاني
Austani ، والكاستلاني
Castelloni ، وبعض المؤرخين يذهبون إلى أن اسم كتلونية مشتق من اسم الكاستلاني، والآخرون يقولون إنه مشتق من اسم قبيلة يقال لها «قوطي ألاني»
Gothi-Alani .
شكل 57-2: صورة واقعة بحرية بين القرطاجتين والرومان سنة 218.
أما تاريخ كتلونية في القرون الأولى من القرون الوسطى فلا يزال إلى اليوم غامضا وقد ذكر مؤرخو الإفرنجة أن العرب استولوا على كتلونية في القرن الثامن للمسيح.
قال ابن خلدون عن دخول موسى بن نصير إلى الأندلس:
نهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين، في عسكر ضخم، من وجوه العرب والموالي وعرفاء البربر، فوافوا خليج الزقاق، ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس وتلقاه طارق فانقاد واتبع، ويقال إن موسى لما سار إلى الأندلس عبر البحر من ناحية الجبل المنسوب إليه، المعروف اليوم بجبل موسى، وتنكب النزول على جبل طارق، وتمم الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة من جهة المشرق، وأربونة في الجوف، وضم قادس في المغرب، ودوخ أقطارها وجمع غنائمها، وأجمع أن يأتي المشرق من جهة القسطنطينية، ويتجاوز إلى الشام دروب الأندلس ودروبه ويخوض إليه ما بينهما من بلاد أمم النصرانية، مجاهدا فيهم، ومستلحما لهم، إلى أن يلحق بدار الخلافة من دمشق.
ونمى الخبر إلى الخليفة الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب، ورأى أن ما هم به موسى تغرير بالمسلمين، فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف، وأسر إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين، إن لم يرجع هو، وكتب له بذلك عهده. ففت ذلك في عزم موسى، وقفل عن الأندلس، بعد أن أنزل الرابطة والحامية في ثغورها. واستعمل ابنه عبد العزيز لسدها وجهاد عدوها، وأنزله بقرطبة، فاتخذها دار إمارة. إلى آخر ما ذكره ابن خلدون، مما يدل على أن فتح العرب لبرشلونة وقع في زمن موسى بن نصير نفسه، بل يقول إنه أوصل الغزو إلى أربونة، إلا أنه يقول بعد ذلك: ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس، تارة من قبل الخليفة، وتارة من قبل عامله بالقيروان، وأثخنوا في أمم الكفر، وافتتحوا برشلونة من جهة الشرق، وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف، وانقرضت أمم القوط. وأوى الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب، فتحصنوا بها، واجتازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة، حتى احتلوا البسائط وراءها وتوغلوا في بلاد الفرنجة، وعصفت ريح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة، وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدو بعض الكرة، فرجع الإفرنج ما كانوا غلبوهم عليه من بلاد برشلونة، لعهد ثمانين سنة من لدن فتحها ا.ه.
ثم إنه في نفخ الطيب مذكور فتح هشام بن عبد الرحمن الداخل لمدينة أربونة الشهيرة من جنوبي فرنسة، ولا يقدر الأمير هشام المذكور أن يفتح أربونة وهي في الجوف، على مسافة غير قصيرة إلى الشمال من البرانس، أو جبل البرتات، إلا إذا كان استولى على كتلونية. وجاء في نفح الطيب أن الأمير هشام بعث سنة ست وسبعين ومائة وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث، لغزاة العدو، فبلغ ألبة والقلاع، وأثخن في نواحيها، ثم بعثه بالعساكر سنة سبع وسبعين إلى أربونة وجيرندة فأثخن فيهما، ووطئ أرض برطانية. ا.ه.
وقد نقلت هذه الفقرة في كتابي «غزوات العرب في أوربة» وعلقت عليها بقولي: الأرجح أن لا يكون المراد هنا ببرطانية، برطانية الأفرنسية، بل امبرطانية الكتلانية. وعند ذلك يلزم أن لا تكون البلاد المذكورة قبلها جيرندة التي هي في جنوبي فرنسة، والتي قاعدتها بوردو، بل جيرندة التي هي من مقاطعات كتلونية، أي جيرندة التابعة لبرشلونة، والتي يقال لها اليوم جيرونة، فإن اسمها الروماني القديم جيرونده
Gerunda . وكان اسمها هذا هو المستعمل يوم فتحها العرب. نبهني إلى ذلك ولدنا الفاضل محمد الفاسي الفهري، وقال لي إنه لم يزل بفاس إلى الآن عائلة من الأندلس، يقال لها عائلة الجيرندي، نبغ منها علماء مثل أبي العباس أحمد بن علي بن عبد الرحمن الجيرندي الأندلسي، المتوفي بفاس سنة 1125، ترجمه القادري في نشر المثاني، والكتاني محمد بن جعفر في سلوة الأنفاس. ولا شك في أن العرب سكنوا جيرندة الكتلونية طويلا، ولكنهم لم يسكنوا جيروندة التي عاصمتها بوردو، ولا عرفوها إلا في الغزوات، عابري سبيل. روى لي محمد الفاسي أن المستشرق الأسباني قديرة، كتب فصلا خاصا عن فتح العرب للمدن الثلاثة: برشلونة، وجيرندة، وأربونة، يتلخص منه أن العرب فتحوا جيرندة، عندما فتحوا الأندلس، وبقيت في أيديهم حتى انتزعها منهم شارلمان سنة 785، ثم استردها العرب سنة 793، ثم أخذت منهم سنة 797 أو 798، ثم عادوا ففتحوها، ثم أخرجوا منها نهائيا سنة 800.
وفي الصفحة 116 من كتابنا «غزوات العرب في أوربة» ذكرت نقلا عن المستشرق الفرنسي رينو، ما يلي: منذ استرجع «ببين» القصير أربونة، وأجلى العرب عنها، سكنت الأمور بين مسلمي الأندلس والفرنسيس. وكان ببين يعد البيرانة هي التخم الطبيعي بين فرنسة وأسبانية . وكان عبد الرحمن (يريد الداخل) مشغولا حينئذ بمحاربة الأمراء الخارجين عليه. ولم يكن ببين يهمل شيئا من الوسائل لإثارة نيران الفتنة بين المسلمين. وسنة 759 أي بعد استرداد الفرنسيس لأربونة (وقرقشونة
Carcassona ) دخل أمير برشلونة، المسمى سليمان في علاقات مع ببين وتعاهد معه. ومؤرخو الفرنسيس يزعمون أنه انضوى تحت لواء ببين، ولكن الأصح أن يقال إنه ما قصد إلا أن يستعين به على الاستقلال عن سلطانه. ومن بعد ذلك أصبحت هذه خطة أمراء المسلمين في شمالي الأندلس فيوم يضغط عليهم السلطان في قرطبة، يلجئون إلى فرنسة، ينشدون عندها التنفيس من خناقهم. وإذا ظهرت لهم مطامع الفرنسيس بحق بلادهم عادوا إلى رئيسهم في قرطبة، واعتصموا به. انتهى كلام رينو.
وعلقت على هذا الكلام ما يلي: سليمان الأعرابي الكلبي أمير برشلونة كانت بينه وبين شارلمان علاقات، مذ كان أميرا بسرقسطة. وانظر ما يقوله صاحب أخبار مجموعة: ثم ثار سليمان الأعرابي بسرقسطة، وثار معه حسين بن يحيى الأنصاري، من ولد سعد بن عبادة، فبعث إليه الأمير (يعني عبد الرحمن الداخل) ثعلبة بن عبد في جيش، فنازل أهل المدينة، وقاتلهم أياما، ثم إن الأعرابي طلب الفرصة من العسكر فلما وضع الناس عن أنفسهم الحرب، وقالوا قد أمسك عن الحرب، أغلق أبواب المدينة، وأعد خيلا، ثم لم يشعر الناس حتى هجم على ثعلبة فأخذه في المظلة فصار عنده أسيرا، وانهزم الجيش، فبعث به الأعرابي إلى قارلة، فلما صار عنده طمع قارلة في مدينة سرقسطة من أجل ذلك، فخرج حتى حل بها، فقاتله أهلها ودفعوه أشد الدفع، فرجع إلى بلده. انتهى
وقلت بعد ذلك إن العرب يسمون شارلمان قارلة كما كانوا يسمون جده شارل مارتل وسيأتي ذكر قصة الأمير سليمان هذا الذي مالأ شارلمان على قومه، وكيف انتهى أمره. انتهى
وقد ورد في «أخبار مجموعة» ذكر سليمان الأعرابي في محل آخر حيث يقول: ثار على الأمير (أي عبد الرحمن الداخل) عبد الرحمن بن حبيب الفهري، الذي كان يقال له السقلابي بتدمير، فكاتب سليمان الأعرابي الكلبي، وكان ببرشلونة، ودعاه إلى الدخول في أمره، فكتب إليه الأعرابي: إني لا أدع عونك. فامتعض الفهري من جوابه؛ إذ لم يجمع له فغزاه. فهزمه الأعرابي، فكر الفهري إلى تدمير. ا.ه.
وجاء في «أخبار مجموعة» في مكان آخر: أن حسين بن يحيى الأنصاري عدا على الأعرابي يوم جمعة، فقتله في المسجد الجامع في سرقسطة، وصار الأمر لحسين وحده، فنزل به الأمير، وكان عيسون بن سليمان الأعرابي قد هرب إلى أربونة، فلما بلغه نزول الأمير بسرقسطة، أقبل فنزل خلف النهر، فنظر يوما إلى قاتل أبيه قد خرج عن المدينة، وصار على جرف الوادي، فاقتحم عيسون فرسا له، كان يسميه الناهد، وقتله، ثم رجع إلى أصحابه فسمى ذلك الموضع مخاضة عيسون. ا.ه.
ونقلت في كتابي «غزوات العرب في أوربة» عن المستشرق رينو ما يلي:
وسنة 777 ثار أميران من أمراء المسلمين في مقاطعات نهر أبره، وخرجا من طاعة السلطان في قرطبة، فاجتازا البيرانة، قاصدين شارلمان في فستقالية، حيث كان منعقدا مجلس حافل، وكان أحد هذين الأميرين، وهو المسمى سليمان، قد قاتل عساكر قرطبة، وأخذ قائدها أسيرا، وجاء به، وقدمه كهدية إلى شارلمان، ويزعم مؤرخونا أن هذا الأمير دخل في طاعة الإمبراطور الفرنسي.ا.ه.
وعلقت على هذا بقولي: استشهد رينو على ذلك بمجموعة الدون بركه، وكذلك بتاريخ ابن القوطية. وأما مؤرخو العرب فلم يتفقوا على اسم هذا الأمير، لأن بعضهم يسميه سليمان بن قحطان الغربي، والآخرين يسمونه مطرف بن العربي. وقد تقدم أن هذا الأمير هو سليمان الأعرابي الكلبي. وأما أسيره الذي أرسله إلى شارلمان فهو ثعلبة بن عبد الذي أسره بحيلة كما تقدم. ا.ه.
وفي صفحة 124 من كتابي «غزوات العرب في أوربة»، في أثناء كلامي عن إمارة عبد الرحمن الثاني، نقلت عن نفح الطيب قوله: وفي سنة 236 بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة، وانتهوا إلى أرض برطانية، وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى، عامل تطلية، ولقيهم العدو، فصبروا حتى هزم الله عدوهم. ا.ه. وعلقت على هذه الجملة بقولي: برطانية هنا لا يظهر أنها التي يقال لها بريطانية
Bretagne
من شمالي فرنسة إلى الغرب، بل هي مقاطعة من كتلونية، يقال لها اليوم أمبوردانية
Ampordania
وكان أهل البلاد يقولون لها «أمبروطانية» وهي لفظ مشتقة من «أمبورياس» اسم مدينة فينيقية قديمة، ثم يونانية في أرض كتلونية.ا.ه. ولقد لاح لي الآن أن برطانية هنا ليست أمبوردانية من كتلونية وإنما هي برطانية من أراغون. وهي التي تقدم ذكرها، والأسبان يقولون لها «بلطانية» باللام، ففي هذه الواقعة كان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى من بني قصي وكان عاملا بتطلية من بلاد أراغون.
وفي صفحة 130 من «غزوات العرب في أوربة» ذكرت ملك الحكم بن هشام في قرطبة، وكيف ثار به عماه، فاضطر أن يقضي أوائل أيامه في قمع الثورة، ونقلت عن المستشرق رينو
1
صاحب كتاب «غارات العرب في بروفانس وسيمونت وسويسرة» ما يلي:
بينما كان شارلمان في مدينة «اكسلا شابيل» جاء مستنجدا به أمير برشلونة المسلم، وعم الحكم أمير قرطبة (نقل رينو هذا الخبر عن الدون بوكة) وفي تلك السنة نفسها بينما كان لويس بن شارلمان ملك أكيطانية عاقدا مجمعا في طلوزة جاءه رسول من الأذفونش ملك جليقية وأشتورية، يلتمس حشد جميع القوات المسيحية، وتجريدها لقتال العدو العام، ثم وفد أيضا على هذا المجمع رسول من قبل أمير مسلم، في ناحية وشقة، يقال له «باهلوك» يريد أن يسالم المسيحيين، فظهر أن الغرة كانت لائحة لأخذ الثأر من المسلمين، وللدخول إلى أسبانية. وكان لويس ملك أكيطانية، وأخوه شارل، قد شنا الغارات في أطراف المقاطعات التي تشرب من نهر أبره: ثم عاد لويس فأجاز البيرانة من جهة أراغون، وحاصر وشقة، التي كان أميرها قد أرسل بمفاتيحها إلى شارلمان، ولكن لما جاء الفرنسيس لتسلم بلدته، امتنع عليهم ولبس لهم جلد النمر.
وفي ذلك الوقت كان عبد الله، عم الحكم أمير قرطبة، قد استولى على طليطلة وعمه الآخر سليمان استقر في بلنسية، فسرح جيشا لقتال عمه عبد الله في طليطلة، وسار هو بنفسه مع جيش من الفرسان قاصدا البيرانة، فأدخل في الطاعة برشلونة وغيرها من المدن التي كانت أشرطت نفسها للعصيان. انتهى
وأيدت رواية رينو برواية نفح الطيب عن هذه الحوادث، وهي هذه: وفي سنة اثنتين وتسعين ومائة جمع لذريق بن قارلة، ملك الفرنج، جموعه، وسار لحصار طركونة، فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر فهزمه، ففتح الله على المسلمين وعاد ظافرا. ولما كثر عبث الفرنج في الثغور، بسبب اشتغال الحكم بالخارجين عليه، سار بنفسه إلى الفرنج سنة ست وتسعين، فافتتح الثغور والحصون، وخرب النواحي، وأثخن في القتل والسبي، وعاد إلى قرطبة ظافرا. ا.ه.
قلت: لعل صاحب نفح الطيب يعني بلذريق بن قارلة لويس بن شارلمان، أما الأمير المسلم الذي كان في ناحية وشقة ويسميه الإفرنج «بهالوك» فنرجح أنه هو بهلول بن مخلوق، من عمال قرطبة. وكان قد انضم إلى لويس بن شارلمان في تلك الغارة.
فالمؤرخ كوندي الإسبانيولي يقول: إن الحكم لم يتمتع طويلا بالراحة التي كان وطد أطنابها بتعبه وجهاده، ففي سنة 801 مسيحية، وفق 185 هجرية، تحرك ملك أشتورية وأراد التجاوز على المسلمين، ولما كان يعلم نفسه أضعف من أن يقدر عليهم، استنجد بشارلمان، وهذا أسرع لنجدته، مؤملا بذلك الاستيلاء على أسبانية الشمالية وضمها إلى مملكته، فجعلت أمداد شارلمان تثوب إلى الإسبانيول، تحت قيادة ولده لويس ملك أكيطانية، فزحف لويس واستولى على مدينة جيرونة وجاء فحاصر برشلونة، وانضم إليه بهلول بن مخلوق (الذي نحت منه الإفرنج اسم باهلوك) من عمال أمير قرطبة، وسار بالفرنسيس إلى طرطوشة، فزحف الحكم بنفسه، ومعه عمروس، ومحمد بن مفرج، قائد الخيالة. الذي كان عظيم الاعتماد عليه، نظرا لدهائه وإقدامه، ثم أغار الحكم على نبارة وبنبلونة، ودخل وشقة. فخشي الأذفونش على بلاده، وحشد عساكره، وزحف إليه يوسف بن عمروس، فأوقعه الأذفونش في كمين، وأخذه أسيرا، فدفع عليه أبوه فدية جسيمة حتى أنقذه.
وأما الحكم فكان يتوقد صدره إحنة على بهلول بن مخلوق عامله، الذي انحاز إلى الفرنسيس، ومشى بين أيديهم. ولما عرف أنه في جوار طركونة، عمد إليه من فوره، ولم يزل في أثره حتى ثقفه في طرطوشة بعد أن هزمه، ثم احتز رأسه، ورجع الحكم إلى قرطبة بدون أن يتعرض لبرشلونة، وذلك خوفا من الفشل في حصارها ا.ه.
وقال المستشرق رينو - الذي اعتمدنا على كتابه «غارات العرب في بروفنس وبيمونت وسويسرة» لأنه أشهر كتاب في هذا الموضوع، وكل جملة فيه تقريبا مدعومة بالوثائق، مؤيدة بروايات مؤرخي ذلك العصر، سواء من الإفرنج أو من العرب - ما يلي:
ولم يكن شيء من تلك الغارات، سواء من جهة العرب أو من جهة الإفرنج، ليؤدي إلى نتيجة حاسمة، يصبح منها أحد الفريقين ملكا. أو يحوز فتحا مبينا. وكان أهم ما لقيه الفرنسيس في هذه الحرب، هو أن أمراء المسلمين الذين كانوا أظهروا الطاعة لشارلمان، أبوا أن يقلبوها عندما جاءت جيوشه إلى بلادهم، وأصلوها نارا حامية. وكان المسلمون لا يزالون أصحاب المدن الكبرى، والمعاقل المنيعة، مثل برشلونة، وطرطوسة، وسرقسطة. وكانت برشلونة، بنوع خاص، بحصانة موقعها، وبقربها من فرنسة، وبكونها مدينة بحرية، هي من أشد البلاد نكاية بالفرنسيس وكان الأمير الذي فيها، وهو الذي يسميه الإفرنجة «زاتون
2 » وقد أوهم شارلمان أنه يريد الدخول في طاعته، ولكن عندما حضر الفرنسيس أمام بلدته، قلب لهم ظهر المجن، وكشر عن ناب العدواة، فأجمع لويس شارلمان، ملك أكيطانية، بالاتفاق مع غليوم، كونت طلوزة، وبرأي مجمع مؤلف من أمراء تلك البلاد، أن يستولى على برشلونة في أول فرصة. وكان شارلمان يومئذ في رومة مشغولا بقضية تتويجه إمبراطورا على الغرب. وكانت برشلونة قد أصبحت للمسلمين معقلا متينا، وكانت تصدر عنها فرسان تلك الخيل المشهورة بخفة الحراكات، فتبث الغارات في بلاد النصارى وتعود وأيديها ملأى بالغنائم، وكانت من المنعة بحيث إن الفرنسيس لبثوا سنتين يحصرونها، ويضيقون عليها، ويكتسحون نواحيها، ولم يقدروا على دخولها.
وكان الفرنج في حصارها، قد قسموا جيشهم إلى ثلاثة أقسام: قسم منهم كان يهاجم نفس برشلونة، وقسم ثان، يقوده غليوم كونت طلوزة، كان يرابط في الممر الذي كانت تفيض منه جيوش المسلمين المقبلة من قرطبة لنجدة برشلونة، وقسم ثالث كان يقوده الملك لويس نفسه. وكان في جبال البرانس يحمل على المسلمين حتى وجد الفرصة ملائمة، وكان الإفرنج قد تقاسموا أعمال الحصار فيما بينهم، حتى يتهيأ لكل فريق منهم أن يتقن عمله، فمنهم من كان شغله وضع السلالم، والتسلق على الأسوار والأبراج، ومنهم من لم يكن له شغل غير جلب الميرة والعدة. ومنهم من كان موكولا إليه الحفر والنقب. ومنهم من كان معهودا إليه بوظائف أخرى. فاشتد الحصار إلى درجة غير معهودة، وجاءت جيوش المسلمين لتفرج عن برشلونة، فلم تقدر على النفوذ إليها، فتحولت إلى بلاد اشتورية، وهزمت أهلها، فبقي أمير برشلونة منفردا بقوته، والمدد بعيد عنه، وخرج في إحدى المعارك لقتال الإفرنج المحاصرين، فأخذ أسيرا ثم حمل الإفرنج على البلدة حملتهم الأخيرة ففتحوها.
وكان فتح الإفرنج لبرشلونة سنة 801 بعد أن بقيت تسعين سنة في أيدي المسلمين. فلما دخلوها بادروا بتحويل جوامعها كنائس، وأرسل الملك لويس إلى أبيه شارلمان جانبا من الغنائم، من دروع، وزرود، وخوذ، وخيول مسرجة بأفخر السروج، وبعد ذلك أصبح لفرنسة منطقتان في شمالي أسبانية: إحداهما كتلونية، وقاعدتها برشلونة، والثانية غشقونية، ومن مضافاتها نبارة وأراغون.
أما مؤرخو العرب فينسبون سقوط برشلونة على تأثير الفتنة التي أثارها سليمان وعبد الله، عما الحكم الأموي، وشغلته عن أمجاد تلك المدينة، كما جاء في كلام أبي الفداء وابن خلدون والمقري وغيرهم، وهذا هو الصحيح.
وبقيت برشلونة وما يليها من كتلونية، حاشا طركونة، ولاردة، وطرطوشة، خارجة عن حكم العرب، حتى في زمن عبد الرحمن الناصر، برغم كثرة غزواته، وعظمة دولته. وقد ذكر المسعودي، وهو ممن عاصر الناصر وولده المستنصر، أن الحدود بين المسلمين والنصارى كانت في ذلك الوقت طرطوشة، ومنها إلى أفراغه. وقال ابن خلدون إنه لأول وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور، فغزاهم الحكم المستنصر بنفسه، ونازل شفت اشتابين، وفتحها عنوة، فبادروا إلى عقد السلم معه، وانقبضوا عما كانوا فيه، ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جليقية وسار إلى مدينة سالم لدخول دار الحرب، فجمع له الجلالقة، فهزمهم واستباحهم.
وكان شائجه بن ردمير، ملك البشكنس ، قد انتقض، فأغزاه الحكم التجيبي، صاحب سرقسطة، في العساكر، وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم، ثم أغزى الحكم بن يعلى ويحيى بن محمد التجيبي إلى بلاد برشلونة، فعاثت العساكر في نواحيها.
قال ابن خلدون: ثم بعث ملكا برشلونة وطركونة يسألان تجديد الصلح، وإقرارهما على ما كانا عليه، وبعثا بهدية، وهي عشرون صبيا من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطارا من صوف السمور، وخمسة قناطير من القصدير، وعشرة أذرع صقلبية، ومائتا سيف إفرنجية. فتقبل الهدية وعقد على أن يهدموا الحصون التي تضر بالثغور، وأن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم، وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين.ا.ه.
ومن هنا يعلم أن برشلونة وطركونة ونواحيهما كانت في ذلك الوقت، وهو أواسط القرن الرابع للهجرة، في أيدي أهلها، إلا أن ملوك تلك النواحي كانوا يعدون أنفسهم تحت سيادة الخليفة في قرطبة.
وفي زمن أبي مروان المظفر عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر كانت غزاة المسلمين في كتلونية، لأن ابن عذارى ذكر أنه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة كانت أولى غزوات المظفر إلى بلاد الإفرنج، وفتح حصن «ممقصر» من ثغر برشلونة عنوة، وأسكنه بالمسلمين ودوخ بسيط برشلونة، وما اتصل به. قال ابن حيان: وأظهر عبد الملك المظفر الجد في أمر هذه الغزوة، غرة رجب من السنة، أي 393، ودفع المعاريف والصلات إلى طبقات الأجناد الغازين معه فيها، ووافت الحضرة طوائف كثيرة من مطوعة العدوة المجاهدين، فيهم جماعة كبيرة من أمرائهم وفقهائهم، وتعرض قوم من أمراء هذه القبائل لصلة عبد الملك، فأطلق لهم عند تكاملهم ببابه خمسة عشر ألف دينار عينا، وزعها عليهم بحسب مقاديرهم، معونة على جهادهم، قبلوها منه بالتأول. وتحرج آخرون ممن وافى معهم عن فعلهم.
واتصل ورود المطوعة من كل قوم، وكل ناحية، فتكاملت الحشود بالحضرة، ودنا وقت المعركة، فصب المال صبا. وعهد عبد الملك إلى خزان الأسلحة بتوزيع خمسة آلاف درع، وخمسة آلاف بيضة، وخمسة آلاف مغفر، على طبقات الأجناد الدارعين.
وركب عبد الملك إلى المسجد الجامع لشهود عقد الألوية ، على عادة أمراء الأندلس قبله وذلك يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان من تلك السنة، ثم خرج يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان، من باب الفتح الشرقي، من أبواب الزاهرة، وقد اجتمع الناس لرؤيته، فخرج عليهم شاكي السلاح، في درع جديدة سابغة، وعلى رأسه بيضة حديد مثمنة الشكل، مذهبة، شديدة الشعاع، وقد اصطفت القواد والموالي والغلمان في أحسن تعبئة، وسار عبد الملك إلى أن نزل بمنية أرملاط، أول محلاته، ثم سار إلى أن وصل طليطلة، لسبع بقين من شعبان فتلوم بها يوم الجمعة، ورحل يوم السبت إلى مدينة سالم، فوافاه هناك عدة زعماء من وجوه النصارى وفرسانهم، أرسل بعضهم ملك القوط يومئذ، أذفونش بن أردن، المعروف بابن البربرية ومعهم آخرون ممن أرسل بهم خاله شانجه بن غرسية، زعيم الجلالقة، وصاحب قشتيلة وألبة، وحضر هؤلاء الأرهاط للغزو بين يدي عبد الملك، على ما تضمنه شرط سلمهم المنعقد أول هذه السنة، فأحسن عبد الملك قبولهم، وأوسع إنزالهم، وأصعد عن مدينة سالم إلى الثغر الأعلى، فاحتل سرقسطة.
وأخرج عبد الملك مولاه واضحا، في نخبة من رجاله، إلى حصن «مدنيش»
3
بمقربة من حصن «ممقصر»
4
الذي عمل على قصده، فسار واضح فصبح هذا الحصن مع إسفار الصبح، ورحل عبد الملك، فتلقته رسل واضح، فبشروه بالفتح، وأشرف المسلمون على حصن ممقصر، فكبروا لما نظروا إليه تكبيرا عاليا، كادت الأرض ترتجف له! وتتابع قرع الطبول، وطم هوله، فذعر الكفرة، لأول وقتهم، واحتل الحاجب عبد الملك وعسكر المسلمين بساحتهم، فأحاطوا بالحصن من جميع جهاته، وصمم المسلمون صاعدين إلى الحصن، فوجا إثر فوج، وقد برز المشركون إلى الربض، يمانعونهم عنه بزعمهم، فنشب القتال بين الطائفتين، وصبر المشركون، فلم يمهلهم المسلمون إلا ريثما كشفوهم عن الربض، وأقحموهم خلف السور، واضطروهم إلى التحصن به. ثم جد الكفرة في الدفاع، وصدقوا القراع، فتجرعوا كئوس الحمام دراكا، وضرب الليل رواقه، فحجز بين الفريقين، وقد ثلم المسلمون في السور ثلما كثيرة.
ثم غدا المسلمون على القتال بعد صلاة الفجر، فناهضوا أعداء الله بأصح عزيمة، وقامت الحرب على ساق، فصبر المسلمون على مباشرتها أكرم صبر سمع به، حتى ولى العدو الأدبار، فاقتحموا عليهم الأسوار، وأخذوا كثيرا منهم، وركب الحاجب عجلا بنفسه، مع أكابر أهل مركبه، فارتقى إلى باب قصبتهم، واقتحم الناس على أعداء الله القصبة، فملكوها، وخلصت طائفة منهم إلى محل منيع بهذه القصبة، فساورهم أولياء الله بذروة ذلك المحل، فأيقنوا بالهلاك، وسألوا النزول على حكم الحاجب فأنزلهم، وحكم فيهم بحكم ابن عمه سعد بن معاذ، رضي الله عنه، فقتل جميعهم وملك الحصن، وحاز الغنائم.
وعهد الحاجب إلى المسلمين ألا يحرقوا منزلا، ولا يهدموا بناء، بما ذهب إليه من أسكان المسلمين هناك، فشرع للوقت في إصلاح الحصن، ونادى في المسلمين: من أراد الإثبات في الديوان بدينارين في الشهر، على أن يستوطن في هذا الحصن، فعل، وله مع ذلك المنزل والمحرث. فرغب في ذلك خلق عظيم، واستقروا به في حينهم.
ولما استكمل الحاجب ما أراده من أمر هذا الحصن، أقام كلمة الإسلام منه بأرض لم تر الإسلام قط، رحل عنه إلى بسيط برشلونة، فدوخ بلاد الكفرة، وانبسط المسلمون في عرصاتهم، يحرقون ويهدمون، وانبسطت خيل المغيرة في أرضهم إلى أن أتى بسيطا كثير العمارة، فاحتلوه، وعموا جميعه، ووقعوا على كثير من عيال الجالية من هذه الحصون، فردوهم سبيا إلى المحلة، وأبلغوا في النكاية، وأحرزوا الأجر الجزيل.
وعيد الحاجب والعسكر عيد الفطر بأرض برشلونة، فإنه رحل يوم عيد الفطر غرة شوال من السنة المؤرخة، فأدركه وقت صلاة العيد وهم سائرون، فنزلوا للصلاة. ولما قضى الحاجب صلاته، تبوأ بمصلاه مقعدا، لتهنئته بما سنى الله له من التعبيد في سبيل جهاده، فتقدم إليه أكابر الناس على مراتبهم، ثم ركب فرسه، فتقدم إليه طبقات الأجناد، مبتهلين بالدعاء له، وسار العسكر، ونزل بالبطحاء، ثم رحل من منزل إلى منزل، فعم ذلك كله غارة وانتسافا.
قال حيان بن خلف: ورأى الحاجب عبد الملك أن قد بلغ الغاية من التدويخ لأرض العدو، فرحل بالعسكر منكفئا نحو أرض الإسلام، وأمر كاتب الرسائل أحمد بن برد أن يكتب بالفتح نظيرين: أحدهما إلى الخليفة هشام المؤيد بالله، والآخر يقرأ على كافة المسلمين بقرطبة، وتنفذ نسخته إلى الأقطار، فعجل ذلك وأنفذه نحو حضرة قرطبة، وكان جملة ما تضمنه كتاب الفتح من عدد السبي خمسة آلاف وخمسمائة وسبعين رأسا، وعدد الحصون التي افتتحت عنوة، فقتلت مقاتلتها، ستة حصون، وكان عدد الحصون التي أخلاها العدو فخربت ودمرت خمسة وثمانين حصنا، وكلها قد سميت في كتابه، وأذن الحاجب لجميع المطوعة في القفول إلى بلادهم، إذ قد قضوا ما قصدوا له من جهاد عدوهم، فقفلوا فرحين مستبشرين.
ورحل العسكر من مدينة لاردة يوم الثلاثاء لثمان خلون من شوال، فدخل قرطبة لخمس خلون من ذي القعدة فتلقاه أهل قرطبة وعلماؤها ووجوهها مهنئين شاكرين ثم دخل الحاجب إلى الخليفة هشام، فرفع مجلسه وكساه من ملابسه السنية ثلاث رزم، قرن بها سبعين من خاص سيوفه، فأظهر عبد الملك السرور بذلك، وشكر الخليفة، وقبل يده، وانصرف إلى قصره بالزاهرة.
وجلس يوم الأربعاء ثاني يوم وصوله مجلس التهنئة في أبهة فخمة، وأذن للناس في الوصول على مراتبهم، فوصل في أوائلهم كبار قريش، من بيت الخليفة، المروانيون، ثم القضاة والحكام والفقهاء، ثم وجوه أهل الأسواق والأرباض من قرطبة، ثم وصل الشعراء والأدباء، فأنشد منهم من رسمه الإنشاد، ووضع سائرهم الأشعار بين يدي الحاجب. انتهى نقلا عن ابن عذارى ببعض اختصار.
وجاء في الأنسكلوبيدية الإسلامية عن برشلونة ما محصله: أن العرب افتتحوها سنة 713 في غارة موسى بن نصير لأول الفتح، وسموها برشينونة
Barshinona
ولكن غلب عليها اسم برشلونة، باللام، ثم صارت برسلونة بالسين. وكان العرب يلقبون ملك أراغون وكتلونية بالبرشلوني أو بالبرجلوني بالجيم. وفي سنة 801 غلب عليها لويس بن شارلمان، وبقيت تابعة للملكة الإفرنجية إلى سنة 888، ففي ذلك الوقت استقل بها أمراؤها الذي كان يقال للواحد منهم كونت برشلونة. وقد ذكر «البيان المغرب» أنه في سنة 242 عاد العرب فاحتلوها، كما أن دوزي ذكر أن المنصور بن أبي عامر أخذ برشلونة عنوة، ولكن في سنة 987 رجع الكونت بوريل
Borel
فاستولى عليها، وفي سنة 1137 انضمت إلى مملكة أراغون.
ومما هو جدير بالذكر من خبر برشلونة أن عليا بن مجاهد العامري، ملك دانية أصدر أمرا تاريخه 450 وفق 1058 للمسيح، يضع فيه أسقفيات دانية، وأوريولة، وجزر ميورقة، ومينورقة، ويابسة، تحت رئاسة أسقف برشلونة.ا.ه.
وقد راجعنا قول دوزي في كتابه «تاريخ مسلمي أسبانية» فوجدناه يقول في صفحة 199 من الجزء الثالث أن المنصور بن أبي عامر رحل من مرسية قاصدا كتلونية فهزم الكونت بوريل، ووصل نهار الأربعاء أول يوليو إلى برسلونة. ويوم الاثنين من الأسبوع التالي دخل البلدة عنوة، فقتل جانبا من الأهالي، وأخذ الباقي أسرى وانتهب العسكر البلدة وأحرقوها. ونقل دوزي عن ابن الخطيب أن المنصور استولى على برشلونة في وسط صفر سنة 375، فهذا اليوم يوافق 6 يوليو سنة 985 قال دوزي إن هذا التاريخ صريح في كتب العرب، وهو مطابق تواريخ الإفرنج وقد أخطأ بوفارول
Bofaroll
5
في زعمه أن هذا الحادث وقع في السنة التي بعدها.
وجاء في الأنسيكلوبيدية الفرنسية الكبرى أنه بعد أن استرجع الإفرنج كتلونية كان يوجد فيها تسعة أكناد تابعون للإمبراطور، وفي سنة 872 استقل أحدهم، وهو المسمى عند الكتلان غريفا بيلوس
Griva Pelos
وهم يعدونه أول واضع لأساس استقلال كتلونية. وكان يتولى أيضا بلاد جيرنده
Gironde
وفيش
Vich
ومانرسه
Manresa
وبرجه
Berga ، وبيرالده
، وريباغورس
Ribagorce ، وسيردانية
Cerdagne ، وبسالو
Besalu ، وأمبورياس
Ampurias
وبالارس
، وتوفي هذا الكند سنة 902، ودفن في دير ريبول
Ripoll
الذي كان قد بناه، وفي مدة أولاده أغار المنصور بن أبي عامر على برشلونة، واستلوى عليه سنة 985، ولكن بوريل الثاني لم يلبث أن استرجعها. ثم أن بوريل ريموند الثالث قام بدور عظيم في أثناء الحروب الأهلية التي اشتعلت بين المسلمين، وأضعفت الإسلام فانتصر لمحمد بن هشام على سليمان بن الحكم، وانتصر في واقعة عقبة البقر سنة 1010 ا.ه.
قلنا إن واقعة عقبة البقر هذه هي واقعة شهيرة، تحرير خبرها أن عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، وهو الملقب بشنجول، لأن أمه إسبانيولية، بنت الملك شانجة، كان من الحمقى، وعلى يده انتهت الدولة العامرية، ذلك أنه حمل الخليفة هشام المؤيد بالله على توليته عهده بمحضر من الملأ، وكان يوما مشهودا، فقرئ العهد عليهم، وهو من إنشاء أبي حفص بن برد، فنقم أهل الدولة على شنجول هذه الجرأة الفظيعة، ولاسيما أقارب الخليفة هشام، من الأمويين والقرشيين، وتمشت رجالاتهم في أمر القيام على شنجول، وقتلوا صاحب شرطته، وهو غائب في إحدى غزواته، وكان ذلك سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. وخلعت قرطبة هشاما المؤيد، وبايعت هشام بن عبد الجبار بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، وطار الخبر إلى عبد الرحمن شنجول بمكانه من الثغر فقفل إلى الحضرة بجيشه، فلما قرب من قرطبة وثب عليه من احتز رأسه. وحمله إلى محمد بن هشام الخليفة الجديد، الذي تلقب بالمهدي. وكان العرب قد كرهوا البربر، لمظاهرتهم المنصور بن أبي عامر وأولاده، ونسبوا ما حل من الضعف بدولة بني أمية إليهم، وأخذ المهدي بإهانتهم، ونهبت العامة بعض دورهم، فتمشت رجالاتهم، واشتوروا في تقديم هشام بن سليمان بن أمير المؤمنين الناصر، فعرف بذلك المهدي، فأمر بالقبض على هشام وأخيه أبي بكر، وضرب أعناقهما، وفر سليمان بن أخيهما الحكم ومعه البربر، واجتمعوا بظاهر قرطبة، فبايعوه، ولقبوه بالمستعين بالله، ونهضوا به إلى طليطلة، حيث استجاش المستعين، بشانجة بن غرسية بن فردلند، ثم نهض بجموع البربر والنصارى إلى قرطبة، وبرز المهدي إليهم بجموع قرطبة، فكانت الدائرة على المهدي والقرطبيين، فقتل منهم البربر والنصارى عشرين ألفا، وهلك في هذه الواقعة من خيار الناس والعلماء، وأئمة المساجد عدد كبير. ودخل المستعين الحضرة ختام المائة الرابعة. وقيل إن الذي هلك من أهل قرطبة ثلاثون ألفا، وقالوا إنها كانت أول ما أخذ النصارى من إثاراتهم عند المسلمين، وكان ذلك على يد فرقة من أنفسهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد. •••
ثم نعود إلى ما ذكرته الأنسيكلوبيدية الفرنسية الكبرى من تاريخ كتلونية فنقول:
إنه بعد ريموند بوريل الثالث قام بيرنجة ريموند الأول (1018-1035) وهذا قسم مملكته بين أولاده الأربعة، وكان أكبرهم ريموند بيرنجه الأول، الملقب بالشيخ (1035-1076) الذي اتسعت مملكته، وغزا مرسية العربية سنة 1074 وقام بعده ولده ريموند بيرنجه الثاني، وحفيده بيرنجه الثاني الذي قتل أخاه وانفرد بالمملكة (1082-1097) وكان لهذا الكند مدخل في الحرب الأهلية بين المسلمين وهو الذي انتزع طركونة من أيديهم سنة 1091، ورحل إلى المشرق مشتركا في الحرب الصليبية. وخلفه ابن أخيه الذي تلقب بريموند بيرنجه الثالث، ويقال له الكبير. وفي زمانه بلغت كتلونية قمة عزها ومجدها، وصار لبرشلونة أسطول وكانت لها تجارة واسعة! وفي أيامه أخرج الإسبانيول العرب من جزائر ميورقة وأخواتها. وذلك باجتماع أسطول برشلونة مع أساطيل بيزة ورومة من إيطالية مما سيأتي الكلام عليه، فسقطت ميورقة في أيدي الكتلان سنة 1115، وكان العرب قد شنوا الغارة على كتلونية فهزمهم ريموند برنجه في وسط كونغسط
Congost
وفي سنة 1130 زحف إلى طرطوشة وحاصرها، وضيق عليها، وأجبر كلا من أميري طرطوشة ولاردة أن يؤدي له إتاوة سنوية، إلا أن العرب عادوا فأغاروا على بلاده، وهزموه في واقعة كوربينس
Corbins
وبينما كان يتأهب لأخذ الثار منهم، وقعت وفاته في سنة 1131، وكانت اتسعت مملكته جدا، لأنه عدا كتلونية، كان قد استولى على قرقشونة وكونتية بروفنس من فرنسة، وكانت في يده ميورقة، والجزائر التي حولها.
وبعد وفاته انقسمت المملكة بين ولديه، أحدهما البكر وهو المسمى ريموند بيرنجة الرابع، والثاني بيرنجة ريموند، الذي تولى بلاد بروفنس من فرنسة، وترك لأخيه كل ما كان تابعا للمملكة من أسبانية، وتلقب ريموند بيرنجة الرابع بالقديس وأخذ يحارب المسلمين، وأنفق مع رامير الثاني
Ramire II
ملك أراغون، الذي كان قد ترهب في الآخر، وتقرر بينهما تزويج ريموند بيرنجة بالأميرة بترونيليه
وارثة مملكة أراغون، ولما خلع رامير الثاني نفسه من ملك أراغون، واختار الرهبانية بايع أهل أراغون ريموند بيرنجة المذكور ملكا عليهم، فصارت في يده قوة عظيمة، وتحالب مع الأذفونش السابع ملك قشتالة، وساعده في غارته على المرية سنة 1147 ثم إنه بمساعدة الجنويين حاصر طرطوشة، واستولى عليها في 31 ديسمبر سنة 1148 وبعد أن طرد العرب من طرطوشة أخرجهم من مواطنهم الأخيرة في أطراف بلاده، من جهة الغرب، مثل لاردة، وفراغه، ومكناسة، وفي سنة 1152 لم يكن بقي للعرب شيء في كتلونية.
وفي سنة 1162 خلفه ابنه ريموند، الذي ضم وشقة إلى مملكته، وتلقب بأذفونش الثاني،
6
وكانت كل من مملكتي أراغون وكتلونية تحت حكمه، ولكن الاتحاد بينهما كان سياسيا فقط، إذ كل من المملكتين كانت محتفظة بلغتها، وعاداتها ومشاربها، ولم يمنع اختلاف الذوق والمشرب من الاتفاق في السياسة، فإن أراغون كانت، بسبب كتلونية، تتصرف بقوة بحرية عظيمة. وكما أن كتلونية، بواسطة أراغون، كانت تتصرف في القرنين الثالث عشر والرابع عشر بقوة برية عظيمة، فأفادهما الاتحاد فوائد لا تحصى، لاسيما في إجلاء العرب عن شرقي أسبانية.
ولما آل الملك إلى فرديند الكاثوليكي، ثم إلى شارلكان، كانت كتلونية تابعة لأسبانية، ولكن الكتلان بطبيعتهم لا يحبون القشتاليين، ولا يمتزجون معهم، وفي سنة 1639، عندما أراد فليب الرابع، ملك أسبانية، إلغاء امتيازات كتلونية، ثار الكتلان به، وحاربوه بمساعدة لويس الثالث عشر، ملك فرنسة، الذي اعترف بحكومة جمهورية لكتلونية، واستمرت هذه الثورة مدة اثنتي عشرة سنة. ثم وقع الاتفاق بين الفريقين سنة 1659. وصدر العفو عن الثائرين، وبقيت امتيازات كتلونية محفوظة، ولكن في سنة 1689 ثارت كتلونية مرة ثانية، ولما انتخبت أسبانية حفيد لويس الرابع عشر ملكا عليها لم يعجب ذلك الكتلان، كرها بأهل قشتالة، الذين انتخبوه، فانتقم فيليب الخامس من الكتلان، وأذاقهم عذابا واصبا وألغى امتيازاتهم، ونقل المدرسة الجامعة من برشلونة إلى سرفيره
Cervera . إلا أن الكتلان هم أهل جد ونشاط، فلم يلبثوا أن تقدموا إلى الأمام بجدهم، وصارت بلادهم أغنى قطعة من أسبانية. ولما زحفت جيوش نابليون على أسبانية قاومها الكتلان مقاومة شديدة، كسائر أهل أسبانية. وفي الحروب الأهلية التي تقع كثيرا في أسبانية، كان الكتلان ينقسمون إلى قسمين، فأهل الجبال منهم ينزعون بطبيعتهم إلى المبادئ الملكية، وأهل السواحل، مثل برشلونة، يميلون إلى المبادئ الحرة.
ولما سقطت الملكية سنة 1931 جرت حركة شديدة في كتلونية، لأجل الانفصال عن سائر أسبانية، ولكن المعتدلين من الكتلان كانوا يكتفون لكتلونية بالاستقلال الداخلي، ولما كانوا في أيام الملكية قد اتفقوا مع زعماء الحزب الجمهوري على ذلك، بموجب معاهدة وقع عليها الفريقان، لم يقدر زعماء هذا الحزب بعد أن قبضوا على ناصية الحكم، إلا أن يجيبوا الكتلان إلى بعض مطالبهم بالأقل، فلم يكن رضى الكتلان عن الحكومة الكتلونية الجديدة تاما، ولبثوا يترقبون الفرصة لأجل استكمال حريتهم.
وفي أثناء ما نحن نكتب هذه السطور تشتعل نيران الحرب الأهلية في أسبانية بين الحزبين الكبيرين الحزب المحافظ، ومعه القسوس، والأحبار، وأكثر قواد الجيش، والفئة الملكية، والفئة الجمهورية المعتدلة. والحزب الاشتراكي، ومعه العملة، والشيوعيون، والصعاليك، والفلاحون من طلاب الأراضي، والجمهوريون الغلاة الثائرون على القديم. ولقد مضى إلى ساعة رقم هذه الأحرف نحو من خمسة عشرة يوما والفتنة تضطرم في جميع مدن أسبانية، والقوتان متكافئتان إلى هذا اليوم، لا يقدر الناظر إلى الحوادث أن يستخلص منها حكما بترجيح الظفر لإحدى الفئتين. وقد وقعت الوقائع في برشلونة أيضا، وانتصب الميزان نحوا من ثلاثة أيام، إلا أن كفة حزب اليسار رجحت فيها على كفة الحزب المحافظ، وسارت العساكر الموالية للجمهورية ومعها عصائب من الأهالي، قاصدة إلى سرقسطة، لإخضاع الجيش الثائر فيها على الحكومة. وقد مرت هذه القوة الزاحفة ببلدة قشب، وأدخلتها في الطاعة، ولا نعلم ماذا يتم في سرقسطة؟
فظهر من هنا أن سكان السواحل من كتلونية لا تزال تنزع فيهم من الحرية أعراق تتجلى فيهم عند كل فرصة. •••
ذكرنا قبلا أن اللغة الكتلونية هي أقرب لغة إلى اللغة البروفنسية
ومن المعلوم أن الكتلونية، والبروفنسية، والقشتالية، والبرتغالية، كلها مشتقة من اللغة اللاتينية التي هي الأم. وذلك بفساد طرأ على اللغة اللاتينية في القرون الوسطى فما زال يعمل عمله فيها حتى تكونت منها عدة فروع، يقال لها عند الإفرنج: لغات الأوك
Langues d’Oc
وقد أصبحت اللغة الكتلونية لغة متميزة عن غيرها، منفصلة عن القشتالية والغالية في القرن الثاني عشر للمسيح، ولكنها إلى ذلك الوقت لم تكن لغة أدب وتأليف، وما ابتدأ التأليف في اللغة الكتلونية إلا في القرن الثالث عشر، فظهرت فيها دواوين شعرية، ومعجمات لغوية، وكتب نحو وصرف، وأخذت تنمو وتنتشر، ولما استولى ملوك برشلونة وأراغون على جزر الباليار، امتدت اللغة الكتلونية إلى ميورقة ومينورقة ويابسة، وإلى بلنسية والقنت ، وصارت هي اللغة السائدة في شرقي أسبانية. وكانت الملاحة في سواحل أسبانية الشرقية في أيدي الكتلان، فصارت اللغة الكتلونية هي أداة التفاهم عند جميع البحرية، في هذه القطعة من البحر المتوسط. وقد انقسمت اللغة الكتلونية هي أيضا إلى لهجتين إحداهما الميورقية، والثانية البلنسية، وأكثر ما كان التباين هو في اللفظ، وفي تركيب بعض الجمل. ولما اتحدت مملكتا أراغون وقشتالة، تقلصت اللغة الكتلونية من أراغون، ولكنها بقيت هي اللغة المعروفة في كتلونية، وجزر الباليار، وبلنسية والقنت.
ولما كنت في ميورقة جرى التعارف بيني وبين قسيس كبير طاعن في السن، قيل لي إنه من كبار العلماء، وإنه صنف كتابا بالغا عدة مجلدات في فرائد اللغة الكتلونية.
وهذه اللغة وإن كانت لاتينية محضة في أصلها فقد دخل فيها ألفاظ كثيرة جرمانية وألفاظ كثيرة بروفنسية، وألفاظ كثيرة عربية، وهي في كثرة الداخل عليها من العربي أشبه بالإسبانيولية القشتالية.
أما في تركيب الجمل فيوجد تشابه كثير بينها وبين البروفنسية، ومن خصائصها أنه يقع فيها تبديل حرف بحرف، فيجعلون بدلا من حرف
E
حرف
I
أو حرف
O
أو حرف
U ، وهم يجعلون دائما حرف
X
بدلا من حرف
S . وإذا كان اسم أو نعت باللغة البروفنسية منتهيا بأحرف
An
أو
En
أو
In
أو
Im
فالكتلوني يضيف إلى هذا الاسم أو هذا النعت حرف
Y
فإذا جاء في البروفنسي لفظة
Engin
مثلا جعلوها في الكتلوني
Enginy . وعلامة التأنيث في النعوت هي في الكتلوني حرف
A
كما هي في البروفنسي، ولكن ليس ذلك مطردا، فقد يقولون
Fort
في مقام التأنيث بدلا من أن يقولوا
Forta
ومزية هذه اللغة هي الاختصار والنحت، فهي لا تعرف تغيير أواخر الكلم بحسب مواقعها من الإعراب. بل تقتصر على أصل الكلمة، وربما تحذف بعض أحرف من أواسطها. فنجد فيها مثلا لفظة
Vino
منحوتة بلفظة
Vi
ولفظة
Bono
منحوتة بلفظة
Bo
7
ولذلك تمتاز هذه اللغة بالشدة الجزم، وقوة المقاطع وهي في هذا كالتركية. ومن مزاياها كثرة الألفاظ المحاكية للأصوات ، وهي التي من قبيل الطقطقة، والهمهمة، والغمغمة، والدمدمة، وخرير الماء، وصرصرة البازي، وشقشقة الفحل. وفحيح الحية، وما أشبه ذلك في العربية فهذا الضرب من الكلام مستفيض في هذه اللغة وإذا انتهت فيها الكلمة بحرف صائت حذفوه، وتلفظوا بها بصورة الجزم.
وأما آداب اللغة الكتلونية فقد قسمها بعضهم إلى ثلاثة أداور؛ الأول: هو الدور البروفنسي، وأمده من القرن الثالث عشر إلى أواسط القرن الرابع عشر. والدور الثاني: هو الكتلاني، الذي يبدأ من زمان الدون جقوم، وينتهي بالقرن الرابع عشر. والثالث: هو المسمى بالبلنسي، وهو يبدأ بأوزياس مارك
Ausias March
وينتهي بنهاية القرن الخامس عشر. ثم إنه في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر كتبت باللغة الكتلونية كتب نفيسة، ونظم الشعراء أشعارا رائقة، ولكن الأدب الحقيقي لم يبدأ إلا في القرن الثالث عشر، ففي ذلك العصر عدل الشعراء، والزجالون من الكتلان عن اللغة المكتوبة، ونظموا باللهجات العامية كما يعلم من قرأ شعر بركدان
Berquedan
وبليور
Benluire
وغيرهما. وممن اشتهر بهذا الأسلوب من شعرائهم برناردو موغوده
Bernardo de Moguda
وجقوم فبرر
Jaime fabrer
وكان موغوده في صحبة الملك جقوم الأول عندما فتح ميورقه، فقال في ذلك الفتح ما هو شعر وتاريخ معا. وللشاعر فبرر والشاعر الآخر جوردي داراي
Jordi del Ray
قصائد وصفا بها تلك العاصفة الشديدة التي دمرت أسطول جقوم الأول، ومنعته من خوض غمرات الحرب الصليبية في الشرق.
والغالب على الكتلان أنهم يميلون إلى ذكر الأحداث الواقعة المحسوسة أكثر من ميلهم إلى العواطف والخيالات، ولذلك نجد لهم في التاريخ كتبا قيمة وكان جقوم الأول، الملقب بالفاتح، قد كتب هو نفسه تاريخا لغزواته، مملوءا بالوقائع، وقد طبع هذا التاريخ طبعته الأولى في برشلونة سنة 1517، وهذا الملك كان قد سن قانونا بحريا لبثوا مدة طويلة يعملون بموجبه في البحر المتوسط، ثم دخلت منه قواعد كثيرة في القوانين البحرية الحديثة. لهذا كان هذا الملك معدودا من أعظم الأدباء الذين خدموا اللغة الكتلونية. وفي القرن الرابع عشر اشتهر بتره الثالث ابن جقوم الأول، فأمر بكتابة تاريخ عن مغازي والده ومغازيه هو.
وممن امتاز في علم التاريخ والآثار دسكلوت
Desclot
محرر تاريخ أراغون، المعدود من أحسن مؤلفات القرون الوسطى. ثم مونتانير
Montaner
وهو نديده في معرفة التاريخ، ولكنه أعلى منه عبارة، ويقال إنه أفصح مؤلف في عصره.
وممن بلغوا لذلك العهد جوان مورتوريل
Martorell
وله كتاب قصص عن الفروسية، يقال إن أديب أسبانية الأكبر سرفنتيس
Cervanies
لم يكن يحفل بغيره. ولا يجب أن ننسى بونيفاسيو فرر
Ferrer
الذي ترجم التوراة كلها إلى الكتلونية، وطبعت هذه الترجمة في بلنسية سنة 1478. ونبغ كثير من الشعراء بهذه اللغة نخص منهم بالذكر رامون مونتانير
Ramon Montaner
وموزن زالبا
Mosen Zalba
وموزن توريل
Mosen Turrell
وغيرهم. وفي زمن بتره الرابع ملك أراغون تألفت أكاديمية بسعي لويس آفيرسو
Averso
وجاييم مارك
Jaime Merch
وكان للأدب الإيطالي تأثير في الأدب الكتلوني، نظرا لكثرة العلاقات بين البلادين، وترجم أندري فبرر المهزلة الإلهية لدانتي.
أما الدور البلنسية فهو أرقى أدوار اللغة الكتلونية، وذلك لأن اللهجة البلنسية أرق وأشجى بكثير من اللهجة البرشلونية الجاسية، ولأنه نبغ في بلنسية شعراء كان يجري في عروقهم الدم العربي، ومن شعراء بلنسية المشهورين دوسان جوردي
De San Jordi
وجقوم رواغ
Roig
وجقوم غازول
Gazull
الذي اشتهر برثائه الفلاحين في سهل بلنسية، وأنليزة
Anleza
وبلتزا روبورتلس
ونرسيزوفينيولاس
Vinyolas
ومرسين غرسية، وجوان فوغاسو
Fogasso
وتورنيدة
Turneda
الذي نظم المبادئ الأدبية المسيحية شعرا.
ونبغ من الثائرين جوان مانسو
Manso
الذي ألف كتابا على اللهجة البلنسية وبيرته طوميش، وله تاريخ وقائع، وجبرائيل تورل، صاحب تاريخ أكناد
8
برشلونة، ولويس الكنيس، وميكال بيريز
، وبقيت الآداب اللغوية الكتلونية زاهرة مدة دوام استقلال برشلونة، فلما أضاعت هذه البلاد استقلالها في زمن الإمبراطور شارلكان، تقلصت الآداب الكتلونية، ورجعت تلك الحركة إلى الوراء، ومع هذا فقد نبغ من الكتلان في ذلك العصر شعراء، مثل بيتره سيرافي
Serafi ، وجيبرغا
Giberga ، وجوان ماتارو
Mataro ، الذي نظم قصيدة عن واقعة ليبنط البحرية، التي تغلبت فيها الأساطيل النصرانية على الأسطول العثماني، واشتهر من المؤلفين بيتره كاربونيل
Carbonell ، وفرنسيسكو كاله
Calca
وميكال فرر، وكاتب جغرافي اسمه فرنسيسكو طرفه
Tarrafa
وروكه مؤلف معجم لغوي للسان الكتلوني.
ومن الفقهاء فرنسيسكو سولسونة
Solsona ، ومن الأطباء جوان روفائيل مواكس
Moix
وغيرهم، ولكن زوال الدولة البرجلونية فت في عضد اللغة الكتلونية وهو أمر بديهي، فحيث لا توجد دولة قومية، لا يوجد أدب حقيقي، انظر إلى العرب كيف ضعفت ملكة البيان عندهم، بعد استيلاء الأعاجم على بلادهم .
وكان مبدأ انحطاط اللسان الكتلوني في القرن السابع عشر، واستمر إلى الثامن عشر وزاد الطين بلة أن فيليب الخامس أمر بإلغاء الامتيازات الكتلونية، وبعدم تحرير أوامر الحكومة باللغة الكتلونية. وصاروا يؤلفون الكتب في كتلونية باللغة القشتالية، ولكن برغم تضييق الدولة الأسبانية على هذه اللغة، بقيت فيها بقايا صالحة من شعراء وكتاب، مثل فرنسيسكو بالار، وإينياسيو فريره، وأوغسطين أوره، وغيرهم.
وبقيت اللغة الكتلونية تتقهقر إلى الوراء إلى أيام الثورة الفرنسية، التي تلقى الكتلان مبادئها بشوق عظيم، فحصلت نهضة سياسية صحبتها نهضة لغوية، ونشطت هذه اللغة ثانية من عقالها، وتنظمت جامعة برشلونة على نسق جديد، وتألفت أكاديميات، وانتشرت صحف، ونشأ ناشئة كتلونية، تنزع إلى إحياء أدبها القديم.
ونشر عبدون تراداس
Abdon Terradas
أول جريدة باللغة الكتلونية سنة 1838 وأخذوا ينظمون وينثرون بهذه اللغة، وكثر الشعراء والزجالون. مثل بادريس
. وبوفارول
Bofarull . وريكار
Ricart . واسترادا
Estrada . وغيرهم. ولكن اللغة القشتالية بقيت فائقة.
ومن سنة 1860 فصاعدا انقسم الأدباء إلى قسمين: بعضهم يذهب إلى ترقية اللغة الكتلونية، بدون إهمال القشتالية شقيقتها، وبعضهم يأبى إلا حصر الأدب والقضاء والسياسة في الكتلونية، والحزب الأول يكثر في بلنسية، وأما الحزب الثاني فأكثره في برشلونة، وعلى كل حال فاللسان الكتلوني من ستين أو سبعين سنة إلى اليوم، قد بعث بعثة جديدة، وتمثلت فيه الروايات ونظمت المآسي، والمهازل والنشائد المختلفة، واشتهر في هذا الدور فيكتور بلاغر
Belaguer
من الشعراء وأورس
Ors
رئيس أكاديمية الآداب في برشلونة، وفرنسيسكو بارترينة، وغيرهم. ومن كتاب القصص فونتانلس
Fontanals
وله شهرة في كل أوربة، وأولر
Oiler
وتوده
Toda .
هوامش
الفصل السابع والثلاثون
مراسلات سلطانية
وقعت بين أقماط برجلونة ملوك أراغون وسلاطين بني الأحمر أصحاب غرناطة
كانت المراسلة لا تنقطع بين سلاطين غرناطة بقية ملوك العرب في الأندلس، من جهة، وبين ملوك قشتالة، وملوك أراغون، وأقماط برجلونة من جهة أخرى، بسبب الجوار، واتصال الأرض بالأرض، واشتباك المصالح، والمرافق، ولقد أتينا في كتابنا «آخر بني سراج » المذيل بمختصر تاريخ أسبانية، في طبعته الثانية، بأربعة مراسيم سلطانية صادرة عن السلطان أبي الحسن علي بن الأحمر، على بعض فرسان الإسبانيول وزعمائهم ونحن الآن ناشرون بعض كتب من سلطان غرناطة يوسف بن إسماعيل بن فرج، إلى الدون بتره، ملك أراغون وكتلونية. قد أهدانا هذه الوثائق النفيسة الأخ الفاضل الوجيه الحاج محمد العربي بنونة، من أعيان تطوان وذلك نقلا عن مجموعة رسائل اتصل بها من كتلونية، حاوية عددا كبيرا من هذه المراسلات، إلا أن تقادم العهد قد طلسها، وعبث الأرضة بها قد جعل قراءتها متعذرة وطمسها، فبعد الجهد الجهيد تمكن الأخ العربي بنونة، جزاه الله خيرا، من نسخ هذا الجزء القليل، الذي اتضح له خطه، وتسنى له ضبطه، وهو ما يلي بحروفه:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
السلطان الأجل، المرفع المكرم، المبرور المشكور، الأوفى الأخلص، دون بطره: ملك أراغون، وسلطان بلنسية وسردانية وقرصقة، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، مكرم جانبه، وشاكر مقاصده في الوفاء ومذاهبه، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة ومالقة والمرية ووادي آش وما يليها، أما بعد فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا، وعن العلم بمحلكم في الملوك الأوفياء، والشكر مما لكم في الصحبة من المذاهب والأنحاء، وإلى هذا فموجبه إليكم هو أنه حدثت شكايات في هذا الصلح، رفع إلينا فيها أهل بلادنا، وطلبوا خلاصها، فاقتضى نظرنا أن وجهنا إليكم كتابنا هذا، صحبة سفير بها، ومن هذه الشكايات ما صدر عن أهل بلادكم من أخذ أسارى، وحملهم إلى أرض غير أرضكم، وبيعهم لهم بها، ونحن نعلم أنكم أوفى ملوك النصرانية، وإنك ما عرفت إلا بالوفاء قديما وحديثا، فقصدنا منكم أن تعملوا في هذا الحال ما تقتضيه غيرتكم على عهدكم، ومحلكم في الوفاء وتأمروا بخلاص الشكايات على الوجه الذي يقتضيه نظركم، ويكون ذلك مما نشكره من أعمالكم، ونزداد به علما بوفائكم، وحسن مصادقتكم. وقد وجهنا إليكم برسم هذه الشكايات مملوك جانبنا القائد بشيرا، ومعه أقين ولد خديمنا وخديمكم بشقلين شرنجة،
1
وأنتم تفعلون ما هو اعتقادنا فيكم، وما نعلمه من مقاصدكم في الوفاء ومناحيكم، والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، وكتب في اليوم الرابع والعشرين لشهر محرم مفتتح عام سبعة وثلاثين وسبعمائة، عرف الله خيره.
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
السلطان الأجل، المرفع المكرم، المبرور المشكور، الأوفى الأخلص، دون بطره، ملك أراغون، وسلطان بلنسية، وصاحب سردانية، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، مكرم جانبه، وشاكر مقاصده في الوفاء ومذاهبه، حافظ عهده البر به، العارف بمحله في الملوك ومنصبه، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، أما بعد فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا، وعن الحفظ لعهدكم، والثناء على مذهبكم في الوفاء وقصدكم، والعلم بمنصبكم في ملوك النصرانية ومجدكم، وإلى هذا فقد وصلنا كتابكم جوابا عما كتبناه إليكم، في شأن الضرر الذي لحق بلادنا من أرضكم، تذكرون أن ذلك الضرر لا علم عندكم به، وحاشا لله أن نعتقد فيكم إلا الوفاء الذي يليق بمملكتكم وسلفكم، فمثلكم من الملوك الكبار لا يعتقد فيه إلا الوفاء والصدق. وما ذلك الضرر إلا من أهل الأرض، وأكثره من الناس الخارجين عن طاعتكم من لقنت، والمدور، وأريولة، والأرض التي لنظر بطره شارققة، ومع ذلك فإنه ضرر كبير، ومنه ما هو من البلاد التي تحت طاعتكم. ففي هذه الأيام أضر بهذه السواحل شيني،
2
وحمل من المسلمين حملة (جملة لم نتبين حقيقتها) ببلنسية، فالقصد منكم أن تنظروا في هذا الحال بما هو المعلوم من وفائكم، وغيرتكم على عهدكم، حتى تجدوا ما أخذ من المسلمين وأموالهم، وعرفونا بما عندكم في قضية تلك البلاد التي خرجت عن طاعتكم، لنعلم مذهبكم في ذلك، ونبني عليه وعرفت بأنكم قد كتبتم إلى ميورقة، ليوصل إليكم منها المفسدون الذين خرجوا على عهدكم، وأضروا بالمسلمين لتعملوا في قضيتهم الواجب، وذلك هو الذي يليق بكم، ونشكركم عليه، ووقفنا في آخر كتابكم على فصل طلبتم منا فيه أن نعرفكم بمذهبنا في الصلح، فإنكم صعب عليكم ما تضمنه كتابنا، وإنه لا صبر على هذا الضرر، فاعلموا أن قصدنا بما كتبناه إليكم ما هو إلا (كلمة أشكلت قراءتها) في ذلك الضرر، وأما ما عقدناه من الصلح فنحن نوفي به على حسب ما اشترطناه، ما وفيتم لنا أيها السلطان، فكونوا من ذلك على يقين، والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، وكتب في يوم الخميس الثالث والعشرين لشهر محرم مفتتح عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة.
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
السلطان الأجل، المرفع المكرم، المبرور الأوفى الأشهر المذكور الأخلص، دون بطره، ملك أراغون، وبلنسية، وميورقة، وسردانية، وقرسقة، وقمط برجلونة ورشليون،
3
وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، مكرم مملكته، الحافظ لعهده، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية، ووادي آش، وما إليها، وأمير المسلمين، أما بعد فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا، وجانبكم مكرم مبرور، ومحلكم في الملوك الأوفياء مشهور، ومذهبكم في الصحبة والوفاء بالعهد معلوم مشكور، وإلى هذا فقد وصلنا كتابكم، جوابا على كتابنا الذي وجهناه إليكم، صحبة إرسالنا، واستوفينا ما ذكرتم فيه، وما قررتم عندنا، من أنكم أمرتم خدامكم وولاة بلادكم، بالإنصاف من كل ما أخذ للمسلمين بعد عقد الصلح، وذلك هو الذي يليق بسلطان مثلكم، فما زال أسلافكم الملوك يعرف منهم الوفاء بالعهد، والوقوف في حفظ أمور الصلح على ما عقدوا عليه، وتعلمون أن هذه الشكايات التي لحقت أرضنا من ناسكم، قد طال الحال فيها، ووجهنا فيها إليكم إرسالا، وهم يترددون في طلبها، منذ نحو من عام، وما زال أهل بلادنا الذين لحقهم الضرر، يتشكون إلينا، مرة بعد مرة، ولا يسعنا إلا أن ننظر لهم، فقصدنا منكم أيها السلطان أن تعزموا في هذه الحال عزيمة مثلكم من السلاطين، وتحكموا على ناسكم بخلاص ذلك حكما حزما، وقر رأينا أن وجهنا إليكم بكتابنا هذا خديمنا الفارس المكرم أبا الحجاج يوسف بن فرج أكرمه الله، فعسى أن تجعلوا معه من يظهر لكم من ناسكم، يتردد معه على الجهات التي تعينت الشكايات فيها، وتنفذوا لهم أمركم في ذلك بالخلاص الذي يقع به الإنصاف على أكمل الوجوه، فإن فعلتم ذلك فعلتم ما يليق بكم، وما نقابلكم عليه إلا بالشكر، وإلا فلا يسعنا إلا أن ننظر لرعيتنا وجها يكون فيه خلاص شكاياتهم، وإذا وقع الاسترهان، فلا يخفى عليكم ما يحدث في ذلك من خلل في الصلح، وأنه لا يستقيم له. هذا ما عندنا عرفناكم به، ونحن نرقب ما يكون من عملكم في ذلك، والله يصل لكم بطاعته عوارف رضوانه، ومواهب إحسانه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا. كتب في التاسع عشر لشهر ذي الحجة عام ستة وأربعين وسبعمائة.
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
السلطان الأجل، الأوفى الأخلص، المبرور المشكور، المرفع المكرم، دون بطره، ملك أرغون، وبلنسية، وميورقة، وسردانية، وقرسقة، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، ويسره لما يحبه الله ويرضاه، مكرم مملكته، البر بجانبه، الشاكر لمقاصده في الوفاء ومذاهبه، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية، ووادي آش، وما إلى ذلك، وأمير المسلمين. أما بعد فكتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حماها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا كما هو أهله، وجانبكم مبرور، ومحلكم في ملوك النصرانية معلوم مشهور، وإلى هذا فموجبه إليكم هو أن شخصين من أهل المرية، يعرف أحدهما بعلي بن بكرون الصائغ، والآخر بسعيد بن أحمد الحجام، أخذا في جفن
4
الرخاج (كذا) وهما خارجان من مالقة، وثبت عندنا عقد صحيح أنهما أخذا في نصف شهر صفر الفارط قريبا، ونصف صفر موافق للسابع والعشرين ليونيو، المتصل بشهر مايو، وصلحنا معكم عقد بتاريخ الرابع عشر من الشهر العجمي المذكور، فظهر من ذلك أنهما أخذا بعد عقد الصلح باثني عشر يوما، وهذان المسلمان وصل بهما إلى المرية نصراني من بلنسية، يروم فداءهما فرفع إلينا قرابتهما، وعرفونا أنهما أخذا في الصلح، فرأينا أن حكمنا على قرابتهما بأداء الفدية للنصراني، ثقة بأنكم تخلصون القضية، وتحكمون على من اشتراهما أو باعهما بعد أخذهما في الصلح بغرم ما يجب في ذلك، فغرضنا منكم أن تعلموا في هذه القضية ما هو المعلوم من وفائكم، حتى يخلص قرابة الأسيرين من الفدية التي غرموها في غير حق، تعملوا في ذلك واجب الوفاء الذي نشكره لكم، والله يصل عزتكم بتقواه، وييسركم لما يحبه ويرضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، كتب في الثامن والعشرين من شهر رجب الفرد عام خمسة وأربعين وسبعمائة ا.ه.
وبعد انتهاء المكتوب ملحق به سطران بخط غير خط المكتوب، وهو دونه في الحسن، والمظنون أنهما بخط سلطان غرناطة نفسه، ونصهما:
والفدية التي افتكوا بها، وحكمنا عليهم بغرمها للنصراني الذي أوصلهم، هي اثنان وخمسون دينارا من الذهب العين، سواء بينهما، فعرفناكم بذلك، بعد الوقوف على عقود الفدية بذلك، ومعاد السلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا. وفي تاريخه.
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ليعلم من يقف على هذا الكتاب ويسمعه، أننا الأمير عبد الله يوسف بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية ووادي آش، وما إليها، وأمير المسلمين، لما انعقد الصلح بيننا وبين السلطان الأجل المرفع، الأوفى المبرور الأخلص، دون بطره، سلطان أرغون وبلنسية، وقرسقة، وميورقة، وسردانية، وقمط برجلونة، أسعده الله بطاعته ورضاه طلبنا من محل أبينا السلطان الجليل المعظم الأشهر الأوحد أمير المسلمين أبي الحسن ،
5
سلطان العدوة، أن ينعم بالإذن لنا في عقد صلح معه على بلاده، على ما جرت به عوائد صلحه مع تلك المملكة، وأعطانا مقدرة لعقد ذلك، فاقتضى نظرنا أن وجهنا إلى السلطان دون بطره، برسم عقد الصلح معه على بلاد السلطان أبي الحسن بالعدوة والأندلس، القائد الأجل الأغر الأرفع الأمجد الحسيب الأصيل، الأفضل خاصتنا، الحظي لدينا، المبرور الأخلص، أبا الحسن بن كماشة،
6
وصل الله عزته ورفعته، وأمرنا له بهذا المكتوب ظهيرا على أن ما يعقده في ذلك فنحن بمضيه، نلتزم حكمه، ونلزمه من أذن لنا فيه، بما عندنا من قبل السلطان، ولأن يكون هذا ثابتا، ولا يلحق فيه شيئا أمرنا بكتب هذا المكتوب، وجعلنا عليه خط يدنا وطابعنا، وشاهدا علينا بإمضاء حكمه، وذلك في السادس عشر لشعبان من عام خمسة وأربعين وسبعمائة ا.ه.
كتاب آخر من أحد وزراء بني الأحمر إلى الدون الهلشه،
7
ملك أراغون وقمط برجلونة:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
مولاي السلطان المعظم، المؤمر المبرور، الأوفى المشكور، الكبير الشهير، دون الهنشه، ملك أراغون، وبلنسية، وسردانية، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعته ورضاه، معظم سلطانه، مكرم جانبه، الشاكر لمقاصده في الوفاء ومذاهبه، الحافظ لعهده، المثنى على غرضه في صحبة مولاه وقصده، وزير السلطان أيده الله، رضوان بن عبد الله.
8
كتبه إليكم من الباب الكريم أسماه الله بحمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه ثم ببركة الدعاء لمولاي أيده الله ونصره وأسعده وظفره إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا وجانبكم معظم مبرور، وقصدكم في الوفاء معروف مشكور، وقدركم في ملوك النصرانية معروف مشهور، وموجبه إليكم هو أن الواصل إليكم بهذا الكتاب، وجهة مولاي السلطان، أيده الله برسم إيصال الأسارى المأخوذين في الصلح الذين وقع الكلام فيهم مع رسولكم للكرم، دون رامون بيل، مقصد مولاي أيده الله منكم أن تتفضلوا بتسريحهم وتوجيههم معه، يكون ذلك مما يشكره من أعمالكم، وأنتم تفعلون في ذلك ما يقتضيه وفاؤكم المشهور، وقصدكم المبرور، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا. وكتب في اليوم الخامس عشر لذي حجة مختتم عام خمسة وثلاثين وسبعمائة.
كتاب آخر من وزير آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وسلم تسليما.
مولاي السلطان الأجل المكرم المعظم المرفع المبرور، الأوفى المشكور، الشهير الكبير الخطير، دون الفونشه، ملك أراغون، وسلطان بلنسية، وسردانية وقمط برجلونة وصل الله إعزازه بتقواه، وأسعده بطاعته ورضاه، معظم جانبه، مجل سلطانه، الباذل في خدمته جهد إمكانه، الشاكر لنعمه، العارف بسمو مملكته، علي بن كماشة، كتب إليكم من باب مولانا، أيده الله، بحمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه، ثم بنعمة مولاي، أدام الله أيامه، إلا الخير الأتم، واليسر الأعم، وعن التعظيم لمملكتكم، والمسارعة لخدمتكم، والشكر لنعمتكم، وإلى هذا وصل صحبة معظم ملككم، رسولكم وخديمكم: المكرم ريمون بيل إلى حضرة مولانا، أيده الله، وحضر بين يديه، وأدى رسالته، وأظهر من حسن آدابه ومقاصده في خدمتكم، ما هو اللائق بأمثاله، ممن تربى، في داركم، ونشأ في خدامكم، واستحسن مولاي أيده الله، وقصده في ذلك، وجدد من مودتكم وصحبتكم ما تقفون على شرحه في كتابه إليكم، وأما معظم جانبكم، فعمل في خدمتكم ما يجب عليه، وألقيت لمولانا أيده الله، ما لكم فيه من المحبة، والمودة وشكرها لكم أتم الشكر، وعملت أيضا في خدمة ولدكم مولاي المعظم، دون بطره الكبير أسعده الله بطاعته، ما يجب، وقد كتب له مولاي، أيده الله، كتابا بالصحبة والمودة، ومن خديمكم ريمون المذكور تتعرفون ما عملت في ذلك كله، ومنه تتعرفون أيضا جميع الأخبار، وكرامة مولاي، أيده الله له، وعنايته به، ومما أعرف به سلطانكم أني كنت طلبت من إنعامكم كسوة من لباسكم، وأخبرني الزعيم المكرم برناط شرمي، أنكم أصدرتم أمركم بذلك، وأنعمتم به ومعظم جانبكم ينتظر ذلك، وأخبرني أيضا أنكم أمرتم لي ببازي، وأنا أنتظر ذلك أيضا، وأذكركم (هنا كلمات لم تمكن قراءتها) ويصلكم يا مولاي القوسان اللذان قلت لكم عنهما صحبة رسولكم ، ريمون بيل المذكور، وما أنا إلا خديمكم، ومقر بنعمتكم، فما كان بجانب سلطانكم أعمل فيه ما يجب عليه، والله سبحانه يصل أعزازكم بتقواه، ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلام مولانا كثيرا أثيرا. وكتب في اليوم الخامس عشر لذي حجة مختتم عام خمسة ثلاثين وسبعمائةا.ه.
كتاب آخر من سلطان غرناطة إلى ملك أراغون:
الحمد لله حق حمده. وصلواته على سيدنا ومولانا محمد نبيه وعبده.
وصل الله عزتكم بتقواه، وأسعدكم بطاعته ورضاه. ألقى إلينا رسولكم ريمون بيل، الشكايات التي لأهل أرضكم، فكان من جملتها قضية الفيلوك
9
الذي أخذه أهل المرية في العام الفارط، وقد خلصت قضيته، ورد إليكم بآلاته كلها، وكل ما كان فيه من سلع كانت قد بيعت بالمرية، فنقد لصاحبها ثمنها، بديوان المرية، وتخلص منه، وقضية ابن الحسين صاحب الشيني، الذي ذكرتم أنه تعرض لأرضكم في الصلح، قد بحث عن جميع ما أوصله، وذلك جفنان اثنان، كان أحدهما قد استقر بمالقة، والآخر ببيرة، وقد مكن منهما أصحابهما، الواصلون عنهما، واستقصى البحث عن كل ما أوصله من النصارى، وكانوا سبعة عشر، وجهوا كلهم بجملتهم مع رسولكم وهم يصلونكم، وقد كان وجه من النصارى قبل ذلك مع القائد أبي الحسن بن كماشة ثمانية عشر. وأما السلع فما وجد منها قبضه أصحابه الواصلون من قبلكم، واعلموا أن الريس ابن الحسن الذي صدر عنه ما ذكرتم، كان قد كتب في شأنه محل أبينا السلطان المعظم الأوحد، أمير المسلمين، أبو الحسن أيده الله، ليوجه إليه هو وكل ما وصل به، وقد وجه إليه هو والأعلاج الذين (كلمة لم تمكن قراءتها) في حركته الأخيرة، وجميع ما أوصله فإن كان نقصكم شيء مما أخذه، فأنتم تكتبون في ذلك إلى المقام العلي، أسماه الله، ونظره أجمل، وما أوجب الإبطاء بتوجيه ذلك كله إلا أنه قرر عندنا أن الأعلاج المذكورين، والسلع من أرض الحرب، فلما وصل كتابكم صدقناكم في ذلك، وأمرنا برد جميع ذلك كله. وتسريحه بجملته تصديقا لقولكم، وتوفية لقصدكم. والله يصل سعادتكم بتقواه، ومعاد السلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا. كتب في الرابع لذي حجة مختم عام خمسة وثلاثين وسبعمائة ا.ه.
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وآله وسلم تسليما.
السلطان الأجل الأكرم، المرفع المبرور المشكور، الأوفى الأخلص، دون بطره ملك أراغون وسلطان بلنسية وقرسقة، وسردانية، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعته ورضاه، مكرم جانبه وشاكر مقاصده في الصحبة ومذاهبه الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية، ووادي آش، وما إليها، وأمير المسلمين، أما بعد فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، عن الخير الأكمل، واليسر الأشمل والحمد لله كثيرا، ونحن نعلم ما لكم في ملوك النصرانية من القدر المشهور، والوفاء المشكور، ونقابل جانبكم من الكرامة بالحظ الموفور، وقد وصلنا الكتاب الذي وجهتم إلينا، الذي يتضمن تثبيت العهد، وتوكيد الود، وتصحيح العقد، وإخلاص الصفاء، وتجديد الوفاء، فقابلنا ذلك بشكر نجده لمملكتكم، وإخلاص صادق في صحبتكم، ثم إنه بلغنا أن والدكم السلطان المرفع، دون الفونشو، مات، وأنكم ورثتم مملكته التي أنتم أحق بها، فرأينا أن وجهنا كتابنا هذا إليكم، نعزيكم في الوالد ونهنيكم بالملك، حسبما يقتضيه حق الصحبة التي بيننا، التي تأكد رسمها، ونعرفكم أننا ما عندنا إلا ما يرضيكم، من الاعتقاد فيكم، والحفظ لعهدكم، والشكر لقصدكم، فكونوا من ذلك على يقين، ومما نعركم به أن خديمنا بشقلين سريجه، كتب إلينا في أمور مما تخص جهتكم، وقد كتبنا إليه في جوابها ما تتعرفونه من قبله، فصدقوه فيما يلقيه عنا إليكم، واعلموا أنه لما وصلنا خبر موت والدكم كتبنا إلى بلادنا الشرقية كلها، أن لا سبيل لأن يتطرق لجهة أرضكم أحد بضرر، والله تعالى يصل عزتكم بتقواه، ويسعدكم برضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، كتب في السابع والعشرين لجمادى الآخرة عام ستة وثلاثين وسبعمائة عرف الله بركته ا.ه.
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصبحه وسلم تسليما.
السلطان الأجل، المرفع المكرم، المبرور المشكور، الأوفى، دون الفونشه، ملك أراغون، وسلطان بلنسية، وصاحب سردانية، وقرسقة، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، ويسره لما يحبه ويرضاه، مكرم مملكته، وشاكر مودته، المثنى على صحبته، البر بجانبه، العارف بمقاصده في الملوك الأوفياء ومذاهبه، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، أما بعد، فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا. وجانبكم مبرور، ومذهبكم في الوفاء مشكور، ومنصبكم في الملوك معلوم مشهور، وإلى هذا فقد وصل كتابكم المبرور، في شأن الأشخاص الذين باعهم الجنويون بالمرية، وعرفتم أنهم من أهل أرضكم. اعلموا أننا لو عرفنا أنهم من أهل أرضكم ما سمح في بيعهم ولوجهناهم إليكم، على ما يوجبه الوفاء بالعهد فإننا ما عندنا إلا الوفاء بما عاهدناكم عليه، ولكن عند وصول كتابكم وجهنا التفسير بأسمائهم إلى المرية، وأمرنا أن يبحث عنهم، ويسترجعوا من أيدي من هم عنده، ونحن نعمل في ذلك ما يوجبه الوفاء، وما يقتضيه اعتقادنا في صحبتكم بحول الله، فاعلموا ذلك، والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، وكتب في الموفي ثلاثين لشهر جمادى الآخرة عام خمسة وثلاثين وسبعمائة ا.ه.
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
مولاي السلطان المعظم، الأجل المكرم، المرفع الأوفى الأشهر، المبرور المشكور، دون بطره، سلطان أرغون، وبلنسية، وسردانية، وقرسقة، وقمط برجلونة وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعته ورضاه، معظم ملككم الشهير الزكي، القائم لجانبكم المعظم، بموصول الثناء ومستمر الشكر، وزير السلطان رضوان بن عبد الله، كتبه إليكم من باب مولاه، أيده الله بحمراء غرناطة حرسها الله، ولا جديد بفضل الله سبحانه، ثم ببركة هذا الأمير الكريم ، أيد الله سلطانه، إلا الخير العميم، والحمد لله، وعن العلم بما لكم من الملك المرفع الجانب، والشكر لما عندكم من الوفاء الذي حصلتم منه على أجل المواهب، واختصصتم منه بأكرم المذاهب، ووصل كتابكم المكرم، صحبة كتابكم إلى مولاي السلطان، أيده الله، بتجديد الصلح الذي كان بين أسلافه وأسلافكم، الذي عقد عليه بثقلين سريجة، وقد أنعم بكتب عقد عن مقامه، بنص العقد الذي وجهتم، وعلى حسب فصوله، وما عنده، أيده الله، إلا الحفظ لعهدكم. والارتباط لصحبتكم، فكونوا من ذلك على يقين. واعلموا أنني لا أزال أعمل في توفية حفظ ذلك الصلح، وتكميل أموره، ما هو الواجب علي في خدمة مولاي، أيده الله، حتى تتمشى الأمور على ما يقتضيه الحق، ويوجبه الوفاء، وأما ما ذكرتم من اعتقادكم الجميل وكرامتكم، فذلك فضل منكم أشكركم عليه غاية الشكر، ومثلكم من الملوك الكبار من يصدر عنه قول الخير وفعله، والله تعالى يصل عزتكم بتقواه، ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا. كتب في اليوم الرابع لذي الحجة عام ستة ثلاثين وسبعمائة ا.ه. •••
كتب إلينا الأخ الحاج محمد العربي بنونة أن خط هذا الكتاب الأخير رديء جدا، وقال: «لا أدري كيف صدر من ديوان الحمراء» وقد أسفنا أن تكون أكثر الكتب السلطانية، التي اشتملت عليها تلك المجموعة، قد أكلتها الأرضة، وتنكر خطها، وتعذر ضبطها، وهيهات أن توجد لها مجموعة أخرى! وعلى كل حال لو اتصلت يدنا بنسخ جلية، لهذه الكتب السلطانية، البالغ عددها ستين كتابا، في ما علمنا، لبادرنا إلى استنساخها، وإلحاقها بالطبعة الثانية من الحلة السندسية، لما في هذه المراسلات بين سلطنتي غرناطة وأراغون، من تمثيل الحالة التي على ما كانت عليه في القرن الثامن للهجرة، الموافق للقرن الرابع عشر للميلاد، وذلك بين المسلمين وجيرانهم المسيحيين من أهل أسبانية.
أما الملكان اللذان توجهت إليهما هذه الرسائل من سلطان غرناطة ووزرائه فهما الفونش الرابع، وولده بطره.
ولأجل أن يرتوي القارئ من تاريخ هذين الملكين، نعيد هنا ما كنا كتبناه في مختصر تاريخ أسبانية الملحق «بآخر بني سراج» صفحة 177 من الطبعة الثانية وهو: «ثم مملكة أراغون، حذاء جبال البيرانه، اعتمدت في أوائل أمرها على لصوصية البحر، واشتهر بين أمرائها جقوم،
10
وهو الذي استولى على جزائر الباليار: ميورقة، ومينورقة، ويابسة، وقيل إن السبب في الاستيلاء عليها تعرض أهل ميورقة لمراكب الإسبانيول.
ويفهم من قول المخزومي في تاريخ ميورقة، كون سبب أخذها من المسلمين أن أميرها في ذلك الوقت محمد بن علي بن موسى، احتاج إلى الخشب، فأنفذ طريدة بحرية، وقطعة حربية، إلى يابسة بأخذه، فعلم بذلك والي طرطوشة، فجهز إليها من أخذها، فترصد محمد بعض مراكبهم وأخذها، فأجمع الروم على قتاله في عشرين ألفا، وجهزوا ستة عشر ألفا في البحر، وكان لدى وصول الروم قد أمر الوالي صاحب شرطته أن يأتيه بأربعة من كبراء المصر، فضرب أعناقهم، فاجتمعت الرعية إلى أبي حفص بن سيري، وأخبروه بما نزل وعزوه في من قتل، وقالوا له: هذا أمر لا يطاق! وأصبح الوالي يوم الجمعة، منتصف شوال، والناس من خوفه في أهوال، ومن أمر العدو في إهمال، فأمر صاحب شرطته بإحضار خمسين من أهل الوجاهة والنعمة، فأحضرهم، وإذا بفارس على هيئة النذير دخل إلى الوالي، وأخبره بأن الروم قد أقبلت، وأنه عد فوق الأربعين من القلوع. وما فرغ من إعلامه حتى ورد آخر وقال: إن أسطول العدو قد تظاهر، وإنه عد سبعين شراعا. فصح الأمر عند الوالي وأطلقهم واستنفرهم. ثم ورد الخبر بأن العدو قرب من البلد، فإنهم عدوا مائة وخمسين قلعا، فأخرج الوالي جماعة تمنعهم من النزول.
وفي الثامن عشر من شوال وقع المصاف، وانهزم المسلمون، وارتحل النصارى إلى المدينة، ونزلوا منها على الحربية الحزنية
11
من جهة باب الكحل. ولما رأى ابن سيري أن العدو قد استولى على البلد خرج إلى البادية.
ولما كان يوم الجمعة الحادي عشر من صفر قاتلوا البلد قتالا شديدا. ولما كان يوم الأحد أخذ البلد، وقتل فيه أربعة وعشرون ألفا، وأخذ الوالي وعذب، وعاش خمسة وأربعون يوما تحت العذاب ومات. وأما ابن سيري فتحصن في الجبال، وجمع حوله ستة عشر ألفا، وما زال يقاتل حتى قتل يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وستمائة. وجده من آل جبلة بن الأيهم الغساني. وأما الحصون فأخذت في آخر رجب من تلك السنة وفي شهر شعبان لحق من نجا من المسلمين ببلاد الإسلام. انتهى ما ذكره ابن عميرة المخزومي ملخصا.
12
قلنا إننا كنا قد نقلنا هذا النقل عن نفح الطيب وسنعود إلى خبر ميورقة وأخواتها عند الوصول إلى الكلام على هذه الجزائر جغرافية وتاريخا، ونأتي إن شاء الله على الموضوع بالتفصيل، وإنما لهذا النقل هنا من جهة اتصاله بتاريخ ملوك أراغون، الذين هم أقماط برشلونة. فأما باب الكحل الذي دخل منه النصارى إلى مدينة بالمه
13
التي كان العرب يسمونها ميورقة، فقد شاهدناه يوم زيارتنا لتلك الجزيرة سنة 1930. وأما الجبال التي تحصن بها ابن سيري فقد مررنا بحذائها، وهي على مسافة نحو من ساعتين بالسيارة الكهربائية من المدينة، ومن رآها علم أنها لا تؤخذ ولا يتأتى الصعود إليها، لوعورتها، وامتناع السلوك فيها. وما أظن المسلمين تركوا القتال، ولحقوا ببلاد الإسلام إلا بأحد سببين: إما أن يكون قتل ابن سيري قد فت في أعضادهم، ووقع الخلف بعده فيما بينهم، فلم تنتظم لهم كلمة بعد ذهابه، فطلبوا التسليم على شرط النجاة بأرواحهم، ولحقوا ببلاد الإسلام. وإما أن يكون تعذر عليهم المقام بهذه الجبال العالية الوعرة التي ليس فيها شيء يقوم بميرتهم، وكانوا لا يقدرون أن يهبطوا منها إلى السهول، لكثرة جيش العدو المرابط بحذائهم. والله أعلم.
شكل 59-1: مدينة بالما قاعدة جزيرة ميورقة.
شكل 59-2: طاحون هواء في ميورقة. •••
ثم نعود إلى خبر كتلونية وأراغون فنقول إنه في مدة جقوم هذا، فاتح الباليار خرجت بلنسية من أيدي المسلمين، وبعد ذلك اجتمع بقايا المسلمين في مملكة أراغون وثاروا، وأثخنوا في عدوهم إلا أن جقوم طردهم أخيرا فانحاز أكثرهم إلى مملكة ابن الأحمر، وأجاز بعضهم إلى أفريقية.
وقد اشتهر جقوم هذا بحب الطلاق والزواج واتخاذ الحظايا، وبينما مطران جيرونه يوبخه مرة على استهتاره هذا، استشاط غضبا، وأمر بقطع لسانه. واغتصب مرة امرأة أحد رعيته. وكانت وفاته في 27 تموز سنة 1276.
وخلفه الدون بطره، وفي مدته انضمت مملكة صقلية إلى مملكة أراغون، وطرد الدون بطره منها شارل دانجو
Danjoi
أخا القديس لويس ملك فرنسة، وذلك بالرغم من إرادة البابا، وقصدوا استعادتها فانهزموا، فأصدر البابا حرما على حرم بحق بطره، وأخيرا أقطع البابا مملكة أراغون شارل دوفلوا، بن فيليب الجريء ملك فرنسة، فزحف فيليب بعساكره على مملكة أراغون، وكان له من جقوم أخي بطره نفسه عضدا، لإحنة كانت مستحكمة بين الأخوين، فانهزم جند بطره. واستولى الفرنسيس على جيرونة، إلا أن العلة تفشت فيهم من رائحة جثث القتلى، فهلك منهم خلق كثير، وأصيب الملك فيليب نفسه، وحمل ومات في الطريق.
وبعد انصراف الفرنسيس استعاد بطره جيرونة، وحول نظره صوب أخيه جقوم الذي ظاهر عليه الغريب، فأرسل ولده الفونس إلى ميورقة بأسطول ليأخذها من يده، وتوفي بطره، وابنه الفونس يحاصرها، فلم يقلع حتى دخلت في حوزته. وقام بأمر أراغون بعد أبيه. ومات هذا وخلفه أخوه جقوم ملك صقلية، فترك أمور هذه الجزيرة لوالدته، وجاء إلى أراغون متسلما زمامها، وأعاد ميورقة على عمه جقوم. ثم تولى صقلية أخوه فردريك، وتزوج بابنة شارل دونابل، وولد له منها خمسة ذكور: جقوم، والفونس، وبطره، ورامون وخطب لابنه البكر جقوم الدونة ليونورة القشتالية، وبينما كانوا يعقدون له عليها إذ عدل عن الزواج زاعما أن أباه أجبره عليه، وإنه هو يريد الترهب والتبتل، وأسقط حقه من وراثة الملك، ودخل في سلك الرهبان، وقضى الناس من ذلك العجب، لما كان عليه من الانغماس في اللذات والاسترسال إلى الشهوات، فولي العهد أخوه الفونس، وصار جوان أخوهما مطران طليطلة، وأخذ كل من الأخوين الباقيين إقطاعا باسمه
ثم مات جقوم الثاني في برشلونة، في 2 نوفمبر سنة 1327، وخلفه ولي عهده الفونش الرابع، فتزوج هذا مرتين، وولد له من إحدى امرأتيه الدون بطره ولي عهده فلما مات سنة 1336 وقع النزاع بين ولده بطره، وبين امرأة أبيه، التي كانت أخت ملك قشتالة ، فادعت أنه يريد انتزاع أملاك إخوته، أولادها، فكاد الخلاف بسبب ذلك يتسع بين قشتالة وأراغوان، لولا ما جمعهما من كلمة الحرب المقدسة ضد المسلمين لعهد السلطان أبي الحسن المريني، صاحب المغرب.
وبعد وقعة طريف وانتقاض بطره من عوارض تلك الحرب أخذ يحاول انتزاع ميورقة من يد صهره جقوم.
قيل إن السبب في ذلك أن الدون بطره كان متوجها إلى افينيون، لزيارة البابا ومعه الدون جقوم راكبا بجانبه، فلما صارا على مقربة من البلدة، وقد حفت بهما حاشيتهما، رأى سائس حصان الدون جقوم، أن سائس حصان الدون بطره، يحث مسير حصان مولاه، فلطمه ليشتد، ويمكنه اللحاق به، فأبصر ذلك الملك واغتاظ من ابن عمه لسكوته وإغضائه على حركة سائسه، فوقرت في صدره، وانتهز الفرصة لتجريده من مملكته ميورقة، في خلف وقع بين جقوم وبين ملك فرنسا من أجل مونبليه. فزحفت عساكر فرنسا لأخذها، فبعث جقوم إلى ابن عمه بالصريخ، فلم يجبه. ثم نقم عليه أمورا، منها أنه يحاول الاستقلال، وأنه ضرب السكة باسمه. وأخيرا أعلن خلعه من ولاية الجزر، فاستغاث جقوم بالبابا، فأرسله البابا إلى برشلونة نزيلا عند بطره، ومستميحا عفوه، فعندما حصل عنده ضبط عليه امرأته التي هي أخت بطره، وسرحه، فلحق جقوم بميورقة، وقد نادى بحرب بطره، والانفصال عنه، وكان أسطول بطره في رباط المسلمين بالجزيرة الخضراء، فاسترجعه منها، ونزل به على ميورقة، ففر جقوم إلى فرنسا، وبقي في نزاع مع ابن عمه بطره إلى أن باع أخيرا بعض أملاكه من ملك فرنسا، وجهز بثمنها ثلاثة آلاف ماش، وثلاثمائة فارس، وركب بها البحر، طامعا في استرداد جزيرته ميورقة فقابله واليها من قبل بطره بجيوش أوفر مرارا من جيشه، وهزمه، فهلك في الهزيمة.
وما انتهى بطره من خطب جقوم ابن عمه، حتى ثارت معه مسألة أخرى مع أخيه المسمى أيضا بجقوم، وذلك بسبب انتقال الملك، فإن بطره لم يكن له أولاد ذكور، فأراد العهد لابنته، والحال أن أخاه كان يطالب بهذا الحق فانشقت المملكة بهذا السبب إلى قسمين، ونشبت الحرب بينهما، وقام جمهور من الرؤساء على الملك وفي أثنائها توفي أخوه جقوم، فاتهم بطره بكونه سمه، فازدادت الثورة، وزحف الملك إلى الرعية الثائرة فجرت عدة وقائع سالت فيها الدماء غزارا، وغدر بطره بالرؤساء الذين استسلموا إليه، وأرهق مدن مملكته حصرا وعسرا، إلى أن تمت له الغلبة، ثم بسبب مراكب استولى عليها أمير البحر عنده، رغم إرادة بطره ملك قشتالة، وقعت الحرب بينهما وانضم إلى أراغون الأمراء الذين كان بطره القشتالي قد آسفهم، وما وضعت تلك الحرب أوزارها حتى اصطلت الثانية، ثم الثالثة.
وهلك بطره الأراغوني سنة 1387، بعد أن ملك نيفا وخمسين سنة، وكان سفاكا للدماء، غدارا، غدر بأهله وإخوته، وأهرق سيولا من الدم، حتى لقب بالحنجري. وتزوج بأربع نساء الأولى دونه مارية ابنة ملك نباره، ماتت سنة 1346 والثانية دونة ليوليورة ابنة ملك البرتغال، وماتت هذه بعد تلك بسنتين بالطاعون الذي عم جنوبي أوروبا، وشمالي أفريقية، وهو الذي يسميه ابن خلدون بالطاعون الجارف، خرب كثيرا من ديار الشرق والغرب، ثم اقترن الدون بطره بليولورة أخت ملك صقلية، وماتت سنة 1374، وقد ولدت منه ثلاثة ذكور، وابنة واحدة فاقترن بامرأته الرابعة، سيبيله فورسيه، كانت أرملة، بارعة في الجمال، وكان أوانئذ قد بلغ هو الحادية والستين، فملكت قلبه وأعطاها قياده، وأقطعها من أملاك التاج الملكي، فاعترضه ولي عهده جوان، وهو ابنه من امرأته الثالثة، ووقع النزاع، وانتهى بتحكيم أحد القضاة.
وفي أواخر مدة هذا الملك وقع النزاع الشهير بين البابا وأوروبان السادس، والبابا كليمان السابع، وأخذ كل منهما يحرم الآخر، وانقسمت ممالك أوروبا في شأنهما إلى شطرين: قفرلة وقشتالة ولبارة، ونابولي قامت بدعوة كليمان، وإنجلترة والبرتغال وأراغون، قامت بدعوة أوروبان، إلا أن أراغوان مالت فيما بعد إلى كليمان.
وبعد وفاة بطره قام ابنه جوان الأول وفي الحال قبض على سيبيلية امرأة أبيه وعلى أخيها وأعوانها، وابتزها الأملاك التي كان أبوه وهبها إياها، وسلمها إلى امرأته دونة «فيولنته» واعتنى بتزويج دون مارتين ابن أخيه بابنة عمه فردريك، ملك صقلية التي كان آل إليها إرث تلك الإمارة بعد وفاة والدها، وكان جوان مولعا بالشعر والموسيقى والصيد، مهملا الجد من الأمور، حتى أصبح قصره عبارة عن عكاظ شعراء، ومجتمع مغنين ، لا يسمع فيه إلا إيقاع أو إنشاد، فقام أعيان البلاد، وطلبوا منه إقصاء حظيته دونه «كاروزة» لاتهامهم إياها بترغيبه في ما هو فيه من العبث فانقاد إلى إرادتهم، خوف انتقاضهم، وتوفي جوان في الصيد بكبوة جواد تردى به في غابة، وهو يطلب ذئبا فخلفه أخوه الدون مرتين، لأن جوان لم يعش له غلام من صلبه. فنازعه في الملك آل فواكس، فغيهم عليه واستوثق له الأمر، وتزوج بالدونة مارية. فولد له منها أربعة أولاد، توفي منهم ثلاثة دون البلوغ، وبقي الواحد وهو الدون مرتين متوج صقلية، فمات هذا في غزاة بسردانية عام 1409، ولم يعش له ولد، على كونه تزوج مرتين، نعم كان له أولاد من حظاياه، فعند وفاته انقرضت ذرية الذكور الشرعيين من البيت المالك، وتنازع حقوق الوراثة خمسة أمراء: الدون، فادويك، ولد مارتين من إحدى حظاياه. وكونت أورجل، ابن عم مارتين في الدرجة الخامسة، ودوق كالابرة، ابن الدونة فيولنتة، بنت جوان الأول. ثم فرديناند القشتالي، الملقب عندهم بالرشيد، وهو ابن جوان الأول القشتالي، والدونة ليونوره اخت الدون مرتين ملك صقلية، الذي بموته انقطعت السلالة، فهو إذن ابن أخت الملك الشرعي، فكان أقرب المتنازعين إلى الحق في هذا العرش، وكان كذلك كونت أورجل بمكانه من الكلالة لأنه من نفس بيت الملك.
وربما كان لهذا الكونت «أو الكنداو القمط» في مملكة أراغون الشيعة الكبرى، إلا أنه لم يحسن طلب حقه، وجمع العساكر، فأخذت تعبث في البلاد مما أحال عنه القلوب إلى فرديناند، فانتخبوه ملكا في 3 سبتمبر سنة 1412، وقبض على كونت أورجل وسجنه، واستتب له الأمر. إلا أنه في سنة 1416 مات، وخلفه بكر أولاده الفونش الخامس، فاتح نابولي. ثم مات هذا سنة 1458 عن غير ولد، فانتقل الملك إلى أخيه جوان، الذي كان تزوج بابنة شارل النبيل، وبواسطتها ملك بلاد نيارة.
وولد لجوان هذا، فرديناند الملقب بالكاثوليكي، فملك أراغون ونبارة معا ، وتزوج بايزابيلا ملكة قشتالة، فصارت هذه الممالك الثلاث مملكة واحدة، عادت في حالة من اجتماع الكلمة، ووفرة العديد، وغزارة المادة، بحيث قضت على الملك الأخير الباقي الذي كان بالأندلس للمسلمين. ا.ه.
علمنا من هنا أن ملك أراغون الذي كان يخاطبه يوسف بن أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة، هو بطره الرابع الذي تولى من سنة 1336 إلى سنة 1387، وقبله كانت المراسلة مع والده الفونش، وهو الفونش الرابع. وأما سلطان غرناطة الذي صدرت عنه هذه الكتب، فهو يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الخزرجي الأنصاري، ترجمة لسان الدين بن الخطيب في كتابه «اللمحة البدرية في الدولة النصرية» بقوله:
بدر الملوك، وزين الأمراء، كان أبيض أزهر أيدا، مليح القد، جميل الصفات براق الثنايا، أنجل، رجل الشعر، أسوده، كث اللحية، وسيما، عذب الكلام، عظيم الحلاوة، يفضل الناس بحسن المرأى، وجمال الهيئة، كما يفضلهم مقاما ورتبة، وافر العقل كثير الهيبة، إلى ثقوب الذهن، وبعد الغور، والتفطن للمعاريض، والتبريز في كثير من الصنائع العملية، مائلا إلى الهدنة، مزجيا للأمور، كلفا بالمباني والأثواب، جماعة للحلي والذخيرة، مستميلا لمعاصريه من الملوك.
تولى الملك بعد أخيه بوادي السقائين من ظاهر الخضراء، يوم الأربعاء الثالث عشر من ذي الحجة، عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، وسنه إذ ذاك خمسة عشر عاما، وثمانية أشهر، واستقل بعد بالملك، واضطلع بالأعباء، وتملأ الهدنة ما شاء، وعظم مرائه لمباشرة الألقاب، ومطالعة الرسوم، فجاء نسيج وحده. ثم عانى شدائد العدو، فكرم يوم الوقيعة العظمى بظاهر طريف موقفه، وحمد بعد منازلة الطاغية عند الجثوم على البلاد ضيره، فأفلت من مكبدة العدو التي تخطاها أجله وأوهن حبلها سعده.
ولما نفذ في الجزيرة القدر، وأسفت الأندلس، سدد الأمور، وامتسك الإسلام على يده، وراخى مخنق الشدة بسعيه، فعرفت الملوك رجاحته، وأثنت على قصده إلى حين وفاته.
كان له من الذكور ثلاثة: محمد، ولي الأمر من بعده. وإسماعيل المتوثب عليه ومزعجه عن الأندلس، عند التغلب عليه، والثورة به، من ثقاف جواره. وقيس شقيق إسماعيل منهما.
تولى وزارته لأول أمره كبير الأكرة، ونبيه المشيخة بحضرته، إبراهيم بن عبد البر العريض المكسب، اليمين العقار، لمخيلة طمع نشأت لمقيمي دولته، فيما بيده. إلى ثالث شهر المحرم من العام. وأنف الخاصة والنبهاء رئاسته. فطلبوا من السلطان إعاضته. فعدل عنه إلى خاصة دولتهم الحاجب أبي النعيم، مظنة التسديد. ومحط الثقات، فاتصل نظره مستبدا عليه في تنفيذ الأمور وتقديم الولاة والعمال. وجواب المخاطبات. وتدبير الرعايا. وقود الجيوش.
ثم قبض عليه ليلة السبت الثاني والعشرين لرجب لعام أربعين وسبعمائة، وتولى الوزارة بعده ابن عمة أبيه، السلطان أبي الوليد، وهو القائد أبو الحسن علي بن مول بن يحيى بن مول الأمي؛ رجل جهوري حازم، مؤثر للغلظة لم ينشب أن كف استبداده فالتاثت حاله ولزمته شكاية استنفدته. وأقام رسم الوزارة بكاتبه شيخنا أبي الحسن بن الجياب نسيج وحده، إلى أخريات شوال من تسعة وأربعين وسبعمائة، وهلك رحمه الله فأجرى لي الرسم
14
وعصب بي تلك المثابة، مضاعف الجراية، معززا بولاية القيادة، حسبما وقع استيفاؤه في كتاب نفاضة الجراب من تأليفنا. ا.ه.
وقد ذكر لسان الدين بن الخطيب من كان على عهد السلطان يوسف بن الأحمر المذكور من الملوك فقال: إنه كان بفاس السلطان المتناهي الجلالة، أبو الحسن على بن عثمان بن يعقوب بن عبيد الحق. وبتلمسان عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيان. وبتونس الأمير أبو يحيى بن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص.
ومن ملوك النصارى بقشتالة الفونش بن هراندة بن شانجه بن الفونش بن هرانده وهو الذي هبت له الريح، وعظمت به في المسلمين النكاية، وتملك الخضراء، بعد أن أوقع بالمسلمين الوقيعة بطريف. وببرجلونة السلطان بطره، وقال عن وفاته ما يلي: وافاه أمر الله جل جلاله أتم ما كان شبابا، واعتدالا وحسنا، وفخامة، وعزة، من حيث لا يحتسب، فهجم عليه يوم عيد الفطر من عام خمسة وخمسين وسبعمائة في الركعة الأخيرة، رجل ممرور؛ رمى نفسه عليه، وطعنه بخنجر كان قد اتخذه، وأغرى بعلاجه، وصاح، وقطعت الصلاة، وسلت السيوف، وقبض على المرور، واستفهم، فتكلم بكلام مختلط، واحتمل إلى منزله مرفوعا فوق رؤوسنا على الفوت، ولم يستقر به إلا وقد قضى، رحمه الله، وأخرج ذلك الممرور للناس فمزق، ثم أحرق في النار. ودفن السلطان عشية اليوم في مقبرة قصره، لصق أبيه، وولي أمره أكبر ولده ا.ه.
وهذا بحث حقه أن يكون في أثناء الكلام على سلاطين غرناطة، مما سنصل إليه إن شاء الله، وإنما قد تعجلنا منه هذه القطعة لأجل التعريف بالسلطان الذي كانت قد صدرت عنه هذه المراسلات إلى ملوك أراغون وكتلونية. ولعل المراسلات الأخرى التي تعذرت قراءتها بتقادم عهدها، فيها ما هو صادر عن غيره من ملوك غرناطة إلى غير الفونش وبطره من ملوك أراغون.
هوامش
الفصل الثامن والثلاثون
تقسيمات كتلونية الإدارية
تنقسم بلاد كتلونية إلى أربع مقاطعات: مقاطعة برشلونة، ومساحتها 7690 كيلومترا مربعا، وفيها مليون ومائة وخمسون ألفا من السكان، وجيرونة، التي كان يقال لها في القديم جيرندة، ومساحتها 5865 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها ثلاثمائة وعششرون ألف نسمة، ومقاطعة لاردة، ومساحتها 12151 كيلومترا مربعا وعدد سكانها يقارب مائتين وتسعين ألفا، وطركونة ومساحتها 6490 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها نحو من 340 ألفا.
وأشهر أنهار كتلونية نهر لوبريقات
Liobregat
وكان يقال له عند الرومان روبريكالوس
Rubricalus
وهو الذي يسقي سهول برشلونة، ثم نهر شيقر
Segre
وكان الأقدمون يسمونه سيكوريس
Sicoris
وهو ينصب في نهر أبره، عند مكناسة.
1
وأما أبره، فبعد أن يلتقي بنهر شيقر يخترق الجبال في جنوبي طركونة، ويتوجه إلى البحر المتوسط، فينصب فيه، شرقي طرطوشة.
وأشهر قمم جبال كتلونية قمة «مارنجس» وعلوها 2914 مترا، وقمة كارليت، وعلوها 2921 مترا، وكانيجو، وعلوها 2785 مترا، وهي مغطاة بالثلوج. وهناك قمم أقل ارتفاعا، مثل مونت شيزات الشهير
Montserrat
وعلوها 1236، وهي قمة شهيرة في تلك البلاد يقال لها الجبل المقدس، منقطعة من جميع جهاتها، ذات أسنان كأسنان المشط، وصخور في منتهى العظم، كأنها قلعة عظيمة مشرفة على بسيط كتلونية، ومونت صانت وعلوها 1071 مترا.
وأشهر سهول كتلونية سهل أمبوردان، وقد تقدم ذكر هذه الناحية، وسهول جيرندة وفيش وسهول النقيرة
Noguera
وفونتانا
Fontanat
ومن حيث إننا تقدمنا في ذكر هذه البقاع من جهة أراغون إلى كتلونية، رأينا أن نبدأ بذكر الجهات الغربية المصاقبة لأراغون فنقول:
إن مدينة لاردة واقعة على وسط المسافة بين سرقسطة وبرشلونة، وعدد سكانها اليوم ثلاثون ألف نسمة، وارتفاعها عن سطح البحر 191 مترا، وهي على الضفة اليمنى من وادي سيغر، الذي يقول له العرب وادي شيقر. ولاردة مدينة قديمة إيبيرية وكانت معروفة في زمن الرومان، وقد استولى عليها العرب في القرن الثامن للمسيح، بعد استيلائهم على سرقسطة، وكانت من مدن الثغر الأعلى. ولما انقسمت الأندلس بعد سقوط الخلافة الأموية استولى على لاردة بنو هود الجذاميون، أصحاب سرقسطة وعند وفاة المستعين بالله سليمان بن هود، خرجت في نصيب ولده يوسف، ثم استولى عليها أحمد الملقب بالمقتدر.
وقد ذكر لاردة ياقوت الحموي فقال: لاردة بالراء مكسورة، والدال مهملة: مدينة مشهورة بالأندلس، شرقي قرطبة، تتصل أعمالها بأعمال طركونة، منحرفة عن قرطبة إلى ناحية الجوف، ينسب إلى كورتها عدة مدن وحصون، تذكر في مواضعها وهي بيد الإفرنج الآن. ونهرها يقال له سيقر. ينسب إليها جماعة منهم أبو يحيى زكريا بن يحيى بن سعيد اللاردي، ويعرف بابن النداف، وكان إماما محدثا، سمع منه بالأندلس كثير، ذكره الفرضي ولم يذكر وفاته. ا.ه.
وبقيت لاردة في أيدي العرب من سنة 713 إلى سنة 799، إذ استولى عليها لويس الحليم، ملك فرنسا، ثم استرجعها المسلمون، ويقيت في أيديهم إلى أن سقطت بسقوط سرقسطة، في أوائل القرن السادس للهجرة. وكان أول ظهور بني هود في لاردة فقد غلب عليها سليمان بن محمد بن هود، وكان من كبار الجند بالثغر الأعلى إلى حين وقوع الفتنة الشاملة، فلما صار الأمر فوضى وثب سليمان المذكور على والي لاردة أبي المطرف التجيبي، وقتله واستولى على لاردة ومنتشون ونواحيها وكان في سرقسطة أمير من التجيبيين يقال له منذر بن يحيى من قواد الدولة العامرية، فمات في أثناء الفتنة، فورث الإمارة ابنه يحيى بن منذر، وسنه فيما ذكر تسع عشرة سنة. وكانت أمه أخت المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة، فاحتقره بنو عمه، وتواطئوا على قتله مع كبير منهم اسمه عبد الله بن حكيم، ثم قتلوه وولوا هذا الرجل أمرهم، ولكنه كان عاهر الفرج ساءت ملكته فيهم فخلعوه، وبعثوا إلى سليمان بن هود، وهو بمدينة لاردة، ليأتي إلى سرقسطة ويلي الأمر، فجاء ونزل بدار الإمارة. وكان استيلاء ابن هود على لاردة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، واستيلاؤه على سرقسطة سنة ثمان وثلاثين.
ولما مات سليمان بن هود كان له خمسة أولاد ذكور، قد قسم عليهم البلاد في حياته فولي أحمد، ولده الثاني، مدينة سرقسطة، وولي يوسف ولده الأكبر، مدينة لاردة، وولي محمدا قلعة أيوب، وولي لبا مدينة وشقة، وولي المنذر تطيلة.
إلا أن أحمد بن سليمان بعد وفاة أبيه صار يحتال على إخوته حتى أخرجهم من ولاياتهم، ولم يمتنع عليه إلا يوسف أمير لاردة، وكان هذا يلقب بحسام الدولة، ولما رأى الأهالي أعمال أحمد بن سليمان بن هود بأخوته كرهوه، ومالوا إلى أخيه يوسف وقاموا بدعوته وكان هذا بطلا شهما، إلا أنه كان سيئ البخت، وكان أخوه أحمد خبيثا على جانب عظيم من المكر فأرسل إلى الطاغية ابن ردمير يستعينه على أخيه، وكان يوسف قد أرسل إلى بلاد ابن ردمير ميرة كثيرة، فسرى أحمد برجاله من سرقسطة، وأخذ قوافل أخيه، وانهزم رجالها، فأخذهم النصارى أسرى، ثم جاع أهل تطيلة، فأرسلوا إلى يوسف يستغيثون به، فبعث إليهم بأرزاق كثيرة، فخرج أحمد وأخذ قوافل أخيه وما فيها من الميرة، وقتل رجالها، فلما رأى المسلمون في الثغر الأعلى ما رأوا من دهاء أحمد بن سليمان بن هود، ومن سوء بخت أخيه يوسف، خافوا على أنفسهم من أحمد، فأطاعوه، ولم يبق في حوزة يوسف سوى لاردة، وقد كانت هذه العداوة بين الأخوين هي السبب في فاجعة يربشتر التي تقدم ذكرها.
وما زالت لاردة تابعة لسرقسطة إلى أن استولى الإسبانيول على سرقسطة وانطوى بساط الثغر الأعلى.
وممن انتسب إلى لاردة من أهل العلم أبو محمد عبد الله بن هارون الأصبحي، الفقيه الشاعر، ترجمه ابن بشكوال وقال: ذكره لي أبو الحسن على بن أحمد العائذي وأنشد له أشعارا أنشده إياها منها:
كم من أخ قد كنت أحسب شهده
حتى بلوت المر من أخلاقه
كالملح يحسب سكرا في لونه
ومجسه، ويحول عند مذاقه
وترجمه أيضا صاحب بغية الملتمس.
وعبد الملك بن غير الفارسي، محدث، من أهل لاردة، ذكره أبو سعيد بن يونس. جاء ذكره في بغية الملتمس. وأبو عبد العزيز عبد الرءوف بن عمر بن عبد العزيز أصله سرقسطي، توفي بلاردة سنة 308. وعبد العزيز بن عمر بن حبنون، من أهل منتشون، من عمل لاردة يكنى أبا يونس، سمع من أبي الوليد الباجي صحيح البخاري بسرقسطة سنة 463، وولي الأحكام بمنتشون. نقل ذلك ابن الأبار في التكملة عن أبي داود المقرئ. وأبو محمد عبد الجبار بن مفرج بن عبد الله الأنصاري من أهل لاردة، استوطن مرسية، سمع أبا الأصبغ عبد العزيز بن محمد البلشيدي الأموي، وكان شيخا صالحا، ولد سنة 486، وتوفي حول سنة 560، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن عياد. وأبو محمد عبد الجبار بن خلف بن لب اللاردي، سكن بلنسية ودانية، وقرأ جميع البخاري في دانية على الباجي سنة 452، وسمع من أبي العباس العذري، وأبي عمر بن عبد البر، وغيرهما، وأجاز له أبو عمر بن الحذاء، وسمع منه أبو عبد الله بن خلصة المعافري. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمار بن محمد التيجي، من أهل لاردة، قال الأبار إنه رحل إلى بلنسية، على أثر استرجاعها من الروم، في منتصف رجب سنة 498، فلقي فيها أبا داود المقرئ، وأخذ عنه القراءات السبع، ثم انصرف إلى بلدة لاردة، فأقرأ بها القرآن، وأخذ عنه. ورحل إلى مرسية صدر رجب سنة 497، وتصدر بجامعها للإقراء، وأخذ عنه وسمع حينئذ من أبي علي الصدفي الحديث، وانتقل بعد ذلك في آخر سنة 503 إلى أوريوله، وخطب بجامعها، وتمادى إقراؤه بها إلى حين وفاته، في السادس والعشرين من رمضان سنة 519، ومولده في رمضان سنة 477، فلم يطل عمره. نقل ذلك ابن الأبار من خط زياد بن الصفار، وهو أحد تلاميذه، أخذ عنه القراءات والعربية وقرأ عليه كتاب روضة المدارس، وبهجة المجالس، من تأليفه. وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن سعيد الأنصاري اللاردي، لقي أبا بكر الجزار السرقسطي، وغيره من الأدباء، قال ابن عياد: كان كثير الاختلاف إلى مجلس شيخنا أبي بكر بن غارة وكان فكه المجالسة، لين الجانب، أديبا ظريفا أنشدنا لأبي بكر الجزار:
عجبت لذي وجع مؤلم
يسوم الطبيب ويكدي عليه
يضن عليه بديناره
ويجعل مهجته في يديه
وتوفي ببلنسية في جمادى الأولى سنة 559، وقد نيف على الثمانين. وأبو الوليد يحيى بن سليمان بن حسين بن يوسف الأنصاري، قاضي لاردة، أصله من «شية» قرية هناك، خرج من لاردة سنة 545. وأبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد التيجي الواعظ، من أهل لاردة، لقي أبا القاسم عبد الرحمن بن المشاط الطليطلي بمالقة سنة 500 وكتب من أصله بخطه تأليفه المترجم «بكشف جمل من التعطيل، فحجج من الأثر والنظر والتنزيل» وهو جواب لرجل ورد من المشرق، يتكلم في خلق القرآن والنزول إلى السماء الدنيا، وأمثال ذلك، ذكره ابن الأبار. ويحيى بن محمد الأموي، أبو الوليد، المعروف بابن قبرون من أهل لاردة سكن شاطبة، وتولى قضاءها، وانتقل إلى بلنسية، فشاوره قاضيها. حدث عنه ابن عياد، وابناه محمد وأحمد، قال ابن الأبار استشهد في وقيعة البرت سنة 508. وأبو عبد الله محمد بن علي اللاردي، سكن قرطبة كانت له رحلة إلى الشرق حج فيها، ثم قفل فأقرأ القرآن بمسجد أم هشام بقرطبة. ومحمد بن أسلم اللاردي يروي عن يونس بن عبد الأعلى. وأبو عبد الله مالك بن معروف قيل إنه من ماردة، وقال الحميدي: الأرجح أنه من لاردة، يروي عن عبد الملك بن حبيب. مات سنة 264، وغيرهم.
وفي لاردة كنائس كثيرة من أشهرها كنيسة سان لورانسو، بنيت بين سنة 1270، وسنة 1300، على أنقاض هيكل روماني، ولما جاء العرب جعلوا من ذلك الهيكل جامعا، فلما خرجوا من لاردة، تحول هذا الجامع إلى كنيسة. ومن لاردة يذهب المسافر إلى بلدة بلغي
Balaguer
والمسافة بينهما ثلاثون كيلومترا وهي بلدة سكنها العرب، جاء في معجم البلدان: بلغي بفتح أوله وثانيه، وعين معجمة، وياء مشددة، كذا ذكر أبو بكر بن موسى: بلد بالأندلس من أعمال لاردة، ذو حصون عدة، ينسب إليه جماعة، منهم أبو محمد عبد الحميد البلغي الأموي، قال أبو طاهر الحافظ (أي السلفي): قدم البلغي الإسكندرية، فسألته عن مولده فقال: ولدت سنة 487 في مدينة بلغي، بشرقي الأندلس ثم انتقلت إلى العدوة بعد استيلاء العدو على البلاد فصرت خطيب تلمسان، وقرأت القرآن، وسمعت الحديث، وأعرف بابن بربطير البلغي. ومحمد بن عيسى بن محمد بن بقاء أبو عبد الله الأنصاري الأندلسي البلغي المقرئ، أحد حفاظ القرآن المجودين، انتهى باختصار. قلت: أبو عبد الله محمد بن بقاء هذا رحل حاجا، وقدم دمشق، وأقرأ بها، وتوفي فيها سنة 512، ذكره ابن عساكر، مؤرخ دمشق، الذي ذكر أنه شهد غسله، وكان في الصلاة عليه. وينسب إلى بلغي أبو الحجاج يوسف بن إبراهيم بن عثمان العبدري، المعروف بالثغرى، نزل غرناطة. وعبد الله بن إبراهيم بن العوام البلغي الأندلسي. استوطن مصر، ذكره ابن بشكوال في الصلة، وقال ابن الأبار في كتابه المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي إن والد أبي الحجاج يوسف العبدري المذكور انتقل من بلغي، ونزل غرناطة، ثم انتقل إلى قرطبة، وإن أبا الحجاج ولد بغرناطة، في صفر سنة 503، واستقر أخيرا بقليوشة، من أعمال مرسية وتوفي هناك سنة 579.
هذا، ومن حصون لاردة التي كانت معروفة في زمان العرب، منت شون، ذكره معجم البلدان فقال: إنه بالشين المعجمة، وآخره نون، حصن من حصون لاردة بالأندلس قديم، بينه وبين لاردة عشرة فراسخ وهو حصين جدا تملكه الإفرنج سنة 482، انتهى. ومونشون اليوم بلدة صغيرة سكانها أربعة آلاف نسمة، وفيها كنيسة صان جوان، وأما الحصن القديم فهو على قمة شاهقة، وفيها بقايا حصن روماني على قمة أخرى. وتمريط على مسافة 15 كيلومترا من مونشون.
ومن لاردة تمتد طريق عربات محاذية لوادي شقر إلى مدينة بلغي وإلى بلدة يقال لها أرتيزة
Artesa
ثم إلى «أولياته» ثم إلى كاستلنو
Caslellnoi
ثم إلى «سولسونة» وعلى مسافة 18 كيلومترا من لاردة، بالقرب من نهر شيقر، توجد صخور عليها تصاوير قديمة، منها تصاوير حيوانات، ومنها تصاوير بشرية، وأما سولسونة فهي قرية معلقة على صخر شاهق مشرف على وادي نيغرو
Negro .
ومن لاردة طرق إلى جبال البرانس الشرقية، وإلى وادي اندور
2
حيث حكومة اندور المستقلة، الواقعة بين فرنسا وأسبانية، وهذا الوادي فيه عدة قرى وقاعدة الوادي يقال لها اندورا لافيجا
Adorra la vieja
ومساحة هذه البقعة المستقلة 452 كيلومترا مربعا وعدد سكانها 5250 نسمة وحكومتها تقدم كل سنة 960 فرنكا لجمهورية فرنسا، علامة على كونها تحت حماية هذه الدولة، إلا أنه يشترك مع فرنسا في حق هذه الحماية مطران أورجل
Uergel
وهو يأخذ من هذه الجمهورية 460 بسيطة إسبانيولية سنويا. وهناك بلدة يقال لها سيو أورجل عدد سكانها ثلاثة آلاف، فيها مركز أسقفية، وهي ذات موقع حصين، وغير بعيد عن أورجل ناحية سردانة
Cerdagna
ثم بلدة يقال لها بويغسردا
Buigcerda .
هوامش
الفصل التاسع والثلاثون
طركونة
وأما مدينة طركونة فهي مدينة بحرية سكانها لا يزيدون اليوم على 25 ألفا بعد أن كان فيها مليون نسمة في أيام الرومان وهي مركز أسقفية. ويقال لأسقفها بريماط أسبانية، كما يقال لأسقف طليطلة. وفي أعلا نقطة من البلدة إلى جهة الشرق، حيث القلعة القديمة، مركز الأسقفية وبجانبه الكنيسة الكبرى. والبلدة قسمان: قديم وحديث، فالقديم هو القسم العالي، وفيه بقايا كثيرة، وكتابات من زمن الرومان وأما القسم الحديث، ذو الشوارع المستقيمة، فهو الذي يلي البحر.
وأسوار طركونة ماثلة من الجهات الثلاث، وإنما قد تهدم منها الجانب الغربي ويرجع بناء طركونة إلى زمن الايبيريين، ويقال إن أول من سكن فيها قبيلة من هؤلاء اسمها السيسيتان
Cessetains
وقد بقيت لهم مسكوكات، وهم الذين بنوا أسوار المدينة سنة 267 قبل المسيح. ولما وقعت الحرب بين القرطاجنيين جاء القواد الرومانيون سيبيون ورفاقه، فاستولوا على طركونة، وبنوا فيها مرسي بحريا، وأسوارا منيعة، وصارت من أعظم مستعمرات الرومان في أسبانية، وكان ذلك من بعد سنة 218 قبل المسيح، ثم إنه في سنة 26 جاء أغسطس قيصر وسكن بطركونة، وبنى فيها هيكلا عظيما، ومباني فخمة،
1
وتتابع ولاة الرومان عليها، وتنافسوا في الاعتناء بها ولا تزال آثارهم تشهد بعظمتها لذلك العهد، وكان استيلاء القوط عليها سنة 475 للمسيح، وكان استيلاء العرب سنة 713. ولما استرجع النصارى هذه البلدة أعادوا إليها مركز الأسقفية، وذلك سنة 1118، إلا أن أهميتها التجارية لم ترجع إليها، بل تحولت التجارة إلى برشلونة من جهة الشمال، وإلى بلنسية العربية من جهة الجنوب.
شكل 63-1: ساحة أغسطس في طركونة.
شكل 63-2: القناة المعلقة في طركونة.
شكل 63-3: طركونة.
وأما مرسى طركونة في زمن العرب فليس هو مرساها الحالي، بل كان في أسفل حارة البحر من طركونة الحديثة. ثم إن الكتلان بنوا ميناء آخر في أواخر القرن الخامس عشر، وكان بناؤهم لهذا المرفأ من حجارة الملهى الروماني. وأشهر شوارع طركونة هما رملة سان جوان، ورملة سان كارلوس.
شكل 63-4: برج سيبيون في طركونة.
شكل 63-5: باب كنيسة طركونة.
شكل 63-6: كنيسة طركونة.
وأما الكنيسة الكبرى فقد بنيت على أنقاض الهيكل الروماني، وأنقاض المسجد الجامع، الذي كان في زمان العرب. فما أخرجوا العرب من هناك سنة 1118 حتى حولوا المسجد إلى كنيسة، وطول هذه البيعة مائة وأربعة أمتار، ولها برج علوه 65 مترا، وفيها تصاوير لأشهر المصورين، وتماثيل لأشهر النحاتين، وفيها قبر جاك الأول الأراغوني، الملقب عندهم بالفاتح، المتوفي سنة 1276 وفي طركونة متحف للآثار القديمة، فيه كثير من النواريس والتماثيل، وقطع الفسيفساء، من أيام الرومان وغيرهم وفيه أيضا أسلحة، ومسكوكات إيبيرية وفينيقية ورومانية.
ومن جملة مباني طركونة المشهورة القناة الرومانية المعلقة، أتوا فيها بالماء من وادي غيه
Gaya
وهذه القناة طبقتان أدناها ذو 11 قوسا وأعلاها ذو 25 قوسا. وطول الطبقة الأولى 73 مترا، وطول الطبقة الثانية 217 مترا، ومجر المياه من رأس نبعها طوله 35 كيلومترا.
وكان يقال لطركونة في أيام العرب مدينة اليهود، لأنهم كانوا كثيرين فيها، كما كانوا في غرناطة، وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية أن العرب إنما اجتاحوا طركونة سنة 724، واستولوا عليها، وبقيت في أيديهم إلى آخر الدولة الأموية، فبعد سقوط الخلافة في قرطبة، وانقسام العرب إلى ملوك الطوائف، زحف إليها لويس صاحب أكيطانية، فاستولى عليها، فزحف العرب واستردوها منه. ثم أغار عليها رامون بيرانجة
Ramon Beranger
واستولى عليها، فجاء العرب واستردوها منه أيضا ولم تسقط السقوط النهائي في أيدي المسيحيين إلا سنة 1120. وقد جاء في الانسيكلوبيدية المذكورة ذكر الكوة الرخامية المكتوب عليها اسم عبد الرحمن الثالث، وهي التي في رواق الكنيسة الكبرى، فإنه في هذا الرواق نافذة صغيرة في حائط عليها تاريخ بالخط الكوفي، فيه اسم الخليفة الناصر، والتاريخ هو في سنة 347. وفي الانسيكلوبيدية الإسلامية يقول إنه في سنة 349.
شكل 63-7: مرسى طركونة.
وجاء في معجم البلدان لياقوت: طركونة، بفتح أوله وثانيه وتشديده، وضم الكاف، وبعد الواو الساكنة نون، بلدة بالأندلس متصلة بأعمال طرطوشة، وهي مدينة قديمة على شاطئ البحر، منها علان، يصب مشرفا إلى نهر أبره، وهو نهر طرطوشة، وهي بين طرطوشة وبرشلونة، بينها وبين كل واحدة منها خمسة عشر فرسخا. ا.ه.
وحول طركونة سهل أفيح خصيب فيه كروم عنب وزياتين، وكثير من الجوز واللوز، يخترقه الخط الحديدي مارا بقرى وقصاب كثيرة، من جملتها «رويس»
Reus
و«سلبه»
Selva
و«مونت بلانش»
Mont Blanch
على وادي «فرنكولي»، وفيها أسوار وأبراج قديمة، ومن هناك يذهب الناس لمشاهدة آثار دير يقال له دير «سان بوبله»
St. Poblei ، نسبة إلى رجل كان يسمى بوبله، كان العرب ألقوا إليه مقاليد الناحية المسماة هارديتا
Herdeta ، وكان في ذلك الدير مقبرة لملوك أراغون. وقد تهدم هذا الدير بالفتن التي وقعت بين سنتي 1828 و1835 وتهدمت القبور أيضا، ولكن الآثار لا تزال ماثلة.
شكل 63-8: قوس بارا في طركونة.
شكل 63-9: الباب البيزنطي في طركونة.
شكل 63-10: كنيسة طركونة أيضا.
والخط الحديدي الممتد من طركونة إلى لاردة يمشي أولا مع النهر، ثم يبتعد عنه، فيخترق شارات برادس، ولا يزال يصعد من شرقيها إلى أن يبلغ ارتفاعا يزيد على ألف متر، ثم يعود فينحدر، فيمر ببلاد منها فينكسا
Vinaixa ، وفلورستا
Floresta ، وبورجاس
Borjas
وجنادة
Gineda ، إلى أن يبلغ لاردة، وبين المدينتين أزيد عن مائة كيلومتر، وأما الخط الحديدي من طركونة إلى طرطوشة، فإنه يشرف على بسيط طركونة من جهة اليمين، وعلى البحر من جهة الشمال، ويشاهد منه رأس سالو
Salou . وعند رأس سالو مرفأ يخدم مدينة رويس، وهذا المرفأ يبعد عن طركونة 13 كيلومترا ، ثم إن الخط يتقدم صوب طرطوشة، في ناحية يكثر فيها الخروب واللوز والنخل، وعلى مسافة 19 كيلومترا من طركونة بلدة يقال لها كامبريلس
Camberlis ، وعلى مسافة 33 كيلومترا بلدة هوسبيتالة
Hospitalei
وكان فيها قديما منزل للمسافرين. وتلك الناحية كلسية الأرض، فلا ينبت فيها إلا أشجار نادرة، وترى الجبال جرداء، وهي مشرفة على البحر، وفي بلدة تسمى أميتله
Ametlle
أهلها صيادو سمك، وعلى ساحل البحر توجد بعض نواعير لسقي الأرض. وعلى مسافة 71 كيلومترا بلدة يقال لها أمبولة
Ampolla
مشرفة على خليج يقال له خليج سان جورج، وهذه البلدة ذات موقع بديع، ومنها ينظر الإنسان إلى وادي أبره، وما تفرع منه من الأقنية الكثيرة، وإلى الشرق من تلك القرية منارة بحرية يقال لها منارة فنغال
Fangal
وإلى الجنوب الشرقي منارة أخرى على رأس طرطوشة، تقرب من بلدة صغيرة اسمها أمبوسطة
Amposta . وإلى الجنوب من أمبوسطة توجد قناة إلى مرسى يقال له سان كارلوس الرابطة، وهناك مصب نهر أبره الكبير، وهو شطران، يفصل بينهما جزيرة تسمى بودا
Buda
وعلى 84 كيلومترا من طركونة، على ضفة نهر أبره، بلدة طرطوشة، التي سيأتي الكلام عليها.
وأما بين مدينة رويس وبرشلونة، فالمسافة تزيد على مائة كيلومتر ومدينة روس سكانها 26 ألف نسمة، وهي بلدة صناعية واقعة في سفح جبل، وكان فيها حصون قديمة تهدمت وصار مكانها الآن حارة جديدة، وفيها كنيسة سان بدرو، لها برج ارتفاعه 66 مترا، وفي هذه البلدة أنشأ بعض تجار الإنكليز، في أوائل القرن الماضي، معامل للقطن، فيها خمسة آلاف نول، وازدادت الصناعة في هذه المدينة فأحدثت فيها معامل للحرير، وللجلد، وللصابون، وللخمر والمسكرات بأنواعها، فصارت رويس ثاني مدينة صناعية في كتلونية. وعلى الخط الحديدي بين رويس وبرشلونة توجد بلدة صناعية أخرى اسمها فالس
Valls
سكانها 13 ألفا، وهي ذات أسوار وأبراج قديمة، وعلى مقربة من فالس في وادي غاية
Gaya
يوجد دير بناه رامون بيرانجه الرابع سنة 1157 كان يضارع دير بوبلة المتقدم الذكر في حسن الصنعة الكتلانية، إلا أن هذا الدير تهدم في فتنة سنة 1835 وفيه قبور ملوك كثيرين منهم بتره الثالث، ملك أراغون، المتوفي سنة 1285، وجيمس الثاني المتوفي سنة 1327 وامرأته الملكة بلانش دانجو
Blanche d’Anjou
وكذلك هناك قبر روجيرلوريا
Lauria
الذي كان أمير الأسطول لعهد بتره الثالث. وهو الذي كسر الأسطول الفرنسي في واقعة نابولي. وقبور رامون وغيارمومونكادا
Moncada
اللذين قتلا في واقعة استيلاء الإسبانيول على ميورقة سنة 1229. عندما طردوا منها العرب.
ومن البلاد الواقعة على الخط الحديدي بين رويس وبرشلونة: سان فتسلت كالدرس
Calders . وفيها ملتقى فرعي السكة الحديدية: الذاهب إلى طركونة، والذاهب إلى برشلونة. وهناك روماني عظيم يقال له برطال باره
وقرية يقال لها روضة باره
Roda de Bara
وكذلك على هذا الخط قصبة اسمها فيلا نوفا كلتري
Villa Nieva Geltri
وهي بلدة سكانها 12 ألفا، وفيها تجارة ذات بال ولها متحف يشتمل على آثار قديمة، مصرية ورومانية، وعلى هذا الخط عندما يحاذي البحر قرية يقال لها سيتغس
Sitges
وهي قرية لطيفة، سكانها يزيدون على ثلاثة آلاف نسمة، ولها مرفأ على البحر، وفيها متحف يسمى بمتحف روز ينبول، توجد فيه تحف نفيسة مصنوعة على المعدن.
هوامش
الفصل الأربعون
برشلونة
هذه البلدة هي أعظم بلدة تجارية وصناعية في الجزيرة الأيبيرية، وعدد سكانها يزيد على سبعمائة ألف نسمة وستين ألفا. وهي قاعدة بلاد كتلونية، ولها مقاطعة خاصة بها، حدودها من الشمال الشرقي مقاطعة جيرندة أو جيرونة، ومن الغرب مقاطعة لاردة، ومن الجنوب مقاطعة طركونة، وفي برشلونة مركز القائد العام والوالي المدني على جميع كتلونية، وفيها أيضا كرسي رئيس أساقفة، وفيها مدرسة جامعة ومن جهة العرض والطول هي في موقع رومة، وهي تصعد بتدريج من ساحل البحر إلى مرتفع يقال له تيبيدابو
Tibidabo
إلى الشمال الغربي منها علوه 532 مترا، وهذا المرتفع يتصل بجبال مالاس، وجبال مونت جويك
Montjuich
وبين مالاس ومرتفع تيبيدابو واد يقال له بيزوس
Besos . وإلى الجنوب من مونتجويك، يجري نهر لو بريقات. فيتكون على ضفتيه واد مربع. كله مزارع ومباقل وبساتين، تأخذ منه هذه المدينة العظيمة جميع ما يلزم من الخضرة والفواكه.
ولبرشلونة أرباض صناعية متعددة، منها: سنس
Sans . وغراسية
Gracia ، وسان اندري بالومار
، وسان مرتين بروفنسال
، وفي هذه الأرباض معامل القطن الكثيرة، ومعامل أخرى للآلات الميكانيكية وللكهرباء. والمترفون من أهل برشلونة يختارون السكنى في ضواحيها. التي أشهرها بونانوفا
Bonanova
وسان جرفازيو
Gervasio .
وإذا نظر الإنسان إلى برشلونة يجدها مجموعة من ثلاث مدن: الأولى برشلونة الأصلية وهي التي على سيف البحر. وبرشلونة المحدثة في القرون الوسطى وهي التي تتألف منها المدينة العظمى اليوم. وبرشلونة الحديثة وهي التي أحدثت في هذا العصر واتصلت بالضواحي والقرى. وقد كان كثير من القرى منفصلا عن المدينة فاتصل بها باشتباك العمارة وامتداد خطوط العجلات الكهربائية. وقل أن يوجد في أوروبا حواضر تفوق برشلونة، في حسن فنادقها، ونظافة شوارعها، وإتقان مبانيها. وقلما انشرح صدري برؤية ساحة من سوح المدن العظام كما انشرح عند رؤية الساحة الكبرى، التي يقال لها ساحة كتلونية. تحف بها المقاهي الواسعة التي تموج فيها المئات، وأحيانا الألوف من الخلق، لاسيما في الليالي، ويبقى الناس في فصل الصيف جلوسا في تلك المقاهي إلى ما بعد الساعة الثالثة من الليل. ويقال للشارع في برشلونة وجميع بلاد كتلونية «رملة»، ويكتبونها هكذا:
Rambla
وهي لفظة عربية كما ترى.
شكل 65-1: حديقة مونتجويك ببرشلونة.
شكل 65-2: بناية التليفون ببرشلونة.
شكل 65-3: رملة كتلونية ببرشلونة.
ورملات برشلونة موصوفة بسعتها وانتظامها، وكلها تحف بها الظلال، وتتناسق الأشجار على جانبيها. ولا يوجد شوارع يحلو السير فيها أكثر من شوارع برشلونة. وأينما توجه المسافر يجد مقاعد يستريح عليها تحت ظلال الأشجار الوارفة، وشمس برشلونة حادة كسائر البلاد الحارة، فبسبب حدة الشمس يجد السائر من لذة اللياذ بظل الدوح الفينان ما لا يجده في حواضر الأقاليم الباردة. ومما يحلو في برشلونة للسائح الشرقي، وللغربي أيضا، ما فيها من شجر النخل، وأجملها النخيلات التي في ساحة المرفأ. ويجد المسافر في برشلونة من أنواع الفواكه ما لا يجده في غيرها، لأنها تجمع فواكه البلادين الحارة والباردة.
ومن أعظم مباني هذه الحاضرة كنيستها الكبرى، وقد بنيت مكان المسجد الجامع. وهذا المسجد بني على آثار هيكل روماني قديم. وقد بدأ الكتلان ببناء هذه البيعة سنة 1298، ويقال إن فيها عظام القديسة «أولاليه» مدفونة تحت المذبح الأعظم، تتقد فوق قبرها الشموع ليلا ونهارا. وهذه القديسة هي شفيعة برشلونة، ولها عندهم مزيد الحرمة.
1
وبجانب الكنيسة دير مبني منذ القرن الخامس عشر. وتحيط بالكنيسة أبنية عمومية، منها خزانة أوراق مملكة أراغون، تشمل على أربعة ملايين قطعة من الوثائق التي أنجتها الأقدار من عوادي الحروب والفتن. وفي برشلونة خزانة أخرى لهذه البقايا القديمة، في متحف خاص، جعلوه في كنيسة سانتا أغيدا
Agueda . وفي الساحة المسماة بالساحة الملوكية قصر أقماط برشلونة، الذين في الأصل كانوا عمالا للإمبراطور شارلمان وأولاده على برشلونة، ثم استقلوا عنهم، ولبثوا أكثر من قرن ونصف قرن أمراء على كتلونية، لا يخضعون لأحد إلا لخلفاء قرطبة، بالصورة الظاهرة، إذا خافوا عاديتهم. وقد تقدم لنا ذكر اتحاد مملكتي كتلونية وأراغون، بواسطة رامون بيرانجة الرابع الذي تزوج بوارثة ملك أراغون، وصير المملكتين مملكة واحدة، فجنت من هذا الاتحاد سيادة عظيمة، لا سيما في البحر. وفي برشلونة أبنية كثيرة موصوفة بالزخرف، مثل كنيسة سانتا ماريه دلبينو
Delpeno ، وكنيسة سانتاحنه، التي هي من القرن الثاني عشر، وغيرهما. وفيها بناية عظيمة للبورصة أو المصفق. وأما المرفأ فأول سد بني فيه لمصادمة الأمواج تاريخه سنة 1474، وهو في غاية السعة لا تقل مساحته عن 124 هكتارا. وعدد البواخر التي تزور هذا المرفأ في دور السنة يزيد على أربعة آلاف وخمسمائة باخرة، والوارد من المواد الأولية على برشلونة هو الحنطة، والشعير، والذرة، والأرز، والحديد، والقطن، والقهوة، والبترول، وغيرها. وبين برشلونة وسائر مراسي أسبانية حركة تجارية عظيمة، ولهذا كانت لها منزلة عليا في درجة الملاحة، وقد عدلوا سنة 1921 محمول سفن التجارة الأسبانية بما يقارب مليونا ومائتي ألف طن.
شكل 65-4: شارع غراسيا ببرشلونة.
شكل 65-5: ساحة ماسيا ببرشلونة.
وأهم ما تمتاز به برشلونة من العوامل الاقتصادية هو معامل القطن التي يشتغل بها مائة ألف عامل، ويأتي بعد القطن صناعة الصوف، التي أكثرها في سابادل
Sabadel
وتاراسا
Tarrassa
وفي الدرجة الثالثة صناعة الحرير التي حفظت شيئا من ازدهارها الذي كانت قد بلغته في أيام العرب.
شكل 65-6: ساحة كتلونية ببرشلونة.
شكل 65-7: شارع أبريل ببرشلونة.
وفي برشلونة حديقة كبيرة من أبهى حدائق أوروبا، تبلغ مساحتها 30 هكتارا، وبالقرب منها متحف عظيم فيه نماذج خاصة بالتاريخ الطبيعي، ومتحف آخر بجانبه، بناهما تاجر كبير اسمه «مارتوريل بينيه»
Mertorell Piena
وبإزاء المتحف الطبيعي تمثال للشاعر الكتلاني المشهور آريبو
Aribau . وهناك شلال صناعي يتصبب في مغارة محدثة. وبالقرب منها تمثال آخر للكاتب الكتلاني فيلانوفا، ويوجد متحف للعاديات القديمة، فيه خزانة كتب نفيسة، ووثائق تاريخية، ومصنوعات من قبل التاريخ، فضلا عما بعده، من أنواع الخزف، والنسيج، والزجاج، والسلاح، والمسكوكات، وغيرها. وفي برشلونة متحف للصنائع النفيسة والتصاوير. ومن المباني الفخمة المعدودة قصر العدلية، إنشاؤه سنة 1903. ومن الكنائس القديمة كنيسة سان بتره، في القسم القديم من البلدة، تاريخ بنائها سنة 945. ومن التماثيل الشهيرة في برشلونة تمثال كريستوف كولمبس، وعلوه ستون مترا، وقد أنشئوه في أواخر القرن الماضي، وهو في فم شارع الرملة الشهير، الذي طوله 1180 مترا.
وضواحي برشلونة مثل «مونت جويك» و«فال فيدر بروه» و«تيبيدادو» هي من أجمل ما يوجد للنزهة، ولا سيما تيبيدادو، وقمة هذا الجبل علوها 532 مترا، ومنها يشرف الرائي على البلدة كلها، وعلى جميع ضواحيها، ويشاهد جبال البرانس ومونت شرات، من جهة البر، وقمم جبال ميورقة، من جهة البحر. ويقال إن اسم برشلونة أو برسلونة مشتق من اسم «ماسيلكار بارسا» القائد القرطاجني، وقيل في الاسم خلاف ذلك. وقد أعطى أغسطس قيصر هذه البلدة لقب «مستعمرة رومانية» وقيل لها «جوليافافنتيا»
Julia Faventia .
وفي القرن الثاني قبل المسيح صارت برشلونة تناظر طركونة في العظمة، وكان بناء المدينة القديمة على القمة التي فيها اليوم الكنيسة الكبرى. ويوجد من آثار سورها وأبوابها بين الكنيسة المذكورة وساحة «إنجل» وساحة «ريغومير» وشارع «آفينو» وكان استيلاء القوط عليها في أوائل القرن الخامس للمسيح. واستولى عليها العرب سنة 713. ثم استرجعها لويس الحليم ملك فرنسا سنة 801 ومع أنها كانت في زمن العرب مدينة عظيمة فلم أعثر إلى الآن على أسماء علماء ينتسبون إليها. مع أننا عثرنا على أسماء رجال من أهل العلم ينتسبون إلى مدن وقصاب، بل إلى قرى ليست شيئا بالنسبة إلى برشلونة. أما في دور الكتلان فقد نبغ فيها مشاهير في كل فن.
شكل 65-8: منظر عمومي لمدينة برشلونة.
شكل 65-9: مرسى ميرامار ببرشلونة.
هوامش
الفصل الحادي والأربعون
جيرونة أو جيروندة
هذه هي مركز إحدى المقاطعات الأربع، وهي اليوم مدينة صغيرة، سكانها بضعة عشر ألف نسمة، ولها تاريخ قديم، وفيها أبراج قديمة، عندما شاهدناها تذكرنا المدن العربية. وكان العرب قد استولوا عليها سنة 713، وكان يقال لها يومئذ جيرنده، فسماها العرب بهذا الاسم. وما قيل لها جيرونة إلا فيما بعد. وفي سنة 785، أي بعد أن بقيت في أيدي العرب اثنتين وثمانين سنة، جاءت جيوش شارلمان واستولوا عليها وعمروها، وإلى الآن يوجد عرب أصلهم من أهل جيرندة. وفي فاس حاضرة المغرب، عائلة يقال لها بنو الجيرندي. وقد رجعت جيرندة إلى الكتلان. بعد أن استولى عليها الفرنسيس. وكان يقال لقمط برشلونة برنس جيرندة، نظرا لأهميتها، وطالما ذكرت في مغازي للعرب. وأشهر ما اشتهرت به المقاومة الشديدة التي أبدتها في وجه الفرنسيس سنة 1809، فإن حامية قليلة العدد، تطوع لمساعدتها بعض الإنجليز، صدت جيشا فرنسيا عدده 35 ألفا، مدة سبعة أشهر، ولم يتمكن الفرنسيس منها إلا بنفاد الذخيرة والميرة. وكان قائد الحامية «مريانوكسترو» قد مرض من شدة الإعياء ومات. وقد بلغت خسائر الفرنسيس على جيرندة خمسة عشر ألف جندي.
شكل 67-1: حديقة مونتجويك ببرشلونة.
شكل 67-2: قوس النصر ببرشلونة.
شكل 67-3: جبل قريب من برشلونة.
وموقع جيرندة بديع، يمر بها نهر يقال له «أونيار»
Onar . وهذا النهر يجري إلى نهر آخر اسمه «تر»
Ter
ومن جيرندة إلى باربينيان، التي هي من ضمن فرنسا نحو من 68 كيلومترا. والحد الفاصل بين فرنسا وأسبانية هو على 41 كيلومترا إلى الجنوب من باربينيان ويقال له عنق بليوشتر
Belluistres
وأول بلدة تستقبلك من أسبانية إذا جئتها من فرنسا تسمى بورت بو
وهي مرسى على البحر. أهلها ثلاثة آلاف نسمة. والخط الحديدي يخترق هناك عدة أنفاق. وكلما أفاض القطاع من نفق انفتح أمامه، بين الجبل من جهة والبحر من جهة أخرى، مناظر تبقى صورتها في الخاطر. ثم إن الشرقي يتذكر هناك أنه صار إلى بلاد الشرق، فإنه يرى النواعير الدائرة على الحيوانات، ويشاهد الأشجار والنباتات التي يعهدها في بلاد الشرق. ومن «بورت بو» يتقدم الخط الحديدي إلى «لانسية»
Liansa ، ثم يمر بحصن «كارامانسو»
Caramanso
ثم بمعبر «برتس»
الذي يقال إن أنيبال عبر منه في زحفه إلى رومة سنة 218 قبل المسيح. ثم يدخل الخط الحديدي في سهل «امبوردان» الخصيب ويقطع وادي البريقات الأصغر. ووادي «موقة»
Mugo
ووادي «مانول». ووادي «فلوقية». ثم يصل إلى بلدة «فيغراس»
Figueras . وهي قاعدة ناحية لمبوردان. وفيها حصن يقال له «سان فرنندو» ولهذه البلدة مرسى على البحر يقال له «روزاس»
Rosas
وهذه الناحية عمرها اليونان في القديم، وفيها من بقايا آثارهم الشيء الكثير.
ثم من امبوردان إلى جيرندة يمر القطاع في بلدة «فيلاملا»
Vilamalls
وفيها برج قديم. وبعدها يمر ببلدة كاماليرا
Camallera
وهناك يقطع الخط نهر تير. ويمر ببلدة «سارية»
Sarria
حتى يصل إلى جيرندة. وفي جيرندة كنائس عظيمة كما في سائر مدن أسبانية، والكنيسة الجامعة مبنية في مكان المسجد الجامع الذي كان في الأصل كنيسة. فلما أجلوا العرب عن جيرندة سنة 1038 أعادوا الجامع كنيسة ولكنهم لبثوا يبنون، يزيدون ويزينون فيها مدة قرون متطاولة. وعدا هذه الكنيسة يوجد بيعة أخرى قديمة من القرن الرابع عشر يقال لها «سان فليو»
Feleu
وكنيسة غيرها اسمها «سان بتروه غليكان»
Galligans
لها دير فيه متحف يشتمل على بقايا فينيقية ويونانية، وبين سان فليو وسان بتروه يوجد دير للكبوشيين فيه مسجد عربي قديم مثمن الشكل. وعلى مسافة 50 كيلومترا من جيرندة، توجد بلدة يقال لها «أولوت»
Olot
وبلدة أخرى يقال لها «كثلفوليت»
Caslelifullit
وهما مركز ناحية كلها براكين نيرانية منطفئة، واقعة بين نهري تر، وفلوفية. والذي يرجحه علماء الجيولوجية أن هذه الأطائم
1
قد انطفأت من عهد متوغل في القدم، غير أنه لا يزال في تلك الأرض انبعاث روائح بركانية. وفي القرن الخامس عشر حصلت اضطرابات في تلك الأرض كما إنه في 6 مايو سنة 1902 حصلت رجفة قوية في بلدة أولوت، في الوقت الذي حصل مثلها في مدينة مرسية.
ويوجد فوهات يقال لها هناك بوفادورس
Bufadors
يضطر الأهالي إلى سدها، لأنه في فصل الصيف يخرج منها ريح بارد جاف مستكره جدا. ولما جرت زلزلة أولوت سنة 1902 وجدت الفوهة التي في «غارينادا» بقرب أولوت مفتوحة، لأن الحركة الداخلية كانت شديدة بحيث إنها أسقطت تلك السدود. ويقال إنه في مقاطعة جيرندة مساحة الأراضي البركانية 196860 كيلومترا مربعا، وهناك عدة فوهات بركانية معروفة بأسمائها، وبعض البراكين، مثل بركان غارينادا، له وحده ثلاث فوهات، كما أن بركان «بيزاروكاس»
Bisarocas
له فوهتان، وبركان «ادري»
Adri
له أربع فوهات.
ومما يذكر من آثار هذه البراكين التي في أرض جيرندة أن رماد بعضها يمتد على مسافة 15 كيلومترا من الفوهة التي قذفت به. وتكثر في تلك الأرض المياه المعدنية، فتجد حمامات كثيرة منها حمام «فارنس»
Farnes
ومنها «بانيولاس»
Banyolas
وماؤه بارد، وبالقرب منه بحيرة لطيفة، فتقصد الناس إليه في أيام الصيف. وهذه البحيرة طولها ألفا متر، وعرضها ستمائة، وعمقها قد يبلغ 53 مترا.
ومن المدن المعروفة في تلك المقاطعة مدينة «فيك»
Vich
وهي بلدة قديمة، فيها متحف أثري يستحق النظر. ثم مدينة «ريبول»
Ripoll
وهي بحذاء الجبال في أعلى وادي «تر»، كان فيها قديما مراكز رهبانية عظيمة، ولذلك تجد فيها آثار الأديار الكثيرة التي أخنت عليها الحروب.
وأبدع شيء في كتلونية هو الساحل، فإن عليه قرى زاهية، لها محارث وزرائع متقنة، وبعضها مساكن لصيادي السمك، وعلى سيف البحر تكثر الأبراج، التي كانت في القديم محارس يتقون بها غارات أهل أفريقية فمن هذه القرى الساحلية «بادالونة»
Badalona
وهي بلدة رومانية قديمة. و«أوكاتا»
Ocata
وفيها برجان قديمان، و«مطارو»
Mataro
وهي بلدة صناعية فيها ميناء معمور، وكالديتاس
Caldetas
وفيها حمامات سخنة وآرنيس البحر
Arenis ، ولها موقع بديع، وكانيت البحر
Canet
وهي بلدة صغيرة، ذات صناعة، وزراعة، وملاحة، وصيد سمك، وسان فليو
Feleu
ولها مرسى، وتحيط بها بساتين البرتقال، وفيها كثير من شجر البلوط. وبالاموس
ولها فرضة بحرية لطيفة، إلا أنها مفتوحة كثيرا للريح الشرقية. وأما روزاس
Rosas ، وقد تقدم ذكرها، فهي مرسى عظيم مستدير، ترفأ إليه أكبر السفن، إلا أنه مفتوح للرياح الشرقية والجنوبية وهذه البلدة قد ورثت مرسى أميورياس الذي كان في الأعصر الغابرة أعظم مرسى في شرقي الجزيرة الأيبيرية، ومنه أبحر أنيبال القرطاجني إلى إيطالية غازيا، وكذلك أبحر سيبيون الروماني قاصدا إلى أفريقية وكانت لأمبورياس أسوار هائلة، تداعت كلها، ولم يبق هناك إلا قرية حقيرة. ثم «سربيره»
Cerbera ، وبنيولس
Banyuls ، و«بورفندر»
و«كولبارا»، وكلها محاطة بالزياتين.
هوامش
الفصل الثاني والأربعون
تابع للوثائق التاريخية
التي تقدم لنا نقلها في أثناء البحث عن مملكة كتلونية
سبق لنا نشر عدة مراسلات سلطانية من ملوك بني الأحمر أصحاب غرناطة، إلى ملوك أراغون وكتلونية، وقد أخذنا هذه الكتب السلطانية عن مجموعة وثائق تقدمت هدية من بعض الهيئات الرسمية ببرشلونة عام 1929، إلى الشهم الهمام، فقيد المغرب الحاج عبد السلام بنونة، تغمده الله برحمته، فلما علم أخوه الفاضل الحاج محمد العربي بنونة، حفظه الله، اشتغالنا بهذا الكتاب في أخبار الأندلس، استنسخ لنا من هذه المجموعة عدة كتب، وأهدانا إياها، وكتب إلينا في هذا الصدد ما يلي:
هذه مجموعة محتوية على تسعين ورقة فوتوغرافية سلبية، بعضها فيه معاهدات وبعضها فيه صور الكتابة التي على ظروفها، وبعضها فيه رسائل دارت بين ملوك بني الأحمر وملوك أراغون، والبعض الآخر بين هؤلاء وبين بني مرين ملوك المغرب
1
وقد أكلت أصلها الأرضة، إلى درجة يصعب معها استخراج كل ما فيها من الكتابات، وأنا لما كنت ألقي عليها نظرة سطحية، كان يتراءى لي سهولة نسخها، ولكن عندما جئت أنفذ الفكرة، وجدت الأمر غير ما ظننته، وبالرغم من ذلك فقد أمكننا استنساخ بعضها، وما زلت أقلبها علي أستطيع استخراج غير الصور الواصلة ولا سيما من القسم الخاص بالأندلس، لما فيه من المعاهدات، وأسماء السفراء، وتسوية الحدود، وغير ذلك مما له فائدة تاريخية.
أما قسم المغرب، وهو أكثر المجموعة، فغالبه رسائل ودادية، لا تخرج عن كونها تنبئنا بأن العلاقات بين ملوك أراغون وملوك بني مرين كانت حسنة (إلى أن قال): ولم يقدموا المجموعة للمرحوم أخي كاملة، لأن أرقامها غير مرتبة. ولست أدري هل ذلك مقصود منهم، أم من باب المصادفة؟ أقول هذا لأني أذكر أنني رأيت عدة ظهائر موجودة بهذه المجموعة عند المرحوم محمد بن الحسن ساسي، أحد الغواة بجمع الآثار بمدينة سلا، وأذكر أنها كانت واضحة الكتابة أكثر من هذه، وبها تعديد مثالب بعض الأمراء الأسبانيين رأيتها سنة 1348، في آخر مرة زرت فيها المتعلقة السلطانية، أي قبل صدور الظهير البربري الذي منع دخولنا إلى تلك المنطقة ثم توفي ساسي إلى رحمة الله، ولست أدري ما صنع الله بمجموعته.» ا.ه. •••
كتاب من الأمير عبد الله محمد بن الأحمر، إلى سلطان أراغون، كند برجلونة:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ليعلم كل من يقف على هذا الكتاب، أنا الأمير عبد الله بن محمد ابن أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، وما إليها، وأمير المسلمين. ننعم
2
لكم أيها السلطان المعظم، دون جايم، ملك أراغون وبلنسية، ومرسية، وكند
3
برجلونة، بأن نكون لكم صاحبا وفيا، ويكون بيننا وبينكم صلح ثابت، وصحبة صادقة يكون فيها أصحابكم أصحابنا، وأعداؤكم، أهل قشتالة، أعداءنا، ونرفع الضرر والفساد عن بلادكم وأرضكم، من بلادنا وأرضنا، ولا نجعل سبيلا لأحد من ناسنا، لا في البر ولا في البحر عليكم، وإن اتفق أن صدر لأحد أو لموضع من ناسكم وبلادكم ضرر من أحد ممن يرجع إلى حكمنا، فنحن ننصف منه بالحق الواجب، على أن تكونوا أنتم لنا كذلك، صاحبا وفيا، كما ذكرتم في كتابكم، وتلتزموا لنا صحبة صادقة، وصلحا ثابتا، وتصاحبوا كل صاحب لنا، وتعادوا كل عدو لنا من المسلمين أو من أهل قشتالة، وترفعوا الضرر والفساد عن بلادنا كلها، وعن ناسنا في البر والبحر، وإن اتفق أن يرجع إلى طاعتنا بلد من بلاد العدوة، أو ناس من أهلها فيكون حكمهم في ذلك كحكم سائر بلادنا الأندلسية، ومتى صدر عن أحد من ناسكم أو من أهل بلادكم، ضرر لأحد من ناسنا أو من أهل بلادنا الأندلسية، أو التي تكون من بر العدوة، فعليكم أن تنصفوا منه في الوقت والحين، كما ذكرتم في كتابكم، وكذلك ننعم لكم بأن يصل إلى بلادنا كل من يريد الوصول برسم التجارة من بلادكم، بما شاءوا من أنواع التجارات، ويسرح لهم ما أرادوا من ذلك، ويكونوا مؤمنين في نفسهم وأموالهم، على أن ينصفوا من الحقوق الواجبة على العادة، وينصفوا من حقوقهم الواجبة لهم في الدواوين على العادة، وعلى أن يكون أيضا كل من يتوجه من بلادنا إلى بلادكم من التجار مؤمنين في نفوسهم وأموالهم، ويسرح لهم في بلادكم ما شاءوا من أنواع المتاجر، وينصفوا من الحقوق الواجبة على العادة، من غير إحداث زيادة، وينصفوا من حقوقهم الواجبة، كما ذكرتم في كتابكم، وكذلك ننعم لكم أن نعينكم على أهل قشتالة في نفاقهم معكم، وإن اتفق أن يجيء لكم إلى مرسية صاحب قشتالة الآن، أو مقدرته (كذا) فنعينكم بما نقدر عليه في ذلك الوقت، ولا نعمل معهم صلحا ولا مهادنة، إلا برأيكم، وفي منفعتنا ومنفعتكم، وعلى أن تلتزموا أنتم بما نلتزمه نحن من النفاق
4
عليهم وشن الغارات على أرضهم كلها، ولا تعملوا معهم صلحا ولا مهادنة إلا برأينا، وفي منفعتكم ومنفعتنا، حتى تكون الحال واحدة في النفاق والاتفاق، وعلى أن تعينونا أنتم عليهم، متى احتجنا إلى إعانتكم بما تقدرون عليه، كما ذكرتم في كتابكم، وكذلك ننعم لكم أنه إن احتجتم إلى إعانتنا في أرض مرسية بفرسان من عندنا أن نعينكم بهم، على أن يضموا في بلادكم (جملة أكلتها الأرضة) يعطوا المأكول والنفقة. من يوم خروجهم من أرضنا إلى يوم رجوعهم إليها، وتأمروا بأن تغرم لهم الدواب التي تموت لهم في خدمتكم، من يوم خروجهم من أرضنا إلى يوم رجوعهم إليها، وكذلك ننعم لكم أنه إن (جملة أكلتها الأرضة) مرسية أن نرده في الحين لكم، وإن كان من غيرها من بلاد قشتالة، لا اعتراض لكم فيه. وكل موضع يرجع لكم أنتم من رئاسة قشتالة، فلا اعتراض لنا نحن فيه، إلا أن يكون من المواضع التي هي لنا وهي طريف (جملة ذهبت بها الأرضة) وقشتال فإن اتفق أن ترجع هذه المواضع أو واحد منها إليكم فعليكم أن تردوها لنا في الحين، من غير تطويل ولا مطلب، وإن اتفق أيضا أن ترجع هذه المواضع أو واحد منها إلى طاعة السلطان دون الفونش وأخيه الافنت
5
دون فراندة، أن تقفوا معنا في تكميل الشروط التي بيننا وبينها، بشهادتكم عليها وضمانكم في ردها إلينا في الحين والوقت من غير تطويل ولا مطلب، وعلى أن تمنعوا أهل بلادكم من الدخول بالتجارة إلى أشبيلية وغيرها من بلاد أعدائنا، في البر والبحر وإن دخل أحد منهم إليها يكون حكمه حكم الأعداء الذين يكون معهم وأن يكون هذا كله ثابتا، وتكونوا أنتم منه على يقين. أمرنا بكتب هذا الكتاب، وجعلنا عليه خط يدنا، وطابعنا، في آخر ربيع الآخر عام أحد وسبعمائة.
وكتب في التاريخ. ا.ه.
وقد كتب إلينا الأديب الفاضل الحاج العربي بنونة في ذيل نسخة هذا الكتاب الملاحظات الآتية: (1)
الألفاظ التي نشكلها في هذه الرسالة هي مشكولة في الأصل، فأنا أنقلها لكم من غير تصرف حتى تعلموا كيف كان ينطق بها أهل ذلك العصر. (2)
سطور هذه الرسالة أفقية تامة الاستواء. (3)
نوع خطها من الشكل المصطلح على تسميته بالمجوهر، وهو خط مغربي مراكشي. (4)
ينقط الكاتب الفاء بواحدة من أسفل، والقاف بواحدة من فوق، على القاعدة المغربية الجارية. (5)
البياض الذي ترونه في هذه النسخة هو المحل الذي أتلفته الأرضة أو محاه قدم العهد وأنا أنقل إليكم الصورة من دون زيادة ولا نقص. (6)
الكتاب من ناحية فن الخط آية في الإبداع مشكول كله، ونجده في المواضع التي نستعمل فيها نحن الفاصلة (،) أو علامة الانتهاء (.) يخالف قليلا البعد المناسب، وعوضا عن أن ينزل الكاتب إلى السطر الثاني في ابتداء الكلام، كما هي العادة في هذا العصر، يكتفى بكتب الحرف الأول كبيرا يتبعه بجرة في السطر طويلة جدا تنبيها للقارئ. (7)
السلطان محمد هذا صاحب هذه المعاهدة هو محمد المخلوع بن محمد الفقيه بلا شك ولا ريب.
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم ، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى الكريم وعلى آله وسلم تسليما.
السلطان المعظم الملك المرفع، الأوفى المكرم المبرور المشكور الأخلص، ذون
6
جاقمي «ملك أراغون وبلنسية وسردانية، وقرسغة، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، مكرم جانبه، وشاكر مقاصده في الوفاق ومذاهبه وحافظ عهده عملا بواجبه، الأمير عبد الله إسماعيل بن فرج بن نصر، أما بعد فإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم من هدايته أوضحها، ومن عنايته المرشدة أسعدها وأنجحها من حمراء غرناطة، كلأها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا، وجانبكم مبرور، وعهدكم بالوفاء محفوظ، وقصدكم في الصحبة مشكور، ومنصبكم في ملوك النصرانية معلوم مشهور، وقد وصلنا كتابكم المكرم صحبة رسولكم إلينا، شمن دي طوبينه، وصحبة راجلنا أبي علي حسن الفران، ووصل العقد الذي عقدتم على نفسكم وأرضكم، بالصلح الذي يكون فيه الخير لنا ولكم إن شاء الله، وقفنا على ذلك العقد، وحضر رسولكم به بين يدينا وأمضينا حكم الصلح، وكتبنا نظير ذلك العقد، ووجهناه إليكم، وألقى إلينا الواصلان المذكوران من قبلكم، ما عندكم من الاغتباط بصحبتنا، والعزم على الوفاء بما عاهدتمونا عليه، والمقاصد الحسنة التي تليق بمثلكم من الملوك الأوفياء، فشكرنا ذلك لكم أكمل الشكر، وإذا اغتبطتم بصحبتنا، وجريتم على منهاج الوفاء في حفظ عهدنا فعندنا من الاغتباط بصحبتكم والحفظ لعهدكم، ما يقتضيه حسن قصدكم، فثقوا منا بذلك أكمل الثقة، وكونوا منه على يقين، وسبيل مبين، والله يقضي الخير لنا ولكم، وهو سبحانه يصل إعزازكم بتقواه، ويحملكم على ما يحبه ويرضاه، ويوالي لكم أسباب عنايته، ويوضح لكم طريق هدايته، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، كتب في يوم السبت السابع عشر لشهر ربيع الثاني عام أحد وعشرين وسبعمائة، عرف الله خيره وبركته بمنه وفضله.ا.ه. صح هذا. •••
كتب إلينا الأخ بنونة في ذيل نسخة هذه الرسالة ما يلي: (1)
هذه الرسالة لم تعتد عليها الأرضة فهي واضحة جدا. (2)
خطها من النوع المسند الظاهر وكلها مشكولة. (3)
طريقة كتابتها فنية جميلة تبين لنا أسلوب الأندلسيين في تدبيج الرسائل في ذلك العصر، فترى السطر يبدأ مستويا طويلا، ثم ينتهي بالتواء طفيف لأعلى ويبدأ السطر الثاني أقصر من الأول، والثالث أقصر من الثاني، وهكذا حتى ينتهي الجميع في زاوية مربع، أو مستطيل الورقة السفلى. وكل سطر ينتهي بذلك الالتواء الجميل. فإذا وصل الكاتب إلى أسفل الورقة، نكسها وبدأ الكتابة عكسية، من أسفل لأعلى، على الصورة نفسها. فيبدو الكتاب آية في الفن قد احتوى مثلثين متضادين مختلفي الأضلاع، وبسبب ذلك يأتي إمضاء الملك عقب التاريخ في آخر الرسالة، ولكنه في أعلاه بحسب الوضع، وهي طريقة أنسب وأدق ذوقا من جعل الإمضاء قبل الرسالة، كما ترون في رسائل بعض الملوك. (4)
رقم هذه الرسالة في المجموعة الأسبانية 13، بينما ترى تاريخها مقدما على تاريخ الرسالة رقم 11. وهذا لا شك آت من سوء الترتيب. (5)
اسم الملك المرسل إليه الكتاب نراه مختلف الصورة، ففي بعض الرسائل جاييم، وفي بعضها جقمي، وفي أخرى جاقمي. وأنتم تكتبونه «جقوم» (يريد أننا كتبتاه كذلك في مختصر تاريخ أسبانية ذيلا على آخر بني سراج) والمراد بالجميع الملك خايمي
Jaime . وكذلك نرى مثل هذا الاختلاف في لفظ كندي
Conde
فنجده في بعض الرسائل قمطا؛ وفي بعضها كندا، ومثل ذلك بعض الأعلام مما سيمر بكم كبرجلونة، وقرسغة، بالقاف والغين وغيرهما، والكل مشكول، ظاهر الخط، مما يجعلنا نتعرف النطق به تماما، خصوصا وأن هذه الوثائق التي ننتسخها خطية مكتوبة في ذلك العصر، ومشكولة وصادرة عن ديوان هو أحق من يتعرف الأسماء في عصره. •••
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلم تسليما.
السلطان الأجل، المرفع المكرم المعظم، الأوفى المشكور المبرور، الشهير الأود ذون جتمى، ملك أرغون وبلنسية، وسردانية، وقرسغة وقمط برجلونة، وصاحب هنجليرة،
7
أعزه الله بطاعته، ويسر له أسباب رضاه وكرامته. حافظ عهده، وشاكر مذهبه في الوفاء وقصده، ومكرم جانبه، ثقة بخلوص وده، الأمير عبد الله إسماعيل بن فرج بن نصر، كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، عن الخير الجزيل، والصنع الجميل، والحمد لله كثيرا، وجانبكم مرفع مبرور، وقصدكم في السلاطين الجلة الأوفياء قصد مشكور، وقد وصلتنا كتبكم المبرورة، على يدي النصارى الذين وجهتم، وأنتم تقررون فيها حفظكم لعهدنا، وثباتكم على صلحنا، وتوفيتكم لما عقدنا معكم، وذلك هو الذي يليق بكم، ونحن لكم على مثل ذلك، من الوقوف على العهد، والحفظ للصلح، فكونوا من ذلك على يقين، وعرفتم بما لكم من الطالب عندنا، فمنها ما طلبتموه منا على وجه الكرامة لجانبكم، وقضاء حاجتكم فنحن قد وفيناه على حسبما أردتم، إكراما لكم، وتوفية لقصدكم، على ما يقتضيه اعتقادنا فيكم، وقصدنا في قضاء أغراضكم، وعند وصول كتبكم أمرنا بسراح النصارى، الذين طلبتموهم على هذا الوجه، وهم برتلمين مرتين، الذي كان قديما في ملكنا، وهو يصلكم مع هذا الكتاب، والصبي الذي أخذ في الأبركة، التي أقلعت من أشبيلية، مع أن أهل أشبيلية قد كانوا طلبوه، وزعموا أنه أخذ في صلحهم فما أسعفنا لهم فيه قصدا، لأجل الشكايات التي لنا قبلهم، ولكن لما وصل كتابكم في شأنه، أنعمنا بسراحه، وهو يصلكم مع هذا الكتاب، وأما جيله التي عرفتم أنها أخذت بقرية البسيط، فقد أمرنا أن يبالغ في البحث عنها وعن ولدها، فما وجد لها خبر، ولكن البحث عنهما متصل، وعسى أن يوجدا ويوجها إليكم، وكذلك كان ولدكم الافانت ألرمون برنفيل، قد طلب أن يسرح له نصراني قديم الأسر عندنا اسمه برنفيل أرنوه، فأنعمنا به، وسرحناه، وهو يصلكم أيضا، ووفينا قصدكم في ذلك كله لمكان صحبتكم لنا، وصدق مصادقتكم، وكذلك سركه من الكرمن، لما وصل كتابكم في شأنه أنعمنا به، وأمرنا أن نحمله أرسالكم لكنه كان بحال مرض اشتد عليه فمات، وأما المطالب التي طلبتموها منا على غير هذا الوجه فما أخذ لكم في الصلح فتعلمون أنتم أيها السلطان أن لنا بأرضكم حقوقا كثيرة، ومطالب عدة، وقد كتبنا بها إليكم، ووجهنا مرة بعد مرة، ووعدتم بخلاصها، والإنصاف منها، فنحن ننتظر وصول المسلمين، وخلاص الشكايات، فإذا وصلوا، فنحن نسرح لكم من عندنا في مقابلهم، فما عندنا إلا الحفظ لعهدكم، وتوكيد الصحبة معكم، وعرفتم أن ابن جندي أخذ ناسا من بلادكم، وباعهم ببجاية وهذا الشخص ليس من أرضنا، ولا خدم بالأندلس قط ، فلو أنه كان من أهل الأندلس لعملنا الواجب في أمره، ولعاقبناه أشد العقاب حفظا لعهدنا كما هو الواجب والله يصل عزتكم بتقواه ويحملكم على ما فيه رضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا. كتب في التاسع والعشرين لذي الحجة عام أربعة وعشرين وسبعمائة. صح هذا.
ثم كتب في أسفل الورقة العنوان كما يأتي:
السلطان الأجل، المرفع الأوفى المشكور المبرور، المعظم الشهير الأود الأخلص ملك أرغون، وبلنسية، وسردانية، وقرسغة، وقمط برجلونة، وصاحب هنجلير، ذون جقمي، أعزه الله بطاعته، ويسر له أسباب رضاه وكرامته، بمنة.
وفي نفس هذا العنوان يظهر أثر الطابع المستدير الذي لم يبق منه إلا علامة الاستدارة، ثم ذكر لنا الأخ بنونة أن نوع الخط في هذه الرسالة بين المبسوط والمجوهر العادي وأن الأسطر غير مستقيمة، وغير مساوية، ثم قال: ورد في الرسالة لفظ الأبركة، وهي على ما يظهر جمع «بركو»
Barco ، بمعنى المركب، مما يدلنا على أنهم كانوا يستعملون بعض الألفاظ الأسبانية في لغتهم الكتابية. ومثلها لفظة «الافانت» بمعنى الأمير. وتدل هذه الرسالة وغيرها على أن مسلمي الأندلس كانوا يقرءون القرآن برواية ورش كالمغاربة، بل كانوا يكتبون حسب قواعد المصحف كثيرا من الألفاظ، مثل النصرى فيحذفون الألف من الخط، ويثبتونها فوق السطر، وكذلك الآخر والأرض، ويحذفون منهما الهمزة، ويشكلون اللام بالفتحة، وغير ذلك كثير.
رقم الرسالة 23، ولكن يوجد رقم آخر داخل الورقة الأصلية 77، مما يدل على أنها كانت مدرجة في مجموعة أولى ثم أتلفت هذه المجموعة فرتبت ثانية، فنزل العدد إلى 23، أو كان رقم 77 راسما لها في خزانة الملك ذون جقمي. أما ظرف الرسالة فهو منها، إذ يظهر أثر الطي في الصورة وفيها كتب العنوان.
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ليعلم من يقف على هذا الكتاب ويسمعه، أننا الأمير عبد الله إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية، ورندة، والجزيرة، وأمير المسلمين لما وصلنا من قبلكم، أيها السلطان المعظم، الملك المرفع، الأوفى المكرم، المبرور المشكور، الأخلص ذون جقيمي، ملك أراغون، وبلنسية، وسردانية، وقرسغة، وقمط برجلونه، رسولكم إلينا الفارس المكرم، شمون دي طبنية، بالعقد الذي عليه طابعكم، المعهود عنكم، الذي عقدتموه على نفسكم، بأنكم قد ثبتم معنا صحبة خالصة، ومصادقة صادقة، جددتم بها ما كان بينكم وبين أسلافنا، رضي الله عنهم، وعقدتم معنا صلحا صحيحا صريحا، مبنيا على الصفاء والوفاء، أمضيتموه على نفسكم، وعلى جميع أهل أرضكم، من نصف شهر مايو، الموافق للتاريخ إلى انقضاء خمسة أعوام، وظهر لنا منكم من الاغتباط بصحبتنا، ما أكد عندنا إجابتكم إلى هذا القصد، أنعمنا بموافقتكم ومصالحتكم، وأعطيناكم هذا المكتوب بأننا عقدنا معكم الصلح على نفسنا، وعلى جميع أهل أرض المسلمين، ببلاد الأندلس كلها، لانقضاء خمسة الأعوام المذكورة، صلحا ثابتا، محفوظ العهد، مؤكد العقد، وأمضينا معكم هذا الصلح إمضاء صحيحا، لا يتعقب حكمه، ولا يتغير رسمه، تأمن به أرض المسلمين ببلاد الأندلس وأرضكم أمانا تاما عاما، وينكف عنها الضرر من الجانبين، بطول مدة الصلح، برا وبحرا، فلا يلحق أرضكم ولا ناسكم ولا أجفانكم ضرر من جهتنا بوجه، ولا على حال، كما أنه لا يلحق ناسنا، ولا جميع أرض المسلمين بالأندلس، ولا أجفاننا ضرر من جهتكم، ولا شيء يقدح في الوفاء، وعلى شروط تتفسر، فمنها أن يتردد كل من يريد التجارة من أهل بلادنا إلى بلادكم، آمنين في البر والبحر، في النفوس والأموال وجميع الأحوال، وأن يباح لهم بيع ما يريدون بيعه، وشراء ما يريدون شراءه، وإخراج ما يشترونه إلى بلادنا، وذلك على العموم في جميع الأشياء كلها إلا الخيل والسلاح، لا يستثنى غيرها، لا طعام ولا بغال، ولا سائر الدواب، ولا غير ذلك، ولا يزاد على أحد منهم في سوم شيء يشترونه، بل يباع منهم بسومه بذلك الموضع، ولا يزاد عليهم في مغرم مخزني على ما جرت به العوائد ... بينكم وبين أسلافنا، ومثل ذلك يكون العمل مع من يتردد إلى بلادنا من أهل بلادكم. وعلينا وعليكم حفظ هؤلاء المترددين وحراستهم حيث حلوا، ومنها أن تعادوا من يعادينا من أهل بلاد المسلمين ... أحدا منهم، ولا تضموه، ولا تعينوا علينا عدوا كان من كان، وعلينا أن نعادي من يعاديكم من أهل أرضكم، ولا نضمه، ولا نقبله، ولا نعين عليكم عدوا لكم، كان من كان، ومنها أن تكون أجفاننا آمنة من أجفانكم، وناسكم لا ... منهم ضرر، سواء كان فيها أهل بلادنا أو غيرهم، من المسلمين أو النصارى، فلا يتعرض لهم من جهتكم بوجه، وكذلك جميع مراسي بلادنا وسواحلها تكون آمنة من أجفانكم وناسكم سواء كان في مراسينا وسواحلنا عدو لكم أو صديق، لا يتعرض من جهتكم لمرسى من مراسينا، ولا لساحل من سواحلنا، وإن استوليتم على جفن من غير أجفان أهل بلادنا، أو استوليتم في البحر على طائفة من المسلمين، وكان فيهم أحد من أهل أرضنا، فتسرحون من أخذتم من أهل أرض المسلمين ببلاد الأندلس بأموالهم في الحين، ومثل ذلك يكون العمل معكم من جهتنا. ومنها أن لا تمنعوا من أراد الخروج إلى أرض المسلمين من المدجنين الساكنين بأرضكم بأهلهم وأولادهم، وأن يتاح لهم الوصول إلى أرضنا آمنين، مرفوعا عنهم الاعتراض، من غير شيء يلزمهم، إلا المغرم المعتاد، على ما جرت به العادة، من غير زيادة على ذلك. انتهت الشروط، وعليها أعطيناكم عهدا صحيحا ثابتا، والتزمنا الوفاء به لكم، ولجميع أهل أرضكم، فلا يزال محفوظا إلى أقصى أمده، ما وفيتم لنا بما ذكر عنكم في هذا المكتوب، ونجعل الله شاهدا بيننا وبينكم، والله خير الشاهدين. وقد تقيد نظير هذا بالعجمي في المكتوب الذي استقر عندنا، وعليه طابعكم، ولأن يكون هذا ثابتا، وتكونوا منه على يقين، أمرنا بكتبه، وجعلنا عليه خط يدنا، وعقلنا عليه طابعنا، توثيقا لحكمه، وذلك في السابع عشر لربيع الآخر عام أحد وعشرين وسبعمائة، وبموافقة السادس عشر من شهر مايو (صح هذا).
وكتب الأخ بنونة تحت هذا الكتاب الملاحظات التالية: (1)
يستعمل الكاتب لفظة مخزني نسبة إلى المخزن، أي الحكومة، مما يدل على أن هذا الاستعمال كان معروفا بالأندلس، كما هو اليوم بالمغرب.
8 (2)
خط المعاهدة من النوع المبسوط الظاهر، وسطورها أفقية تامة الاستواء. (3)
تأملوا قوله «المدجنين الساكنين بأرضكم» أليس معناه الأهالي المسلمين؟ ثم مما لا شك فيه أنه مترجم عن لفظة «أندخيناس» التي يطلقها اليوم الإسبانيول على الأهالي المغاربة. وأذكر أن الأخ المكي الناصري كتب عنها فصلا قيما في مجلة السلام، أعطى فيه هذه اللفظة حقها، ولا نستطيع أن نفسر اللفظة هنا بالمقيمين من دجن بمعنى أقام بالمكان، لأن لفظة «الساكنين» تفيد ذلك المعنى، فلا وجه لتفسيرها بها إلا بتكليف. ا.ه.
قلنا إن المدجنين هم المسلمون الأندلسيون الذين عندما غلب النصارى على بلادهم لبثوا تحت حكم هؤلاء، ولم يختاروا الرحيل إلى بلاد الإسلام، كما رحل إخوانهم، وقد سموا بالمدجنين من دجن بالمكان بمعنى ألف الإقامة به، ومنه الحيوان الداجن، الذي يألف البيوت، ولا ينفر منها، كالحيوانات الأخرى الشاردة، وربما كان الحيوان بريا، فإذا أمسكوه عودوه الدجن في البيت وانتهى بأن يستأنس ويألف. ووجه المناسبة ظاهر، وهو أنه عندما كان يتغلب النصارى على بلاد المسلمين من الأندلس كان أكثر أهلها يشردون نافرين، ويهاجرون منها إلى بلاد الإسلام، وقد كان يوجد فيهم من لا يتمكن من المهاجرة، أو من يعز عليه فراق وطنه، فيبقى تحت حكم النصارى، ويألف الخضوع لهم، فسمي هذا النوع من المسلمين مدجنين من باب التشبيه. وهكذا قرر المؤرخون والعارفون باشتقاق الألفاظ وجه هذه التسمية.
وكان هؤلاء المدجنون، وإن سكنوا في الأول تحت حكم النصارى يضطرون في الآخر إلى الرحيل منها، نظير الذين سبقوهم من إخوانهم، وذلك بسبب تفاقم الظلم والاضطهاد عليهم. فسلاطين غرناطة كانوا يتوسطون لدى سلاطين الأسبان حتى يسمحوا للمدجنين بالخروج إلى بلاد الإسلام، وبأخذ أموالهم معهم، وسبب هذا التوسط هو أن سلاطين النصارى لم يكونوا يسمحون دائما بهجرة المدجنين، وذلك لأن المدجنين كانوا يعملون في أراضي النصارى، وكانوا أهل جد ونشاط، وعلم بأصول الزراعة، وكانوا إذا خرجوا ماتت المزارع من بعدهم، وحرم النصارى خيراتها الدارة. فطالما منع ملوك النصارى خروج المدجنين بهذا السبب، وكانوا إذا أراد بعضهم الخروج لا يسمحون لهم بأخذ أموالهم معهم، وذلك حتى يبقوا في أرضهم فيعمروها، ولكن بعد سقوط غرناطة، وإكراه النصارى للمدجنين على ترك دينهم صار هؤلاء يثورون في الأحايين، وتقع الوقائع، وكانوا يستصرخون إخوانهم مسلمي المغرب الأقصى والأوسط، وأتراك الجزائر، فكانت ترد إليهم نجدات، ويتسرب سلاح، ويقاتلون ويستبسلون، فرأى ملوك النصارى أخيرا أن لا نهاية لثورات هؤلاء.
وفي الآخر أحسوا بأن المدجنين صاروا يستصرخون سلاطين آل عثمان، وكانت الدولة العثمانية حينئذ في إبان قوتها فخاف ملوك أسبانية من تعرض الأسطول العثماني لسواحل أسبانية، وإثارة المدجنين، وإنزال عساكر تقاتل معهم، فأجمعوا طرد جميع المدجنين من جميع أسبانية، وأنفذوا هذا القرار بالرغم من احتجاج الكثيرين من نبلاء الإسبانيول، وأصحاب الأملاك فيهم، ممن كانوا يقولون إن خروج المدجنين من البلاد سيجعلها خرابا.
وقد كان المدجنون عندما استولى النصارى على شمالي الأندلس وشرقيها ينزح منهم الكثيرون إلى مملكة غرناطة، حتى إن هذه المملكة امتلأت بالسكان، بسبب توارد المدجنين عليها من مرسية، وبلنسية وجيان، وقرطبة، وأشبيلية، فضلا عمن كان قد سبق رحيله إلى الجنوب من مسلمي سرقسطة، ولاردة، ووشقة وتطيلة، وقلعة أيوب، وطليطلة، ووادي الحجارة، ومدينة سالم ومجرط، وغيرها. فسلطان غرناطة عبد الله إسماعيل بن فرج، يرجو في هذا الكتاب من الدون جنيمي ملك أراغون، ألا يضيق على المسلمين الذين في مملكته في منعهم من الهجرة منها.
فهذا ما عندنا في قضية تاريخ المدجنين واشتقاق اسمهم، ولا نرى شيئا من التعارض بين قول السلطان «المدجنين» وقوله «الساكنين» لأن اسم المدجنين صار أشبه باسم علم يطلق على المسلمين الذين تحت حكم النصارى، وصار يجوز وصفهم بالساكنين، ولا يحتاج ذلك إلى تأويل، فهو صفة لاسم، وسنأتي إن شاء الله في آخر هذا الكتاب على أخبار المدجنين في جزء خاص. وقد كان لهم عند الإفرنج اسم آخر وهو «الموريك»، كما أن الإسبانيول حرفوا لفظة «مدجن» إلى «مدجر» ولما كان الأسبان يقلبون الجيم خاء صاروا يقولون «مدخر» وإلى اليوم يطلقون هذا الاسم على طرز البناء العربي فيقولون طرز قوطي، وطرز مدجر، كما يعلم كل من له ضراوة بتاريخ الأندلس . •••
كتاب إلى الدون جيمي ملك أراغون من السيد عثمان بن إدريس بن عبد الله ابن عبد الحق رئيس جند غرناطة:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد نبيه الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الملك المعظم الشهير، الأرفع المشكور، الأوفى الخطير الكبير، الأود الأخلص، دون جيمي، صاحب بلنسية، وأراغون، وسردانية، وقرسغة، وقمط برشلونة، أعزه الله بتقواه، ويسره إلى ما يحبه الرب جل جلاله ويرضاه. شاكر خلوصه وصفائه، المثني على ثبوت عهده وصدق وفائه، عثمان بن إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، وبعد حمد الله رب العالمين، المنزه عن الصاحبة والولد والشريك والمعين، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد سيد الخلق، وخاتم النبيين، وعلى جميع أنبياء الله الكرام والمرسلين، والرضى عن الصحابة الأكرمين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، فإني كتبته لك أيها الملك المعظم، من حضرة غرناطة، حرسها الله ولا جديد بيمن الله إلا ما يجدد إنعامه عز وجل وإحسانه، والحمد الله، وجانبك مبجل على الدوام والاتصال، وواجبك مكمل في كل الأحوال، والثناء على جميل ولاتك، وصدق وفائك، مردد في كل مقام ومقال، وإلى هذا فإن كتابك المرفع وصل إلي مع رسولك شمون دي طوبينه، في شأن عقد الصلح بين مولانا السلطان، أيده الله ونصره، وبينك، وقد تخلصت العقود على أكل وجوه الاختيار، وحصل المقصود في تأمين البلاد والعباد، وكف الأضرار، وأنا على شكر ودك، وحفظ عهدك، حسبما يوجبه الاعتقاد الخالص الإعلان والإسرار، وقد بلغني ما وجهت لي من رسولك شمون، وجددت على ذلك شكر ودادك، وعلمت صحة خلوصك واعتقادك، وظني فيك أيها الملك المعظم، أن تفعل ذلك، وغرضي أتحقق أنه ينقضي ما طالت حياتك هنا لك، فوفاؤك معلوم، وقصدك في المودة مفهوم، وأنت الملك الذي لا يساويه أحد من ملوك النصارى شرقا وغربا، ولك الوفاء الذي شهر عند جميع الناس بعدا وقربا، وقد قلت لشمون في ذلك كلاما يقر به بين يديك، ويلقيه إن شاء الله إليك، فصدق ما يقوله، فعنده شرح ما عندي وتفصيله ، والله يعزك بتقواه، وييسرك إلى ما يحبه الله ويرضاه، والسلام يراجع سلامك كثيرا أثيرا، كتب في الثامن عشر لشهر ربيع الآخر عام أحد وعشرين وسبعمائة.ا.ه.
يقول الحاج محمد العربي بنونة: إن هذا الكتاب، ورقمه في المجموعة 14، ظاهر الخط واضحه، وهو من نوع المسند العادي، وإن إمضاء الوزير في وسط الكتاب، وإنه بقلم غير قلم الكاتب، وفيه لفظ عثمان بدون ألف بعد الميم، وكذلك لفظ النصارى بدون ألف بعد الصاد، وهو يخاطب ملك أراغون بكاف الخطاب المفردة، بخلاف سلطان غرناطة فإنه يخاطبه بالجمع. انتهى.
ونحن نقول إن الذي صدر عنه هذا الكتاب هو رئيس الجند المغربي في سلطنة غرناطة، وهو الذي قال عنه لسان الدين بن الخطيب في اللمحة البدرية: الشيخ الهمة،
9
لباب قومه، وكبير بيته، أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، كان رئيس الجند في زمن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن قيس الأنصاري الخزرجي أمير المسلمين بالأندلس، المكني بأبي الوليد.
وانظر إلى ما سبق لنا من الكتابة في شأن المرابطة بالأندلس، وذلك في خلاصة تاريخ الأندلس التي علقناها على رواية «آخر بني سراج» وهو ما يلي:
الفصل الخامس
في ذكر مشيخة المرابطين والغزاة من الإسلام والنصرانية
كانت الثغور منذ القديم مواطن الأمم المتناظرة، ومواقف الأقران من حماة الأقوام المتبارزة، وكماة الشعوب المتحاجزة، ومقامات صدق المجاهدين، ومظان النخوة الجائشة بالرءوس، للذب عن العرض والدين. ومنذ ظهرت دولة الإسلام، بما شرع فيها من الجهاد، لم تبرح مرابطة الثغور، ومحافظة الدروب، وبعوث الصوائف، من أركان الملة، وقواعد الدولة، وأعمدة سرادق الخلافة، يتنافس في الوفاء بها، والقيام عليها، الأطول يدا، والأبعد هما، والأشد عزمة، والأنأى في المجد غاية، من خلائف الإسلام وسلاطينه، وأمراء التوحيد وأساطينه، ممن رفعوا في تعزيز الملة، وإجابة داعي الجنة، شأن الجهاد، ولم تزل آثار مساعيهم ظاهرة بهذه البقية من البلاد، فإن كان للإسلام لواء خافق فوق رءوس بنيه، فهو بقية ما عقد بأيدي الغزاة والمجاهدين، وإن كان تحت أقدامهم مواقع للامتناع، فهي نتيجة مواقع السيوف من رقاب المناهدين.
ولما كانت الجزيرة الأندلسية بموقعها من الاتصال ببر العدوة الأوربية والموازاة لبر العدوة المغربية غير منفصلة عنه إلا ببحر الزقاق، الذي يتراءى الساحل من ورائه، تعد ثغر الثغور بين البرين الكبيرين وموطن الرباط، ومعترك الثقاف من العنصرين العظيمين، استمر الجهاد فيها نيفا وثمانمائة سنة، بين حماة الحنيفية والنصرانية منازعة الأرض بالشبر، فلما كان الإسلام هناك في عنجهيته، والعرب تترامى إلى الأندلس للاعتمار من جميع الأقطار، قد عصفت ريحهم بأمم الفرنج، وأجفلت هذه بين أيديهم، وانهزمت من أوجههم، وانتظمت في أثناء ذلك دولة بني أمية في ذلك الصقع أعظم ما كان العرب نضارة، وأكمل عزا، وأبعد في العدو مغارا، مضت على الإسلام في الأندلس ثلاثة قرون، كنت فيها نفسها مئونة الجهاد، وقامت وحدها في وجه العدو الذي كان قد انضم بعد التخاذل، واستمسك بعد الاسترسال، إلى أن انقرض حبل الخلافة المروانية، وتشعبت الكلمة، وصار الأمر إلى ملوك الطوائف فاستأسد الفرنج، واقتحموا ثغور المسلمين، وأجلوهم عن كثير من القواعد والضواحي، فاستصرخ هؤلاء إخوانهم من وراء البحر، بحسب الانقطاع في تلك الجزيرة، فوافاهم مدد المرابطين من بني لمتونة، واستجاش يوسف بن تاشفين المغرب، فرمى إليه بأفلاذ أكباده من زناتة وضهاجة وغيرها، وأجاز إلى الأندلس بجحافله، فرد عادية النصارى، واسترجع كثيرا من القواعد، ولم يلبث أن تأذن الله بانقراض أمد تلك الدولة، وقيام دولة الموحدين بني عبد المؤمن، فاقتدوا بسلفهم في الجهاد، وأجازوا إلى الأندلس على ظمأ من أهلها لنجدتهم، فصدموا تقدم العدو، وفلوا غربه، ولم يسعد الإسلام الحظ بطول انتظامهم، وامتداد التئامهم، فخامر دولتهم الضعف واستولى عليها الانقسام وظهر في عقبها الفشل، وجاءت وقعة العقاب، لعهد الناصر من أمرائهم، الطامة الكبرى على الإسلام، فلم تقم له بعدها قائمة تحمد فيما وراء البحر، وانجلى أهله أمام العدو المتقدم إلى سيف البحر. وحشروا في مملكة ابن نصر الذي ضم شملهم في غرناطة وجوارها . ورأى المسلمون أن الأمر كاد يفلت من أيديهم، وإن منزلهم هناك أصبح قلمة،
10
وأن زيالهم لتلك الديار أضحى قريب الأجل كما يستدل على ذلك من كلام علمائهم وشعرائهم، كقول أبي البقاء الرندي:
قواعدكن أركان البلاد فما
عسى البقاء إذا لم تبق أركان
وكقول غيره من قبله:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس
فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى
ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
وقول لسان الدين بن الخطيب وزير غرناطة الكبير، من جملة نصيحته لأولاده:
ومن رزق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع في العقار، فيصبح عرضة للذلة والاحتقار، وساعيا لنفسه، إن تغلب العدو على بلدة، في الافتضاح والاحتقار، ومعوقا عن الانتقال أمام النوب الثقال.
ولما ضعفت حامية الأندلس بعد ذهاب بني عبد المؤمن، وضاقت مسالك المسلمين في الجزيرة، وتسامع بذلك أهل المغرب، نفروا للجهاد، وسابق إلى ذلك الأمير أبو زكريا بن أبي حفص، صاحب إفريقية (أي مملكة تونس) فأمدهم بالمال والرجال، وأعطوه بيعتهم. ولما قامت دولة بني مرين، واستفحل أمر يعقوب بن عبد الحق، واستبد بسلطنة المغرب، وكان عظيم الاستعداد في نفسه لإحراز تلك المثوبة وبلوغ هاتيك الرتبة، وأهمه شأن ابن أخيه إدريس بن عبد الحق، لما وقع بينهما من المنافسة، واستأذنه عامر بن إدريس في الجهاد، اغتنم هذه الفرصة، وعقد له على ثلاثة آلاف من مطوعة زناتة، وأجاز معه رحو ابن عمه ابن عبد الله بن عبد الحق. فكان لهم في الأندلس مقام كريم في الجهاد. ثم صارت الإجازة والجهاد شأن ذوي القرابة من ملوك المغرب المنافسين في الملك، والمزاحمين في الدولة، اغتناما للأجر والذكر. وتوسلا إلى قطع أسباب المنافسة بالغربة والانقطاع. وهؤلاء مثل أبناء أعمام الملوك من بني مرين، الملقبين بالأعياص. ومثل عبد الملك يغمراسن ابن زيان، وعامر بن منديل بن عبد الرحمن، وزيان محمد بن عبد القوي، فامتلأت الأندلس بأقيال زناتة وأعياصهم (إلى أن أقول):
ولما انتزى أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر علي ابن عمه صاحب غرناطة، كان شيخ زناتة بمالقة عثمان بن أبي العلاء إدريس من آل عبد الحق، فانتصر به أبو الوليد على ابن عمه، ولما استتب له الأمر عقد له على الغزاة من زناتة، وصرف عن تلك الرئاسة عثمان بن عبد الحق بن عثمان، فلحق بوادي آش مع السلطان أبي الجيوش، وصار حمو بن عبد الحق بن رحو من عملة عثمان بن أبي العلاء إدريس، بعد أن كانت الرئاسة له. وبعد صيت ابن أبي العلاء، واستفحل أمره، وعلت رايته، وأتاح الله للمسلمين من النصر على يده، ما لم يتوقعوه، ولما مات أبو الوليد سلطان غرناطة، وبويع ابنه صبيا، لنظر الوزير بن المحروق، استبد عليه ابن أبي العلاء شيخ الغزاة، فوقعت الفتنة بينه وبين الوزير، ونصب الوزير له كفئا من ذوي قرباه، يحيى بن عمر بن رحوم، وارتحل عثمان، وبقي إلى أن استبد بالأمر السلطان محمد بن الأحمر، ونكب ابن المحروق، فاستدعي عثمان ثانية لمشيخة المجاهدين، ومات لسبع وثلاثين سنة من إمارته عليهم وكان مكتوبا على قبره هكذا: «هذا قبر شيخ الحماة، وصدر الأبطال والكماة، واحد الجلالة، لبث الأقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتائب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، إمام الصفوف، القائم بباب الجنة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، قاسم الأعادي، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الهمام المجاهد الأرضى، البطل الباسل الأمضى، المقدس المرحوم، أبي سعيد عثمان ابن الشيخ الجليل، الهمام الكبير الأصيل، الشهير المقدس المرحوم، أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق. كان عمره ثمانيا وثمانين سنة، أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوة.» ا.ه.
فأنت ترى لماذا يخاطب هذا الرجل ملك أراغون بالكاف بينما يكون سلطان غرناطة نفسه مخاطبا له بالجمع، فإن أبا سعيد عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق هو من بني مرين، ملوك المغرب، وهو شيخ الغزاة بالأندلس، وقد عمر ثمانيا وثمانين سنة، وغزا سبعمائة وثلاثين غزوة، وبهذا كفاية ليخاطب الملوك بكاف المفرد. •••
كتاب آخر من سلطان غرناطة إلى نائب ملك أراغون بأريولة:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
من الأمير عبد الله إسماعيل بن فرج بن نصر، أيد الله أمره، وأعز نصره، إلى النائب عن السلطان ملك أراغون بأريولة، الأجل المكرم، المبرور المشكور الأخلص، بيره جيل قرإلط، وصل الله عزه بتقواه، ويسره لما يحبه الله ويرضاه، كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا، والبر بكم وال ... والشكر لمقاصدكم، في الوفاء ومذاهبكم، وإلى هذا فإنه بلغنا ... ضرر من جهة المسلمين ... أمر لا تعتقدوه فينا بوجه، فإننا لا نبدأ بنقض ما عاهدنا، ولا بحل ما عقدنا، وكونوا من ذلك على يقين، وما عهد السلطان ذون جقمي عندنا إلا أثبت العهود وأحكمها، وقد عرفتم .... أننا لم نطلق الغارة على أرض ولد منول إلا عن نكايات كثيرة صدرت لنا منها، وبقينا نطلب منه الإنصاف من أزيد من عام، ووجهنا إليه رسولا إلى قشتالة، فما أنصفنا أحد، ولا رأينا خلاصا، فحينئذ انتصرنا لناسنا، حسبما هو الواجب علينا. وأما السلطان ذون جقمي فما صدر لنا منه إلا الوفاء، ولا يصدر له منا إلا ما صدر لنا منه من الوفاء بعهده والحفظ لبلاده، فلا تشكوا في ذلك، فاعلموه والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، وييسركم لما يحبه ويرضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا. وكتب في يوم الاثنين الرابع عشر لشهر ربيع الآخر من عام أربعة وعشرين وسبعمائة (صح هذا).
وقد كتب إلينا الأخ بنونة تحت نسخة هذا المكتوب ما يلي: (1)
في نفس الصحيفة مكتوبة ترجمة هذا الكتاب بالأسبانية بخط جميل جدا والأسطر مستقيمة الأفق أكثر من أسطر الكتاب العربي. (2)
الترجمة الأسبانية مؤرخة في 14 ربيع الثاني عام 724 مثل الأصل، ولكن فيها زيادة على الأصل هذه الجملة «الموافق من الشهر العجمي وهو 12 مارس 1324». (3)
إمضاء الملك في هذه الرسالة «صح هذا» وهو مكتوب بنفس القلم الذي كتب به الكاتب الرسالة السلطانية، بينما الإمضاء في كتب أخرى غيرها مكتوب بقلم آخر غليظ. (4)
البياض الذي ترونه في هذه الرسالة هو أثر المحو أو العثة. (5)
نوع الخط في هذه الرسالة بين النوع المبسوط والنوع المجوهر، أما نقط الفاء والقاف فهو دائما على الطريقة المغربية. (6)
الخطوط الأفقية التي ترونها تحت بعض الأعلام قد وضعتها بقصد تنبيهكم إلى أنها في الأصل مشكولة كذلك. أما اسم نائب ملك أراغون وهو الذي خوطب بهذه الرسالة فلم أستطع قراءته فصورته كما هو فيها. (7)
لفظة دون
Don
التي معناها السيد كتبت في الرسالة رقم 3 بالدال المهملة وهي في هذه بالذال المعجمة، ولعلهم جعلوا الذال مكان الدال لأن «الدون» في العربي معناه الخسيس، وأما «الذون» فلا يدل في العربي على شيء. ومثل هذا حصل في أيامنا فقد تبدلنا الضاد بالدال المهملة فصرنا نكتب في الرسائل وغيرها «ضون» بدلا من دون، تفاديا من جرح العواطف. •••
كتاب آخر:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
السلطان الأجل، المرفع المكرم، المبرور المشكور، الأوفى الأخلص، ذون جقمي، سلطان بلنسية، وقمط برجلونة، وصاحب قرسغة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، مكرم مملكته، وشاكر ما أظهر من مودته، المحافظ على عهده، ورعى صحبته، الأمير عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، أما بعد، فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا، وجانبكم مبرور، وقصدكم في الصحبة معلوم مشكور، ومحلكم في ملوك النصرانية المحل المعروف المشهور، وإلى هذا فقد وصل كتابكم المكرم، على يدي رسولكم إلينا، جوان أنريق، وقد حضر بين يدينا هو ورفيقه جقمى، من قلعة أيوب، وقررا عندنا من محبتكم في صحبتنا ، وقصدكم الجميل في حفظ عهد مولانا الوالد، قدس الله روحه، ما شكرناه لكم، وعلمنا أنه الذي يليق بمثلكم من الملوك الأوفياء، ووصلنا المكتوب الذي وجهتم بتجديد الصلح الذي كان بين والدنا وبينكم لخمسة أعوام من الآن، وقد جددناه نحن على حسب ما اقتضاه مكتوبكم، والعقد يصلكم صحبة هذا، ونحن على أولنا في حفظ عهدكم، والاغتباط بصحبتكم، والوفاء بما عقدناه معكم، وقد وجهنا إليكم صحبة رسوليكم أربعة من النصارى من أرضكم، فقصدنا منكم أيها السلطان أن توجهوا إلينا المسلمين الذين أخذتهم أجفانكم في سلوة،
11
ثم بيعوا بميورقة، وتعملوا في ذلك ما يقتضيه وفاؤكم الصادق، ونحن قد أمرنا أن يبحث عما أخذ من أرضكم من النصارى في الصلح، ويعمل في ذلك ما هو الواجب، ومما نعرفكم به أنه في هذه الأشهر السالفة أخذ عمر بطره أفرد (كذا) من سكان أريوله شبطيا
12
في المدور، وأخذ بطرف الغبطة اثنا عشر شخصا من أهل المرية، فنريد منكم أيها السلطان أن يعز عليكم هذا الحال، وتعملوا فيه ما يعمله سلطان مثلكم، وتوجهوا إلينا هؤلاء المسلمين، وتأمروا رجالكم بكف الضرر عن أرضنا، على المعلوم من وفائكم، وحفظكم للعهد، والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، وييسركم لما يرضاه. والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا. وكتب في الحادي عشر لجمادى الآخرة عام ستة وعشرين وسبعمائة (صح هذا).
وكتب هنا ما يأتي:
جواب السلطان - ثم كتب في الورقة نفسها ما يأتي:
السلطان الأجل، المرفع المكرم، المبرور المشكور، الأوفى الأخلص، ذون جقمى سلطان بلنسية، وقمط برجلونة، وصاحب قرسغة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه. (رقم هذا الكتاب في المجموعة 26)
كتاب آخر رقمه في المجموعة 27:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى الكريم وعلى آله وسلم تسليما.
ليعلم من يقف على هذا الكتاب ويسمعه أننا الأمير عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية، ورندة، والجزيرة الخضراء ووادي آش، وأمير المسلمين، لما وصلنا من قبلكم أيها السلطان المعظم ، الملك المبرور، الوفي المشكور، المرفع الأخلص، دون جقمى، ملك أراغون وبلنسية، وسردانية، وقرسغة، وقمط برجلونة، رسولكم المكرم جوان انريق، الذي وجهتموه إلينا بكتابكم، وبالعقد الذي عقدتموه على نفسكم، وجعلتم عليه طابعكم المعهود عنكم بأنكم قد جددتم معنا الصحبة التي كانت بين والدنا رحمه الله وبينكم، وعقدتم معنا صلحا مبنيا على الصفاء والوفاء لخمسة أعوام أولها نصف شهر مايه. الموافق للتاريخ أدناه. أن جددنا معكم الصلح والصحبة، على الفصول التي انعقدت بين والدنا وبينكم، وأمضينا حكمه على نفسنا، وجميع أهل بلادنا، إمضاء صحيحا لا ينقض له حكم، ولا يغير له رسم، إلى انقضاء أمده المحدود، يشمل حكمه البر والبحر على شروط تتفسر: فمنها أن تتردد أجفاننا إلى سواحكم وأجفانكم إلى سواحلنا، وناسنا إلى أرضكم، وناسكم إلى أرضنا، آمنين برا وبحرا، في نفوسهم وأموالهم، وجميع أحوالهم، محفوظين محروسين حيثما حلوا، وأينما ساروا، لا يلحقهم ضرر بوجه من الوجوه، في بر ولا بحر، في سر ولا جهر، ويباح لهم البيع والشراء، في جميع الأشياء، بسوقها المعتاد هنالك، وإخراج ما يشترونه من إحدى الجهتين إلى أخرى، من غير شيء يلزمهم في ذلك، إلا ما جرت به العادة، في الحقوق المخزنية، على العادة في الصلح المتقدم، من غير زيادة. ما عدا الأمور التي جرت العادة أن يمنع خروجها من إحدى الجهتين إلى أخرى. ومنها لا تتطرق أجفاننا لأجفانكم، ولا أجفانكم لأجفاننا، في بحر ولا مرسى، كان فيها من كان من عدو أو صديق، وإن استوليتم على جفن من أجفان
13
المسلمين أو النصارى من غير أجفاننا، وكان في ذلك الجفن أحد من أهل أرضنا، أو استوليتم على طائفة المسلمين، وكان فيهم أحد من أهل أرضنا، فتسرحون (كذا) من أخذتم من أهل أرضنا بأموالهم في الحين، ومثل ذلك يكون العمل معكم من جهتنا، ومنها أن تتعرضوا لمرسى من مراسينا كان فيها من كان من عدو أو صديق، ولا تتطرقوا بضرر لما في مراسينا، وسواحل بلادنا، وبحارها من الأجفان، كانت لمن كانت من المسلمين أو النصارى، ومن أي جهة كانت لا سبيل لأجفانكم عليها بوجه، ولا على حال، مدة هذا الصلح إلى انقضائها، وأن لا تعينوا علينا عدوا من المسلمين ولا النصارى في بر ولا بحر، بوجه من وجوه الإعانة، ومثل ذلك يكون العمل معكم من جهتنا، ومنها أنه إن هرب من أرضنا أحد خرج عن طاعتنا فلا تضموه ولا تسرحوا له قوتا ولا شيئا من الأشياء ولا تعينوا علينا أحدا على خالص الأحوال، ومثل ذلك يكون العمل معكم من جهتنا، ومنها أن لا تمنعوا المسلمين المدجنين الساكنين بأرضكم من الخروج بأموالهم وعيالهم وأولادهم، من غير أن يتعسف عليهم في شيء ولا أن يطلب منهم مغرم إلا ما جرت به العوائد في مثله، من غير زيادة. وعلى هذه الشروط أعطيناكم عهدنا ثابتا صحيحا، والتزمنا الوفاء به إلى أقصى أمده، ما وفيتم لنا بما اقتضاه هذا المكتوب من الفصول وجعلنا الله شاهدا بيننا وبينكم، والله خير الشاهدين، ولأن تكونوا منه على صحة ويقين أمرنا بكتب هذا الكتاب، وجعلنا عليه خط يدنا وطابعنا، شاهدا علينا، في أواسط شهر جمادى الآخرة عام ستة وعشرين وسبعمائة (جملة لم تمكن قراءتها) إلى انقضائها صح في تاريخه المؤرخ به. (صح هذا). •••
ثم علق على هذا الكتاب الأخ بنونة بما يلي:
إن فصول المعاهدة متبادلة بين الملكين إلا الفصل الأخير فإنه لا مقابل له، فهل مملكة الأمير محمد بن الأحمر هذا لم يكن بها أناس من النصارى؟ أو هل كانوا بها ولكنهم كانوا راضين عن حكم المسلمين لا يطلبون السكنى بأرض ملوك ملتهم؟ وهل وقع هذا النقص في المعاهدة عن سهو من الكاتب، أو عن عمد من الملك؟ هذه أسئلة ترد ولكني لم أستطع الجواب عنها فأريد رأيكم، والله يطيل عمركم. ثم لا يعزب عنكم أن هذه المعاهدة على ما يظهر من صدرها، ومن الكتاب المرفق بها، هي ترجمة للعقد الذي أتى به جوان انريق، فهل جقمى نفسه يتبرع بتسريح المسلمين المدجنين من غير أن يحتفظ للنصارى المدجنين بمثل هذا التصريح من قبل محمد بن إسماعيل؟ لعل في الأمر سرا لم أفهمه. ا.ه.
ونحن نجيب على هذا السؤال جوابا بغاية البساطة وهو:
إن المسلمين المدجنين في ممالك النصارى لم يكونوا خرجوا من بلادهم بعد استيلاء النصارى عليها كما خرج إخوانهم إلا بسبب العجز عن السفر، ولم يلبثوا في تلك الأرض إلا انتظارا لأول فرصة يتمكنون فيها من الخروج منها، إلا أن النصارى كانوا يمنعونهم من الخروج استغلالا لهم، واستفادة من عملهم ونشاطهم، فكانوا معهم في حكم الأرقاء، فلم يكن من مصلحة النصارى أن يخلوا منهم الديار والأراضي. وكان يوجد في أسبانية مثل سائر: حيث لا يوجد مدجنون لا يوجد غلة. فلا عجب بعد ذلك من أن نرى النصارى مانعين للمسلمين الباقين بين أظهرهم من أن يتركوا مزارعهم، ويخرجوا إلى بلاد الإسلام، فكان المسلمون المدجنون يئنون من هذا الضغط الواقع عليهم، ومن حالة الرق التي كانوا فيها، وكانوا يشتكون من وقت إلى آخر إلى ملوك الإسلام، طالبين إليهم أن يتوسطوا لدى ملوك النصارى في تركهم يخرجون إلى بلاد الإسلام، وما سمح فيليب الثاني ملك أسبانية، ولا هنري الرابع ملك فرنسا، بخروج المدجنين من بلدانهم إلا بعد إنذار السلطان أحمد العثماني، فلا عجب إذن في توسط سلطان غرناطة لدى سلطان أراغون في قضية الإذن للمدجنين بالخروج إلى بلاد الإسلام بأموالهم متى أرادوا.
فتقولون لماذا لم يطلب سلطان أراغون إلى سلطان غرناطة الإذن للنصارى بالخروج من بلاده؟ فالجواب على ذلك أن النصارى الذين كانوا في غرناطة وملحقاتها لم يكونوا تحت الضغط، ولا كانوا متعبدين، حتى يطلبوا الخروج منها، بل كانوا يؤثرون بلاد الإسلام على بلاد النصارى، وبالإجمال إذا استقرأ الإنسان التاريخ يجد النصارى مؤثرين العيش في بلاد المسلمين، ولا يحبون تركها، إلا فيما ندر لأسباب خاصة، وإن المسلمين الذين استولى النصارى على بلادهم كانوا يخرجون منها بأجمعهم ولم يكن يبقى فيها إلا من لا يستطيع إلى الخروج سبيلا. نعم في هذين القرنين الأخيرين عندما استولت أوروبا على كثير من ممالك الإسلام التي أهلوها يحصون بعشرات الملايين، لم يكن لهم سبيل إلى الخروج منها، لأنه لا يوجد بلدان تسعهم فيرحلون إليها. ولأنهم لم يقطعوا الأمل من أن يرحل الأجنبي عنها. •••
كتاب آخر
من سلطان غرناطة إلى سلطان أراغون
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسول الله المصطفى الكريم وعلى (بياض المحو)
ليعلم من يقف على هذا الكتاب ويسمعه أننا الأمير عبد الله يوسف بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية، ووادي آش، وما إليها، وأمير المسلمين، لما وقفنا على عقد الصلح الذي أمضاه علينا محل والدنا السلطان الأوحد المعظم، أبو الحسن أمير المسلمين
14
ملك الغرب، أيده الله، مع السلطان المرفع، ملك قشتالة، ذون الهنشه ومن مضمنه أنكم أيها السلطان المعظم، المرفع المبرور المشكور، الأوفى الأخلص، ذون الهنشه،
15
ملك أراغون، وسلطان بلنسية، وسردانية، وقمط برجلونة، إن أردتم إمضاء ... والدخول فيه، فإنه يمضي حكمه معكم، كما أمضى مع ملك قشتالة، وأردنا نحن أن نثبت هذا الصلح معكم، خصوصا بما عندنا من الاعتقاد في وفائكم، والقصد الجميل في تجديد الصحبة التي كانت بين أسلافنا وأسلافكم، ودار بيننا وبينكم المكاتبة في ذلك، اقتضى نظرنا أن وجهنا رسولنا الحظي لدينا. القائد الأجل الأعز، الأرفع الأمجد، أبا الحسن بن كماشة. أعزه الله، نائبا عنا في تثبيت ذلك الصلح معكم. وتوكيد حكمه. على حسب شروطه وربوطه المذكورة. التي انعقد عليها الصلح بحضرة فاس، حرسها الله، في عقده المؤرخ في شهر جمادى الآخرة من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة. المتضمن إمضاء ... لأربعة أعوام، أولها شهر مارس القريب لتاريخه، فوصلنا رسولنا منكم بمكتوب عنكم، عليه طابعكم المعهود منكم، مضمنه أنكم قد رضيتم بالدخول في الصلح المذكور معنا على شروطه المذكورة في عقده، لانقضاء أمده وارتبطتم إليه، والتزمتم حكمه عنكم وعن أولادكم وإخوتكم ورغمائكم، وفرسانكم ورعيتكم، في البر والبحر، بالوفاء الخالص في السر والجهر، وأنكم قد جددتم مع رسولينا (كذا) المذكور ... وبما أعطيناهما (كذا) من المقر أمرنا نحن بكتب هذا المكتوب بأننا قد التزمنا لكم الوفاء بذلك الصلح ، على حسب فصوله، وإلى آخر أمده، بنية صادقة، وصفاء طوية في السر والجهر، وأعطيناكم عهد الله وميثاقه، على الوفاء به. إلى أقصى أمده برا وبحرا عن نفسنا وعن قوادنا وخدامنا، وجميع أهل مملكتنا، لا تنقض له حكما، ولا نغير له رسما، ولأن يكون هذا ثابتا، وتكونوا منه على صحة ويقين، جعلنا عليه خط يدنا وعلقنا عليه طابعنا، شاهدا علينا. والله خير الشاهدين، وكتب في أواخر شهر ذي القعدة من عام خمسة وثلاثين وسبعمائة عرف الله تعالى خيره وبركته، بمنه وجوده، وطوله فيه (على بشر
16
التي انعقد عليها الصلح بحضرة فاس حرسها الله صحيح منه وفي تاريخه). (صح هذا). •••
وقد كتب تحت هذا المكتوب الحاج محمد العربي بنونه ما يلي:
الذي وضعناه بين هلالين لم نفهم معناه تماما، وهو بالأصل ظاهر مشكول تام الحروف. ثم يقول لنا: هذه الرسالة من روائع ما كتبته يد خطاط. قد بلغت الغاية في حسن الخط، ونوع خطها هو المسمى عندنا بالمغرب المبسوط، وهو يشبه النسخي عندكم بالمشرق. ثم يقول لنا: الهنشه هذا هو الفونس الحادي عشر
Alfonso Xl
ملك قشتالة وليون، تولى من سنة 1312، وقتل بجبل طارق سنة 1350، وهو الذي تعاهد مع ملك البرتغال، وحارب معه جيوش الأندلس والمغرب، وهزمهم قرب مدينة طريف، وقد شرحتم ذلك في كتابكم خلاصة تاريخ الأندلس صفحة 142. وشرحه أيضا الناصري في كتاب الاستقصاء صفحة 66 من الجزء الثاني. ا.ه.
قلت: أما الذي كتبته في خلاصة تاريخ الأندلس حسبما قال الفاضل الحاج محمد العربي بنونة فهو هذا: وفي سنة 731 توفي أبو سعيد المريني، وقام بالأمر بعده ولي عهده الأمير أبو الحسن، وكان من أجل سلاطين الإسلام، فاشتغل مدة بإطفاء فتن مملكته، ولما خلص له المغرب وجه عنايته إلى الجهاد، وسمت نفسه إلى حال جده أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، وكان الإسبانيول، بما طرأ على المغرب من الفرقة والاختلال وشجر بين المسلمين، دون التواني لنصرة بعضهم بعضا، قد تغلبوا على كثير من حصونهم. ونازلوهم في عقر دارهم غرناطة، وضربوا الجزية على أبي الوليد ، فأداها عن يد الذل، فاعتزم أبو الحسن الجهاد، وجهز الأساطيل، وسرح بالجيش ابنه الأمير أبا مالك، فغزا أرض العدو، وأثخن وغنم، وجمع له العدو فأشير عليه بالخروج من دار الحرب اعتصاما، فأبى إباؤه، وأقام بأرضه، فأدركوا عسكره وهم في مضاجعهم، وقتل أبو مالك قبل أن يستوي على جواده، وتسلم الإسبانيول أكثر قومه، وغنموا ما معهم. ووصل النعي أبا الحسن والده، ففت في عضده، وتفجع، وأعمل في النفير للجهاد، والأخذ بالثأر، واستدعى الأساطيل من مراسي العدوة، وأنجده الموحدون من تونس بأسطول بجاية، عليه زيد بن فرحون. قائد البحر. ووافاه أسطول طرابلس وقابس وجربة. واجتمعت كلها بسبتة. معقودا عليها لمحمد ابن العزفي. وزحفت إلى أساطيل الإفرنج. فتحاجزت وتناجزت. وأهب الله ريح النصر من جهة بني مرين، فخالطوا سفن الإفرنج. واستلحموا مقاتلتها وقتلوا قائدهم الملند، وعادوا بالسفن مجنوبة إلى مرفأ سبتة. وطيف بالرءوس، وجلس السلطان للتهنئة. وكان يوما مشهودا.
ثم أخذ يجيز العساكر إلى الأندلس، وأجاز على أثرها ختام سنة 740، وخيم بساحة طريف، ووافاه سلطان غرناطة بغزاة زناتة، وجنود الأندلس وشددوا الحصار على طريف، وجاء الإسبانيول بأسطول عظيم، حالوا به بين العدوتين، وامتنع البلد ففنيت الأقوات، واختلت أحوال المعسكر، وتكاثرت جموع الإسبانيول، وأصرخهم صاحب لشبونة البرتغال، فجاء بقومه ودخلوا البلد ليلا على حين غفلة، وكمنوا في مكان. وفي الغد تزاحف الجمعان فبرز الجيش الكمين من البلد، وخالفوا إلى معسكر السلطان وعمدوا إلى فسطاطه، فدافعهم الحراس، فقتلوهم، وفتكوا بحظايا السلطان، عائشة بنت عمه، وفاطمة بنت السلطان أبي يحيى صاحب إفريقية، وغيرهما وسلبوا الفسطاط وأحرقوا المعسكر، فلما رأى المسلمون ما حل وراءهم بالمعسكر اختل مصافهم، وأخذ ابن السلطان أسيرا لمخالطته العدو في تقدمه، وانحاز أبو الحسن مع فئة من أبطاله فدافع ونجا ووصل الطاغية إلى محلة السلطان، فأنكر على قومه قتل النساء والأولاد. وانهزم ابن الأحمر إلى حمرائه، وخلص أبو الحسن إلى الجزيرة، فجبل طارق، ومنها إلى سبتة، وكانت وقعة مشئومة على المسلمين، عظم فيها البلاء، وفدحت الرزيئة، وجل الخطب.
وقد بالغ بعض مؤرخي الإفرنج في تقدير خسائر المسلمين، فزعم بعضهم أنه قتل منهم مائتا ألف. وأن خسائر الإسبانيول كانت نحوا من عشرين قتيلا فقط، وهذا أشبه بقول بعض مؤرخي الإسلام إن خسائر الإفرنج في وقعة الدون بتره بلغت خمسين ألفا، ولم يستشهد من المسلمين إلا ثلاثة عشر فارسا، وقيل عشرة فقط مما يدل على تأخر فن النقد في تلك الأعصار، وقبول الأخبار على علاتها بدون عرضها على العقل، ولا سبرها بمعيار الحكمة والنظر، على أن هاتين الوقعتين تتشابهان في قضية أسر نساء الملوك، ففي الأولى أسرت امرأة الطاغية حسب قول العرب، وفي الثانية أسرت بعض نساء السلطان أبي الحسن، عدا من قتل منهن.
وبعد هذه الوقعة اشتدت وطأة الإسبانيول على المسلمين وطمعوا في التهام بقية الأندلس، ونازلوا قلعة بني سعيد، وأخذوها بعد حصار شديد، فأعاد أبو الحسن بن مرين الكرة، وجهز الأساطيل، وسرب البعوث إلى الجزيرة الخضراء، وتلاقت الأساطيل الإسلامية بالأساطيل النصرانية، فقضي بهزيمة المسلمين، وملك أسطول الطاغية بحر الزقاق، وسمالة شوق إلى استخلاص الأندلس، فبعث النفير، ووافته النجدات وحضرت الأوامر من البابا بوجوب القيام يدا واحدة لطرد مسلمي الأندلس وانضم إلى الفونس ملك قشتالة كثير من الملوك، ووافاه من أنسباء ملك إنكلترة، الكونت دربي، والكونت سالسبري، وغاسطون، وكونت دفوا، وكونت دو بيارن، وغيرهم، وزحف الجميع، ونازلوا الجزيرة الخضراء. ليلحقوها بطريف، ويستولوا على فرضة مجاز المسلمين، وحشروا إليها الفعلة والصناع، للنقب والحفر، وأطالوا حصارها، واتخذوا المعسكر بيوتا من الخشب، بقصد المطاولة، كما اتخذوا لمعسكرهم في القرن التالي بيوتا من الحجر، وهم على غرناطة. وجاء سلطان غرناطة لمدد الجزيرة، فنزل بظاهر جبل طارق. وطال الحصر، وأصاب أهل الجزيرة الجهد، فسألوا الأمان. فبذلوه لهم. وخرجوا إلى المغرب. وذلك سنة 743 فأنزلهم أبو الحسن المريني خير نزل. ا.ه.
استوفينا ذكر هذه الواقعة لأنها كانت من مقدمات سقوط الإسلام في الأندلس فإن الإسبانيول من بعدها أحاطوا بالجزيرة الأندلسية من جهة المغرب. وصارت مملكة غرناطة في حكم المحصور. وآل أمرها إلى التلاشي، بحيث لم تمض مائة وخمسون سنة بعد ذلك، حتى صارت أثرا بعد عين.
ولننظر ما قاله في شأن هذه الوقائع صاحب كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، العلامة الشيخ أحمد بن خالد الناصري السلاوي رحمة الله، قال:
لما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن عدوه، وعلت على الأيدي يده، وانفسح نطاق ملكه، دعته إلى الجهاد، وكان كلفا به، فأوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك أمير الثغور الأندلسية، سنة 740، بالدخول إلى دار الحرب، وجهز إليه العساكر من حضرته، وأنفذ إليه الوزراء، فشخص أبو مالك غازيا وتوغل في بلاد النصرانية واكتسحها، وخرج بالسبي والغنائم، فاتصل به الخبر أن النصارى قد جمعوا له، وأنهم أغذوا السير في اتباعه، فأشار عليه الملأ بالخروج من أرضهم، وعبور الوادي الذي كان تخما بين أرض المسلمين ودار الحرب، وأن يتحيز إلى مدن المسلمين فيمتنع بها، فلج في إبايته، وصمم على التعريس، وكان قرما ثبتا، إلا أنه غير بصير بالحرب لصغر سنه، فصبحتهم عساكر النصرانية في مضاجعهم، قبل أن يركبوا، وخالطوهم في بياتهم، وأدركوا الأمير أبا مالك بالأرض قبل أن يستوي على فرسه، فجدلوه، واستلحموا الكثير من قومه، وأحنوا على المعسكر بما فيه من أموال المسلمين وأموالهم ورجعوا على أعقابهم، واتصل الخبر بالسلطان أبي الحسن، فتفجع لهلاك ابنه، واسترحم له، واحتسب عند الله أجره، ثم أنفذ وزراءه إلى سواحل المغرب، لتجهيز الأساطيل، وفتح ديوان العطاء، وعرض الجنود، وأزاح عللهم، واستنفر أهل المغرب كافة، ثم ارتحل إلى سبتة، ليباشر أحوال الجهاد، وتسامعت به أمم النصرانية، فاستعدوا للدفاع، وأخرج الطاغية أسطول إلى الزقاق، ليمنع السلطان من الإجازة، واستحث السلطان أساطيل المسلمين من مراسي المغرب، وبعث إلى أصهاره الحفصيين بتجهيز أسطولهم إليه، فعقدوا عليه لزيد بن فرحون، قائد أسطول بجاية، ووافى سبتة في ستة عشر أسطولا إفريقية، كان فيها من طرابلس وقابس وجربة وتونس وبونة وبجاية، وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة، تناهز المائة، وعقد السلطان عليها لمحمد بن علي العزفي، الذي كان صاحب سبتة، يوم فتحها أيام السلطان أبي سعيد، وأمره بمناجزة أسطول النصارى بالزقاق، وقد تكامل عديدهم وعدتهم فاستلأموا وتظاهر في السلاح، وزحفوا إلى أسطول النصارى، وتواقفوا مليا، ثم قربوا الأساطيل بعضها من بعض، وقرنوها للمصاف، فلم يمض إلا كلا ولا ، حتى هبت ريح النصر، وأظفر الله المسلمين بعدوهم، وخالطوهم في أساطيلهم واستلحموهم هبرا بالسيوف، وطعنا بالرماح، وقتلوا قائدهم الملند، واستاقوا أساطيلهم مجنوبة إلى مرسى سبتة، فبرز الناس لمشاهدتها، وطيف بكثير من رءوسهم في جوانب البلد، ونظمت أصفاد الأسرى بدار الإنشاء، وعظم الفتح، وجلس السلطان للتهنئة، وأنشد الشعراء بين يديه، وكان ذلك يوم السبت سادس شوال سنة 740، فكان من أعز أيام الإسلام.
ثم شرع السلطان أبو الحسن في إجازة العساكر من المتطوعة والمرتزقة، وانتظمت الأساطيل سلسلة واحدة، من العدوة إلى العدوة، ولما تكاملت العساكر بالعبور، وكانت نحو ستين ألفا، أجاز هو أسطوله مع خاصته وحشمه، آخر سنة 740، ونزل بساحة طريف، وأناخ عليها ثالث محرم من السنة بعدها وشرع في منازلتها، ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن الأحمر، في عسكر الأندلس من غزاة بني مرين، وحامية الثغور، ورجالة البدو، فعسكروا حذاء معسكره، وأحاطوا بطريف نطاقا واحدا، وأنزلوا بها أنواع القتال، ونصبوا عليها الآلات، وجهز الطاغية أسطولا آخر، اعترض به الزقاق، لقطع المرافق عن المعسكر، وطال مقام المسملين بمكانهم حول طريف ففنيت أزوادهم، وقلت العلوفات، فوهن الظهر، واختلت أحوالهم، ثم احتشد الطاغية أمم النصرانية، وظاهره البرتقال، صاحب اشبونة، وغرب الأندلس، وزحفوا إلى المسلمين، لستة أشهر من نزولهم على طريف ولما قرب الطاغية من معسكر المسلمين، سرب إلى طريف جيشا من النصارى، أكمنة بها إلى وقت الحاجة، فدخلوها ليلا، على حين غفلة من العسس، الذين أرصدوا لهم، وأحسوا بهم آخر الليل، فثاروا بهم من مراصدهم، وأدركوا أعقابهم قبل دخول البلد، فقتلوا منهم عددا، وقد نجا أكثرهم، فلبسوا على السلطان بأنه لم يدخل البلد سواهم، حذرا من سطوته، ثم زحف الطاغية من الغد في جموعه إلى المسلمين، وعبأ السلطان مواكبه صفوفا، وتزاحفوا، ولما نشبت الحرب برز الجيش الكمين من البلد، وهو الذي دخل ليلا، وخالفوا المسلمين إلى معسكرهم ، وعمدوا إلى فسطاط السلطان، فدافعهم عنه الناشبة الذين كانوا على حراسته، فاستلحموهم لقتلهم، ثم دافعهم النساء عن أنفسهن، فقتلوهن كذلك، وخلصوا إلى حظايا السلطان منهن عائشة بنت عمه أبي بكر بن يعقوب بن عبد الحق، وفاطمة بنت السلطان أبي بكر أبي زكريا الحفصي، وغيرهما من حظاياه، فقتلوهن، واستلبوهن، ومثلوا بهن، وانتهبوا سائر الفسطاط، وأضرموا المعسكر نارا، ثم أحس المسلمون بما وراءهم في معسكرهم، فاختل مصافهم، وارتدوا على أعقابهم، بعد أن كان ناشنين ابن السلطان أبي الحسن صمم في طائفة من قومه وحاشيته، حتى خالطهم في صفوفهم، فأحاطوا به وتقبضوا عليه، وعظم المصاب بأسره، وكان الخطب على الإسلام قلما فجع بمثله، وذلك ضحوة يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وولى السلطان أبو الحسن متحيزا إلى فئة المسلمين، واستشهد كثير من الغزاة، وتقدم الطاغية حتى انتهى إلى فسطاط السلطان من المحلة، فأنكر قتل النساء والولدان، وكان ذلك منتهى أثره، ثم انكفأ راجعا إلى بلاده، ولحق ابن الأحمر بغرناطة وخلص السلطان أبو الحسن إلى الجزيرة الخضراء، ثم منها إلى جبل الفتح، ثم ركب الأسطول إلى سبتة ليلة غده ومحص الله المسلمين وأجزل ثوابهم.
ولما رجع الطاغية من طريف استأسد على المسلمين بالأندلس، وطمع في التهامهم وجمع عساكر النصرانية، ونازل أولا قلعة بني سعيد ثغر غرناطة وعلى مرحلة منها، وجمع الآلات والأيدي على حصارها، وأخذ بمخنقها، فأصابهم الجهد من العطش، فنزلوا على حكمه سنة 742، وأدال الله الطيب منها بالخبيث، وانصرف الطاغية إلى بلاده، وكان السلطان أبو الحسن لما أجاز إلى سبتة أخذ نفسه بالعود إلى الجهاد، لرجع الكرة، فأرسل حاشرين، وأرسل قواده إلى سواحل المغرب، لتجهيز الأساطيل، فتكامل له منها عدد معتبر، ثم ارتحل إلى سبتة لمشارفة ثغور الأندلس، وقدم عساكره إليها مع وزيره عسكر بن تاحضريت، وعقد على الجزيرة الخضراء لمحمد بن العباس بن تاخضريت، من قرابة الوزير، وبعث إليها مددا من العسكر مع موسى بن إبراهيم اليربناني من المرشحين للوزارة نيابة، وبلغ الطاغية خبره، فجهز أسطوله، وأجراه إلى بحر الزقاق لمدافعته، وتلاقت الأساطيل، ومحص الله المسلمين، واستشهد منهم أعداد وتغلب أسطول الطاغية على بحر الزقاق فملكه دون المسلمين، وأقبل الطاغية من أشبيلية في عساكر النصرانية، حتى أناخ بها على الجزيرة الخضراء، مرفأ أساطيل المسلمين، وفرضة المجاز، ورجا أن ينظمها في مملكته مع جارتها طريف، وحشر الفعلة والصناع للآلات، وجمع الأيدي عليها وطاولها الحصار، واتخذ أهل المعسكر بيوتا من الخشب للمطاولة، وجاء السلطان أبو الحجاج ابن الاحمر بعساكر الأندلس، فنزل قبالة الطاغية، بظاهر جبل الفتح، في سبيل الممانعة وأقام السلطان أبو الحسن بمكانه من سبتة يسرب إلى أهل الجزيرة المدد من الفرسان والمال والقوت، في أوقات النفلة من أساطيل العدو، وتحت جناح الليل وأصيب كثير من المسلمين في ذلك، ولم يغن عن أهل الجزيرة ذلك المدد شيئا، واشتد عليهم الحصار، وأصابهم الجهد، وأجاز السلطان أبو الحجاج إلى السلطان أبي الحسن يفاوضه في شأن السلم مع الطاغية بعد أن أذن الطاغية له في الإجازة مكرا به، وأرصد له بعض الأساطيل في طريقه فصدقهم المسلمون القتال، وخلصوا إلى الساحل بعد غص الريق، وضاقت أحوال أهل الجزيرة ومن كان بها من عسكر السلطان، فسألوا الطاغية الأمان، على أن ينزلوا له عن البلد، فبذله لهم، وخرجوا فوفى لهم وأجازوا إلى المغرب سنة 743، فأنزلهم السلطان ببلاده على خير نزل، ولقاهم من المبرة والكرامة ما عوضهم بما فاتهم، وخلع عليهم، وحملهم، ووصلهم بما تحدث الناس به، وتقبض على وزيره عسكر بن تاحضريت، عقوبة له على تقصيره في المدافعة، مع تمكنه منها، وانكفأ السلطان أبو الحسن راجعا إلى حضرته موقنا بظهور أمر الله، وإنجاز وعده، والله متمم نوره ولو كره الكافرون. ا.ه. •••
وهذا كتاب آخر وجد تحت رقم 28 من المجموعة البرشلونية:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما.
السلطان الأجل المرفع، المكرم المبرور، الأوفى المشكور، الأخلص دون الفنشه، سلطان أراغون وبلنسية وقرسغة وقمط برجلونة وصاحب سردانية، وصل الله كرامته بتقواه، وأسعده بطاعته ورضاه، حافظ عهده، وشاكر مذهبه في المصادقة وقصده، مكرم مملكته، وشاكر قصده، في خلوص مودته، الحافظ لعهده وصحبته الأمير عبد الله محمد ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، أيده الله ونصره، أما بعد، فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، عن الخير الأكمل واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا، وجانبكم مبرور، وقصدكم في الصحبة مشكور، ومحلكم في سلاطين النصرانية معروف مشهور، وإلى هذا فإنه توجه في هذه الأيام خمسة أشخاص من التجار من أهل بلادنا ثقة بعهدكم، وركونا إلى صحبتنا معكم، فتعرفنا أن النائب عنكم في قربليان ثقفهم، وثقف أموالهم، فخاطبناكم في شأنهم، وقصدنا منكم تسريحهم وتسريح أموالهم، وأن تنفذوا أمركم بذلك لمن ينوب عنكم تحفظوا بذلك عهدنا، وتقضوا لنا في ذلك ... نشكركم عليها وهذا قصدنا منكم فعسى أن تعملوا فيه ما هو المعلوم منكم، والمضمون عنكم، والله يصل كرامتكم بتقواه ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، كتب في الموفى ثلاثين لجمادى الأولى من عام ثمانية وعشرين وسبعمائة. (صح هذا).
هذا الملك المكتوب إليه هنا هو الفونس الرابع الأراغوني، تولى أراغون وملحقاتها بعد جقمى الثاني من سنة 1327 إلى سنة 1336.
وتحت رقم 32 من هذه المجموعة كتاب من أبي النعيم رضوان وزير ابن الأحمر إلى هذا الملك نفسه وهو ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
مولاي السلطان الأجل الأكرم، الأوفى المعظم، المشكور الأخلص، ذون الفنشة، ملك أراغون، وبلنسية، وسردانية، وقرسغة، وقمط برجلونه. وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، خديمه موفي واجب البر بجانبه، ومكمل الثناء على مقاصده في الوفاء ومذاهبه، رضوان بن عبد الله، وزير السلطان، ملك غرناطة ومالقة، والمرية، ووادي آش، وما إلى ذلك. كتبه إليكم من باب مولاه، أيده الله ونصره، بحمراء غرناطة حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه، ثم بنعمة مولاي أبقى الله إحسانه، إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا، وعن العلم بمحلكم في السلاطين الأوفياء، والشكر لما لكم في الوفاء من المقاصد والأنحاء، وإلى هذا فموجبه إليكم، هو أن الزعيم المكرم، جقمى شارقة، قريبكم، اجتمع في محلة جبل الفتح ببعض ناس هذه الدار النصرية، وعرفهم بما عندكم من القصد الجميل في الصلح معها، وأنه لو خاطبكم مولاي في ذلك لعلمتم فيه ما يعود بتجديد الصحبة والمدة، وتوكيد العهد، وقد كتب إليكم في ذلك مولاي الكتاب الذي يصلكم، ووجهه مع خديمه التاجر المكرم بشقلين سريجة، وهو يصلكم بكتابه، وإن كان لكم غرض في هذه الحال فعرفوني، وأعمل فيها ما يكون فيه الخير للفريقين إن شاء الله، والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، وكتب في اليوم الثامن عشر لشهر المحرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة. ا.ه.
وهذا كتاب آخر تحت رقم 33 من المجموعة البرشلونية من الوزير أبي النعيم رضوان نفسه إلى الملك الفونس نفسه:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
مولاي السلطان الأجل، المعظم المرفع الموقر، المبرور المشكور الشهير الأوفى، ذون الهنشة، ملك أراغون، وبلنسية وسردانية، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، معظم سلطانه، وموقر مكانه، وزير السلطان أيده الله ونصره، رضوان بن عبد الله، كتبه إليكم من باب مولاه بحمراء غرناطة، حرسها الله، ولا زائد بفضل الله، ثم ببركة أيام مولانا أدام الله إحسانه، إلا الخير الأكمل واليسر الأشمل، والحمد لله، وعن التعظيم لسلطانكم، والتوقير لمملكتكم ومكانتكم، وإلى هذا فقد وصلني كتابكم المعظم صحبة رسول مولانا أيده الله إليكم القائد الأجل، أبي الحسن بن كماشة، أعزه الله تقررون معتقدكم الجميل، وقد شكرت ذلك أبلغ الشكر، وعرفت ما عندكم من القبول والعناية والكرامة، وقابلت ذلك بما يجب من الثناء عليكم، واعلموا أنني لا أزال أؤكد العهد بين مولاي وبينكم وأثبت الود وأعمل في ذلك ما أوفى به حق خدمته وكرامتكم حسب الواجب علي، وقد ألقى إلي القائد أبو الحسن أعزه الله في ذلك ما وافق مقتضى كتابكم ووصل صحبته رسولكم الحظي لديكم، المكرم المبرور المشكور رمون بيل، وحضر بين يدي مولاي، أيده الله، وأوصل هديتكم إلى مولاي، ووقف عليها واستحسنها، ووقعت عنده أحسن موقع، وشكر قصدكم في ذلك ، وكذلك وصل ما تفضلتم إلى معظم مجدكم، فقابلت سلطانكم بالشكر الجزيل، والثناء الجميل، وسرني عنايتكم، وحسن اعتقادكم وما معظمكم إلا على ما يرضيكم، من الاعتقاد فيكم، فكونوا من ذلك على يقين، وقد ألقيت في ذلك إلى رسولكم المذكور، ما يلقيه إليكم في هذا المعنى، والله تعالى يصل عزتكم بتقواه، ويسعد سلطانكم بطاعته، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، كتب في السابع والعشرين لذي قعدة من عام خمسة وثلاثين وسبعمائة عرفنا الله بركته اختتامه بمنه وكرمه.ا.ه.
وتحت رقم المجموعة 34 الكتاب الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله.
مولاي الأفنت الكبير، الأعز المرفع، المبرور المشكور، ذن بذره، أدام الله لنا أيامكم، ووصل هدايتكم وإكرامكم، يسلم عليكم مقبل يديكم وخديكم، علي بن كماشة، من باب مولانا، أيده الله ونصره، وليس بفضل الله سبحانه، ثم ببركة أيام مولانا، أدامها الله، إلا الخير واليسر، والحمد لله كثيرا. والذي وجب به تعريفكم إنه وصل خديمكم رمون بويل، وقضى رسالته كما يجب، وعمل أعمال الفرنسان الجياد، وأدخلني في محبتكم وخدمتكم، وأنا يا مولاي عملت في خدمتكم ما يعرفكم به خديمكم رمون بويل وتكلم أيضا رمون بويل مع مولانا، نصره الله، وفي حق إن تلك الدار، وهذه الدار واحدة، فترى يصلكم كتاب مولانا السلطان، وهو كتاب محبة وصحبة، وترى يصلكم يا مولاي قوس إفرنجي، وكذلك يا مولاي نقبل بيد مولاي الأفنت أخيكم، ذن جيميه، وكذلك يصل له قوس إفرنجي، وذلك يا مولاي في حقكم. ومعاد السلام عليكم ورحمة الله وهدايته، وكتب بتاريخ الخامس عشر لشهر ذي حجة من عام خمسة وثلاثين وسبعمائة. ا.ه. •••
وأردف ذلك الحاج محمد بنونة بقوله: ابن كماشة
17
هذا أظن أني رأيت الكلام عليه في أحد كتب ابن الخطيب، إما في اللمحة البدرية، وإما في الإحاطة. اما بذره (أو بتره كما ترى اسمه مكتوبا في رسائل أخرى ستصلكم بعده) فهو الذي توج ملكا على أراغون باسم بتره الرابع من سنة 1336 إلى سنة 1387. •••
كتاب آخر من سلطان غرناطة إلى ملك أراغون تحت رقم 33 في المجموعة:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
السلطان الأجل الأكرم، الأوفى المعظم، المبرور المشكور، الأخلص دون الفنشه، ملك أراغون وبلنسية وسردانية وقرسغة، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، شاكر البر بجانبه، المثني على مقاصده في الوفاء ومذاهبه، الأمير عبد الله يوسف بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أما بعد، فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، عن الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرا، وجانبكم مبرور، وقصدكم في الصحبة مشكور، ومنصبكم في بيت المملكة معلوم مشهور، وإلى هذا فموجبه إليكم، هو أنه ما زالت الصحبة من دار غرناطة تتجدد بين أسلافنا، وإنا وقفنا الآن في العقد الذي كان قد أخذ مع ملك قشتلة على إشارة إلى صلحكم، فرأينا أن وجهنا كتابنا هذا إليكم، في شأن هذه القضية، فإن كان لكم في الصحبة والمصادقة غرض، فنحن نغتبط بذلك، وعندنا من المساعدة لكم عليه كل ما يرضيكم، فعرفونا بما عندكم في ذلك، ويصلكم بكتابنا هذا التاجر المكرم بشقلين شريجه خديمنا أكرمه الله بتقواه، وقد ألقينا إليه في توكيد المودة ما يلقيه إليكم، وينصه عليكم، فاعلموا ذلك والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرا أثيرا، وكتب في يوم الأربعاء الثامن عشر لشهر المحرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، عرف الله تعالى خيره وبركته. (صح هذا).
لا بأس بأن نترجم هنا سلاطين غرناطة الذين صدرت عنهم هذه المكاتيب إلى ملوك أراغون، وقد اخترنا لهذه التراجم لسان الدين بن الخطيب، أعلم الناس بهم، وأقربهم إليهم، قال في اللمحة البدرية:
إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن قصر بن قيس الأنصاري الخزرجي ، أمير المسلمين بالأندلس، يكنى أبا الوليد.
كان رحمه الله كريم الخلق، حسن الرواء، رجل جد، سليم الصدر، كثير الحياء صحيح العقد، ثبتا في المواقف ، عفيف الإزار، ناشئا في حجر الطهارة، بعيدا من الصبوة، بريئا من المعاقرة، نشأ مشتغلا بشأنه، متبنكا بنعمة أبيه، مختصا بإيثار السلطان، جده أبي أمه، وابن عم والده، منقطعا إلى الصيد، مصروف اللذة إلى استجادة سلاحه، وانتقاء مراكبه، واستفراه جوارحه، إلى أن قضى إليه الأمر وساعدته الأيام، وخدمه الجد، وانتقل به إلى بيت الملك، وثوى في عقبه الذكر، فبذل العدل في رعيته، واقتصد في جبايته، واجتهد في مدافعة عدو الله وعدوه، وسد ثلم ثغره، وكان غرة في قومه، ودرة في بيته، وحسنة من حسنات ذهره.
تخلف من الولد أربعة: أكبرهم محمد ولي عهده، والأمير من بعده. وفرج شقيقه التالي له، المنصرف عن الأندلس بعد مهلك أخيه، المتقلب أخيرا في الإيالات المتوفي معتقلا بالمرية، عام أحد وخمسين وسبعمائة، مظنونا به الاغتيال. ثم أمير المسلمين أخوه أبو الحجاج، تغمده الله برحمته، أقعد القوم في الملك، وأبعدهم أمدا في السعادة ثم إسماعيل أصغرهم، المبتلى زمن شبيبته بالاعتقال المخيف مدة أخيه المستقر بالمغرب.
وزراؤه:
وزيره أول أمره القائد أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح، نصير بن إبراهيم بن محمد بن نصير بن أبي الفتح الفهري، وبيت هؤلاء القواد شهير، ومكانتهم من الملوك النصريين مكينة، ثم أشرك معه في الوزارة الوزير أبا الحسن علي بن مسعود بن علي بن مسعود المحاربي، من أعيان الحضرة، وذوي النباهة، فجاذب رفيقه حبل الخطة ونازعه لباس الحظوة، حتى ذهب باسمها ومسماها، وهلك القائد أبو عبد الله بن أبي الفتح فخلص إليه شربها.
كتابه:
كتب عنه لأول أمره بمالقة، ثم بطريقه إلى غرناطة، وأياما يسيرة بها، الفقيه الكاتب أبو جعفر بن صفوان المالقي. ثم ألقى المقادة إلى كاتب الدولة قبل شيخنا أبي الحسن بن جياب فاضل الخطة، وباري القوس، واقتصر عليه إلى آخر أيامه.
قضاته:
استقضى أخا وزيره الشيخ الفقيه أبا بكر يحيى بن مسعود بن علي، رجل الجزالة وفيصل الحكم، فاشتد في إقامة الحق، وغلظ بالشرع، واستعان بالجاه، فخيفت سطوته، واستمر قاضيا إلى آخر أيامه.
رئيس جنده المغربي:
ومن أول هذه الدولة نبهت هذه الرتبة، واستحقت إفرادنا إياها. الشيخ البهمة، لباب قومه، وكبير بيته، أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، مشاركا له في النعمة، ضاربا بسهم في المنحة كثير التجني والدالة، إلى أن هلك المخلوع، وخلا الجو، فكان منه بعض الأنصار.
الملوك على عهده:
أولا بالمغرب ثم بفاس: السلطان الشهير، جواد الملوك، الرحب الجانب، الكثير الأمل، خدن العافية، ومخالف الترفيه، ومتبحبح النعيم، السعيد على خاصته وعامته أبو سعيد عثمان ابن السلطان الكبير، المجاهد الصالح، المرابط أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. وجرت بينهما المراسلات، واتصلت أيامه بالمغرب بعد مهلكه وصدرا من أيام ولده الأمير أبي عبد الله، حسب ما يمر عند ذكره.
وبتلمسان: الأمير أبو حمو موسى بن عثمان بن يغمر اسن بن زيان. ثم توفي قتيلا بأمر ولده على عهده سادس عشر جمادى الثانية من عام ثمانية عشر وسبعمائة وولي الأمر مغتاله ولده المذكور أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى، واستمرت أيامه بعد مهلك السلطان المذكور، واستغرقت أيام ولده الوالي بعده، إلى أن هلك في صدر أيام السلطان أبي الحجاج، وجرت بينه وبين السلطان أبي الوليد مراسلات ومهاداة.
وبمدينة تونس: الشيخ الملقب بإمرة المؤمنين، أبو يحيى زكريا بن أبي العباس بن أبي حفص، المدعو باللحياني، المتوثب بها على الأمير أبي البقاء خالد بن أبي زكريا بن أبي إسحاق بن أبي حفص، وهو كبير آل حفص سنا وقدرا. تملك تونس تاسع جمادى الآخرة من عام أحد عشر وسبعمائة وتم له الأمر واعتقل أبا البقاء بعد خلعه، ثم اغتاله، في شهر شوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة. ثم رحل عن تونس لما ظهر له من اضطراب أمره بها، وتوجه إلى أطرابلس في وسط عام خمسة عشر وسبعمائة، واستناب صهره الشيخ أبا عبد الله بن أبي عمران، ولم يعد إليها بعد ذلك ثم اضطرب أمر أفريقية، وتناوبه عدة من الملوك الحفصيين، منهم الأمير أبو عبد الله بن أبي عمران المذكور، وأبو عبد الله اللحياني، والسلطان أبو بكر بن الأمير أبي زكريا بن الأمير أبي إسحاق، لبنة تمامهم، وآخر رجالهم. واستمرت أيامه إلى مدة ولده الأمير بالأندلس، ثم معظم أيام ولديه. رحم الله الجميع.
ومن ملوك الروم:
أولا بقشتالة: كان كل عهده، وبالزمن القريب من ولايته وفاة الطاغية هرانده بن شانجه بن الفونش بن هرانده (المجتمع له ملك ليون وقشتاله وهو المتغلب على قرطبة وأشبيلية ومرسية وجيان) ابن الهونش (الجارية له وعليه وقمتا الأرك والعقاب) ابن شانجه (المسمى انبرذور وهو الذي أفرد صهره زوج بنته بملك برتقال) إلى أجداد يخرجنا تقصي ذكرهم عن الغرض.
ومن ملوك رغون بشرق الأندلس: الطاغية جايمش ابن بيطره بن جايمش (الذي تغلب على بلنسية) ابن بيطره بن الهونش، إلى أجداد عدة كذلك. ثم هلك في آخر أيامه، فولى ملك رغون بعده الهونش بن جايمش إلى آخر أيامه.
وببرتقال: الهونش بن ذونيش بن الهونش بن شانجه بن الهونش بن شانجه بن الهونش، وتسمى أولا دوقا.
بعض الأحداث وبداية أمره:
ولما تصير الأمر إلى السلطان نصر، مدبر الوثوب بأخيه، تنازعت بطانته، وساءت سيرة ملكه، فأغرى بالرئيس الكبير صاحب مالقة، وبيده الجزيرة وسبتة ويعقب عليه كثير من التصرف فيما بيده، ثم لما وصل إلى الحضرة مبايعا، داخله بعضهم محذرا ومشيرا بالامتناع، فاستعجل الانصراف، وأظهر الاستبداد في رمضان سابع عشر منه. وأقام رسم الملك بولده السلطان أبي الوليد هذا، وتحرك فنازل الحصون المجاورة لمالقة واستولى عليها.
وفي أول شهر محرم من عام اثني عشر وسبعمائة تحرك فنزل بقرية العطشاء من مرجها. وبرز السطان نصر إليه، في جيش اخشن، مستجاد العدة وافر الرجل فكان اللقاء ثالث عشر الشهر، فأظهر الله أقل الطائفتين، وانجرت على الجيش الغرناطي الهزيمة. وكبا بالسلطان نصر فرسه في مجرى سقي لبعض الفدن، فنجا بعد لأي ودخل البلد مغلولا، وانصرف الجيش المالقي ظاهرا إلى بلده ثم وقعت المهادنة في ربيع الأول من هذا العام، وعادت الفتنة جذعة
18
في العام بعده.
وكانت في رمضان منه ثورة الأشياخ بغرناطة، ودعاؤهم بخلعان السلطان، ودعوة مخلوعه المعتقل، طالبين منه إسلام وزيره خدن الروم، المتهم على الإسلام، محمد بن الحاج، ثم لحق الأشياخ المذكورون فارين بمالقة، عند اختلال ما أبرموه.
وكانت الحركة الثانية إلى غرناطة، بعد أمور اختصرتها من استبداد السلطان أبي الوليد بنفسه، والانحطاط في القبض على أبيه إلى هوى جنده، والتصميم في طلب حقه، فاتصل سيره، واحتل ببلدنا لوشة سرار شوال فتملكها. ثم قصد غرناطة، وبرز إليه جيشها، وأبلى في الدفاع فكادت تقع به الدبرة، لولا ثبوت السلطان وأسلفهم الحملة، فولوا منهزمين، وتبعهم إلى سور المدينة. وقد خف اللفيف والغوغاء، والناعقون بالخلصان، الشرهون إلى تبديل الدعوات، إلى تسنم المآذن والمنارة والربى. وبرز أهل ربض البيازين الهافون إلى مثل هذه البوارق، إلى شرف بيوتهم كل يشير مستدعيا مستقدما، إعلانا بسوء الجوار، وملال الأيالات، والانحطاط في وهد التقلب والتلون، وسآمة العافية: شنشنة معروفة، وخليقة في الخليقة مألوفة. وبودر غلق باب البيرة فنقض قفله، ودخلت المدينة، ولجأ السلطان إلى معقل الحمراء، ودخله بأهله وذخيرته وخاصته، ونزل الدائل بالقصبة القدمى تجاهها، ينفذ الصكوك، ويتألف الشارد، ويذيع العفو، وضعفت بصائر المحصورين وفشلوا - على وجود العاصمة، وتمكن المنعة، ووفور المال - فالتمسوا لأنفسهم ولسلطانهم عهدا ونزلوا منتقلين إلى مدينة وادي آش، في سبيل العوض بمال معروف، وذخيرة، فتم ذلك، وخرج السلطان نابيا به قرار جده وأبيه، جانبا على ملكه الأخابث الأغمار، ليلة الثامن والعشرين لشوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، إلى أن هلك حسب ما تقدم ذكره، وخلا للسلطان أبي الوليد الجو، وضربت إليه المقادة، وأطاعه القاصي والداني، ولم يختلف عليه اثنان.
مناقبه:
اشتد على أهل البدع، وقصر الخوض على ما تضطر إليه الملة. ولقد تذوكر يوما بين يديه أصول الدين فقال: أصول الدين عندي: (قل هو الله أحد) (السورة) وهذا (وأشار إلى سيفه).
واعتنى بأهل بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فبذل في فداء بعض أعلامهم ما يعز بذله، ونقل منهم بعضا من حرف خبيثة، فزعموا أنه رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يشكر له ذلك.
واشتد في إقامة الحدود، وإراقة المسكرات.
وأخذ يهود الذمة بالتزام سمة تشهرهم، وشارة تميزهم، ليوفوا حقهم، من المعاملة التي أمر بها الشارع في الطرق والخطاب.
جهاده وبعض الأحداث في مدته:
التاثت أموره لأول مدته، فجرت عليه الهزيمة الشنيعة بوادي فرتونة. أوقع بجيشه الطاغية بمظاهرة السلطان المخلوع، ففشا في الأعلام يومئذ القتل في صفر عام ستة عشر وسبعمائة، وظهر العدو بعدها على حصن قنبل، وحصن متمانس، وحصن نجيح وحصن تشكر، وحصن روط، ثم صرفت المطامع عزمه إلى الحضرة، فقصد مرجها وكف الله عاديته، وقمعه، ونصر الإسلام عليه، ودالت للدين الهزيمة العظمى بالمرج على بريد منها. واستولى على محلاته النهب، وعلى فرسانه ورجاله القتل والإسار، وعظم الفتح، وبهر الصنع، وطار الذكر، وثاب السعد، واستقامت الأيام. وهلك المخلوع، فصفا الجو، واتحدت الكلمة، وأمكن الجهاد، فتحرك في رجب من عام أربعة وعشرين وسبعمائة، وأعمل الحركة إلى بلاد العدو، ونازل اشكر الشجي المتعرض في حلق مدينة بسطة، فأخذ بمخنقها، ونشر الحرب عليها ورمى بالآلة العظمى، المتخذة بالنفط، كرة محماة طاقة البرج المنيع من معقله، فعاثت عياث الصواعق السماوية، فنزل أهلها قسرا على حكمه للرابع والعشرين من الشهر، وفي ذلك يقول شيخنا الحكيم أبو زكريا بن هذيل رحمه الله من قصيدة أولها:
بحيث البنود الحمر والأسد الورد
كتائب سكان السماء لها جند
وفي وصف آلة النفط:
وظنوا بأن الرعد والصعق في السما
فحاق بهم من دونها الصعق والرعد
غرائب أشكال سما هرمس بها
مهندمة تأتي الجبال فتنهد
ألا إنها الدنيا تريك عجائبا
وما في القوى منها فلا بد أن يبدو
وأقام رحمه الله بظاهرها فصيرها دار جهاده، وعمل في خندقها بيده، وفي ذلك يقول شيخنا كاتب سره، نسيج وحده أبو الحسن بن الجياب، رحمه الله من قصيدة أولها:
أما مداك فغاية لم تسبق
أعيت على غر الجياد السبق
فاشرح بسعدك كل معنى مشكل
وافتح بسيفك كل باب مغلق
في وصف عمله في خندق الحصن:
لله منك مشاهد مشكورة
عند الإله بمثلها لم تسبق
مثل الحفير بها الذي باشرته
فعل الرسول وصحبه في الخندق
وفي العاشر لرجب من عام خمسة وعشرين وسبعمائة تحرك إلى الغزو، وأخذ الأهبة، واستكثر من الآلة، واحتشاد المطوعة، وقصد مدينة مرتش العظيمة الساحة الطيبة البقعة، فأضرب بها المحلات، وكان قصده إجمام الناس إلى الغد، فصرفت الحشود وجوهها إلى ما بها من شجر الكروم الملتفات، وأدواح الأشجار، فأمعنوا في إفسادها، وبرز حاميتها، فناشبت الناس القتال فحميت النفوس، وأريد منع الناس فأعيا أمرهم، وسال منهم البحر، فتعلقوا بالأسوار، وقيل للسلطان: بادر الركوب، فقد دخل البلد، فركب ووقف بإزائه، فدخل الحصن عنوة، واعتصم أهله بالقصبة فدخلت أيضا عنوة، وانطلقت أيدي الغوغاء على من بها من ذكر وأنثى، صغير أو كبير، فساءت القتلة، وقبحت الأحدوثة، ورفعت من الغد آكام من الجثث، صعدت ذراها المؤذنون، وقفل إلى غرناطة بنصر لا كفاء له. وكان دخوله من هذه الغزاة في الرابع والعشرين لرجب المذكور.
وفاته:
ولما فصل من مرتش، نقم على أحد الرؤساء من قرابته، وهو ابن عمه محمد بن إسماعيل المعروف بصاحب الجزيرة، أمرا فقرعه عليه، وبالغ في تأنيبه، وتوعده بما أثار حفيظته، فأقدم عليه بالفتكة الشنعاء، التي ارتكبها منه بباب قصره، بين عبيده آمن ما كان سربا، وأعز نفرا، وأمكن امتناعا، غدوة يوم الاثنين الثالث من يوم دخوله، بعد أن عاهد في الأمر جملة من القرابة والخدام، ووثب به وهو مجتاز بين السماطين من ناسه، إلى مجلس العقود الخاص، فاعتنقه، وسل خنجرا ملصقا بذراعه فأصابه بجراحات ثلاث: إحداهن بأعلى ترقوته، فرت ودجه، فخر صريعا وصاح فكر الوزير، فعممته سيوف الحاضرين من أصحاب الفاتك، ووقعت الرجة، وسلت السيوف، وتشاغل كل بمن يليه، واستخلص السلطان من بين يديه، وحيل بينه وبينه، فرفع وظنت نجاته، فوقع البهت، وبادر الفرار، وقد سدت المذاهب فقتلوا حيث وجدوا.
وأخذت الظنة قوما من أبريائهم، فاستحلفوا ونهبت الغوغاء دورهم وعلقت بالجدران أشلاؤهم، واحتمل السلطان إلى بعض دوره وبه رمق، للزوق العمامة بفوهة ودجه المبتور، ففاض لحينه رحمه الله. ودفن غلس ليلة يوم الثلاثاء ثاني يوم وفاته، بروضة الجنان من قصر إلى جانب جده، وتنوهي في احتفال قبره نقشا وتنجيدا وإحكاما وحليا وتمويها، بما يشذ عن الوصف، وكتب على قبره نقشا من الرخام:
هذا قبر السلطان الشهيد، فتاح الأمصار، وناصر ملة المصطفى المختار، ومحيي سبيل آبائه الأنصار، الإمام العادل، الهمام الباسل، صاحب الحرب والمحراب، الطاهر الأنساب والأثواب، أسعد الملوك دولة وأمضاهم في ذات الله صولة، سيف الجهاد، ونور البلاد الحسام المسلول في نصرة الإيمان، والفؤاد المعمور بخشية الرحمن، المجاهد في سبيل الله، المنصور بفضل الله، أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن الهمام الأعلى، الطاهر الذات والنجار الكريم المآثر والآثار، كبير الإمامة النصرية، وعماد الدولة الغالبية، المقدس المرحوم أبي سعيد، فرج بن علم الأعلام، وحامي حمى الإسلام، صنو الإمام الغالب، ظهيره العلي المرابت، المقدس المرحوم أبي الوليد إسماعيل بن نصر، قدس الله روحه الطيب، أفاض عليه غيث رحمته الصيب، ونفعه بالجهاد والشهادة، وحباه بالحسنى والزيادة، وصنع له في فتح البلاد، وقتل كبار ملوك الأعادي، ما يجده مذخورا يوم التناد، إلى أن قضى الله بحضور أجله، فختم عمره بخير عمله، وقبضه إلى ما أعد له من كرامته وثوابه، وغبار الجهاد غطى أثوابه، استشهد رحمه الله غدرة أثبتت له في الشهداء من الملوك قدما، ورفعت له في أعلام السعادة علما، ولد رضي الله عنه في الساعة المباركة بين يدي الصبح من يوم الجمعة، سابع عشر شهر شوال عام سبعة وسبعين وستمائة، وبويع يوم الخميس السابع وعشرين لشوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، واستشهد في يوم الاثنين السادس والعشرين لشهر رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة. فسبحان الملك الحق، الباقي بعد فناء الخلق.»
وبعده من جهة أخرى:
تخص قبرك يا خير السلاطين
تحية كالصبا مرت بدارين
قبر به من بني نصر إمام هدى
عالي المراتب في الدنيا وفي الدين
أبو الوليد! وما أدراك من ملك!
مستنصر واثق بالله مأمون
سلطان عدل وبأس غالب وندى
وفضل تقوى وأخلاق ميامين
لله ما قد طواه الموت من شرف
وسر مجد بهذا اللحد مدفون
ومن لسان بذكر الله منطلق
ومن فؤاد بحب الله مسكون
أما الجهاد فقد أحيا معالمه
وقام منه بمفروض ومسنون
فكم فتوح له تزهى المنابر من
عجب بهن وأوراق الدواوين
مجاهد نال من فضل الشهادة ما
يجبى عليه بأجر غير ممنون
قضى كعثمان في الشهر الحرام ضحى
وفاة مستشهد في الدار مطعون
في عارضيه غبار الغزو تمسحه
في جنة الخلد أيدي حورها العين
يسقى بها عين تنسم وقاتله
مردد بين زقوم وغسلين
تبكي البلاد عليه والعباد معا
فالخلق ما بين إخوان أفانين
لكنه حكم رب لا مرد له
فأمره الجزم بين الكاف والنون
فرحمة الله رب العالمين على
سلطان عدل بهذا القبر مدفون
وعظمت فيه فجيعة المسلمين، لما ثكلوا من جهاده وعزمه، وبلوه من سعده وعزة نصره، فكثرت فيه المراثي، وتراهقت في شجوه القرائح، وبكاه الغادي والرائح، فمن المراثي التي أنشدت على قبره قول كاتبه شيخنا أبي الحسن ابن الجياب:
أيا عبرة العين امزجي الدمع بالدم
ويا زفرة الحزن احكمي وتحكمي
ويا قلب ذب وجدا وغما ولوعة
فإن الأسى فرض على كل مسلم
وقول كاتبه الوزير الأديب أبي عبد الله بن اللوشي:
برد بنار الشوق منك غليلا
فالمجد أضحى شاكيا وعليلا
منها - وهو غرض حسن -:
قلدت سيف الوجد فارس لوعتي
أسفا وأجريت الدموع خيولا
وبنيت أبيات الرثاء وقد رأت
عيني بيوت المكرمات طلولا
وقول كاتبه الفقيه القاضي أبي بكرين شيرين:
عز العزاء فما الذي نبديه
في الحزن إلا بعض ما نخفيه
يا أيها الفادي يحث فأوصه
إبه عن الخبر المرجم إبه
أودى أمير المسلمين فكيف لا
نأسى عليه، وكيف لا نبكيه؟!
قد كان للإسلام عين بصيرة
فأصابت الإسلام عين فيه
هوامش
الفصل الثالث والأربعون
السلطان
محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن قيس الخزرجي أمير المسلمين بالأندلس بعد أبيه ، يكنى أبا عبد الله.
حاله:
كان معدودا من نبلاء الملوك وأبناء الملوك صرامة، وعزة، وشهامة، وجمالا،
وخصلا، عذب الشمائل، حلوا، لبقا، لوذعيا هشا، سخيا . المثل المضروب في الشجاعة المقتحمة حد التهور، حلس ظهور الخيل، أفرس من جال على صهوة، لا تقع العين - وإن غصت الميادين - على أدرب بركض الجياد منه، مغرما بالصيد، عارفا بسمات الشفار، وشيات الخيل، يحب الأدب، ويرتاح إلى الشعر، وينبه على العيون، ويلم بالنادرة الحارة.
أخذت له البيعة يوم مهلك أبيه، يوم الثلاثاء السابع والعشرين لرجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، وناله الحجب، واشتملت عليه الكفالة إلى أن شدا وظهر، وشب عن الطوق، وفتك بوزيره المتغلب على ملكه وهو غلام، لم يبقل خده، فهيب شباه، ورهبت سطوته، وبرز لمباشرة الميادين، وارتياد المطارد، واجتلاء الوجوه، فكان ملء العيون والصدور.
ذكاؤه:
حدثني ابن وزير جده، القائم أبو القاسم بن محمد بن عيسى قال: تذكروا يوما بحضرته تباين قول المتنبي:
أيا خدد الله ورد الخدود
وقد قدود الحسان القدود
وقول امرئ القيس:
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقول إبراهيم بن سهل:
إني له عن دمي المسفوك معتذر
أقول حملته من سفكه تعبا
فقال رحمه الله بديها، على حداثته: «بينهم ما بين نفس ملك عربي، وشاعر عربي، ونفس يهودي تحت الذمة، وإنما تتنفس النفوس بقدر هممها.»، أو ما معناه هذا.
همته:
لما نازل مدينة قبره، ودخلها عنوة وهي ما هي عند المسلمين والنصارى من الشهرة والجلالة، بادرنا نهنئه بما تسنى له، فزوى عنا وجهه قائلا: «وماذا تهنوني به كأنكم رأيتم تلك الخرقة الكذا - يعني العلم الكبير - في منار أشبيلية!» فعجبنا من بعد همته، ومرمى أمله.
الشجاعة:
أقسم أن يغير على باب مدينة بيانه في عدة يسيرة من الفرسان. عينتها اليمين فوقع البهت، وتوقعت الفاقرة، لقرب الصريخ ومنعة الحوزة، وكثرة الحامية، ووفور الفرسان، وتنخل أهل الحفاظ، وهجم عليها فانتهى إلى بابها وحمل على أضعافه من الحامية فألجأهم إلى المدينة، ورمى يومئذ أحد النصارى بمزراق محلي السنان، رفيع القيمة فأثبته، وتحامل الطعين يريد الباب، فمنع من الإجهاز عليه، وانتزاع الرمح الذي كان يجره خلفه وقال: «اتركوه يعالج به جرحه، إن أخطأته المنية .» فكان كما قال الشاعر في مثله - أنشدناه أبو عبد الله بن الكاتب:
ومن جوده يرمي العداة بأسهم
من الذهب الإبريز صيغت نصولها
يداوي بها المجروح منها جراحه
ويتخذ الأكفان منها قتيلها
جهاده ومناقبه:
نازل حصن قشرة لأول أمره، وهد سوره، وكاد يتغلب عليه، لولا مدد دخله فارتحل وقد دوخ الصقع.
ونازل قبره وافتتحها، وهزم جيش العدو الذي بيت محلته بظاهرها. وتخلص جبل الفتح، وهي أعظم مناقبه، وقد نازله الطاغية، وأناخ عليه بكلكله، وهد بالمجانيق أسواره، فدارى الطاغية، واستنزل عزمه، وتاحفه، إلى أن صرفه عنه، ففازت به قداح الإسلام.
بعض الأحداث:
وفي شهر محرم من عام سبعة وعشرين وسبعمائة نشأت الوحشة بين وزيره المتغلب على أمره محمد بن أحمد المحروق، وبين شيخ الغزاة عثمان بن أبي العلي، فصبت على المسلمين شؤبوب فتنة، عظم فيهم أثرها، فخرج مغاضبا، وهم للانصراف عن الأندلس، ولحق بساحل المرية، ثم داخل أهل حصن الدرش، فدخل في طاعته، واستضاف إليه ما يجاوره، فأعضل الداء، وغامت سماء المحنة، واستلحق المذكور عم السلطان من تلمسان محمد بن فرج بن إسماعيل، فلحق به وقام بدعوته في أخريات صفر من عام سبعة وعشرين وسبعمائة، وكانت بينهم وبين جيش الحضرة وقعات تناصفوا فيها الظفر. واغتنم الطاغية فتنة المسلمين، فخرج غرة شعبان من العام ونازل ثغر وبرة ركاب الجهاد، فتغلب عليه، واستولى على جملة من الحصون التي تجاوره فاتسع نطاق الضر، وأعيا داء الشر، وصرفت إلى نظر السلطان ملك الغرب في أخريات العام رندة، ومربلة، وما إليهما، وأجلت الحال عن مهادنة عثمان بن أبي العلى. وصرف المستدعي لدعوته إلى العدوة، وعبر هذا الأمير رحمه الله البحر بنفسه مستصرخا ومستدعيا للجهاد، في الرابع والعشرين من شهر ذي حجة عام اثنين وثلاثين وسبعمائة ووفد على ملكه السلطان الشهير أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق مستصرخا إياه، فأعظم وفادته، وأكرم نزله، وأصحبه إلى الأندلس ولده، وحباه بما لم يحب به ملك تقدمه، من مقربات الخيل، وخطير الذخيرة، ومستجاد العدة، ونازل على أثره جبل الفتح، وهيأ الله فتحه، ثم استنقاذه بلحاق السلطان، ومحاولة أمره، فتم ذلك يوم الثلاثاء الثاني عشر من شهر ذي حجة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.
وزراء دولته:
وزر له وزير أبيه أبو الحسن بن مسعود، وأخذ له البيعة، وهو مثخن بما أصابه من الجراحات يوم الفتك بأبيه. ولم ينشب أن أجهزت عليه عدواها.
وتولى له الوزارة بعده وكيل أبيه محمد بن أحمد بن محمد بن المحروق. من أهل غرناطة. يوم الاثنين غرة شهر رمضان عام خمسة وعشرين وسبعمائة. ثم قتل بأمره ثاني يوم من محرم فاتح عام تسعة وعشرين وسبعمائة.
ثم وزر له القائد محمد بن أبي بكر بن يحيى بن مول، المعروف بالقيجاطي، من وجوه الدولة، إلى سابع عشر من شهر رجب من العام. ثم صرف إلى العدوة.
وأقام رسم الوزارة والحجابة والنيابة مولى أبيه القائد أبو النعيم رضوان الشهير الديانة والسعادة إلى آخر مدته بعد أن التاث أمره لديه. وزاحمه بأحد المماليك يسمى عضاما أياما يسيرة بين يدي وفاته.
كتابه:
كتب عنه كاتب أبيه وأخيه شيخنا الإمام العلامة الصالح أبو الحسن بن الجياب رحمه الله إلى آخر مدته.
قضاته:
استمرت الأحكام لقاضي أبيه وأخي وزيره الشيخ الفقيه أبي بكر يحيى بن مسعود المحاربي، رحمه الله، إلى عام سبعة وعشرين وسبعمائة، فتوجه رسولا إلى ملك المغرب، وأدركته الوفاة بمدينة سلا، فدفن بها بمقبرة شالة.
وتخلف ولده أبا يحيى مسعودا، نائبا عنه، فاستمرت له الأحكام، واستقل بعده إلى أن صرف عن القضاء يوم عاشوراء من عام أحد وثلاثين وسبعمائة.
وتولى الأحكام الشرعية شيخنا الإمام العلم الأوحد، خاتمة الفقهاء، وصدر القضاة العلماء، أبو عبد الله محمد بن يحيى بن بكر الأشعري المالقي، فاستمر له الحكم إلى تمام مدته، وصدرا من أيام أخيه بعده.
من كان على عهده من الملوك:
أولا بالمغرب: السلطان الشهير الكبير الجواد، ولي العافية ، وحليف السعادة أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق إلى أن توفي يوم الجمعة الخامس والعشرين، من شهر ذي قعدة عام أحد وثلاثين وسبعمائة، ثم صار الأمر إلى ولده السلطان المقتفي سنته في المجد والفضل وضخامة السلطان مبرا عليه بالبأس المرهوب، والعزم الغالب، والجد لا يشوبه هذل، والاجتهاد الذي لا تتخلله راحة أبو الحسن، إلى آخر مدته، ثم مدة أيام أخيه بعده.
وبتلمسان: الأمير عبد الرحمن بن موسى أبو تاشفين، مشيد القصور، ومروض الفروس، ومتبنك الترف، إلى تمام مدته، وصدرا من مدة أخيه بعده
وبتونس: الأمير أبو يحيى أبو بكر ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحاق، لبنة تمام القوم، وصقر جوارح متأخريهم، إلى تمام مدته، وصدرا كبيرا من دولة أخيه.
ومن ملوك النصارى:
أولا بقشتالة: الفونش بن هرانده بن شانجة بن الفونش بن هرانده، الذي ملك على عهده الجفرتين القنيطية والتاكرونية واتصلت أيامه إلى أخريات أيام أخيه.
وبرغون: الفونش بن جايمش بن الفونش بن بيطره بن الفونش بن بيطره بن جايمش، المستولي على بلنسية إلى آخر مدته، وصدرا من مدة أخيه.
وفاته:
وتوغرت عليه صدور رؤساء جنده المغاربة، إذ كان شرها، لسانه غير جزوع ولا هيابة، فربما تكلم بملء فيه من الوعيد الذي لا يخفى عن المعتمد به. وفي ثاني يوم من إقلاع الطاغية عن جبل الفتح بسعيه وحسن محاولته - وهو يوم الأربعاء ثالث عشر من شهر ذي الحجة، وقد عزم على ركوب البحر من ساحل منزله، بموقع وادي السقايين - تماروا في ظاهر الجبل تخفيا للمؤنة، واستعجالا للصدر، وقد أخذت على حركته المراصد، فلما توسط كمين القوم ثاروا إليه وهو راكب بغلا، أثابه به ملك الروم، فشرعوا في عتبه بكلام غليظ، وتأنيب قبيح، وبدءوا بوكيله فقتلوه، وعجل بعضهم فطعنه، وترامى عليه مملوك من مماليك أبيه زنمة من أخابث المعلوجاء
1
اسمه زيان، صونع على مباشرة الإجهاز عليه، فقضى لحينه، في سفح الربوة المائلة، يسرة العابر للوادي، ممن يقصد الجبل، وتركوه بالعراء مسلوب الساتر، سيئ المصرع، قد عادت عليه نعمه، وأوبقه سلاحه، وأسلمه أنصاره وحماته.
ولما فرغ القوم من مبايعة أخيه السلطان يوسف، صرفت الوجوه إلى دار الملك ونقل القتيل إلى مالقة، فدفن على حاله تلك، برياض تجاور منية السيد، فكانت وفاته ضحوة يوم الأربعاء الثالث عشر من ذي حجة عام ثلاثة وسبعمائة. وأقيمت عليه بعيد زمان قبة، نوه بقبره، وهو الآن ماثل بها رهن وحدة، ومستدعى عبرة، وعليه مكتوب:
هذا قبر السلطان الأجل، الملك الهمام، الأمضى الباسل، الجواد، ذي المجد الأثيل، والملك الأصيل، المقدس المرحوم، أبي عبد الله، محمد ابن السلطان الجليل الكبير الرفيع، الأوحد المجاهد الهمام، صاحب الفتوح المستورة، والمغازي المشهورة، سلالة أنصار النبي
صلى الله عليه وسلم ، أمير المسلمين، وناصر الدين الشهيد المقدس، المرحوم أبي الوليد بن فرج بن نصر، قدس الله روحه، وبرد ضريحه. كان مولده في الثامن لمحرم عام خمسة عشر وسبعمائة، وبويع في اليوم الذي استشهد فيه والده، رضي الله عنه السادس والعشرين لرجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، وتوفي في الثالث عشر لذي حجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، فسبحان من لا يموت.
يا قبر سلطان الشجاعة والندى
فرع الملوك الصيد أعلام الهدى
وسلالة السلف الذي آثاره
وضاحة لمن اقتدى ومن اهتدى
سلف الأنصار النبي نجاره
قد حل منه في المكارم محتدا
متوسط البيت الذي قد أسسته
سادة الأملاك أوحد أوحدا
بيت بنوه محمدون ثلاثة
من آل نصر أورثوه محمدا
أودعت وجها قد تهلل حسنه
بدرا بآفاق الجلالة قد بدا
وندى يسح على العفاة مواهبا
مثنى الأيادي السابغات وموحدا
يبكيك مذعور، بك استعدى على
أعدائه فسقيتهم كأس الردى
يبكيك محتاج أتاك مؤملا
فغدا وقد شفعت يداك له اليدا
أما سماحك فهو أهمى ديمة
أما جلالك فهو أسمى مصعدا
جادت ثراك من الإله سحائب
لرضاه عنك تجود هذا المعهدا
وتبعت هذا السلطان نفوس أولي الحرية، ممن له طبع رقيق، وحس لطيف ووفاء كريم، فصدر فيه من التأبين أقاويل للشجون مهيجة، فمن ذلك ما نظمه الشيخ القاضي أبو بكر بن شيرين، وكان على ظرفه وحسن روائه غراب ندبة، ونائحة مأتم، يرثيه، ويتعرض ببعض من حمل عليه من خدامه:
استقلا ودعاني
طائفا بين المغاني
وانعما بالصبر إني
لا أرى ما تريان
قضي الأمر الذي في
شأنه تستفتيان
ومضى حكم إله
ما له في الملك ثان
مات يوم السلم قعصا
مدره الحرب العوان
واستبيح الملك ابن الملك
الحر الهجان
يا خليلي أعينا
ني على شجو عناني
واذكر سابغة النعمة
فيما تذكران
وإذا صليتما يوما
عليه آذنان
ما علمنا غير خير
فاقضيا ما تقضيان
لا نبالي ما سمعنا
من فلان وفلان
غير ما قالوا اعتقدنا
وعلينا شاهدان
وغدا يجمعنا المو
قف من قاص ودان
ورضى الله هو المطلوب
في كل أوان
وأخو الصدق لعمري
ذو مقامات حسان
وهوى النفس عناء
حائل دون المعاني
وعلى البغضاء يطوى
ود إخوان الخوان
بأبي والله أشلاء
على الرمل حوان
بفتى ما كان بالوا
ني ولا بالمتواني
يمزج الماء نجيعا
وينادي: عللاني!
ليس بالهيابة النكس
ولا الغمر الهدان
أبيض الوجه تراه
والردى أحمر قان
أي سيف لضراب
أي رمح لطعان
ذو نجار خزرجي المنت
مى سامي المكان
ذكره قد شاع في الأرض
إلى أقصى عمان
لا تراه الدهر إلا
حلف سرج أو عنان
عن صهيل الخيل لا يلهيه
تعزاف القيان
إن ألمت هيعة طار
إليها غير وان
يصدع الليل بقلب
ليس بالقلب الجبان
يا لها من نصبة لولا
نحوس في القران
وشباب عاجلوه
بالردى في العنفوان
لم يجاوز من سنيه
العشر إلا بثمان
دوخ الأقطار غزوا
من هضاب ومحان
حكموا فيه الظبي
أسرع من لمح العيان
إن يكونوا غادروه
في الثرى ملقى الجران
تشرب الأرض دما منه
تهاداه الغواني
وتحييه بتسليم
ثغور الأقحوان
فالمعالي أودعته
بين سحر ولبان
وغوادي المزن
يرضعن ثراه بلبان
ضاع سرح الثغر لما
أغمد السيف اليماني
وأعير الأسد الورد
القميص الأرجواني
عاطياني أكؤس الحزن
عليه عاطياني
حمله دون صلاة
للثرى مما شجاني
أوما كانوا يد
عون أعقاب الأذان
لا تهينوه فما كان
بأهل للهوان
عجبي والله من إب
طان هذا الشنآن
أنا مذ غاب فبالسالي
فؤادا ما أراني
وبحسبي دعوات
أنا فيها ذو افتتان
بت أهديها إليه
بعد ترتيل المثاني
ذاك جهدي، إن إحسان
أبيه قد غذاني
فأنا الشيعة حقا
بفؤادي ولساني
أفأنسى ذلك العهد
وليسد الغدر شاني
ويقال الرشح موجود
قديما في الأواني
وعهود الناس شتى
من عجاف وسمان
وهي النعمة حقا
شكرها في كل آن
اتئد يا فارس الخيل
فغير الله فان
والمعالي تطلب الثأر
وتأتي بالأماني
وهي الأرحام لا تنسى
ولو بعد زمان
أنت من رحمة غفار
الخطايا في ضمان
وهو يوفي الخصم إن شاء
وزانا بوزان
والذي أفشى قبيحا
حظه عض البنان
سلم الله على من
فيه ذو جهل لحاني
وجزاه بجهاد
جاء منه ببيان
ربنا أنت خبير
بحفيات الجنان
ويداك الدهر فينا
بالندى مبسوطتان
ومجال العفو رحب
والرضى غض المجاني
فتغمدنا برحمى
وقبول وأمان
واجمع الشمل على أفضل
حال في الجنان
واقتضت آراء القوم القائلة استرعاء عقد يتضمن ألفاظا كانت تصدر عن السلطان قادحة في العقد جاءوا بها إفكا وزورا، ستكتب شهادتهم ويسألون.
ومن المعاني البديعة في عكس الأغراض قوله:
عين بكي لميت غادروه
في ثراه ملقى وقد غدروه
دفنوه ولم يصل عليه
أحد منهم ولا غلسوه
إنما مات حين مات شهيدا
فأقاموا رسما ولم يقصدوه
وسنترجم إن شاء الله هؤلاء الملوك ووزراءهم بأوسع من هذا عند الوصول إلى الكلام على غرناطة.
هوامش
فاتحة الجزء الثالث من الحلل السندسية في الآثار والأخبار الأندلسية
مملكة بلنسية ومرسية
طرطوشة
بنشكلة وعلماؤها
مدينة المنارة
مربيطر
مدينة إشكرب
بلنسية
عود إلى جغرافية بلنسية وملحقاتها
مذكرة بقلمنا عن رحلتنا إلى مرسية وبلنسية
قرطاجنة
شاطبة
المدن القريبة من شاطبة
قسطنطانية
لقنت
ألش
أوريوله
شقورة
شنجالة
لورقة
قرطاجنة
مرسية
خاتمة الجزء الثالث
فاتحة الجزء الثالث من الحلل السندسية في الآثار والأخبار الأندلسية
مملكة بلنسية ومرسية
طرطوشة
بنشكلة وعلماؤها
مدينة المنارة
مربيطر
مدينة إشكرب
بلنسية
عود إلى جغرافية بلنسية وملحقاتها
مذكرة بقلمنا عن رحلتنا إلى مرسية وبلنسية
قرطاجنة
شاطبة
المدن القريبة من شاطبة
قسطنطانية
لقنت
ألش
أوريوله
شقورة
شنجالة
لورقة
قرطاجنة
مرسية
خاتمة الجزء الثالث
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الثالث)
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الثالث)
تأليف
شكيب أرسلان
فاتحة الجزء الثالث من الحلل السندسية في الآثار والأخبار الأندلسية
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا هو الجزء الثالث من كتابنا على الأندلس يتلو أخويه السابقين؛ الجزء الأول والجزء الثاني، اللذين ظهرا من سنتين. وهو على نمطهما في ذكر مواقع البلاد الجغرافية ومزايا كل منها ومن نبغ فيها من العلماء والأدباء، وكما كان الكلام في الجزءين السابقين على شمالي إسبانية مثل قشتالة وليون ونباره وأراغون وكتلونية داخلة فيها من قواعد العرب المشهورة طليطلة ومجريط ووادي الحجارة وفونكة، ومدينة سالم، وقلعة أيوب، ودروقة، وسرقسطة، ووشقة، ولاردة ومضافاتها، سيكون الكلام في هذا الجزء على شرقي الأندلس من طرطوشة في الشمال الشرقي نازلا إلى حد لورقة في الجنوب الغربي، مندمجة في هذا الجزء مملكة بلنسية وملحقاتها ومملكة مرسية وتوابعها، مما كان يطلق عليه اسم شرق الأندلس.
وقد ترجمنا من نبغ في هذه البلاد الشرقية من العلماء والأدباء مع زيادة توسع في أخبارهم ومع بعض استطرادات متشعبة من أصل الموضوع.
وسيتلو هذا الجزء من كتابنا الجزء الرابع الذي سيكون الكلام فيه على جيان وقرطبة ونواحيهما، ثم يأتي بعده الجزء الخامس الذي سيكون الكلام فيه على إشبيلية وشريش وبطليوس وغرب الأندلس إلى البرتغال. ثم يتلوه الجزء السادس الخاص بمملكة بني الأحمر؛ غرناطة، والمرية، وبسطة، ووادي آش، والمنكب، ومالقة، ورندة وملحقاتها.
ثم يتلوه الجزء السابع في التاريخ من أول الفتح إلى آخر دولة بني أمية، ثم الجزء الثامن من بداية ملوك الطوائف إلى انقضاء دولة المرابطين، ثم دولة الموحدين إلى انتهائها. ويأتي بعده الجزء التاسع الذي سيكون الكلام فيه على سلطنة غرناطة إلى حد سقوطها.
ويتلوه جزء خاص بتاريخ عرب إسبانية المدجنين الذين كان يقال لهم الموريسك، وهم المسلمون الذين أقاموا تحت الحكم النصارى إلى أن طردوهم أخيرا قاطبة، وذلك في نواحي سنة 1612، وربما يدخل في هذا الجزء رسالتنا على جزائر الباليار ميورقة وأخواتها. هذا هو رسم كتابنا الأندلسي الذي توخينا أن يكون أوسع كتاب في هذا الباب، سائلين المولى - عز وجل - أن يفسح في الأجل ويأخذ باليد لإنجازه.
شكيب أرسلان
جنيف محرم الحرام سنة 1358
مملكة بلنسية ومرسية
من عادة المؤرخين والجغرافيين أنهم إذا وصلوا إلى ذكر مملكة بلنسية وساحل إسبانية الشرقي يذكرون معها جزائر الباليار التي هي ميورقة وميتوزقة ويابسة، ومنهم من يذكر هذه الجزائر مع كتلونية؛ لأنها مصاقبة من الجهة الشمالية لكتلونية كما هي من الجهة الجنوبية مصاقبة لبلنسية. ونحن اخترنا أن نفرد لهذه الجزائر جزءا مستقلا من الحلل السندسية تحت اسم «الأصول المعرقة والغصون المورقة في محاسن جزيرة ميورقة»، فنذكر هذه الجزيرة وأخواتها ونطوف بجغرافيتها وتاريخها وجميع أخبارها، ونعرج على آثارها ونتكلم على رحلتنا إليها، ونترجم من نبغ فيها من العلماء والأدباء، واشتهر من الأمراء والعظماء، سواء كانوا من العرب أو من الإسبانيين؛ فلذلك سنمضي الآن في ذكر مملكة بلنسية وتوابعها مبتدئين بمدينة طرطوشة التي هي آخر كتلونية من جهة الجنوب وأول البلاد التابعة لبلنسية من جهة الشمال.
وقد كانت طرطوشة في الماضي - وبقيت مدة طويلة - هي الحد الفاصل بين المسلمين والنصارى. وكان يقيم بها في أيام الخلافة الأموية مندوب من قبل الخليفة ينظر في أمور الداخلين من بلاد الإفرنج إلى المملكة الإسلامية، فعلى يده يكون التسريح في الدخول والخروج. وممن تولوا هذه الخطة القاضي منذر بن سعيد البلوطي الشهير لعهد الخليفة الناصر عبد الرحمن.
طرطوشة
وطرطوشة
tortosa
1
اليوم مدينة متوسطة واقعة على ضفة نهر أبره الذي ينحدر على مقربة منها إلى البحر، وعدد سكانها نحو من 28 ألف نسمة، وهي مركز أسقفية، وقد كان يقال لها في زمان الرومانيين: «درتوزه
Dertosa »، وكان لها أيضا اسم آخر، وهي مستعمرة «جولية السعيدة
Colonia Julia Augusta »، وكان لها حق في سك العملة، وبالنظر لموقعها الجغرافي كانت لها دائما أهمية بين المدن الإسبانية، لا سيما أنه بالقرب منها غابات من الصنوبر المتين الصالح لإنشاء السفن، فلا تخلو طرطوشة أبدا بهذا السبب من دار صنعة بحرية. وقد استولى عليها العرب في بداية الفتح ولكن الإفرنج جاءوا بعد استيلائهم على كتلونية فهاجموا طرطوشة لاستردادها، وفي سنة 809 للمسيح حاصرها الملك لويس الحليم بن شارلمان، فعجز عنها؛ فانكفأ عن حصارها ثم عاودها بعد سنتين ففتحها، ثم عاد العرب فاسترجعوها. وعلى طرطوشة وقعت الوقائع بين لويس الحليم بن شارلمان والحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الأموي، الذي أرسل ولده عبد الرحمن بجيش أخرج منها الإفرنج.
قال لاوي بروفنسال في الانسيكلوبيدية الإسلامية: إنه نظرا لوجود طرطوشة في طرف بلاد المسلمين كان الخلفاء يجعلونها منفى لمن يكرهون إقامته في داخل المملكة. قال: وإليها نفى المنصور بن أبي عامر عبد الملك بن إدريس الجزيري. ولما تشظت عصا الخلافة ونجمت ملوك الطوائف، صارت طرطوشة إمارة مستقلة قام بها نبيل الصقلبي من المماليك العامرية، واستولى نبيل هذا أيضا على بلنسية لكن لم يطل أمره بها. وكان قبل نبيل تولى عليها الفتى لبيب وفتى آخر اسمه مقاتل لقب نفسه بسيف الدولة.
وفي سنة 452 للهجرة وفق 1060 للمسيح ثارت طرطوشة بأميرها نبيل الصقلبي، فاضطر أن يلجأ إلى المقتدر بن هود صاحب سرقسطة؛ فبقيت هذه المدينة في أيدي ملوك بني هود إلى أن تقلص ظل الإسلام عنها، وكان النصارى استولوا عليها سنة 512 هجرية وفق 1118 مسيحية، ثم أخرجهم المسلمون منها إلى أن ضاق النصارى ذرعا بغارات المسلمين البحرية التي كان أكثرها صادرا عن طرطوشة بمكانها مركزا عظيما لقرصان المسلمين، فصمم ريموند بيرانجه
Raymond Béranger
الرابع صاحب برشلونه على أخذ طرطوشة، ووافته نجدات من فرسان الهيكليين الصليبيين وأساطيل بيزه وجنوة من إيطالية، فاقتحموا البلدة برا وبحرا واستولوا عليها في 14 شعبان سنة 543 وفق 30 ديسمبر سنة 1148، وهي السنة التي استولى فيها النصارى على لاردة وإفراغه،
2
فكر المسلمون على طرطوشة وكادوا يفتحونها فدافع الإسبان عنها أشد دفاع، وظهر من النساء ذلك اليوم استبسال نادر المثال حتى قيل: إنهن كن السبب في حفظ طرطوشة من الوقوع في يد الإسلام؛ فلذلك منحهن بيرانجه وساما اسمه وسام الفاس، وهو عبارة عن شريطة حمراء يحملنها ويتبخترن بها، وكذلك أعطين حق التقدم على الرجال في حفلات الزواج.
وكان خلفاء بني أمية شديدي الاعتناء بطرطوشة. نقل ابن عبد المؤمن الحميري أنهم حصنوها بأسوار منيعة وجعلوا لها أربعة أبواب وعمرت في أيامهم عمرانا ذا بال، وبنى فيها الخليفة الناصر عبد الرحمن سنة 333 وفق 945 دار صنعة للسفن لا يزال تاريخ إنشائها منقوشا على الحجر.
3
وكان في طرطوشة مسجد جامع بخمسة صفوف من الأقواس ذكر لاوي بروفنسال أنه مبني من سنة 345 للهجرة، ولكن رأيت في دليل بديكر أن الكنيسة الكاتدرائية في طرطوشة هي من بناء مطران اسمه «غوفريده»، اشتغلوا في بنائها من سنة 1158 إلى 1178، وذلك في مكان مسجد بناه الخليفة الناصر سنة 914، والأقرب أن يكون هذا المسجد هو المسجد الجامع، هذا إلا إذا كان هناك مسجد آخر بناه الناصر.
وعلى كل حال فلا يزال في صومعة الثياب الكهنوتية إلى اليوم كتابة كوفية تتعلق ببناء هذا المسجد. وفي هذه الصومعة أيضا خوذة عربية، ثم إن قبة الجرس التي في هذه الكنيسة هي مئذنة المسجد باقية كما كانت. وكان بنو أمية بنوا في طرطوشة مباني أخرى منها أربعة حمامات عمومية وكانت أرباضها في غاية العمران.
قال لاوي بروفنسال: إذا نظرنا إلى العلماء الذين يحملون لقب «الطرطوشي» حكمنا بأن هذه البلدة بقيت مدة طويلة مركزا لامعا بأنوار العلوم الإسلامية، ثم ذكر أشهر العلماء المنسوبين إلى طرطوشة، وهو أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المعروف بابن رندقة، ولد في طرطوشة سنة 451، وتوفي في الإسكندرية سنة 520، وهو صاحب كتاب «سراج الملوك». قال ياقوت في معجم البلدان: طرطوشة بالفتح ثم السكون ثم طاء أخرى مضمومة وواو ساكنة وشين معجمة: مدينة بالأندلس تتصل بكورة بلنسية، وهي شرقي بلنسية، وقرطبة قريبة من البحر متقنة العمارة مبنية على نهر أبرة ولها ولاية واسعة وبلاد كثيرة تعد في جملتها، تحلها التجار ويسافر منها إلى الأمصار، واستولى عليها الإفرنج في سنة 543، وكذلك على جميع حصونها، وهي في أيديهم إلى الآن. وينسب إليها أحمد بن سعيد بن ميسرة الغفاري الأندلسي الطرطوشي ، كتب الحديث الكثير من علي بن عبد العزيز ومحمد بن إسماعيل الصايغ وغيرهما، وحدث ورحل في طلب العلم ومات بالأندلس سنة 322، وأبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الفهري الطرطوشي الفقيه المالكي، مات في خامس عشر جمادى الأولى سنة 520، ويعرف بابن أبي رندقة، هذا الذي نشر العلم بالإسكندرية، وعليه تفقه أهلها، قاله أبو الحسن المقدسي في كتاب «الرقيات» له، وذكره القاضي عياض في مشيخة أبي علي الصدفي، فقال: محمد بن الوليد الفهري الإمام الورع أبو بكر الطرطوشي المالكي يعرف ببلده بابن أبي رندقة براء ونون ساكنة ودال مهملة وقاف مفتوحتين. نشأ بالأندلس وصحب القاضي أبا الوليد الباجي، وأخذ عنه مسائل الخلاف، ثم رحل إلى الشرق، ودخل بغداد والبصرة، فتفقه عند أبي بكر الشاشي وأبي سعيد بن المتولي وأبي أحمد الجرجاني أئمة الشافعية، ولقي القاضي أبا عبد الله الدامغاني، وسمع بالبصرة من أبي علي التستري والسيعداني، وسمع ببغداد من أبي محمد التميمي الحنبلي وغيرهم، وسكن الشام مدة ودرس بها، وبعد صيته، وأخذ عنه الناس هناك علما كثيرا، ثم نزل الإسكندرية واستوطنها.
قال القاضي أبو علي الحسين الصدفي: صحبته بالأندلس عند الباجي، ولقيته بمكة، وأخذت عنه أكثر السنن لأبي داود عن التستري، ثم دخل بغداد وأنا بها فكان يقنع بشظف من العيش، وكانت له نفس أبية، أخبرت أنه كان ببيت المقدس يطبخ في شقف
4
وكان مجانبا للسلطان؛ استدعاه فلم يجبه، وراموا الغض من حاله فلم ينقصوه قلامة ظفر، وله تأليف وشعر، فمن شعره في بر الوالدين:
لو كان يدري الابن أية غصة
يتجرع الأبوان عند فراقه
أم تهيج بوجدها حيرانة
وأب يسح الدمع من آماقه
يتجرعان لبينه غصص الردى
ويبوح ما كتماه من أشواقه
لرئي لأم سل من أحشائها
وبكى لشيخ هام في آفاقه
ولبدل الخلق الأبي بعطفه
وجزاهما بالعذب من أخلاقه
وطلبه الأفضل صاحب مصر فأقدمه من الإسكندرية إلى مصر، وألزمه الإقامة بها وأزكن
5
عليه أن لا يفارقها إلى أن قيد الأفضل فصرف إلى الإسكندرية، فرجع بحالته إلى أن توفي بها سنة 520.
وجاء في صبح الأعشى عن طرطوشة ما يلي: قال في تقويم البلدان بضم الطاءين المهملتين وبينهما راء ساكنة مهملة ثم واو ساكنة وشين معجمة وهاء في الآخر. وهي مدينة في شرق الأندلس موقعها في الإقليم الخامس من الأقاليم السبعة. قال ابن سعيد: حيث الطول اثنتان وعشرون درجة وثلاثون دقيقة والعرض أربعون درجة. قال: وهي من كراسي ملك شرق الأندلس. وهي شرقي بلنسية في الجهة الشرقية من النهر الكبير الذي يمر على سرقسطة، ويصب في بحر الزقاق على نحو عشرين ميلا من طرطوشة. قال: وشرقي طرطوشة (جزيرة مايرقة) في بحر الزقاق وإلى طرطوشة هذه ينسب «الطرطوشي» صاحب «سراج الملوك». ا.ه.
ثم ورد ذكر طرطوشة في صبح الأعشى في باب التاريخ عندما ذكر بني هود فقال: وكان من ممالك بني هود هؤلاء طرطوشة، وقد كان ملكها مقاتل أحد الموالي العامريين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ومات سنة خمس وأربعين، وملكها بعده يعلى العامري ولم تطل مدته.
وملكها بعده نبيل أحدهم إلى أن نزل عنها لعماد الدولة أحمد بن المستعين (بن هود) سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، فلم تزل في يده ويد بنيه بعده إلى أن غلب عليها العدو المخذول في ما غلب عليه من شرقي الأندلس. ا.ه.
وأما الشريف الإدريسي فقد مر في الجزء الأول [فصل: أقوال العرب عن جغرافية الأندلس - قول الشريف الإدريسي] ذكره لطرطوشة
6
فيما ذكر من مدن الأندلس ماشيا عليها بالترتيب، فهو يقول: ومدينة طرطوشة مدينة على سفح جبل، ولها سور حصين، وبها أسواق وعمارات وصناع وفعلة وإنشاء المراكب الكبار من خشب جبالها، وبجبالها يكون خشب الصنوبر الذي لا يوجد له نظير في الطول والغلظ، ومنه تتخذ السواري والقرى وهذا الخشب الصنوبر الذي بجبال هذه المدينة أحمر صافي البشرة دسم لا يتغير سريعا، ولا يفعل فيه السوس ما يفعله في غيره، وهو خشب معروف منسوب. ومن طرطوشة إلى موقع النهر في البحر 12 ميلا، ومن مدينة طرطوشة إلى مدينة طركونة 50 ميلا. ا.ه.
قلنا: بين طرطوشة وطركونة مسافة 84 كيلومترا. وطرطوشة اليوم تابعة لمقاطعة طركونة، فهي من كتلونية، وبين طرطوشة وبرشلونة 176 كيلومترا. وبينها وبين بلنسية 192 كيلومترا، وبين طرطوشة ومصب نهر إبره مثلث من الأرض مشهور بالخصب. قال المسعودي في مروج الذهب: وبقي ثغر المسلمين في هذا الوقت، وهو سنة ست وثلاثين وثلاثمائة من شرقي الأندلس طرطوشة، وعلى ساحل بحر الروم مما يلي طرطوشة آخذا في الشمال «أفراغه»، على نهر عظيم، ثم لاردة، ثم بلغني عن هذه الثغور أنها تلاقي الإفرنجة، وهي أضيق مواضع الأندلس.
ذكر من نبغ من أهل العلم في طرطوشة
أشهر من انتسب إلى طرطوشة من العلماء هو ابن أبي رندقة الطرطوشي، المتوفى في الإسكندرية صاحب سراج الملوك؛ قال أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي: محمد بن الوليد بن رندقة الطرطوشي أبو بكر، فقيه، حافظ إمام، محدث ثقة، زاهد فاضل، عالم عامل، رحل إلى العراق، وقد تفقه بالأندلس، وصحب أبا وليد الباجي مدة. أخبرني غير واحد عن الحافظ أبي بكر بن العربي، قال: سمعت الحافظ أبا بكر الطرطوشي يقول: لم أرحل من الأندلس حتى تفقهت ولزمت الباجي مدة، فلما وصلت إلى بغداد دخلت المدرسة العادلية فسمعت المدرس بها يقول: مسألة إذا تعارض أصل وظاهر فبأيهما يحكم؟ فما علمت ما يقول ولا دريت إلى ما يشير حتى فتح الله وبلغ بي ما بلغ.
أقام في رحلته مدة ثم انصرف يريد مصر، وكان له غرض في الاجتماع مع أبي حامد الغزالي، فجعل طريقه على البيت المقدس، فلما تحقق أبو حامد أنه يؤمه حاد عنه، ووصل الحافظ أبو بكر فلم يجده. فقصد جبل لبنان وأقام هناك مدة، وصحب به رجلا يعرف بعبد الله السائح من أولياء الله المنقطعين إلى الله تعالى. ثم أراد الحافظ أبو بكر أن يقصد أرض مصر، فعرض على أبي محمد عبد الله السائح صحبته والمشي معه، وقال له: أنت ههنا بمعزل لا تلقى أحدا ولا يلقاك أحد، وإن مت لم تجد من يواريك، وفي مخالطة الناس ومقابلتهم ونشر العلم وحضور الجماعة في الجمعة ما لا يخفى عليه، فقال له عبد الله: أنا ههنا آكل الحلال وأعيش في المباح من ثمر هذه الأشجار، ولا أجد في غير هذا الموضع من المباح ما أجد فيه.
فقال له الحافظ أبو بكر: إن تنظر مصر تنظر موضعا يعرف برشيد فيه شيئان مباحان: الملح والحطب، نقيم به، ويكون عيشنا من هذين المباحين، فقال له عبد الله: أنت لا يتركك الناس، وأفارق موضعي وأفارقك. فعاهده أن لا يفارقه، وركبا الطريق إلى مصر حتى وصلا رشيد، وأقاما هناك إذا احتاجا إلى قوت تحوجا من حطب أو ملح فباعا ما يحملانه من ذلك على ظهورهما وتقوتا بثمنه.
وبقيا هناك مدة إلى أن قتل العبيدي صاحب مصر جماعة من فقهاء أهل الإسكندرية لسبب يطول شرحه، ولم يبق بها من يشار إليه، وسمع أهل الإسكندرية بكون الفقيه برشيد فركب إليه قاضيها ابن حديدة وجماعة من أهلها، فلما وصلوا إلى رشيد سألوا عنه فلم يجدوا من يعرفه إلا بعض الفقراء هناك قال لهم: أنا أدلكم عليه. اقعدوا هنا فكأن به قد وصل، فقعدوا ساعة، ووصل الفقيه من الشعراء وعلى ظهره حزمة حطب وصاحبه معه، فقال لهم: هذا هو، ووضع الحزمة بالأرض. فأخبروه بما طرأ عليهم في الإسكندرية وباحتياج أهلها إليه، وبما له في قصدهم من الأجر، فقال لهم: قد علمت ذلك، ولكني لا أفارق صاحبي هذا بوجه - وأشار إلى عبد الله السائح - لأني سقته من موضعه وعاهدته أن لا أفارقه، فدونكم فإن ساعدني فأنا ناهض معكم، فكلموه فقال: أنا لا أمنعه لكني أقيم هنا. فقال الحافظ أبو بكر: وأنا لا أفارقه. فتضرعوا إلى عبد الله، فقال لهم: أنا هنا أعيش في الحلال وآكل المباح ولا أجد هذا عندكم. فقال له القاضي: إن صاحب صقلية - دمره الله - يؤدي جزية في كل عام لأهل الإسكندرية ثلاثمائة قفيز من الشعير وكذا وكذا، فخذ الشعير تتقوت به وتصرفه في منافعك. فقال: أنا لا أحتاج إلى أكثر من رغيف في كل ليلة. فضمنوا له ذلك.
وأقبلا معهم إلى الإسكندرية ، ووفوا لأبي محمد السائح بما قالوا، ووضعوا له من الشعير عدة أرغفة، ووضعوها له في حبل، فكان يفطر كل ليلة منها على رغيف ويلزم بيته لا يبرح منه. واشتمل أهل الإسكندرية على الحافظ أبي بكر، وقعد للتدريس، ونفع الله به كل من قرأ عليه، وانتشر علمه.
وكانت بالإسكندرية امرأة متعبدة هي خالة أبي الطاهر بن عوف، فخطبته، وتزوجها وبنى بها في المدرسة، وكان لها ابن من أهل الدنيا كثير التخليط، فصعب ذلك عليه وعمد إلى خنجر واستتر في المدرسة، فلما ابهار
7
الليل قصد البيت الذي كانت فيه أمه مع الفقيه فلم يجد فيه أحدا، ووجد كل واحد منهما قد قام إلى ورده، وسمع صوت الفقيه يقرأ في الصلاة فأم الصوت وخنجره في يده، فلما قرب منه وهو عازم على قتله حالت بينه وبينه سارية من سواري المدرسة، وضرب فيها بوجهه وخر مغشيا عليه والفقيه لا يشعر، فلما طلع الفجر نزل إلى المدرسة فصلى الصبح ودرس وتصرفت زوجه في أثناء ذلك، فوجدت ابنها مجدلا لا يعقل، فكلمته فلم يكلمها.
فلما فرغ الفقيه من التدريس صعد إلى منزله فأعلمته زوجه بمكان ابنها؛ فصعد نحوه فوجده على تلك الحال؛ فجر يده على وجهه وتفل وتكلم بكلمات ففتح عينيه، فلما أبصر الفقيه قال له: هات يدك؛ فأنا تائب إلى الله تعالى، والله لا عصيته بعد اليوم أبدا ولا تركتك في هذا الموضع، انتقل إلى دار أهلك فاسكنها؛ ففعل وحسنت توبة الابن بعد ذلك.
أخبرني شيخي أبو المفضل عبد المجيد بن دليل قال: أصاب ابن حديدة قاضي الإسكندرية مرض، وكان الفقيه إذا لقيه في الطريق سلك على أخرى، فأوصى القاضي بأن يغسله الفقيه عند موته ويصلي عليه؛ قال: ففعل، وكنا نجتمع على قبره في كل يوم ونختم القرآن، فلما كان في اليوم السابع أنشدنا الحافظ أبو بكر عند قبر القاضي قصيدة منها قوله يرثيه:
هذي قبورهم وتلك قصورهم
واعلم بأن كما تدين تدان
ولقد أخبرني أنه رآه في اليوم الذي توفي فيه، وعليه فروته التي ساقها معه من طرطوشة. وكانت وفاته في سنة 520، روى عن جماعة من الحفاظ منهم الحافظ أبو بكر بن العربي، وأبو علي الصدفي، وأبو الطاهر بن عوف، وغيرهم، وتواليفه كثيرة منها التعليقة في الخلافيات في خمسة أسفار، وله كتاب كبير يعارض به كتاب الإحياء، رأيت منه قطعة يسيرة. وألف سراج الملوك في مجلس كان بينه وبين صاحب مصر يطول ذكره، وكان أوحد زمانه علما وورعا، لم يتثبت من الدنيا بشيء إلى أن توفي وصلى عليه ابن عوف.
وترجم الإمام الطرطوشي أبا بكر بن بشكوال في الصلة، فقال: محمد بن الوليد
8
بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الطرطوشي، أصله منها، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن أبي رنذقة. ثم ذكر أنه أخذ عن القاضي أبي الوليد الباجي بسرقطسة، وعن أبي بكر الشاشي، وأبي أحمد الجرجاني، وأبي علي التستري بالشرق، وسكن الشام مدة ودرس بها. قال: وكان إماما عالما عاملا زاهدا ورعا متواضعا، متقللا من الدنيا راضيا منها باليسير. أخبرنا عنه القاضي الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري، ووصفه بالعلم والفضل، والزهد في الدنيا، والإقبال على ما يعنيه، وقال لي: سمعته يقول: إذا عرض لك أمران: أمر دنيا وأمر أخرى؛ فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى. قال القاضي أبو بكر: وكان كثيرا ما ينشدنا محمد بن الوليد هذا:
إن لله عبادا فطنا
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
فكروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
وتوفي الإمام الزاهد أبو بكر بالإسكندرية في شهر شعبان سنة 520.
ثم ممن ينتسب إلى طرطوشة من أهل العلم أبو مروان عبيد الله بن أبي القاسم خلف بن هاني قاضي طرطوشة. قال ابن بشكوال: إنه أجاز لأبي جعفر بن مطاهر سنة 467 قال: وأخذ عنه من شيوخنا القاضي أبو الحسن بن واجب.
9
وعلي بن محمد بن أبي العيش أبو الحسن الطرطوشي، نزيل شاطبة، تصدر للإقراء بها، وكان من المتقدمين في هذا العلم مع الصلاح والفضل، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن الدوشن، وأبي المطرف بن الوراق، وأبي محمد بن جوشن، وأخذ عنه أبو بكر بن طاهر بن مفوز، وأخوه أبو محمد عبد الله، وأبو الحسين بن جبير، ترجمه ابن الأبار في التكملة، ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف الطرطوشي سكن ميورقة، يعرف بابن ختى فضل، روى عن أبي إسحاق بن فتحون، وتفقه بأبي إبراهيم بن عايشة، وحدث ودرس ببلده الفقه، وكان قائما على المدونة معروفا بالصلاح، أخذ عنه أبو إسحاق بن عايشة، وقال: توفي سنة 593 في أولها وهو ابن ستين سنة أو نحوها.
ومحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن أبي العيش اللخمي من أهل طرطوشة، وسكن شاطبة، يعرف بابن الأصيلي، ويكنى أبا عبد الله، تجول في طلب العلم؛ فأخذ القراءات عن أبي علي منصور بن الخير، وسمع من أبي عبد الله بن الحاج، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي القاسم بن ورد، وأبي عبد الله ابن أخت غانم، ولقي أبا محمد البطليوسي، وأبا الحجاج بن يسعون، وأخذ عنهما، وقيل: إنه نشأ بالمرية، وتصدر بشاطبة للإقراء والتعليم بالعربية، فانتفع به الناس، وكان موصوفا بالمعرفة والفهم، ضعيف الخط، حدث عنه أبو الحسين بن جبير؛ سمع منه الموطأ في سنة 557، وقد لقيه ابن عياد وكتب عنه يسيرا، وذكره ابن سفين، وقال: توفي سنة 566، وقرأت بخط محمد بن عياد أنه توفي سنة سبع وستين، قال: ومولده بطرطوشة سنة 496، ترجمه ابن الأبار في التكملة.
وخلف بن هاني العمري من أهل طرطوشة، ومن ولد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يكنى أبا القاسم، روى عن أبي بكر أحمد بن الفضل الدينوري، سمع منه بقرطبة سنة 346، وروى أيضا عن أحمد بن معروف وغيرهما، وحدث وأسمع. روى عنه ابنه أبو مروان عبيد الله بن خلف وأبو المطرف بن حجاف، وأبو محمد بن أبي دليم من شيوخ أبي داود المقري، سمع منه بطرطوشة سنة 405، وهو إذ ذاك ابن تسع وسبعين سنة، وتوفي ليلة السبت للنصف من رمضان سنة 408، ودفن يوم السبت بمقبرة طرطوشة وقد نيف على الثمانين، ذكره ابن بشكوال، وغلط فيه هو والحميدي قبله، ولم يذكرا وفاته ولا جودا خبره، وهما عندي عن أحمد بن أبي زكريا العائذي، وأبي عمر بن عياد، وغيرهما، قال ابن الأبار
10
في التكملة.
وخلف بن تقي الأموي من أهل طرطوشة، يكنى أبا القاسم، روى عن أبي سعيد خلف الفتى الجعفري، وكان سماعه منه في سنة خمس وعشرين وأربعمائة، ولم يذكر ابن الأبار القضاعي في كتابه التكملة عن هذا الرجل سوى هذين السطرين.
وخلف بن فتح بن عبد الله بن جبير من أهل طرطوشة يعرف بالجبيري، ويكنى أبا القاسم، وهو والد أبي عبيد القاسم بن خلف الجبيري الفقيه، كانت له رحلة إلى المشرق ومعه رحل ابنه، وهو صغير، وكان من أهل العلم والنزاهة، وعليه نزل القاضي منذر بن سعيد بطرطوشة في ولايته قضاء الثغور الشرقية. أخبر أبو بكر بن أبي جمرة عن أبيه عن أبي عمر النمري إجازة، قال: أخبرني أبو مروان عبيد الله بن قاسم الكزني، وكان من ثقات الناس وعقلائهم، عن أبي عبيد الله القاسم بن خلف الجبيري الطرطوشي، قال: نزل القاضي منذر بن سعيد على أبي بطرطوشة، وهو يومئذ يتولى القضاء في الثغور الشرقية قبل أن يلي قضاء الجماعة بقرطبة، فأنزله في بيته الذي يسكنه، فكان إذا تفرغ نظر في كتب أبي فمر على يديه كتاب فيه أرجوزة ابن عبد ربه يذكر فيها الخلفاء، ويجعل معاوية رابعهم، ولم يذكر عليا فيهم، ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء من بني مروان إلى عبد الرحمن بن محمد، فلما رأى ذلك منذر غضب وسب ابن عبد ربه، وكتب في حاشية الكتاب:
أوما علي لا برحت ملعنا
يا بن الخبيثة عندكم بإمام
رب الكساء وخير آل محمد
داني الولاء مقدم الإسلام
قال أبو عبيد: والأبيات بخطه في حاشية كتاب أبي إلى الساعة. وكانت ولاية منذر للثغور مع الإشراف على العمال بها والنظر في المختلفين من بلاد الإفرنج إليها سنة 330.
وخلف مولى جعفر الفتي أبو سعيد المقرئ بطرطوشة، توفي سنة 525، هكذا جاء في بغية الملتمس للضبي، ويظهر أنه وقع خطأ في الرقم، والصحيح أنه توفي سنة 425 لا 525، وقد ترجمه ابن بشكوال في الصلة ، فقال: خلف مولى جعفر الفتي المقرئ يعرف بابن الجعفري، سكن قرطبة، يكنى أبا سعيد، روى بقرطبة عن أبي جعفر بن عون الله وغيره، ورحل إلى المشرق، وسمع بمكة من أبي القاسم السقطي وغيره، وبمصر من أبي بكر الإدفوي، وأبي القاسم الجوهري، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، وبالقيروان من أبي محمد بن أبي زيد وغيره.
ذكره الخولاني وقال: كان من أهل القرآن والعلم نبيلا من أهل الفهم، مائلا إلى الزهد والانقباض، وحدث عنه أبو عبد الله بن عتاب وقال: كان خيرا فاضلا منقبضا عن الناس، وخرج عن قرطبة في الفتنة وقصد طرطوشة، وتوفي بها سنة 425، وقال أبو عمرو المقرئ: توفي في ربيع الآخر سنة 429.
وأبو محمد عبد الله بن فيره من أهل طرطوشة، كان عالما بالفرائض والحساب معلما بذلك، أخذ عنه أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي، وحكى عنه أنه سمعه يقول:
اكترى تاجر من جمال جمله، فلما استوى على ظهره صرخ بأعلى صوته:
يا حبذا صلصلة الدراهم
عند حلول الكرب العظايم
فأجابه الجمال:
لولا هواها لم أكن ملازم
خدمة من لست له بخادم
نقلنا هذا عن ابن الأبار في التكملة.
وعبد الله بن موسى التميمي، من أهل طرطوشة، يكنى أبا محمد، أخذ القراءات عن أبي داود سليمان بن نجاح، وتصدر للإقراء ببلده، وأخذ عنه أبو علي بن عريب، عرض عليه القرآن غير مرة بالسبع، قال أبو العباس بن اليتيم: وفيه عن ابن عياد. قاله ابن الأبار في التكملة.
ونافع بن أحمد بن عبد الله الأنصاري من أهل طرطوشة، سمع بدانية أبا بكر بن برنجال، وبمرسية القاضي أبا بكر بن أسود، ورحل إلى إشبيلية، فسمع بها من القاضي أبي الحسن شريح بن محمد موطأ مالك وصحيح البخاري، وأجاز له جميع روايته في رمضان سنة 535، وكان فقيها مشاورا معنيا بسماع العلم وروايته، قال ابن الأبار في التكملة: قرأت بعض خبره بخط ابن خير.
وأحمد بن مالك بن مرزوق بن مالك بن عباس الطرطوشي، يكنى أبا العباس، ولي قضاء بلده، وله نباهة ورواية عن أبيه وعن أبي محمد البطليوسي، وتفقه بأبي محمد بن أبي جعفر، انتقل في تملك الروم طرطوشة إلى بلنسية، فتوفي بها سنة 553، ترجمه ابن الأبار في المعجم الذي ذكر فيه أصحاب القاضي أبي علي الصدفي.
ومحمد بن يحيى بن مالك بن يحيى بن عائذ ولد أبي زكريا الراوية، من أهل طرطوشة، يكنى أبا بكر، تأدب بقرطبة، وسمع بها من قاسم بن أصبغ، ومحمد بن معاوية القرشي، وأحمد بن سعيد، ومنذر بن سعيد، وأبي علي القالي، وغيرهم، وكان حافظا للنحو واللغة والشعر، يفوت من جاراه على حداثة سنه، شاعرا مجيدا مترسلا بليغا، ورحل مع أبيه إلى المشرق سنة 349، فسمع بمصر من ابن الورد، وابن السكن، وحمزة الكناني، وأبي بكر بن أبي الموت، وغيرهم. وسمع أيضا بالبصرة وبغداد، وخرج إلى فارس، وسمع هناك، وجمع كتبا عظيمة، وأقام بها إلى أن توفي بأصبهان معتبطا مع الستين وثلاثمائة، ومولده بطرطوشة صدر ذي القعدة سنة 323، ذكره ابن حيان، وقد نقلنا هذه الترجمة عن ابن الأبار.
ومحمد بن عبد الجبار الطرطوشي، وفد إلى المشرق، ذكره العماد في الخريدة، ونقل ذلك صاحب نفح الطيب عنه، ولم يذكر من أحواله سوى أنه كان يخضب بسواد الرمان.
ومحمد بن حسين بن محمد بن عريب الأنصاري من أهل طرطوشة، يكنى أبا عبد الله.
سكن سرقسطة، وتجول كثيرا في بلاد الأندلس والعدوة، وغلب عليه علم العبارة؛ فشهر بها، وكان وجيها عند الملوك، مترددا عليهم، ورغب إليه أبو بكر بن تغالويت أمير سرقسطة في إقراء ابنه، فأجابه إلى ذلك، وتصدر هنالك في سنة 1508 «من خط ابن عياد»، روى ذلك ابن الأبار في التكملة.
وعبد الرحمن بن معاوية، من أهل طرطوشة، استشهد في قتال الروم سنة 288، قال الضبي في بغية الملتمس، ذكره أبو سعيد: وطاهر بن حزم مولى بني أمية من أهل طرطوشة، روى عن يحيى بن يحيى بن كثير الليثي وغيره، مات بالأندلس سنة 285 شهيدا في المعرك، ذكره في بغية الملتمس.
ومحمد بن أحمد بن عامر البلوي، من أهل طرطوشة، وسكن مرسية ، يعرف بالسالمي؛ لأن أصله من مدينة سالم، ويكنى أبا عامر. كان من أهل الأدب والعلم والتاريخ، وله في ذلك كتاب سماه «بدرر القلائد وغرر الفوائد»، وله أيضا في اللغة كتاب حسن وكتاب في الطب سماه الشفا، وكتاب في التشبيهات، وكتب للأمير محمد بن سعد، وكان له حظ من قرض الشعر حدث عنه عبد المنعم بن الفرس، لقيه بمرسية، وأبو القاسم بن البراق كتب إليه، وتوفي سنة 559 أو نحوها ذكره ابن الأبار.
وأبو علي حسين بن محمد بن حسين بن علي بن عريب الأنصاري من أهل طرطوشة، أخذ القراءات ببلده عن أبي محمد بن مؤمن، وبسرقسطة عن ابن الوراق، وتفقه بأبي العباس بن مسعدة قاضي طرطوشة، وروى الحديث عن أبي علي الصدفي، وأبي بكر بن العربي، وسمع من أبي العرب الصقلي الشاعر أدب الكاتب لابن قتيبة، لقيه بطرطوشة، وقد قارب المائة سنة، وسكن المرية، ثم تحول إلى مرسية، وكان من الأدباء المعدودين.
وروى ابن الأبار في التكملة أنه أخذ العربية والآداب عن أبي محمد بن السيد، وأبي بكر اللباني، وأبي محمد عبد الله بن فرج السرقسطي، وأنه صحب أبا القاسم بن ورد، وحكى أبو العباس بن اليتيم أنه أخذ القراءات أيضا عن أبي طاهر بن سوار، وأنه كان يروي أدب الكاتب بعلو عن أبي بكر بن عبد البر عن أبي يعقوب بن خر زاد النجيرمي عن أبي الحسين المهلبي عن القاضي أبي جعفر بن قتيبة عن أبيه أبي محمد، وهو سند عزيز الوجود. قال ابن الأبار: إنه انتقل من سرقسطة إلى المرية، فأقرأ بجامعها، وخرج منها قبل الأربعين وخمسمائة، وكان شيخنا أبو محمد بن غلبون يقول: إنه خرج منها لما دخلها النصارى في سنة اثنتين وأربعين، فاستوطن مرسية، وتصدر للإقراء بها، وقدم للصلاة والخطبة بجامعها، وانفرد في وقته بطريقة الإقراء، وأخذ عنه الناس، وكانت له حلقة عظيمة ، وكان ربما علم بالعربية، والغالب عليه التجويد والتحقيق، قال: وكان أديبا حسن البلاغة سلس القياد في الخطابة، حسن الخط (من فوائد ابن حبيش).
وأبو محمد بن شعيب بن سعيد العبدري من أهل طرطوشة، سكن الإسكندرية، روى عن أبي عمرو السفاقسي وأبي محمد الشنتجيالي. وأبي حفص الزنجاني، وأبي زكريا البخاري، وأبي محمد عبد الحق بن هارون وغيرهم، لقيه القاضي أبو علي بن سكرة بالإسكندرية، وأجاز له، وحدث عنه أبو الحسن العبسي المقري (ترجمه ابن بشكوال في الصلة).
وأبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن عائذ الطرطوشي، سمع من أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي وأبي العباس العذري وغيرهما، وتوفي في سنة 495 (ترجمه ابن بشكوال في الصلة).
وأبو الحسن علي بن صالح بن أبي الليث بن أسعد العبدري بن عز الناس. ولد بطرطوشة، ونشأ بدانية، ورأس الفتوى بها، وقتله السلطان محمد بن سعد بن مردنيش سنة 567، سمع أبا محمد بن الصيقل، وأبا بكر بن العربي، وأبا القاسم بن ورد، وكان فقيها متقنا وعالما بالأصول والفروع، دقيق النظر، جيد الاستنباط، لسنا فصيحا، وكان كبير فقهاء دانية، أخذ عنه أبو عمر بن عياد، وابنه محمد، وأبو محمد بن سفيان، وأسامة بن سليمان، وأبو القاسم بن سمحون، وكانت ولادته سنة 508 في طرطوشة (ترجمه ابن الأبار).
وعتيق بن علي بن سعيد بن عبد الملك بن رزين العبدري أبو بكر، يعرف بابن العقار، أصله من طرطوشة، نشأ بميورقة، واستوطن بلنسية، وقرأ على ابن هذيل، وابن النعمة، وأبي بكر بن نمارة، وأجاز له السلفي، وكان من أهل التحقيق والتقدم في الإقراء مع الفقه والبصر بالشروط، ولي قضاء بلنسية وخطابتها، قال ابن الأبار في التكملة: وكانت في أحكامه شدة، أخذ عنه الناس القراءات والحديث، وقرأ عليه بالسبع محمد بن إبراهيم بن جوبر، وذكر وفاته سنة 600، وقال: إنه ولد سنة ثلاث وثلاثين بعد الخمسمائة.
وعقيل بن عطية أبو طالب القضاعي، المراكشي الدار، الطرطوشي الأصل، روى عن ابن بشكوال، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي نصر فتح بن محمد، وولي قضاء غرناطة ، وكان مقدما في الحديث، وله رد على أبي عمر بن عبد البر وتنبيه على أغلاطه، سمع منه أبو جعفر بن الدلال، وأبو الحسن بن منخل الشاطبي، وولي بآخرة من عمره قضاء سجلماسة، وتوفي بها في صفر سنة 608 عن ستين سنة (ترجمه ابن الأبار في التكملة).
وأحمد بن أيمن الطرطوشي، فقيه مشهور، رحل إلى المشرق، وسمع من محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي وغيره، ذكره أبو الوليد بن الفرضي (ترجمه ابن عميرة في بغية الملتمس).
وأحمد بن علي السبتي المعروف بالطرطوشي أبو العباس، فقيه محدث، يروي عن أبي علي الصدفي وغيره (ترجمه ابن عميرة في بغية الملتمس).
ومحمد بن علي بن عبد الرحمن بن عائذ الطرطوشي، ومن بيت أبي زكريا العائذي، أجاز له أبو علي كتاب آداب النفوس لأبي جعفر الطبري، وقرأت ذلك بخط أبي علي، وأبوه على أحد أصحاب الباجي والعذري وبقراءته، سمع الصدفي بحاضرة بلنسية صحيح مسلم على العذري في سنة 474، وقد ذكره ابن بشكوال.
وأبو الإصبغ عبد العزيز بن علي بن عبد العزيز من أهل طرطوشة، سمع من أبي بحر الأسدي وغيره، كان من أهل الفقه والأدب، عارفا بالفرائض والحساب، مشاركا في الطب، توجه رسولا من أهل بلدة طرطوشة إلى يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين، فتوفي بغرناطة سنة 523.
وصارم بن عبد الله بن تمحيص، ولي قضاء طرطوشة وقضاء بلنسية.
وصارم بن تمحيص بن صارم بن عبد الله بن تمحيص، وهو حفيد المتقدم الذكر، وهم بيت مجد ونباهة.
وأبو عامر محمد بن عبد الوهاب بن عبد الملك بن غالب بن عبد الرءوف بن غالب بن نفيس العبدري، من بلنسية، أصله من طرطوشة، يكنى أبا عامر، سمع من أبي محمد البطليوسي، وأبي محمد بن عطية، وكتب بخطه علما كثيرا، وكان ضابطا حسن الوراقة (عن ابن الأبار).
ولاوي بن إسماعيل بن ربيع بن سليمان، يكنى أبا الحسن، من أهل طرطوشة. قال ابن الأبار في التكملة: حدثت أن أصله من غرب العدوة، صحب أبا داود المقرئ وأخذ عنه القراءات، ولازمه بدانية من سنة 481 إلى سنة 491، وله سماع على أبي علي الصدفي.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف الميورقي، أصله من طرطوشة، وقد ترجم لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الإكليل أديبا جليلا اسمه أبو الحجاج يوسف بن علي الطرطوشي.
ونعم الخلف بن عبد الله بن أبي ثور الحضرمي من أهل طرطوشة أو ناحيتها، رحل إلى المشرق، وأدى الفريضة، ولقي بمكة أبا عبد الله بن محمد بن عبد الله الأصبهاني، فسمع منه في سنة 422، حدث عنه ابنه القاسم بن نعم الخلف بيسير (ترجمه ابن الأبار في التكملة).
وأبو عبد الله محمد بن يونس بن سلمة الأنصاري يعرف بالطرطوشي؛ لأن أصله منها، وإنما ولد ببلنسية سنة 509، كتب عنه ابن عياد، وترجمه ابن الأبار في التكملة. هذا ما حضرنا الآن من أسماء من نبغ في العلم من أهل طرطوشة. ثم نعود إلى جغرافية البلاد فنقول: إذا سار المسافر من طرطوشة جنوبا قاصدا إلى بلنسية مر به القطار الحديدي على جسر من الحديد فوق نهر إبره، فيمر بمناظر بديعة وبقاع مريعة واقعة بين جبلي «مونتسيا
Montsio » و«كارو
Coro » علو الأول 764 مترا، والثاني 860 مترا، وبعد أن يجتاز مسافة 14 كيلومترا من طرطوشة يصل إلى بلدة يقال لها: «أولديكونه
Uldecona »، وسكانها نحو من سبعة آلاف نسمة، موقعها بحذاء جبل مونتسيا الذي ذكرناه، وفي هذه البلدة برج مثمن. ثم يمر فوق نهر «سينيه
Cenia » الذي هو الحد الفاصل بين مملكة بلنسية القديمة وبين كتلونية، ويجد المسافر عن اليمين برجا مربعا من بقايا حصن قديم، وينظر البحر من عن شماله. وعلى مسافة 44 كيلومترا من طرطوشة توجد مدينة «فيناروز
Vinaroz » أهلها نحو من تسعة آلاف أكثرهم صيادو سمك وفيها بعض معامل
11
ثم تصل إلى مدينة «موريلا
Morella »
12
سكانها ثمانية آلاف نسمة، وكان يقال لها في القديم «كاسترا آليا
Castra Aelia » في زمن الرومانيين، وهي على مسافة ستين كيلومترا إلى الشمال الغربي من فيناروز، ولها جبال شديدة الارتفاع، وكان لهذه البلدة شأن عظيم نظرا لمنعتها، وشاع ذكرها في الحرب الكرلوسية سنة 1840، وفيها كنيسة باسم السيدة مريم يرجع عهد بنائها إلى سنة 1317، ومن موريلا طريق عربات إلى «الكنيت
Alcaniz » يصل الراكب من موريلا إلى الكنيت بعد قطع 83 كيلومترا.
هوامش
بنشكلة وعلماؤها
وعلى مسافة خمسين كيلومترا من طرطوشة مدينة بني كارلو
Benicarlo ، وسكانها ثمانية آلاف ولها حصن قديم، وفيها كنيسة بديعة لها قبة جرس مثمنة مزينة بالزليج الأزرق، وإلى الشمال من هذه البلدة حصن بنشكلة
1
ويسمى هذا الحصن بجبل طارق بلنسية؛ لأنه جزيرة متصلة بالبر بلسان من الرمل، وقد بقي هذا الحصن في أيدي العرب إلى سنة 1233، فاستخلصه منهم جاك الأول ملك أراغون. وقد دخل الفرنسيس هذا الحصن سنة 1811، وقد أقام أحد البابوات بهذا الحصن، وهو البابا بندكتس الثامن الذي أعلن مجمع كونستانزا إسقاطه من البابوية، فجاء بكرادلته إلى هذا الحصن وأقام به سبع سنين إلى أن مات، وذلك سنة 1424.
2
ثم إن الخط الحديدي ينحرف عن الساحل مصعدا في الوادي الذي بين جبال «إيرته
Irta » وجبال «أتاليا القلعة
Atalya Alcala »، وعلى مسافة 72 كيلومترا من طرطوشة قلعة «شيبر
Chiber »،
3
وهي التي يظن المستشرق دوزي أنها الرابطة التي كان يقول لها العرب: رابطة «كشطالي»، وقد ورد ذكرها في كتاب الشريف الإدريسي، وقال: إنها رابطة منيعة على نحر البحر الشامي يسكنها قوم أخيار. وعلى مسافة 78 كيلومترا من طرطوشة بلدة يقال لها: «طوربلانكه
Torreblanca » بيوتها أشبه بأبراج وعلى شمالها قرية يقال لها البلاط، في مستنقع من الأرض، ثم قرية اسمها «أوروبيزه
Oropésa »، ومن هناك تبدأ بمشاهدة جنان البرتقال، ويستقبلك جبل فيخترقه الخط الحديدي في نفق وعلى مسافة 110 كيلومترات من طرطوشة بلدة بني قاسم
Benicasim ، وهي ذات موقع بديع، وفيها برتقال ونخل، وقبة كنيستها مزخرفة بالزليج، وعلى مسافة 12 كيلومترا من هناك مدينة «قسطلون البلانة
Castellondelaplana »، وهي مدينة سكانها 38 ألف نسمة، وهي مركز مقاطعة، كما أنها مركز تجارة عظيمة للبرتقال، ولها فرضة على البحر يقال لها: «غراو
Grao » تتصل بخط حديدي إلى البلدة وإلى هذه البلدة ينسب مصور شهير اسمه «ريبالته
Ribalta » وله تصاوير محفوظة في هذه البلدة أحدها في الكنيسة الكبرى.
وفي هذه البلدة أيضا تمثال للملك جايم الذي بناها وهو من ملوك أراغون. ثم يمر القطار الحديدي بمكان اسمه المجر
Mijiares
على جسر ثلاث عشرة قوسا فوق قناة قسطلون المشتقة من النهر. وقد تقدم لنا الكلام في الجزء الأول من هذا الكتاب في ما علقناه على كلام الشريف الإدريسي نقل ما ورد في دليل بديكر عن الجسر وهذه القناة؛ فإنه قال: إنها تحفة بديعة من بدائع هندسة العرب تسقي تلك الأراضي منذ ستمائة سنة.
4
ومن هناك تفيض إلى بلدة يقال لها: «فيلا ريال
Villareal »، وهي بلدة عدد سكانها ستة عشر ألف نسمة، وكنيستها ذات قبة مصنوعة بالزليج، ولها قبة جرس مثمنة، وموقع هذه البلدة من أجمل المواقع، وفيها بساتين البرتقال يتخللها بعض النخيل، والنساء هناك تستقي بأباريق غريبة الشكل ترجع إلى عهد قديم.
ولا تزال مياه المجر تتوزع على تلك البساتين إلى مدينة «بوريانة
Buriana » التي يصدر منها برتقال كثير. وانظر ما قال الإدريسي عن بوريانة؛ فقد ذكر أنه من حصن بنشكلة إلى عقبة أبيشة
5
سبعة أميال، وقال: إن هذه العقبة جبل معترض عال على البحر، والطريق عليه لا بد من السلوك على رأسه، وهو صعب جدا، ونحن نظن أن هذا الجبل هو الذي تقدم ذكره قبل الوصول إلى قرية بني قاسم، وأن الخط الحديدي يخترقه بواسطة نفق، ثم يقول: إن منه إلى مدينة بوريانة غربا 25 ميلا، ويقول: إن مدينة بوريانة
Buriana
مدينة جليلة عامرة كثيرة الخصب والأشجار والكروم، وهي في مستو من الأرض، وبينها وبين البحر نحو من ثلاثة أميال.
6
ويقول الإدريسي: ومن بوريانة إلى مرباطر - وهي قرى عامرة وأشجار ومستغلات ومياه متدفقة - 60 ميلا، وكل هذه الضياع والأشجار على مقربة من البحر، ومنها إلى بلنسية 12 ميلا.
7
هوامش
مدينة المنارة
ثم إنك تصل إلى مدينة «المنارة»، وكان حصنها في القديم لعهد العرب مفتاح المملكة البلنسية. ويظهر أنه وجد في الأندلس عدة منابر؛ فإن ياقوت الحموي في المعجم يذكر إقليم المنارة بالأندلس ويقول: إنه بقرب شذونة. ثم ينقل عن أبي طاهر السلفي ترجمة رجل يقال له أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن سلامة الأنصاري المناري؛ نسبة إلى «منارة» من ثغور سرقسطة. ولا يزال يوجد في ناحية سرقسطة بلدة اسمها المنارة، ثم يذكر السلفي اسم رجل يقال له أبو الفتح محمد المناري، وآخر اسمه علي بن محمد المناري، كان يصحب أبا عبد الله المغامي.
فأما المنارة التي في إقليم شذونة فلا شك بأنها ليست هذه؛ لأن إقليم شذونة هو في جنوبي إشبيلية بعيد جدا عن منارة بلنسية. وفي منارة بلنسية هذه كانت الوقعة المشئومة على المسلمين سنة 1238، وعلى أثرها استولى جاك الأول ملك أراغون على المملكة البلنسية، وقد بنى الإسبانيون كنيسة في المكان الذي وقعت فيه الواقعة، ولا يزال في بلدة المنارة بقايا هيكل قديم، وفي محل يقال له «شلبة
Chelva » قناة معلقة قديمة، وفي مكان آخر يقال له «كابان
Cabane » قنطرة قديمة، وهناك كتابات قديمة من أنواع شتى تدل على عظمة البلاد في الأعصر الغابرة. ثم إن هناك قرية يقال لها: فالس
Valles
تحيط بها عدة قرى كلها في مرج الفيح مشهور بالغلات لا سيما الحنطة، ثم تتقدم فتقطع نهرا يقال له نهر بلانسية
.
1
هوامش
مربيطر
لا يجري في الصيف عن يمينه الخط الحديدي الذاهب إلى قلعة أيوب، فتصير هناك إلى مدينة «ساقونتو
Sagonto »، وهي مدينة أهلها اليوم سبعة آلاف لا غير، واقعة على يمين نهر «بلانسية» بحذاء رابية شامخة مشمخرة منقطعة من جميع جهاتها مغطاة بالأبراج والأسوار، وكان العرب يقولون لهذه البلدة مرباطر أو مربيطر
Murbiter ، ومعنى هذه اللفظة «الأسوار القديمة»، وهي محرفة عن
Muriveteres ، وكان الإسبانيون إلى عهد قريب يسمونها مربيدرو
Murvidero ، ونحن لا نذكرها إلا تحت اسم مربيطر بعد أن توخينا في جميع كتابنا إحياء الأسماء العربية في الأندلس، وإيراد جميع الأسماء فيها على الوجه الذي كان يتلفظ به العرب.
فنقول: إن مربيطر كان يقال لها في القديم لعهد القرطاجنيين والرومان «ساقونتوم
Saguntum »، وهي بلدة أيبيرية في الأصل يقال: إنه كانت فيها جالية يونانية اتفقت مع الرومانيين على إدخالهم في هذه البلدة، وذلك قبل المسيح بمائتين وعشرين سنة، وكان لقرطاجنة مملكة عظيمة في إسبانية، فخاف أنيبال بن أميلكار خلف أسدروبال الأسد الرئبال
1
أن يتبسط الرومان في إسبانية، فزحف إلى مربيطر في ربيع سنة 219، فقاومه أهل مربيطر مقاومة شديدة، وجرح أنيبال في المعركة، وكان في جيش القرطاجنيين آلة قتال يقال لها الكبش، تقذف بالشرر، ولها رءوس محددة من كل جهة، فقلما كان العدو يثبت أمام هذا الكبش النطاح، إلا أن أهل مربيطر ثبتوا أمامه بشدة المقاومة التي امتاز بها الإسبانيون. ولا تزال هذه المزية تظهر فيهم في جميع حروبهم القديمة والحديثة، فإنهم يستبسلون في المقاومات استبسالا قلما يتحدث به التاريخ عن أمة من الأمم.
تأمل في الحروب الكارلوسية التي نشبت فيما بينهم، وفي الحرب التي وقعت بين الفرنسيس والإسبانيين عندما زحف بونابرت على إسبانية. وتأمل أيضا في الحرب الأهلية الواقعة بينهم اليوم بينما نحن نكتب هذه السطور سنة 1938م، كم استبسل فيها الفريقان: الحزب المحافظ من جهة، والحزب الاشتراكي والشيوعي من جهة أخرى، وكم احتقر الموت كل منهما. إنك إذا تأملت تقضي العجب من صلابة رءوس هذه الأمة واستخفافها بالمنايا في جانب حقدها وإحنتها، حتى إن الفريق المغلوب منها يؤثر الموت على الاستسلام وإن لم تبق في يده حيلة آثر أن يموت صبرا بيد عدوه على أن ينقاد إليه ويقبل حكمه. وهذا قد حير جميع الواقفين على وقائع هذه الحرب التي بدأت بين الإسبانيين؛ أي منذ عامين، وتفجرت فيها دماؤهم كالأنهار، وظهرت فيها من الفريقين قسوة في استئصال بعضهم بعضا لم يكن الناس يظنونها باقية فيهم إلى هذا العصر الذي رقت فيه الطباع، وتغيرت الأوضاع.
وكل هذا في الحقيقة يزيد في عظمة شأن العرب الذين غزوا هذه الأمة الشديدة الصليبة في عقر دارها، واكتسحوا بسائطها، وسخروا شم جبالها ورجالها، وأرغموا معاطس أجنادها وأبطالها، وضربوا عليهم الذلة والمسكنة من جبل طارق إلى جبال البرانس وإلى خليج غشقونية، ولبثوا عدة قرون وهم سادة هذه الأرض لا ينازعهم فيها منازع إلا كبوه على أم رأسه وعدة قرون أخرى وهم في جلاد شديد مستمر مع هذه الأمة الإسبانيولية، التي لا تعرف للموت معنى كما هو ظاهر من ماجريات الحرب التي نحن شاهدوها الآن، فلا جرم أن هذه الحرب أتت بشاهد جديد على فضل العرب إلى مدى لم يكن الناس يتصورونه من قبل، وأثبتت أن الأمة التي تأتي من وراء البحر وتتغلب على أمة صلبة العود كهذه الأمة، وتقارعها مدة ثمانمائة سنة في وسط دارها لهي أمة خارقة العادة في البأس وقوة الإرادة.
ثم نعود إلى حصار القرطاجنيين لمربيطر، فنقول: إنهم توصلوا إلى خرق خط الحصار، ودخلوا من ثلمة في أسوار البلدة؛ فردهم الإسبانيون إلى الوراء بمساعدة الرومانيين، فكر القرطاجنيون كرات تشيب لها النواصي، وهدموا السور الأول، فشيد الإسبانيون أسوارا ثلاثة الواحد وراء الآخر، وكاد القرطاجنيون يقطعون الأمل من أخذ البلدة، وإذا بالرومانيين قد تخلوا عن الإسبان وتركوا ساحة الحرب، فبعد حصار استمر ثمانية أشهر دخل أنيبال قلعة مربيطر عنوة وقتل أكثر رجال هذه البلدة بذباب السيف؛ لأنهم على عادتهم في حروبهم يفضلون الموت على استسلامهم للعدو، وقد ورد وصف هذا الحصار في كتب باقية من عهد أنيبال أو حن بعل.
وقد استرجع الرومان مربيطر سنة 214، ولكن لم تعد إلى أهميتها الأولى، ولا نريد أن نقول: إن مربيطر كانت في زمن الرومان كمية مهملة، وكيف يمكن أن يقال ذلك وفيها ذاك المرزح الروماني الشهير للتمثيل، وفيها ملعب الخيل المدهش؟ وكانت مربيطر لعهد الرومان تضرب فيها السكة، وكانت بها معامل خزف هي مضرب الأمثال في نوعها.
فأما ملهى التمثيل الروماني الذي سارت بذكره الركبان، فموقعه على نصف المسافة بين أرض المدينة والقمة التي عليها القلعة، وقد لعبت بهذا الملهى أيدي العامة، فكانوا يبنون من حجارته، ولم تصدر أوامر الحكومة بالمحافظة عليه إلا في أواخر القرن التاسع عشر، فمحل التمثيل لم يبق منه تقريبا شيء، وإنما بقي أقباء رائعة عند المدخل وأجنحة من مقاعد المتفرجين، وهي مساحة تستوعب ثمانية آلاف مقعد على عدة صفوف تبلغ عشرة لكل صف منها درجات، وهي منفصلة بعضها عن بعض بثلاثة مماش كل ممشى أوسع من الآخر، والصفوف هي أوسع من العليا، وكانوا يصعدون إلى الطبقات العليا بأروقة رحبة ممتدة تحت درجات المقاعد بارتفاعات مختلفة، ولها مخارج نافذة إلى السلالم والمماشي الواسعة. وإن مسارح اللمحات التي تحيط بهذا الملهى من بدائع الطبيعة لتزيد في جماله.
فأما القلعة فيوصل إليها بجسر نقال يفاض منه إلى ساحة يقال لها ساحة أرماس
Armas ، وهناك باب اسمه باب محمد يؤدي من جهة الغرب إلى ساحة يقال لها غوبرنادور
Gobernador
واقعة في مطمئن من الأرض بين ارتفاعين؛ أحدهما إلى الغرب والثاني إلى الشرق، ثم يصعد المتفرج إلى حصن «سقونتوه» على نقطة فيه يقال لها: عمود اللواء
Bandera ، وعلى جدران هذا الحصن نقوش وكتابات منها ما هو من زمن الرومان. والنظر يمتد من هناك على ساحل بني قاسم إلى جبل «مونغو» وجبال القنت، وترى من هذه القلعة قباب بلنسية، وفي الساحة المسماة مايو
Mayo
صهريج ماء كبير من صنع العرب، ويعود المتفرج إلى ساحة «غوبرنادور»، فيرى الهوة العميقة التي أمام مدخل القلعة، ثم يصعد من ناحية الشرق تدريجا إلى المنارة، وهي قلعة دارسة، ولكن منظرها بديع يسرح فيها الطرف من جهة البحر والساحل والمدينة، وهناك ساحة يقال لها ساحة إيكو
Eco
عندها آثار رومانية وإلى الجنوب صهاريج كبيرة يقال إنها من بناء الرومان، وهناك كنيسة يقال لها: سان سلفدور، أصلها جامع.
أما ملعب الخيل فإنه يمتد على ضفة وادي بلنسية طوله 285 مترا وعرضه 72 مترا، ولكن قد تحيفت منه البساتين، وفي القسم العالي منه نهير عليه جسر روماني.
وقد جاء ذكر مربيطر في معجم البلدان فقال: مربيطر - بالضم ثم السكون وباء موحدة مفتوحة وياء مثناة من تحت ساكنة وطاء مفتوحة وراء - مدينة بالأندلس بينها وبين بلنسية أربعة فراسخ، وفيها الملعب، وهو إن صح ما ذكروه من أعجب العجائب؛ وذلك أن الإنسان إذا صعد فيه نزل وإذا نزل فيه صعد.
ينسب إليها قاضيها ابن خيرون المربيطري، وسفيان بن العاصي بن أحمد بن عباس بن سفيان بن عيسى بن عبد الكبير بن سعيد الأسدي المربيطري، سكن قرطبة، يكنى أبا بحر، روى عن أبي عمر بن عبد البر الحافظ، وأبي العباس العذري وأكثر عنه، وعن أبي الليث نصر بن الحسن السمرقندي، وأبي الوليد الباجي وغيرهم، وكان من جلة العلماء وكبار الأدباء، سمع الناس منه كثيرا، ولقيه ابن بشكوال وحدث عنه، ومات لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة 520، ومولده سنة 440، انتهى كلام ياقوت الحموي.
قلت: وممن ينسب إلى مربيطر من أهل العلم لب بن أحمد بن عبد الودود بن غالب بن زنون، من أهل مربيطر، ترجمه ابن الأبار في التكملة، وكنيته أبو عيسى. روى عن القاضي أبي عبد الله بن سعادة وغيره، ومال إلى الأدب، وعني بصناعة النظم فبرح وأبدع، قال ابن الأبار: سمعت أبا الربيع بن سالم يثني عليه، وأنشدني من شعره، ولم يذكر تاريخ وفاته.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن حصن الأنصاري، من ولد سعيد بن سعد بن عبادة - رضي الله عنهما - أصله من شارقة من مملكة بلنسية، وسكن عقبه مربيطر، سمع من أبي الوليد الوقشي، ولازمه من سنة إحدى وثمانين إلى سنة أربع وثمانين بعد الأربعمائة، وأخذ عنه الموطأ، وكان حسن الخط ذا عناية بالعلم نبيه البيت معروفا بالسرو، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة، قاله ابن الأبار في التكملة.
والإمام الذي ذكره ياقوت في معجم البلدان هو سفيان بن العاصي بن أحمد بن العاصي بن سفيان بن عيسى بن عبد الكبير بن سعيد الأسدي، سكن قرطبة، وأصله من مربيطر، وكنيته أبو بحر. قال ابن بشكوال في الصلة: أخذ عن أبي عمر بن عبد البر، وأبي العباس العذري، وأبي الليث السمرقندي، وأبي الوليد الباجي، وطاهر بن مفوز، واختص بالقاضي أبي الوليد بن أحمد الكناني، وكذلك إنه أخذ عن أبي عبد الله بن سعدون القروي، وأبي إسحاق الكلاعي، وأبي داود المقري، وأجاز له عيسى بن أبي ذر الهروي، وكان من جلة العلماء وكبار الأدباء ضابطا لكتبه صدوقا في روايته حسن الخط جيد التقييد، من أهل الرواية والدراية، سمع الناس منه كثيرا.
قال ابن بشكوال: وحدث عنه جماعة من شيخونا، واختلفت إليه، وقرأت عليه، وسمعت كثيرا من روايته، وأجاز لي بخطه سائرها غير مرة. قال: وتوفي شيخنا أبو بحر - رحمه الله - ليلة الأربعاء أول الليل لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة 520، ودفن يوم الأربعاء بعد العصر بالربض، وصلى عليه أبو القاسم بن تقي، وكان مولده سنة 440.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن أبي الفتح بن حصن بن لربيق بن عفيون بن عفايش بن رزق بن عفيف بن عبد الله بن رواحة بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي، أصله من شارقة، سكن مربيطر، سمع من صهره أبي علي بن بسيل، وولي قضاء مربيطر مضافا إلى الصلاة والخطبة بها، وكان سريا نزيها. قال ابن الأبار في التكملة: وهو خال شيخنا أبي الخطاب بن واجب سماه ابن سفيان في معجم شيوخه، وتوفي سنة 567.
وأبو عبد الله محمد بن هشام بن عبد الله البتي المربيطري أدرك أبا محمد البطليوسي، وسمع من ابن الدباغ، تولى الصلاة والخطبة والأحكام بمربيطر، سماه ابن سالم في معجم شيوخه، ونقل ابن الأبار عن ابن سالم أنه توفي سنة 581.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن هذيل العبدري من أهل مربيطر، وأصله من أبيشة
2
بالباء من ثغور بلنسية، وهي التي تنسب إليها عقبة أبيشة التي ذكرها الشريف الإدريسي في كلامه عن البلاد الواقعة بين طرطوشة وبلنسية، روى أبو عبد الله محمد هذا عن أبيه أبي العباس وغيره، ورحل حاجا، فسمع بمكة من أبي الحسن علي بن حميد الطرابلسي، وبالإسكندرية من أبي الطاهر بن عوف، وأبي عبد الله بن الحضرمي، وأبي طاهر السلفي، وأبي طالب التنوخي، وأبي القاسم بن جاردة، وأبي الطاهر بن عثمان، وأبي الضياء بدر بن عبد الله بن حبشي، وأبي الحجاج يوسف بن محمد القيرواني، ثم صدر إلى بلده مربيطر وحدث بها، وتوفي في بلده سنة اثنتين أو ثلاث وتسعين وخمسمائة، رواه ابن الأبار عن ابن سالم.
وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يونس القضاعي من أهل أندة دار القضاعيين بالأندلس، ومن قرية بجهتها، لكنه سكن مربيطر، وكان يعرف بابن خيرون، سمع الأئمة الكبار مثل أبي عمر بن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، وأبي الوليد الوقشي، وأبي العباس العذري، وأبي المطرف بن جحاف، وأبي الفتح السمرقندي؛ قال ابن الأبار: كان راوية جليلا، فقيها حافظا أديبا، له حظ من قرض الشعر، وكان صهرا لأبي بحر الأسدي، وبقراءته الموطأ على أبي عمر بن عبد البر، سمعه أبو بحر، وذلك بشاطبة سنة 456، وتولى قضاء مربيطر من قبل أبي الحسن بن واجب، وأخذ عنه جماعة منهم صهره أبو علي بن بسيل، وأبو محمد بن علقمة، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن يعيش، وأبو العرب عبد الوهاب بن محمد التجيبي، وتوفي بمربيطر وهو قاضيها حوالي سنة 510.
قال ابن الأبار في التكملة: قرأت بخط أبي العباس أحمد بن حسن بن سليمان أن ابن خيرون هذا حدثه قال: حدثني الفقيه الإمام الحافظ أبو عمر - يعني ابن عبد البر - عن أشياخه - رضي الله عنهم - أن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
اجتمعوا فأتوا إليه فقالوا: يا رسول الله، إنا نسمع منك حديثا فإذا جئنا لنحدث به ذهب عنا اللفظ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إذا حدثتم عني بالمعنى فحسبكم.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن الزبير بن أحمد بن خلف بن أحمد بن عبد العزيز بن الزبير القضاعي من أهل مربيطر، أصله من أندة عمل بلنسية، سمع من أبي الحسن بن النعمة وأجاز له، وسمع من أبي العباس بن هذيل الأبيشي، وأخذ قراءة نافع عن أبي جعفر طارق بن موسى بن طارق، وأجاز له من إشبيلية أبو عبد الله بن زرقون سنة 585، وأجاز له من الإسكندرية سنة 572 أبو طاهر السلفي، ثم أبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله الحضرمي، وأبو القاسم بن جاره، وأبو الثناء الحراني، وتولى الصلاة والخطبة ببلده مربيطر، وتقدم للأحكام بها، وكان له بصر بالأحكام وبعقد الشروط ومشاركة في علم الفرائض والحساب. قال ابن الأبار في التكملة: لقيته مرارا ببلده ثم ببلنسية، وحدثني بحكايات، وأجاز لي بلفظه ما رواه، وتوفي مغربا عن وطنه بسحر ليلة الخميس السادس عشر من جمادى الآخرة سنة 627 (أي قبل سقوط بلنسية في أيدي الإسبانيول بتسع سنوات)، ودفن بقبلي المصلى من ظاهر بلنسية. قال: ومولده بين صلاتي الظهر والعصر من يوم الأربعاء للنصف من جمادى الأولى سنة 544.
وأبو محمد عبد الله إبراهيم بن الحسن بن منتيال الوراق المربيطري، سكن بلنسية، سمع من أبي العطاء بن نذير، وأبي عبد الله بن هذيل الأبيشي، وأجاز له أبو بكر بن أبي جمرة، وأبو الحجاج بن أيوب، وغيرهما، ومن الإسكندرية أبو طاهر السلفي، وأبو الطاهر بن عوف، وأبو القاسم بن جاره، ورحل حاجا فسمع في طريقه من أبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي نزيل بجاية، وسمع بالإسكندرية من أبي عبد الله الحضرمي. قال ابن الأبار في التكملة: وكتب بخطه علما كثيرا على رداءته، وقفل إلى بلنسية، وكان له دكان بالقيسارية يقعد فيه للتجارة ويبيع الكتب، لقيته مررا عند شيخنا أبي الخطاب بن واجب وعند والدي - رحمهما الله - وهو استجازه لي فأذن لي في الرواية عنه لفظا، وتوفي ببلنسية في ذي القعدة سنة 611، ومولده قبل الخسمين وخمسمائة.
وعيق بن علي بن خلف بن أحمد الأموي المرواني أبو بكر، يقال له: ابن قنترال، من مربيطر، سكن مالقة، أخذ القراءات والعربية عن أبي الحسن بن النعمة، وسمع من عبد الله بن سعادة، ولقي بمرسية أبا القاسم بن حبيش وبإشبيلية أبا بكر بن الجد وابن زرقون، وأخذ عنهم، وأخذ بمالقة عن أبي محمد بن دحمان، وحج سنة اثنتين وستين وخمسمائة، فسمع بالإسكندرية من السلفي، وبمكة من علي بن عبد الله المكناسي، ثم رجع إلى الأندلس، وتصدر للإقراء بمالقة، ثم حدث ببلنسية، وكان مقرئا صالحا ورعا، أخذ عنه جماعة من علمائها.
وعلي بن محمد بن عبد الودود من أهل مربيطر صاحب الصلاة والخطبة بها والأحكام أيضا، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن واجب، وأجاز له أبو الطاهر بن عوف، وكان صالحا. قال ابن الأبار في التكملة: أخذت عنه يسيرا، توفي في ذي الحجة سنة 633 (أي قبل سقوط بلنسية بثلاث سنين).
وأبو علي الحسين بن أحمد بن الحسين بن يسيل العبدري المربيطري، سمع من أبي محمد بن خيرون وغيره، وولي قضاء مربيطر من قبل أبي الحسن بن واجب، وكان نبيه البيت حسن الخط، حدث عنه صهره القاضي أبو عبد الله بن حصن، والأستاذ أبو الوليد يونس بن أيوب بن بسام وغيرهما، وتوفي بعد سنة 537، ذكره ابن الأبار.
وأبو الحجاج يوسف بن أحمد بن علي المربيطري، سمع من أبي القاسم بن حبيش وأبي بكر بن بيبش، وأجاز له أبو الطاهر بن عوف، وكان واقفا على كتاب سيبويه علم بذلك وقتا، ثم عني بالطب حتى رأس فيه، وخدم به الأمراء، فنال دنيا عريضة، توفي بمراكش سنة 619، ذكره ابن الأبار.
هوامش
مدينة إشكرب
ومن مدينة مربيطر إلى مدينة إشكرب
Segorbe
31 كيلومترا.
هذه البلدة هي من أعمال بلنسية، ينسب إليها أناس من أهل العلم كما سيأتي، وسكانها اليوم سبعة آلاف نسمة، ولها موقع بديع على ضفة نهر بلانسية
تحف بها أكام مشرفة على رءوسها قصور شامخة. واشتقاق اسم شيكورب، ويقول الإسبانيول: سيغورب هو من اسم سيغوبريكا
Segobriga
الذي كان معروفا في زمان السلتيبيريين
Celtipéres ، فهي بلدة قديمة، وفيها كنائس ذات آثار عتيقة، وإذا أقبل الإنسان من مربيطر نحو بلنسية مر ببساتين بلنسية الشهيرة، وفي خلال البساتين كثير من القرى مثل «بوزول
» و«بويغ
» و«كابانيال
Cabanial »، ثم يعبر القطار الحديدي نهيرا اسمه «توريه
Turia » فيصل إلى بلنسية.
ذكر ياقوت الحموي مدينة إشكرب هذه، فضبطها بالكسر مع سكون الراء وآخرها باء موحدة، وقال: إنها مدينة في شرقي الأندلس، ينسب إليها أبو العباس يوسف بن محمد فاره الإشكربي، ولد بإشكرب، ونشأ بجيان فانتسب إليها، وسافر إلى خراسان وأقام ببلخ إلى أن مات بها في سنة 548.
بلنسية
(1) جغرافيتها
حاضرة من حواضر الأندلس الكبرى ما حضر منها وما غبر، ومصر من الأمصار المعدودة في ما عمره البشر، كانت إحدى العواصم الست التي ترجع إليها إسبانية العربية ، وهي قرطبة في الوسط، وطليطلة في الوسط إلى الشمال، وسرقسطة في الشمال إلى الشرق، وإشبيلية في الغرب، وغرناطة في الجنوب، وبلنسية
Valencia
1
هذه في الشرق، وما زالت هذه المدرة منذ خيم الإسلام بعقرتها إلى أن تقلص ظله عنها دار علم وتفكير وفضل غزير ونعيم وملك كبير، عدا ما تحلت به من مرجها النضير ومحرثها الذي ليس له نظير، وكانت دائما معقل عروبة ومركز عربية، وموطن بحث وتحقيق، ومحط تصنيف وتنميق، وفيها من كل نزعة عربية صحيحة وكل عرق في العرب عريق.
ومن مزاياها أنها متصلة بالبحر والجبل فلا يزال عيشها هنيئا، ولا يبرح سمكها طريئا، وجبنها طريئا، وإن لم يكن فيها سوى بساتينها التي لا يشبهها في الدنيا شيء سوى غوطة دمشق وما يقال عن شعب بوان وصغد سمرقند، وربما كانت رقعة بساتين بلنسية أرحب وكان مداها أطول؛ لأن المسافر يلبث في القطار الحديدي عدة ساعات لا يقع نظره إلا على دوح ملتف وجنان لا تكاد تنفذ خلالها الشمس إلى أن يصل المدينة، وهي اليوم البلدة الثالثة في إسبانية من جهة عدد السكان، وأهلها يزيدون على 233 ألف نسمة لا يفوقها سوى مجريط وبرشلونة، وهي مركز ولاية بلنسية، وفيها مدرسة جامعة ودار أسقفية، وبينها وبين البحر مسافة لا تزيد على أربعة كيلومترات، وبجانبها نهر يقال له: وادي الأبيار
Guadalaviar ، وقيل: وادي الأبيض، وإنما حرفه الإسبانيون عن لفظه الأصلي، وقد سبق نقلنا لما ذكره عن بلنسية صاحب نفح الطيب، بحيث لا نحتاج إلى التكرار وما أنشده من الشعر الذي قيل إنه في محاسنها، ويعجبني منه قول مروان بن عبد الله بن عبد العزيز أمير بلنسية يصف بلدته:
كأن بلنسية كاعب
وملبسها سندس أخضر
إذا جئتها سترت نفسها
بأكمامها فهي لا تظهر
وهو شعر مطابق للواقع؛ لأن المسافر لا يرى بلنسية حتى يصير في وسطها، وذلك من كثرة جنانها التي تغطيها، ومع هذا فالنظر يسرح منها إلى مسافة عشرين كيلومترا في الجبال التي إلى غربيها، ويرى قلعة مربيطر في شماليها وجبل القنت في الجنوب الشرقي منها، ولقبابها المرصعة بالزليج الأزرق والأبيض والمذهب منظر شائق تحت أشعة الشمس الحادة.
وكان الأقدمون يقولون: إن بلنسية قطعة سقطت من السماء. ونقل بديكر أن العرب كانوا يسمونها مدينة أبي طرب، وأنهم عندما فارقوها أكثروا من النواح عليها ورثوها بالقصائد، وأنشد شعرا بالإسبانيولي قال: إنه ترجمة نشيد عربي قاله العرب في بلنسية عندما فارقوها، ومعناه أنه كلما ظهرت محاسنها ازدادت الحسرة عليها. وسنأتي في هذا الكتاب على بعض ما قيل في بلنسية من المراثي.
قال الشريف الإدريسي: بلنسية قاعدة من قواعد الأندلس، وهي في مستو من الأرض غامرة القطر كثيرة التجار والعمار، وبها أسواق وتجارات وحط وإقلاع، وبينها وبين البحر ثلاثة أميال مع النهر ... إلى آخر ما قال مما تقدم نقله.
وقال ياقوت في معجم البلدان: بلنسية، السين مهملة مكسورة وياء خفيفة: كورة ومدينة مشهورة بالأندلس متصلة بحوزة كورة تدمير، وهي شرقي تدمير وشرقي قرطبة، وهي برية بحرية ذات أشجار وأنهار، وتعرف بمدينة التراب،
2
وتتصل بها مدن تعد في جملتها، والغالب على شجرها القراصية، ولا يخلو منه سهل ولا جبل، وينبت بكورها الزعفران وبينها وبين تدمير أربعة أيام، ومنها إلى طرطوشة أربعة أميال.
وكان الروم قد ملكوها سنة 487، واستردها الملثمون الذين كانوا ملوكا بالغرب قبل بني عبد المؤمن، وذلك سنة خمس وتسعين، وأهلها خير أهل الأندلس يسمون عرب الأندلس، بينها وبين البحر فرسخ، وقال الأديب أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني الأندلسي:
إن كان واديك نيلا لا يجاز به
فما لنا قد حرمنا النيل والنيلا
إن كان ذنبي خروجي من بلنسية
فما كفرت ولا بدلت تبديلا
دع المقادير تجري في أعنتها
ليقضي الله أمرا كان مفعولا
وقال أبو عبد الله محمد الرصافي:
3
خليلي ما للبلد قد عبقت نشرا
وما لرءوس الركب قد رجحت سكرا
هل المسك مفتوقا بمدرجة الصبا
أم القوم أجروا من بلنسية ذكرا
بلادي التي راشت قويدمتي بها
فريخا وآوتني قرارتها وكرا
أعيذكم إني بكيت لبينكم
وكل يد منا على كبد حرى
نؤمل لقياكم وكيف مطارنا
بأجنحة لا نستطيع لها نشرا
فلو آب ريعان الصبا ولقاؤكم
إذا انقضت الأيام حاجتنا الكبرى
فإن لم يكن إلا النوى ومشيبنا
فمن أي شيء بعد نستعتب الدهرا
ثم ذكر ياقوت من أبيات الشعر التي قيلت في بلنسية ما تقدم نقله عن نفح الطيب، فلا حاجة إلى تكراره، ولكننا ننقل منه هنا ما ينسب إلى خلف بن فرج الألبيري المعروف بابن السمسير:
بلنسية بلدة جنة
وفيها عيوب متى تختبر
فخارجها زهر كله
وداخلها برك من قذر
قال: وذلك لأن كنفهم ظاهرة من وجه الأرض لا يحفرون لها تحت التراب وهو عندهم عزيز لأجل البساتين. وروايته هذه تشبه ما رواه عن البصرة، وهو أن للحشوش فيها أثمانا وافرة، وأن لها تجارا يجمعونها فإذا كثرت اجتمع عليها أصحاب البساتين ووقفوا تحت الريح ليختبروا نتنها، فما كان منها أنتن كان ثمنها أكثر إلى آخر ما قال، وأنشد في ذلك شعرا لمحمد بن حازم الباهلي من جملته:
يعتق سلحه كي ما يغالي
به عند المبايعة التجار
هذا وكم من بلدة في الأرض تتمنى أن يكون لها جنان بلنسية ونخيل البصرة. ثم قال ياقوت: وينسب إلى بلنسية جماعة من أهل العلم بكل فن منهم سعد الخير بن محمد بن سهل بن سعد أبو الحسن الأنصاري البلنسي، فقيه صالح ومحدث مكثر، سافر الكثير، وركب البحر حتى وصل إلى الصين، وانتسب لذلك صينيا، وعاد إلى بغداد وأقام بها، وسمع بها أبا الخطاب بن البطير، وطراد بن محمد الزينبي وغيرهما، ومات ببغداد في المحرم سنة 541.
4
ا.ه. وقد استغربنا من ياقوت كونه لم يذكر من مشاهير علماء بلنسية غير واحد، وسترى أنه نبغ منهم فيها مئات.
وجاء في صبح الأعشى: القاعدة التاسعة بلنسية، قال في تقويم البلدان: بفتح الباء الموحدة واللام وسكون النون وكسر السين المهملة وفتح المثناة من تحت وهاء في الآخر، وموقعها أواخر الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة. قال ابن سعيد: حيث الطول عشرون درجة والعرض ثمان وثلاثون درجة وست دقائق. قال في تقويم البلدان: وهي من شرقي الأندلس شرقي مرسية وغربي طرطوشة، وهي في أحسن مكان، وقد حفت بالأنهار والجنان، فلا ترى إلا مياها تتفرع، ولا تسمع إلا أطيارا تسجع، وهي على جنب بحيرة حسنة على القرب من بحر الزقاق
5
يصب فيها نهر يجري على شمالي بلنسية.
ولها عدة منازه: منها الرصافة ومنية ابن عامر، وحيث خرجت منها لا تلقى إلا منازه. قال ابن سعيد: ويقال: إن ضوء مدينة بلنسية يزيد على ضوء بلاد الأندلس، وجوها صقيل أبدا لا يرى فيه ما يكدره، ولها مضافات منها مدينة شاطبة ... إلى آخر ما قال. وفي بعض نسخ صبح الأعشى مذكورة هذه الجملة: وقد صارت الآن من مضافات برشلونة في جملة أعمال صاحبها من ملوك النصارى. (2) تاريخ بلنسية
قلنا: في أيام القلقشندي - صاحب صبح الأعشى - كان مضى على خروج العرب من بلنسية 185 سنة؛ لأن بلنسية سقطت سنة 636؛ ولأن أبا العباس أحمد بن علي بن أحمد القلقشندي - مؤلف صبح الأعشى - توفي ليلة السبت عاشر جمادى الآخرة سنة 821.
وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية عن بلنسية بقلم لاوي بروفنسال ما يلي: بلنسية هي المدينة الثالثة في إسبانية، عدد سكانها يبلغ 250 ألف نسمة، وهي إلى الشرق من جزيرة الأندلس على أربعة كيلومترات من البحر المتوسط، ولها مرسى يقال له «الغراو»، وهي مربوطة بمجريط بخط حديدي طوله 490 كيلومترا، على أنه لو كان الخط مستقيما بين بلنسية ومجريط لما زاد على ثلاثمائة كيلومتر. وبلنسية مركز ولاية، وفيها رئاسة أساقفة، وموقعها يستجلب النظر في وسط محرثها الخصيب الذي يشرب من نهر «توريا
Turia »، أو الوادي الأبيض كما كان يقول العرب. وبلنسية بخلاف قرطبة وطليطلة لم تفقد مكانتها الماضية، بل زادها الدهر أهمية، ولا تزال إلى يوم الناس هذا عاصمة شرق الأندلس، ويقال لهذه البلدة: بلنسية السيد
Cid ؛ نظرا للدور العظيم الذي لعبه هذا البطل القشتالي في بلنسية.
ولقد بنى بلنسية الرومانيون سنة 138 قبل المسيح، وذلك أن جونيوس بروتس
Brutus
بعد موت الثائر فيرياث
Viriathe
أسكن فيها جالة من العساكر القدماء الذين لبثوا أمناء لرومة. ثم إن الأهالي انحازوا إلى سيرتوريوس
Sertorius
سنة 75 بعد المسيح، فاجتاحها بومبي
، ثم عادت فازدهرت في زمن أغسطس، وفي سنة 413 استولى عليها القوط، وفي سنة 714 صارت بلنسية مدينة إسلامية بعد أن فتحها طارق هي والمدن التي تجاورها مثل ساقونتة وشاطبة ودانية. ولم يكن لها ذلك الشأن في دور بني أمية. وقد غلبت عليها وعلى أعمالها العروبة بنزول القيسية فيها وفي أرباضها.
وهكذا استمرت بلنسية طيلة عهد الإسلام من أعظم مراكز العربية في جزيرة الأندلس، على أنه كان يوجد في جبالها بعض قرى بربرية. وكانت بلنسية في زمن بني أمية مركز مقاطعة أو كورة، كما قال المقدسي والرازي وياقوت الحموي، وكان يقيم بها الوالي من قبل الخليفة الذي في قرطبة، ولم تبدأ بأن تكون مركز حكومة مستقلة إلا بعد سقوط الخلافة الأموية، فصارت من ذلك الوقت من أهم أهداف استرداد الإسبانيول للأندلس، وصار لها ذكر عظيم في التواريخ الإسبانية والعربية التي وصلت إلى أيدينا.
وكان تأسيس الحكومة المستقلة في بلنسية سنة 401 وفق 1010 على أيدي اثنين من مماليك بني عامر مبارك ومظفر، كانا إلى ذلك الوقت مفتشين للري في بساتين بلنسية. فلما سقطت الخلافة غلبا على الأمر وتقاسما سلطنة هذه الكورة
6
ثم لم يلبث مبارك أن مات، وثار الأهالي بمظفر فطردوه، وبايعوا صقلبيا آخر اسمه لبيب جعل نفسه تحت سيادة قمط برشلونة. ثم آل أمر بلنسية إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن من أحفاد المنصور بن أبي عامر، وكان قد لجأ إلى منذر بن يحيى التجيبي - صاحب سرقسطة - فلما تولى بلنسية تلقب بالحاجب لقب جده المنصور، وطالت مدته في هذه الإمارة، فكان دور أمان وسلام في بلنسية، ومات سنة 452.
ولما تولى الخلافة في قرطبة القاسم بن حمود بادر عبد العزيز هذا إلى مبايعته، فلقبه بالمؤتمن ذي السابقتين، وكانت صلاته حسنة مع ملوك المسيحيين. وعند وفاته خلفه ابنه الملقب بالمظفر، وكان يافعا؛ فكفله الوزير ابن عبد العزيز، ولم يطل الأمر حتى زحف فرديناند ملك قشتالة وليون على بلنسية، وكاد يدخلها، وخرج البلنسيون لقتاله خارج البلدة، فهزمهم؛ فاستصرخ المظفر عبد الملك المأمون بن ذي النون؛ فسار هذا إلى بلنسية وخلع أميرها الشاب، واستولى عليها، وجعل وكيلا عنه فيها الوزير أبا بكر بن عبد العزيز، وذلك سنة 457، وبقيت هذه الحال إلى سنة 467 إذ مات المأمون بن ذي النون وخلفه ابنه يحيى القادر الذي اشتهر بسوء تدبيره؛ فنقضت بلنسية بيعة القادر هذا؛ ولأجل أن يقدر عليها وهو عاجز عنها لجأ إلى الفونش السادس - ملك قشتالة - واستمده لأخذ بلنسية؛ فانتهى الأمر بأن نزل له عن عاصمته طليطلة سنة 478 وفق 1085.
وأما بقية الحوادث والدور الذي لعبه السيد لذريق دياز آل بيفار، سواء ما كان منه حقيقة أو خرافة، فقد استوفيناه عند ذكر السيد في حرف السين من المعلمة الإسلامية.
ولما جاء المرابطون حاولوا استرداد بلنسية للإسلام إلا أنهم لم يقدروا على السيد، فلما مات سنة 492ه وفق 1099م عجزت أرملته شيمان عن حفظها، فأحرقت بلنسية وخرجت منها، فاستولى عليها المرابطون في 15 رجب سنة 495، وبقي المرابطون يولون عليها أمراء من قبلهم إلى أواسط القرن الثاني عشر، وإذ ذاك استقلت بلنسية واتحدت مع مرسية، وأطاعت لابن مردنيش سنة 542، ولم يطل الأمر أكثر من أربع سنوات حتى انتقضت عليه، ثم استولى عليها الموحدون، فكانت سيادتهم عليها اسمية، وبقيت كذلك إلى أن استولى عليها النصارى في 28 سبتمبر سنة 1228، وذلك بعد استيلائهم على قرطبة بسنتين.
7
انتهى ما قاله لاوي بروفنسال بشأن بلنسية في الانسيكلوبيدية الإسلامية
وأما ما ذكره عن السيد في الانسيكلوبيدية فيتلخص فيما يلي: السيد هو أشهر أبطال الفروسية القشتالية وأحبهم إلى الشعب الإسباني، وكان له دور عظيم في إسبانية الإسلامية أثناء النصف الثاني من القرن الحادي عشر، ومن الممكن تمحيص الحقيقة في أمر هذا الرجل وإخراج ما وشيت به سيرته من الأقاصيص، فالمستشرق الهولاندي دوزي هو الذي يرجع إليه الفضل في تبيين حقيقة السيد بما نقله سنة 1844 عن الذخيرة لابن بسام التي اطلع على نسخة منها كانت محفوظة في مكتبة «غوتا
Gotha »، وظهر أن كتاب الفونس العالم عن حياة السيد الذي كان يظن أنه محض اختراع هو مترجم إلى العربية، والغالب أنه ترجمة كتاب لمحمد بن خلف بن علقمة اسمه «البيان الوضيع في الملم الفظيع»، كتب في زمن السيد.
وهكذا تيسر وضع سيرة السيد على أركان صحيحة وتجريدها من الأقاصيص الملحقة بها. فلذريق
Rodrigo ، دياز
Diaz ، آل بيفار
De Vivar
كان من سلالة عائلة نبيلة قشتالية، ولد في برغش؛ قيل سنة 1026، وقيل سنة 1040، والمعلوم عنه أنه اشتهر بالبسالة، وحارب في صف شانجه الثاني - ملك قشتالة - لما قاتل شانجه ملك نباره
Navarre
وبارزه أحد فرسان نباره، فتغلب عليه، ثم صار قائدا عاما لجيش قشتالة؛ فلذلك تلقب بالكمبيدور
Campeador ، وصار العرب يقولون له «الكمبيثور» (وفي نفح الطيب القنبيذور). ثم إنه بعد ذلك نصح لذريق هذا شانجه الثاني بالاستيلاء على مملكة ليون، فاستولى عليها وأسر أخاه الفونش وحبسه، ففر الفونش هذا لاجئا إلى المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة.
ثم إنه في 7 أكتوبر سنة 1072 قتل شانجه ملك قشتالة في أثناء حصاره لزمورة فاجتمع فرسان قشتالة لينتخبوا ملكا مكانه، وكانوا راغبين عن أخيه الفونش اللاجئ إلى المسلمين، ولكن لم يجدوا بدا من مبايعته على شرط أن يقسم لهم يمينا بأنه لم يكن ذا يد في مقتل أخيه، وكان متولي تحليف اليمين لذريق دياز، وذلك في كنيسة سانتا قاديه
Gadia
في برغش، فكان الفونش السادس يحفظ في صدره وغرا على لذريق من أجل هذه اليمين المهينة له، إلا أنه كان يخشاه ويريد أن يخصه بنفسه، فأزوجه شيمان ابنة عمه كونت أوبيط
Obida ، ثم إنه بعد ذلك أرسل الفونش السادس لذريق سفيرا إلى المعتمد بن عباد في إشبيلية يستأدي منه الإتاوة التي كانت مفروضة عليه لقشتالة في مقابلة محالفة اسمية، وفي أثناء وجوده هناك اقتتل بنو عباد أصحاب إشبيلية وبنو زيري أصحاب غرناطة التي كان أميرها عبد الله بن باديس، فوقعت الواقعة في مدينة قبرة
Cabra ، وخاض لذريق البيفاري فيها، وأسر جملة من فرسان المسيحيين الذين كانوا في صف ابن زيري، ومنهم الكونت غرسيه أوردونه من العائلة الملوكية الذي أطلق لذريق سبيله.
فلما رجع من مهمته لدى المعتمد بن عباد اتهمه الفونش السادس بأنه غل في بعض ما حمله من الهدايا باسم الفونش، وانتهز أول فرصة للانتقام منه وهي أنه غزا بلاد طليطلة بدون إذنه، فأخرجه الملك من مملكته، ومن ذلك الوقت بدأت معيشة لذريق المترددة تارة يقاتل المسلمين وطورا يقاتل بني ملته بحسب ما يعن له. وكان قد أحب الاتصال بقمط برشلونة فلم يكن له حظ بقربه، فلوى عنانه نحو أحمد بن سليمان بن هود الملقب بالمقتدر صاحب سرقسطة، فضمه هذا إلى جيشه مع أصحابه من المرتزقة، ثم مات المقتدر فخلفه ابنه يوسف المؤتمن أميرا على سرقسطة، بينما أخوه المنذر يتولى دانية وطرطوشة ولاردة، فلم تلبث الحرب أن وقعت بين الأخوين، فكان لذريق بيفار خادما للمؤتمن، وكان المنذر معتمدا على شانجه راميره ملك أراغون ورامون بيرانجه الثاني قمط برجلونة. والتقى الجمعان بقرب حصن المنار إلى الشمال الغربي من لاردة، فانهزمت الفئة الأخرى بفضل شجاعة لذريق، وأخذ قمط برشلونة أسيرا فعف عنه وأطلقه، ودخل سرقسطة في فرح عظيم، وأنعم عليه ابن هود وغمره بالصلات والهدايا.
وصارت له المكانة العليا، وجعل المسلمون يلقبونه «بسيدي»، وكان يترجمها الإسبانيول بجملة
Mio Cid ، ثم بطول الاستعمال استغنوا عن لفظة «ميو»، فبقيت «سيد» وحدها؛ فصار هذا لقبه. ثم إنه تظفر في وقعة ثانية تحت لواء المؤتمن بن هود. ومات المؤتمن فخلفه ابنه المستعين الثاني والسيد في خدمته، ومن ذلك الوقت فكر السيد في الاستيلاء على بلنسية التي يليها عبد العزيز العامري من أحفاد المنصور بن أبي عامر، وكانت انضمت إلى طليطلة سنة 1065.
ولما تولى ملك طليطلة القادر بن ذي النون بعد وفاة أبيه المأمون أرسل واليا على بلنسية أبا بكر بن عبد العزيز الذي انتفض على ابن ذي النون، وتحالف مع الفونش السادس، غير أن الفونش خذله في سنة 1085، وباع بلنسية من القادر بن ذي النون، وأرسله إلى بلنسية، وأرسل معه جيشا قشتاليا بقيادة الفارفانز
Alvar Fanez
8
وهكذا تم دخول القادر إلى بلنسية، إلا أن أهالي هذه البلدة ثاروا على القادر، فلما أجاز يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين إلى إسبانية وهزم المسيحيين في معركة الزلاقة (23 أكتوبر سنة 1086)، استدعى الفونش قائده السالف الذكر من بلنسية، واستغاث القادر بن ذي النون بالفونش وبالمستعين صاحب سرقسطة لأجل رد المنذر صاحب طرطوشة الذي كان يوالي الغارات على بلاده، فكان المستعين صاحب سرقسطة يطمح إلى ملك بلنسية، ويفكر في فتحها بواسطة السيد لذريق بن بيفار الذي وعده المستعين بالتخلي له عن جميع غنائم الفتح. إلا أن هذا الاقتراح لم يرق السيد محافظة على ولاء الفونش.
وفي سنة 1089 ذهب السيد إلى قشتالة، واستقبل باحتفال عظيم وأكرم الفونش مثواه. ثم خرج السيد إلى شرق الأندلس ومعه سبعة آلاف مقاتل، فكان المستعين بن هود قد انتهز فرصة غيابه وتحالف مع بيرانجه قمط برشلونة الذي ذهب يحاصر بلنسية، فلما أقبل السيد نكص قمط برشلونة على أعقابه؛ فعرض السيد على القادر صاحب بلنسية بأن يحمي له بلاده ببدل عشرة آلاف دينار كل شهر، وفي هيعة ذلك أرسل الفونش إلى السيد يستنفره لقتال يوسف بن تاشفين فلم يجب نداءه، وسار سيرة رئيس عصابات غير متقيد بأمر أحد، وعاث في جميع شرق الأندلس من أوريولة إلى شاطبة، وزحف نحو طرطوشة، وأجبر صاحبها على طلب حمايته، ثم هزم قمط برشلونة، وعقد معه معاهدة، واضطر صاحب برشلونة أن يسترضيه بمبالغ من المال كما أنه فرض إتاوات على جميع ملوك المسلمين الذين كانوا في شرقي الأندلس، مثل ابن رزين صاحب السهلة، ومثل أمير البونت، وأمير مربيطر، وأمير إشكرب، وأمير شارقة، وأمير المنارة
9
وكان الخلاف يزداد بين ملك قشتالة الفونش السادس والسيد إلى أن أجمع الفونش إخراج السيد من بلنسية، فزحف بجيش لحصار المدينة وكان يعاونه من البحر أسطول جنوة وأسطول بيزة من إيطالية، وكان السيد حينئذ يحارب ملك أراغون المسيحي في صف ملك سرقسطة المسلم، فلما بلغه كون الفونش باشر حصار بلنسية ترك سرقسطة وذهب فشن الغارة على «ناجرة» و«وكلاهرة» من مقاطعة عدوه غرسيه أوردونه
Garcia Ordonez ، ودمر مدينة «لوكروني»؛ فاضطر الفونش إلى رفع الحصار عن بلنسية.
وكان السيد قد ترك في بلنسية نائبا عنه لدى صاحبها القادر بن ذي النون رجلا مسلما يقال له ابن فرج؛ ففي سنة 1092 ثار الأهالي بإغراء القاضي ابن جحاف وقتلوا ابن الفرج، وغلب على الأمر القاضي ابن جحاف يؤيده نائب من قبل دولة المرابطين، فانتظر السيد إلى السنة التالية، وزحف بجميع عساكره قاصدا بلنسية، فاستولى على أرباضها مثل «بلنوبة
Villanueva » و«الكدية
Alqudyia »، ورضي بمفاوضة ابن جحاف الذي كان رئيس الجماعة في بلنسية، لكنه لم يرفع الحصار عن المدينة.
وما زال يضيق عليها حتى عضها الجوع بأنيابه؛ فاضطر القاضي رئيس الجمهورية البلنسية إلى تسليمها، ودخلها السيد في 15 يونيو سنة 1094، ولكنه لم يأت الأهالي بأذى، وكان يعاملهم بالرعاية، وكانوا هم طائعين له، إلا أنه أمر بإحراق القاضي ابن جحاف حيا انتقاما منه.
وجاء جيش المرابطين لاسترداد البلدة؛ فخرج إليهم وهزمهم، وبعد ذلك انحصر همه في بسط سلطانه على النواحي المجاورة لبلنسية؛ فاستولى على المنارة ومربيطر سنة 1098، وكان قد دخل في سن الشيخوخة وشعر بانتهاء همته، وحول المسجد الأعظم إلى كنيسة، وأسس في بلنسية أسقفية عين لها المطران جيروم بري غورد
، ثم صالح سيده الفونش السادس ملك قشتالة وأزوج بنتيه من أبناء الملوك؛ فإحداهما مارية تزوجها رامون بيرانجه الثالث، والثانية كراستينه تزوجها راميرو ولي عهد نباره.
ثم فكر السيد في فتح شاطبة التي كانت لا تزال بأيدي المرابطين، فانهزم جيشه في واقعة شاطبة، واستشاط غضبا والتاع حزنا؛ فمات سنة 1099، وقامت مقامه زوجته شيمانة، فهاجمها المرابطون مدة سنتين، ثم تقدم القائد المزدلي اللمتوني فحصر بلنسية في أواخر سنة 1101، وضيق عليها، واستمر الحصار سبعة أشهر في أثنائها حاول الفونش السادس الدفاع عنها فلم يفز بطائل، فنصح لشيمانة بترك بلنسية؛ فخرجت منها ولكن بعد أن أحرقتها، فلما دخلتها جيوش المرابطين وجدتها رمادا. ولما خرجت شيمانة من بلنسية احتملت جسد زوجها معها ودفنته بقرب برعش في دير «سان بدروه كردينيه»، وماتت شيمانة في سنة 1104 ودفنت عند زوجها. انتهى كلام لاوي بروفنسال عن السيد في الأنسيكلوبيدية الإسلامية.
وقد كنا حررنا ترجمة السيد هذا في خلاصة تاريخ الأندلس الذي ذيلنا به ترجمتنا لرواية ابن سراج ، فقلنا: أما مملكة قشتالة أجل ممالك النصرانية في الأندلس، فإن رافع منارها فرديناند الأول الملقب بالكبير الذي انتزع كثيرا من أملاك المسلمين، وكان معاصرا لابن عباد، وقسم ممالكه بين أولاده الثلاثة؛ فأعطى شانجه مملكة قشتالة، والفونش أو أذفنش مملكة ليون، وغارسيا الصغير مملكة غاليسيا أو جليقية، إلا أن الفونش تمكن في الآخر من ضم الجميع إلى ملكه وصار خلفا لأبيه، وهو الذي استولى على طليطلة قلب إسبانيا وجعلها مقر سلطانه، وفي أيامه ظهر السيد بطل الإسبانيين الذي تنسب إلى ذريته عروس رواية شاتوبريان التي ذيلنا عليها هذا التاريخ المختصر، ولما كان التناسب الذي هو شرط الحسن يقتضي الإفادة عن آل بيفار أجداد أدماء بمثل ما أفدنا عن آل سراج أجداد ابن حامد، رأينا أن نلمح إلى شيء من أخبار السيد حسبما ذكر المحققون.
فنقول: هو السيد لذريق بن دياغو بن لاين نوتاز بن لاين كالفو، من كبار قضاة قشتالة، تزوج السيد بشيمانة، وولد دياغو لذريق الذي مات في حياة والده وابنتين إحداهما تزوجت بابن ملك نافار والأخرى بابن ملك أراغون.
وشيمانة هذه هي ابنة الكونت لوزانو دوغورماز من فحول قواد الملك فرديناند؛ وسبب اقتران السيد بها أن والدها كان قد صفع دياغو والد السيد وهو بالغ من الكبر عتيا فلم يمكنه أخذ ثأره بيده، لكن ولده لذريق أخذ السيف ودعا غورماز إلى البراز فقتله، ولما لم يكن في قتل البراز جناح جاءت ابنته شيمانة تشكو إلى الملك فرديناند كون لذريق يأتي كل يوم وبازه على يده، فيطلقه في بيت حمامها فيفتك بالحمام ويذيق فراخها كئوس الحمام، وقد بعثت تقول له في ذلك، فجاوبها بالوعد قائلا: إن الملك الذي يسمح بقهر اليتيم ولا يقتص ممن اعتدى عليه لا يليق أن يسمى ملكا.
فتحير فرديناند في أمره؛ لأن لذريق كان أقوى عضد له في مواقفه مع المسلمين، والإسبانيون يزعمون أن السيد أسر خمسة من ملوك الإسلام، وبعد أن قادهم بخزائم الاستكانة من عليهم بإطلاق سبيلهم ودعوه سيدهم، فلم يجد فرديناند مخرجا من الأمر إلا بتزويج السيد بشيمانة.
وأما نسبة السيد إلى بيفار فولادته في ذلك القصر، وهي كما لا يخفى عادة الإفرنج في ألقاب الشرف. ومن شهير أفعال السيد أنه لما اصطلت الحرب بين قشتالة وأراغون لعهد فرديناند وقع الاتفاق بين هذا الملك وبين أخيه على تحكيم السيف وإبراز قرنين بالنيابة عنهما من أبطالهما، وإعطاء الحق لمن منهما حقت له الغلبة، فكان السيد نائبا عن ملك قشتالة، وكان مارتين غوماز نائبا عن صاحب أراغون أخيه، فعند اللقاء فتك السيد بخصمه وبرد الحق لفرديناند دون أخيه.
وفي هاتيك الأيام كان هنري الثاني إمبراطورا لألمانية، فسمت نفسه إلى إدخال إسبانية في طاعته؛ لكونها من ولايات سلطنة الغرب، ويقال: إن البابا فيكتور الثاني مالأه على مقصده، فلما أبلغ ذلك الإمبراطور والبابا إلى فرديناند مال إلى الخضوع خوفا منهما، لكن السيد عارض في الأمر وجمع عسكرا وزحف به إلى طلوزة قاصدا لقاء العدو، فلما علم البابا به خاف العواقب وصرف إمبراطور ألمانية عن دعواه.
ولما مات فرديناند لم يكن لشانجه ولده ساعد أشد من السيد، وهو الذي نصره في وقعة «غولبيجاره»، وكان بجانبه عندما قتل في زامورة. وفي مدة الفونس أخيه انصرف السيد إلى مرابطة المغاربة، ووالى عليهم الهزائم حتى لقب بالكمبيادور، ومعناه بلغتهم قائد المعسكر. إلا أن ما حازه من الشهرة أثار عليه حسد الأقران وضغائن الأنظار؛ فانقبض بنفسه عن الحضرة، وسكن البادية، وبلغه أثناء ذلك أن مسلمي سرقسطة والثغر الأعلى اجتاحوا أراضي قشتالة، وأثخنوا في الإسبانيول؛ فنهد إليهم وساق منهم سبعة آلاف أسير، واكتسح بسائط طليطلة، وكانت في يد المأمون صاحبها، فشكا إلى الأذفونش خرق الصلح بدون موجب، فاستشار الملك خاصته وأجمعوا على نفي السيد، وضربوا له أمدا تسعة أيام لأجل الخروج، فأطاع، ولكنه لم يكن يملك من المال ما يكفي لميرة الثلاثمائة فارس التي هي في صحبته؛ فأعمل في الحيلة وأرسل صندوقين مفعمين رملا إلى بعض اليهود مؤكدا أنهما مملوءان حليا، وأخذ عليهما مبلغا من الذهب، ثم وفى دينه بعد ذلك بما حازه من الغنائم أثناء غزواته في بلاد الإسلام.
وبقي مدة بعيدا عن الحضرة إلى أن رضي عنه الملك وأعاده وأذن له في الغزو وحده، فابتنى لنفسه قصرا بقرب أراغون لم يزل معروفا باسم صخرة السيد إلى الآن، وجعلها لنفسه وكرا يأوي إليه وينطلق منه للغزو. وكان أكثر ما يغزو مملكة ابن عباد؛ لكونه هو الذي دعا يوسف بن تاشفين إلى الأندلس، على أنه لما أراد ابن تاشفين استخلاص ملك إشبيلية من يد ابن عباد، واستنجد الطاغية، أرسل إليه عشرين ألفا، قيل: إنه عقد عليهم للسيد، لكن لم ينالوا له وطرا؛ إذ كان في المرابطين سادات بدل السيد.
ثم زحف السيد بعساكره نحو بلنسية وضيق عليها الحصار، وكان فيها القاضي أحمد بن جعفر المعافري بحسب رواية بعض مؤرخي الإفرنج ومنهم لافاله. والذي في كتب العرب أن الذي كان فيها هو القاضي أبو أحمد بن جحاف، واتفقت روايات العرب والإفرنج أن لذريق دخلها صلحا وعاهد القاضي، لكنه لم ينشب أن أحرقه بالنار بعد الاستيلاء؛ قيل: لكون السيد طلب إليه أن يدله على ذخيرة كانت للقادر بن ذي النون فأقسم أنها ليست عنده؛ فأحرقه وعاث في بلنسية. وفي ذلك يقول ابن خفاجة الشاعر المشهور:
عاثت بساحتك الظبا يا دار
ومحا محاسنك البلا والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر
طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها
وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها
لا أنت أنت ولا الديار ديار
وورد في نفح الطيب ما نصه بالحرف «وكان استيلاء القنبطور» (تحريف القمبدور أو الكمبدور لقب السيد) سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقيل في التي قبلها، وبه جزم ابن الأبار قائلا: فتم حصار القنبطور إياها عشرين شهرا، وذكر أنه دخلها صلحا. وقال غيره: إنه دخلها وحرقها وعاث فيها، وممن أحرق فيها الأديب أبو جعفر بن البتاء الشاعر المشهور - رحمه الله تعالى وعفا عنه - فوجه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الأمير أبا محمد مزدلي، ففتحها الله على يديه سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وتوالى عليها أمراء الملثمين. انتهى .
وفي حرق قاضي بلنسية قد أتى «لافاله» بجميع أصناف المعاذير؛ تغطية لعمل القنبطور، واتهم القاضي بالخيانة. وأنكر أن يكون السيد فعل ذلك بسبب الذخيرة، بل لمكيدة لا بد أن يكون اطلع عليها، ورمى مؤرخي العرب بتشنيع سيرة السيد تعصبا منهم وكراهية لاسمه لما كان عليه من الغيرة على النصرانية.
وذهب غير واحد من المؤرخين الأوروبيين إلى غير ذلك، ومنهم ستانلي لانبول الإنكليزي، وزعموا أن مسألة فضائل السيد من وضع قصاصي الإسبانيول، وهاك بعض ما يقوله المؤرخ المذكور مما يرتبط بهذا المقام وهو:
إن من الغلط البين والخطأ المتعين أن يظن أن مقاتلة قشتالة وليون كانوا على ما يرام تخييله من الشهامة والشرف وآداب الفروسية، وأن يتصور أنهم على شيء من دماثة الأخلاق والتهذيب. والصحيح أن مسيحيي الجهة الشمالية كانوا على نقيض ما كان عليه أقرانهم المغاربة؛ فإن العرب الأجلاف لأول نزولهم بإسبانية قد تهذبوا وتمدنوا بالأندلس فيما بعد، وباستعدادهم الفطري مالوا إلى التأنق والرفاهية والتحقق بالحضارة العالية، وعكفوا على طلب العلم وقرض الشعر وحفظ الأدب، فكانت أذواقهم في أسمى مكانات السلامة وإحساساتهم في أقصى مظان الرقة كما هو شأن من تحقق بالمدنية وذاق حسن المعيشة وغلب عليهم التأمل والشعر، فكانوا يؤدون من الجوائز على منظومة واحدة ما يكفي لميرة كتيبة كاملة، ولم يكن الأمير الظالم منهم والملك الغاشم السفاح يأنف من الآداب والمعارف، فالفصاحة والموسيقى وسائر فروع العلم والأدب من الأمور الطبيعية عند هذه الأمة، وقد أوتوا ملكة الانتقاد والتمييز ولطف الذوق في نقد أجزاء الكلام وتفاصيل القول مما نعرفه في زماننا لأمة الفرنسيس.
وأما نصارى الشمال فعلى خلاف ذلك كله؛ فإنهم وإن كانوا سلائل أمة قديمة، فحالتهم كانت حالة أمة حادثة أجلاف جفاة أجانب عن العلم منقطعي السبب في العرفان. نعم كان عند بعض أمرائهم مسكة من التربية، لكنهم في هذا الأمر مساكين في جانب أمراء العرب. وإنما كان المسيحيون هناك أنجاد حرب وأحلاس نزال يحبون الهيجاء مثل أقرانهم المسلمين، لكنهم أقوم منهم عليها وأصبر على تحمل مشاقها. ولم يكن عندهم ما تصوره لنا هذه الخيالات الشعرية من أخلاق الفروسية، بل كانوا ضرابي سيف. انتهى.
وقد يحملهم فقرهم على المحاربة بالأجرة وتقديم من يزيد لهم على غيره في الخدمة، وقد رأينا كيف أن الوزير المنصور استخدم جما منهم في حرب ليون وفتح صانتياغو، وتاريخ شمالي إسبانية مملوء بشواهد ذلك من استخدام أمراء المسلمين لفرسان النصارى في الجيش.
ومما يؤيد قول هذا المؤرخ الإنكليزي ما ورد في تاريخ المنصور بن أبي عامر من أنه في انكفائه عن باب شنت ياقب بتلك الغزوة التي لم يبلغ مثلها أحد وقع في عمل القواميس المعاهدين الذين في عسكره، فأمر بالكف عنها، ومر مجتازا حتى خرج على حصن بيليقية من افتتاحه، فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم. انتهى.
ويظهر أنهم لم يقتصروا في الخدمة على ملوك الأندلس، بل ربما أجازوا إلى المغرب أجنادا عند ملوكه. وابن خلدون يروي أنه كان يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان قد استخدم طائفة منهم مستكثرا بمكانهم مباهيا بهم في المواقف والمشاهد.
ولنعد إلى كلام ستانلي لانبول؛ قال: «ولكن لم يوجد من هؤلاء من بلغ شهرة السيد بطل إسبانية، واسمه لذريق دياز البيفاري، ولقب بالسيد لكون ذلك هو اللقب الذي كان يدعوه به المغاربة، وهو مخفف عن سيد بالتشديد
10
إلى أن قال: وهو محارب شهير، كان يتقدم الصفوف مثل جلياد أمام جيوش بني إسرائيل، ولم يعرف أحد طار له من الشهرة في الغزو أكثر من «سيدي القمبدور» كما كانوا يدعونه، كما أنه ليس من السهل أن يقرر الإنسان الحقيقة ويمحص الواقع مما يحاط به اسم السيد من الوقائع؛ لأن مؤرخي النصارى يقولون: إنه يستحيل الإحاطة بوصفه، وإن الأناشيد الإسبانيولية تتوج السيد بالفضائل والكمالات، وتنسى أن تلك الفضائل كانت مجهولة أو غير معتبرة عند نفس السيد ومعاصريه، وكتاب العرب الذين هم غالبا أحسن إنصافا للحقوق تجدهم قد شددوا الحكم على ذلك النصراني الذي أذاق مسلمي بلنسية ما أذاقهم من الوبال.» قلت: وأي تشديد فإنك ترى كيف جاء اسم القنبطور مردفا باللعنة في نفح الطيب، وبأي شعر نظم ابن خفاجة نثر عمران تلك البلدة.
قال ستانلي لانبول: «ونحن في عصر انتقاد مضطرون إلى طرح المفرح من أقاصيص مؤرخينا التي تليق بالأحداث، والسيد لم يستثن من الانتقاد، بل إن أحد المستشرقين الراسخين ألف عنه كتابا مستقلا قرر فيه أن السيد لم يكن ذلك البطل الذي ظن أنه كان، بل رجلا غدارا سفاكا نهابا فتاكا ناكث العهد ناقض الذمام. كذلك الأستاذ دوزي - مؤرخ إسبانية الجليل - ذهب إلى أن قصة السيد هذه اختراعية، وكتب عن السيد الحقيقي نقيض ما ورد في تلك الأقاصيص، إلى أن قال: وغير صحيح أنه كان حامي الدين؛ فإنه قاتل في مصاف المسلمين كما قاتل في مصاف النصارى، وذكر أنه استولى على بلنسية بسبب التحريك والفرقة بإعانة ملك سرقسطة ودخلها صلحا.» وهذا طبق ما ذكر مؤرخو العرب من أن الذي أنهضه هو يوسف بن أحمد بن هود صاحب سرقسطة.
وأما «لافاله» فيقول في شأنه: إنه هو بطل الإسبانيول المقدم حبيب الشعب الذي يحلونه بجميع فضائل الأبطال، ويتغنون بوقائعه في الأشعار والأزجال، فإذا شاء المؤرخ معرفة الحقيقة من الوهم أشكل عليه الأمر بما يعرض له من الاختلاط، فقد يقع أن المؤرخ لأجل الخروج من حيرته ينتهي إلى إنكار وجود المؤرخ عنه أصلا، كما أنكر «ماسدو» وجود السيد قمبدور، ولم يبلغ الشك من غيره درجة إنكار وجوده، بل أنكروا عليه المأثور من الفضائل، وتخيلوه زعيم أشقياء ورئيس عصابة شر، بعد أن جعلته القصص مثالا تاما للفضل والشهامة والنبل.
فأنت تجد أن السيد ككثير من الرجال الذين ولعت بذكرهم العامة منهم من جعله سيدا غطريفا (بالتشديد)، ومنهم من جعله سيدا عملسا (بالتخفيف). ومات السيد سنة 1099، وهي التي فتح الصليبيون فيها بيت المقدس. وبعد موته عادت بلنسية إلى الإسلام، وبقيت زمانا حتى استولى عليها جقوم كما ذكرنا سابقا، وحملت جثة السيد محنطة على جواده المشهور وبيده أحد سيفيه المسمى تيزونه، وقدم نعشه في الجمع كما كان هو مقدما في الحروب، ودفن في كنيسة ماربطرس دوكردنه ، وماتت شيمانة امرأته بعده بسنتين، وبقيت رايته وسيوفه في ذلك الدير يحملها ملوك قشتالة في حروبهم تيمنا بالنصر، ورواية كورنيل المسماة بالسيد أشهر من «قفا نبك». انتهى .
فالقارئ يمكنه أن يقابل بين ما كتبناه في خلاصة تاريخ الأندلس من تسع وثلاثين سنة وبين ما نقلناه الآن - ولا نزال ننقله - عن علماء العرب والإفرنج، ولم يبلغ أحد في تمحيص قضية القنبيذور الملقب بالسيد ما بلغه العلامة شيخ المستشرقين دوزي الهولاندي، وسنأثر كثيرا مما قاله وما وصل إليه من الاستنتاج الدقيق بعد مقابلته الروايات بعضها ببعض، كما أننا سنذكر الآن كلام ابن بسام الذي كان عليه أكثر اعتماد دوزي في نقض ما نقضه من مزاعم الإسبانيول المتعلقة بمعالي أخلاق السيد. ولقد كان دوزي وقف على نسخة من «ذخيرة» ابن بسام، وذلك في أثناء وجوده بلدة غوتة
Gotha
صيف سنة 1844؛ إذ عثر على مخطوط عربي رقمه 266 عليه عنوان يفيد أنه قسم من نفح الطيب للمقري، فلما تصفح هذا المخطوط علم أن هذا العنوان خطأ، وأن المخطوط هو القسم الأول من الجزء الثالث من «الذخيرة» لابن بسام، وهي كتاب تراجم للأدباء الذين نبغوا في الأندلس في القرن الخامس للهجرة؛ قال دوزي: فما تناولت الكتاب ومضيت في قراءته إلا وجدت قطعة مهمة وافية تتعلق بالقنبيذور يعلم أهميتها من عرف أن ابن بسام قد كتب هذا الكتاب في إشبيلية سنة 503 للهجرة أو 1109 للمسيح؛ أي بعد موت السيد بعشر سنوات لا زيادة، فهذا التاريخ للسيد هو أقدم تاريخ وجد في الأيدي، وهو أقدم باثنتين وثلاثين سنة من السيرة اللاتينية التي كتبت على السيد في جنوبي فرنسة، كما أنه يزيد في قيمة كتابة ابن بسام استشهاده بشاهد عرف السيد معرفة شخصية.
وهذه القطعة من سيرة السيد واقعة في فصل يدور على ابن طاهر أمير مرسية المخلوع، الذي بعد أن فقد إمارته على مرسية جاء فتوطن بلنسية. وسأجتهد في ترجمة هذا المبحث كله برغم ما تخلله من العبارات الشعرية التي تصعب ترجمتها بلغة عصرية، وسأبلغ في ذلك الجهد ما أمكن ؛ لأني واقع بين المحافظة على النص الأصلي بالعربي من جهة وبين المحافظة على أساليب اللغة الإفرنسية من جهة أخرى. انتهى.
ونحن لسنا في حاجة إلى ترجمة الترجمة التي كتبها دوزي، وإنما ننقل كلام ابن بسام بنصه العربي. وقد ذكر دوزي أنه اطلع على نسخة ثانية من الجزء الثالث من ذخيرة ابن بسام اقتناها المسيو «غايانكوسن
Gayangos » الذي اشتراها من إفريقية، فبالمقابلة بين النسختين أمكنه تصحيح ما فيهما من أغلاط النساخ. وأما الكتاب الذي ورد في الذخيرة لابن طاهر مرسلا إلى ابن عم لابن جحاف، فيزيده تأييدا وروده في كتاب «قلائد العقيان» للفتح بن خاقان، ويقول دوزي أنه نقله بعد مقابلة ست نسخ بعضها ببعض. وهذا نص الكتاب: «وله من رقعة إلى ابن جحاف أيام ثورة ابن عمه ببلنسية»: قد ألبستني - أعزك الله - من برك ما لا أخلعه وحملتني من شكرك ما لا أضيعه، فأنا أستريح إليك استراحة المستنيم، وأصرف الذنب على الزمن المليم، وإن ابن عمك - مد الله بسطته - لما ثار ثورته التي ظن أنه قد بلغ بها السماك، وبذ معها الأفلاك، نظر إلي متخازرا متشاوسا، وتخيلني حاسدا أو منافسا، ولعن الله من حسده جمالها:
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
ثم تورم علي أنف عزته، فرماني بضروب محنته، وفي كل ذلك أتجرعه على مضضه، وأتغافل لغرضه، وأطويه على بلله، وما انتصر بشيء سوى عمله، إلى أن رأى اليوم بسوء رأيه أن يزيد في تعسفه وبغيه، فاستقبلت من الأمر غريبا ما كنت أحسبه ولا بان إلي سببه، ولما جاءه رسولي مستفهما عبس وبسر، وأدبر واستكبر، فأمسكت محافظة للجانب وعملا على الواجب، لا أن هيبة أبي أحمد قبضتني ولا أن مبرته عندي اعترضتني، وأقسم بالله حلفة بر لو الأيام قذفت بكم إلي وأنا بمكاني لأوردتكم العذب من مناهلي، وحملت جميعكم على عاتقي وكاهلي، ولكن الله يعمر بكم أوطانكم، ويحمي من النوب مكانكم، ويحوط هذه السيادة الطالعة فيكم البانية لمعاليكم ... إلخ.
ثم قال ابن بسام: ومد لأبي عبد الرحمن بن طاهر هذا في البقاء حتى تجاوز مصارع جماعة الرؤساء، وشهد محنة المسلمين ببلنسية على يدي الطاغية الكمبيطور - قصمه الله - وجعل ذلك الثغر في قبضة الأسر سنة 448،
11
ومنها كتب رقعة إلى بعض إخوانه يقول فيها: كتبت منتصف صفر وقد حصلنا في قبضة الأسر بخطوب لم تجر في سالف الدهر، فلو رأيت قطر بلنسية - نظر الله إليه وعاد بنوره عليه - وما صنع الزمان به وبأهليه لكنت تندبه وتبكيه؛ فلقد عبث البلى برسومه وعفى على أقماره ونجومه، فلا تسأل عما في نفسي وعن نكدي ويأسي، وضممت الآن إلى الافتداء بعد مكابدة أهوال ذهبت بالذماء، وما أرجو غير صنع الله الذي عود وفضله الذي عهد، وساهمتك مساهمة الصفي؛ لما أعلم من وفائك وتهممك الحفي، مستمطرا من تلقائك دعوة إخلاص، على أنها عسى أن تكون سببا إلى فرج وخلاص بإذن الله، فهو - عز وجهه - يقبل الدعاء من داعيه، وما زال مكانك منة ترى البركة فيه. ا.ه. (3) ما قاله ابن بسام في وقائع السيد في بلنسية
قال أبو الحسن (أي ابن بسام): وإذ قد انتهى بنا القول إلى ذكر بلنسية فلا بد من الإعلان بمحنتها والإتيان بنبذ من أخبار فتنتها التي غرب شأوها في الإسلام، وتجاوز عفوها جهد الكروب العظام، وذكر الأسباب التي جرت جرائرها، وأدارت على المسلمين دوائرها، والإشارة باسم من سلك في طريقها ونهج، ودخل من أبواب عقوقها وحرج. (3-1) ذكر الخبر عن تغلب العدو عليها وعودة المسلمين إليها
قال أبو الحسن: ونذكر إن شاء الله في القسم الرابع نكتا وجوامع تؤدي إلى كيفية تغلب أذفنش طاغية طاغوت الجلالقة قصمها الله على مدينة طليطلة، واسطة الملك وأشمخ ذرى الملك بهذه الجزيرة، وأشرح الأسباب التي ملكته قيادها ووطأته مهادها حتى اقتعد صهوتها وتبحبح
12
ذروتها، وإن يحيى بن ذي النون المتلقب من الألقاب السلطانية بالقادر بالله كان الذي هيج أولا نارها وأجج أوارها، وكان عندما خلي بين أذفنش وبين طليطلة - جدد الله رسمها وأعاد إلى ديوان المسلمين اسمها - قد عاهده على أن يعيد له صعب بلنسية ذلولا وأن يمتعه بنصرتها وتملك حضرتها ولو قليلا، علما منه أنه أسير يديه وعيال عليه، فصارت تهره
13
المعاقل وتبرأ منه المراحل، حتى استقر بقصبة قونكة عند أشياعه بني الفرج حسبما نشرحه في القسم الرابع، إن شاء الله، وهم كانوا ولاة أمره وأوعية عرفه ونكره، بهم أولا صدع وإليهم أخيرا نزع، وطفق يداخل ابن عبد العزيز بمعاذير يلفقها وأساطير ينمقها، وأعجاز من الباطل وصدور يجمعها ويفرقها، وابن عبد العزيز يومئذ يضحك قليلا ويبكي كثيرا ويظهر أمرا ويخفي أمورا، والفلك يدور وأمر الله ينجد ويغور، وورد الخبر بموت ابن عبد العزيز أثناء ذلك، واختلاف ابنيه بعده هنالك، فانسل ابن ذي النون إلى بلنسية انسلال القطا إلى الماء، وطلع عليها طلوع الرقيب على خلوات الأحباء، وانتهجت السبيل بين ملوك أفقنا وبين أمير المسلمين - رحمه الله - على ما قدمنا ذكره سنة 79، وصدم أذفنش الطاغية - قصمه الله - تلك الصدمة المتقدمة الذكر يوم الجمعة، فرجع - لعنه الله - وقد هيض جناحه، وركدت رياحه، وتنفس خناق يحيى بن ذي النون هذا، فتنسم روح البقاء، وتبلغ بما كان بقي له من ذماء، ودخل من معاقدة أمير المسلمين فيما دخل فيه معشر الرؤساء، ولم يزل إدبارهم على ما ذكرنا يستشري وعقاب بعضهم إلى بعض تدب وتسري، حتى أذن الله لأمير المسلمين
14
في إفساد سعيهم، وحسم أدواء بغيهم، والانتصار لكواف
15
المسلمين من فعلهم الذميم، ورأيهم الأثيم؛ فشرع في ذلك على ما قدمناه سنة 83؛ فجعلت البلاد عليه تنثال والمنابر باسمه تزدان وتختال، واستمر ينثر نجومهم ويطمس رسومهم باقي سنة 3 وسنة 4 بعدها، وفي ذلك يقول الأديب أبو تمام بن رياح:
كأن بلادهم كانت نساء
تطالبها الضرائر بالطلاق
وفي ذلك القول يقول أبو الحسين بن الجد، وأراه عرض بصاحب ميورقة بعد خلع بني عباد:
ألا قل للذي يرجو مناما
بعيد بين جنبك والفراش
أبو يعقوب من حدثت عنه
فرش سهم العداوة أو فراش
إذا رفش القضاء جبال رضوى
فكيف تراه يصنع بالفراش؟!
ولما أحس أحمد بن يوسف بن هود المنتزي إلى وقتنا هذا على ثغر سرقسطة بعساكر أمير المسلمين تقبل من كل حدب، وتطلع على أطرافه من كل مرقب آسد كلبا من أكلب الجلالقة يسمى برذريق، ويدعى بالكمبيطور، وكان عقالا وداء عضالا له في الجزيرة وقائع على طوائفها بضروب المكروه اطلاعات ومطالع، وكان بنو هود قديما هم الذين أخرجوه من الخمول مستظهرين به على بغيهم الطويل، وسعيهم المذموم المخذول، وسلطوه على أقطار الجزيرة يضع قدمه على صفحات أنجادها، ويركز علمه في أفلاذ أكبادها، حتى غلظ أمره وعم أقاصيها وأدانيها شره، ورأى هذا منهم حيث خاف وهي ملكه وأحس بانتثار سلكه أن يضعه بينه وبين سرعان عساكره أمير المسلمين، فوطأ له أكناف بلنسية، وجبا إليه المال، وأوطأ عقبه الرجال، فنزل بساحتها وقد اضطرب حبلها وتسرب أهلها؛ وذلك أن الفقيه أبا أحمد بن جحاف متولي القضاء بها يومئذ لما رأى عساكر المرابطين تترى، وأحس بهذا الطاغية لعنه الله من جهة أخرى، امتطى صهوة العقوق، وتمثل من فرص اللص ضجة السوق، وطمع في الرئاسة بخدع الفريقين، وذهل عن قصة الثعلب بين الوعلين؛ فاستجاش لأول تلك الوهلة لمة يسيرة من دعاة أمير المسلمين، فهجم بهم على ساحة ابن ذي النون الجافي على حين من غفلته وانفضاض من جملته، واستشراء من علته؛ حيث لم يكن له ناصر إلا الشكوى ولا هادل
16
إلا صدر العصا، فقتله - زعموا - بيد رجل من بني الحديدي طلب بذحل عما كان هو قتل من سلفه، وهدم من بيوت شرفه، في خبر سيأتي ذكره ويشرح بمشيئة الله في موضعه من هذا الكتاب أمره. وفي قتله لابن ذي النون يقول أبو عبد الرحمن بن طاهر:
أيها الأخيف
17
مهلا
فلقد جئت عويصا
إذ قتلت الملك يحيى
وتقمصت القميصا
رب يوم فيه تجزى
لم تجد عنه محيصا
ولما تم لأبي أحمد شأنه، واستقر به على زعمه سلطانه، وقع في هراش وتفرقت الظباء على خداش
18
ودفع إلى النظر في أمور سلطانية لم يتقدم قبل في غوامض حقائقها، وإلى ركوب أساليب سياسية لم يكن له عهد باقتحام مضايقها ولا بالدخول في ضنك مآزقها، ولم يعلم أن تدبير الأقاليم غير تلقين الخصوم، وأن عقد ألوية البنود غير الترجيح بين العقود وانتخال الشهود، وشغل بما كان احتجن من بقية ذخائر ابن ذي النون، وأنسته عن استجلاب الرجال والنظر في شيء من الأعمال، وانفضت عنه تلك الجملة اليسيرة المرابطية التي كان تعلق بسببها وموه على الناس بها لضيق المذاهب وغلظة ذلك العدو المصاقب، وقوي طمع لذريق في ملك بلنسية؛ فلازمها ملازمة الغريم، وتلذذ بها تلذذ العشاق بالرسوم؛ ينتسف أقواتها، ويقتل حماتها، ويسوق إليها كل منية، ويطلع عليها من كل ثنية.
فرب ذروة عز قد طالما بلدت الأماني والنفوس دونها، ويئست الأقمار والشموس من أن تكونها، قد ورد ذلك الطاغية يومئذ معينها، وأذال مصونها، ورب وجه كانت تدميه الذر، وتحسده الشمس والبدر، ويتغاير عليه المرجان والدر، قد أصبح ذرية لزجاجه،
19
نعلا لأقدام أراذل أعلاجه، وبلغ الجهد بأهلها والامتحان أن أحلوا محرم الحيوان، وأبو أحمد المذكور في أنشوطة ما سهل وسنى، وشرك ما جر على نفسه وجنى، يستصرخ أمير المسلمين على بعد داره وتراخي مزاره، فتارة يسمعه ويحركه وتارة ينقطع دونه ولا يدركه، وقد كان من أمير المسلمين بموضع ومن رأيه الجميل بمرأى ومسمع، ولكن أبطأ عنه نصره بنأي الدار ونفوذ المقدار، وإذا قدر الله أمرا فتح أبوابه ويسر أسبابه، وتم للطاغية لذريق مراده الذميم من دخول بلنسية سنة 88 على وجه من وجوه غدره، وبعد إذعان من القاضي المذكور لسطوة كبره، ودخوله طائعا في أمره على وسائل اتخذها وعهود ومواثيق بزعمه أخذها، لم يمتد لها أحد ولا كثر لأيامها عدد، وبقي معه مديدة يضجر من صحبته ويلتمس السبيل إلى نكبته حتى أمكنته - زعموا - بسبب ذخيرة نفيسة من ذخائر ابن ذي النون، وكان لذريق لأول دخوله قد سأله عنها واستحلفه بمحضر جماعة من أهل الملتين على البراءة منها، فأقسم بالله جهد أيمانه غافلا عما في الغيب من بلائه وامتحانه، وجعل لذريق بينه وبين القاضي المذكور عهدا أحضره الطائفتين، وأشهد عليه أعلام الملتين إن هو انتهى بعد إليها وعثر عنده عليها؛ ليستحلن إخفار ذممه وسفك دمه.
فلم ينشب لذريق أن ظهر على الذخيرة المذكورة لديه؛ لما كان حم من إجراء محنته على يديه، ولعلها كانت منه حيلة أدارها وداهية من دواهيه سداها وأنارها، فأنحى على أمواله بالنهاب، وعليه وعلى أهله بأنواع العذاب، حتى بلغ جهده ويئس مما عنده، فأضرم له نارا أتلفت ذماءه وحرقت أشلاءه.
حدثني من رآه في ذلك المقام وقد حفر له حفير إلى رفغيه، وأضرمت النار حواليه، وهو يضم ما بعد من الحطب بيديه،
20
ليكون أسرع لذهابه وأقصر لمدة عذابه، كتبها الله له في صحيفة حسناته، ومحا بها سالف سيئاته، وكفانا بعد أليم نقماته ويسرنا إلى ما يزلف إلى مرضاته.
وهم يومئذ الطاغية - لعنه الله - بتحريق زوجته وبناته، فكلمه فيهن بعض طغاته، فبعد لأي ما لفته عن رأيه، وتخلصن من يدي نكدائه، وأضرم هذا المصاب الجليل أقطار الجزيرة يومئذ نارا، وجلل سائر طبقاتها حزنا وعارا، وغلظ أمر ذلك الطاغية حتى فدح التهائم والنجود وأخاف القريب والبعيد.
حدثني من سمعه يقول وقد قوي طمعه ولج به جشعه: على رذريق فتحت هذه الجزيرة ورذريق يستنقذها. كلمة ملأت الصدور وخيلت وقوع المخوف والمحذور، وكان هذا البائقة وقته في درب
21
شهامته، واجتماع حزامته، وتناهي صرامته، آية من آيات ربه إلى أن رماه سريعا بحتفه، وأماته ببلنسية حتف أنفه.
وكان لعنه الله منصور العلم مظفرا على طوائف العجم، لقي زعماءهم مرارا كغرسيه
Garcia
المنبوز بالفم المعوج ورئيس الإفرنج وابن ردمير، ففل حد جنودهم، وقتل بعدده اليسير كثير عديدهم، وكان - زعموا - تدرس بين يديه الكتب، وتقرأ عليه سير العرب، فإذا انتهى إلى أخبار المهلب استخفه الطرب، وطفق يعجب منها ويتعجب. وفي بلنسية يومئذ يقول أبو إسحاق بن خفاجة:
عاثت بساحتك الظبى يا دار
ومحا محاسنك البلا والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر
طال اعتبار فيك واستعبار
إلى آخر الأبيات وقد تقدمت.
وتجرد أمير المسلمين - رحمه الله - لما بلغه هذا النبأ العظيم واتصل به هذا الرزء الشنيع، وكان قذى أجفانه وجماع شأنه وشغل يده ولسانه يسرب إليها الرجال وينصب عليها الحبائل والحبال، والحرب هنالك سجال، والحال بين العدو وبين عساكر أمير المسلمين إدبار وإقبال، حتى رحض عارها وغسل شنارها ، وكان آخر أمراء أجناده المجهزين إليها في جماهر إعداده الأمير أبو محمد مزدلي ظبة حسامه، وسلك نظامه؛ ففتحها الله عليه، وأذن في تخلصها على يديه في شهر رمضان سنة 95، كتب الله منزله في عليين، وجزاه عن جده وجهاده أفضل جزاء المحسنين.
وفي ذلك التاريخ كتب أبو عبد الرحمن بن طاهر إلى الوزير أبي عبد الله بن عبد العزيز رقعة يقول فيها: كتبت منتصف الشهر المباع، وقد وافى بدخول بلنسية جبرها الله بالفتح بعدما خامرها القبح فأضرم أكثرها نارا، وتركها آية للسائلين واعتبارا، وتغشاها سوادا كما لبست به حدادا، فهي تنظر من طرف خفي وتتنفس عن قلب يتقلب على جمر ذكي، غير أنه بقي لها جسمها الأنعم وتربها الأكوم الذي هو كالمسك الأذفر والذهب الأحمر، وحدائقها الغلب ونهرها العذب، وبسعد أمير المسلمين وإقباله عليها ينجلي ظلامها ويعود عليها حليها ونظامها، وتروح في الحلل، وتبرز كالشمس في بيت الحمل، فالحمد لله مالك الملك مطهرها من الشرك، وفي عودتها إلى الإسلام عز وعزاء عما نفذ به قدر وقضاء. انتهى.
وكتب يومئذ إلى الوزير الفقيه ابن جحاف يعزيه بابن عمه أبي أحمد المحرق المتقدم الذكر: مثلك - وقاك الله المحاذير - في وفور الدين، وصحة اليقين، وسلامة الضمير، وعدم النظير، وقوة الرجحان، ومعرفة الزمان، أعطى الحوادث صبرا، وردها على أعقابها صغرا؛ فلم يخضع لصولتها، ولم يحفل بسورتها، ودرى أنها الأيام والغير والحمام والقدر، ودارت الخطوب - عصمك الله من إلمامها وحماك من اخترامها - بمصرع الفقيه القاضي أبي أحمد - عفا الله عنه - ومهلكه وانحطاطه من فلكه، فانقضت لعمري نجوم المجد بانقضاضه، وبكت سماء الفضل على تداعيه وانفضاضه؛ فإنه كان من جمال المذاهب والغوث عند النوائب، بحيث يكون الغيث في قيظ المحل، والحلب عند انقطاع الرسل
22
بعيدا عن القسوة، صفوحا عن الهفوة، عطوفا على الجيران، عزيزا على الإخوان، يستهوي القلوب ببشره ويتملك الأحرار ببره. وإن الدنيا بعده لفي حداد لما أقصدته يد
23
زناد قائما بأعبائها مبيرا لأعدائها، فهي تبكيه بأربعة سجام، وتندبه في كل مقام، ويا أسرع ما سلبته المنون وقد قرت به منكم العيون، وطوقكم طوق الفخار، وأناف بقدركم على الأقدار، فإنا لله وإنا إليه راجعون على أليم المصاب، وعند الله نحتسبه كريم الأصل والنصاب، وطودا منيعا، ومرمى رفيعا، وقد تساوينا في الرزية؛ فلنعدل إلى التسلية؛ فذلك أوفر ذخرا وأعظم أجرا.
قال أبو الحسن: وأبو عبد الرحمن أكثر إحسانا، وأوضح خبرا وعيانا من أن يحاط بأخباره أو يعبر عن جلالة مقداره، وقد استوفيت معظم كلامه في كتاب مفرد ترجمته بسلك الجواهر في ترسيل ابن طاهر، وهو اليوم ببلنسية سالم ينطق وحي يرزق، وقد نيف
24
عن الثمانين، وما أحوجه سمعه إلى ترجمان، بل هو حتى الآن يهب للطروس من ألفاظه ما يفضح العقود الدرية، وتعسعس
25
معه الليالي البدرية، وفيها أوردنا كفاية من الذي يمكنه النهاية. (3-2) تتمة خبر أمير المسلمين ووقائع بلنسية
فلما تحقق عند النصارى أنه قد جاز، وقطع البحر وفاز، اتفقوا على تدويخ شرق الأندلس، وشن الغارات على سرقسطة وجهاتها، وتمادوا إلى بلنسية ودانية وشاطبة ومرسية وذواتها؛ فانتسفوها نسفا، وتركوها قاعا صفصفا، وأخذوا حصن «مره
26
وايط» وغيرها، فساء حال المشرق، وحسن المغرب بمن كان فيه من المرابطين، وخرج الحاجب منذر بن أحمد بن هود من لاردة، ونزل على بلنسية وحصرها طامعا في أخذها من يد القادر، فلما سمع به ابن أخيه المستعين استنصر بالقنبيطور - لعنه الله - وخرج معه في أربعمائة فارس والقنبيطور في ثلاثة آلاف، وغزا معه بنفسه حرصا منه على ملك بلنسية على أن للقنبيطور أموالها وللمستعين جفنها،
27
فلما سمع بمجيئه عمه الحاجب رحل عنها، ولم يحل بطائل منها، فلم يزل محاصرا لها حتى حصلها. وفي هذه السنة - وهي سنة 481 - كان السيل الأعظم في صدمة أكتوبر الذي خرب بلنسية وغيرها، وهدم برج القنطرة.
ثم إن الفنش خف روعه وانتعشت نفسه؛ فحشد وجمع واستعد، وخرج قاصدا لمنازلة بلنسية ومحاصرتها بعد أن كتب إلى أهل جنوة وفيشة
28
أن يأتوه في البحر، فوصلوا إليه في نحو أربعمائة قلاع، فاستحكم طمعه فيها وفي جميع سواحل الجزيرة؛ فارتاع له كل من في السواحل، ثم إن الله تعالى خالف بين كلمتهم وأذن بتفرقهم؛ فأصبح وهو راحل، ولم يحصل على طائل، ولما نزل الفنش على بلنسية غضب القنبيطور واحتد، وجمع وحشد؛ لأنه كان يعدها له طاعة والقادر بها عامله؛ إذ لا قدرة له على الدفاع ولا استطاعة؛ فخالفه إلى قشتالة، فحرق وهدم، فكان ذلك أقوى الأسباب في افتراق ذلك الجمع عن بلنسية، وانصرف الفنش إلى قشتالة مسرعا والقنبيطور قد ولى راجعا، ونزل أسطول جنوة وغيرها على طرطوشة، وجاءهم ابن ردمير وصاحب برشلونة فثبتها الله ودفع عنها، وانصرف جميعهم خائبا منها، فكر القنبيطور إلى بلنسية، واتفق معهم على مائة ألف مثقال جزية في كل عام.
وفي هذا العام استحكم طمع أصناف النصارى على الجزيرة، فضيق غرسية
29
على المرية وألفانه
30
على لورقة، وحاصر البرهانس
31
مرسية، والقنبيطور شاطبة.
وبنى أسقف إفرنجي في ضفة البحر حصن «ششنة»،
32
فحميت عند ذلك نفوس من بإشبيلية من المرابطين، وتقدم عليهم القائد محمد بن عائشة وقصد بهم مرسية، والتقى بهم مع جملة من النصارى، فهزموهم وقتلوا منهم وأسروا جماعة، وخلع صاحب مرسية، وتمادى إلى دانية ففر صاحبها ابن مجاهد في البحر وآوى إلى الدولة الحمادية.
ودخل ابن عائشة دانية فوافاه بها ابن جحاف - قاضي بلنسية - وسأله النهوض إليها معه، فلم يمكنه أن يفارق موضعه؛ فأنفذ معه عسكرا، وقدم عليه قائده أبا ناصر؛ فوصلا إليها وقصدا القادر وقتلاه، وذلك سنة 485.
فلما انتهى ذلك إلى القنبيطور وهو محاصر لسرقسطة غاظه، وحميت نفسه، وزال عنه أنسه؛ لأنها كانت - بزعمه - طاعته؛ لأن القادر كان يعطيه منها مائة ألف دينار في العام جزية؛ فرحل عن سرقسطة، فنزل على بلنسية، وحاصرها مدة من عشرين شهرا إلى أن دخلها قهرا بعد أن لقي أهلها في تلك المدة ما لم يلقه بشر من الجوع والشدة إلى أن وصل عندهم فأر دينارا،
33
وكان دخوله إياها سنة 487، وفي هذه المدة انقطع إلى القنبيطور وغيره من أشرار المسلمين وأرذالهم وفجارهم وفساقهم وممن يعمل بأعمالهم خلق كثير، وتسموا بالدوائر فكانوا يشنون على المسلمين الغارات ويكشفون الحرمات، يقتلون الرجال ويسلبون النساء والأطفال، وكثير منهم ارتد عن الإسلام، ونبذ شريعة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى أن انتهى بيعهم للمسلم الأسير بخبزة وقدح خمر ورطل حوت، ومن لم يفد نفسه قطع لسانه وفقئت أجفانه وسلطت عليه الكلاب الضارية؛ فأخذته أخذة رابية، وتعلقت منهم طائفة بالبرهانس - لعنه الله ولعنهم - فكانت تقطع ذكور الرجال وفروج النساء، ورجعوا له من جملة الخدمة والعمال، وفتنوا فتنة عظيمة في أديانهم وسلبوا جملة إيمانهم.
وأخذ «أمير المسلمين» في المصدر إلى العدوة، وقد كان أنفذ جملة من جيشه إلى «كنكة»،
34
وقدم عليه (؟عليها) محمد بن عائشة فالتقوا مع البرهانس - لعنه الله - فانهزم أمامهم، واستأصلوا محلته، وانصرفوا فرحين وبالظفر مستبشرين. ثم نهض إلى ناحية جزيرة شقر للقاء العدو، وذكر له أنه يؤمها ويقصدها، فالتقوا بجملة من جند القنبيطور فأوقع بهم وقتلهم شر قتلة، ولم يفلت إلا اليسير من تلك الحملة، فلما وصل الفل إليه مات غمة، لا رحمه الله.
وفي سنة 494 جاز الأمير مزدلي في جيش عرمرم وقصد بلنسية منازلا ومحاصرا لها، فأقام عليها سبعة أشهر، فلما رأى الفنش ما حل برجاله من ألم الحصار وأهواله وصل بمحلته الذميمة إليها، وأخرج جميع من كان من الروم لديها، وأضرمها نارا وتركها آية واعتبارا. ا.ه.
قد أطلنا في ذكر هذه الوقائع التاريخية التي من حقها أن توضع في القسم التاريخي من هذا الكتاب؛ وذلك نظرا لكثرة ورود ذكر القنبيطور في الكلام على بلنسية التي نحن في صددها، وبديهي أن ما جاء في القسم الجغرافي من كتابنا هذا من الأخبار لا يعاد في القسم التاريخي منه، وإن أعيد منه شيء فيكون على وجه التلخيص. أما القنبيطور فلم نستوف هنا كل الكلام عليه، وسيكون له دور ثان عند الوصول إلى التاريخ. (4) ذكر من نبغ في بلنسية من أهل العلم
منهم محمد بن أبي الأسود البلنسي، فقيه محدث، سمع من فضل بن سلمة، ذكره أبو الوليد الفرضي، نقل ذلك ابن عميرة في بغية الملتمس. ومحمد بن جعفر بن أحمد بن حميد أبو عبد الله قاضي بلنسية مقرئ، نحوي، أديب، متقدم، فاضل، أقرأ القرآن والعربية بمرسية مدة. روى عن جماعة منهم أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح، وأبو بكر بن مسعود بن أبي عتبة. وروى عنه بعضهم أيام كونه ببلنسية أنه قال له: لوددت أن أمير المؤمنين كلفني شرح كتاب سيبويه؛ حتى أخلف في تفسيره شرحا يقطع أوراق الأستاذين ولا يحتاج معه إلى معلم. فقيل له: ولم لا تفعل أنت ذلك؟ فقال: لا يمكنني ذلك بسبب الشغل، ولا يمكنني أن أجرد لذلك وقتا، ولو دخلت تحت الأمر كنت أعذر في تجردي وانفرادي.
توفي - رحمه الله - سنة 586 بمرسية، ودفن بإزاء صاحبه القاضي أبي القاسم ببقيع مسجد الجرف: نقل ذلك ابن عميرة وقال: وهو أول من قرأت عليه وسني دون العشر. ومحمد بن جعفر بن شروية أبو عامر الخطيب ببلنسية، فقيه فاضل محدث، ذكره ابن عميرة أيضا، وكانت وفاته سنة 541.
وعبد الرحمن بن طاهر الذي كان أمير مرسية، ثم فقد إمارته على مرسية وتحول إلى بلنسية. قال ابن بسام في كتابه «الذخيرة»: ومد لأبي عبد الرحمن بن طاهر هذا في البقاء حتى تجاوز مصارع جماعة الرؤساء، وشهد محنة المسلمين ببلنسية على يدي الطاغية الكنبيطور - قصمه الله - وجعل بذلك الثغر في قبضة الأسر سنة 488، وتوفي أبو عبد الرحمن المذكور ببلنسية، وصلي عليه بقبلة المسجد الجامع منها إثر صلاة العصر من يوم الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 508، ثم سير به إلى مرسية ودفن بها قد نيف على الثمانين، وعلى مكانه من البراعة والبلاغة في الرسائل فلم أقف له على شعر سوى قوله في مقتل القاتل يحيى بن إسماعيل بن المأمون يحيى بن ذي النون على يدي أبي أحمد جعفر بن عبد الله بن جحاف المعافري عند انتزائه ببلنسية وانتقاله من خطة القضاء إلى الرئاسة ، وكان أخيف:
أيها الأخيف مهلا ... ... ... ... ... (الأبيات).
فقضى الله أن تسلط عليه الطاغية الكنبيطور بعد أن أمنه في نفسه وماله عند دخوله بلنسية صلحا، وتركه على القضاء نحوا من عام، ثم اعتقله وأهل بيته وقرابته، وجعل يطلبهم بمال القادر بن ذي النون، ولم يزل يستخرج ما عندهم بالضرب والإهانة وغليظ العذاب، ثم أمر بإضرام نار عظيمة كانت تلفح الوجوه على مسافة بعيدة، وجيء بالقاضي أبي أحمد يوسف في قيوده وأهله وبنوه حوله، فأمر بإحراقهم جميعا؛ فضج المسلمون والروم، وقد اجتمعوا لذلك ورغبوا في ترك الأطفال والعيال؛ فأسعفهم بعد جهد شديد، واحتفر للقاضي حفرة وذلك بولجة
35
بلنسية، وأدخل فيها إلى حجزته،
36
وسوي التراب حوله، وضمت النار نحوه، فلما دنت منه ولفحت وجهه قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وقبض على أقباسها وضمها إلى جسده يستعجل المنية، فاحتر رحمه الله، وذلك في جمادى الأولى سنة 488، ويوم الخميس منسلخ جمادى الأولى من السنة قبلها كان دخول الكنبيطور المذكور بلنسية. هذا وقد كان أبو عبد الرحمن بن طاهر من كبار الأدباء، فضلا عن كونه من كبار الأمراء.
ومنهم أحمد بن عبد الولي البتي أبو جعفر، ينسب إلى بتة - قرية من قرى بلنسية - كاتب شاعر لبيب، أحرقه القنبيطور - لعنه الله - حين غلب على بلنسية، وذلك سنة 488، ذكره الرشاطي في كتابه. نقل ذلك ابن عميرة في «بغية الملتمس»، ونقله عنه دوزي في كتابه «مباحث عن تاريخ إسبانية وآدابها في القرون الوسطى»، ونقل دوزي أيضا عن السيوطي في تراجم النحاة ذكر أحمد بن عبد الولي البلنسي هذا فقال: إنه كان قائما على الآداب وكتب النحو واللغة والأشعار كاتبا شاعرا، كتب عن بعض الوزراء وأحرقه القنبيطور - لعنه الله - لما تغلب على بلنسية سنة 88.
ومنهم محمد بن الخلف بن الحسن بن إسماعيل الصدفي، بلنسي، أبو عبد الله بن علقمة، صحب أبا محمد بن حيان الأروشي وأمثاله، روى عنه ابنه عبد الله، وكان ينتحل الكتابة وقرض الشعر على تقصيره فيهما، وله تاريخ في تغلب الروم على بلنسية قبل خمسمائة سماه «بالبيان الواضح في الملم الفادح» ليس بذاك. وله تأليف غيره، مولده سنة 428، وتوفي يوم الأحد لخمس بقين من شوال سنة 509. نقل ذلك ابن عبد الملك المراكشي في كتابه «الذيل والتكملة على الموصول والصلة»، وهو كتاب تسعة مجلدات جعله ابن عبد الملك هذا تكملة لكتابين أحدهما «تاريخ علماء الأندلس» لابن الفرضي والثاني «الصلة» لابن بشكوال.
ومن المعلوم أن كتاب «الصلة» ألفه ابن بشكوال تكملة لكتاب ابن الفرضي؛ فلهذا قال ابن عبد الملك المراكشي في اسم كتابه «الذيل والتكملة على الموصول والصلة»، وقد أشار إلى هذا الكتاب ابن الخطيب والسيوطي والمقري، ولكنه لم يرد ذكره في كشف الظنون. قال دوزي: «وفي أوروبة من هذا الكتاب مجلدان: أحدهما في مكتبة دير الأسكوريال في إسبانية، والآخر في مكتبة باريس ومؤلفه يقال له قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الأنصاري، ثم الأوسي المراكشي.»
ومنهم محمد بن سعيد أبو عامر التاكرني الكاتب، قال ابن عميرة في بغية الملتمس: كان من أهل الأدب والبلاغة والشعر، ذكره أبو عامر بن شهيد، سكن بلنسية، وخدم صاحبها عبد العزيز بن الناصر بعد الأربعمائة.
ومنهم أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري البلنسي، عرف بابن اليتيم، سكن مالقة، وحدث بها عن ابن ورد، وابن أبي أحد عشر، وابن وضاح أبي عبد الله وغيرهم.
ومنهم جعفر بن عبد الله بن جعفر بن جحاف بن يمن، قال ابن عميرة: هو قاضي بلنسية ورئيسها، وآخر القضاة من بني جحاف بها أحرقه القنبيطور - لعنه الله - سنة 488. وهو أبو أحمد المار ذكره والمشهور أمره.
ومنهم جحاف بن يمن قاضي بلنسية؛ قال ابن عميرة: ولاه أمير المؤمنين الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد القضاء بها، محدث، استشهد بالأندلس في غزو الروم في غزوة الخندق سنة 328، وله هناك عقب يتداولون القضاء، ومنهم من رأس بها وغلب عليها إلى أن كان آخرهم القاضي أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن جعفر بن جحاف بن يمن المتقدم الذكر، الذي أحرقه القنبيطور - لعنه الله - حسبما قدمنا ذكره.
ومنهم عبد الله بن حيان الأروشي نزيل بلنسية، قال ابن عميرة في البغية: فقيه محدث عارف، توفي سنة 487، ومولده في عام 409، روى عن أبي عمر بن عبد البر وأبي عمر وعثمان بن أبي بكر السفاقسي، وأبي القاسم بن الإفليلي، وأبي هارون جعفر بن أحمد بن عبد الملك، وأبي الفضل محمد بن محمد بن عبد الواحد التميمي البغدادي، وكانت له همة عالية في اقتناء الكتب وجمعها، ذكر ابن علقمة في تاريخه أن ابن ذي النون - صاحب بلنسية - أخذ كتب الأروشي من داره وسيقت إلى قصره، وذلك مائة عدل وثلاثة وأربعون عدلا من أعدال الحمالين، يقدر كل عدل منها بعشرة أرباع، وقيل: إنه كان قد أخفى منها نحو الثلث.
ومنهم وهب بن نذير أبو العطاء - قاضي بلنسية - يروي عن أبي الوليد الدباغ، وأبي الحسن بن النعمة، توفي في بلنسية في نواحي التسعين بعد الخمسمائة.
ومنهم أبو الحسن البرقي، بلنسي، أديب شاعر بليغ، ذكره ابن عميرة في «بغية الملتمس». وأحمد بن محمد بن حزب الله، يكنى أبا الحسن، من أهل بلنسية، كان مفتيا في بلده عالما بالشروط، توفي سنة 459، ذكره ابن مدير، وترجمه ابن بشكوال في «الصلة»، وخليص بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله الأنصاري من أهل بلنسية، يكنى أبا الحسن، روى عن عمر بن عبد البر فيما زعم. قال ابن بشكوال في «الصلة»: قرأت بخطه أنه روى أيضا عن أبي الوليد الباجي، وأبي العباس العذري، وأبي الوليد الوقشي، وأبي المطرف بن جيمان، ولم يكن بالضابط لما كتب، وسمعت بعضهم يضعفه وينسبه إلى الكذب، توفي - رحمه الله - سنة 513. انتهى.
ومنهم سليمان بن أبي القاسم نجاح، مولى أمير المؤمنين هشام المؤيد بالله، سكن دانية وبلنسية، يكنى أبا داود؛ قال ابن بشكوال: روى عن أبي عمرو عثمان بن سعيد المقري وأكثر عنه، وهو أثبت الناس به، وروى عن أبي عمر بن عبد البر، وأبي العباس العذري، وأبي عبد الله بن سعدون القروي، وأبي شاكر الخطيب، وأبي وليد الباجي وغيرهم، وكان من جلة المقرئين وعلمائهم وفضلائهم وخيارهم، عالما بالقراءات ورواياتها وطرقها، حسن الضبط لها، وكان دينا فاضلا ثقة، وله تواليف كثيرة في معاني القرآن العظيم وغيره.
وكان حسن الخط، جيد الضبط، روى الناس عنه كثيرا، وأخبرنا عنه جماعة من شيوخنا ووصفوه بالعلم والفضل والدين. قال: توفي أبو داود سليمان بن نجاح يوم الأربعاء بعد صلاة الظهر، ودفن يوم الخميس لصلاة العصر بمدينة بلنسية، واحتفل الناس بجنازته وتزاحموا على نعشه، وذلك في رمضان لست عشرة ليلة خلت منه سنة 496، وكان مولده سنة 413، وعبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري - قاضي بلنسية - يكنى أبا عبد الرحمن، ويلقب بحيدرة، روى بقرطبة عن أبي عيسى الليثي، وأبي بكر بن السليم، وأبي بكر بن القوطية، وغيرهم، وكان من العلماء الجلة، ثقة فاضلا، ذكره ابن خزرج، وقال: بلغني أنه توفي ببلنسية قاضيا سنة 417، وله بضع وثمانون سنة. قال ابن بشكوال: وقرأت بخط بعض الشيوخ أنه توفي في شهر رمضان سنة 418، وحدث عنه أبو محمد بن حزم وقال: هو من أفضل قاض رأيته دينا وعقلا وتصاونا مع حظه الوافر من العلم.
وعبد الله بن يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، ولد الحافظ أبي عمر بن عبد البر، سكن مع أبيه بلنسية وغيرها، يكنى أبا محمد، وأصله من قرطبة، روى عن أبيه، وعن أبي سعيد الجعفري، وأبي العباس المهدي، وغيرهم، ذكره الحميدي وقال: كان من أهل الأدب البارع والبلاغة الذائعة والتقدم في العلم والذكاء، مات بعد الخمسين وأربعمائة. قال ابن بشكوال في الصلة: وأنشدني له بعض أهل بلادنا:
لا تكثرن تأملا
واحبس عليك عنان طرفك
فلربما أرسلته
فرماك في ميدان حتفك
قال: قال لي بعض أصحابنا: توفي سنة 458، وصلى عليه القطيني الزاهد. وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري، من أهل بلنسية وقاضيها، يكنى أبا المطرف، روى عن أبي القاسم خلف بن هاني الطرطوشي وغيره، قال ابن بشكوال: وسمع منه أبو بحر الأسدي شيخنا، وحدث عنه ببغداد أبو الفتوح وأبو الليث السمرقندي، وتوفي في سنة 482 وقد نيف على الثمانين، ومولده سنة 384، قرأت مولده ووفاته بخط النميري وعبد العزيز بن محمد بن سعد، من أهل بلنسية، يعرف بابن القدرة، يكنى أبا بكر، روى عن أبي عمر بن عبد البر وغيره، وكان فقيها مشاورا في بلده؛ قال ابن بشكوال: حدث عنه شيخنا أبو عمر الأسدي، وأبو علي بن سكرة وغيرهما، وتوفي سنة 484.
وعمر بن محمد بن واجب من أهل بلنسية، يكنى أبا حفص، روى عن أبي عمر الطلمنكي المقرئ، وسمع من أبي عبد الله بن الحذا صحيح مسلم وغيره، وكان صاحب أحكام بلنسية ومن أهل الفضل والجلالة، قال ابن بشكوال: أخبرنا عنه حفيده أبو الحسن محمد بن واجب بن عمر بن واجب القاضي، توفي قريبا من السبعين والأربعمائة وسنه نحو الستين، وكان قد حج، ذكر ذلك ابن مدير، وقد أخذ عنه أيضا أبو علي بن سكرة، وذكر غيره أنه توفي في شعبان سنة 476.
وأبو عبد الله محمد بن ربيعة كان من ساكني بلنسية، وأصله من جزيرة شقر من عملها، وكان مفتي أهل بلنسية في زمانه، مقدما في الشورى، حافظا للفقه، وتوفي يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر سنة 487، قال ابن بشكوال: كتب لي وفاته شيخنا أبو الحسن عبد الجليل المقرئ.
ومحمد بن باسه بن أحمد بن أرذمان الزهري المقرئ من أهل أنده، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى القراءات عن أبي القاسم خلف بن إبراهيم المقرئ الطليطلي وغيره، وكان مقرئا فاضلا دينا، وتوفي بإشبيلية في شهر رمضان سنة 515، وقد نيف على السبعين، قاله ابن بشكوال.
ومحمد بن واجب بن عمر بن واجب القيسي من أهل بلنسية وقاضيها، يكنى أبا الحسن، روى عن أبي العباس العذري، وعن أبي الفتح، وأبي الليث السمرقندي، وأبي الوليد الباجي وغيرهم، قال ابن بشكوال: كتب إلينا بإجازة ما رواه بخطه، وكان محببا إلى أهل بلده، رفيعا فيهم، جامد اليد عن أموالهم، من بيت فضل وجلالة ونباهة وصيانة، وتوفي - رحمه الله - في صدر ذي الحجة سنة 519، ومولده في شوال سنة 446.
ومحمد بن سليمان بن مروان بن يحيى القيسي، يعرف بالبوني، سكن بلنسية وغيرها، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي داود المقري وأبي عبد الله محمد بن فرج، وأبي علي الغساني، وأبي الحسن بن الروش، وأبي علي الصدفي، وأبي محمد بن عتاب، وكانت له عناية كثيرة بالعلم والرواية وأخبار الشيوخ وأزمانهم ومبلغ أعمارهم، وجمع من ذلك كثيرا؛ قال ابن بشكوال: ووصفه أصحابنا بالثقة والدين والفضل، وتوفي بالمرية ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر من سنة 536.
وموصل بن أحمد بن موصل من ناحية بلنسية، سمع من أبي عبد الله بن الفخار، وأبي القاسم البريلي، وأبي عمر بن عبد البر، وتوفي قريبا من الثمانين؛ قال ابن بشكوال: ذكره ابن مدير، وحدث عنه أبو جعفر بن مطاهر.
وسليمان بن عبد الملك بن روبيل بن إبراهيم بن عبد الله العبدري من أهل بلنسية، يكنى أبا الوليد، سمع من قاضيها أبي الحسن بن واجب، ومن أبي عبد الله محمد بن باسه، وأبي محمد بن السيد، وسمع من جماعة آخرين بشرقي الأندلس؛ قال ابن بشكوال: وسمع بقرطبة من شيخنا أبي محمد بن عتاب وغيره، وعني بالقراءات، وكتب بخطه كثيرا، وتولى الأحكام بغير موضع، وتوفي بإشبيلية صدر شعبان من سنة 430، وكان مولده فيما أخبرني به سنة 496.
والحسن بن محمد بن بهلول القيسي من أهل بلنسية، يكنى أبا علي، روى عن أبي عبد الله محمد بن الحسن البلغي، ذكره ابن الأبار القضاعي في كتاب «التكملة» لكتاب «الصلة». والحسن بن علي بن عبد الله بن سعيد من ناحية بلنسية، يكنى أبا علي، أخذ عن أبي زكريا يحيى بن محمد بن أبي إسحاق، وعن أبي عمرو عثمان بن يوسف البلجيطي، وله رحلة حج فيها كان حيا في سنة 590، ذكره ابن الأبار في «التكملة».
وحسن بن أحمد بن محمد بن موسى بن سعيد بن سعود الأنصاري، من أهل بلنسية، يكنى أبا علي، ويعرف بابن الوزير، وشهر بنسبته إلى بطرنة قرية بشرقي بلنسية، صحب القاضي أبا العطاء بن نذير وسمع منه وتفقه به؛ قال ابن الأبار في التكملة: وأخذ القراءات عن شيخنا أبي علي بن زلال، وعني بعقد الشروط، وكان ذا بصر بها، وولي قضاء بعض الجهات، وأم بالمسجد المنسوب إلى ابن حزب الله في صلاة الفريضة نحوا من أربعين سنة، وصلى التراويح بالولاة قديما وحديثا، وكان من أهل التجويد والتحقيق بالإقراء؛ قال ابن الأبار: لازمته طويلا لمجاورة ومصاهرة أوجبتا ذلك، وسمعت منه، وأذن لي في الرواية عنه، وتوفي بين العشاءين ليلة السبت التاسع والعشرين لذي الحجة سنة 624، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
وحسن بن عبد العزيز بن إسماعيل التجيبي، من أهل بلنسية، يعرف بالبقشليوني نسبة إلى قرية بغربيها،
37
ويكنى أبا علي، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، وأجاز له إجازة عامة في جمادى الآخرة سنة 563، وكان يكتب المصاحف، وصار أخيرا إلى مدينة تونس وأقرأ بها القرآن، ورأيت الأخذ عنه في سلخ شعبان سنة 635، وعلى أثر ذلك توفي بها.
والحسن بن محمد بن الحسن بن فاتح من أهل بلنسية، يكنى أبا علي، ويعرف بالشعار، وجده فاتح مولى بن فلفل من أهل قرطبة، لقي أبا الحسن بن النعمة وأخذ عنه القراءات السبع وأجاز له، وأخذها أيضا عن أبي محمد بن أيوب بن غالب المكتب، وسمع من أبي العطاء بن نذير صحيح البخاري، ومن أبي عبد الله بن نوح كتاب السيرة لابن إسحاق، ورحل حاجا فأدى الفريضة وانصرف فاحترف بالتجارة، وقعد لإقراء القرآن بآخرة من عمره. قال ابن الأبار في كتابه «التكملة»: وسمعت أنا منه في منتصف رمضان سنة 635 أثر منازلة الروم بلنسية بعشرة أيام حكايات وأشعارا، وأجاز لي بلفظه ما رواه، وتوفي يوم السبت عيد الأضحى من السنة المذكورة، ودفن بداخل المدينة، وأخبرني أن مولده أول سنة 552.
وحزب الله بن خلف بن سعيد بن هذيل من أهل بلنسية، يعرف بالتبرالبي، ويكنى أبا محمد، رحل حاجا، وسمع بالإسكندرية من السلفي وغيره في سنة 539، وكان من أهل المعرفة بالفرائض والحساب. وحمدون بن محمد من أهل بلنسية يعرف بابن المعلم، ويكنى أبا بكر، سمع من أبي العباس العذري وأبي الوليد الوقشي، ولازمه وأكثر عنه، وكان من أهل العلم والأدب، يضرب في قرض الشعر بسهم، وتولى الصلاة والخطبة بمسجد رحبة القاضي من بلنسية بعد تغلب الروم عليها واحتيازهم المسجد الجامع بها، وذلك سنة 489، ثم خرج منها مع جماعة من أهلها فرارا بدينه في شهر ربيع الآخر سنة 490 بعضه من تاريخ ابن علقمة، قاله ابن الأبار في «التكملة».
وحيان بن عبد الله بن محمد بن هشام بن عبد الله بن حيان بن فرحون بن علم بن عبد الله بن موسى بن ملك بن حمدون بن حيان الأنصاري الأوسي من أهل بلنسية، وأصل سلفه من أروش عمل قرطبة، يكنى أبا البقاء، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن النعمة، وروى عن أبي محمد بن عبيد الله، لقيه بسبتة، وعن أبي الحسن نجبة بن يحيى، وناظر عليه بمراكش في كتاب سيبويه، وتأدب بأبي الحسن بن سعد الخير؛ قال ابن الأبار: وكان نحويا لغويا أديبا شاعرا، يشارك في الكتابة، ويستعمل العويص، حسن الخط جيد الضبط، وقد أقرأ وقتا بجامع بلنسية، نصبه لذلك القاضي أبو عبد الله بن حميد، لقيته وسمعت مذاكراته، وتوفي سنة 609.
وخلف بن عمر من أهل جزيرة شقر، سكن بلنسية، يكنى أبا القاسم ويعرف بالأخفش، كان يعلم العربية والآداب، وكان حسن التفهيم والتلقين مع المعرفة بالعروض وراقا محسنا ضابطا يتنافس فيما يكتب، ذكره ابن عزيز وأخذ عنه، وحكى أنه كان بملازمته النسخ والوراقة ربما أشكل عليه ضبط الألفاظ، فقرأ العربية كبيرا وبرع فيها، قال: وتوفي بعد الستين والأربعمائة. نقل ذلك ابن الأبار.
وأبو القاسم خلف بن أحمد بن داود الصدفي من أهل بلنسية، وأصله من جهة ركانة من ثغورها، وبالنسبة إليها كان يعرف، سمع أبا عمر بن عبد البر والباجي والوقشي وأبا المطرف بن جحاف وغيرهم، وأخذ العربية عن أبي عبد الله بن رلان،
38
وعلم بها ثم مال إلى قراءة الفقه وسماع الحديث ففقه وعلم الرأي، وكان أديبا شاعرا، وتوفي في مدة حصار الروم بلنسية يوم الجمعة لسبع خلون من ذي الحجة سنة 486، وقد أرمى على السبعين، قاله ابن الأبار وقال: كان هذا الحصار عشرين شهرا أولها رمضان من سنة 485 إلى أن دخلت صلحا في سنة 487.
وخليفة بن عيسى بن رافع بن أحمد بن خليفة بن سعيد بن رافع بن حليس الأموي، من أهل بلنسية، يكنى أبا بكر، روى عن أبي داود المقري، ذكر ذلك ابن عياد ونقله ابن الأبار.
وداود بن محمد بن خليل بن يوسف بن نضير الأنصاري، يكنى أبا الحسن، أصله من سرقسطة، وسكن بلنسية، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن النعمة، وأبي عبد الله بن ريان وغيرهما، ذكره محمد بن عياد، ونقله ابن الأبار.
وزكريا بن علي بن يوسف بن علي الأنصاري، من أهل بلنسية، يعرف بالجعيدي، ويكنى أبا يحيى، كان مقرئا فاضلا، وهو والد أبي زكريا الجعيدي، توفي آخر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة أو أول سنة 574، قاله ابن الأبار.
وطارق بن موسى بن يعيش بن الحسين بن علي بن هشام المخزومي من أهل بلنسية، يعرف بالمنصفي، من قرية في غربيها، يكنى بأبي محمد وبأبي الحسن أيضا، رحل قبل العشرين وخمسمائة، فأدى الفريضة، وجاور بمكة، وسمع بها من أبي عبد الله الحسين بن علي الطبري، ومن الشريف أبي محمد عبد الباقي الزهري المعروف بشقران، أخذ عنه كتاب الإحياء لأبي حامد الغزالي عن مؤلفه، وسمع بالإسكندرية من أبي بكر الطرطوشي، وأبي الحسن بن مشرف، وأبي عبد الله الرازي، وأبي طاهر السلفي وغيرهم، ثم قفل إلى بلده، فحدث وأخذ الناس عنه، وكان شيخا صالحا عالي الرواية ثقة، قال ابن عياد: لم ألق أفضل منه. وحدث عنه بالسماع والإجازة جلة منهم أبو الحسن بن هذيل، وأبو محمد القلني، وأبو مروان بن الصيقل، وأبو العباس الإقليشي، وأبو بكر بن خير، وأبو عبد الله بن حميد، وأبو الحسن بن سعد الخير، وأبو محمد عبد الحق الإشبيلي، وأبو بكر عتيق بن أحمد بن الخصم، وأبو جعفر طارق بن موسى، وأبو عبد الملك بن عبد العزيز، وأبو بكر بن جوزيه، وغيرهم، ثم رحل ثانية إلى المشرق مع صهره أبي العباس الإقليشي، وأبي الوليد بن خيرة الحافظ، وذلك سنة 542 وقد نيف على السبعين، فأقام بمكة مجاورا إلى أن توفي بها سنة 549. روى ذلك ابن الأبار وقال أكثر خبره عن ابن عياد.
وطارق بن موسى بن طارق المعافري المقرئ من أهل بلنسية، ومن ولد يمن بن سعيد المعافري والد جحاف بن يمن، يكنى أبا جعفر، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، وعن أبي الأصبغ بن المرابط، ورحل إلى أبي الحسن شريح بن محمد فأخذ عنه بإشبيلية، ولقي بمالقة أبا علي منصور بن الخير، وأبا عبد الله ابن أخت غانم، وأبا الحسين بن الطراوة، فأخذ عنهم، وسمع أيضا من أبي بكر بن العربي في تردده على بلنسية، ومن أبي بكر بن أسد، وطارق بن يعيش، وأبي محمد القلني، وأبي بكر بن برنجال، وغيرهم، وتصدر للإقراء ببلنسية، وكان من أهل التجويد والإتقان في القراءة، قاله ابن الأبار، وكان يقرئ بالمسجد الجامع ويصلي فيه التراويح، وتولى الحسبة والمواريث، وقتل عند بكوره إلى صلاة الصبح في جمادى الأولى سنة 566.
وأبو عيسى لب
39
بن حسن بن أحمد التجيبي، يعرف بابن الخصب، من أهل بلنسية، أخذ القراءات عن أبي بكر بن نمارة، وأبي الحسن بن النعمة، وأبي جعفر بن طارق، وأخذ قراءة نافع عن أبي الحسن بن هذيل، وكان رجلا صالحا، توفي بدانية قبل سنة 610.
ومحمد بن سعد بن عثمان التجيبي، يعرف بابن القدرة، ويكنى أبا عبد الله، روى عن أبي عبد الرحمن بن جحاف المعروف بحيدرة، وأبي عبد الله بن الفخار، روى عنه ابنه أبو بكر عبد العزيز بن محمد الفقيه، قاله ابن الأبار. قلت: قد تقدم ذكر عبد العزيز بن محمد بن سعد هذا في تراجم علماء بلنسية، ومحمد بن حسين البلنسي أصله من ناحية لرية من عملها، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن رلان (أي: رولان
Rollan ). قال ابن الأبار: وابن عزير يقول فيه أورليان (أي:
Orléan
يظهر أن أصله إسبانيولي) أخذ عن أبي محمد بن الأسلمية وغيره وكان أديبا متفننا متسع المعرفة معلما بالعربية واللغة من أهل القرآن، حاملا له عارفا بإعرابه وغريبه أخذ عنه محمد بن أبي الفضل البنتي.
ومحمد بن عبيد الله بن عبد البر بن ربيعة من أهل بلنسية، أصله من جزيرة شقر، يكنى أبا عبد الله، سمع من أبي عمر بن عبد البر، وأبي المطرف بن جحاف، وأبي عبد الله بن حزب الله وغيرهم، وكان فقيها حافظا مفتيا، توفي في حصار الروم ببلنسية سنة 487، ذكر ذلك ابن علقمة، قال ابن الأبار: إنه قد ذكره ابن بشكوال، ولكن لم ينسبه ولا سمى شيوخه. قلنا: قد تقدم ذكر هذا الفاضل نقلا عن ابن بشكوال، ولم يذكر من أسمائه سوى محمد بن ربيعة، قال: كان من ساكني بلنسية، وأصله من جزيرة شقر من عملها.
ومحمد بن يوسف بن سعيد بن عيسى الكناني من أهل طليطلة، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي بكر أحمد بن يوسف بن حماد، سمع منه مختصر الطليطلي في الفقه، وروى عنه أبو الحسن بن هذيل، وكان فقيها أديبا أصوليا متكلما، وامتحن بأبي أحمد بن جحاف الأخيف في أيام رئاسته، فخرج إلى المرية وبها توفي قبل الخمسمائة، ذكر ذلك ابن الأبار في التكملة نقلا عن ابن عياد.
ومحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن سهل الأنصاري الأوسي، من أهل سرقسطة، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الخراز، روى عن أبي عبد الله بن أوس الحجاري، وأبي العباس العذري، وأبي الوليد الوقشي، واختص به وسمع منه روايته، وهو كان القارئ لما يؤخذ عنه، وكان أديبا شاعرا راوية مكثرا حسن الخط، وكان أبوه أبو جعفر شاعرا أيضا، وهو الذي خاطبه أبو عامر بن غرسية بالرسالة المشهورة، حدث عنه أبو محمد القلني، وأبو عبد الله بن إدريس المخزومي، وأبو طاهر التميمي، قال ابن الأبار في التكملة ذلك، ونقل بعضه عن ابن حبيش، ونقل عن ابن الدباغ أنه أقرأ القرآن بالثغر وكان عنده أدب صالح.
ومحمد بن أحمد بن عبد الله بن حصن الأنصاري، من ولد سعيد بن سعد بن عبادة، كان من أهل بلنسية، وسكن عقبة مربيطر، وأصله من شارقة، يكنى أبا عبد الله، سمع من أبي وليد الوقشي، وكان يلازمه، وأخذ عنه الموطأ وغيره، وكان حسن الخط ذا عناية بالعلم نبيه البيت، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة عن التكملة لابن الأبار.
ومحمد بن عبد الله بن سيف الجذامي من أهل بلنسية، وسكن شاطبة، يكنى أبا عبد الله، أخذ القراءات عن أبي داود وابن الدوشن، وسمع من أبي بكر بن مفوز، وتعلم العربية بدانية على أبي بكر يحيى بن الفرضي، وتصدر للإقراء، وكان مقرئا ضابطا وأديبا شاعرا، روى عنه أبو محمد عبد الغني بن مكي، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة، روى أكثره ابن عياد، قاله ابن الأبار.
ومحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن خلصة بن فتح بن قاسم بن سليمان بن سويد اللخمي النحوي، من أهل بلنسية، أصله من شريون من أعمالها، يكنى أبا عبد الله، سمع أبا علي الصدفي، وأبا بكر بن العربي، قال ابن الأبار: وكان أستاذا في علم اللسان، مقدما في صناعة العربية والأدب، ولا أدري عمن أخذها، فصيحا مفوها، ذا سمت حسن وذكاء معروف، حافظا للغات العرب قائما عليها، ونثره فوق نظمه ورسالته التي رد فيها على ابن السيد من أجود الرسائل، وقد حملت عنه، وكان ابن العربي يجله ويثني عليه بعلمه، وربما زاره في منزله، أقرأ بدانية وبلنسية، ثم انتقل عنها بآخرة من عمره إلى المرية، وأقرأ بها، وأخذ عنه أبو بكر بن رزق، وحضر إقراءه لكتاب سيبويه، ولم يزل مقيما بالمرية إلى أن توفي بها منتصف ليلة السبت في عشر المحرم سنة 521، ودفن لصلاة العصر منه بمقبرة الحوض، وصلى عليه الخطيب أبو الأصبغ بن الحطان. قال ابن الأبار: قرأت ذلك بخط ابن رزق، ووافقه ابن حبيش على سنة إحدى وعشرين وهو الصحيح.
وقال ابن عياد: سمعت أبا بكر بن نمارة يقول: توفي أبو عبد الله بن خلصة بالمرية سنة 520 أو نحوها، وهو أحد من حدث عن ابن العربي، ومات قبله بمدة. وتوفي ببلنسية ابن زرياب وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الله بن سعيد من أهل دورقة ، وقد مر ذكرها في الجزء الثاني من «الحلل السندسية» كتابنا هذا، وذلك في صدر الفصل الذي عنوانه «من نبغ من أهل العلم من مدينة دروقة»، وكانت وفاته ببلنسية ليلة الخميس منتصف رمضان سنة 528، وهو ممن أخذ عن أبي بكر بن العربي، وكان من أهل العلم والفقه مع الزهد، روى ابن الأبار خبره عن أيوب بن نوح وعن ابن سالم.
ومحمد بن عمر بن عبد الله بن محمد العقيلي، من أهل بلنسية، يعرف بابن القباب، ويكنى أبا بكر، روى عن أبي الوليد الوقشي، وخليص بن عبد الله، وابن السيد وغيره، ولقي بقرطبة أبا محمد بن عتاب، وابن طريف، وأبا بحر الأسدي، فسمع منهم في سنة 513، وبعدها، وله أيضا سماع من أبي بكر بن أسود، وكتب عنه عامة أهل الأندلس كأبي علي الغساني، وابن أبي تليد، وابن سكره، وابن العربي، وأبي عبد الله الموروري، وهو من بيت نباهة وأصالة، وكان ذا عناية بالرواية، حسن الخط، جيد الضبط، توفي بعد سنة 530، عن أبي عياد وابن سالم، ذكره ابن الأبار.
ومحمد بن خليل بن يوسف الأنصاري من أهل سرقسطة، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، أخذ عن أبي المطرف بن الوراق، وأبي محمد عبد الله بن يوسف بن سمحون، وكان سماعه من ابن سمحون في سنتي ثلاثين وإحدى وثلاثين وخمسمائة.
ومحمد بن سعادة بن عمر الأنصاري من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن قديم، تفقه بأبي الوليد الوقشي، وتعلم العربية عند أبي العباس الكفيف، وتوفي في نحو سنة 531 عن ابن عياد، ذكره ابن الأبار.
ومحمد بن أحمد بن عثمان من أهل بلنسية، ولد ببريانة من أعمالها وإليها ينسب، يكنى أبا عامر، كان من جلة الأدباء ومشاهير الشعراء وعمر وأسن، وكان يصحب أبا محمد القلني، وقد أخذ عنه أبو عبد الله بن نابل، قال ابن الأبار : أنشدني أبو الربيع بن سالم قال: أنشدني أبو عامر البرياني لنفسه في الصنم الذي بشاطبة:
بقية من بقايا الروم معجبة
أبدى البناة بها من علمهم حكما
إلى آخر الأبيات.
وقد تقدم خبر هذا الرجل، وذكر هذه الأبيات عند ذكر مدينة «بريانة» من أعمال بلنسية، التي هي بين قرية بني قاسم ومدينة مرباطر، فلا لزوم لإعادة الأبيات ثانية.
قال ابن الأبار: إن أبا عامر هذا توفي سنة 533، وقد بلغ ستا وثمانين سنة، قال: وفيها مات أبو إسحاق الخفاجي، وكان من أترابه وأصحابه.
ومحمد بن عبيد الله بن بيبش
40
المخزومي من أهل بلنسية، وأصله من قلبيرة بناحياتها الغربية، يكنى أبا بكر، أخذ عن مشيخة بلنسية، وعني بالفقه، وكان من أهل الفتيا، وحج وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السلفي في سنة 539، قال ابن الأبار: وتوفي هنالك في الفتنة آخر سنة تسع وثلاثين أو أول 540، ومولده سنة 500، بعضه عن ابن سالم. قال ذلك ابن الأبار.
ومحمد بن علي بن عطية من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالشواش، كان أديبا يشارك في الكتابة وقرض الشعر، وانفرد في وقته بحسن الخط، وكان بديع الوراقة أنيقها يتنافس فيما كتب إلى اليوم، قال ابن الأبار: ولم أقف على أسماء شيوخه ولا على تاريخ وفاته، وأحسبها في نحو الأربعين وخمسمائة.
ومحمد بن أحمد بن خلف بن بيبش العبدري من أهل أنده، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، له رواية عن أبي عبد الله الخولاني، وكان فقيها عارفا بالشروط، روى عنه ابنه أبو بكر بيبش بن محمد، قال ابن الأبار: وقرأت بخطه أن أباه توفي ببلنسية عصر يوم الثلاثاء الرابع من صفر سنة 541.
ومحمد بن مروان بن يونس من أهل لرية، وسكن بلنسية، يعرف بابن الأديب، ويكنى أبا عبد الله، سمع من أبي بكر بن العربي، وطارق بن يعيش وغيرهما، وكان حسن الوراقة، معروفا بذلك، وكتب بخطه علما كثيرا، وولاه القاضي مروان بن عبد العزيز خطة السوق، أخذ عنه ابن عياد، وكتب من فوائده عقيدة أبي بكر المرادي ، وأشعارا لابن العربي، وغير ذلك، وقال: توفي ببلنسية سنة إحدى أو اثنتين وأربعين وخمسمائة وقد نيف على الستين. قاله ابن الأبار.
ومحمد بن أحمد بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي الحسن بن هذيل، أخذ عنه القراءات وعن طارق بن يعيش، سمع منه السنن لأبي داود بقراءته في سنة 536، وله أيضا سماع عن ابن الدباغ وابن النعمة، وتفقه بأبي بكر بن أسود وأبي محمد بن عاشر، وولي قضاء بلده مرتين؛ إحداهما عند تأمر ابن عمه مروان بن عبد الله، والثانية في إمارة ابن سعد، وكان وقورا حليما حسن السيرة صلبا في الحق شديد العارضة. وقتله أبو مروان عبد الملك بن شلبان في ثورته ببلنسية سنة 547، ومولده سنة 507، ذكر ذلك ابن عياد، وقال ابن سفين: قبل سنة ست وأربعين، وهو وهم. عن ابن الأبار.
ومحمد بن جعفر بن خيرة مولى لابن فطيس القرطبي من أهل بلنسية، وصاحب الصلاة والخطبة بجامعها، يعرف بابن شروية، ويكنى أبا عامر، سمع من أبي الوليد الوقشي، ولازمه، وأجاز له، وكان صهره، وقد تكلم في روايته عنه لصغره، ومن أبي بكر عبد الباقي بن برال وأبي داود المقري، وسمع من طاهر بن مفوز الحديث المسلسل في الأخذ باليد، وأجاز له أبو القاسم حاتم بن محمد وأبو عبد الله بن السقاط القاضي، وكان شيخا فاضلا نزيها جميل الشاردة ذا جهارة في خطبته ونباهة في بلده، واقتنى من الدواوين والدفاتر كثيرا، وأسن وعمر طويلا، وثقل حتى كان لا يرقى المنبر للخطبة إلى بمعين، حدث عنه ابن بشكوال وأغفله، وابن حميد، وابن عياد، وعبد المنعم بن الفرس، وابن أبي جمرة شيخنا وغيرهم، وتوفي سحر ليلة الاثنين سادس ذي القعدة سنة 547، ودفن خارج باب بيطاله، وما زال قبره هنالك معروفا يتبرك به إلى أن استولى الروم ثانية على بلنسية في أواخر صفر سنة 636، فطمسوه وسائر قبور المسلمين، وصلى عليه أبو الحسن بن النعمة وقد قارب المائة في سنه، وكان أضن الناس بالإعلام بمولده، ذكره القنطري وابن عياد وابن سفين وغيرهم، قال ابن حبيش في وفاته: سنة ست وأربعين، وهو وهم منه. عن ابن الأبار.
ومحمد بن عبد الله بن البرا من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي الحسن بن هذيل، وأبي حفص بن واجب، وأبي الحسن بن النعمة، وتفقه بأبي محمد بن عاشر، وأبي بكر بن أسد، ورحل إلى المرية، فلقي أبا القاسم بن ورد وسمع منه، وكان فقيها حافظا متصرفا في وجوه الفتيا من أهل الدين والفضل، وولي خطة الشورى ببلده للقاضي أبي محمد بن جحاف، وتوفي في رجب سنة 548، عن ابن عياد وابن سفين. عن ابن الأبار أيضا.
ومحمد بن سليمان بن سيدراي الكلابي الوراق من أهل قلعة أيوب، سكن بلنسية، وبالقلعي كان يعرف. وقد تقدمت ترجمته في صفحة 96 من الجزء الثاني من هذا الكتاب، وذلك بين علماء قلعة أيوب فليراجع في مكانه.
وأبو بكر محمد بن الحسن بن محمد العبدري من أهل بلنسية، يعرف بابن سرنباق، قال ابن الأبار: وإلى سلفه ينسب المسجد الذي بربض ابن عطوش من داخل بلنسية، ويقال له مسجد الغرفة، سمع خليص بن عبد الله، وأبا علي الصدفي، وأبا عامر بن حبيب، وبقرطبة ابن عتاب، وابن مغيث، وأبا بحر الأسدي، وأخذ بإشبيلية عن أبي الحسن بن الأخضر، وكان من أهل العلم والرواية والرحلة في سماع العلم. قال: بعضه عن ابن سالم؛ أي بعضه نقله هذا.
وأبو عبد الله محمد بن يونس بن سلمة الأنصاري، وولد ببلنسية سنة 509، ونزل بالمرية، وأصله من طرطوشة؛ ولهذا كان يقال له الطرطوشي، كتب عنه ابن عياد، وذكر أنه صحب أبا العباس بن العريف. عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن بيطش الكناني من أهل بلنسية، يعرف بابن الألشي، روى عن أبي بكر بن أسد، وأبي محمد بن عاشر، وتفقه بهما، وحمل عن أبيه كثيرا من علم الرأي، وولي خطة الشورى ببلده. قال ابن الأبار: وكان فاضلا نزيها صموتا، وتوفي سنة 550 أو نحوها، ذكره ابن سفيان، وكان صاحب ثروة ويسار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد بن عبد الرحمن العبدري من أهل بلنسية، يعرف بابن موجوال، روى عن أبي الحسن بن هذيل وأخذ عنه القراءات، وعن أبي محمد البطليوسي، وسمع من أبي علي الصدفي قبل موته بأيام. قال ابن الأبار: نزل هو أخوه أبو محمد عبد الله إشبيلية، فلقيا مشايخها، وسمعا بها من أبي محمد بن أيوب الحديث المسلسل في الأخذ باليد، وعني محمد هذا بالقراءات عناية أخيه بالفقه وقد أخذ عنه.
وأبو عبد الله محمد بن رافع بن أحمد بن خليفة بن سعيد بن رافع بن حلبس الأموي من أهل بلنسية، أقرأ العربية، وكان من أهل المعرفة. قال ابن الأبار: وله، ولأخويه عيسى المقرئ وعلي، نباهة ورواية، ولخليفة بن عيسى أيضا، ذكرهم جميعا ابن عياد.
ومحمد بن عبد الوهاب بن عبد الملك بن غالب بن عبد الرءوف بن غالب بن نفيس العبدري الوراق من أهل بلنسية، وأصله من طرطوشة، يكنى أبا عامر وأبا عبد الله، سمع من أبي محمد البطليوسي ومن أبي محمد بن عطية القاضي، وكان ضابطا حسن الوراقة، عن ابن الأبار.
ومحمد بن أحمد بن عمران بن عبد الرحمن بن محمد بن عمران بن نمارة الحجري، بفتح الجيم، من أهل بلنسية، يكنى أبا بكر، وهو من ولد أوس بن حجر التميمي شاعر تميم في الجاهلية، وقد نشأ محمد هذا في المرية؛ وذلك لأن أباه أحمد نقله إلى المرية سنة 487 بعد تغلب الروم على بلنسية، فنشأ بالمرية، وقرأ القرآن بها على أبي الحسن البرجي، وسمع الحديث من أبي علي الصدفي، وعياد بن سرحان، وأبي القاسم بن العربي، وعبد القادر بن الحناط، وأبي عبد الله البلغي. وصحب أبا العباس بن العريف، ولقي أبا عبد الله بن الفراء، ورحل إلى قرطبة سنة 506، فأخذ بها القراءات عن أبي القاسم بن النخاس، وعليه اعتمد لعلو روايته التي ساوى بها في بعض الطرق أبا عمرو المقرئ، وسمع منه ومن أبي بحر الأسدي، وأجاز له كثيرون كأبي محمد بن عتاب، وأبي عبد الله الخولاني، وأبي الحسن شريح، وأبي بكر بن عطية، وأبي بكر بن الفصيح، وعاد إلى بلنسية وطنه سنة 508، فأخذ العربية والآداب عن أبي محمد البطليوسي، وتفقه بأبي القاسم بن الأنقر السرقسطي، وسمع منهما وأجازا له، وكذلك لقي في مرسية أبا محمد بن أبي جعفر، فروى عنه وتصدر للإقراء بآخرة من عمره، ووصفه ابن الأبار بالنزاهة والتواضع مع النباهة والوجاهة في بلده، قال: وكان أبو الحسن بن هذيل يثني عليه ويصفه بالانقباض عن خدمة السلطان على كثرة ماله وسعة حاله. وامتحن بالسجن في سنة ثلاث وثلاثين، وهنالك كتب بخطه شرح مقدمة ابن باب شاذ. قال ابن الأبار: حدثنا عنه غير واحد من شيوخنا، وتوفي يوم الاثنين الرابع والعشرين - وقيل السابع عشر، وقيل الثامن عشر - من شعبان سنة 563، ودفن غدوة الثلاثاء، وصلى عليه أبو الحسن بن النعمة، وكانت جنازته مشهودة، ومولده ببلنسية يوم الأربعاء عاشر المحرم سنة 484. أكثره عن ابن عياد وابن سفيان.
وأبو عبد الله محمد بن موفق المكتب مولى ابن علي بن أم الحور من أهل بلنسية يعرف بالخراط، أخذ القراءات عن أبي محمد بن سعدون الضرير وأبي الأصبغ بن المرابط، ولقي أبا زيد بن الوراق عند خروجه من سرقسطة، وسمع أبا الحسن بن هذيل، وكان صناع اليد عارفا بمرسوم الخط في المصاحف، معروفا بالضبط وحسن الوراقة، يغالى فيما يكتب، أخذ عنه ابن عياد وابنه محمد، قال ابن الأبار: توفي بلرية مستهل ذي الحجة سنة 563، ومولده سنة 488، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن أبي الفتح بن حصن بن لربيق بن عفيون بن غفايش بن رزق بن عفيف بن عبد الله بن رواحة بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي من أهل بلنسية، سكن مربيطر، وأصله من شارقة، سمع من صهره أبي علي بن بسيل وغيره، وولي قضاء مربيطر مضافا إلى الصلاة والخطبة، وكان سريا نزيها، قال ابن الأبار: وهو خال شيخنا أبي الخطاب بن واجب، سماه ابن سفيان في معجم شيوخه، وتوفي سنة 567.
وأبو بكر محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن حاضر الأزدي من أهل بلنسية، أخذ القراءة عن أبي الحسن بن هذيل، وسمع من أبي الوليد بن الدباغ، وأبي الحسن بن النعمة، وأقرأ بجامع بلنسية مدة ثم توجه إلى ميورقة، وبها توفي حول سنة 555، ومولده حول سنة 510، ذكره ابن عياد، ونقله ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عتيق بن عطاف الأنصاري من أهل لاردة، سكن بلنسية، يعرف بابن المؤذن، أخذ عن أبي محمد القلني، وناظر عليه في المدونة، ورحل إلى قرطبة فناظر على أبي عبد الله بن الحاج، وقدم للشورى والفتيا ببلنسية، وكان عارفا بالفقه حافظا للرأي، قال ابن عياد: مولده حول التسعين وأربعمائة، وقال ابنه محمد بن عياد: مولده حول سنة خمس وتسعين، وتوفي في شعبان سنة 578. عن ابن الأبار.
وأبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن واجب بن عمر بن واجب القيسي من أهل بلنسية، سمع أباه أبا حفص وتفقه به، وأبا الحسن بن النعمة، وأخذ القراءات عن أبي محمد بن سعدون الضرير، وولي القضاء بعدة كور من بلده، وقدم للشورى والخطبة بالمسجد الجامع مناوبا لشيخه ابن النعمة، وتقلد النيابة في الأحكام مدة قضاء أبي تميم ميمون بن جبارة، وكان دريا بها مقدما فيها، معروفا بالنزاهة والفضل ورجاحة العقل، حسن السمت، رائق الشارة غرة في أهل بيته. قال ابن الأبار: توفي ضحى يوم الاثنين مستهل ربيع الأول سنة 583، ومولده ضحى يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة سنة 517، بعضه عن ابن سالم، وكان يرفع به جدا ويقول: لم يكن في بني واجب على نباهتهم أنبه منه.
وأبو عبد الله محمد بن مقاتل بن حيدرة بن مسعود بن خلف بن سعيد الزهري من أهل بلنسية، صحب أبا جعفر بن جبير وغيره، وكان فقيها أديبا، ولي القضاء بلرية وغيرها من الكور، سماه ابن عياد وابن سالم في معجمي شيوخهما. وتوفي في صدر المحرم سنة 586 ومولده سنة 515.
وأبو عبد الله محمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميد بن مأمون الأموي من أهل بلنسية، أصله من قرية بغربها تعرف بأسيلة، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، ثم رحل إلى غرناطة فأخذ القراءات بها عن أبي الحسن بن ثابت، وأبي عبد الله بن أبي سمرة، ورحل إلى إشبيلية فأخذ القراءات عن أبي الحسن شريح سنة 535، وقصد جيان للقاء الأستاذ أبي بكر بن مسعود، فاختلف إليه ثلاثين شهرا يأخذ عنه العربية والآداب واللغة، وسمع هنالك من أبي الأصبغ بن عبادة الرعيني، ولقي أيضا أبا القاسم بن الأبرش فأخذ عنه العربية، وقيد كثيرا من فوائده، ودخل المرية سنة تسع وثلاثين، فسمع فيها من أبي محمد بن عطية القاضي، ومن أبي الحجاج القضاعي، وأجاز له كثيرون منهم أبو الحسن بن مغيث، وأبو بكر بن فندلة، وأبو مروان الباجي، وأبو بكر بن مدير، وأبو الحسن بن موهب، وأبو بكر بن العربي، وأبو عبد الله بن معمر، وأبو عامر بن شروية، وأبو الحكم بن غشليان، وقفل إلى بلدة بعلم جم ورواية عالية، فأقرأ وحدث وعلم العربية، وأخذ عنه الناس، وولي قضاء بلنسية في العاشر من جمادى الآخرة سنة إحدى وثمانين، وأقام على ذلك أعواما حميد السيرة، مرضي الطريقة، عدلا في أحكامه، جزلا في رأيه، صليبا في الحق، إماما يعتمد عليه في القراءة والعربية؛ لتقدمه في معرفتهما مع الحظ الوافر من البلاغة، والتصرف البديع في الكتابة، وحسن الإمتاع بما يورده ويحكيه، وأوطن مرسية بآخرة من عمره، وناوب في الصلاة بها والخطبة أبا القاسم بن حبيش، وتوفي بها عند صدره عن قرطبة في النصف الثاني من جمادى الأولى سنة 586، قيل: في السابع عشر منه، ودفن بظاهر مرسية عند مسجد الجرف خارج باب ابن أحمد، إلى جانب صاحبه أبي القاسم بن حبيش - رحمهما الله - ومولده ببلنسية سنة 513. قال ابن الأبار بعد أن روى كل هذا: بعض خبره عن أبي زكريا الجعيدي.
ومحمد بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن واجب بن عمر بن واجب القيسي المقرئ من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبيه، وأبي العباس بن الحلال، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي الحسن بن النعمة، وقرأ أيضا على أبي جعفر طارق بن موسى بقراءة نافع، ولقي أبا علي بن عريب، وأبا عبد الله بن الفرس، وأخذ عنهما، وكتب إليه أبو القاسم بن حبيش، وأبو عبيد الله بن حميد وغيرهما، وكان يقرئ القرآن بمسجد ابن حزب الله من داخل بلنسية، ويؤم الناس في صلاة الفريضة، وكان موصوفا بالإتقان والضبط والذكاء، مع الصلاح والخير، وكان صنع اليد بارع الخط صاحب تذهيب. قال ابن الأبار: روى لنا عنه أبو الحسن بن عبد الودود المربيطري، وتوفي سنة 586، ومولده سنة 537 بعضه عن ابن سالم.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علي بن هذيل من أهل بلنسية، ويكنى أبا بكر أيضا، روى عن أبيه وأبي عامر بن شرويه، وأبي الحسن طارق بن يعيش، وأبي الوليد بن الدباغ، وأبي الحسن بن النعمة وغيرهم، ورحل حاجا فلقي بالإسكندرية أبا طاهر السلفي سنة 539، وحج سنة أربعين بعدها، فسمع بمكة من أبي علي بن العرجاء، وأجاز له أبو المظفر الشيباني، وقفل إلى الأندلس سنة ست وأربعين. قال ابن الأبار: وأخذ عنه أبو عمر بن عياد، وابناه محمد وأحمد، ومن شيوخنا أبو الربيع بن سالم، وأبو زيد بن حماس، وأبو بكر بن محرز، وكان غاية في الصلاح والورع وأعمال البر، له حظ من علم العبارة، ومشاركة يسيرة في اللغة، وكتب بخطه على ضعفه كثيرا، ولد سنة 519، وقال ابن محرز: إنه ولد في حدود سنة 520، وتوفي سنة 588.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي زاهر الخطيب من أهل بلنسية، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، وسمع أبا الحسن بن النعمة، وكان من أهل الدين والصلاح والفضل والورع، سمع منه ابنه أبو حامد محمد بن محمد المكتب وغيره، وأقرأ القرآن طوال عمره، وأسمع كتب الرقائق والمواعظ، وكان خطيبا ببعض نواحي بلنسية، توفي بها مستهل ربيع الأول سنة 590 وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكانت جنازته مشهودة لم يتخلف عنها أحد. عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد المكتب من أهل بلنسية، يعرف بابن عذارى، سماه أبو الربيع بن سالم في شيوخه، وقد كان معلمه في الكتاب، عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سلمان بن عثمان بن هاجد الأنصاري من أهل بلنسية، أخذ القراءات عن أبي بكر بن نمارة، وأبي زكريا يحيى بن أحمد بن أبي إسحاق، ورحل حاجا سنة 571، فأدى الفريضة في سنة اثنتين بعدها، وحج بعد ذلك حجتين، وجاور بمكة عامين، وسمع بها من أبي الحسن علي بن حميد بن عمار الطرابلسي صحيح البخاري، وكان قد سمعه من أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر الهروي، وسمع أيضا من أبي محمد المبارك بن الطباخ، وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السلفي، وعاد إلى بلنسية بعد سنة 576، وأخذ عنه أبو الحسن بن خيرة، وأبو عبد الله بن أبي البقاء وغيرهما. قال ابن الأبار: كان من أهل الصلاح والفضل والورع، متحققا بأعمال البر من الصدقات ومفاداة الأسرى، محترفا بالتجارة، مولده بعد الثلاثين وخمسمائة، توفي بمرسية ليلة الأربعاء الثاني أو الثالث من المحرم سنة 598، وصلي عليه صلاة العصر من اليوم المذكور، ودفن خارجها بالمصلى الجديد.
وأبو عبد الله بن خلف بن مرزوق بن أبي الأحوص الزناتي من أهل بلنسية، أصله من أندة من أعمالها، ينسب إلى زناته من نواحيها، يعرف بابن نسع (بالنون)، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل ولازمه وأصهر إليه، وأخذ عن أبي عبد الله بن سعادة، وأبي الحسن بن النعمة وأجازوا له. قال ابن الأبار: وسمع من أبي الحسن طارق بن يعيش كتاب السيرة لابن إسحاق، ولكن لم يجز له، وأخذ عن أبي بكر عتيق بن الخصم مختصر العين للزبيدي، وأجاز له أبو القاسم بن حبيش ما رواه وألفه، وكان مقرئا صالحا زاهدا ورعا، أخذ عنه الناس، وكثيرا ما كان يسمع كتاب السيرة لعلو إسناده فيه ، وكذلك الاستيعاب، حتى كاد يحفظهما. قال ابن الأبار: حدثني بذلك والدي عبد الله بن أبي بكر، وسمع منه هو وجماعة منهم أبو الحسن بن خيرة، وأبو الربيع بن سالم، وأبو عبد الله بن أبي البقاء، وأبو بكر بن محرز، وأبو جعفر بن الدلال، وأبو محمد بن مطروح، وغيرهم، ولد سنة 509، وتوفي صبح السبت الثاني عشر من شعبان سنة 599، وهو ابن تسعين سنة، ودفن لصلاة العصر من اليوم المذكور بمقبرة باب بيطالة، وصلى عليه أبو الحسن بن خيرة، وكانت جنازته مشهودة.
وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن خلف بن يحيى بن خلف بن شلبون الأنصاري النحوي من أهل بلنسية، سمع من أبي بكر بن جزيه، وأبي العطاء بن نذير، وأبي عبد الله بن نسع، وأبي الحجاج بن أيوب، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي جعفر الحصار، وابن كوثر، وابن عروس، وابن حميد. قال ابن الأبار: وكان من أهل الرواية والدراية مع الضبط والإتقان وحسن الخط، وعني بالعربية والآداب فبرع فيها، وقعد للتعليم بها قال: ووصف لي بالتحقيق، وقد وقفت له على نظم ضعيف، وتوفي معتبطا سنة 599.
ومحمد بن يحيى بن خزعل بن سيف الطلحي الشريف، من ولد طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، سمع أبا عبد الله بن حميد وأخذ عنه العربية، وأجاز له أبو محمد بن عبيد الله وأبو القاسم السهيلي وغيرهما. وكان أديبا نحويا بارعا فاضلا، توفي بمراكش سنة 604، عن ابن سالم، قاله ابن الأبار.
ومحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان بن محمد الزهري من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن القح، سمع من صهره أبي الحسن بن هذيل، ومن أبي الحسن بن النعمة، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي الحسن طارق بن يعيش، ومن أبي بكر بن خبر، سمع منه بإشبيلية سنة 571، وأخذ عن أبي القاسم بن حبيش، وأبي الحسن بن سعد الخير، وكان له حظ من الفقه والقراءات، أخذ عنه ابنه أبو بكر محمد، وأبو عبد الله بن أبي البقاء وغيرهما. قال ابن الأبار: ورأيته وأنا صغير، وتوفي سحر ليلة الجمعة الثاني لجمادى الآخرة سنة 605، ومولده سنة سبع وعشرين وخمسمائة.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن يحيى بن محمد بن عمر الأنصاري من أهل بلنسية، يعرف بابن غيرة. قال ابن الأبار: أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن نوح، وأبي جعفر الحصار من شيوخنا، وسمع من أبي عبد الله بن نسع، وأبي بكر بن علي القاضي، وسمع بلرية عن أبي زكريا يحيى بن محمد بن أبي إسحاق، وأبي عبد الله بن عياد، وأبي عبد الله بن فريع، وأخذ بمرسية عن أبي بكر بن أبي جمرة، وأخذ بإشبيلية القراءات عن أبي الحسن نجبة بن يحيى، وأبي إسحاق إبراهيم الطرياني، وأبي جعفر بن مضاء وغيرهم، وعني بالرواية أتم العناية، قال: ولا أعلمه حدث هذا، ولم يذكر ابن الأبار سنة مولده ولا سنة وفاته.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي يحيى بن محمد بن مطروح التجيبي من أهل بلنسية، أصله من سرقسطة، سمع من أبي الحسن بن النعمة، وأجاز له أبو بكر بن أبي جمرة، وكان وراقا يبيع الكتب، إخباريا، أديبا، حلو النادرة، فكيها، وجمع شعر أبي بكر يحيى بن محمد الجزار السرقسطي، وسماه «روضة المحاسن وعمدة المحاسن» قال ابن الأبار. روى عنه أبو عبد الله بن أبي البقاء وابنه أبو محمد عبد الله شيخنا، وقال لي: توفي سنة 606، ومولده بعد الأربعين وخمسمائة.
وأبو عبد الله محمد بن أيوب بن محمد بن وهب بن محمد بن وهب بن نوح الغافقي من أهل بلنسية، ودار سلفه النبيه سرقسطة، سمع من أبيه أبي محمد أيوب، ومن أبي الحسن بن هذيل، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي الحسن بن النعمة، وأبي القاسم بن حبيش، وتفقه بأبي بكر يحيى بن محمد بن عقال، واستظهر المدونة عليه، وأخذ العربية والآداب عن ابن النعمة، وأجاز له أبو مروان بن قزمان، وأبو بكر بن محرز البطليوسي، وأبو مروان بن سلمة الوشقي، وأبو القاسم بن بشكوال وغيرهم. وكتب إليه من الإسكندرية أبو طاهر السلفي، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، مع وفور حظه منها وميله فيها إلى الأعلام المشاهير دون اعتبار لعلو الأسانيد، وولي خطة الشورى في حياة شيوخه، وزاحم كبارهم في الحفظ والتحصيل، ولم يكن في وقته بشرقي الأندلس له نظير. كان رأسا في العلماء الراسخين، وصدرا في الفقهاء المشاورين، تقدم في الفتيا، واطلع على الآداب، واضطلع بالغريب، وشارك في التفسير، وتحقق بالقراءات، وأما عقد الشروط فإليه انتهت الرئاسة فيه، وبه اقتدى من بعده، لم يسبقه أحد من أهل زمانه إلى ما تميز به في ذلك مع حسن الخط وبراعة الضبط والبصر بالحديث والحفظ للأنساب والأخبار، وله تنابيه في فنون شتى، ولو عني بالتأليف لأربى على من سلف، وكان كريم الخلق عظيم القدر سمحا جوادا، وولي قضاء بعض الكور النبيهة، وخطب بجامع بلنسية وقتا.
قال ابن الأبار: ولم يحظ بعلومه حظوة غيره، وامتحن بالولاة والقضاة، وكانوا يجدون السبيل إليه بفضل دعابة كانت فيه مع غلبة السلامة عليه في إعلانه وإسراره، واستغراق آناء ليله في تلاوة القرآن وأطراف نهاره، وكان على سعة علمه مزجى البضاعة في نظمه، وكان نثره أصلح منه، وأنشدني ابنه أبو الحسن محمد غير مرة قال: أنشدني أبي لنفسه:
كأن يقيننا بالموت شك
وما عقل من الشهوات يذكو
أرى الشهوات غالبة علينا
وعند المتقين لهن فتك
وهكذا كان ينشدنا غير مرتاب، ولم أزل في ذلك معولا على ضبطه حتى أفادني بعض أصحابنا في تونس - في أول سنة 645 أو قبلها بيسير - قطعة نسبها إلى ابن المعتز، وأولها:
كأن يقيننا بالموت شك
ولا عقل مع الشهوات يذكو
لهونا والحوادث دائبات
لهن بمن قصدن إليه فتك
وفي الأحداث من أهل الملاهي
رهائن لا تعاد ولا تفك
وللدنيا عدات بالتمني
وكل عداتها كذب وإفك
ويشبه أن يكون أبو الحسن سمع أباه - رحمه الله - يتمثل بهذين البيتين فحسبهما من قوله ونسبهما إليه. وبالجملة فلم يكن لشيخنا في باب المنثور والمنظوم ما يناسب براعته في أفانين العلوم، أقرأ القرآن، وأسمع الحديث، ودرس الفقه، وعلم بالعربية والآداب، وأخذ الناس عنه ورحلوا إليه، وسمع منه جلة من شيوخنا وأصحابنا، وطال عمره حتى أخذ عنه الآباء والأبناء. تلوت عليه القرآن بالسبع، وأجاز لي، وسمعت منه بعد والدي - رحمه الله - ومعه، وهو أغزر من لقيت علما وأبعدهم صيتا، ولد أول وقت الظهر من يوم السبت الثاني من جمادى الآخرة سنة 530، قرأت ذلك بخط أبيه أيوب - رحمه الله - وتوفي في أول وقت الظهر أيضا من يوم الاثنين لست مضين من شوال سنة 608، ودفن يوم الثلاثاء بعده لصلاة العصر بمقبرة باب الخنش وهو ابن ثمان وسبعين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، وصلى عليه أبو الحسن بن خيرة، وهو تولى غسله في جماعة من أصحابه الجلة، وشهدت الخاصة والعامة جنازته وأتبعوه ثناء حسنا، ورثي بمراث كثيرة - رحمه الله - عن ابن الأبار بتصرف. وأبو عبد الله محمد بن محمد بن سليمان بن محمد بن عبد العزيز الأنصاري النحوي من أهل بلنسية، وأصله من سرقسطة، يعرف بالنسبة إلى ابن أبي البقاء خاله، سمع من أبي العطاء بن نذير، وأبي بكر بن أبي جمرة، وأبي عبد الله بن نسع، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب بن واجب وغيرهم، وأجاز له أبو محمد بن الفرس، وأبو ذر الخشني، وأبو الحسين بن جبير وغيرهم، وكتب إليه من أعيان أهل المشرق أبو محمد بن يونس بن يحيى الهاشمي، وأبو عبد الله بن أبي الصيف، وأبو شجاع زاهر بن رستم، وأبو الحسن بن المفضل وغيرهم، وكان يحدث عن أبي مروان بن قزمان، وعن أبي طاهر الخشوعي بإجازته لأهل الأندلس، وفي شيوخه كثرة، وكان شديد العناية بالسماع والرواية مع الحظ الوافر من المعرفة والدراية، يتحقق بعلم اللسان، ويتقدم في العربية، بصيرا بصناعة الحديث، معانيا للتقييد مع حسن الخط وجودة الضبط، وكتب بخطه علما جما، وربما تعيش من الوراقة لإقلاله.
قال ابن الأبار: نقلت من خطه ما نسبته إليه في هذا الكتاب ، وأجاز لي بلفظه، وسمعت منه بعض نظمه، وكان شاعرا مجودا حسن التصرف، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة 610، ودفن بمقبرة باب بيطالة، ومولده في صفر سنة 563. انتهى بتصرف.
ومحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن مفرج بن سهل الأنصاري من أهل بلنسية، يعرف بابن غطوس، ويكنى أبا عبد الله، كان يكتب المصاحف وينقطها، وانفرد في وقته بالإمامة في ذلك، ويقال: إنه كتب ألف نسخة من كتاب الله - عز وجل - ولم يزل الملوك فمن دونهم يتنافسون فيها إلى اليوم، وكان قد آلى على نفسه أن لا يخط حرفا من غيره ولا يخلط به سواه تقربا إلى الله وتنزيها لتنزيله، فما حنث فيما أعلم، وأقام على ذلك حياته كلها خالفا أباه وأخاه في هذه الصناعة التي اشتهروا بها، وكان فيها آية من آيات خالقه مع الخير والصلاح والانقباض عن الناس والعزوف عنهم، قال ابن الأبار: رأيته على هذه الصفة، واستفدت منه بعضا من مرسوم الخط، لقيته عند معلمي أبي حامد، وتغلب عليه الغفلة، وتوفي حول سنة 610.
وأبو عبد الله محمد بن وهب بن لب بن عبد الملك بن أحمد بن محمد بن نذير الفهري من أهل بلنسية، وأصل سلفه من شنت مرية الشرق، سمع أباه، وأبا الحسن بن هذيل، وأبا القاسم بن حبيش وغيرهم، وأجاز له أبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله بن الحضرمي، وكتب إليه السلفي وإلى أخيه أبي عامر بن نذير وأبيهما أبي العطاء القاضي، وخطب بجامع بلنسية مناوبا أباه، واستقضي ببعض الكور. قال ابن الأبار: أخذت عنه جملة من أول الملخص للقابسي، وكان قد سمعه علي بن حبيش، وعاقني عن إكماله بالقراءة مرضه الذي توفي منه ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين لشوال سنة 613، ودفن لصلاة العصر منه بمقبرة باب الخنش، وصلى عليه أبو الحسن بن خيرة، ومولده سنة 551 أو نحوها. انتهى بتصرف.
وأبو قاسم محمد بن محمد بن أيوب بن محمد بن نوح الغافقي من أهل بلنسية، سمع من أبيه ومن أبي القاسم بن حبيش وغيرهما، وأجاز له أبو مروان بن قزمان، وأبو بكر بن محرز البطليوسي وغيرهما، وكان مشاركا في الفقه ماهرا في عقد الشروط، متقدما في الآداب شاعرا مكثرا، وقد كان تولى قضاء جزيرة شقر، وكان جده أيوب بن محمد وجد أبيه محمد بن وهب توليا هذا القضاء من قبل، ثم ولي بعد مدة قضاء المرية، ومنها نقل إلى قضاء بلنسية سنة 611. قال ابن الأبار في التكملة: ولم تحمد سيرته، وصرف عن قضاء بلنسية مستدعى إلى مراكش بعد انبعاث من أهل بلده لمطالبته، قال: وشيعته حينئذ فيمن شيعه وفاتني السماع منه، فأخذت بعض منظومه عن أخيه، وعاجلته منيته بعد صرفه عن القضاء؛ فتوفي بمراكش إثر صلاة الظهر من يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 614، وهو ابن ستين سنة أو نحوها.
وأبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني من أهل بلنسية، نزل أبوه شاطبة، وانتقل هو إلى غرناطة، روى عن ابن الحاج وأخذ العربية عن ابن يسعون، وسمع بشاطبة من أبيه أبي جعفر، وأبي عبد الله الأصيل، وأبي الحسن بن أبي العيش، وأجاز له أبو الوليد بن الدباغ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى التميمي السبتي، وعني بالآداب فبلغ منها الغاية، وتقدم في صياغة القريض وصناعة الكتابة، ونال بها دنيا عريضة، ثم رفضها وزهد فيها وتحرك لنيته الحجازية في شوال سنة 578 صحبة أبي جعفر بن حسان، فأدى الفريضة، وسمع بمكة من أبي حفص الميانشي، ولقي بدمشق أبا الطاهر الخشوعي؛ فأخذ عنه مقامات الحريري بين قراءة وسماع في جمادى الأولى سنة 580، وحدث بها عنه إجازة، وأجاز له أبو محمد عبد اللطيف الخجندي، وأبو أحمد عبد الوهاب بن علي الصوفي، وأبو محمد بن عساكر، وأبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم التونسي المجاور بمكة، وأبو جعفر أحمد بن علي القرطبي، نزيل دمشق وغيرهم، وقفل إلى الأندلس، وسمع منه بها، وحمل عنه شعره، وهو كثير مدون.
قال ابن الأبار: حدثنا عنه به أبو تمام بن إسماعيل بلفظه بين سماع ومناولة وغيره من شيوخنا وأصحابنا، ثم رحل ثانية إلى المشرق تاسع شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين، وعاد إلى المغرب، ثم رحل ثالثة سنة 601، وجاور بمكة وبالقدس، وحدث هنالك وأخذ عنه، وتوفي بالإسكندرية ليلة يوم الأربعاء التاسع والعشرين لشعبان سنة 614، وهو ابن خمس وسبعين سنة. مولده ببلنسية سنة 539، وقيل بشاطبة سنة أربعين. قاله ابن الأبار. وقال المقري في نفح الطيب عند ذكر أعلام الأندلس الذين لهم رحلة إلى الشرق: ومنهم أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني صاحب الرحلة، وهو من ولد حمزة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أندلسي شاطبي بلنسي، مولده ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية، وقيل في مولده غير ذلك، وسمع من أبيه بشاطبة، ومن أبي عبد الله الأصيلي، وأبي الحسن بن أبي العيش، وأخذ عنه القراءات، وعني بالأدب، فبلغ الغاية فيه، وتقدم في صناعة القريض والكتابة، ومن شعره قوله وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنا نضيرا من أحد بساتينها فذوى في يده:
لا تغترب عن وطن
واذكر تصاريف النوى
أما ترى الغصن إذا
ما فارق الأصل ذوى
وقال - رحمه الله - يخاطب الصدر الخجندي:
يا من حواه الدين في عصره
صدر يحل العلم منه الفؤاد
ماذا يرى سيدنا المرتضى
في زائر يخطب منه الوداد
لا يبتغي منه سوى أحرف
يعتدها أشرف ذخر يفاد
ترسمها أنمله مثلما
نمق زهر الروض كف المهاد
في رقعة كالصبح أهدى لها
يد المعالي مسك ليل المداد
إجازة يورثنيها العلي
جائزة تبقى وتفنى البلاد
يستصحب الشكر خديما لها
والشكر للأمجاد أسنى عتاد
فأجابه الصدر الخجندي:
لك الله من خاطب خلتي
ومن قابس يجتدي سقط زندي
أجزت له ما أجازوه لي
وما حدثوه وما صح عندي
وكاتب هذي السطور التي
تراهن عبد اللطيف الخجندي
قال صاحب النفح: ورافق ابن جبير في هذه الرحلة أبو جعفر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن القضاعي، وأصله من أندة من عمل بلنسية، رحل معه فأديا الفريضة وسمعا بدمشق من أبي الطاهر الخشوعي، وأجاز لهما أبو محمد بن أبي عصرون، وأبو محمد القاسم بن عساكر وغيرهما، ودخلا بغداد وتجولا مدة، ثم قفلا جميعا إلى المغرب، فسمع من كل منهما بعض ما كان عنده، وكان أبو جعفر هذا متحققا بعلم الطب، وله فيه تقييد مفيد مع المشاركة الكاملة في فنون العلم.
توفي أبو جعفر هذا بمراكش سنة ثمان أو تسع وتسعين وخمسمائة، ولم يبلغ الخمسين في سنه. رجع إلى ابن جبير، قال لسان الدين بن الخطيب في حقه: إنه من علماء الأندلس بالفقه والحديث والمشاركة في الآداب، وله الرحلة المشهورة، واشتهرت في السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب له قصيدتان؛ إحداهما أولها:
أطلت على أفقك الزاهر
سعود من الفلك الدائر
ومنها:
رفعت مغارم مكس الحجاز
بإنعامك الشامل الغامر
وأمنت أكناف تلك البلاد
فهان السبيل على العابر
وسحب أياديك فياضة
على وارد وعلى صادر
فكم لك بالشرق من حامد
وكم لك بالغرب من شاكر
والأخرى منها في الشكوى من ابن شكر الذي كان أخذ المكس من الناس في الحجاز:
وما نال الحجاز بكم صلاحا
وقد نالته مصر والشآم
قلت: حيث ذكر المقري في النفح شيئا عن ابن جبير نقلا عن لسان الدين بن الخطيب، فقد رأيت الأولى أن أنقل كلامه عنه من كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة»، قال: محمد بن أحمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن عبد السلام الكناني الواصل إلى الأندلس، دخل جده عبد السلام الأندلس في طالعة بلج بن بشر بن عياض القشيري في محرم سنة ثلاث وعشرين ومائة، وهو من ولد حمزة بن كنانة بن بكر بن عبد بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بلنسي الأصل، ثم غرناطي الاستئصال، شرق وغرب وعاد إلى غرناطة، كان أديبا شاعرا مجيدا، سنيا فاضلا، نزيه الهمة سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الطريقة، كتب بسبتة عن أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، وبغرناطة عن غيره من ذوي قرابته، وله فيهم أمداح كثيرة، ثم نزع عن ذلك وتوجه إلى المشرق، وجرت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها براعته وإجادته، ونظمه فائق ونثره بديع، وكلامه المرسل سهل حسن، وأغراضه جليلة، ومحاسنه ضخمة، وذكره شهير، ورحلته نسيجة وحدها طارت كل مطار، رحمه الله .
قال من عني بخبره: رحل ثلاثا من الأندلس إلى الشرق، وحج في كل واحدة منها، فصل عن غرناطة أول ساعة من يوم الخميس لثمان خلون من شوال، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة صحبة أبي جعفر بن حسان، ثم عاد إلى وطنه غرناطة لثمان بقين من محرم عام أحد وثمانين، ولقي أقواما يأتي التعريف بهم في مشيخته، وصنف الرحلة المشهورة، وذكر ما نقله فيها وما شاهده من عجائب البلدان وغرائب المشاهد وبدائع الصنائع، وهو كتاب مؤنس ممتع مثير سواكن الأنفس إلى تلك المعالم.
ولما شاع الخبر المبهج بفتح المقدس على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي قوي عزمه على إعمال الرحلة الثانية، فتحرك إليها من غرناطة يوم الخميس لتسع خلون من ربيع الأول سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ثم آب إلى غرناطة يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من شعبان سنة سبع وثمانين، وسكن بغرناطة، ثم بمالقة، ثم بسبتة، ثم بفاس، منقطعا إلى إسماع الحديث والتصوف وتروية ما عنده، وفضله بديع وورعه يحقق أعماله الصالحة. ثم رحل الثالثة من سبتة بعد موت زوجه عاتكة أم المجد بنت الوزير أبي جعفر الوقشي، وكان كلفه بها جما فعظم وجده عليها، فوصل مكة وجاور بها طويلا ثم ببيت المقدس، ثم تحول لمصر والإسكندرية، فأقام يحدث ويؤخذ عنه إلى أن لحق بربه.
قال ابن الخطيب عن ابن جبير: روى بالأندلس عن أبيه وأبي الحسن بن محمد بن أبي العيش، وأبي عبد الله بن أحمد بن عروس، وابن الأصيلي، وأخذ العربية عن الحجاج بن يسعون، وبسبتة عن أبي عبد الله بن عيسى التميمي السبتي، وأجاز له أبو إبراهيم بن إسحاق بن عبد الله بن عيسى التميمي السبتي التونسي، وأبو حفص عمر بن عبد المجيد عم القرشي الميانجي نزيل مكة، وأبو جعفر أحمد بن علي القرطبي الفتكي، وأبو الحجاج يوسف بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد البغدادي، وصدر الدين أبو محمد عبد اللطيف الخجندي - رئيس الشافعية بأصبهان، وببغداد العالم الحافظ أبو الفرج، وكناه أبو الفضل بن الجوزي، وحضر مجالسه الوعظية فشاهد رجلا ليس بعمرو ولا زيد وكل الصيد في جوف الفرا. وبدمشق أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي بن عبد الله بن عباس السلمي الحواري، وأبو سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، وأبو الطاهر الخشوعي، وسمع عليه، وعماد الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصبهاني من أئمة الكتاب، وأخذ عنه بعض كلامه، وأبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الأحصر بن علي بن عساكر، وسمع عليه، وأبو الوليد إسماعيل بن علي بن إبراهيم. ا.ه.
قلنا: أما أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي بن عبد الله بن عباس السلمي، فقد ورد في شذرات الذهب ذكر عبد الكريم بن حمزة أبي محمد السلمي الدمشقي مسند الشام، روى عن أبي القاسم الحتاني، والخطيب، وأبي الحسين بن مكي، وكان ثقة، توفي في ذي القعدة سنة ست وعشرين وخمسمائة.
وورد أيضا ذكر أبي يعلى حمزة بن أحمد بن فارس بن كروس السلمي الدمشقي، وكان شيخا مباركا حسن السمت، توفي في صفر سنة سبع وخمسين وخمسمائة وله أربع وثمانون سنة. وأما أبو طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي
41
مسند الشام، فقد مات سنة ثمان وتسعين وخمسمائة عن تسع وثمانين سنة، وقد ورد ذكره في الجزء الرابع صفحة 337 من شذرات الذهب. وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان: إنه أبو الطاهر بركات ابن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم ابن الشيخ أبي الفضل طاهر بن بركات بن إبراهيم بن علي بن محمد بن أحمد بن العباس بن هاشم الخشوعي الدمشقي الفرشي - بضم الفاء وسكون الراء وبعدها شين مثلثة - نسبة إلى بيع الفرش، ومثل ذلك الأنماطي.
قال ابن خلكان: كان له سماعات عالية وإجازات تفرد بها، وألحق الأصاغر بالأكابر، وانفرد بالإجازة من أبي محمد القاسم الحريري البصري صاحب المقامات، وهو من بيت الحديث؛ حدث هو وأبوه وجده، وسئل أبوه: لم سموا الخشوعيين؟ فقال: كان جدنا الأعلى يؤم بالناس فتوفي في المحراب فسمي الخشوعي نسبة إلى الخشوع.
وكان مولد أبي الطاهر المذكور بدمشق في رجب سنة عشر وخمسمائة، وتوفي ليلة السابع والعشرين من صفر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ودفن من الغد بباب الفراديس على والده، رحمهما الله تعالى.
وأما عماد الدين أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي الفرج محمد بن حامد الأصبهاني، فيذكر الذهبي وفاته في سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وهو العماد الأصبهاني الكاتب الشهير كاتب السلطان صلاح الدين. قال ابن خلكان في الوفيات: أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي الفرج محمد بن نفيس الدين أبي الرجاء حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله الملقب عماد الدين الكاتب الأصبهاني، المعروف بابن أخي العزيز، كان العماد المذكور فقيها شافعي المذهب، تفقه بالمدرسة النظامية زمانا، وأتقن الخلاف وفنون الأدب، وله من الشعر والرسائل ما يغني عن الإطالة في شرحه، وذكر منشأه بأصبهان وقدومه لطلب العلم في بغداد، وأنه اتصل بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد، فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، فلما مات الوزير المذكور نكب أتباعه، فهاجر العماد الأصبهاني إلى دمشق فوصلها في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن أتابك زنكي، وقاضيها كمال الدين بن الشهرزوري، فتعرف به وعرفه أيضا الأمير الكبير نجم الدين والد السلطان صلاح الدين. وفي تلك المدة تعرف بصلاح الدين أيضا.
ولما توفي نور الدين زنكي نظمه صلاح الدين في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه؛ فصار من الصدور المعدودين، وكان ملازما لصلاح الدين وله التآليف الكثيرة.
ولما مات السلطان صلاح الدين اختلت أحوال العماد الأصبهاني؛ فلزم بيته وأقبل على التأليف، وكانت ولادته سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان، وتوفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق، وذكره صاحب شذرات الذهب في الصفحة 332 من الجزء الرابع، وترجمته في الشذرات لا تخرج عن مآل ترجمته في الوفيات، وذكر أنه تلاقى مع القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني وزير صلاح الدين فقال له العماد: سر فلا كبا بك الفرس. وهي جملة تقرأ طردا وعكسا. وكذلك ذكره الذهبي في تاريخه في من مات سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ا.ه.
وقد نقلنا تراجم هؤلاء الأعيان من المشارقة الذين أخذ عنهم ابن جبير الأندلسي؛ نظرا لشهرتهم ولإجازاتهم لعلماء الأندلس. ونعود إلى نقل ما قاله لسان الدين بن الخطيب عن ابن جبير، وهو ما يأتي: (4-1) من أخذ عنه
قال ابن عبد الملك: أخذ عنه أبو إسحاق بن مهيب، وابن الواعظ، وأبو تمام بن إسماعيل، وأبو الحسن بن نصر بن فاتح بن عبد الله البجائي، وأبو الحسن علي الشادي، وأبو سليمان بن حوط الله، وأبو زكريا، وأبو بكر بن محمد يحيى بن أبي الغمر، وأبو عبد الله بن حسن بن مجير، وأبو العباس بن عبد المؤمن البناني، وأبو محمد بن الحسن اللواتي، وأبو محمد بن سالم، وعثمان بن سفيان بن أشقر التميمي التونسي.
وممن أخذ عنه بالإسكندرية رشيد الدين أبو محمد عبد الكريم بن عطاء الله، وبمصر رشيد الدين بن العطار، وفخر القضاة بن الجياب، وابنه جمال القضاة. (4-2) تصانيفه
منها نظمه؛ قال ابن عبد الملك: وقفت منه على مجلد على قدر ديوان أبي تمام حبيب بن أوس. وجزء سماه «نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح» في مراثي زوجه أم المجد. وجزء سماه «نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان»، وله ترسل بديع وحكم مستجادة وكتاب رحلته. وكان أبو الحسن الشادي يقول: إنها ليست من تصانيفه وإنما قيد معاني ما تضمنته فتولى ترتيبها وتنضيد معانيها بعض الآخذين عنه على ما تلقاه، والله أعلم. قلت: هذا غير صحيح؛ لأن نسجه معروف وأسلوبه العالي واحد لا تختلف فيه جملة عن جملة، وديباجة كلام ابن جبير لا تخفى على أحد. (4-3) شعره
من ذلك القصيدة الشهيرة التي نظمها وقد شارف المدينة المكرمة طيبة، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
أقول: وآنست بالليل نارا
لعل سراج الهدى قد أنارا
وإلا فما بال أفق الدجى
كأن سنا البرق منه استنارا
ونحن من الليل في حندس
فما باله قد تجلى نهارا
وهذا النسيم شذا المسك قد
أعير أم المسك منه استعارا
وكانت رواحلنا تشتكي
وجاها فقد سبقتنا ابتدارا
وكنا شكونا عناء السرى
فعدنا نباري سراع المهارى
أظن النفوس قد استشعرت
بلوغ هوى تخذته شعارا
بشائر صبح السرى آذنت
فإن الحبيب تدانى مزارا
جرى ذكر طيبة ما بيننا
فلا قلب في الركب إلا وطارا
حنينا إلى أحمد المصطفى
وشوقا يهيج الضلوع استعارا
ولاح لنا أحد مشرقا
بنور من الشهداء استعار
فمن أجل ذلك ظل الدجى
يحل عقود النجوم انتشارا
ومن طرب الركب حث الخطى
إليها ونادى البدارا البدارا
ولما حللنا فناء الرسول
نزلنا بأكرم مجد جوارا
وحين دنونا لفرض السلام
قصرنا الخطى ولزمنا الوقارا
فما نرسل اللحظ إلا اختلاسا
وما نرجع الطرف إلا انكسارا
ولا نظهر اللفظ إلا اختلاسا
وما نرجع القول إلا سرارا
سوى أننا لم نطق أعينا
بأدمعها غلبتنا انفجارا
وقفنا بروضة دار السلام
نعيد السلام عليها مرارا
ولولا مهابته في النفوس
لثمنا الثرى والتزمنا الجدارا
قضينا بزورته حجنا
وبالعمرتين ختمنا اعتمارا
إليك إليك نبي الهدى
ركبت البحار وجبت القفارا
وفارقت أهلي ولا منة
ورب كلام يجر اعتذارا
وكيف تمن على من به
نؤمل للسيئات اغتفارا
دعاني إليك هوى كامن
أثار من الشوق ما قد أثارا
فناديت لبيك داعي الهوى
علي وقلت: رضيت اختيارا
أخوض الدجى وأروض السرى
ولا أطعم النوم إلا غرارا
ولو كنت لا أستطيع السبيل
لطرت ولو لم أصادف مطارا
42
عسى لحظة منك لي في غد
تمهد لي في الجنان القرارا
فما ضل من بسراك اهتدى
ولا ذل من بذراك استجارا
وفي غبطة من من الله عليه بحج بيته وزيارة قبر نبيه
صلى الله عليه وسلم
يقول:
هنيئا لمن حج بيت الهدى
وحط عن النفس أوزارها
43
فإن السعادة مضمونة
لمن حج طيبة أو زارها
وفي مثل ذلك يقول:
إذا بلغ المرء أرض الحجاز
فقد نال أفضل ما أمله
وإن زار قبر نبي الهدى
فقد كمل الله ما أم له
وقال في تفضيل المشرق:
لا يستوي شرق البلاد وغربها
الشرق حاز الفضل باستحقاق
انظر ترى للشمس عند طلوعها
زهوا يزيد ببهجة الإشراق
وانظر لها عند الغروب كهيئة
صفراء تعقب ظلمة الآفاق
وكفى بيوم طلوعها من غربها
أن تؤذن الدنيا بعزم فراق
وقال في الوصايا:
عليك بكتمان المصائب واصطبر
عليها فما أبقى الزمان شقيقا
كفاك بشكوى الناس إذ ذاك أنها
تسر عدوا أو تسيء صديقا
وقال:
ومصانع المعروف فلتة عاقل
إن لم تضعها في محل عاقل
كالنفس في شهواتها إن لم تكن
وقفا لها عادت بضر عاجل (4-4) نثره
من حكمه قوله: إن شرف الإنسان فبشرف وإحسان، وإن فاق فبفضل وإرفاق. ينبغي أن يحفظ الإنسان لسانه كما يحفظ الجفن إنسانه؛ فرب كلمة تقال تحدث عثرة لا تقال. كم كست فلتات الألسنة الحداد من ورائها ملابس حداد! نحن في زمان لا يحصل فيه نفاق إلا من عامل بالنفاق. شغل الناس عن الطريق بزخارف الأعراض؛ فنسوا الصدود عنها والإعراض ... آثروا دنيا هي أضغاث أحلام، وكم هفت في حبها من أحلام. وأطالوا فيها آمالهم وقصروا أعمالهم! ما بالهم لم يتفرغوا لغيرها؟! ما لهم في غير ميدانها استباق ولا لسوى هواها اشتياق. تالله لو كشفت الأسرار لما كان هذا الإصرار، ولسهرت العيون وتفجر من شئونها الجفون. لو أن عين البصيرة من سنتها هابة لرأت ما في الدنيا ريحا هابة. ولكن استولى العمى على البصائر ولا يعلم الإنسان ما إليه صائر، وأسأل الله هداية سبيله ورحمة تورد نسيم الفردوس وسلسبيله؛ إنه الحنان المنان لا رب سواه.
فلتات الهبات أشبه شيء بفلتات الشهوات. منها نافع لا يعقب ندما، ومنها ضار يبقي في النفس ألما. فضرر الهبة وقوعها عند من لا يعتقد لحقها أداء وربما أثرت عنده اعتداء. وضرر الشهوات أن لا توافق ابتداء فتصير لتبعها داء. مثلها كمثل المسكر يلتذ صاحبه بحلاوة جناه فإذا صحا عرف ما قد جناه. وعكس هذه القضية هي الحالة المرضية. (4-5) مولده
ببلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وقيل بشاطبة في هذا التاريخ. (4-6) وفاته
توفي بالإسكندرية ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من شعبان سنة أربع عشرة وستمائة ، وكان أبو الحسين بن جبير المترجم به قد نال بالأدب دنيا عريضة، ثم رفضها وزهد فيها، «وقال صاحب الملتمس» في حقه: الفقيه الكاتب أبو الحسين بن جبير ممن لقيته وجالسته كثيرا ورويت عنه، وأصله من شاطبة، وكان أبو جعفر من كتابها ورؤسائها، ذكره ابن اليسع في تاريخه، ونشأ أبو الحسين على طريقة أبيه، وتولع بغرناطة فسكن بها. قال: ومما أنشدنيه قوله يخاطب أبا عمران الزاهد بإشبيلية:
أبا عمران قد خلفت قلبي
لديك وأنت أهل للوديعة
صحبت بك الزمان أخا وفاء
فها هو قد تنمر للقطيعة
قال: وكان من أهل المروءات، عاشقا في قضاء الحوائج، والسعي في حقوق الإخوان، والمبادرة لإيناس الغرباء، وفي ذلك يقول:
يحسب الناس بأني متعب
في الشفاعات وتكليف الورى
والذي يتبعهم من ذاك لي
راحة في غيرها لن أفكرا
وبودي لو أقضي العمر في
خدمة الطلاب حتى في الكرى
قال: ومن أبدع ما أنشده - رحمه الله - أول رحلته:
طال شوقي إلى بقاء ثلاث
لا تشد الرحال إلا إليها
إن للنفس في سماء المعالي
طائرا لا يحوم إلا عليها
قص منه الجناح فهو مهيض
كل يوم يرجو الوقوع لديها
وعاد - رحمه الله - إلى الأندلس بعد رحلته الأولى التي حل فيها دمشق والموصل وبغداد، وركب إلى المغرب من عكا مع الإفرنج، فعطب في خليج صقلية الضيق وقاسى شدائد إلى أن وصل الأندلس سنة 581، ثم أعاد المسير إلى المشرق بعد مدة إلى أن مات بالإسكندرية كما تقدم، ومن شعره أيضا:
لي صديق خسرت فيه ودادي
حين صارت سلامتي منه ربحا
حسن القول سيئ الفعل كالجز
زار سمى وأتبع القول ذبحا
وحدث - رحمه الله - بكتاب الشفاء عن أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي عن القاضي عياض. ولما قدم مصر سمع منه الحافظان أبو محمد المنذري وأبو الحسين يحيى بن علي القرشي. وتوفي ابن جبير بالإسكندرية يوم الأربعاء السابع والعشرين من شعبان سنة 614، والدعاء عند قبره مستجاب، قاله ابن الرقيق - رحمه الله - وقال «أبو الربيع بن سالم»: أنشدني أبو محمد عبد الله بن التميمي البجائي، ويعرف بابن الخطيب، لأبي الحسين بن جبير، وقال: وهو مما كتب إلي به من الديار المصرية في رحلته الأخيرة لما بلغه ولايتي قضاء سبتة، وكان أبو الحسين سكنها قبل ذلك، وتوفيت هنالك زوجته بنت أبي جعفر الوقشي، فدفنها بها:
بسبتة لي سكن في الثرى
وخل كريم إليها أتى
فلو أستطيع ركبت الهوى
فزرت بها الحي والميتا
وأنشد ابن جبير - رحمه الله - لنفسه عند صدوره عن الرحلة الأولى إلى غرناطة أو في طريقها قوله:
لنحو أرض المنى من شرق أندلس
شوق يؤلف بين الماء والقبس
إلى آخرها.
وقال - رحمه الله:
وإني لأوثر من أصطفي
وأغضي على زلة العاثر
وأهوى الزيارة ممن أحب
لأعتقد الفضل للزائر
وقال - رحمه الله:
عجبت للمرء في دنياه تطمعه
في العيش والأجل المحتوم يقطعه
يمسي ويصبح في عشواء يخبطها
أعمى البصيرة والأعمال تخدعه
يغتر بالدهر مسرورا بصحبته
وقد تيقن أن الدهر يصرعه
ويجمع المال حرصا لا يفارقه
وقد درى أنه للغير يجمعه
تراه يشفق من تضييع درهمه
وليس يشفق من دين يضيعه
وأسوأ الناس تدبيرا لعاقبة
من أنفق العمر فيما ليس ينفعه
وقال:
صبرت على غدر الزمان وجعده
وشاب لي السم الذعاف بشهده
وجربت إخوان الزمان فلم أجد
صديقا جميل الغيب في حال بعده
وكم صاحب عاشرته وألفته
فما دام لي يوما على حسن عهده
وكم غرني تحسين ظني به فلم
يضئ لي على طول اقتداحي لزنده
وأغرب من عنقاء في الدهر مغرب
أخو ثقة يسقيك صافي وده
بنفسك صادم كل أمر تريده
فليس مضاء السيف إلا بحده
وعزمك جرد عند كل مهمة
فما نافع مكث الحسام بغمده
وشاهدت في الأسفار كل عجيبة
فلم أر من قد نال جدا بجده
فكن ذا اقتصاد في أمورك كلها
فأحسن أحوال الفتى حسن قصده
وما يحرم الإنسان رزقا لعجزه
كما لا ينال الرزق يوما بكده
حظوظ الفتى من شقوة وسعادة
جرت بقضاء لا سبيل لرده
وقال:
الناس مثل ظروف حشوها صبر
وفوق أفواهها شيء من العسل
تغر ذائقها حتى إذا كشفت
له تبين ما تحويه من دخل
وقال:
تغير إخوان هذا الزمان
وكل صديق عراه الخلل
وكانوا قديما على صحة
فقد داخلتهم حروف العلل
قضيت التعجب من أمرهم
فصرت أطالع باب البدل
انتهى بتصرف. ولابن جبير - رحمه الله تعالى:
من الله فاسأل كل أمر تريده
فما يملك الإنسان نفعا ولا ضرا
ولا تتواضع للولاة فإنهم
من الكبر في حال تموج بهم سكرا
وإياك أن ترضى بتقبيل راحة
فقد قيل عنها إنها السجدة الصغرى
وهو نحو قول قائل:
أيها المستطيل بالبغي أقصر
ربما طأطأ الزمان الرءوسا
وتذكر قول الإله تعالى
إن قارون كان من قوم موسى
وقال وقد شهد العيد بطندة من قرى مصر:
شهدنا صلاة العيد في أرض غربة
بأجواز مصر والأحبة قد بانوا
فقلت لخلي في النوى: جد بمدمع
فليس لنا إلا المدامع قربان
وقال ابن جبير:
قد أحدث الناس أمورا فلا
تعمل بها إني امرؤ ناصح
فما جماع الخير إلا الذي
كان عليه السلف الصالح
وقال:
رب إن لم تؤتني سعة
فاطو عني فضلة العمر
لا أحب اللبث في زمن
حاجتي فيه إلى البشر
فهم كسر لمنجبر
ما هم جبر لمنكسر
ولما وصل ابن جبير - رحمه الله - مكة 13 ربيع الآخر سنة 579 أنشد قصيدته التي أولها:
بلغت المنى وحللت الحرم
فعاد شبابك بعد الهرم
فأهلا بمكة أهلا بها
وشكرا لمن شكره يلتزم
وهي طويلة وسيأتي بعضها. وقال - رحمه الله - عند تحركه للرحلة الحجازية:
أقول وقد دعا للخير داع
حننت له حنين المستهام
حرام أن يلذ لي اغتماض
ولم أرحل إلى البيت الحرام
ولا طافت بي الآمال إن لم
أطف ما بين زمزم والمقام
ولا طابت حياة لي إذا لم
أزر في طيبة خير الأنام
وأهديه السلام وأقتضيه
رضى يدني إلى دار السلام
ولنختم ترجمته بقوله:
أحب النبي المصطفى وابن عمه
عليا وسبطيه وفاطمة الزهرا
هم أهل بيت أذهب الرجس عنهم
وأطلعهم أفق الهدى أنجما زهرا
موالاتهم فرض على كل مسلم
وحبهم أسنى الذخائر للأخرى
وما أنا للصحب الكرام بمبغض
فإني أرى البغضاء في حقهم كفرا
هم جاهدوا في الله حق جهاده
وهم نصروا دين الهدى بالظبى نصرا
عليهم سلام الله ما دام ذكرهم
لذي الملأ الأعلى وأكرم به ذكرا
وقوله في آخر الميمية:
نبي شفاعته عصمة
فيوم التنادي به يعتصم
عسى أن تجاب لنا دعوة
لديه فنكفى بها ما أهم
ويرعى لزواره في غد
ذماما فما زال يرعى الذمم
عليه السلام وطوبى لمن
ألم بتربته فاستلم
أخي كم نتابع أهواءنا
وتخبط عشواؤها في الظلم
رويدك جزت فعج واقتصد
أمامك نهج الطريق الأعم
وتب قبل عض بنان الأسى
ومن قبل قرعك سن الندم
ومنها:
وقل: رب هب رحمة في غد
لعبد بوسم العصاة اتسم
جرى في ميادين عصيانه
مسيئا ودان بكفر النعم
فيا رب صفحك عما جنى
ويا رب عفوك عما اجترم
وقال المقري - رحمة الله عليه - في الباب السابع من كتابه ما نصه: ومن الحكايات في مروءة أهل الأندلس ما ذكره صاحب الملتمس في ترجمة الكاتب الأديب الشهير أبي الحسين بن جبير صاحب الرحلة، وقد قدمنا ترجمته في الباب الخامس من هذا الكتاب، وذكرنا هنالك أنه كان من أهل المروءات عاشقا في قضاء الحوائج والسعي في حقوق الإخوان، وأنشدنا هنالك قوله: «يحسب الناس بأني متعب ... إلخ»، وقد ذكر ذلك كله صاحب الملتمس ثم قال (أعني صاحب الملتمس): ومن أغرب ما يحكى أني كنت أحرص الناس على أن أصاهر قاضي غرناطة أبا محمد عبد المنعم بن الفرس؛ فجعلته يعني أبا جبير الواسطة حتى تيسر ذلك، فلم يوفق الله ما بيني وبين الزوجة، فجئته وشكوت له ذلك، فقال: أنا ما كان القصد بي في اجتماعكما، ولكن سعيت جهدي في غرضك، وها أنا أسعى أيضا في افتراقكما إذ هو من غرضك، وخرج في الحين ففصل القضية. ولم أر في وجهه أولا ولا أخيرا عنوانا لامتنان.
ثم إنه طرق بابي ففتحت له، ودخل وفي يده محفظة فيها مائة دينار مؤمنية، فقال: يا ابن أخي، اعلم أني كنت السبب في هذه القضية، ولم أشك أنك خسرت فيها ما يقارب هذا القدر الذي وجدته الآن عند عمك، فبالله ألا ما سررتني بقبوله، فقلت له: أنا ما أستحي منك في هذا الأمر، والله إن أخذت هذا المال لأتلفنه فيما أتلفت فيه مال والدي من أمور الشباب، ولا يحل لك أن تمكنني به بعد أن شرحت لك أمري، فتبسم وقال: لقد احتلت في الخروج عن المنة بحيلة، وانصرف بماله. انتهى.
ثم قال صاحب الملتمس: وتذاكرنا يوما معه حالة الزاهد أبي عمران المارتلي فقال: صحبته مدة فما رأيت مثله، وأنشدني شعرين ما نسيتهما ولا أنساهما ما استطعت، فالأول قوله:
إلى كم أقول فلا أفعل
وكم ذا أحوم ولا أنزل
وأزجر عيني فلا ترعوي
وأنصح نفسي فلا تقبل
وكم ذا تعلل لي ويحها
بعل وسوف وكم تمطل
وكم ذا أؤمل طول البقا
وأغفل والموت لا يغفل
وفي كل يوم ينادي بنا
منادي الرحيل ألا فارحلوا
أمن بعد سبعين أرجو البقا
وسبع
44
أتت بعدها تعجل
كأن بي وشيكا إلى مصرعي
يساق بنعشي ولا أمهل
فيا ليت شعري بعد السؤال
وطول المقام لما أنقل
والثاني قوله:
اسمع أخي نصيحتي
والنصح من محض الديانة
لا تقربن إلى الشها
دة والوساطة والأمانة
تسلم فلا تعزى لزو
ر أو فضول أو خيانة
قال: فقلت له: أراك لم تعمل بوصيتك في الوساطة، فقال: ما ساعدتني رقة وجهي. انتهى.
وفي كتاب رحلة العبدري ما صورته قال: وأنشدني «شيخنا أبو زيد» أيضا قال: أنشدني أبو عمرو بن الشقر: قال: أنشدني الفقيه الزاهد المنقطع إلى الله بمهجته أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني بالإسكندرية لنفسه:
تأن في الأمر لا تكن عجلا
فمن تأنى أصاب أو كادا
وكن بحبل الإله معتصما
تأمن به بغي كل من كادا
فمن رجاه فنال بغيته
عبد مسيء بنفسه كادا
ومن تطل صحبة الزمان له
يلقى خطوبا به وأنكادا
وبنحوه له:
ذد العقل عن لحظة في الهوى
فإن البصيرة طوع البصر
وغض جفونك عن عفة
فإن زناء العيون النظر
وأنشدني أيضا بمثله:
أما في الدهر معتبر
ففيه الصفو والكدر
فسلني عن تقلبه
فعند جهينة الخبر
صحبناه إلى أجل
نراقبه ونحتذر
فيا عجبا لمرتحل
ولا يدري متى السفر
وقال العبدري أيضا بعد وصفه الإسكندرية وعجائبها: ومن الأمر المستغرب والحال الذي أفصح عن قلة دينهم أنهم يعترضون الحجاج ويجرعونهم من بحر الإهانة الملح الأجاج، ويأخذون على وفدهم الطرق والفجاج يبحثون عما بأيديهم من مال، ويأمرون بتفتيش النساء والرجال، وقد رأيت من ذلك يوم ورودنا عليهم ما اشتد له عجبي، وجعل الانفصال عنهم غاية أربي، وذلك لما وصل إليها الركب جاءت شرذمة من الحرس - لا حرس الله مهجهم الخسيسة ولا أعدم منهم لأسد الآفات فريسة - فمدوا في الحجاج أيديهم، وفتشوا الرجال والنساء، وألزموهم أنواعا من المظالم، وأذاقوهم ألوانا من الهون، ثم استحلفوهم وراء ذلك كله، وما رأيت هذه العادة الذميمة والشيمة اللئيمة في بلدة من البلاد، ولا رأيت في الناس أقسى قلوبا ولا أقل حياء ومروءة، ولا أكثر إعراضا عن الله سبحانه وجفاء لأهل دينه من أهل هذا البلد، نعوذ بالله من الخذلان، فلو شاء لاعتدل المائل وانتبه الوسنان، وكنت إذ رأيت فعل المذكورين ظننت أن ذلك أمر أحدثوه، حتى حدثني نور الدين أبو عبد الله بن زين الدين أبي الحسن يحيى بن الشيخ وجيه الدين أبي علي منصور بن عبد العزيز بن حباسة الإسكندري بمدرسة جده المذكور حكاية اقتضت أن لهم في هذه الفضائح سلفا غير صالح، وذلك أنه حدثني إملاء من كتابه قال: حدثني الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن عمر بن محمد السبتي الحميري بثغر الإسكندرية سنة 662 قال: حدثني الشيخ الإمام المحدث أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي سنة 611 أنه ورد إلى الإسكندرية في ركب عظيم من المغاربة برسم الحج، فأمر الناظر على البلاد بمد اليد فيهم للتفتيش والبحث عما بأيديهم؛ ففتش الرجال والنساء، وهتكت حرمة الحرم، ولم يكن فيهم إبقاء على أحد. قال: فلما جاءتني النوبة وكانت معي حرم ذكرتهم بالله ووعظتهم، فلم يعرجوا على قولي ولا التفتوا إلى كلامي، وفتشوني كما فتشوا غيري؛ فاستخرت الله تعالى، ونظمت هذه القصيدة ناصحا لأمير المسلمين صلاح الدين يوسف بن أيوب، ومذكرا بالله في حقوق المسلمين ومادحا له، فقلت:
أطلت على أفقك الزاهر
سعود من الفك الدائر
فأبشر فإن رقاب العدى
تمد إلى سيفك الباتر
وعما قليل يحل الردى
بكيدهم الناكث الغادر
وخصب الورى يوم يسقي الثرى
سحائب من دمها الهامر
فكم لك من فتكة فيهم
حكت فتكة الأسد الخادر
كسرت صليبهم عنوة
فلله درك من كاسر
وغيرت آثارهم كلها
فليس لها الدهر من جابر
وأمضيت جدك في غزوهم
فتعسا لجدهم العاثر
فأدبر ملكهم بالشآم
وولى كأمسهم الدابر
جنودك بالرعب منصورة
فناجز متى شئت أو صابر
فكلهم غارق هالك
بتيار عسكرك الزاخر
ثأرت لدين الهدى في العدى
فآثرك الله من ثائر
وقمت بنصر إله الورى
فسماك بالملك الناصر
وتسهر جفنك في حق من
سيرضيك في جفنك الساهر
فتحت المقدس من أرضه
فعادت إلى وصفها الطاهر
وجئت إلى قدسه المرتضى
فخلصته من يد الكافر
وأعليت فيه منار الهدى
وأحييت من رسمه الداثر
لكم ذخر الله هذي الفتوح
من الزمن الأول الغابر
وكم خص من بعدما زدته
بها لاصطناعك في الآخر
محبتكم ألقيت في النفوس
بذكر لكم في الورى طاهر
فكم لهم عند ذكر الملوك
بمثلك من مثل سائر
رفعت مغارم أرض الحجاز
بإنعامك الشامل الغامر
وآمنت أكناف تلك البلاد
فهان السبيل على العابر
وسحب أياديك فياضة
على وارد وعلى صادر
فكم لك بالشرق من حامد
وكم لك في الغرب من شاكر
وكم بالدعاء لكم كل عام
بمكة من معلن جاهر
ومنها عن من يظلم الحجاج:
يعنت حجاج بيت الإله
ويسطو بهم سطوة الجائر
ويكشف عما بأيديهم
وناهيك من موقف صاغر
وقد أوقفوا بعدما كوشفوا
كأنهم في يد الآسر
ويلزمهم حلفا باطلا
وعقبى اليمين على الفاجر
وإن عرضت بينهم حرمة
فليس لها عنه من ساتر
أليس يخاف غدا عرضه
على الملك القادر القاهر
وليس على حرم المسلمين
بتلك المشاهد من غائر
ولا حاضر نافع زجره
فيا ذلة الحاضر الزاجر
ألا ناصح مبلغ نصحه
إلى الملك الناصر الظافر
ظلوما تضمن مال الزكاة
لقد نفست صفقة الخاسر
يسر الخيانة في باطن
ويبدي النصيحة في الظاهر
فأوقع به حادثا أنه
يقبح أحدوثة الذاكر
فما للمناكر من زاجر
سواك وبالعرف من آمر
وحاشاك إن لم تزل رسمها
فما لك في الناس من عاذر
ورفعك أمثالها موسعا
رداء فخارك من ناشر
وآثارك الغر تبقى بها
وتلك المآثر للآثر
نذرت النصيحة في حقكم
وحق الوفاء على الناذر
وحبك ألطفني بالقريض
وما أبتغي صلة الشاعر
ولا كان فيما مضى مكسبي
وبئس البضاعة للتاجر
إذا الشعر صار شعار الفتى
فناهيك من لقب شاهر
وإن كان نظمي له نادرا
فقد قيل: لا حكم للنادر
ولكنها خطرات الهوى
تعن فتغلب بالخاطر
وأما وقد زار تلك العلا
فقد فاز بالشرف الباهر
وإن كان منك قبول له
فتلك الكرامة للزائر
ويكفيك سمعك من سامع
ويكفيك لحظك للناظر
ويزهي على الروض غب الحيا
بما حاز من ذكرك العاطر
قلت: هكذا حدثني أبو عبد الله بهذه الحكاية، وقد وقعت في كتابه مشهورة لم يذكر فيها إلا ما أثبته، وبالله التوفيق.
وأنشدني أبو عبد الله أيضا عن أبي العباس المذكور عن ابن جبير قصيدة، نظمها ارتجالا حين تراءت له مدينة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهي هذه الأبيات:
أقول وآنست ... ... ... ...
الأبيات.
وقال علي بن ظافر في «بدائع البدائه»: أنبأني المسكين نزلت من القرافة لوداع الأجل أبي الحسين بن جبير، فقال: كنت على المجيء إليك، فقلت: وهمة سيدي هي التي أتت به. فسألني عن القرافة، فقلت: هي موضع يصلح للخير والشر، من طلب شيئا وجده، فقال: خذ هذه الحكاية: كنت متفرجا في مكان وبت به، ثم أقبلت بكرة، فلقيني تلميذ لي فقال:
من أين أقبلت يا من لا نظير له
ومن هو الشمس والدنيا له فلك
فأجبته مسرعا:
من موضع تعجب النساك خلوته
وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا (5) رحلة ابن جبير
ولقد أطلنا في أخبار ابن جبير الأندلسي زيادة على كل أندلسي؛ وذلك لزيادة شهرته، لا سيما في المشرق الذي طال ترداده إليه واختلاطه بأهله واجتماعه بعلمائه. ولما كانت شهرته في نثره لا في نظمه، وهذه رحلته المتداولة بين جميع الأيدي أعظم شاهد على ملكه أعنة البيان، وكونه في النثر الفذ المشار إليه بالبنان، نقلنا هنا أمثلة من هذه الرحلة السرية وعباراتها العبقرية، وحلينا بنقلها جيد هذا التاريخ ليكون له حظ من الأدب، فضلا عن تمثيل حالة الشرق في ذلك العصر، وإظهار ما بين الشرق وصنوه الغرب من المناسبات والعلاقات، ولا سيما لما في هذه الرحلة من وصف البيت الحرام، وذكر المشاعر العظام، وزيارة مرقد الرسول عليه الصلاة والسلام: (5-1) شهر رمضان المعظم عرفنا الله بركته
استهل هلاله ليلة الاثنين التاسع عشر لدجنبر، عرفنا الله فضله وحقه، ورزقنا القبول فيه، وكان صيام أهل مكة له يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أمضى الأمير ذلك، ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبه ليلة الأحد المذكور؛ لموافقته مذهبه ومذهب شيعته العلويين ومن إليهم؛ لأنهم يرون صيام يوم الشك فرضا حسبما يذكر، والله أعلم بذلك. ووقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك، وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعيل وغير ذلك من الآلات، حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقا، فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إماما لها في ناحية من نواحي المسجد، والحنبلية كذلك، والحنفية كذلك، والزيدية. وأما المالكية فاجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة، وهي في هذا العام أحفل جمعا وأكثر شمعا؛ لأن قوما من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعا كثيرا من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب فيهما قنطار، وقد حفت بهما شمع دونهما صغار وكبار؛ فجاءت جهة المالكية تروق حسنا، وترتمي الأبصار نورا، وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتج المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية، فتعاين الأبصار، وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعا تنخلع له النفوس خشية ورقة، ومن الغرباء من اقتصر على الطواف والصلاة في الحجر، ولم يحضر التراويح، ورأى أن ذلك أفضل ما يغتنم وأشرف عمل يلتزم، وما بكل مكان يوجد الركن الكريم والملتزم.
والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهادا؛ وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات، ويدخل الطواف مع الجماعة؛ فإذا فرغ من الأسبوع وركع عاد لإقامة تراويح أخر وضرب بالفرقعة الخطيبية المتقدمة الذكر ضربة «يسمعها» المسجد لعلو صوتها، كأنها إيذان بالعود إلى الصلاة، فإذا فرغوا من تسليمتين عادوا لطواف أسبوع، فإذا أكملوا ضربت الفرقعة وعادوا لصلاة تسليمتين، ثم عادوا للطواف هكذا إلى أن يفرغوا من عشر تسليمات، فيكمل لهم عشرون ركعة، ثم يصلون الشفع والوتر، وينصرفون وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا، والمتناوبون لهذه التراويح المقامية خمسة أئمة: أولهم إمام الفريضة، وأوسطهم صاحبنا الفقيه الزاهد الورع أبو جعفر بن «علي» الفنكي القرطبي، وقراءته ترق الجمادات خشوعا، وهذه الفرقعة المذكورة تستعمل في هذا الشهر المبارك؛ وذلك أنه يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المغرب، ومثلها عند الفراغ من أذان العشاء. وهي لا محالة من جملة البدع المحدثة في هذا المسجد المعظم - قدسه الله - والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة التي في الركن الشرقي من المسجد؛ بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعيا ومذكرا ومحرضا على السحور، ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه، وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع، وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التسحير، فإذا قرب تبين خيطي الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة، وبدأ بالأذان، وثوب المؤذنون من كل ناحية بالأذان، وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه عن المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة، فإذا لم يبصرهما علم أن الوقت قد انقطع.
وفي ليلة الثلاثاء الثاني من الشهر مع العشي طاف الأمير مكثر بالبيت مودعا، وخرج للقاء الأمير سيف الإسلام «طغتكين» بن أيوب أخي صلاح الدين، وقد تقدم الخبر بوروده من مصر
45
منذ مدة، ثم تواتر إلى أن صح وصوله إلى الينبوع، وأنه عرج إلى المدينة لزيارة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وتقدمت أثقاله إلى الصفراء، والمتحدث به في وجهته قصد اليمن لاختلاف وقع فيها، وفتنة حدثت من أمرائها، لكن وقع في نفوس المكيين منه إيحاش خيفة واستشعار خشية، فخرج هذا الأمير المذكور متلقيا ومسلما، وفي الحقيقة مستسلما، والله تعالى يعرف المسلمين خيرا.
وفي ضحوة يوم الأربعاء الثالث من الشهر المبارك المذكور كنا جلوسا بالحجر المكرم، فسمعنا دبادب الأمير مكثر وأصوات نساء مكة يولولن عليه، فبينا نحن كذلك دخل منصرفا من لقاء الأمير سيف الإسلام المذكور وطائفا بالبيت المكرم طواف التسليم، والناس قد أظهروا الاستبشار لقدومه والسرور بسلامته، وقد شاع الخبر بنزول سيف الإسلام الزاهر
46
وضرب أبنيته فيه ومقدمته من العسكر قد وصلت إلى الحرم، وزاحمت الأمير مكثرا في الطواف، فبينا الناس ينظرون إليهم إذ سمعوا ضوضاء عظيمة وزعقات هائلة، فما راعهم إلا الأمير سيف الإسلام داخلا من باب بني شيبة ولمعان السيوف أمامه يكاد يحول بين الأبصار وبينه، والقاضي عن يمينه، وزعيم الشيبيين عن يساره، والمسجد قد ارتج وغص بالنظارة والوافدين، والأصوات بالدعاء له ولأخيه صلاح الدين قد علت من الناس حتى صكت الأسماع، وأذهلت الأذهان، والمؤذن الزمزمي في مرقبته رافعا عقيرته بالدعاء له والثناء عليه، وأصوات الناس تعلو على صوته، والهول قد عظم مرأى ومستمعا، فلحين دنو الأمير من البيت المعظم أغمدت السيوف، وتضاءلت النفوس، وخلعت ملابس العزة، وذلت الأعناق، وخضعت الرقاب، وطاشت الألباب مهابة وتعظيما لبيت ملك الملوك العزيز الجبار الواحد القهار، مؤتي الملك من يشاء، ونازع الملك ممن يشاء، سبحانه جلت قدرته وعز سلطانه، ثم تهافتت هذه العصابة الغزية
47
على بيت الله العتيق تهافت الفراش على المصباح، وقد نكس أذقانهم الخضوع، وبلت سبالهم الدموع، وطاف والقاضي وزعيم الشيبيين بسيف الإسلام والأمير مكثر قد غمره ذلك الزحام ، فأسرع إلى الفراغ من الطواف، وبادر إلى منزله، وعندما أكمل سيف الإسلام طوافه صلى خلف المقام، ثم دخل قبة زمزم فشرب من مائها، ثم خرج على باب الصفا إلى السعي، فابتدأه ماشيا على قدميه تواضعا وتذللا لمن يجب التواضع له والسيوف مصلوطة
48
أمامه، وقد اصطف الناس من أول المسعى إلى آخره سماطين مثل ما صنعوا أيضا في الطواف، فسعى على قدميه طريقين من الصفا إلى المروة، ومنها إلى الصفا، وهرول بين الميلين الأخضرين، ثم قيده الإعياء فركب وأكمل السعي راكبا، وقد حشر الناس ضحى، يعني وقتا، ثم عاد هذا الأمير إلى المسجد الحرام على حالته من الإرهاب والهيبة، وهو يتهادى بين بروق خواطف السيوف المصلتة، وقد بادر الشيبيون إلى باب البيت المكرم ليفتحوه، ولم يكن يوم فتحه ووضع الكرسي الذي يصعد عليه؛ فرقي فيه الأمير، وتناول زعيم الشيبيين فتح الباب، فإذا المفتاح قد سقط من كمه في ذلك الزحام؛ فوقف وقفة دهش مذعور، ووقف الأمير على الأدراج، فيسر الله للحين في وجود المفتاح؛ ففتح الباب الكريم، ودخل الأمير وحده مع الشيبي وأغلق الباب، وبقي وجوه الأغزاز وأعيانهم مزدحمين على ذلك الكرسي، فبعد لأي ما فتح لأمرائهم المقربين فدخلوا، وتمادى مقام سيف الإسلام في البيت الكريم مدة طويلة، ثم خرج وانفتح الباب للكافة منهم، فيا له من ازدحام وتراكم وانتظام، حتى صاروا كالعقد المستطيل، وقد اتصلوا وتسلسلوا، فكان يومهم أشبه شيء بأيام السرو في دخولهم البيت حسبما تقدم وصفه.
وركب الأمير سيف الإسلام، وخرج إلى مضرب بنيته بالموضع المذكور، وكان هذا اليوم بمكة من الأيام الهائلة المنظر العجيبة المشهد الغريبة الشأن، فسبحان من لا ينقضي ملكه ولا يبيد سلطانه، لا إله سواه، وصحب هذا الأمير جملة من حجاج مصر وسواها اغتناما لطريق البر والأمن، فوصلوا في عافية وسلامة والحمد لله، وفي ضحوة يوم الخميس بعده كنا أيضا بالحجر الكريم، فإذا بأصوات طبول ودبادب وبوقات قد قرعت الآذان، وارتجت لها نواحي الحرم الشريف، فبينا نحن نتطلع لاستعلام خبرها طلع علينا الأمير مكثر وحاشيته الأقربون حوله وهو رافل في حلة ذهب كأنها الجمر المتقد يسحب أذيالها، وعلى رأسه عمامة شرب
49
رقيق سحابي اللون قد علا كورها رأسه، كأنها سحابة مركومة، وهي مصفحة بالذهب، وتحت الجلة خلعتان من الدبيقي
50
المرسوم البديع الصنعة، خلعها عليه الأمير سيف الإسلام؛ فوصل بها فرحا جذلان والطبول والدبادب تشيعه عن أمر سيف الإسلام إشارة بتكرمته وإعلاما بمأثرة منزلته، فطاف بالبيت المكرم شكرا لله على ما وهبه من كرامة هذا الأمير بعد أن كان أوجس في نفسه خيفة منه، والله يصلحه ويوفقه بمنه.
51
وفي يوم الجمعة وصل الأمير سيف الإسلام للصلاة أول الوقت، وفتح البيت المكرم فدخله مع الأمير مكثر، وأقام به مدة طويلة، ثم خرجا، وتزاحم الغز للدخول تزاحما أبهت الناظرين حتى أزيل الكرسي الذي يصعد عليه، فلم يغن عن ذلك شيئا، وأقاموا على الازدحام في الصعود بإشالة بعضهم على بعض، وداموا على هذه الحالة إلى أن وصل الخطيب فخرجوا لاستماع الخطبة، وأغلق الباب، وصلى الأمير سيف الإسلام مع الأمير مكثر في القبة العباسية، فلما انقضت الصلاة خرج على باب الصفا وركب إلى مضرب أبنيته.
وفي يوم الأربعاء العاشر منه خرج الأمير المذكور بجنوده إلى اليمن، والله يعرف أهلها من المسلمين في مقدمه خيرا بمنه. وهذا الشهر المبارك قد ذكرنا اجتهاد المجاورين للحرم الشريف في قيامه وصلاة تراويحه وكثرة الأئمة فيه، وكل وتر من الليالي العشر الأواخر يختم فيها القرآن، فأولها ليلة إحدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ، فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيبا ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور إلى منزله إلى طعام وحلو قد أعدهما، واحتفل فيهما، ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين، وكان المختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاما لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالا بديعا؛ وذلك أنه أعد له ثريا مصنوعة من الشمع مغصنة قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد إليها شمعا كثيرا، ووضع في وسط الحزم مما يلي باب بني شيبة المحراب المربع من أعواد مشرجبة قد أقيم على قوائم أربع، وربطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل، وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل، وسمر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غرز فيها الشمع فاستدار بالمحراب كله، وأوقدت الثريا المغصنة ذات الفواكه، وأمعن الاحتفال في هذا كله، ووضع بمقربة من المحراب منبر مجلل بكسوة مجزعة مختلفة الألوان، وحضر الإمام الطفل فصلى التراويح وختم، وقد احتشد أهل المسجد الحرام إليه رجال ونساء وهو في محرابه لا يكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به، ثم برز من محرابه رافلا في أفخر ثيابه بهيبة إمامية وسكينة غلامية مكحل العينين مخضوب الكفين إلى الزندين، فلم يستطع الخلوص إلى منبره من كثرة الزحام، فأخذه أحد سدنة تلك الناحية في ذراعه حتى ألقاه على ذروة منبره، فاستوى مبتسما وأشار إلى الحاضرين مسلما.
وقعد بين يديه قراء فابتدروا القراءة على لسان واحد، فلما أكملوا عشرا من القرآن قام الخطيب فصدع بخطبته يحرك لها أكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع، وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أنوار الشمع في أيديهم ويرفعون أصواتهم بيا رب يا رب عند كل فصل من فصول الخطبة، يكررون ذلك، والقراء يبتدرون القراءة في أثناء ذلك، فيسكت الخطيب إلى أن يفرغوا ثم يعود لخطبته، وتمادى فيها متصرفا في فنون من التذكير، وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق - كرمه الله - فحسر عن ذراعيه مشيرا إليه، وأردفه بذكر زمزم والمقام؛ فأشار إليهما بكلتا أصبعيه، ثم ختمها بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه، ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء، ثم نزل، وانفض ذلك الجمع العظيم.
وقد استطرف ذلك الخطيب واستنبل، وإن لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل، والتذكرة إذا خرجت من اللسان لم تتعد مسافة الآذان. ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع كالقاضي وسواه خصوا بطعام حفيل وحلواء على عادتهم في مثل هذا المجتمع، وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ما ذكر، ثم كانت ليلة خمس وعشرين؛ فكان المختتم فيها الإمام الحنفي، وقد أعد ابنا له لذلك سنه نحو من سن الخطيب الأول المذكور، فكان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيما؛ أحضر فيه من ثريات الشمع أربعا مختلفات الصنعة، منها مشجرة مغصنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة، ومنها غير مغصنة، فصففت أمام حطيمه وتوج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه، وجلل ذلك كله سرجا ومشاعيل وشمعا، فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور، وأحضر الشمع في أنوار الصفر، ووضع المحراب العودي المشرجب، فجلل دائره الأعلى كله شمعا، وأحدق الشمع في الأطوار به فاكتنفته هالات من نور، ونصب المنبر قبالته مجللا أيضا بالكسوة الملونة، واحتفال الناس لمشاهدة هذا المنظر النير أعظم من الاحتفال الأول.
فختم الصبي المذكور، ثم برز من محرابه إلى منبره يسحب أذيال الخفر في أثواب رائقة المنظر فتسور منبره، وأشار بالسلام على الحاضرين، وابتدأ خطبته بسكينة ولين، ولسان عن حالة الحياة مبين، فكأن الحال على طفولتها كانت أوقر من الأولى وأخشع، والموعظة أبلغ، والتذكرة أنفع، وحضر القراء بين يديه على الرسم الأول، وفي أثناء فصول الخطبة يبتدرون القراءة، فيسكت خلال إكمالهم الآية التي انتزعوها من القرآن، ثم يعود إلى خطبته وبين يديه في درجات المنبر طائفة من الخدمة يمسكون أنوار الشمع بأيديهم، ومنهم من يمسك المجمرة تسطع بعرف العود الرطب الموضوع فيها مرة بعد أخرى، فعندما يصل إلى فصل من تذكير أو تخشيع رفعوا أصواتهم بيا رب يا رب يكررونها ثلاثا أو أربعا، وربما جاراهم في النطق بعض الحاضرين إلى أن فرغ من خطبته ونزل، وجرى الإمام أثره على الرسم من الإطعام لمن حضر من أعيان المكان، إما باستدعائهم إلى منزله تلك الليلة أو بتوجيه ذلك إلى منازلهم.
ثم كانت ليلة سبع وعشرين، وهي ليلة الجمعة بحساب يوم الأحد، فكانت الليلة الغراء، والختمة الزهراء، والهيبة الموفورة الكهلاء،
52
والحالة التي تمكن عند الله تعالى في القبول والرجاء، وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم، وتجاه البيت العظيم، وإنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم، ووقع النظر والاحتفال لهذه الليلة المباركة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة، وأقيمت إزاء حطيم إمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الأعواد الوثيقة، فاتصل منها صف كاد يمسك نصف الحرم عرضا، ووصلت بالحطيم المذكور، ثم عرضت بينها ألواح طوال مدت على الأذرع المذكورة، وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكملت ثلاث طبقات، فكانت الطبقة العليا فيها خشبة مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الأطراف لاصقا بعضها ببعض كظهر السهم، نصب عليها الشمع، والطبقتان تحتها ألواح مثقوبة ثقبا متصلا، وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها، وتدلت من جوانب هذه الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قناديل كبار وصغار، وتخللها أشباه الأطباق المبسوطة من الصفر، وقد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل نقلها في الهواء، وخرقت كلها ثقبا، ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الأطباق الصفرية، لا يزيد منها أنبوب على أنبوب في القد، وأوقدت فيها المصابيح، فجاءت كأنها موائد ذوات أرجل كثيرة تشتعل نورا، ووصلت بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الصفة المذكورة، اتصلت إلى الركن المذكور، وأوقد المشعل الذي في رأس فحل القبة المذكورة، وصففت طرة شباكها شمعا مما يقابل البيت المكرم، وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجبة المخرمة، محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف على الصفة المذكورة، جللت كلها شمعا، ونصب عن يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم في أنوار تناسبها كبرا، وصفت تلك الأنوار على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الإيقاد، وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعا في أنوار من الصفر؛ فجاءت كأنها دائرة نور ساطع وحدقت بالحرم المشاعيل.
وأوقد جميع ما ذكر وأحدق بشرفات الحرم كلها صبيان مكة، وقد وضعت بيد كل واحد منهم كرة من الخرق المشبعة سليطا فوضعوها متقدة في رءوس الشرفات، وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الأربع، فجعلت كل طائفة تباري صاحبتها في سرعة إيقادها؛ فيخيل للناظر أن النار تثب من شرفة إلى شرفة؛ لخفاء أشخاصهم وراء الضوء المرتمي الأبصار، وفي أثناء محاولتهم لذلك يرفعون أصواتهم بيا رب يا رب على لسان واحد؛ فيرتج الحرم لأصواتهم، فلما كمل إيقاد الجميع بما ذكر كاد يغشى الأبصار شعاع تلك الأنوار، فلا تقع لمحة طرف إلا على نور يشغل حاسة البصر عن استمالة النظر، فيتوهم المتوهم لهول ما يعانيه من ذلك أن تلك الليلة المباركة تنزهت لشرفها عن لباس الظلماء، فزينت بمصابيح السماء.
وتقدم القاضي فصلى فريضة العشاء الآخرة، ثم قام وابتدأ بسورة القدر، وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة إليها، وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح تعظيما لختمة المقام، وحضروا متبركين بمشاهدتها، وقد كان «المقام» المطهر أخرج من موضعه المستحدث في البيت العتيق، حسبما تقدم الذكر أولا له فيما سلف من هذا التقييد، ووضع في محله الكريم المتخذ مصلى مستورا بقبته التي يصلي الناس خلفها، فختم القاضي بتسليمتين وقام خطيبا مستقبل المقام والبيت العتيق، فلم يتمكن من سماع الخطبة للازدحام وضوضاء العوام، فلما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة تراويحهم، وانفض الجمع ونفوسهم قد استطارت خشوعا، وأعينهم قد سالت دموعا، والأنفس قد أشعرت من فضل تلك الليلة المباركة رجاء مبشرا بمن الله تعالى بالقبول، ومشعرا أنها أو لعلها ليلة القدر المشرف ذكرها في التنزيل، والله - عز وجل - لا يخلي الجميع من بركة مشاهدتها وفضل معاينتها؛ إنه كريم منان لا إله سواه.
ثم ترتبت قراءة أئمة المقام الخمسة المذكورين أولا بعد هذه الليلة المذكورة بآيات ينتزعونها من القرآن على اختلاف السور، تتضمن التذكير والتحذير والتبشير، بحسب اختيار كل واحد منهم، ورسم طوافهم إثر كل تسليمتين باق على حاله، والله ولي القبول من الجميع. ثم كانت ليلة تسع وعشرين منه، فكان المختتم فيها سائر أئمة التراويح، ملتزمين رسم الخطبة إثر الختمة والمشار إليه منهم المالكي، فتقدم بإعداد أعواد بإزاء محرابه نصبها ستة على هيئة دائرة محراب مرتفعة عن الأرض دون القامة، يعترض على كل اثنين منها عود مبسوط، فأدير بالشمع أعلاها، وأحدق أسفلها ببقايا شمع كثير قد تقدم ذكره عند ذكر أول الشهر المبارك، وأحدق أيضا داخل تلك الدائرة شمع آخر متوسط، فكان منظرا مختصرا ومشهدا عن احتفال المباهاة منزها موفورا؛ رغبة في احتفال الأجر والثواب ومناسبة لموضع هيئة المحراب، نصبت للشمع فيه عوضا من الأنوار أثافي من الأحجار، فجاءت الحال غريبة في الاختصار، خارجة عن محفل التعاظم والاستكبار، داخلة مدخل التواضع والاستصغار، واحتفل جميع المالكية للختمة؛ فتناوبها أئمة التراويح، فقضوا صلاتهم سراعا عجالا كاد يلتقي طرفاها خفوفا واستعجالا، ثم تقدم أحدهم فعقد حبوته بين تلك الأثافي، وصدع بخطبة منتزعة من خطبة الصبي ابن الإمام الحنفي، فأرسلها معادة إلى الأسماع، ثقيلا لحنها على الطباع.
ثم انفض الجمع وقد جمد في شئونه الدمع، واختطف للحين من أثافيه ذلك الشمع، وأطلقت عليه أيدي الانتهاب، ولم يكن في الجماعة من يستحى منه أو يهاب، وعند الله تعالى في ذلك الجزاء والثواب، إنه سبحانه الكريم الوهاب.
وانتهت ليالي الشهر ذاهبة عنا بسلام، جعلنا الله ممن طهر فيها من الآثام، ولا أخلانا من فضل القبول ببركة صومه في جوار الكعبة البيت الحرام، وختم الله لنا ولجميع أهل الملة الحنيفية بالوفاة على الإسلام، وأوزعنا حمدا بحق هذه النعمة وشكرا، وجعلها للمعاد لنا ذخرا، ووفانا عليها ثوابا من لديه، وأجرا يرجى بفضله وكرمه؛ إنه لا يضيع لديه أيام اتخذ لصيامها ماء زمزم فطرا؛ إنه الحنان المنان لا رب سواه.
وإليك هذا المثال الآخر من أمثلة بيان ابن جبير الساحر، الذي كله طبقة واحدة، وإنما نختار منه كيفما اتفق. قال:
والقبلة في عرفات هي إلى مغرب الشمس؛ لأن الكعبة المقدسة في تلك الجهة منها؛ فأصبح يوم الجمعة المذكور في عرفات جمعا لا شبيه له إلا الحشر، لكنه إن شاء الله تعالى حشر للثواب، مبشر بالرحمة والمغفرة يوم الحشر للحساب؛ زعم المحققون من الأشياخ المجاورين أنهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعا أحفل منه، ولا أرى كان من عهد الرشيد الذي هو آخر من حج من الخلفاء جمع في الإسلام مثله، جعله الله جمعا مرحوما معصوما بعزته، فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين وإلى الله - عز وجل - في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع، فما رئي يوم أكثر مدامع ولا قلوبا خواشع ولا أعناقا لهيبة الله خوانع خواضع من ذلك اليوم، فما زال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح وجوههم إلى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب، وقد وصل أمير الحاج مع جملة من جنده الدارعين، ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور، وأخذ السرو
53
اليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جد فجد، من عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
لا تتعدى قبيلة على منزلة أخرى، وكان المجتمع منهم في هذا العام عددا لم يجتمع قط مثله.
وكذلك وصل الأمير العراقي في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخراسانيين ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين؛ واحدتهن خاتون، ومن السيدات بنات الأمراء كثير، ومن سائر العجم عدد لا يحصى، فوقف الجميع، وقد جعلوا قدوتهم في النفر الإمام المالكي؛ لأن مذهب مالك - رضي الله عنه - يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن سقوط القرصة ويحين وقت المغرب.
ومن السرو اليمنيين من نفر قبل ذلك، فلما أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه، ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعا ارتجت له الأرض ورجفت الجبال، فيا له موقفا ما أهول مرآه وأرجى في النفوس عقباه، جعلنا الله ممن خصه فيه برضاه وتغمده بنعماه؛ إنه منعم كريم حنان منان.
وكانت محلة هذا الأمير العراقي جميلة المنظر بهية العدة رائعة المضارب والأبنية، عجيبة القباب والأروقة، على هيئات لم ير أبدع منها منظرا، فأعظمها مرأى مضرب الأمير؛ وذلك أنه أحدق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة بستان أو زخرفة بنيان، وفي داخله القباب المضروبة، وهي كلها سواد في بياض مرقشة ملونة، كأنها أزاهير الرياض.
وقد جللت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الأربعة كلها أشكال درقية من ذلك السواد المنزل في البياض، يستشعر الناظر إليها مهابة يتخيلها درقا لمطية
54
قد جللتها مزخرفات الأغشية؛ ولهذا السرادق الذي هو كالسور المضروب أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة، يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج، ثم يفضي منها إلى الفضاء الذي فيه القباب، وكأن هذا الأمير ساكن في مدية قد أحدق بها سورها، تنتقل بانتقاله وتنزل بنزوله، وهي من الأبهات الملوكية المعهودة التي لم يعهد مثلها عند ملوك المغرب. وداخل تلك الأبواب حجاب الأمير وخدمه وحاشيته، وهي أبواب مرتفعة يجيء الفارس برايته فيدخل عليها دون تنكيس ولا تطأطؤ، قد أحكمت إقامة ذلك كله أحراش وثيقة من الكتان يتصل بأوتاد مضروبة، أدير ذلك كله بتدبير هندسي غريب.
ولسائر الأمراء الواصلين صحبة هذا الأمير مضارب دون ذلك، لكنها على تلك الصفة، وقباب بديعة المنظر عجيبة الشكل قد قامت كأنها التيجان المنصوبة إلى ما يطول وصفه ويتسع القول فيه من عظيم احتفال هذه المحلة في الآلات والعدة وغير ذلك؛ مما يدل على سعة الأحوال وعظيم الاحتراف في المكاسب والأموال، ولهم أيضا في مراكبهم على الإبل قباب تظلهم بديعة المنظر عجيبة الشكل قد نصبت على محامل من الأعواد يسمونها القشاوات، وهي كالتوابيت المجوفة، هي لركابها من الرجال والنساء كالأمهدة للأطفال؛ تملأ بالفرش الوثيرة، ويقعد الراكب فيها مستريحا كأنه في مهاد لين فسيح، وبإزائه معادله أو معادلته في مثل ذلك من الشقة الأخرى والقبة مضروبة عليهما، فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران أو كيف ما أحبا، فعندما يصلان إلى المرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين إن كانا من أهل الترفه والتنعم، فيدخل بهما إلى السرادق وهما راكبان، وينصب لهما كرسي ينزلان عليه؛ فينتقلان من ظل قبة المحمل إلى قبة المنزل دون واسطة هواء يلحقهما ولا خطفة شمس تصيبهما، وناهيك من هذا الترفيه؛ فهؤلاء لا يلقون لسفرهم، وإن بعدت شقته، نصبا ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبا.
ودون هؤلاء في الراحة راكبو المحارات، وهي شبيهة بالشقادف التي تقدم وصفها في ذكر صحراء عيذاب، لكن الشقادف أبسط وأوسع وهذا أضم وأضيق، وعليها أيضا ظلائل تقي حر الشمس، ومن قصرت حاله عنها في هذه الأسفار، فقد حصل على نصب السفر الذي هو قطعة من العذاب. (5-2) وله في ذكر مدينة السلام بغداد حرسها الله تعالى
هذه المدينة العتيقة - وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية - قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس والأثر الطامس أو تمثال الخيال الشاخص،
55
فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز العقلة والنظر إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تردها ولا تظمأ، وتتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة؛ ففتن الهوى - إلا أن يعصم الله منها - مخوفة، وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء ويذهب بنفسه عجبا وكبرياء، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده؛ فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم، يسحبون أذيالهم أشرا أو بطرا، ولا يغيرون في ذات الله منكرا، يظنون أن أسنى الفخار في سحب الإزار، ولا يعلمون أن فضله بمقتضى الحديث المأثور في النار.
يتبايعون بينهم بالذهب قرضا، وما منهم ما يحسن لله قرضا، فلا نفقة فيها إلا من دينار تقرضه وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف ، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لا يبالون في ذلك بعيب كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب ؛ فالغريب فيهم معدوم الإرفاق متضاعف الإنفاق، لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق، أو يهش إليه هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق؛ فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها، ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وأنبائها، أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين ووعاظهم المذكورين.
لا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير ومداومة التنبيه والتبصير والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرا من أوزارهم، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم، ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم، لكنهم معهم يضربون في حديد بارد ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق منهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة، فأول من شهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام رضي الدين القزويني، رئيس الشافعية وفقيه المدرسة النظامية والمشار إليه بالتقديم في العلوم الأصولية، حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر وأخذ القراء أمامه في القراءة على كراسي موضوعة، فتوقوا وشوقوا وأتوا بتلاحين معجبة ونغمات محزنة مطربة، ثم اندفع الإمام الشيخ المذكور فخطب خطبة سكون ووقار، وتصرف في أفانين من العلوم من تفسير كتاب الله - عز وجل - وإيراد حديث رسوله
صلى الله عليه وسلم
والتكلم على معانيه، ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب وما قصر، وتقدم وما تأخر.
ودفعت إليه عدة رقاع فيها فجمعها جملة في يده، وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذ بها إلى أن فرغ منها، وحان المساء فنزل وافترق الجمع، فكان مجلسه مجلس علم ووعظ وقورا هينا لينا ظهرت فيه البركة والسكينة، ولم تقصر عن إرسال عبرتها فيه النفس المستكينة، ولا سيما آخر مجلسه فإنه سرت حميا وعظه إلى النفوس حتى أطارتها خشوعا وفجرتها دموعا، وبادر التائبون إليه سقوطا على يده وقوعا، فكم ناصية جز، وكم مفصل من مفاصيل التائبين طبق بالموعظة وحز.
فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة وتتغمد الجناة وتستدام العصمة والنجاة، والله تعالى يجازي كل ذي مقام عن مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه برحمته وكرمه، إنه المنعم لا رب سواه ولا معبود إلا إياه، وشهدنا له مجلسا ثانيا إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر المذكور، وحضر ذلك اليوم مجلسه سيد العلماء الخراسانية ورئيس الأئمة الشافعية، ودخل المدرسة النظامية بهز عظيم وتطريف آماق تشوقت له النفوس، فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسرورا بحضوره ومتجملا به، فأتى بأفانين من العلوم على حسب مجلسه المتقدم الذكر في هذا التقييد المشهر المآثر والمكارم المقدم بين الأكابر والأعاظم.
ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي، وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد، آية الزمان وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدر؛ فأما نظمه فرضي الطباع مهياري الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقس وسحبان، ومن أبهر آياته وأكبر معجزاته أنه يصعد المنبر ويبتدئ القراء بالقرآن، وعددهم نيف على العشرين قارئا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القرآن يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات لا يكاد المتقد الخاطر يحصيها عددا أو يسميها نسقا، فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته عجلا مبتدرا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته، فقرأ وأتى بها على نسق القراءة لها لا مقدما ولا مؤخرا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها، فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ما قرأ من القرآن آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلا ويورد الخطبة الغرا بها عجلا
أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ،
إن هذا لهو الفضل المبين .
فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر، ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر طارت لها القلوب اشتياقا، وذابت بها الأنفس احتراقا، إلى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على الصباح كل يلقي ناصيته بيده فيجزها ويمسح على رأسه داعيا له، ومنهم من يغشى عليه فيرفع في الأذرع إليه؛ فشهدنا هولا يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول القيامة، فلو لم نركب ثبج البحر ونعتسف مفازات القفر إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناجحة، والحمد لله على أن من بلقاء من يشهد الجمادات بفضله ويضيق الوجود عن مثله.
وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل، وتطير إليه الرقاع؛ فيجاوب أسرع من طرفة عين، وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، لا إله سواه.
ثم شهدنا مجلسا ثانيا له بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر في مساحة قصور الخليفة ومناظره مشرفة عليه، وهذا الموضع المذكور، وهو من حرم الخليفة وخص بالوصول إليه والتكلم فيه، ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته، ومن حضر من الحرم، ويفتح الباب للعامة فيدخلون إلى ذلك الموضع وقد بسط بالحصر، وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس، فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور، وقعدنا إلى أن وصل هذا الحبر المتكلم، فصعد المنبر وأرخى طيلسانه عن رأسه تواضعا لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاءوا، وأطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة - وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات - صدع بخطبته الزهراء الغراء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات، ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب إلى أن أكملها، وكانت الآية:
الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ، فتمادى على هذا السين، وحسن أي تحسين، فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته وكنى عنها بالستر الأشرف والجناب الأرأف، ثم سلك سبيله في الوعظ كل ذلك بديهة لا روية، ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى، فأرسلت وابلها العيون، وأبدت النفوس سر شوقها المكنون، وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين بالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس لا تملك تحصيلا، ولا تميز معقولا ولا تجد للصبر سبيلا. ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب، مبرحة التشويق بديعة الترقيق، تشعل القلوب وجدا، ويعود موضوعها النسيبي زهدا، وكان آخر ما أنشده من ذلك وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام:
أين فؤادي أصابه الوجد
وأين قلبي فما صحا بعد
يا سعد زدني جوى بذكرهم
بالله قل لي فديت يا سعد
ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه إلى أن خاف الإفحام، فابتدر القيام ونزل عن المنبر دهشا عجلا وقد أطار القلوب وجلا، وترك الناس على أحر من الجمر يشيعونه بالمدامع الحمر فمن معلن بالانتحاب ومن متعفر في التراب، فيا له من مشهد ما أهول مرآه وما أسعد من رآه، نفعنا الله ببركته وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته بمنه وفضله. وفي أول مجلسه أنشد قصيدا نير القبس: عراقي النفس، في الخليفة أوله:
في شغل من الغرام شاغل
ما هاجه البرق بسفح عاقل
يقول فيه عند ذكر الخليفة:
يا كلمات الله كوني عوذة
من العيون للإمام الكامل
ففرغ من إنشاده وقد هز المجلس طربا، ثم أخذ في شأنه وتمادى في إيراد سحر بيانه، وما كنا نحسب أن متكلما في الدنيا يعطى من ملكة النفوس والتلاعب بها ما أعطي هذا الرجل، فسبحان من يخص بالكلام من يشاء من عباده لا إله غيره، وشهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن يستغرب شأنه بالإضافة لما عهدناه من متكلمي الغرب، وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة - شرفهما الله - مجالس من قد ذكرناه في هذا التقييد، فصغرت بالإضافة لمجلس هذا الفذ في نفوسنا قدرا، ولم نستطب لها ذكرا، وأين تقعان مما أريد، وشتان بين اليزيدين، وهيهات الفتيان كثير والمثل بمالك يسير، ونزلنا بعد بمجلس يطيب سماعه ويروق استطلاعه، وحضرنا له مجلسا ثالثا يوم السبت الثالث عشر لصفر بالموضوع المذكور بإزاء داره على الشط الشرقي، فأخذت معجزاته البيانية مأخذها، فشاهدنا من أمره عجبا، صعد بوعظه أنفاس الحاضرين سحبا، وأسال من دمعهم وابلا سكبا، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتا من النسيب شوقا زهديا وطربا، إلى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والها مكتئبا، وغادر الكل متندما على نفسه منتجعا لهفان ينادي يا حسرتا وا حربا، والنادبون يدورون بنحيبهم دور الرحا، وكل منهم بعد من سكرته ما صحا.
فسبحان من خلقه عبرة لأولي الألباب، وجعله لتوبة عباده أقوى الأسباب، لا إله سواه (ثم نرجع إلى ذكر بغداد)، هي كما ذكرناه جانبان شرقي وغربي ودجلة بينهما، فأما الجانب الغربي فقد عمه الخراب واستولى عليه، وكان المعمور أولا، وعمارة الجانب الشرقي محدثة، لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة كل محلة منها مدينة مستقلة، وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثماني منها بجوامع يصلى فيها الجمعة، فأكبرها القرية، وهي التي نزلنا فيها بربض منها يعرف بالمربعة على شط دجلة بمقربة من الجسر، فحلمته دجلة بمدها السيلي، فعاد الناس يعبرون بالزوارق والزوارق فيها لا تحصى كثرة، فالناس ليلا ونهارا من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالا ونساء، والعادة أن يكون لها جسران : أحدهما مما يقرب من دور الخليفة، والآخر فوقه؛ لكثرة الناس، والعبور في الزوارق لا ينقطع منها، ثم الكرخ وهي مدينة مسورة، ثم محلة باب البصرة وهي أيضا مدينة، ولها جامع المنصور - رحمه الله - وهو جامع كبير عتيق البنيان حفيله، ثم الشارع وهي أيضا مدينة، فهذه الأربع أكبر المحلات.
وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قومة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية والماء يدخل إليه من دجلة، وأسماء سائر المحلات يطول ذكرها كالوسيطة، وهي بين دجلة ونهر يتفرع من الفرات وينصب في دجلة، يجيء فيه جميع المرافق التي في الجهات التي يسقيها الفرات ويشق على باب البصرة الذي ذكرنا محلته نهر آخر منه وينصب أيضا في دجلة.
ومن أسماء المحلات العتابية، وبها تصنع الثياب العتابية، وهي حرير وقطن مختلفات الألوان. ومنها الحربية وهي أعلاها، وليس وراءها إلا القرى الخارجة عن بغداد إلى أسماء يطول ذكرها، وبإحدى هذه المحلات قبر معروف الكرخي؛ وهو رجل من الصالحين مشهور في الأولياء. وفي الطريق إلى باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متسع السنام عليه مكتوب: هذا قبر عون ومعين من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وفي الجانب الغربي أيضا قبر موسى بن جعفر - رضي الله عنهما - إلى مشاهد كثيرة مما لم تحضرنا تسميته من الأولياء والصالحين والسلف الكريم - رضي الله عن جميعهم.
وبأعلى الشرقية خارج البلد محلة كبيرة بإزاء محلة الرصافة. وبالرصافة كان الطاق المشهور على الشط، وفي تلك المحلة مشهد حفيل البنيان، له قبة بيضاء سامية في الهواء، فيه قبر الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - وبه تعرف المحلة. وبالقرب من تلك المحلة قبر الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وفي تلك الجهات أيضا قبر أبي بكر الشبلي - رحمه الله - وقبر الحسين بن منصور الحلاج، وببغداد من قبور الصالحين كثير - رضي الله عنهم.
وبالغربية هي البساتين والحدائق، ومنها تجلب الفواكه إلى الشرقية، وأما الشرقية فهي اليوم دار الخلافة، وكفاها بذلك شرفا واحتفالا ودور الخليفة مع آخرها، وهي تقع منها في نحو الربع أو أزيد؛ لأن جميع العباسيين في تلك الديار معتقلون اعتقالا جميلا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة بهم، وللخليفة من تلك الديار جزء كبير قد اتخذ فيها المناظر المشرفة والقصور الرائعة والبساتين الأنيقة، وليس له اليوم وزير، إنما له خديم يعرف بنائب الوزارة، يحضر الديوان المحتوي على أموال الخلافة، وبين يديه الكتب، فينفذ الأمور، وله قيم على جميع الديار العباسية، وأمين على كافة الحرم الباقيات من عهد جده وأبيه وعلى جميع من تضمه الحرمة الخلافية، يعرف بالصاحب مجد الدين أستاذ الدار، هذا لقبه، ويدعى له إثر الدعاء للخليفة، وهو قلما يظهر للعامة اشتغالا بما هو بسبيله من أمور تلك الديار وحراستها والتكفل بمغالقها وتفقدها ليلا ونهارا.
ورونق هذا الملك إنما هو على الفتيان والأحابش المجابيب، منهم فتى اسمه خالص، وهو قائد العسكرية كلها، أبصرناه خارجا أحد الأيام وبين يديه وخلفه أمراء الأجناد من الأتراك والديلم وسواهم، وحوله نحو خمسين سيفا مسلولة في أيدي رجال قد احتفوا به، فشاهدنا من أمره عجبا في الدهر، وله القصور والمناظر على دجلة، وقد يظهر الخليفة في بعض الأحيان بدجلة راكبا في زورق، وقد يصيد في بعض الأوقات في البرية وظهوره على حالة اختصار تعمية لأمره على العامة، فلا يزداد أمره من تلك التعمية إلا اشتهارا، وهو مع ذلك يحب الظهور للعامة، ويؤثر التحبب لهم، وهو ميمون النقيبة عندهم قد استسعدوا بأيامه رخاء وعدلا وطيب عيش، فالكبير والصغير منهم داع له، أبصرنا هذا الخليفة المذكور، وهو أبو العباس أحمد الناصر لدين الله بن المستضيء بنور الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف، ويتصل نسبه إلى أبي الفضل جعفر المقتدر بالله إلى السلف فوقه من أجداده الخلفاء - رضوان الله عليهم - بالجانب الغربي أمام منظرته، وقد انحدر عنها صاعدا في الزورق إلى قصره بأعلى الجانب الشرقي على الشط، وهو في فتاء من سنه أشقر اللحية صغيرها كما اجتمع بها وجهه حسن الشكل جميل المنظر، أبيض اللون معتدل القامة، رائق الرواء، سنه نحو الخمس والعشرين سنة، لابسا ثوبا أبيض شبه القباء برسوم ذهب فيه، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة المتخذة للباس الملوك مما هو كالفنك،
56
وأشرف متعمدا بذلك زي الأتراك تعمية لشأنه، لكن الشمس لا تخفى وإن سترت، وذلك عشية يوم السبت السادس لصفر سنة ثمانين، وأبصرناه أيضا عشي يوم الأحد بعده متطلعا من منظرته المذكورة بالشرق الغربي، وكنا نسكن بمقربة منها.
والشرقية حفيلة الأسواق عظيمة الترتيب، تشتمل من الخلق على بشر لا يحصيهم إلا الله تعالى الذي أحصى كل شيء عددا، وبها من الجوامع ثلاثة كل يجمع فيها جامع الخليفة متصل بداره، وهو جامع كبير، وفيه سقايات عظيمة ومرافق كثيرة كاملة؛ مرافق الوضوء والطهور. وجامع السلطان - وهو خارج البلد، ويتصل به قصور تنسب للسلطان أيضا - معروف بشاه شاه، وكان مدبر أمر أجداد هذا الخليفة، وكان يسكن هنالك فابتنى الجامع أمام مسكنه. وجامع الرصافة، وهو على الجانب الشرقي المذكور وبينه وبين جامع هذا السلطان المذكور مسافة نحو الميل. وبالرصافة تربة الخلفاء العباسيين - رحمهم الله - فجميع جوامع البلد ببغداد المجمع فيها أحد عشر. وأما حماماتها فلا تحصى عدة، ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنها بين الشرقية والغربية نحو الألفي حمام،
57
وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل للناظر أنها رخام أسود صقيل. وحمامات هذه الجهات أكثرها على هذه الصفة لكثرة القار عندهم؛ لأن شأنه عجيب، يجلب من عين بين البصرة والكوفة. وقد أنبط الله ماء هذه العين ليتولد منه القار، فهو يصير في جوانبه كالصلصال، فيجرف ويجلب، وقد انعقد، فسبحان خالق ما يشاء! لا إله سواه.
وأما المساجد بالشرقية والغربية فلا يأخذها التقدير، فضلا عن الإحصاء، والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة إلا وهي يقصر القصر البديع عنها، وأعظمها وأشهرها النظامية، وهي التي ابتناها نظام الملك، وجددت سنة أربع وخمسمائة، ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تتصير إلى الفقهاء والمدرسين بها، ويجرون بها على الطلبة ما يقوم بهم، ولهذه البلاد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرف عظيم وفخر مخلد، فرحم الله واضعها الأول، ورحم من تبع ذلك السنن الصالح.
وللشرقية أربعة أبواب؛ فأولها - وهو في أعلى الشط - باب السلطان، ثم باب الظفرية، ثم يليه باب الحلبة، ثم باب البصلية، هذه الأبواب التي هي في السور المحيط بها من أعلى الشط إلى أسفله، هو ينعطف عليها كنصف دائرة مستطيلة، وداخلها في الأسواق أبواب كثيرة، وبالجملة فشأن هذه البلدة أعظم من أن يوصف، وأين هي مما كانت عليه؟! هي اليوم داخلة تحت قول حبيب:
لا أنت أنت ولا الديار ديار
واتفق رحيلنا من بغداد إلى الموصل إثر صلاة العصر من يوم الاثنين الخامس عشر لصفر، وهو الثامن والعشرون لماية، فكان مقامنا بها ثلاثة عشر يوما ونحن في صحبة الخاتونين: خاتون بنت مسعود المتقدمة الذكر في هذا التقييد، وخاتون أم معز الدين صاحب الموصل وأرض الأعاجم المتصلة بالدروب التي إلى طاعة الأمير مسعود، والد إحدى الخاتونين المذكورتين، وتوجه حاج خراسان وما يليها صحبة الخاتون الثالثة ابنة الملك الدقوس،
58
وطريقهم على الجانب الشرقي من بغداد، وطريقنا نحن إلى الموصل على الجانب الغربي منها، وهاتان الخاتونان هما أميرتا هذا العسكر الذي توجهنا فيه وقائدتاه، والله لا يجعلنا تحت قول القائل:
ضاع الرعيل ومن يقوده
ولهما أجناد برسمهما، وزادهما الخليفة جندا يشيعونهما مخافة العرب الخفاجيين المضرين بمدينة بغداد. وفي تلك العشية التي رحلنا فيها فجاءتنا خاتون المسعودية المترفة شبابا وملكا، وهي قد استقلت في هودج موضوع على خشبتين معترضتين بين مطيتين: الواحدة أمام الأخرى، وعليهما الجلال المذهبة، وهما يسيران بها سير النسيم سرعة ولينا، وقد فتح لها أمام الهودج وخلفه بابان، وهي ظاهرة في وسطه متنقبة وعصابة ذهب على رأسها وأمامها رعيل من فتيانها وجندها، وعن يمينها جنائب المطايا والهماليج العتاق، ووراءها ركب من جواريها قد ركبن المطايا والهماليج على السروج المذهبة، وعصبن رءوسهن بالعصائب الذهبيات والنسيم يتلاعب بعذباتهن، وهن يسرن خلف سيدتهن سير السحاب، ولها الرايات والطبول والبوقات تضرب عند ركوبها وعند نزولها.
وأبصرنا من نخوة الملك النسائي واحتفاله رتبة تهز الأرض هزا، وتسحب أذيال الدنيا عزا، ويحق أن يخدمها العز ويكون لها هذا الهز. فإن مسافة مملكة أبيها نحو الأربعة الأشهر، وصاحب القسطنطينية يؤدي إليه الجزية، وهو من العدل في رعيته على سيرة عجيبة، ومن موالاة الجهاد على سنة مرضية، وأعلمنا أحد الحجاج من أهل بلدنا أن في هذا العام الذي هو عام تسعة وسبعين الخالي عنا استفتح من بلاد الروم نحو الخمسة والعشرين بلدا، ولقبوه عز الدين، واسم أبيه مسعود، وهذا الاسم غلب عليه، وهو عريق في المملكة عن جد فجد.
ومن شرف خاتون هذه، واسمها سلجوقة، أن صلاح الدين استفتح آمد بلد زوجها نور الدين،
59
وهي من أعظم بلاد الدنيا، فترك البلد لها كرامة لأبيها، وأعطاها المفاتيح، فبقي ملك زوجها بسببها. وناهيك من هذا الشأن، والملك ملك الحي القيوم يؤتي الملك من يشاء لا إله سواه. فكان مبيتنا تلك الليلة في إحدى قرى بغداد، نزلناها وقد مضى هدء من الليل. وبمقربة منها دجيل، وهو نهر يتفرع من دجلة يسقي تلك القرى كلها، وغدونا من ذلك الموضع ضحى يوم الثلاثاء السادس عشر لصفر المذكور، والقرى متصلة في طريقنا، فاتصل سيرنا إلى أثر صلاة الظهر، ونزلنا وأقمنا باقي يومنا ليلحقنا من تأخر من الحاج ومن تجار الشام والموصل، ثم رحلنا قبيل نصف الليل، وتمادى سيرنا إلى أن ارتفع النهار، فنزلنا قائلين ومريحين على دجيل، وأسرينا الليل كله؛ فنزلنا مع الصباح بمقربة من قرية تعرف «بالخربة» من أخصب القرى وأفسحها، ورحلنا من ذلك الموضع، وأسرينا الليل كله، ونزلنا مع الصباح من يوم الخميس الثاني عشر لصفر على شط دجلة بمقربة من حصن يعرف «بالمعشوق»، ويقال: إنه كان متفرجا لزبيدة ابنة عم الرشيد وزوجه رحمه الله.
وعلى قبالة هذا الموضع في الشط الشرقي مدينة «سر من رأى»، وهي اليوم عبرة من رأى، أين معتصمها وواثقها ومتوكلها؟! مدينة كبيرة قد استولى الخراب عليها إلا بعض الجهات منها هي اليوم معمورة. وقد أطنب المسعودي - رحمه الله - في وصفها ووصف طيب هوائها وورائق حسنها، وهي كما وصف وإن لم يبق إلا الأثر من محاسنها، والله وارث الأرض ومن عليها، لا إله غيره، فأقمنا بهذا الموضع طول يومنا مستريحين وبيننا وبين مدينة تكريت مرحلة، ثم رحلنا منه وأسرينا الليل كله؛ فصبحنا تكريت مع الفجر من يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر، وهو أول يوم من يونيه، فنزلنا ظاهرها مستريحين ذلك اليوم.
ولما كنا قد ذكرنا طرفا مما قال ابن جبير عن بغداد، اقتضى العدل أن نذكر طرفا مما قاله عن دمشق؛ حتى نشخص انطباعات بلاد الشرق في ذهن هذا السائح الكبير القادم إليها من الغرب. (5-3) ذكر مدينة دمشق حرسها الله تعالى
جنة المشرق ومطلع حسنه المؤنق المشرق، وهي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تحلت بأزاهير الرياحين، وتجلت في حلل سندسية من البساتين، وحلت من موضع الحسن بالمكان المكين، وتزينت في منصتها أجمل تزيين، وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمه - صلى الله عليهما - منها إلى ربوة ذات قرار ومعين، ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مذائبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم هلموا إلى معرس للحسن ومقيل، قد سئمت أرضها كثرة الماء حتى اشتاقت إلى الظمأ، فتكاد تناديك بها الصم الصلاب «اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب»، قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر، فكل موضع لحظته بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيد النظر، ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تساميها وتحاذيها.
ذكر جامعها المكرم شرفه الله تعالى
هو من أشهر جوامع الإسلام حسنا، وإتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه، ومن عجيب شأنه أنه لا ينسج به العنكبوت، ولا تدخله، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاب. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك - رحمه الله - ووجه إلى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشر ألفا من الصناع من بلاده، وتقدم إليه بالوعيد في ذلك إن توقف عنه، فامتثل أمره مذعنا بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتب التواريخ، فشرع في بنائه، وبلغت الغاية في التأنق فيه، وأنزلت جدره كلها بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء، وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة قد مثلت أشجارا، وفرعت أغصانا منظومة بالفصوص ببدائع من الصنعة الأنيقة المعجزة، وصف كل واصف، فجاء يغشي العيون وميضا وبصيصا، وكان مبلغ النفقة فيه حسبما ذكره ابن المعلى الأسدي في جزء وضعه في ذكر بنائه مائة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار ومائتا ألف دينار، فكان مبلغ الجميع أحد عشر ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، والوليد هذا (هو) الذي أخذ نصف الكنيسة الباقية منه في أيدي النصارى وأدخلها فيه؛ لأنه كان قسمين: قسما للمسلمين وهو الشرقي، وقسما للنصارى وهو الغربي؛ لأن أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - دخل البلد من الجهة الغربية، فانتهى إلى نصف الكنيسة، وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى، ودخل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - عنوة من الجانب الشرقي، وانتهى إلى النصف الثاني وهو الشرقي؛ فاجتازه المسلمون، وصيروه مسجدا، وبقي النصف المصارع عليه - وهو الغربي - كنيسة بأيدي النصارى إلى أن عوضهم منه الوليد، فأبوا ذلك؛ فانتزعه منهم قهرا وطلع لهدمه بنفسه، وكانوا يزعمون أن الذي يهدم كنيستهم يجن، فبادر الوليد وقال: أنا أول من يجن في الله، وبدأ الهدم بيده؛ فبادر المسلمون وأكملوا هدمه.
واستعدى النصارى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أيام خلافته، وأخرجوا العهد الذي بأيديهم من الصحابة - رضي الله عنهم - في إبقائه عليهم، فهم بصرفه إليهم؛ فأشفق المسلمون من ذلك، ثم عوضهم منه بمال عظيم أرضاهم به فقبلوه.
ويقال: إن أول من وضع جداره القبلي هو النبي - عليه الصلاة والسلام - وكذلك ذكر ابن المعلى في تاريخه، والله أعلم بذلك، لا إله سواه. وقرأنا في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أنه قال: إن الصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة، وفي الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم : أنه يعبد الله - عز وجل - فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة.
ذكر تذريعه ومساحته وعدد أبوابه وشمسياته
ذرعه في الطول من الشرق إلى الغرب مائتا خطوة، وهما ثلاثمائة ذراع، وذرعه في السعة من القبلة إلى الجوف
60
مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة، وهي مائتا ذراع؛ فيكون تكسيره من المراجع الغربية أربعة وعشرين مرجعا، وهو تكسير مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، غير أن الطول في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من القبلة إلى الشمال، وبلاطاته المتصلة بالقبلة، ثلاث مستطيلات من الشرق إلى الغرب، سعة كل بلاطة منها ثماني عشرة خطوة، والخطوة ذراع ونصف، وقد قامت على ثمانية وستين عمودا، منها أربع وخمسون سارية وثماني أرجل حصينة تخللها، واثنتان مرخمة ملصقة معها في الجدار الذي يلي الصحن، وأربع أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصعة بفصوص من الرخام ملونة قد نظمت خواتيم، وصورت محاريب وأشكالا غريبة قائمة في البلاط الأوسط، تقل قبة الرصاص مع القبة التي تلي المحراب، سعة كل رجل منها ستة عشر شبرا، وطولها عشرون شبرا، وبين كل رجل ورجل في الطول سبعة عشرة خطوة، وفي العرض ثلاث عشرة خطوة؛ فيكون دور كل رجل منها اثنين وسبعين شبرا.
ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته؛ الشرقية والغربية والشمالية، سعته عشر خطا، وعدد قوائمه سبع وأربعون، منها أربع عشرة رجلا من الجص، وسائرها سوار، فيكون سعة الصحن حاشا المسقف القبلي والشمالي مائة ذراع، وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص.
وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه سامية في الهواء عظيمة الاستدارة، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل من المحراب إلى الصحن، وتحته ثلاث قباب: قبة تتصل بالجدار الذي إلى الصحن، وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما، والقبة الرصاصية قد أغصت الهواء وسطه، فإذا استقبلتها أبصرت منظرا رائعا ومرأى هائلا يشبهه الناس بنسر طائر كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاط عن يمين ونصف الثاني عن شمال جناحاه. وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة، فهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه.
ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة في الجو. والجامع المكرم مائل إلى الجهة الشمالية من البلد، وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون، منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر، وفي القبة المتصلة بالمحراب مع ما يليها من الجدار أربعة عشر شمسية، وفي طول الجدار عن يمين المحراب ويساره أربع وأربعون، وفي القبة المتصلة بجدار الصحن ست، وفي ظهر الجدار إلى الصحن سبع وأربعون شمسية.
وفي الجامع المكرم ثلاث مقصورات: مقصورة الصحابة - رضي الله عنهم - وهي أول مقصورة وضعت في الإسلام، وضعها معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - وبإزاء محرابها عن يمين مستقبل القبلة باب حديد كان يدخل معاوية - رضي الله عنه - إلى المقصورة منه إلى المحراب، وبإزاء محرابها لجهة اليمين مصلى أبي الدرداء - رضي الله عنه - وخلفها كانت دار معاوية - رضي الله عنه - وهي اليوم سماط عظيم للصفارين يتصل بطول جدار الجامع القبلي، ولا سماط أحسن منظرا منه ولا أكبر طولا وعرضا. وخلف هذا السماط على مقربة منه دار الخيل برسمه، وهي اليوم مسكونة، وفيها مواضع للكمادين.
61
وطول المقصورة الصحابية المذكورة أربعة وأربعون شبرا، وعرضها نصف الطول، ويليها لجهة الغرب في وسط الجامع المقصورة التي أحدثت عند إضافة النصف المتخذ كنيسة إلى الجامع حسبما تقدم ذكره، وفيها منبر الخطبة ومحراب الصلاة. وكانت مقصورة الصحابة أولا في نصف الخط الإسلامي من الكنيسة، وكان الجدار حيث أعيد المحراب في المقصورة المحدثة، فلما أعيدت الكنيسة كلها مسجدا صارت مقصورة الصحابة طرفا من الجانب الشرقي، وأحدثت المقصورة الأخرى وسطا، حيث كان جدار الجامع قبل الاتصال، وهذه المقصورة المحدثة أكبر من الصحابية.
وبالجانب الغربي بإزاء الجدار مقصورة أخرى هي برسم الحنفية، يجتمعون فيها للتدريس وبها يصلون، وبإزائها زاوية محدقة بالأعواد المشرجبة كأنها مقصورة صغيرة. وبالجانب الشرقي زاوية أخرى على هذه الصفة هي كالمقصورة كان وضعها للصلاة فيها أحد أمراء الدولة التركية، وهي لاصقة بالجدار الشرقي.
وبالجامع المكرم عدة زوايا على هذا الترتيب يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس، وهي من جملة مرافق الطلبة، وفي الجدار المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات القبلية عشرون بابا متصلة بطول الجدار قد علتها قسي جصية مخرمة كلها على هيئة الشمسيات، فتبصر العين من اتصالها أجمل منظر وأحسنه، والبلاط المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة، وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله. ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها، وفيه مجتمع أهل البلد، وهو متفرجهم ومتنزههم، كل عشية تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق إلى غرب من باب جيرون إلى باب البريد، فمنهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرأ، لا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون. ولبعضهم بالغداة مثل ذلك، وأكثر الاحتفال إنما هو بالعشي، فيخيل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم؛ لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم، لا يزالون على ذلك كل يوم، وأهل البطالة من الناس يسمونهم الحراثين.
وللجامع ثلاث صوامع: واحدة في الجانب الغربي، وهي كالبرج المشيد تحتوي على مساكن متسعة، وزوايا فسيحة راجعة كلها إلى أغلاق يسكنها أقوام من الغرباء أهل الخير، والبيت الأعلى منها كان معتكف أبي حامد الغزالي - رحمه الله - ويسكنه اليوم الفقيه الزاهد أبو عبد الله بن سعيد من قلعة يحصب
62
المنسوبة لهم، وهو قريب لبني سعيد المشتهرين بالدنيا وخدمتها . وثانية بالجانب الغربي على هذه الصفة، وثالثة بالجانب الشمالي على الباب المعروف بباب الناطقيين.
وفي الصحن ثلاث قباب: إحداها في الجانب الغربي منه، وهي أكبرها، وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام، مستطيلة كالبرج، مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة، كأنها الروضة حسنا، وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة، يقال إنها كانت مخزنا لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على ما ذكر لنا على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة، وهي خمسة عشر ألف درهم مؤمنية أو نحوها. وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق، قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام، وتحتها شباك حديد مستدير، وفي وسطه أنبوب من الصفر يمج الماء إلى علو، فيرتفع وينثني كأنه قضيب لجين يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافا واستحسانا، ويسمونه قفص الماء، والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة لكن أصغر منها.
وفي الجانب الشمالي من الصحن باب كبير يفضي إلى مسجد كبير في وسطه صحن، قد استدار فيه صهريج من الرخام كبير، يجري الماء فيه دائما من صفحة رخام أبيض مثمنة قد قامت وسط الصهريج، على رأس عمود مثقوب يصعد الماء منه إليها، ويعرف هذا الموضع بالكلاسة،
63
ويصلي فيه اليوم صاحبنا الفقيه الزاهد المحدث أبو جعفر الفنكي القرطبي، ويتزاحم الناس على الصلاة فيه خلفه؛ التماسا لبركته واستماعا لحسن صوته، وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى مسجد من أحسن المساجد وأبدعها وضعا وأجملها بناء، يذكر الشيعة أنه مشهد لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهذا من أغرب مختلقاتهم، ومن العجيب أنه يقابله في الجهة الغربية في زاوية البلاط الشمالي من الصحن موضع هو ملتقى آخر البلاط الشمالي مع أول البلاط الغربي مجلل بستر في أعلاه، وأمامه ستر أيضا منسدل يزعم أكثر الناس أنه موضع لعائشة - رضي الله عنها - وأنها كانت تسمع الحديث فيه، وعائشة - رضي الله عنها - في دخول دمشق كعلي - رضي الله عنه - لكن لهم في علي - رضي الله عنه - مندوحة من القول؛ وذلك أنهم يزعمون أنه رئي في المنام مصليا في ذلك الموضع؛ فبنت الشيعة فيه مسجدا، وأما الموضع المنسوب لعائشة - رضي الله عنها - فلا مندوحة فيه، وإنما ذكرناه لشهرته في الجامع، وكان هذا الجامع - المبارك ظاهرا وباطنا - منزلا كله بالفصوص المذهبة، مزخرفا بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين فتهدم وجدد، وذهب أكثر رخامه فاستحال رونقه، فأسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث القباب المتصلة بها. ومحرابه من أنجب المحاريب الإسلامية حسنا وغرابة صنعة، يتقد ذهبا كله، وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره تحفها سويريات مفتولات فتل الأسورة كأنها مخروطة لم ير شيء أجمل منها، وبعضها حمر كأنها مرجان، فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع ما يتصل بها من قبابه الثلاث، وإشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه، واتصال شعاع الشمس بها، وانعكاسه إلى كل لون منها حتى ترتمي الأبصار منه أشعة ملونة، يتصل ذلك بجداره القبلي كله عظيم لا يلحق وصفه ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر منه، والله يعمره بشهادة الإسلام وكلمته بمنه.
وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان - رضي الله عنه - وهو المصحف الذي وجه به إلى الشام، وتفتح الخزانة كل يوم أثر الصلاة، فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله، ويكثر الازدحام عليه. وله أربعة أبواب: «باب» قبلي ويعرف بباب الزيارة، وله دهليز كبير متسع له أعمدة عظام، وفيه حوانيت للخرزيين وسواهم، وله مرأى رائع، ومنه يفضي إلى دار الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين، وهي كانت دار معاوية - رضي الله عنه - وتعرف بالخضراء، «وباب» شرقي وهو أعظم الأبواب، ويعرف ببار جيرون، و«باب» غربي ويعرف بباب البريد، «وباب» شمالي ويعرف بباب الناطفيين، وللشرقي والغربي والشمالي أيضا من هذه الأبواب دهاليز متسعة يفضي كل دهليز منها إلى باب عظيم كانت كلها مداخل الكنيسة، فبقيت على حالها، وأعظمها منظرا الدهليز المتصل بباب جيرون، يخرج من هذا الباب إلى بلاط طويل عريض قد قامت أمامه خمسة أبواب مقوسة لها ستة أعمدة طوال، وفي وجه اليسار منه مشهد كبير حفيل كان فيه رأس الحسين بن علي - رضي الله عنهما - ثم نقل إلى القاهرة،
64
وبإزائه مسجد صغير ينسب لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وبذلك المشهد ماء جار. وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها إلى الدهليز، وهو كالخندق العظيم، يتصل إلى باب عظيم الارتفاع ينحسر الطرف دونه سموا، قد حفته أعمدة كالجذوع طولا وكالأطواد ضخامة، وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها الحوانيت المنتظمة للعطارين وسواهم، وعليها شوارع أخرى مستطيلة، فيها الحجر والبيوت للكراء مشرفة على الدهليز، وفوقها سطح يبيت فيه سكان الحجر والبيوت. وفي وسط الدهليز حوض كبير مستدير من الرخام، عليه قبة تقلها أعمدة من الرخام، ويستدير بأعلاها طرة من الرصاص واسعة مكشوفة للهواء لم ينعطف عليها تعتيب. وفي وسط الحوض الرخامي أنبوب صفر يزعج الماء بقوة، فيرتفع إلى الهواء أزيد من القامة لم
65
وحوله أنابيب صغار ترمي الماء إلى علو، فيخرج عنها كقضبان اللجين، فكأنها أغصان تلك الدوحة المائية، ومنظرها أعجب وأبدع من أن يلحقه الوصف، وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة، ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر قد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيرا هندسيا؛ فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما، أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب، والثاني آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عظيم عجيب تتخيله الأوهام سحرا، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها، وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول.
ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاعها، فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها. وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها، وهي التي يسميها الناس المنجانة.
ودهليز الباب الغربي فيه حوانيت البقالين والعطارين، وفيه سماط لبيع الفواكه، وفي أعلاه باب عظيم يصعد إليه على أدراج وله أعمدة سامية في الهواء، وتحت الأدراج سقايتان مستديرتان: سقاية يمينا وسقاية يسارا، لكل سقاية خمسة أنابيب ترمي الماء في حوض رخام مستطيل، ودهليز الباب الشمالي فيه زوايا على مصاطب محدقة بالأعواد المشرجبة هي محاضر لمعلمي الصبيان، وعن يمين الخارج في الدهليز خانقاه مبنية للصوفية في وسطها صهريج، ويقال إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ولها خبر سيأتي ذكره بعد هذا. والصهريج الذي في وسطها يجري الماء فيه، ولها مطاهر يجري الماء في بيوتها. وعن يمين الخارج أيضا من باب البريد مدرسة للشافعية في وسطها صهريج يجري الماء فيه، ولها مطاهر على الصفة المذكورة. وفي الصحن بين القباب المذكورة عمودان متباعدان يسيرا لهما رأسان من الصفر مستطيلان مشرجبان قد خرما أحسن تخريم، يسرجن ليلة النصف من شعبان؛ فيلوحان كأنهما ثرييان مشتعلتان. واحتفال أهل هذه البلدة لهذه الليلة المذكورة أكثر من احتفالهم ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم.
وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم كل يوم إثر صلاة الصبح لقراءة سبع من القرآن دائما، ومثله إثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية يقرءون فيها من سورة الكوثر إلى الخاتمة، ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لا يجيد حفظ القرآن. وللمجتمعين على ذلك إجراء كل يوم يعيش منه أزيد من خمسمائة إنسان. وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم، فلا تخلو القراءة منه صباحا ولا مساء؛ وفيه حلقات للتدريس للطلبة، وللمدرسين فيها إجراء واسع، وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي يجتمع فيها طلبة المغاربة، ولهم إجراء معلوم، ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة، وأغرب ما يحدث به أن سارية من سواريه هي بين المقصورتين القديمة والحديثة، ولها وقف معلوم يأخذه المستند إليها للمذاكرة والتدريس أبصرنا بها فقيها من أهل إشبيلية يعرف بالمرادي.
وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحا يستند كل إنسان منهم إلى سارية، ويجلس أمامه صبي يلقنه القرآن، وللصبيان أيضا على قراءتهم جراية معلومة؛ فأهل الجدة من آبائهم ينزهون أبناءهم عن أخذها وسائرهم يأخذونها، وهذا من المفاخر الإسلامية. وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم، وهذا أيضا من أغرب ما يحدث به من مفاخر البلاد.
وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها إنما هو تلقين، ويتعلمون الخط في الأشعار وغيرها تنزيها لكتاب الله - عز وجل - عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو، وقد يكون في أكثر البلاد الملقن على حدة والمكتب على حدة، فينفصل من التلقين إلى التكتيب، لهم في ذلك سيرة حسنة؛ ولذلك يأتي لهم حسن الخط؛ لأن المعلم له لا يشتغل بغيره؛ فهو يستفرغ جهده في التعليم والصبي في التعلم كذلك، ويسهل عليه لأنه بتصويره يحذو حذوه. ويستدير بهذا الجامع المكرم أربع سقايات في كل جانب سقاية كل واحدة منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت الخلائية، والماء يجري في كل بيت منها، وبطول صحنها حوض من الحجر مستطيل تصب فيه عدة أنابيب منظمة بطوله، وإحدى هذه السقايات في دهليز باب جيرون وهي أكبرها، وفيها من البيوت ما ينيف على الثلاثين، وفيها زائدا على السقاية المستطيلة مع جدارها حوضان كبيران مستديران يكادان يمسكان لسعتهما عرض الدار المحتوية على هذه السقاية، والواحد بعيد من الآخر ، ودور كل واحد منهما نحو الأربعين شبرا، والماء نابع فيهما. والثانية في دهليز باب الناطفيين بإزاء المعلمين، والثالثة عن يسار الخارج من باب البريد، والرابعة عن يمين الخارج من باب الزيادة، وهذه أيضا من المرافق العظيمة للغرباء وسواهم، والبلد كله سقايات قل ما تخلو سكة من سككه أو سوق من أسواقه من سقاية. والمرافق به أكثر من أن توصف، والله يبقيه دار إسلام بقدرته.
ومن أمثلة بيان ابن جبير قوله عن الشام
وكل من وفقه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم - إن أحب - ضيعة من الضياع، فيكون فيها طيب العيش، ناعم البال، وينهال الخبز عليه من أهل الضيعة، ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء، ومتى سئم المقام خرج إلى ضيعة أخرى، أو يصعد على جبل لبنان، أو إلى جبل الجودي، فيلقى بها المريدين المنقطعين إلى الله - عز وجل - فيقيم معهم ما شاء، وينصرف إلى حيث شاء.
ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به أحد المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله - عز وجل - فتجب مشاركتهم. وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا؛ فيه أنواع الفواكه، وفيه المياه المطردة، والظلال الوارفة، وقل ما يخلو من التبتيل والزهادة، وإذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة، فما ظنك بالمسلمين بعضهم مع بعض؟! وما أعجب ما يحدث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم، شاهدنا في هذا الوقت الذي هو شهر جمادى الأولى من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك، وهو من أعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشف قليلا، وهو سرارة
66
أرض فلسطين، وله نظم عظيم الاتساع متصل العمارة، يذكر أنه ينتهي على أربعمائة قرية، فنازله هذا السلطان وضيق عليه، وطال حصاره، واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك، وتجار النصارى أيضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الأمنة على غاية، وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب.
هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك، ولا تعترض الرعايا ولا التجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلما أو حربا، وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه، والله يعلي كلمة الإسلام بمنه. ولهذه البلد قلعة يسكنها السلطان منحازة في الجهة الغربية من البلد، وهي بإزاء باب الفرج من أبواب البلد، وبها جامع السلطان يجمع فيه، وعلى مقربة منها خارج البلد في جهة الغرب ميدانان كأنهما مبسوطان خزا لشدة خضرتهما، وعليهما حلق، والنهر بينهما، وغيضة عظيمة من الحور متصلة بهما، وهما من أبدع المناظر، يخرج السلطان إليهما، ويلعب فيهما بالصوالجة، ويسابق بين الخيل فيهما، ولا مجال للعين كمجالها فيهما، وفي كل ليلة يخرج أبناء السلطان إليهما للرماية والمسابقة واللعب بالصوالجة.
67
وبهذه البلدة أيضا قرب مائة حمام فيها وفي أرباضها، وفيها نحو أربعين دارا للوضوء يجري الماء فيها كلها، وليس في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛ لأن المرافق بها كثيرة.
وفي الذي ذكرنا من ذلك كفاية، والله يبقيها دار إسلام بمنه. وأسواق هذه البلدة من أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظاما وأبدعها وصفا، ولا سيما قيسارياتها، وهي مرتفعات كأنها الفنادق مسقفة كلها بأبواب حديد كأنها أبواب القصور، وكل قيسارية منفردة بصبغتها وأغلاقها الحديدية، ولها أيضا سوق يعرف بالسوق الكبير، يتصل من باب الجابية إلى باب شرقي
إلى أن يقول:
ولأهل دمشق وغيرها من هذه البلاد في جنائزهم رتبة عجيبة؛ وذلك أنهم يمشون أمام الجنازة بقراء يقرءون القرآن بأصوات شجية، وتلاحين مبكية تكاد تنخلع لها النفوس شجوا وحنانا، يرفعون أصواتهم بها فتتلاقى الآذان بأدمع الأجفان، وجنائزهم يصلى عليها في الجامع قبالة المقصورة، فلا بد لكل جنازة من الجامع، فإذا انتهوا إلى بابه قطعوا القراءة، ودخلوا إلى موضع الصلاة عليها إلا أن يكون الميت من أئمة الجامع أو من سدنته؛ فإن الحالة المميزة له في ذلك أن يدخلوه بالقراءة إلى موضع الصلاة عليه، وربما اجتمعوا للعزاء بالبلاط الغربي من الصحن بإزاء باب البريد، فيصلون أفرادا أفرادا، ويجلسون وأمامهم ربعات من القرآن يقرءنها، ونقباء الجنائز يرفعون أصواتهم بالنداء لكل واصل للعزاء من محتشمي البلدة وأعيانهم، ويحلونهم بخططهم الهائلة التي قد وضعوها لكل واحد منهم، بالإضافة إلى الدين، فتسمع ما شئت من صدر الدين، أو شمسه، أو بدره، أو نجمه، أو زينه، أو بهائه، أو جماله، أو مجده، أو فخره، أو شرفه، أو معينه، أو محييه، أو زكيه، أو نجيبه، إلى ما لا غاية له من هذه الألفاظ الموضوعة وتتبعها، ولا سيما في الفقهاء بما شئت أيضا من سيد العلماء، وجمال الأئمة، وحجة الإسلام، وفخر الشريعة، وشرف الملة، ومفتي الفريقين، إلى ما لا نهاية له من هذه الألفاظ المحالية، فيصعد كل واحد منهم إلى الشرفة ساحبا أذياله من الكبر ثانيا عطفه وقذاله، فإذا استكملوا وفرغوا من القراءة وانتهى المجلس بهم منتهاه، قام وعاظهم واحدا واحدا بحسب رتبهم في المعرفة، فوعظ وذكر ونبه على خدع الدنيا، وحذر وأنشد في المعنى ما حضر من الأشعار، ثم ختم بتعزية صاحب المصاب والدعاء له وللمتوفى، ثم قعد وتلاه آخر على مثل طريقته إلى أن يتفرغوا ويتفرقوا، فربما كان مجلسا نافعا لمن يحضره من الذكرى. ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتخويل والتسويد وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة، وإذا لقي أحدا منهم آخر مسلما يقول: جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة؛ كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطيا، والجد عندهم عنقاء مغرب، وصفة سلامهم إيماء للركوع أو السجود، فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض وبسط وقبض، وربما طالت بهم الحالة في ذلك، فواحد ينحط وآخر يقوم، وعمائمهم تهوي بينهم هويا . ا.ه.
وقد يستغرب القارئ كيف ترجمنا إلى الآن مئات من علماء الأندلس، واكتفينا من تراجمهم بعدة أسطار لكل واحد منهم، عاملين بالمثل القائل: يكفي من القلادة ما أحاط بالجيد. ولكننا خرقنا هذه العادة في ترجمة ابن جبير السائح الأندلسي، فنقلنا من ترجمة حياته ومن عيون فصوله وغرر كلماته ما لم ننقله لغيره من علماء الأندلس. والجواب عن هذا السؤال هو شهرة رحلته التي شرقت وغربت، وذكر فيها عن الشرق وأهله حوادث خالدة ومباحث طريفة وقصصا لطيفة لم نجد مثلها لكتاب الغرب وسياحهم، فتمثل لنا شرقنا من خلال وصف ابن جبير في تلك الحقبة التي استرجع فيها المسلمون بيت المقدس بشكل نكاد نرى فيه الوقائع بالعيان، ونراه المثل الأعلى من سحر البيان. (5-4) العلماء والأدباء الذين انتسبوا إلى بلنسية
ثم نعود إلى استقصاء ذكر العلماء والأدباء الذين انتسبوا إلى بلنسية فنقول: وممن ينسب إلى بلنسية من أهل العلم أبو بكر حمدون بن محمد المعروف بابن المعلم، لازم أبا الوليد الوقشي، وسمع من أبي العباس العذري، وتولى الصلاة والخطبة بمسجد رحبة القاضي من بلنسية بعد تغلب الروم عليها أول مرة واستيلائهم على المسجد الجامع، وذلك سنة 489، ثم خرج منها مع جماعة من أهلها فرارا بدينهم سنة 490، نقله ابن الأبار عن ابن علقمة.
وأبو سليمان داود بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان بن عمر بن خلف بن عبد الله بن عبد الرءوف بن حوط الله الأنصاري الحارثي، من أهل أندة عمل بلنسية، سكن مالقة، أخذ عن أبيه وأخيه أبي محمد عبد الله، وطاف في الأندلس، فأخذ ببلنسية عن أبي عبد الله بن نوح، وبشاطبة عن أبي بكر بن مغاور، ولقي بمرسية أبا القاسم بن حبيش، وأبا عبد الله بن حميد، وغيرهما، ولزم أبا القاسم بن بشكوال بقرطبة نحوا من عامين، وسمع بها أبا عبد الله بن عراق، وأبا الحسن الشقوري، وأبا الحسين بن ربيع، وغيرهم، ولقي بإشبيلية أبا عبد الله بن زرقون، وأبا محمد بن جمهور، وأبا جعفر بن مضي ، وبمالقة أبا عبد الله بن الفخار، وأبا زبد السهيلي، وأبا محمد عبد المنعم بن محمد الخزرجي، ولقي بمدينة المنكب أبا محمد عبد الحق بن بونوه،
68
وأبا القاسم سجوم، وبغرناطة أبا عبد الله بن عروس، وأبا الحسن بن كوثر وغيرهما، ولقي بسبتة أبا محمد بن عبيد الله وغيره، وكتب إليه كثيرون من أعيان المشرق، ومنهم أبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله بن الحضرمي، وأبو الرضا أحمد بن طارق، وأبو الثناء الحراني، وأبو الطاهر الخشوعي الدمشقي، وأبو اليمن الكندي الدمشقي، وألف في أسماء شيوخه كتابا قال ابن الأبار إنه قرأه عليه، وإنهم يزيدون على مائتي رجل، وقال: إنه هو وأخوه أبو محمد كانا أوسع أهل الأندلس رواية في وقتهما، لا ينازعان في ذلك ولا يدافعان، مع الجلالة والعدالة.
وتولى أبو سليمان هذا قضاء الجزيرة الخضراء، ثم قضاء بلنسية سنة 608 بعد أبي عبد الله بن أصبغ، ثم تولى قضاء مالقة، وتوفي وهو على قضائها السادس من ربيع الآخر سنة 621، ومولده بأندة سنة 552، قال: والغالب على أحواله التواضع ولين الجانب مع النزاهة والعدل والاعتدال.
ولب
69
بن عبد الله بن لب بن أحمد الرصافي، رصافة بلنسية، يكنى أبا عيسى، أخذ العربية عن أبي الحسن بن النعمة وغيره، وكان قائما على شرح ابن بابشاذ لجمل الزجاجي، قال ابن الأبار في التكملة: وعنده تعلم كثير من شيوخنا، وكانت وفاته في نحو التسعين وخمسمائة.
وممن يناسب ذكره في أعيان بلنسية محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قاسم بن علي بن قاسم بن يوسف، أمير الأندلس، بن عبد الرحمن الفهري، يكنى أبا عبد الله، ويلقب بيمن الدولة، كان رئيسا بقلعة البونت من أعمال بلنسية مقر آبائه الرؤساء، وبها أخذ عن أبي الحسن علي بن إبراهيم التبريزي وغيره، وله صنع أبو محمد بن حزم رسالته في فضل أهل الأندلس، وأطال الثناء عليه وعلى سلفه - رحمهم الله - ذكر ذلك ابن الأبار في التكملة.
وممن يناسب ذكره محمد بن عبد الرحمن بن أبي العاصي بن يوسف بن فاخر بن عتاهية بن أبي أيوب بن حيون بن عبد الواحد بن عفيف بن عبد الله بن رواحة بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، قال ابن الأبار في التكملة: قرأت نسبه بخطه، ونقلته منه، وهو من أهل شارقة؛ قلعة الأشراف، عمل بلنسية، صحب أبا الوليد الوقشي، وله رواية عن أبي محمد بن السيد، روى عنه ابنه أبو العاصي الحكم بن محمد، وتوفي في نحو العشرين وخمسمائة.
ومحمد بن عبد العزيز بن سعيد بن عقال الفهري، من أهل البونت عمل بلنسية، وكانت مركزا للفهريين، وقد تولى محمد المذكور قضاء بلده للحاجب نظام الدولة، ثم لولاة المرابطين، قال ابن الأبار: وهو من أهل المعرفة والنباهة، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة.
ومحمد بن الحسين بن أبي البقاء بن فاخر بن الحسين الأموي، يكنى أبا عبد الله، ويقال إنهم من ولد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - روى عن أبي بكر بن العربي، وأبي الحسن شريح، وأبي الوليد بن بقوة، وغيرهم، وتفقه بأبي القاسم عبد الرحيم بن جعفر المزياتي، لقيه بتلمسان، وولي الأحكام هناك وبإشبيلية، ثم ولي الصلاة والخطبة والأحكام في لرية من أعمال بلنسية من قبل القاضي أبي الحسن بن عبد العزيز سنة 530، وولي أيضا قضاء شبرانة من الثغر الشرقي،
70
وكان فقيها حافظا واقفا على مسائل المدونة، محسنا لعقد الشروط، ضابطا لما رواه، قال ابن الأبار في التكملة: إنه كان مقلا صابرا خيرا فاضلا، ونقل عن ابن عياد أنه توفي بأندة بلده في رمضان سنة 535 وهو ابن سبعين أو نحوها.
وأبو عبد الله محمد بن فرج بن مسلم بن حديدة بن خلدون من ثغر البونت عمل بلنسية، روى عن أبي محمد القلني وغيره، وشارك في اللغة، وكان حسن الخط، وولي قضاء بلده من قبل أبي عبد الله بن عبد العزيز، وذلك في سنة 540.
ومحمد بن إدريس بن عبد الله بن يحيى المخزومي، من أهل بلنسية، سكن جزيرة شقر، لقي أبا الوليد الوقشي ولازمه، وصحب أبا محمد الركلي، وأبا عبد الله بن الجزار، وأبا محمد بن السيد، وأبا عبد الله بن خلصة، قال ابن الأبار: كان من أهل الآداب واللغة، متحققا بذلك، له حظ من النظم ومشاركة في الحديث، وميز رجاله والكلام على معانيه، توفي ببلنسية في ذي القعدة سنة 546.
وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن محمد بن أبي إسحاق بن عمرو بن العاصي الأنصاري، من أهل لرية عمل بلنسية، أخذ عن مشيخة بلده، ثم خرج منه في الفتنة سنة 488 بعد تغلب الروم على بلنسية، فاستوطن جيان نحوا من سبعة أعوام، وأخذ بها الأدب عن أبي الحجاج الكفيف، ولما عادت بلنسية إلى الإسلام في رجب سنة 495 عاد إليها، فأخذ بها القراءات عن أبي بكر بن الصناع المعروف بالهدهد، وكان قد قصد أبا داود المقرئ ليأخذ عنه فألفاه مريضا مرضه الذي توفي منه سنة 596، وسمع من أبي محمد البطليوسي، وأبي بكر بن العربي، وأجاز له في سنة 522، وتصدر ببلده لرية فأحيا رسم القراءة هناك، ثم أقرأ ببلنسية، قال ابن الأبار: وبها أخذ عنه شيخنا أبو عبد الله بن نوح، وله في التمييز بين ألف الوصل وألف القطع مجموع قد حمل عنه، وتوفي بلرية صبيحة يوم الأحد السادس من شوال سنة 547، وصلى عليه أخوه أبو محمد، ودفن بمقبرة بني زنون منها وقد قارب الثمانين، وكان مولده سنة 470.
وأبو الحسن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن واجب القيسي، روى عن شريح، وابن العربي، وأبي القاسم بن رضا، وتفقه بعمه أبي حفص بن واجب، وحضر عند أبي بكر بن أسد، وأبي محمد بن عاشر المناظرة في كتب الرأي، وله رواية عن ابن النعمة، وأبي الوليد بن خيرة، وأبي الحسن بن هذيل، وولي القضاء بقسطنطانية وغيرها ومن الجهات الشرقية، حدث عنه ابنه أبو عبد الله، وكذلك ابن سفيان، ووصفه بالأدب والنباهة وكف اليد والاعتدال في أموره، توفي ببيران سنة 553.
وأبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يعيش اللخمي، روى عن أبي محمد بن خيرون، ورحل حاجا في سنة 506، ثم في السنة التي بعدها، ولقي بمكة رزين بن معاوية، ولكن لم يحمل عنه شيئا، وانصرف إلى مصر فسكنها نحوا من عشرين سنة، ولقي هناك أبا بكر عبد الله بن طلحة اليابري، فسمع منه بعض تواليفه وتواليف شيخه أبي الوليد الباجي، وسمع في طريقه بالإسكندرية من أبي بكر الطرطوشي، وأبي طاهر السلفي، وأبي عبد الله بن منصور بن الحضرمي، ثم قفل إلى بلده سنة ست وعشرين وخمسمائة؛ قال ابن الأبار: ولم يكن له كبير معرفة بالحديث، وتوفي بشاطبة إماما في الفريضة بقصبتها سنة 556، وكان مولده سنة 482.
وأبو عبد الله محمد بن خلف بن يونس، من أهل لرية عمل بلنسية، أخذ بشاطبة عن أبي عمران بن أبي تليد، وتلقى علم الشروط عن أبي الأصبغ عيسى بن موسى المنزلي، والأدب عن أبي الحسن بن زاهر، ترك وطنه في الفتنة، وكان على الصلاة والخطبة بجامع بلده، وكان معدلا، ذكره ابن الأبار، وقال نقلا عن ابن عياد: إنه توفي بشاطبة في رجب سنة 557.
وأبو عبد الله محمد بن مخلوف بن جابر اللواتي النحوي، صحب أبا محمد البطليوسي، وسمع منه ومن القاضيين أبي بكر بن العربي وأبي بكر بن أسود، وأخذ عن أبي الحسن بن هذيل، وكان من أهل المعرفة بالعربية والآداب، معلما بها له حظ من قرض الشعر، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن غالب الرفاء الرصافي، رصافة بلنسية، سكن مالقة. قال ابن الأبار في التكملة: كان شاعر وقته المعترف له بالإجادة، مع العفاف، والانقباض، وعلو الهمة، والتعيش من صناعة الرفو التي كان يعالجها بيده، لم يبتذل نفسه في خدمة، ولا تصدى لانتجاع بقافية، حملت عنه في ذلك أخبار عجيبة، وقد سكن غرناطة وقتا، وامتدح واليها حينئذ، ثم رفض تلك العلق، ورضي بالقناعة مالا، وهو مع ذلك مرغوب فيه، ينظم البديع، ويبدع المنظوم، وكان من الرقة، وسلاسة الطبع، وتنقيح القريض وتجويده، على طريقة متحدة، وسمعت شيخنا أبا الحسن بن حريق يعيبه بالإقلال، وليس كذلك، وخرج صغيرا من وطنه رصافة بلنسية، فكان يكثر الحنين إليه، ويقصر أكثر منظومه عليه ، وشعره مدون بأيدي الناس، متنافس فيه، ومحاسنه كثيرة، قال: وتوفي صرورة لم يتزوج قط، وذلك في يوم الثلاثاء التاسع عشر من رمضان سنة 572، وقبره بمالقة.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن غزلون بن مطرف بن طاهر بن هارون بن عبد الرحمن بن هاجر بن الحسين بن حرب بن أبي شاكر الأنصاري، من أهل شون عمل بلنسية، رحل حاجا سنة 563، وأدى الفريضة سنة 564، وحج ثلاث حجات متواليات، ولقي بالإسكندرية أبا طاهر السلفي سنة 466، وسمع منه الأربعين حديثا من جمعه، وقفل إلى بلده شون فسمعها منه أبو الخطاب بن واجب وأبو عمر بن عياد. قال ابن الأبار: وبخطه قرأت نسبه، وعلى الصواب ثبت هنا، كان مولده سنة 510، وتوفي بمربيطر يوم الخميس السادس والعشرين لجمادى الأولى سنة 574، وسيق إلى بلنسية فدفن بها، وصلى عليه القاضي أبو تميم ميمون بن جبارة.
ومحمد بن علي بن محمد المكتب، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عذارى، سماه أبو الربيع بن سالم في شيوخه، وهو كان معلمه في الكتاب، وحكي أنه كتب عن أبي عبد الله - مولى الزبيدي - بعض ما رواه عن ابن شرف من شعره، ولم يسم شيوخه ولا ذكر وفاته، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرحمن بن بكر الفهري، قال ابن الأبار: سمع من شيوخنا أبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي عمر بن عات، وغيرهم، وكتب بخطه علما كثيرا، وكان متحققا بعلم الحساب، مشاركا في الطب، حافظا للحديث والتواريخ، من بيت كتابة ونباهة، صحبته وعارضت معه كتاب المصابيح لأبي محمد بن مسعود، وسمعت منه أخبارا وأشعارا، وتوفي سنة 618.
وأبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن سلمون، روى عن أبي الحسن بن هذيل، وأخذ عنه قراءة ورش، وسمع منه الموطأ وصحيح البخاري، وكان عدلا مرضيا، قال ابن الأبار: له دكان بالعطارين يقعد فيه أحيانا، سمعت منه أخبارا، وناولني، وأجاز لي، ولم يكن له علم بالحديث ولا بغيره، وقد أخذ عنه بعض أصحابنا، وتوفي ليلة الأحد الثاني والعشرين لربيع الآخر سنة 624، ودفن لصلاة العصر من اليوم المذكور بمقبرة باب بيتالة، ومولده في النصف من سنة 547، قلت: رحم الله ابن الأبار؛ فإن لم يكن لهذا المترجم أي علم لا بالحديث ولا بغيره فلماذا هذا الاعتناء بترجمته، وهذا التدقيق في تاريخ وفاته ومكان دفنه وتاريخ مولده؟!
وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن يحيى الغافقي من بلنسية، أصله من الشارة؛ إحدى قراها. أخذ الفقه عن أبي محمد بن عاثر، وسمع عليه كثيرا من كتابه الذي سماه «الجامع البسيط وبغية الطالب النشيط» في شرح المدونة، وأخذ القراءات عن أبي نصر فتح بن يوسف المعروف بابن أبي كبة، من أصحاب أبي داود المقرئ، وانتقل إلى سبتة في الفتنة سنة 562، حدث عنه ابنه أبو الحسن، قرأ عليه الموطأ، وجامع الترمذي، وكتب عنه الحديث والفقه والأدب والتاريخ، وحكي أنه زجره عن كتب الجاحظ وقد رآه ينظر في بعضها، وأنشده في ذلك:
مهما شككت فلا تشك
ك بأن كتب الجاحظ
من شر ما يملي اللسا
ن على الرقيب الحافظ
ونقل ابن الأبار عن ابنه أنه توفي سنة 624 عن سن عالية تقارب التسعين.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن مسلم البكري، قال ابن الأبار: سمع من شيخنا أبي عبد الله بن نوح قديما، وأخذ عنه العربية والآداب، وأقرأ بها، وكان مقدما حسن التعليم بها، وهو أحد من أخذتها عنه، قرأت عليه جملة من أول الإيضاح لأبي علي الفارسي، وكان من أهل الديانة والنزاهة والانقباض، وتوفي سنة 628، ودفن بمقبرة باب الحنش.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى بن نعمان البكري، أخذ القراءات عن أبي بكر بن جزي، وعلم الفرائض والحساب عن أبي بكر بن سعد الخير، وكان مقدما في ذلك مع الصلاح والعدالة، قال ابن الأبار: سمعت منه أبيات أبي الحسن بن سعد الخير في وصف الدولاب، وأصيب بفالج طاوله على أن توفي صدر سنة 632، ومولده سنة 551.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الملك بن سعيد بن يوسف الأنصاري من أهل بلنسية، انتقل سلفه من شلب إلى شبرب من أعمالها، يروي عن أبي بكر بن نمارة، قال ابن الأبار: صحبته بحانوت أبي عبد الله البطرني، وكان كثيرا ما يقعد معنا هنالك، واستجزته حينئذ، ولا أعلم له رواية عن غير ابن نمارة، وكان فقيها، وتوفي في الحادي والعشرين لربيع الأول سنة 632، ومولده في رجب سنة 542.
ومحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي زاهر، سبقت ترجمة والده، أخذ القراءات عن أبيه، وسمع من أبي العطاء بن نذير، وأبي عبد الله بن نسع وغيرهما، وأدب بالقرآن، قال ابن الأبار: وهو كان معلمي، وعنه أخذت قراءة نافع، وانتفعت به في صغري، وأجاز لي، وسمع مني كتاب «معدن اللجين في مرائي الحسين» من تأليفي، وكان امرأ صدق، ناشئا في الصلاح، محافظا على الخير، متواضعا، يجمع إلى جودة الضبط براعة الخط، ونحا في ما كتب من المصاحف منحى أبي عبد الله بن غطوس فأجاد، وصلى بالناس الفريضة في مسجد رحبة القاضي من داخل بلنسية دهرا طويلا، وكان من العدالة والنزاهة بمكان، ورحل حاجا سنة 632، فمرض بالإسكندرية، وتوفي بعيذاب، قاصدا بيت الله الحرام في آخر سنة 633.
وأبو عبد الله محمد بن حسن بن أحمد بن محمد بن موسى بن سعيد بن سعود الأنصاري المعروف بابن الوزير، ولكن غلبت عليه الشهرة بابن البطرني، أخذ القراءات عن أبيه أبي علي، وسمع من أبي العطاء بن نذير، ومن أبي الحجاج يوسف بن محمد المعافري الشاطبي وغيرهما، وأجاز له أبو محمد بن عبيد الله، وأبو جعفر بن حكم، وأبو محمد عبد المنعم بن الفرس، وأبو بكر بن أبي جمرة، وأبو جعفر بن عميرة الضبي، وعني بعقد الشروط، وكان له فيها نفوذ وبها معرفة مع براعة الخط وحسن الوراقة، وولي قضاء بعض الكور. قال ابن الأبار في التكملة: سمعت منه المعجم في مشيخة أبي علي الصدفي للقاضي أبي الفضل بن عياض، قرأ جميعه علي بلفظه، وكان صهري، وانتقل معي إلى مدينة تونس، وبها توفي - رحمه الله - بين صلاتي الظهر والعصر من يوم الأربعاء الرابع لشهر ربيع الآخر سنة 637، ودفن لصلاة الغداة من يوم الخميس بعده بمقربة من المصلى بظاهرها، ومولده ببلنسية سنة 573. ا.ه.
قلت: سنة 636 يوم الثلاثاء السابع عشر لصفر تغلب العدو على بلنسية، واضطر أهلها إلى التسليم، ولكنهم لم يسلموها إلى سنة 637، فيظهر أن المترجم كان من جملة من جلوا عنها في تلك السنة إلى تونس، ذهب مع نسيبه الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر القضاعي البلنسي المعروف بابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن خلف بن علي بن قاسم الأنصاري، من أهل بلنسية، ويقال إنه من بيت أبي محمد بن قاسم - قاضي قلعة أيوب - وكان هو يقول: أصلي من قلعة أيوب، وكان جدي بها قاضيا، سمع من أبي العطاء بن نذير ومن أبي الخطاب بن واجب، ولكن أكثر أخذه كان عن أبي عبد الله بن نوح، وعني بعقد الشروط في أول طلبه، ثم رغب عن ذلك، وزهد في الدنيا، واعتزل الناس، وأقبل على النظر في العلم، وكان له تحقق بالتفسير، وقعد لذلك بجامع بلنسية وقتا، إلا أن طريقة التصوف كانت أغلب عليه، وألف كتاب «نسيم الصبا» في الوعظ على طريقة الجوزي. قال ابن الأبار: قرأ علي بلفظه مواضع منه، وكتاب «بغية النفوس الزكية في الخطب الوعظية» من إنشائه، كتبته عنه، وسمعت منه غير ذلك، وأجاز لي، وصحبته طويلا، وكان يحدثني باصطحابه مع أبي - رحمه الله - في السماع من أبي عبد الله بن نوح، ويرعى ذلك لي، وقد سمع بقراءتي بجامع بلنسية بين العشاءين لضوء السراج كثيرا مما أخذت عن أبي الخطاب بن واجب، كجامع الترمذي وغيره، ودعي إلى الخطبة بعد وقوع الفتنة، وعرف بالحاجة الماسة إليه في ذلك فأجاب، ثم استعفى فأعفي، وأقام بشاطبة حال حصار بلنسية؛ لأنه كان وجه إلى مرسية لاستمداد أهلها، وتوفي بأوريولة عصر الخميس الثاني والعشرين لرجب سنة 640، ودفن لصلاة الجمعة، وحضر جنازته الخاصة والعامة، وازدحموا على نعشه حتى كسروه به، قال: وفي ظهر يوم الخميس العاشر من شوال بعده قدم أحمد بن محمد بن هود - والي مرسية - بجماعة من وجوه النصارى، فملكهم مرسية صلحا. ا.ه.
قلت: رحم الله أبا البقاء صالح بن شريف الرندي القائل في مرثيته الشهيرة للأندلس:
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية
وأين شاطبة أم أين جيان؟!
نعم لم يتأخر سقوط مرسية عن سقوط بلنسية إلا ثلاث سنوات؛ لأنهما على خط واحد، وكل منهما أشبه بدمشق في كثرة الجنان والتفاف الأشجار وتدفق الأنهار
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم .
وأبو بكر محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان الزهري، يعرف بابن محرز، وكان بيتهم قديما يعرف بابن القح، سمع من أبيه أبي عبد الله، ومن خاليه أبي بكر، وأبي عامر ابني أبي الحسن بن هذيل، ومن أبي محمد بن عبيد الله الحجري، ومن أبي عبد الله بن الغازي، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي عبد الله المناصف، وغيرهم. وأجاز له أبو بكر بن خير، وأبو محمد بن فليح، وأبو الحسن بن النقرات، وأبو العباس بن مضاء، وغيرهم من أهل الأندلس، ومن أهل المشرق أجاز له أبو الحسن بن المفضل، وأبو عبد الله الكركنتي، وأبو الفضل الغزنوي، وأبو القاسم هبة الله بن سعود البوسيري، قال ابن الأبار: وكان أحد رجال الكمال علما وإدراكا وفصاحة، مع الحفظ بالفقه والتفنن بالعلوم والمتانة بالآداب والغريب، وله شعر رائق بديع سمعت منه كثيرا، وأجاز لي، وتوفي ببجاية (بلاد الجزائر) في الثامن عشر لشوال سنة 655 عن سن عالية، ومولده ببلنسية سنة 569.
ومعاوية بن محمد، ولي قضاء بلنسية سنة 239، ذكره ابن حارث، ولم يزد ابن الأبار في ترجمته على هذا السطر الواحد.
ومروان بن محمد بن عبد العزيز التجيبي من أهل بلنسية، وأصل سلفه من قرطبة، وفي انتسابهم إلى تجيب خلاف. يكنى أبا عبد الملك، وكناه طاهر بن مفوز بأبي المطرف في إجازة أبي عمر بن عبد البر له ولابنيه محمد وأحمد، سمع من أبي المطرف بن جحاف، وأبي الوليد الوقشي، وأبي عبد الله بن سعدون القروي ، وأبي داود المقرئ، وأبي بكر بن القدرة، وغيرهم. وأجاز له ابن عبد البر، وأبو مروان بن سراج، ولابنيه أحمد وعبد الله في جمادى الآخرة سنة 488، وكان معتنيا بسماع الحديث وروايته وانتساخ دواوينه مع جلالة القدر ونباهة البيت، وإلى أخيه الوزير أبي بكر أحمد بن محمد كان تدبير بلنسية في الفتنة، ولم يدخل مروان في شيء من ذلك، ومن ولده بنو عبد العزيز الباقون ببلنسية إلى أن تغلب الروم عليها ثانية في آخر صفر سنة 636. قال ابن الأبار الذي نقلنا عنه هذه الترجمة: وتوفي بعد التسعين وأربعمائة.
ومن هذه العائلة ترجم ابن الأبار رجلا آخر، وهو مروان بن أحمد بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز، كان يكنى أبا عبد الملك، وكان من أهل النباهة، عريق البيت في الرئاسة والعلم، قال: وقد تقدم ذكر أبيه وأخيه محمد، ولا أعرف لمروان هذا رواية، وتوفي في السابع عشر من جمادى الأولى سنة 558، ومولده سنة 509، عن ابن عياد.
وترجم ابن الأبار شخصا آخر من هذه الشجرة، وهو مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز، من أهل بلنسية، وقاضيها ورئيسها، ويكنى أبا عبد الملك، سمع من أبي الحسن بن هذيل، وأبي محمد البطليوسي، وأبي الحسن طارق بن يعيش، وأبي بكر بن أسود، وأبي الوليد بن الدباغ، وأبي عبد الله بن سعيد الداني، وأجاز له أبو عمران بن أبي تليد، وأبو علي بن سكرة، وأبو عبد الله بن الفراء - قاضي المرية - وأبو الحسن بن موهب، وغيرهم. وولي قضاء بلنسية في ذي الحجة سنة 538، وقيل في السنة التي بعدها، ثم صار أميرا على بلنسية عند انقراض دولة المرابطين، وبويع له بذلك سنة 540، وأقام بالإمارة يسيرا وخلع، واعتقله اللمتونيون في أخريات أيامهم في أحد معاقل ميورقة، فبقي هناك نحوا من اثنتي عشرة سنة ، ثم تخلص وسار إلى مراكش في قصة طويلة، وأخذ عنه هناك جلة من العلماء، وتوفي بمراكش سنة 578، ومولده ببلنسية سنة 504، وكان لدة أبي القاسم بن حبيش، كل هذا عن ابن الأبار.
وأبو مروان بن السماد المقرئ من أهل بلنسية، وصاحب الصلاة والخطبة بها بعد تغلب الروم عليها أول مرة بغارة القنبيطور الملقب عند الإسبانيين بالسيد، سمع أبو مروان هذا من أبي الوليد الباجي صحيح البخاري، وكان موصوفا بالفضل والصلاح، وحكى القاضي أبو الحسن محمد بن واجب أنه سمع أكثر صحيح البخاري بقراءة ابن السماد هذا على أبي الوليد الباجي بمسجد رحبة القاضي من بلنسية، رواه ابن الأبار في التكملة.
وأبو الخيار مسعود بن محمد بن مسعود الأنصاري، من أهل بلنسية، وأصله من ثغرها، يعرف بابن النابغة، كان من أهل الثقة والعدالة والمشاركة في الأدب وحفظ اللغة، وله حظ من القريض، ولي الأحكام بلرية من كور بلنسية، وخطب بموضع سكناه من غربيها، توفي بعد الأربعين وخمسمائة.
وماجد بن محفوظ بن مرعي بن ترخان بن سيف الشريف الطلحي البكري، من ولد طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يكنى أبا المعالي وأبا الشرف، سمع من أبي عبد الله بن نوح وأبي جعفر بن عبد الغفور وغيرهما، ولقي بإشبيلية أبا عمران الميرتلي، وأخذ عنه بعض شعره الزهدي، وكان أديبا ماهرا شاعرا مجيدا من أبرع الناس خطا، وأكرمهم عشرة، وأحسنهم سمتا، وأشهرهم تصاونا، له معرفة بالشروط، وقد قعد لعقدها، وتوفي بمراكش معتبطا سنة ثلاث أو أربع وستمائة، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن سالم ونابت
71
بن المفرج بن يوسف الخثعمي، أصله من بلنسية، سكن مصر، يكنى أبا الزهر؛ قال السلفي: قدم مصر بعد خروجي منها، وتفقه على مذهب الشافعي، وتأدب، وقال الشعر الفائق، وكتب إلي بشيء من شعره، وتوفي بمصر في رجب سنة 545، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن نقطة.
وعبد الله بن محمد بن حزب الله، يروي عن وهب بن مسرة الحجاري، حدث عنه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الوثايقي الفقيه، قال ابن الأبار: وبنو حزب الله أهل العلم والنباهة، وإليهم ينسب المسجد بداخل بلنسية.
وأبو محمد عبد الله بن سيف الجذامي أخذ عن أبي نصر هارون بن موسى النحوي، وكان نحويا أديبا متفننا ضابطا، أخذ عنه جماعة، وتوفي حول الثلاثين وأربعمائة، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن عزير وغيره.
وأبو محمد عبد الله بن أبي دليم سكن بلنسية، وسمع بطرطوشة من أبي القاسم خلف بن هاني العمري في سنة 405، وكان ابن هاني إذ ذاك ابن تسعة وسبعين عاما، روى عن ابن أبي دليم المذكور أبو داود المقرئ، سمع منه أحاديث خراش بن عبد الله في سنة 436، وكان إذ ذاك ابن ثمانين عاما، قال ابن الأبار: قرأت ذلك بخط أبي داود.
وأبو محمد عبد الله بن خميس بن مروان الأنصاري، ولي القضاء بدانية وأعمالها لإقبال الدولة علي بن مجاهد صاحبها، وذلك في شوال سنة اثنتين وأربعمائة، قال ابن الأبار: وقفت على نسخة عهده بذلك من إنشاء أبي محمد بن عبد البر، ثم إن علي بن مجاهد - أمير دانية - صرف ابن خميس المذكور بسعاية محمد بن مبارك، وولى مكانه أبا عمر بن الحذاء، هذا ولما احتضر أبو عمرو المقرئ أوصى ابنه أبا العباس بأن عبد الله بن خميس يصلي عليه؛ فأنفذ وصيته، وكان ذلك في النصف من شوال سنة 444، قال ابن الأبار: وكان من أهل العلم والفضل، ورأيت خطه في رسم مؤرخ سنة 476.
وأبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري من أهل بلنسية، وصاحب خطة الرد والمظالم بها، روى عن أبيه القاضي أبي المطرف وغيره، وكان فقيها حافظا من بيت علم ونباهة، سمع منه ابنه عبد الرحمن، وحمل عنه المدونة المستخرجة، وقدمه ابن عمه أبو أحمد الأخيف للقضاء مكانه، وأدركته فتنة القنبيطور المتغلب على بلنسية وهو يتولى خطة الرد والمظالم، وكان ذلك في سنة 485، ودخل القنبيطور المدينة صلحا يوم الخميس منسلخ جمادى الأولى سنة 487، فتم حصاره إياها عشرين شهرا، عن ابن الأبار.
وأبو العباس عبد الله بن أحمد بن سعدون، روى عن أبي عمر بن عبد البر وغيره، وكان صاحبا لأبي بحر الأسدي معينا له في مقابلة كتبه، حدث عنه أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن النماري الحجري، ذكره ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن خلف بن سعيد بن حاتم العبدري، يعرف بالزواوي، صحب أبا دواد المقرئ، وسمع منه، ذكره ابن الأبار، وقال إنه حدث عن أبي داود المقرئ بالتلخيص لأبي عمرو المقرئ عن مؤلفه، وأنه رأى خطه بذلك في المحرم سنة 516.
وأبو الحسن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز، من أهل بلنسية وقاضيها، سمع من أبي علي الصدفي، واستجاز له ولأخيه أحمد أبوهما مروان بن محمد أبا الوليد الوقشي في رجب سنة 477، وتولى أبو الحسن عبد الله القضاء ببلنسية سنة 520 بعد وفاة أبي الحسن بن واجب، وأقام في القضاء نحوا من عشر سنين، وكان حميد السيرة، قويم الطريقة، صليبا في الحق، بصيرا بالأحكام، صادق الفراسة والزكن، له في ذلك أخبار محفوظة، وهو من بيت نباهة ورئاسة، توفي مصروفا عن القضاء في رجب سنة 535، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن حبيش وعن ابن عياد.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن الخلف بن الحسن بن إسماعيل الصدفي، يعرف بابن علقمة، روى عن أبيه أبي عبد الله صاحب التاريخ، وعن أبي محمد البطليوسي، وسمع من أبي محمد بن خيرون موطأ مالك، وكان أديبا شاعرا فاضلا ورعا مشاركا في الفقه، حسن الخط، وكتب للقاضي أبي الحسن بن عبد العزيز، وله خطب حسان من إنشائه، توفي في حدود الأربعين وخمسمائة، نقل أكثر ذلك ابن الأبار عن ابن عياد.
وأبو محمد عبد الله بن سعيد، يعرف بالطراز، صحب أبا بكر بن عقال الفقيه في رحلته إلى قرطبة، وكان سماعهما من ابن العربي واحدا، وكان عظيم الحفظ دءوبا على الدرس، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن عياد، ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن (ثلاث مرات) بن جحاف المعافري، لقي أبا الحسن عاصم بن القدرة وغيره، وكان فقيها أديبا شاعرا، وولي قضاء بعض الكور، ونقل عنه ابن عياد أبو عمر هذه الأبيات:
لئن كان الزمان أراد حطي
وحاربني بأنياب وظفر
كفاني أن تصافيني المعالي
وإن عاديتني يا أم دفر
فما اعتز اللئيم وإن تسامى
ولا هان الكريم بغير وفر
وقال ابن عياد: إنه توفي في صفر سنة 551.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن مقاتل التجيبي، من أهل بلنسية، أصله من سرقسطة، صحب القاضي أبا بكر بن أسد وتفقه به، وحضر مجلس أبي محمد بن عاشر، وكان فقيها عارفا بعقد الشروط، وكتب للقضاة ببلده، قال أبو محمد بن نوح: توفي ليلة الجمعة الثالث والعشرين من صفر سنة 592.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن مفرج بن سهل الأنصاري، روى عن ابن هذيل هو وأخوه، وشهر بالإتقان لضبط المصاحف، مع براعة الخط، كان الناس يتنافسون في ما يكتب هو وابنه محمد، وقد تقدم ذكر محمد هذا.
وأبو محمد عبد الله بن أبي بكر بن عبد الأعلى بن محمد بن أيوب المعافري، يعرف بالشبارتي؛ لأن أصله من «شبارت»، كان من أهل بلنسية، وسكن شاطبة، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل وغيره، وأخذ عن أبي عبد الله بن سعادة وأبي الحسن بن النعمة، وتصدر بشاطبة للإقراء، وأخذ عنه الناس، وكان ماهرا مجودا صالحا خيرا، قال ابن سفيان: إنه توفي سنة 560، وقال ابن عياد: إنه توفي سنة 561، عن ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد بن عبد الرحمن العبدري، يعرف بابن موجوال، أخذ القراءات عن ابن باسه، وروى عن أبي علي الصدفي، ولازم أبا محمد البطليوسي، وأخذ عن أبي الحسن بن واجب، وأبي عبد الله بن أبي الخير الموروري وغيرهما، ورحل إلى إشبيلية فأوطنها، وسمع بها من القاضي أبي مروان الباجي، وأبي الحسن شريح بن محمد، وأبي بكر بن العربي، وكان هذا يثني عليه، وكانت له رواية أيضا عن أبي الفضل بن عياض، وأبي الطاهر السلفي، ولقي بإشبيلية أبا محمد عبد الله بن محمد بن أيوب فأخذ عنه الحديث المسلسل في الأخذ باليد، وكان فقيها بصيرا صالحا زاهدا، وله كتاب في شرح صحيح مسلم بن الحجاج مات قبل إتمامه، قال ابن الأبار في التكملة: إن الحافظ أبا بكر بن الجد كان يغص به ويغض منه، وقال إنه أجاز لأبي الخطاب بن واجب، وأبي عبد الله الأندرشي من شيوخنا، وتوفي بإشبيلية سنة 566.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سماعة، أخذ عن أبي الحسن بن هذيل، وقرأ بمرسية على أبي محمد بن أبي جعفر، وكان من أهل النباهة، قال ابن الأبار: قرأت وفاته بخط أبي عمر بن عياد.
وأبو محمد عبد الله بن موسى بن محمد بن موسى بن صامت الأنصاري، سكن بلنسية، وأصله من بعض نواحيها، روى عن أبيه، وعن أبي محمد البطليوسي، وأخذ عنه أبو عمر بن عياد، وهو من أصحابه، وكان أصم، ورووا عنه بيتين قال: إن أبا محمد البطليوسي أنشدهما لنفسه وكتبهما له بخطه، وذلك في حب الملوك، وهو هذه الفاكهة المعروفة:
أطعمني حب الملوك امرؤ
يحتاج بالرغم إليه الملوك
مثل اليواقيت ولكنه
ينظم في الأفواه لا في السلوك
قال ابن الأبار: ثم رأيت بعد أنهما لأبي العرب الصقلي. توفي عبد الله بن موسى المذكور بعد السبعين وخمسمائة.
وأبو الحسن عبد الله بن مروان بن أحمد بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز التجيبي، روى عن أبي الحسن بن النعمة، وعني بعقد الشروط، وأكره على القضاء بكورة شبرب من كور بلنسية، فتوجه إليها عن غير اختيار منه، وحكي أنه باع بعض ثيابه لينفق على نفسه مدة إقامته هناك، ثم استعفى فأعفي، وكان من أهل الفضل والصلاح والعدالة الكاملة، مع نباهة البيت وجلالة السلف، مولده سنة 535، ووفاته يوم الأحد خامس عشر شوال سنة 593، ودفن ثاني يوم بمقبرة باب الحنش من بلنسية، ذكره ابن الأبار نقلا عن ابن أبي العافية وابن عياد.
وأبو محمد عبد الله بن يوسف بن علي الأنصاري، يعرف بابن عطية، كان من أهل النباهة، سماه أبو الربيع بن سالم في من صحبه، وأخذ عنه، ولم يذكر أحدا من شيوخه، وقد ذكره ابن الأبار دون أن يذكر سنة وفاته.
وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن سالم المكتب الزاهد، يعرف بالصبطير، روى عن أبي الحسن بن النعمة، وقال ابن الأبار: أخذ القراءات قديما عن أبي جعفر بن عون الله الحصار شيخنا، وأدب بالقرآن، وكان من أهل الصلاح والزهادة والاجتهاد في العبادة، كثير التلاوة لكتاب الله تعالى، وكان لوالدي به اختصاص، ولم يزل يصحبه إلى أن توفي بعد عيد الفطر من سنة 601، ودفن خارج باب بيطالة، وكانت جنازته مشهودة والجمع فيها عظيما.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن يوسف بن سعدون الأزدي، روى عن الأستاذ أبي محمد المعروف بعبدون، وأخذ عنه العربية والآداب، وحضر عند القاضي أبي تميم ميمون بن جبارة، وكان ماهرا في العربية واللغة، بديع الخط، أنيق الوراقة، استكتبه بعض الرؤساء فبرع نظمه ونثره. قال ابن الأبار: أجاز لي، وسمعت منه حروفا من اللغة يفسرها، وتوفي في آخر سنة 622.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي يحيى بن محمد بن مطروح التجيبي من أهل بلنسية، أصله من سرقسطة، سمع أباه، وأبا العطاء بن نذير، وأبا عبد الله بن نسع، وأبا الحجاج بن أيوب، وأخذ القراءات والعربية عن أبي عبد الله بن نوح، ولقي شيوخا لا يكاد يحصى عددهم، وأجاز له أبو بكر بن الجد وأبو عبد الله بن زرقون وغيرهما من علماء الأندلس، ومن علماء المشرق أبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله بن الحضرمي وغيرهما، وولي القضاء بعدة كور من كور بلنسية، وولي بآخرة من عمره قضاء دانية. قال ابن الأبار الذي ترجمه: ثم صرف بي عندما قلدت ذلك في رمضان سنة 633، ثم أعيد إليها لما استعفيت من قضاء دانية، وكان فقيها عارفا بالأحكام، عاكفا على عقد الشروط، من أهل الشورى والفتيا، أديبا شاعرا مقدما فكها صدوقا في روايته، قال: وتوفي ببلنسية مصروفا عن القضاء عند المغرب من ليلة الجمعة التاسع لذي القعدة سنة 635 والروم محاصرون بلنسية، ودفن بمقبرة باب الحنش لصلاة ظهر الجمعة قبل امتناع الدفن بخارج بلنسية، ومولده سنة 574.
وأبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الأعلى بن فرغلوش. قال ابن الأبار عنه: صاحبنا روى معنا عن شيوخنا أبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي الحسن بن خيرة، وأبي الربيع بن سالم وغيرهم، وأخذ القراءات عن أبي زكريا الجعيدي، وابن سعادة، والحصار، وابنه زلال، إلى أن قال: وولي صلاة الفريضة والخطبة بجامع بلنسية مدة إلى أن تملكها الروم صلحا في آخر صفر سنة 636؛ فانتقل إلى دانية، وولي أيضا الخطبة بجامعها، ثم انتقل منها إلى مرسية، وتردد بينها وبين أوريولة، وخطب بأوريولة إلى أن توفي بها سنة 638، وسيق إلى مرسية فدفن بها.
وعبيد الله بن عبد البر بن ملحان، كان من أهل العلم بالفقه، وألف بمدينة بلنسية مجموعا في ذلك لبعض بني عبد العزيز، وأصل بني ملحان من برجانة بغرب الأنلدس، وذكر ابن بشكوال عبيد الله بن يوسف بن ملحان، قاله ابن الأبار.
وعبد الله بن جحاف بن يمن بن سعيد المعافري، من أهل بلنسية، وقاضيها للحكم المستنصر بالله، كان بقرطبة في سنة 351 إذ قدم الطاغية ملك الجلالقة، فحضر هو وأيوب بن حسين - قاضي وادي الحجارة - إلى منية خطيب بقرطبة، ووجههما الحكم المستنصر إلى ملك الجلالقة - ابن عم الأول - يؤكدون عهده ويقبضون بيعته، عن ابن الأبار.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن غلبون، من أهل قرطبة، سكن بلنسية، ورد عليها من قلعة أيوب، وكان كاتبا لصاحبها، وكان من أهل العلم بالعربية واللغة، أقرأ كتاب سيبويه طول إقامته ببلنسية، وأخذ عنه جماعة. وكان لهم خادم سوداء أقرأت بعد موته النوادر والعروض، توفي ببلنسية سنة 443، عن ابن الأبار.
وعبد الرحمن بن عبد الله بن سيد الكلبي، يكنى أبا زيد، كان عالما بالعدد والحساب مقدما في ذلك، ولم يكن أحد من أهل زمانه يعدله في علم الهندسة، انفرد بذلك، ذكره صاعد الطليطلي، وسمع من أبي عمر بن عبد البر في ذي القعدة سنة 456.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن مثنى الكاتب، من أهل قرطبة، سكن بلنسية، ويعرف بابن صبغون، كان من جلة الكتاب والأدباء، مشاركا في علم الحديث، وكان أبوه أحمد من أكابر أبناء الفقهاء بقرطبة، سار إلى المأمون يحيى بن إسماعيل بن ذي النون - صاحب طليطلة - عند انفصاله عن المنصور أبي الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر؛ صاحب بلنسية، فحظي عنده، واستوزره، وانتفع الناس به؛ لدينه، وسكون طائره، وسلامة باطنه وظاهره، وتوفي ببلنسية لليلتين خلتا من صفر سنة 458، ودفن يوم الثلاثاء بعده، ذكره ابن حيان، وأثنى عليه فأطال وأطاب. قاله ابن الأبار في التكملة.
وأبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري، سمع من أبيه عبد الرحمن - صاحب الرد والمظالم - سنة 474، وسمع أيضا من جده القاضي أبي المطرف، وروى عنه أبو الحسن بن النعمة، وأبو عمر زياد بن الصفار، وابن موجوال، عن ابن الأبار.
وأبو مروان عبد الملك بن عمر بن عبد الرحمن الحجري، له سماع كثير من أبي داود المقرئ في سنة 474.
وأبو مروان عبد الملك بن علي بن سلمة المددي الغافقي، يعرف بابن الجلاد، أخذ عن أبي الطاهر مقاماته اللزومية، وروى عن أبي العرب عبد الوهاب بن محمد التجيبي، سمع منه ببلنسية مع أبي الحسن بن سعد الخير سنة 551، وكان مشاركا في علم الطب محترفا به، وتوفي سنة 574 أو 575، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن سالم.
وعبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن سعدون الأزدي الطبيب، عني بالطب؛ فبرع فيه، وسمع من أبي الحسن بن هذيل، ولقي ابن جبير الرحالة الشهير، وروى من شعره، وتوفي في رمضان سنة 605، عن ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الجبار بن يوسف بن محرز، روى عن أبي داود المقرئ، وكان من أهل العدالة والضبط، والمعرفة بعقد الشروط، وكتب للقضاة ببلده، وتوفي في نحو الثلاثين وخمسمائة، عن ابن الأبار عن ابن سالم.
وأبو حفص عمر بن محمد بن واجب بن عمر بن واجب القيسي صاحب الأحكام ببلنسية، سمع من أبيه محمد بن واجب، ومن أبي محمد بن خيرون، وأبي بحر الأسدي، وأبي بكر بن العربي، وأبي محمد البطليوسي، وكان فقيها حافظا للمسائل بصيرا بالأحكام، مفتيا مشاورا، درس في حياة أبيه، ولم يعتن بالحديث كثيرا، وكان متواضعا حسن الهدي، متعففا قانعا، منقبضا عن السلطان، ولي قضاء دانية، قال ابن الأبار: حدث عنه حفيده شيخنا أبو الخطاب أحمد بن محمد، وأبو عمر بن عياد، وأبو عبد الله بن سعادة، وأبو محمد بن سفيان، وتوفي في سلخ رمضان سنة 557 عن إحدى وثمانين سنة، وهو آخر حفاظ المسائل بشرق الأندلس.
وأبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن علي بن عديس القضاعي البلنسي اللغوي، صحب أبا محمد البطليوسي، واختص به، ورحل إلى باجه، فأخذ عن أبي العباس بن خاطب، وقرأ عليه الكامل، وألف كتابا في المثلث حافلا في عشرة أجزاء ضخام، دل على تبحره وسعة حفظه للغة، وشرح الفصيح شرحا مفيدا، وسكن تونس، وبها توفي في حدود السبعين وخمسمائة.
وأبو الحسن علي بن عطية بن مطرف بن سلمة اللخمي، يعرف بابن الزقاق، أخذ عن أبي محمد البطليوسي، وبرع بالآداب، وتقدم في صناعة الشعر، وامتدح الكبار فأجاد، توفي في حدود الثلاثن وخمسمائة، وقيل سنة ثمان وعشرين، لم يبلغ أربعين سنة، ذكره ابن الأبار.
وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن هذيل، لازم أبا داود المقرئ نحوا من عشرين سنة بدانية وبلنسية، ونشأ في حجره، وكان زوج أمه، وسمع منه الكثير، وهو أثبت الناس فيه، وصارت إليه أصوله العتيقة في فنون العلم، وسمع من أبي محمد الركلي صحيح البخاري، ومن أبي عبد الله بن عيسى مختصر الطليطلي في الفقه، ومن أبي الحسن طارق بن يعيش صحيح مسلم، وأجاز له أبو علي بن سكرة، وكان منقطع القرين في الفضل والدين والورع والزهد مع العدالة والتواضع ، صواما كثير الصدقات، كانت له ضيعة، فيخرج لتفقدها تصحبه الطلبة، فمن قارئ ومن سامع، وهو منشرح طويل الاحتمال مع ملازمتهم إياه ليلا ونهارا، وأسن وانتهت إليه الرئاسة في صناعة الإقراء؛ لعلو روايته وإمامته في التجويد، وحدث نحو ستين سنة، ولد سنة 470، وقيل 471، وتوفي يوم الخميس سابع عشر رجب سنة 564، ودفن يوم الجمعة، وصلى عليه أبو الحسن بن النعمة، وحضره السلطان أبو الحجاج يوسف بن سعد، وتزاحم الناس على نعشه يجتهدون أن يمسوه بأيديهم ثم يمسحون بها على وجوههم، كان يتصدق على الأرامل واليتامى، فقالت له زوجته: إنك لتسعى بهذا في فقر أولادك! فقال لها: لا والله، بل أنا شيخ طماع أسعى في غناهم.
وأبو الحسن علي بن عبد الله بن خلف بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الملك الأنصاري، ولد بالمرية، وسكن بلنسية، وكان يقال له: أبو الحسن بن النعمة، أخذ في صغره عن أبي الحسن بن شفيع، وانتقل به أبوه إلى بلنسية سنة 506، فقرأ بها القرآن على أبي عمران موسى بن خميس الضرير، وأبي عبد الله بن باسه، وأخذ العربية عن أبي محمد البطليوسي، واختص به، وروى عن أبي بحر الأسدي وغيره، ودخل قرطبة سنة 513؛ فتفقه بأبي الوليد بن رشد، وأبي عبد الله بن الحاج، وسمع من أبي علي الصدفي، وأبي الحسن بن مغيث، وغيرهما، وكان عالما متقنا حافظا للفقه ومعاني الآثار والسير، متقدما في علم اللسان، فصيحا مفوها فاضلا، معظما عند الخاصة والعامة، محبوبا بدماثة خلقه، ولين جانبه، وولي خطة الشورى والخطابة ببلنسية دهرا، وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء والفتوى، وصنف كتاب «ري الظمآن في تفسير القرآن»، وهو عدة مجلدات، وكتاب «الإمعان في شرح مصنف أبي عبد الرحمن» النسائي، وكثر الراحلون إليه. قال ابن الأبار: وهو خاتمة العلماء بشرق الأندلس، توفي في رمضان سنة 567 عن بضع وسبعين سنة.
وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن عيسى بن سعد الخير الأنصاري، سمع من أبي محمد القلني، وأبي الوليد بن الدباغ، ولازم أبا الحسن بن النعمة، وتأدب به ، وأقرأ العربية حياته كلها، فكان فيها إماما، وكان بارع الخط كاتبا بليغا شاعرا مجيدا، وكانت فيه غفلة معروفة، وله كتاب على كامل المبرد، توفي بإشبيلية في ربيع الآخر سنة 571.
وأبو الحسن علي بن حسين النجار الزاهد، يعرف بابن سعدون من جزيرة شقر، سكن بلنسية، كان من أهل الزهد والصلاح التام والعلم، وتؤثر عنه الكرامات، وكان يخبر بأشياء خفية لا تتوانى أن تظهر جلية، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعظ في المساجد، وكانت العامة حزبه، توفي سنة 578، وازدحم الخلق على نعشه، ذكره ابن الأبار.
وأبو الحسن علي بن موسى بن محمد بن شلوط البلنسي الشبارتي، حج وسمع بمكة من علي بن حميد بن عمار، وسكن تلمسان، واحترف بالطب. قال ابن الأبار: أخذت عنه بعض صحيح البخاري، وأجاز لي، وتوفي في نحو سنة 610.
وأبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن حريق المخزومي. قال ابن الأبار: إنه شاعر بلنسية الفحل المستبحر في الآداب، أخذ عن أبي عبد الله بن حميد، وكان حافظا لأيام العرب وأشعارها، شاعرا مفلقا ذا بديهة، اعترف له بالسبق بلغاء وقته، ودون شعره في مجلدتين. قال: وصحبته مدة، وأخذ عنه أصحابنا، ولد سنة 551، وتوفي في ثامن عشر شعبان سنة 622.
وأبو الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي البلوي، سمع أبا بكر بن خير، وأبا عمر بن عطية وغيرهما، ولقي بإشبيلية ابن بشكوال، والسهيلي، وسمع منهما، وكان فارضا متقدما فقيها حافظا، توفي في ربيع الآخر سنة 623.
وأبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن خيرة، خطيب بلنسية، أخذ عن أبي جعفر طارق بن موسى قراءة ورش، وأخذ القراءات عن أبي جعفر بن عون الله، وسمع من أبي العطاء بن نذير وغيره، وحج سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع من أبي عبد الله بن الحضرمي، وحماد الحراني، ولقي عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي الحافظ ببجاية، وأبا حفص الميانشي، وانصرف إلى بلده بلنسية، وأقام على حاله من الانقباض وحسن السمت، إلى أن تقلد الصلاة ببلنسية، فتولاها أربعين سنة، وكان راجح العقل. قال ابن الأبار: تلوت عليه بالقراءات السبع، وسمعت منه جل ما عنده، واختلط قبل موته بأزيد من عام، وأخر عن الصلاة لاختلال ظهر في كلامه. ولد سنة خمسين أو إحدى وخمسين وخمسمائة، وتوفي في أواخر رجب سنة 634، ونزل في قبره أبو الربيع بن سالم، وكانت جنازته مشهودة حضرها السلطان.
وعيسى بن محمد بن فتوح بن فرج الهاشمي، يكنى أبا الأصبغ، ويعرف بابن المرابط، أخذ القراءات عن أبي زيد الوراق، وأبي بكر بن الصناع المعروف بالهدهد، وسمع من أبي علي الصدفي، وكان أحد الرؤساء في القراءة، قال ابن الأبار: أخذ عنه أبو عمر بن عياد، وابنه محمد، وشيخنا أبو عبد الله بن سعادة، توفي في رجب سنة 552 وقد جاوز السبعين.
وعتيق بن عبد الجبار أبو بكر الجذامي البلنسي، سمع من أبي داود المقرئ، وأبي محمد البطليوسي، وكان بارعا بالشروط، كتب للقضاة ببلنسية نحوا من أربعين سنة، توفي سنة 539.
وعتيق بن أحمد بن محمد بن خالد المخزومي أبو بكر، أخذ القراءات عن ابن هذيل، وسمع من أبي الوليد بن الدباغ، ودرس الفقه والعربية والأصول، وبرع في علوم عديدة، وتوفي سنة 548.
وعتيق بن أحمد بن سلمون أبي بكر البلنسي، أخذ القراءات عن ابن هذيل، والنحو عن أبي محمد عبدون، واستشهد في كائنة غربالة سنة 580.
وعتيق بن علي بن سعيد بن عبد الملك بن رزين أبو بكر العبدري، يعرف بابن العقار، من طرطوشة، ونشأ بميورقة، واستوطن بلنسية، وقرأ على ابن هذيل، وابن النعمة، وابن نمارة، وأجاز له السلفي وغيره، وكان من أهل التقدم في الإقراء مع الفقه والبصر بالشروط، ولي قضاء بلنسية وخطابتها وقتا، وكانت في أحكامه شدة، وتوفي في ذي الحجة سنة ستمائة، وكانت ولادته سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. وجميع هؤلاء العتقاء الأربعة ترجمهم ابن الأبار في التكملة . ومنهم ابن العقار، تقدمت ترجمته في علماء طرطوشة؛ لأن أصله منها.
والفتح بن خلف أبو نصر البلنسي المقرئ، أخذ عن داود المقرئ وطبقته، ولم يذكر ابن الأبار عنه أكثر من هذا.
وفتح بن يوسف أبو نصر البلنسي، يعرف بابن أبي كبة، أخذ أيضا عن أبي داود، وأخذ عنه أبو عبد الله الشاري، ولم يذكر ابن الأبار عنه غير هذا، ولكنه قال: إن أبا عبد الله الشاري توفي سنة 624.
وأبو الوليد سليمان بن عبد الملك بن روبيل العبدري، سمع من أبي محمد بن عتاب وغيره، توفي سنة 530 شابا (ذكر في فصل بلنسية).
وأبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان الحميري الكلاعي،
72
كان معروفا بأبي الربيع بن سالم، سمع ببلده بلنسية أبا العطاء بن نذير، وأبا الحجاج بن أيوب، ورحل فسمع أبا القاسم بن حبيش، وأبا بكر بن الجد، وأبا الوليد بن رشد، وأبا محمد بن جمهور، وخلقا، وأجاز له أبو العباس بن مضاء، وأبو محمد عبد الحق الإشبيلي، وآخرون، وعني أتم عناية بالتقييد والرواية، وكان إماما في الحديث، حافظا، عارفا بالجرح والتعديل، ذاكرا للمواليد والوفيات، يتقدم أهل زمانه في ذلك، وفي حفظ أسماء الرجال، خصوصا الذين عاصروه، وكان حسن الخط لا نظير له في الإتقان والضبط مع الاستبحار في الأدب، والاشتهار بالبلاغة.
وكان فردا في إنشاء الرسائل، مجيدا في النظم، خطيبا مفوها مدركا مع الشارة الأنيقة والزي الحسن، وقد كان يتكلم عن الملوك في مجالسهم ويعبر عما يريدونه، فيخطب في ذلك على المنابر، ولي خطابة بلنسية. وله تصانيف مفيدة منها كتاب «الاكتفاء في مغازي الرسول - عليه السلام - والثلاثة الخلفاء» في أربعة مجلدات، وكتاب حافل في معرفة الصحابة والتابعين لم يكمله، وكتاب في ترجمة البخاري، وإليه كانت الرحلة في عصره للأخذ عنه. قال ابن الأبار: أخذت عنه كثيرا، وانتفعت به في الحديث كل الانتفاع، وحضني على هذا التاريخ، وأمدني من تقييداته وطرفه بما شحنته، مولده في رمضان سنة 565، واستشهد بكائنة أبيشة على ثلاثة فراسخ من بلنسية مقبلا غير مدبر في العشرين من ذي الحجة سنة 634، قال: وكان أبدا يحدثنا أن السبعين منتهى عمره لرؤيا رآها، قلت: لكنه بحسب هذه الأرقام كما قرأناها في التكملة يكون بلغ تسعا وسبعين سنة.
وسعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري البلنسي، ذكره ابن الأبار، ولم يزد على قوله: ترجمته عندي. فلعله كان يريد أن يلحقها بالتكملة ففاته ذلك.
73
وأبو محمد واجب بن أبي الخطاب بن محمد بن عمر بن محمد بن واجب بن عمر بن واجب بن عمر بن واجب القيسي، سمع ابن هذيل، وأبا عبد الله بن سعادة وغيرهما، وأجاز له أبو مروان بن قزمان والسلفي، وتولى قضاء أندة من عمل بلنسية، وشكرت سيرته، وكان كاتبا بليغا شاعرا خطيبا مصقعا، من بيت جلالة، صحب السلطان، وتوفي بمراكش سنة 582.
وأبو محمد واجب بن محمد بن عمر بن محمد بن واجب بن عمر، سمع ابن هذيل، وابن سعادة، وابن النعمة، وتولى القضاء بأماكن، قال ابن الأبار: سمعت منه، وأجاز لي، وتوفي سنة 610.
ويحيى بن محمد بن عبد العزيز بن عقال الفهري، سمع من أبي الوليد بن الدباغ، وأبي بكر بن برنجال، وتفقه بأبي محمد بن عاشر، وأبي بكر بن أسد، ولقي بقرطبة أبا جعفر البطرجي، وسمع بغرناطة من القاضي عياض، وتولى قضاء أندة من كور بلنسية، وقضاء ألش من كور مرسية، فحمدت سيرته. قال ابن الأبار: أخذ عنه شيخنا أبو عبد الله بن نوح وتفقه به، توفي في صفر سنة 567، وتوفي في المحرم قبله أخوه محمد، وعاش يحيى ثلاثا وستين سنة.
وأبو زكريا يحيى بن زكريا بن علي بن يوسف الأنصاري، يعرف بالجعيدي، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن حميد، وأبي عبد الله بن نوح، وسمع من أبي عبد الله بن نسع وجماعة، وتصدر للإقراء في حياة الشيوخ، وكان أحد العلماء مع الصلاح التام والورع المحض. قال ابن الأبار: أخذ عنه الكافي لأبي عبد الله بن شريح، وتوفي في جمادى الأولى سنة 619، وله ثمان وأربعون سنة، وكان صاحب والدي.
وأبو الحجاج يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أيوب الفهري الداني، سكن بلنسية، وسمع أباه، وأبا بكر بن برنجال، وأخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد الداني، وأبي عبد الله المكناسي، والعربية عن أبي العباس بن عامر، وتفقه بأبي محمد بن بقي، وكان متقدما في الآداب، إماما في معرفة الشروط، كاتبا بليغا شاعرا، كتب للقضاة، وناب في الأحكام، توفي في شعبان سنة 592، وكانت ولادته سنة 516.
وأبو الحجاج يوسف بن سليمان بن يوسف بن عبد الرحمن بن حمزة، أخذ القراءات عن أبي عبد الله الداني سنة 537، وعن أبي الأصبغ بن فتوح الهاشمي، وكان ثقة فاضلا، وتوفي قبل الستمائة.
وأبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي الفتح، يعرف بابن المرينة. قال ابن الأبار: سمع معنا من أبي عبد الله بن نوح، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي عبد الله بن زلال، وأبي سليمان بن حوط الله، وانفرد بلقاء جماعة منهم أبو القاسم الطرسوني، وأبو الحسن بن يبقى، ومهر في علم العربية، وقعد لإقرائها نحو عشرين سنة، وكان مشاركا في الفقه مع الصلاح والزكاء، وولي قضاء بلنسية سنة 633، وتوفي بشاطبة في جمادى الآخرة سنة 636، وولد سنة 589.
وإشراق السويداء العروضية، مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون القرطبي الكاتب، سكنت بلنسية، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة، وفاقته في كثير مما أخذته عنه، وأتقنت العروض. قال أبو داود سليمان بن نجاح: أخذت عنها العروض، وقرأت عليها النوادر لأبي علي، والكامل للمبرد، وكانت تحفظ الكتابين وتتكلم عليهما، وتوفيت بدانية بعد وفاة سيدها، وكانت وفاته سنة 443.
وزينب بنت محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الزهري البلنسية، وتدعى عزيزة بنت محرز، سمعت جدها لأمها أبا الحسن بن هذيل، وأخذت عنه التقصي لابن عبد البر، وكانت صالحة، وكان خطها ضعيفا، وتوفيت سنة 635 وقد بلغت الثمانين.
وأم العز بنت أحمد بن علي بن هذيل، وأخذت قراءة نافع عن أم معفر، حرم الأمير محمد بن سعد، وبرعت في حفظ الأشعار، وتوفيت بشاطبة إثر خروجها من حصار بلنسية في أحد الربيعين سنة 636.
وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن يعقوب بن أحمد بن عمر الأنصاري البلنسي، قال الضبي صاحب بغية الملتمس: صاحبنا محدث ثقة ثبت، روى ببلنسية عن أبي الحسن بن النعمة وغيره، ثم رحل إلى المشرق، فأقام بالإسكندرية في مدرسة الحافظ السلفي نحوا من عشرين سنة، وكتب عنه ما لم يكتب أحد، وكان عالما بالرجال متقللا من الدنيا، لم يغير من هيئته التي كان بها بالأندلس، سكنت معه بالمدرسة مدة فحمدت حاله وزهده وورعه وانقباضه عن الناس، قال: لما صار الحافظ السلفي - رحمه الله - في عشر المائة أنشدنا:
ما كنت أرجو إذ ترعرعت أن
أبلغ من عمري سبعينا
فالآن والحمد لربي فقد
جاوزت من عمري تسعينا
ولما قارب المائة أنشدنا:
أنا من أهل الحديث
وهم خير فئه
جزت تسعين وأرجو
لأجوزن مائه
ولما جاوز المائة أنشدنا:
أنا إن بان شبابي ومضى
فبحمد الله ذهني حاضر
ولئن خفت وجفت أعظمي
كبرا غصن علومي ناضر
قال الضبي: سمع بقراءتي بالإسكندرية كثيرا، وحدث بها أخيرا، وروى عن كافة أهلها وعن الواردين عليها، واستجاز جميع محدثي العراق والشام فأجازوه. قال: وتوفي إبراهيم بن عبد الله في حدود التسعين وخمسمائة.
وإبراهيم بن عبد الصمد يكنى أبا عبد الصمد البلنسي، سكن بلنسية، قال الضبي: وأظنه من أهلها، شاعر مشهور. فمن شعره يصف قوما:
أناس إذا ما جئت أجلس بينهم
لأمر أراني في جماعتهم وحدي
إذا غضبوا كان الوعيد انتقامهم
وإن وعدوا لم يأت منهم سوى الوعد
وأبو القاسم خلف بن أحمد بن بطال البكري، روى عن أبي عبد الله بن الفخار، والقاضي أبي عبد الرحمن بن جحاف وغيرهما. قال ابن بشكوال في الصلة: حدث عنه أبو داود المقري، وشيخنا أبو بحر الأسدي، وذكره أيضا أبو محمد بن خزرج وقال: لقيته بإشبيلية سنة 454، وكان فقيها أصوليا من أهل النظر والاحتجاج لمذهب مالك، واستقضي بعض نواحي بلنسية، ومولده حدود سنة 398، ودخل إفريقية سنة 423، وتردد بالمشرق نحو أربعة أعوام طالبا للعلم، وحج سنة 452، وله مؤلفات حسان. انتهى بتصرف.
وأبو القاسم خلف مولى يوسف بن بهلول، يعرف بالبريلي، سكن بلنسية، كان فقيها حافظا للمسائل، وله مختصر في المدونة حسن جمع فيه أقوال أصحاب مالك، وهو كثير الفائدة. وكان أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه يقول: من أراد أن يكون فقيها من ليلته فعليه بكتاب البريلي، وكان مقدما في علم الوثائق، وتوفي سنة 443 وقد نيف على السبعين، ذكره ابن بشكوال في الصلة، قال: قرأت وفاته في كتاب ابن حدير، وقرأت بخط بعض أصحابنا أنه توفي ليلة الأربعاء، ودفن يوم الأربعاء لخمس بقين من ربيع الآخر عام 443.
وأبو بكر عبد العزيز بن محمد بن سعد، يعرف بابن القدرة، روى عن أبي عمر بن عبد البر وغيره، وكان فقيها مشاورا ببلده بلنسية، قال ابن بشكوال في الصلة: حدث عنه شيخنا أبو بحر الأسدي، وأبو علي بن سكرة وغيرهما، وتوفي سنة 484.
وأبو شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب التجيبي القبري؛ نسبة إلى «قبرة» من عمل قرطبة، سكن بلنسية، سمع من أبي محمد الأصيلي، وأبي حفص بن نابل، وكان من أهل النبل والذكاء، سريا متواضعا، تقلد الصلاة والخطبة والأحكام ببلنسية، وذكره الحميدي وقال فيه: فقيه محدث أديب خطيب شاعر، أنشدني له أبو الحسن علي العائذي:
يا روضتي ورياض الناس مجدبة
وكوكبي وظلام الليل قد ركدا
إن كان صرف الليالي عنك أبعدني
فإن شوقي وحزني عنك ما بعدا
ولد يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة سنة 377، وتوفي ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة 456 بمدينة شاطبة، وحمل إلى بلنسية فدفن بها، وصلى عليه القاضي أبو المطرف بن جحاف، قال ابن بشكوال في الصلة: قرأت بخط ابن مدير: كان أبو شاكر ربعة من الرجال؛ ليس بالطويل ولا بالقصير، وسيما جميلا، حسن الهيئة والخلق، حسن السمت والهدي، وكان أشبه الناس بالسلف الصالح - رضي الله عنهم.
وأبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن المغلس القيسي، ترجمه صاحب نفح الطيب فقال: إنه كان مشارا إليه في العربية، رحل من الأندلس، وسكن بمصر، وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد اللغوي؛ صاحب الفصوص، وعلى أبي يعقوب يوسف بن خرقان، ودخل بغداد، وله شعر حسن؛ فمن ذلك قوله:
مريض الجفون بلا علة
ولكن قلبي به ممرض
أعان السهاد على مقلتي
بفيض الدموع فما تغمض
ومن شعره قوله في حمام:
ومنزل أقوام إذا ما اعتدوا به
تشابه فيه وغده ورئيسه
يخالط فيه المرء غير خليطه
ويضحي عدو المرء وهو جليسه
يفرج كربي إن تزايد كربه
ويؤنس قلبي أن يعد أنيسه
إذا ما أعرت الجو طرفا تكاثرت
على مائة أقماره وشموسه
توفي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة 427، وقيل: 429، وصلى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير. ومغلس بضم الميم وفتح الغين وتشديد اللام المكسورة وبعدها سين مهملة.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن زكريا المعافري المقرئ الفرضي الأديب، ترجمه المقري في النفح، وقال: إنه ولد سنة 591، ونشأ ببلنسية، وأقام بالإسكندرية، وقرأ القرآن على أصحاب ابن هذيل، ونظم قصيدة في القراءات أكثر أبياتا من الشاطبية، وكانت له يد في الفرائض والعروض. ولم يذكر عنه أكثر من هذا، ولم ترد له ترجمة في تكملة ابن الأبار، يظهر أن السبب في ذلك كونه متأخرا لم يبلغ في زمن ابن الأبار شهرة يترجمه من أجلها، وقد أقام بالإسكندرية بعيدا عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن هذيل العبدري، ولد سنة 519، وسمع من أبيه وجماعة، ورحل حاجا، فسمع من السلفي، وابن عوف، والحضرمي، والتنوخي، والعثماني، وغيرهم، ورجع بعد الحج إلى الأندلس وبلده بلنسية، فحدث فيها، وكان غاية في الصلاح والورع، ترجمه صاحب النفح.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف الأنصاري، الشاطبي الأصل، البلنسي المولد، ولد سنة إحدى وستمائة، وتوفي بالقاهرة في جمادى الأولى سنة 684، ترجمه صاحب النفح وقال: إن المشارقة كانوا يلقبونه برضي الدين، وقرأ المترجم ببلده بلنسية على ابن صاحب الصلاة آخر أصحاب ابن هذيل، وسمع منه كتاب التلخيص للواني، وسمع بمصر من ابن المغير وجماعة، وروى عنه الحافظ المزني، واليونيني، والظاهري، وآخرون. ويكفيه أن الشيخ أبا حيان الأندلسي - إمام عصره في اللغة - كان من تلاميذه، وأثنى عليه، وقرأ عليه كتاب التيسير، ولما توفي أنشد أبو حيان ارتجالا:
نعي لي الرضي فقلت: لقد
نعي لي شيخ العلا والأدب
فمن للغات ومن للثقات
ومن للنحاة ومن للنسب؟
لقد كان للعلم بحرا فغار
وإن غئور البحار العجب
فقدس من عالم عامل
أثار لشجوي لما ذهب
ولرضي الدين نظم حسن منه ما قاله وهو يحتضر:
حان الرحيل فودع الدار التي
ما كان ساكنها بها بمخلد
واضرع إلى الملك الجواد وقل له:
عبد بباب الجود أصبح يجتدي
لم يرض غير الله معبودا ولا
دينا سوى دين النبي محمد
ومن نظمه أيضا:
أقول لنفسي حين قابلها الردى
فرامت فرارا منه يسرى إلى يمنى
ترى تحملي بعض الذي تكرهينه
فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنى
وله أيضا:
لولا بناتي وسيئاتي
لطرت شوقا إلى الممات
لأنني في جوار قوم
بغضني قربهم حياتي
وروى أبو حيان الأندلسي في البحر عنه أبياتا لزينب بنت إسحاق النصراني الرسعيني في حب آل البيت، وهذا من غريب الروايات قالت:
عدي وتيم لا أحاول ذكرهم
بسوء ولكني محب لهاشم
وما يعتريني في علي ورهطه
إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون: ما بال النصارى تحبهم
وأهل النهى من أعرب وأعاجم
فقلت لهم: إني لأحسب حبهم
سرى في قلوب الخلق حتى البهائم
وقال المقري في النفح: رأيت بخطه كتبا كثيرة بمصر وحواشي مفيدة في اللغة وعلى دواوين العرب - رحمه الله تعالى.
واليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي. قال المقري في النفح: من أهل بلنسية، وأصله من جيان، وسكن المرية ثم مالقة، يكنى أبا يحيى، كتب لبعض الأمراء بشرقي الأندلس. وله تأليف سماه «المغرب في أخبار محاسن أهل المغرب»، جمعه للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب عندما رحل من الأندلس إلى الديار المصرية سنة ستين وخمسمائة، وكانت وفاته بمصر يوم الخميس التاسع عشر من رجب سنة 575.
وأبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيد بونه الخزاعي ، قرأ وتفقه ببلنسية، وأخذ عن أبي الحسن بن النعمة، وأبي الحسن بن هذيل، وحج ولقي في رحلته جلة أكبرهم الولي الكبير سيدي أبو مدين شعيب، وانتفع به ورجع من عنده بعجائب دينية ورفيع أحوال إيمانية، كما قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة، ترجمه أبو العباس المقري في نفح الطيب، وقال عنه: إنه العارف الكبير، الولي الصالح الشهير، كان كثير الأتباع بعيد الصيت، شهر بالعبادة وتبرك الناس به، وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة 624، وعاش نيفا وثمانين سنة. وقال لسان الدين بن الخطيب: لقيت قريبه الشيخ أبا تمام غالب بن الحسين بن سيد بونه حين ورد غرناطة، فكان يحدث عنه بعجائب وقال: إنه انتقل الكثير من أهله وأذياله عند تغلب العدو على الشرق إلى هذه الحضرة، فسكنوا منها ربض البيازين على دين وانقباض، وبالحضرة اليوم منهم بقية؛ أي إنه لما غلب العدو على شرق الأندلس هاجروا إلى غرناطة، وذكر لسان الدين أن موضع وفاة الشيخ المذكور مكان يقال له زناتة.
وأحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن عميرة المخزومي البلنسي، أصله من شقورة، يكنى أبا المطرف، قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة: لم يكن من أهل بيت نباهة، ووقع لابن عبد الملك في ذلك نقل كان حقه التجافي عنه لو وفق، روى عن أبي الخطاب بن واجب، وأبي الربيع بن سلام، وأبي عبد الله بن فرج، وأبي علي الشلويين، وأبي عمر بن عات، وأبي محمد بن حوط الله، وأجازوا له، وروى عنه كثيرون، وصحب أبا عبد العزيز بن عبد الله بن خطاب قبل توليه ما تولى من رئاسة بلده، وكتب عن الرئيس أبي جميل زيان بن سعد وغيره من شرق الأندلس. ثم انتقل إلى العدوة، واستكتبه الرشيد أبو محمد بن أبي الوليد بمراكش، ثم صرفه عن الكتابة وولاه قضاء مليانة من نظر مراكش الشرقي، فتولاه قليلا ثم نقله إلى رباط الفتح، وتوفي الرشيد فأقره على ذلك الوالي بعده أبو الحسن المعتضد أخوه، ثم نقله إلى قضاء مكناسة الزيتون، ثم لما قتل المعتضد لحق بسبتة، وركب البحر منها إلى إفريقية، فقدم بجاية على الأمير أبي زكريا.
ثم توجه إلى تونس فنجحت بها وسائله، وولي قضاء مدينة الأريس، ثم انتقل إلى فاس، وبها طالت مدة ولايته؛ فاستدعاه المستنصر بالله محمد بن أبي زكريا، ولطف محله منه حتى كان يحضر مجالس أنسه، وداخله بما قرفته الألسن بسببه. قال ابن عبد الملك: كان أول طلبه شديد العناية بشأن الرواية، فاستكثر من سماع الحديث، وأخذ عن مشايخ أهله، وتفنن في العلوم، ونظر في العقليات وأصول الفقه، ومال إلى الأدب فبرع فيه براعة عد بها من كبار مجيدي النظم.
وأما الكتابة فهو علمها المشهور، وواحدها الذي عجزت عن ثانيه الدهور، ولا سيما في مخاطبة الإخوان، هنالك استولى على أمد الإحسان، وله المنقولات المنتخبة، والقصار المقتضبة، وكان يعلم كلامه نظما ونثرا بالإشارة إلى التاريخ، ويودعه إلماعات بالمسائل العلمية متنوعة المقصد. قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة: قلت: وعلى الجملة فذات أبي المطرف فيما ينزع إليه ليست من ذوات الأمثال؛ فقد كان نسيج وحده إدراكا وتفننا، بصيرا بالعلوم، محدثا مكثرا، راوية ثبتا، متبحرا في التاريخ والأخبار، ريان، مضطلعا بالأصلين، قائما على العربية واللغة، كلامه كثير الحلاوة والطلاوة، جم العيون، غزير المعاني والمحاسن، شفاف اللفظ، حر المعنى، ثاني بديع الزمان في شكوى الحرفة، وسوء الحظ، ورونق الكلام، ولطف المأخذ، وتبريز النثر على النظم، والقصور في السلطانيات، قال: كان يذكر أنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
فناوله أقلاما، فكان يرى ويرى له أن تأويل الرؤيا ما أدرك من التبريز في الكتابة، وارتفاع الذكر والله أعلم.
ومن بديع ما صدر عنه في ما كتب في غرض التورية قطعة من رسالة أجاب بها العباس بن أمية، وقد أعلمه باستيلاء الروم على بلنسية، فقال: بالله أي نحو تنحو أو مسطور تثبت أو تمحو، وقد حذف الأصل والزائد، وذهبت الصلة والعائد، وباب التعجب طال، وحال اليأس لا تخشى الانتقال، وذهبت علامة الرفع، وفقدت نون الجمع، والمعتل أعدى الصحيح ، والمثلث أردى الفصيح، وامتنعت الجموع من الصرف، وأمنت زوائدها من الحذف، ومالت قواعد الملة، وصرنا جمع القلة، وظهرت علامة الخفض، وجاء بدل الكل من البعض؟!
وله تأليف في كائنة المرية وتغلب الروم عليها، نحا فيها نحو العماد الأصفهاني في الفتح القدسي، وكتابة في تعقبه على فخر الدين بن الخطيب الرازي في كتاب «المعالم» في أصول الفقه منه ورده على كمال الدين أبي محمد عبد الكريم السماكي في كتابه المسمى ب «التبيان في علم البيان»، واختصار نبيل من تاريخ ابن صاحب الصلاة، وغير ذلك من التعاليق والمقالات، ودون الأستاذ أبو عبد الله بن هاني السبتي كتابته، وما يتخللها من الشعر في سفرين بديعين، وسمى ذلك «بغية المستطرف وغنية المتظرف. من كلام إمام الكتابة ابن عميرة أبي المطرف»، مولده بجزيرة شقر، وقيل ببلنسية، في رمضان عام اثنين وثمانين وخمسمائة، ووفاته بتونس ليلة الجمعة الموفية عشرين ذي الحجة عام ستة وخمسين وستمائة.
وأبو عبد الله محمد بن أبي سفيان بن أبي إسحاق الواعظ، سمع من أبي المعالي إدريس بن يحيى الواعظ، وولي الحسبة بالسوق، وكان يعظ بمسجده المشتهر بمسجد الغلبة، قال ابن الأبار: وفيه قرأت على شيخنا أبي عبد الله بن نوح هذا، وقد كتب أبو الحسن بن النعمة كثيرا مما سمعه من المترجم مستفادا عن أبي المعالي إدريس المذكور، وذلك في سنة 512، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البراء. روى عن أبي هذيل، وابن النعمة، وأبي حفص بن واجب، وتفقه بأبي محمد بن عاشر، وأبي بكر بن أسد، ورحل إلى المرية فلقي أبا القاسم بن ورد، وكان فقيها حافظا من أهل الدين والفضل، وولي خطة الشورى ببلنسية للقاضي أبي محمد بن جحاف، وتوفي في رجب سنة 548، عن ابن الأبار.
وأبو مروان عبيد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود بن عيشون المعافري، من أهل بلنسية، وأصله من لبرقاط عمل أبيشة من ثغورها الشرقية، روى عن أبي الوليد بن الدباغ، ورحل حاجا، فأدى الفريضة ولقي أبا علي بن العرجاء بمكة، وأبا طاهر السلفي بالإسكندرية، وأبا عبد الله المازري بالمهدية، قال ابن الأبار: وكان نهاية في الصلاح والفضل وأعمال البر والخير، وجيها متواضعا، صرورة لم يتزوج قط، وكان إخباريا ممتعا، واقتنى من الدواوين والدفاتر كثيرا، وكان صاحب ثروة ويسار، وهو بنى المسجد المنسوب إليه على مقربة من باب القنطرة من داخل بلنسية، ووقف عليه دارا لسكنى من يؤم به، وتوفي سنة 573 أو 574.
هوامش
عود إلى جغرافية بلنسية وملحقاتها
إن مملكة بلنسية القديمة مقسومة الآن إلى ثلاث مقاطعات: الأولى قشتليون
Castellon ، ومساحتها 6465 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها 322213، والثانية بلنسية، ومساحتها 10758 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها مع ملحقاتها 884298، والثالثة مقاطعة القنت، ومساحتها 5799 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها 497616.
وهذه البلاد هي عبارة عن ساحل البحر وما يليه من الداخل، تنحدر إليها مياه عدة أودية، أهمها وادي الأبيض، فتجرف من الأتربة ما تجرفه، حتى يقال: إن ساحل البحر ارتفع نحوا من مائة متر عما كان من قبل؛ ولذلك هي موصوفة بالخصب، وضفاف بحيرة
1
بلنسية تعطي عدة مواسم في السنة. وظاهر على أهل هذه الشواطئ سحناء العرب، وهم أهل شغل ودأب، لا سيما في الفلاحة والزراعة، وعندهم حسن خلق، لكن أمزجتهم عصبية. ويوجد عند الإسبانيين مثل سائر يشير إلى طبائعهم، ولكن في الحقيقة غير مطابق للواقع؛ فهم يقولون عنهم: إن الحيوان عندهم نبات والنبات ماء، والذكر أنثى والأنثى لا شيء.
وكانت بلنسية حافظة مسحتها العربية إلى العصر الأخير الذي تبدلت فيه هيئتها وغلب فيها طرز البناء الجديد، فلم يبق منها على الهيئة القديمة سوى آثار معدودة؛ فقد هدموا السور سنة 1871، ولم يبق غير برجين مشرفين على الحارة القديمة، وقد جعلوا مكان السور حدائق فاصلة بين البلد القديم والحارات الجديدة. ولبلنسية مرافئ أحدها يقال له غراو
Grav ، والثاني كابانال
Cabanal ، وأما الرصافة المعروفة من زمان العرب فهي إلى الجنوب الشرقي، وأمام محطة الشمال يوجد حديقة كستلار
Castelar ، وأشهر شارع في بلنسية اليوم شارع سان فيسانت
Sanvicente ، ثم شارع سان فرنندو
Sanfernando ، وفيها ساحة يقال لها ساحة ساحة السيد
، وساحة يقال لها ساحة الملكة في وسط الحارة القديمة، ومن أشهر كنائسها كنيسة سانتا كتلينا
Santa Catalina ، ولها برج مثمن، ثم كنيسة سان أندريا، وهي جامع قديم تجدد بناؤه على الطراز الحاضر سنة 1610، ومن أبنية بلنسية المعروفة البناء الذي يقال له: المدرسة البطريركية
Colegio del Patriaca ، ثم المدرسة الجامعة، تجددت في القرن التاسع عشر، فيها ألف طالب في الطابق الأول، منها متحف تاريخ طبيعي، وخزانة كتبها تشتمل على ستين ألف مجلد، وفي هذه الخزانة مئات من الكتب المخطوطة.
وأما الكنيسة الكبرى فإنها قائمة في محل هيكل قديم تحول بعد النصرانية إلى كنيسة، ثم بعد دخول الإسلام إلى جامع، ثم لما استرجع الإسبان بلنسية أعادوا الجامع كنيسة، وكان ذلك سنة 1262، ثم أخذوا يحولون هذه الكنيسة تدريجا عن هيئتها الأصلية. وفي هذه الكنيسة جرس عظيم يقال إنه يدق لتعريف ساعات السقيا للبساتين، ومن أعلى برج الجرس يشرف الإنسان على جميع بساتين بلنسية، ويرى جبال بني قاسم وهضاب مربيطر وأعالي القنت، ومن جهة الشمال تلوح له جبال إشكرب، وجبال ركانة، وعلو قبة الجرس 45 مترا. ومن مشهورات الكنائس كنيسة يقال لها سيدة المساكين.
ومن الأماكن المعروفة في بلنسية ديوان المياه الباقي من أيام العرب، ينعقد كل يوم خميس عند الظهر، أمام باب الرسل من الكنيسة الكبرى، وأعضاء هذا الديوان كلهم من الفلاحين، وهم ينتخبون رئيسهم، والمباشر يستدعي المتخاصمين والشهود، والمحاكمات علنية وشفهية، ومن لم يخضع للحكم يبقى بستانه دون شرب. ويوجد في بلنسية متحف للصنائع والفنون في محل كان في القديم ديرا. والحديقة العمومية التي تمتلئ بعد الظهر من أهل بلنسية واقعة على نهر «تريه»، وهو النهر الأبيض، وفي بلنسية ساحة يقال لها ساحة تطوان، تشرف عليها قلعة بناها الإمبراطور شارلكان لحماية المدينة من غارات خير الدين بربروس. وفي بلنسية ساحة أخرى يقال لها ساحة «مركادو» هي أوسع ساحت البلدة، وكانت الاحتفالات تنعقد فيها، ويعلق الجناة على المشانق، وفيها أحرق القاضي ابن جحاف، وإلى الشمال الشرقي من هذه الساحة يجد الإنسان حارة بلنسية القديمة.
وفي بلنسية كنيسة اسمها سان نيقولا كانت أيضا جامعا. وأما حديقة النبات ففيها ستة آلاف نوع من النباتات. وأما مرفأ بلنسية الأكبر وهو غراو، فيختلف إليه في السنة ثلاثة آلاف باخرة محمولها مليونا طن. وأما غوطة بلنسية التي تشرب من النهر الأبيض بسبعة جداول، فإن مساحتها نحو من عشرة آلاف هكتار، فلها من جهة الشمال القناة التي يقال لها ساقية مونكادة
Acequia de Moncada ، وأقنية طورموس
Tormos ، ومستالة
Mastalla ، ورسكانه
Rascana ، ومن جهة الجنوب أقنية كوارت
Cuarte ، ومسلاته
Mislata ، وفباره
Favara ، وروبله
Rovella ، فساقية الكوارت تتصبب إلى البحيرة، وأما الأقنية الأخرى فتعود إلى النهر، وكل من هذه الأقنية لها شعب لا تنتهي عددها، وهي متشابكة لا يعلم مبتداها ومنتهاها إلا أصحاب البساتين، وعلى كل حال لا يبقى من الأرض الداخلة في هذه الغوطة شبر واحد دون شرب.
ومن العادة أنهم يقومون كل هكتار من أرض السقي بخمسة هكتارات من أرض العذي، وذلك أن الأرض بلا ماء لا تعطي هناك شيئا يذكر، وقلما تباع أرض بلا ماء. وكل هذا جرى ترتيبه المتناهي في الدقة من أيام العرب، ولما كان الحر يشتد إلى النهاية في بلنسية، فإن مياه النهر الأبيض لا يبقى منها شيء تقريبا في فصل الصيف جاريا إلى البحر، بل تشربها كلها البساتين، وإن الإنسان ليحار عندما يدخل تلك الجنان ويرى ما فيها من الجداول راكبا بعضها فوق بعض، منها ما هو معلق في الفضاء، ومنها ما هو أنفاق تحت الأرض. ولكل من الأقنية الكبرى الثمان يوم تنفتح فيها لسقيا البساتين المتعلقة بها، فتجري المياه منها إلى القني الصغار التي لا تحصى ولا تعد، وبساتينها تسقى بالساعات، وما أسرع صاحب الستان إلى فتح مفجر قناته عندما يصل الدور إليه، فقاعدة السقيا هناك هي العدان. ولهذه الأقنية هيئات خاصة لإدارة أمورها كل قناة لها هيئة ينتخبها أصحاب البساتين، ثم هذه الهيئات تجتمع اجتماعا عاما كل سنتين مرة ولها لجنة إجرائية.
ومن هذه النقابات يتألف ديوان المياه الذي مر الكلام عليه، والذي هو المرجع في المنازعات الواقعة على المياه، وعندما يحتاجون إلى إصلاح الأقنية يفرضون ضريبة على أصحاب البساتين كل واحد بحسب مقدار أرضه . وأما الزراعات التي تشتمل عليها هذه الغوطة فهي متنوعة، منها القنب والحنطة والذرة والبقول والبطيخ الأصفر، أما الأشجار فأهمها البرتقال والرمان والكمثرى والتين والمشمش، وهم يزرعون القنب في مارس ويحصدونه في وسط يوليو، ويزرعون اللوبياء في يوليو ويحصدونها في آخر أكتوبر، ويزرعون الحنطة في نوفمبر ويحصدونها في وسط يونيو، ويزرعون الذرة في يونيو ويحصدونها في آخر أكتوبر؛ فتتعدد المواسم في السنة الواحدة.
وأوفى الزراعات غلة فيما يظهر هي زراعة القنب؛ ففي السنين التي تشح فيها المياه يهملون سائر الزراعات، ويتركونها تشرق فتكون فداء للقنب، وفي السنين التي يكون الجفاف فيها شديدا يحق لنقباء المياه أن يغيروا القواعد المرعية بحسب المصلحة، عائدا ذلك إلى رأيهم، فيدخرون المياه لأجل زراعات دون أخرى، ويداولون في العدان، ويحق لهم بحسب الامتيازات القديمة المعطاة لهم من الملك جاك - فاتح بلنسية - أن يتقاضوا القرى العالية التي تنحدر منها المياه أن يسدوا مجاري المياه التي يسقون منها مدة أربعة أيام وأربع ليال متواليات، فيتجمع حينئذ من المياه ما ينقذون به الموسم.
وإذا امتنع أهالي القرى المذكورة عن إجابة هذا الطلب، فإن نقباء المياه يراجعون الوالي، وعلى هذا أن ينفذ طلبهم؛ فإن هذا النظام يرجع إلى سنة 1239، حينما فتح جاك الأول - ملك أراغون - مملكة بلنسية، فأمر أن تكون هذه المياه تابعة للبساتين دون أدنى بدل ولا ضريبة، نعم إنه خصص تاج الملك بقناة مونكادة، وبعد ذلك بثلاثين سنة احتاج أصحاب البساتين إلى قناة مونكادة نفسها، فصاروا يستفيدون من مياهها ببدل معلوم في السنة.
والناس يتناقشون في قضية هذه التراتيب العجيبة لسقيا غوطة بلنسية: هل العرب هم الذين أوجدوها؟ أم هي كانت مرتبة من قبل فأتقنوها وأكملوها؟ ولما كان كثير من الإفرنج يغصون بمكان العرب في العمران ولا يريدون أن يعترفوا بفضائلهم، فإن جوسه
Jusset - صاحب كتاب إسبانية والبرتغال المصور - يزعم أن العرب أخذوا هذه التراتيب عن الرومانيين، سواء كان ذلك في إسبانية أو في شمالي إفريقية. والحقيقة خلاف ذلك؛ فإن العرب أينما وجدوا أتقنوا فن توزيع المياه على الأراضي ، ولم يقلدوا فيه غيرهم، وإن كونهم غادروا بلنسية وهذه التراتيب فيها على أجمل وجه هو ثابت، فبقي هناك قضية هل أخذوها عمن سلف أم لا؟ فهذا هو مجرد افتراضات وتخرصات، واليقين لا ينفع في جانبه التخرص، والذي يحاولون غمط فضل العرب هم مصداق قوله تعالى:
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين .
ثم إن أعالي بلنسية التي لا تصل إليها المياه مكسوة بالزيتون والخروب والكرم، وبالإجمال فيندر في الدنيا أرض رمت بأفلاذها وجادت بخيراتها مثل أرض بلنسية، ومن مر بين تلك البساتين وشاهد تلك الأغصان المتهدلة الواصلة إلى الأرض من ثقل ما عليها من عناقيد الثمار التي تكاد تغطي الورق، ورأى قطر البهائم الموقرة من جميع أصناف الألبان والفواكه والحبوب منحدرة إلى المدينة رأى عجبا عجابا.
أما البحيرة فهي بقية من البحر المتوسط انفصلت عنه بلسان من الأرض، وتحولت مياهها إلى العذوبة بطول الأيام، وطولها عشرون كيلومترا، ومنها إلى البحر قناة، وفيها أنواع الأسماك، ويحوم فوقها من الطيور المائية شيء كثير، ويمكن صيده عن كثب، وجيرة هذه البحيرة يزرعون الأرز على ضفافها. وإلى الغرب من بلنسية قرية «مانيسيس»
Manises ،
2
ثم قرية «لرية» على سبعة كيلومترات من بلنسية، وفي مانيسيس عشرون معملا للزليج يشتغل بها 1500 فاعل، والتراب اللازم لهذه الصناعة يؤخذ من الجوار، وإلى الشمال من بلنسية قرية «مليانة
Meliana »، وفيها معمل للفسيفساء التي يقال لها فسيفساء نولا
Nolla ، ثم قرية «بورجازوت
Burjasot » على أربعة كيلومترات إلى الشمال الغربي من بلنسية، وعلى طريقها يجد المسافر معملا يصنعون به القاشاني المغربي.
وهناك يرى الإنسان مخازن الحنطة التي كانت عند العرب يقال لها المطامير، واحدها مطمورة، ومن قرى تلك الناحية «شيبه»
Chiva ، وهي قرية سكانها خمسة آلاف نسمة، وفيها حصن داثر، وقرية «البنيول
Bunol »، وسكانها نحو من خمسة آلاف نسمة أيضا، وفيها حصن من أيام العرب، وعلى 76 كيلومترا من بلنسية مدينة «ركانة
Requena »، وسكانها ستة عشر ألفا. وجميع هذه القرى كانت في أيام العرب معروفة.
ولنذكر الآن ما وجدناه في الكتب العربية عن ملحقات بلنسية، ولا سيما القرى والقصبات التي كانت معمورة في زمان العرب، وقد نبغ منها رجال من أهل العلم، وأقرب هذه القرى إلى بلنسية هي قصبة «لرية
liria »، والذي يظهر أن هذه القرى قد انحطت عما كانت عليه لعهد الإسلام. (1) لرية
Liria
ينسب إليها من أهل العلم محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن أبي إسحاق الأنصاري، أخذ القراءات عن أبيه وغيره، وأجاز له أبو طاهر السلفي في الإسكندرية، ولما عاد من الشرق تصدر للإقراء ببلده لرية، قال ابن الأبار في التكملة: وهو من بيت نباهة وديانة وعلم وزهادة، كان هو وأبوه وجده من جلة المقرئين. وكذلك كان ابنه أبو زكريا يحيى بن محمد، توفي سنة 597 أو نحوها.
وأبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن أبي إسحاق الأنصاري، روى عن أخيه أبي عبد الله المقرئ، وأبي بكر بن العربي، وأبي الوليد بن الدباغ، سمع منه أبو عمر بن عياد مسلسلات ابن العربي، وقال: كان له اعتناء بالحديث، توفي مبطونا سنة 550، ومولده سنة 476.
وأبو زكريا يحيى بن عبد الله بن يحيى بن محمد بن أبي إسحاق الأنصاري، روى عن أبيه وعمه محمد بن يحيى، وسمع من ابن هذيل، وسمع صحيح البخاري من ابن الدباغ، وأخذ النحو عن أبي بكر عتيق بن الخصيم، وأقرأ العربية بلرية، وخطب بجامعها، قال ابن الأبار نقلا عن أبي عبد الله بن عياد: إنه توفي في ذي الحجة سنة 563، وكانت ولادته سنة 507.
وأبو بكر يحيى بن محمد بن يحيى بن أبي إسحاق الأنصاري، أخذ عن أبيه القراءات، وأخذ عن أبي الحسن بن هذيل، وأجاز له أبو عبد الله الداني، وأجاز له السلفي، وخلف أباه في الإقراء، وأخذ عنه الكثيرون، ومنهم أبو عبد الله بن غبرة، أخذ عنه سنة 587.
وأبو زكريا يحيى بن محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن إسحاق الأنصاري، أخذ عن أبي عبد الله بن نوح، وكان من الفقهاء مع الصلاح الكامل، وأخذ عنه كما أخذ عن أبيه وجده وجد أبيه وأقاربه، وتوفي سنة 633. فهؤلاء كلهم فروع شجرة واحدة اشتهرت بالعلم والفضل.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن أبي زيد، يعرف بابن عياد، سمع من أبيه أبي عمر، وأبي الحسن بن هذيل، وأبي بكر بن نمارة، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي الحسن بن النعمة وغيرهم، وأجاز له ولأبيه أبو مروان بن قزمان، وأبو القاسم بن بشكوال، وأبو بكر بن خير وغيرهم، وكتب إليهما أبو طاهر السلفي من الإسكندرية، وكان أبو عبد الله محمد من أهل العناية بالرواية والتقييد للآثار والأخبار، والحفظ للتاريخ، قال ابن الأبار: وله في مشيخة أبيه مجموع مفيد على حروف المعجم، كتبت منه ومن سائر ما وقع إلي بخطه في هذا الكتاب ما نسبته إليه، ولم يخل من أغلاط نبهت عليها، وكان يضرب في الآداب والعربية بسهم، وربما قرض أبياتا من الشعر. وحدث عنه ابن سالم قال لي: توفي ببلده لرية سنة 603، ومولده وقت الزوال من يوم الخميس السابع والعشرين من شعبان سنة 544، قرأت ذلك بخط أبيه أبي عمر.
وأما أبو عمر بن عياد - والد المترجم - فهو يوسف بن عبد الله بن أبي زيد، من لرية، دخل بلنسية سنة 528، ولقي بها ابن هذيل، وابن النعمة، وابن الدباغ، وطارق بن يعيش، وخلقا، وكان معنيا بصناعة الحديث جماعة للدفاتر، معدودا في الأثبات المكثرين، سمع العالي والنازل، ولقي الكبير والصغير، يحفظ أخبار المشايخ، ويدون قصصهم ووفياتهم، أنفق عمره في ذلك، وكان قد شرع في تذييل كتاب ابن بشكوال، وله كتاب «الكفاية في مراتب الرواية»، و«المرتضى في شرح المنتقى»، و«المنهج الرائق في الوثائق»، و«بهجة الحقائق في الزهد والرقائق»، و«طبقات الفقهاء من عصر ابن عبد البر».
حدث عنه ابنه أبو عبد الله محمد، وأبو محمد بن غلبون، ووصفه بعضهم بالمشاركة في الآداب والفهم بالقراءات، وأنه من أهل التواضع، وقال ابن الأبار : توفي شهيدا ببلده لرية عندما كسبه العدو فقاتل حتى أثخن جراحا، ثم أجهزوا عليه، وذلك يوم العيد سنة 575، وقد كمل سبعين سنة.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن يوسف بن فرين، من أهل لرية، وصاحب الأحكام بها، سمع من أبي الحسن بن هذيل، وابن النعمة، وابن سعادة وغيرهم، وأجاز له أبو طاهر السلفي سنة 575، وأبو محمد المبارك بن الطباخ، قال ابن الأبار: وكان شيخا فاضلا، توفي سنة 610.
وأبو عبد الله محمد بن خلف بن يونس سمع قديما بشاطبة من أبي عمران بن أبي تليد، وأخذ علم الشروط عن أبي الأصبغ المنزلي، والأدب عن أبي الحسن بن زاهر، وولي الصلاة والخطبة بجامع لرية، وكان معدلا خيارا، خرج من وطنه في الفتنة، فتوفي بشاطبة في رجب سنة 557، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن عياد.
وأبو بكر محمد بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن عثمان الأنصاري، أصله من لرية، وسكن المرية، وكان يعرف بالغفايري وبابن العسال، أخذ عن أبي القاسم بن ورد، وعن أبي محمد الرشاطي، ولما تغلب العدو على المرية المرة الأولى - وهي الواقعة التي استشهد فيها الرشاطي - خرج المترجم من المرية، وسكن في لرية بلده الأصلي، فكتب عنه ابن عياد من شعر ابن ورد.
وأبو عبد الله محمد بن مروان بن يونس، يعرف بابن الأديب من لرية، سكن بلنسية، سمع من أبي بكر بن العربي، وطارق بن يعيش، وغيرهما، وكان حسن الوراقة معروفا بذلك، ولاه القاضي مروان بن عبد العزيز خطة السوق، أخذ عنه ابن عياد، وقد تقدمت ترجمته في أدباء بلنسية. (2) ركانة
Requena
قد تقدم ذكر هذه القصبة، ولا تزال عامرة إلى الآن، وقد قال عنها ياقوت في معجم البلدان: إنها مدينة لطيفة من عمل بلنسية، ونقل عن ابن سقاء أنه أنشده أبو محمد عبد الله بن محمد بن معدان الركاني اليحصبي من شعره، وأنه كان من أهل الأدب، وحج مرات هو وأخوه علي الركاني، ولقيه السلفي في الإسكندرية. ا.ه.
وقد ترجم ابن الأبار في التكملة في الجزء الثاني رجلا اسمه أبو بكر عبد الرحمن بن سعدون المكتب، قال إنه يعرف بالركاني، له رحلة سمع فيها من أبي محمد بن الوليد، وأبي إسحاق الشيرازي، وكان رجلا صالحا، حدث عنه القاضي أبو عامر بن إسماعيل الطليطلي.
وقد ضبط ياقوت الحموي ركانة بضم الراء وبدون تشديد الكاف، ولكن ضبطه لهذا الاسم لم يكن بالحروف حتى لا يقع لبس وإنما كان بالحركات. أما ابن الأبار فلم نطلع له إلى الآن على ضبط بالحروف لهذا الاسم. وأما في طبعة مجريط من التكملة فهو يضبطها بتشديد الكاف وفتح الراء، ولا نعلم هل كانوا يلفظونها بالتشديد أم لا، وأما الإسبانيون فيكتبونها
Requena ؛ أي دون تشديد وبضم أولها. (3) قلييرة
Cullera
قصبة سكانها في هذا الوقت 12000 نسمة على ضفة نهر شقر
Jucar ، وهي لطيفة الموقع فيها آثار حصن قديم، ومنها إلى قصبة طبرنة عشرة كيلومترات. ذكر ابن الأبار في التكملة محمد بن عبيد الله بن بيبش المخزومي من بلنسية، قال: إن أصله من قلييرة بناحياتها الغربية، يكنى أبا بكر، عني بالفقه، وكان من أهل الفتيا والشورى، ورحل حاجا، وسمع بالإسكندرية من أبي الطاهر السلفي سنة 539. وقال الشريف الإدريسي في نزهة المشتاق: ومن بلنسية إلى حصن قلييرة 25 ميلا، وحصن قلييرة قد أحدق البحر به، وهو حصن منيع على موقع نهر شقر. وفي دليل بديكر يذكر أن قلييرة على الضفة اليسرى من نهر شقر، وأن بها آثار حصن قديم. (4) أندة
وهي من أعمال بلنسية؛ قال ياقوت الحموي في المعجم: أندة بالضم ثم السكون مدينة من أعمال بلنسية بالأندلس، كثيرة المياه والرساتيق والشجر، وعلى الخصوص التين فإنه يكثر بها، وقد نسب إليها كثير من أهل العلم، منهم أبو عمر يوسف بن خيرون القضاعي الأندي، سمع من أبي عمر يوسف بن عبد البر، وحدث عنه الموطأ، ودخل بغداد سنة 504، وسمع من أبي القاسم بن بيان، وأبي الغنائم بن النرسي، ومن أبي محمد القاسم بن علي الحريري مقاماته، وعاد إلى المغرب، فهو أول من دخلها بالمقامات، قاله ابن الدبيثي. وينسب إليها أيضا أبو الحجاج يوسف بن علي بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمد القضاعي الأندي، مات في سنة 542، قاله أبو الحسن بن المفضل المقدسي. وأبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن إبراهيم الأندي المعروف بابن الدباغ، حدث عن أبي عمران بن أبي تليد وغيره، وله كتاب لطيف في مشتبه الأسماء ومشتبه النسبة، سمع منه الحافظ أبو عبد الله محمد الأشبيري. وورد في نفح الطيب: ومن عمل بلنسية مدينة أندة التي في جبلها معدن الحديد.
3
قلنا: وممن انتسب إلى أندة من أهل العلم أبو عبد الله محمد بن عياض، سمع ببلده من أبي القاسم عبد العزيز بن جعفر البغدادي، وكانت له رحلة حج فيها، وكان فقيها، كتب عنه أبو عمرو المقري، ولم يذكر تاريخ وفاته.
وأبو عبد الله محمد بن الحسين بن أبي البقاء بن فاخر بن الحسين الأموي، يقال: إنهم من ولد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - روى عن أبي بكر بن العربي، وأبي الحسن شريح، وأبي الوليد بن بقوة، وأبي جعفر محمد بن باق، لقيه بتلمسان، ولقي بها أبا القاسم عبد الرحيم بن جعفر المزياتي، وولي الأحكام هناك، ثم بإشبيلية، ثم ولي الصلاة والخطبة والأحكام في لرية من أعمال بلنسية من قبل القاضي أبي الحسن بن عبد العزيز سنة 530، وولي أيضا قضاء شبرانة من الثغر الشرقي، وكان فقيها حافظا واقفا على مسائل المدونة، محسنا لعقد الشروط، ضابطا لما رواه، مقلا صابرا خيرا فاضلا، حدث عنه ابن عياد وقال: توفي بأندة في رمضان سنة 535 وهو ابن سبعين أو نحوها، عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن بيبش العبدري، من أهل أندة، سكن بلنسية، له رواية عن أبي عبد الله الخولاني، وعن عبد القادر بن الحناط، وكان فقيها عارفا بالشروط، روى عنه ابنه أبو بكر بيبش بن محمد، قال ابن الأبار: وقرأت بخطه أن أباه توفي ببلنسية عصر الثلاثاء الرابع من صفر سنة 541.
وأبو الحجاج يوسف بن محمد بن علي بن خليفة القضاعي الأندي ، نزل بلنسية، وسمع أبا محمد بن عبيد الله، وأبا الحسن بن النقرات وجماعة، وأخذ العربية عن أبي ذر الخشني، وأبي بكر بن زيدان، وأقرأ العربية حياته كلها ، وكان منقبضا مقبلا على شأنه، قال ابن الأبار: أخذت عنه جملة من كتب النحو واللغة، وأجاز لي، توفي في حصار بلنسية في ذي القعدة سنة 563 عن ثمان وسبعين سنة.
وأبو محمد عبد الله بن محمد العبدري، له رحلة إلى المشرق، دخل فيها بغداد، وسمع بها من الشيوخ، كتب عنه أبو عمرو المقرئ، ترجمه ابن بشكوال في الصلة.
وأبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن عمر بن فيره، يعرف بابن الدباغ، قال ابن بشكوال: صاحبنا من أهل أندة، نزل مرسية، روى عن أبي علي الصدفي ولازمه طويلا، وأخذ عنه جماعة شيوخنا وصحبنا عند بعضهم، وكان من أنبل أصحابنا وأعرفهم بطريقة الحديث، وأسماء الرجال وأزمانهم وثقاتهم وضعفائهم وأعمارهم وآثارهم، ومن أهل العناية الكاملة بتقييد العلم ولقاء الشيوخ، وكتب عنهم وشوور ببلده، ثم خطب به وقتا، وتوفي - رحمه الله - سنة 546، وقال لي: مولدي سنة 481.
وأبو سليمان داود بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان بن عمر بن خلف بن عبد الله بن عبد الرءوف بن حوط الله الأنصاري الحارثي من أندة، سكن مالقة، وولي قضاء الجزيرة الخضراء، ثم قضاء بلنسية، وكان محمود السيرة، وتوفي قاضيا بمالقة سنة 621.
وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يونس القضاعي من أهل أندة، وهي دار القضاعيين بالأندلس ومن قرية بجهتها، منها أولية أبي الوليد بن الدباغ، يعرف بابن خيرون، سكن مربيطر، وولي قضاء مربيطر من قبل أبي الحسن بن واجب، وكان سماعه من أبي عمر بن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، وأبي المطرف بن جحاف، وأبي العباس العذري، وأبي الوليد الوقشي، وأبي الفتح السمرقندي، وكان راوية فقيها حافظا أديبا، له حظ من الشعر، أخذ عنه جماعة، منهم صهره أبو علي بن بسيل، وأبو محمد بن علقمة، وأبو عبد الله بن يعيش، وأبو العرب التجيبي، وتوفي بمربيطر وهو قاض بها سنة 510.
وأبو محمد عبد الله بن إدريس بن محمد بن علي بن الحسن القضاعي من أهل أندة، سكن بلنسية، كان يعرف بابن شق الليل، سمع بقرطبة من ابن بشكوال وغيره، كان من أهل الوجاهة، بصيرا بالحساب، ثقة صدوقا، توفي سنة 607.
وأبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان بن عمر بن خلف بن حوط الله الأنصاري الحارثي، ولد بأندة، وقرأ في بلنسية، استأدبه المنصور بن أبي عامر لبنيه، وتولى الخطة النبيهة مثل قضاء قرطبة وإشبيلية ومرسية وسبتة وسلا، وتوفي سنة 612.
وأبو محمد عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي بكر القضاعي، والد الحافظ ابن الأبار البلنسي القضاعي الشهير صاحب كتاب «التكملة لكتاب الصلة»، والتصانيف الكثيرة، قال عن والده أنه سكن بلنسية، وأخذ القراءات عن أبي جعفر الحصار، وسمع من أبي عبد الله بن نوح، وأبي بكر بن قنترال، وأبي عبد الله بن نسع، وأبي علي بن زلال، وصحب أبا محمد بن سالم الزاهد المعروف بالسبطير، قال ابن الأبار: كان - رحمه الله - ولا أزكيه، مقبلا على ما يعنيه، شديد الانقباض، بعيدا عن التصنع، حريصا على التخلص، مقدما في حملة القرآن، كثير التلاوة له والتهجد به، صاحب ورد لا يكاد يهمله، ذاكرا للقراءات، مشاركا في حفظ المسائل، آخذا في ما يستحسن من الأدب، معدلا عند الحكام، وكان القاضي أبو الحسن بن واجب يستخلفه على الصلاة بمسجد السيدة من داخل بلنسية، تلوت عليه القرآن بقراءة نافع مرارا، وسمعت منه أخبارا وأشعارا، واستظهرت عليه كثيرا أيام أخذي عن الشيوخ يمتحن بذلك حفظي، حدثني غير مرة أنه ولد بأندة سنة 571، ثم قال ابن الأبار أن والده توفي ببلنسية وهو غائب بثغر بطليوس، وكانت وفاته عند الظهر من يوم الثلاثاء الخامس لشهر ربيع الأول سنة 619، ودفن لصلاة العصر من يوم الأربعاء بعده بمقبرة باب بيطالة وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وكانت جنازته مشهودة والثناء عليه جميلا ، نفعه الله بذلك.
وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الملك بن عبد العزيز بن محمد بن نميل من أهل أندة، سكن بلنسية، كان مقرئا، وكان يحترف مع ذلك بالوراقة، توفي بعد الثمانين وخمسمائة.
وأبو الحجاج يوسف بن علي بن محمد القضاعي من أهل أندة، نزل المرية، يعرف بالقفال وبالحداد، حج وذهب إلى بغداد بعد الخمسمائة، وسمع من أبي طالب الحسين الزينبي أخي طراد ومن غيره، وقرأ على نفس الحريري مقاماته، وقفل إلى الأندلس سنة 512، ونزل المرية، ثم رحل، ثم رجع إلى الأندلس سنة 516، وحدث عنه جماعة، وكان صدوقا صحيح السماع، استشهد في تغلب الروم على المرية أول مرة، وكان ذلك يوم الجمعة عشرين من جمادى الأولى سنة 542، واستشهد يومئذ أبو محمد الرشاطي.
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن أحمد بن غالب من أهل أندة، سكن بلنسية، كان مقدما في علم القراءات، صواما قواما، صرورة ما تزوج قط، توفي في بلنسية سنة 573.
وأبو محمد عبد الحق بن محمد بن عبد الرحمن بن علي الأندي، نزيل بلنسية، كان من أهل الفضل، وكان محترفا بالتجارة، عدلا، وعمر حتى ألحق الصغار بالكبار؛ لأنه ولد سنة 537 وتوفي سنة 622.
وأبو عبد الله محمد بن باسه بن أحمد بن أرذمان الزهري المقرئ، من أهل أندة، سكن بلنسية، وكان مقرئا فاضلا، توفي بإشبيلية سنة 515.
وعبد العزيز بن جعفر بن محمد بن إسحاق بن محمد بن خواست الفارسي البغدادي المعمر، سكن بأندة، يكنى أبا القاسم، روى بالمشرق عن أبي بكر محمد بن عبد الرزاق التمار وعن إسماعيل الصفار، وأبي بكر النقاش، وأبي عمر الزاهد غلام ثعلب وغيرهم، روى عنه أبو الوليد بن الفرضي، وذكر أنه لقيه بمدينة التراب (أي بلنسية) في ربيع الأول سنة 400، قال ابن بشكوال في الصلة: وفي هذا التاريخ كان ابن الفرضي قاضيا ببلنسية. قال أبو عمرو المقرئ: وتوفي في ربيع الأول سنة 413 وهو ابن اثنتين وتسعين سنة، دخل الأندلس تاجرا سنة 350، وروى ابن بشكوال عن حكم بن محمد أن المترجم قال له: إنه ولد في رجب سنة 320.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عيسى بن عبد الحميد بن روبيل الأنصاري، أصله من أندة من أعمالها، وأبوه انتقل منها إلى بلنسية، قال ابن الأبار: سمع معنا من شيوخنا أبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي علي بن زلال، وأبي سليمان بن حوط الله، وأبي الربيع بن سالم، وأبي الحسن بن خيرة، وأبي محمد عبد الحق الزهري، وانفرد بالرواية عن جماعة استجاز لي بعضهم، وكتب إليه وإلي جماعة من أهل المشرق، وعني بعقد الشروط ودراسة الفقه. وشارك في العربية وولي قضاء مربيطر فحمدت سيرته، ثم ولي بعد ذلك قضاء دانية والخطبة بجامعها مناوبا غيره فيها، وتوفي بها وهو يتقلد ذلك في الثامن أو التاسع والعشرين من المحرم سنة 636، ونعي إلينا ببلنسية في آخر محاصرة الروم إياها لاستيلائهم عليها صلحا في يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر، قال: ومولده سنة 591.
وأبو محمد عبد الله بن يوسف بن علي بن محمد القضاعي، قال ابن الأبار: من أهل المرية، وأصله من أندة، وبها نزلت قضاعة، سمع من أبيه أبي الحجاج الراوية، ومن أبي جعفر بن غزلون، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية سنة 513 من أبي عبد الله الرازي والسلفي، وقد أخذ عنه أبو الحسن بن المفضل المقدسي. (5) مليانة
MELIANA
إلى الشمال من بلنسية على سبعة كيلومترات منها، ولم نعثر حتى الآن على ذكرها في كتب العرب، وكذلك قرية أخرى على أربعة كيلومترات إلى الشمال الغربي من بلنسية اسمها «بورجاسوط
Burjasot »، وقرية اسمها «قرطوجة
Cartoja »، وبلدة على 34 كيلومترا من بلنسية سكانها خمسة آلاف، فيها حصن قديم يقال لها: «شيبه
Chiva »، ولكن على بعد 42 كيلومترا من بلنسية قرية اسمها «البنيول» على ضفة نهير يقال له أيضا: البنيول، وفيها حصن قديم، فهذه القرية؛ أي البنيول، وارد لها ذكر في كتب العرب، ومنسوب إليها أناس من أهل العلم.
ومن قرى بلنسية قرية أسيلة، وسكانها اليوم خمسة آلاف، وفيها نخل كثير، وتكتب بالإسبانيولي «سيلة
Silla »، وقد بحثنا عن موقع هذه البلدة واسمها، فأما موقعها فعلى الشمال من بحيرة بلنسية، ومنها طريق حديدي إلى قلييرة، وعلى مقربة منها قرية اسمها «سولانة
Sollana »، ثم قصبة يقال لها: «سويقة
Snece » سكانها اليوم 12 ألف نسمة، فأسيلة هذه ربما ذكرها في معجم البلدان لكن بلا تأنيث، وذلك أنه قال:
أصيل - بياء ساكنة ولام - بلد بالأندلس. قال سعد الخير: ربما كان من أعمال طليطلة، ينسب إليه أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، محدث متقن فاضل معتبر، تفقه بالأندلس، فانتهت إليه الرئاسة، وصنف كتاب الآثار والدلائل في الخلاف، ثم مات بالأندلس في نحو سنة 390. ا.ه.
ولا نعلم هل «أصيل» التي ذكرها ياقوت في المعجم هي أسيلة المؤنثة التي قد ورد ذكرها في التكملة لابن الأبار في الجزء الأول أم غيرها، فإنه ترجم رجلا يقال له: محمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميد بن مأمون الأموي من أهل بلنسية، قال ابن الأبار وصاحب البيت أدرى: إن أصله من قرية بقرب بلنسية تعرف بأسيلة، وقال في ترجمته أنه أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، وأنه رحل إلى غرناطة وإلى إشبيلية وسمع من شيوخها، وأنه قصد جيان للقاء الأستاذ أبي بكر بن مسعود، فاختلف إليه ثلاثين شهرا يأخذ عنه العربية، وسمع هناك أبا الأصبغ الرعيني، وأبا القاسم بن الأبرش، ودخل المرية سنة 539، فسمع فيها من أبي محمد بن عطية، وأبي الحجاج القضاعي، وأجاز له أبو الحسن بن مغيث، وأبو مروان الباجي، وأبو بكر بن العربي، وجماعة كثيرة من المشاهير، وقفل إلى بلنسية بعلم جم ورواية عالية، وأقرأ العربية، وتولى قضاء بلنسية سنة 581، وأقام في القضاء حميد السيرة، وكان عدلا في أحكامه، جزلا في رأيه، صليبا في الحق، إماما يعتمد عليه في العربية والقراءة، مع الحظ الوافر من البلاغة، وأوطن مرسية بأخرة من عمره، وناوب في الصلاة بها والخطبة أبا القاسم بن حبيش، وتوفي بها عشية السبت من جمادى الأولى سنة 586، ودفن بظاهرها عند مسجد الجرف خارج باب ابن أحمد إلى جانب صاحبه أبي القاسم بن حبيش، وكان مولده ببلنسية سنة 513.
وأما البنيول فقد ورد ذكرها أيضا في تكملة ابن الأبار في الجزء الأول، فإنه ترجم محمد بن خلف بن عبيد الله المعافري من أهل جزيرة ميورقة قال: إن أصله من نواحي بلنسية ، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالبنيولي، وترجم رجلا آخر من أهل ميورقة، وهو أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الجليل العبدري، يعرف بالبنيولي. قال ابن الأبار: وبنيول من أعمال بلنسية، وضبطها بضم أولها (كما هو بالإسبانيولي
Bunol ).
وقد تقدم ذكر رصافة بلنسية، ولم يذكرها ياقوت في معجمه، وإنما ذكر رصافة قرطبة، وذكر بعض العلماء المنسوبين إلى هذه الرصافة مما سنذكره إن شاء الله عند الوصول إلى رصافة قرطبة، بل روى شعرا لأبي عبد الله الرفاء الرصافي الشاعر، نقل أنه من رصافة قرطبة.
ولكن صاحب نفح الطيب ذكر أن في بلنسية رصافة أيضا، ونقل عن ابن سعيد أن برصافة بلنسية مناظر وبساتين، وأنه لا يعلم في الأندلس ما يسمى بهذا الاسم غير رصافة بلنسية ورصافة قرطبة. ثم إن ابن الأبار وهو من بلنسية - وصاحب البيت أدرى كما سبق القول - ترجم أبا عبد الله محمد بن غالب الرفاء الرصافي، ونسبه إلى رصافة بلنسية، وقال عنه أنه كان شاعر وقته مع العفاف والانقباض وعلو الهمة، وأنه كان يعيش من صناعة الرفو يعالجها بيده، ولم يبتذل نفسه في خدمة ولا تصدى لانتجاع بقافية، حملت عنه في ذلك أخبار عجيبة، وقد تقدم ذكره في تراجم علماء بلنسية؛ فلا حاجة إلى إعادة ذلك.
ومن أعمال بلنسية قرية المنصف التي منها الفقيه الزاهد أبو عبد الله المنصفي، وقبره كان بسبتة - رحمه الله تعالى - ومن نظمه:
قالت لي النفس أتاك الردى
وأنت في بحر الخطايا مقيم
فما ادخرت الزاد قلت اقصري
هل يحمل الزاد لدار الكريم
ذكر ذلك المقري في نفح الطيب. ثم إننا قرأنا في التكملة لابن الأبار ترجمة أبي محمد طارق بن موسى بن يعيش المخزومي المنصفي المتوفى بمكة، سنة 549، وقد نقلنا ترجمته بين تراجم علماء بلنسية، وهو في الحقيقة من المنصف قرية من قرى بلنسية. (6) طبرنة
TABERNAS
ومن أعمال بلنسية طبرنة، وهي على عشرين كيلومترا من بلنسية، وهي في وسط جنان بلنسية الشهيرة. وفي هذه القرية كانت الوقعة المشهورة للنصارى على المسلمين، وهي التي يقول فيها أبو إسحاق بن يعلى الطرسوني:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم
حلل الحرير عليكم ألوانا
ما كان أحسنكم وأقبحهم بها
لو لم يكن بطبرنة ما كانا
وقد ذكر هذه القرية صاحب النفح واستشهد بهذين البيتين. (7) جزيرة شقر
ومن أعمال بلنسية جزيرة شقر،
4
والإسبانيون يقولون لهذه القصبة جوكار
Jucar ، وكان الرومانيون يقولون لها سوكرو
Sucro ، وفيها آثار حصن قديم، وموقعها من أبدع المواقع، ولها نهر يجري بجانبها وزراعاتها كثيرة، وفيها البرتقال والنخيل، ويزرعون في جوانبها الأرز، وجزيرة شقر يدور ذكرها كثيرا في كتب الأندلس، وقد جاءت في معجم البلدان، قال ياقوت: جزيرة شقر - بفتح أوله وسكون ثانيه - في شرقي الأندلس، وهي أنزه بلاد الله وأكثرها روضة وشجرا وماء. وكان الأديب أبو عبد الله محمد بن عائشة الأندلسي كثيرا ما يقوم بها، وله في ذكرها شعر منه:
ألا خلياني والصبا والقوافيا
أرددها شجوي فأجهش باكيا
ومنها:
وهيهات حالت دون شقر وعهدها
ليال وأيام تخال لياليا
فقل في كبير عاده عائد الصبا
فأصبح مهتاجا وقد كان ساليا
فيا راكبا مستعمل الخطو قاصدا
ألا عج بشقر رائحا ومغاديا
وقف حيث سال النهر ينساب أرقما
وهب نسيم الأيك ينفث راقيا
وقل لأثيلات هناك وأجرع
سقيت أثيلات وحييت واديا
وقيل لها جزيرة شقر لأنها بموقعها على نهر شقر أشبه بجزيرة، والإسبانيون يقولون لها: «السيرة
Alcira »، وهي تحريف جزيرة، وليس ذلك بغريب، فعندنا جزر صغيرة مركبة من الأنهر تقول العامة للواحدة منها: «زيرة»، بحذف الجيم، وهكذا حصل في الأندلس. وجزيرة شقر اليوم مدينة سكانها يزيدون على عشرين ألفا، وربما كانت في زمان العرب أعمر منها اليوم.
من ينسب من العلماء والأدباء إلى شقر
وأما من ينسب من العلماء والأدباء إلى جزيرة شقر فعدد كبير، منهم أبو عبد الله بن مسلم بن فتحون المخزومي، كان فقيها مشاورا.
ومنهم أبو القاسم محمد بن أحمد بن حاضر الجزيري الخزرجي، قدم مصر وسكن قوص، وكان فصيحا عالما، وكان من عدول بلنسية، ومات بالقاهرة سنة 639، ترجمه صاحب نفح الطيب .
ومنهم أبو الحجاج يوسف بن أحمد بن طحلوس، صحب أبا الوليد بن رشد وأخذ عنه علمه، وسمع من أبي عبد الله بن حميد، وأبي القاسم بن وضاح، وكان من العلماء والأطباء، وهو آخر الأطباء بشرق الأندلس مع الديانة ولين الجانب والتحقق بعلوم الأوائل ومعرفة النحو، توفي سنة 620، ذكره ابن الأبار.
وأبو محمد بن أحمد بن الحاج الهواري، يعرف بابن حفاظ، روى عن أبي وليد الباجي، وتفقه به، وكان من أصحاب أبي الحسن طاهر بن مفوز، وكان ورعا فاضلا، ذكره ابن الأبار في التكملة.
وأبو محمد عبد الله بن عمر السلمي، وهو والد القاضي أبي حفص بن عمر، روى عن صهره أبي محمد اللخمي سبط أبي عمر بن عبد البر، وسكن معه أغمات بالمغرب الأقصى حين ولي قضاءها، وبها ولد له ابنه أبو حفص، ولما ولي القضاء قال له صهره أبو محمد اللخمي: إنك قد ابتليت بالقضاء وهو أمر عظيم؛ فأوصيك بما يهونه عليك وينفعك الله به: لا تبيتن وفي قلبك غش أو عداوة لأحد من خلق الله. قال أبو حفص: فكذلك كان - رحمه الله.
وأبو محمد عبد الله بن باديس بن عبد الله بن باديس اليحصبي، من أهل جزيرة شقر، سكن بلنسية، قال ابن الأبار: سمع شيخنا عبد الله بن نوح وتفقه به، ثم رحل إلى إشبيلية، وأخذ عن مشيختها، وأجاز البحر إلى فاس، فلقي هناك أبا الحجاج بن نوى وطبقته من أهل علم الكلام وأصول الفقه، فأخذ عنهم، وأجاز له جماعة منهم، وعاد إلى بلنسية فاجتمع إليه بالمسجد الجامع منها، ونوظر عليه في المستصفى لأبي حامد وغير ذلك، وقد حضرت تدريسه وصحبته وقتا، وكان شكس الخلق مع الانقباض والتصاون، وتنسك بآخرة من عمره، وأجهد نفسه قياما وصياما إلى أن توفي في شعبان سنة 622، وكانت جنازته مشهودة. انتهى ما قاله ابن الأبار.
وأبو مروان عبيد الله بن أحمد بن ميمون المخزومي، ولي قضاء بلده جزيرة شقر، وكانت له رواية عن أبي عمر بن عبد البر، سمع منه سنة 445.
وأبو مروان عبد الله بن ميمون الأنصاري يعرف بابن الأديب. كان من أهل المعرفة بالقراءات، موصوفا بالفطنة والحزامة، ولي قضاء بلده، وتوفي سنة 556.
وابن سعدون أبو الحسن علي بن حسين النجار الزاهد، تقدمت ترجمته في تراجم علماء بلنسية.
وأبو يوسف يعقوب بن محمد بن خلف بن يونس بن طلحة الشقري، سكن شاطبة، وقرأ الموطأ على أبي بكر عتيق بن أسد، وصحب أبا إسحاق بن خفاجة، وحمل عنه شعره، وكان فقيها مشاورا أديبا بارعا، روى عنه طلحة بن يعقوب، وأبو القاسم بن بقي، وأبو القاسم البراق، وتوفي سنة 584 عن ثمان وسبعين سنة.
وأبو الحسن طاهر بن خلف بن خيرة، روى عن أبي الوليد الباجي، وقرأ على أبي علي بن سكرة الصدفي بدانية، وسمع أبا داود المقرئ سنة 491.
وأبو عبد الله محمد بن منخل بن ريان، كان من أهل العلم بالقراءات والنحو، متحققا بالفرائض والحساب، بصيرا بالمساحة، توفي ببلده جزيرة شقر سنة 551.
وأبو عبد الله محمد بن محمد بن يحيى بن خشين، لم يكن في زمانه من يكتب المصاحف مثله ولا من يدانيه في المعرفة بنقطها مع حسن الخط، توفي في حدود الثلاثين وستمائة.
وأبو عبد الرحمن محمد بن جعفر بن أحمد بن محمد بن جعفر بن سفيان المخزومي، رحل حاجا، فلقي في طريقه أبا محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي نزيل بجاية، وسمع منه بعض تآليفه، قال ابن الأبار: ولم يكن يبصر الحديث، وكان له حظ منزور من منظوم ومنثور، توفي سنة 632.
وأبو بكر محمد بن محمد بن وضاح اللخمي، من أهل جزيرة شقر، وصاحب الصلاة والخطبة بجامعها، رحل حاجا فأدى الفريضة سنة 580، ولقي بالقاهرة أبا محمد قاسم بن فيره الضرير الشاطبي، فسمع منه قصيدته الطويلة في الإقراء المعروفة «بحرز الأماني ووجه التهاني»، وتصدر ببلده للإقراء، وكان رجلا صالحا، توفي سنة 634.
وأبو عبد الله محمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم من أهل جزيرة شقر، يعرف بمرج الكحل، وكان شاعرا مفلقا، توفي ببلده سنة 634.
وأبو بكر أحمد بن محمد بن جعفر بن سفيان المخزومي، زاهد ورع فاضل، أديب من أهل بيت جلالة ورئاسة، كان ملجأ للفقراء والمساكين. قال ابن عميرة في بغية الملتمس: أخبرني ابنه الفقيه أنه وقع له تسمية الأملاك التي باعها أبوه في الفقراء والمساكين، فوجدت أربعة وعشرين ألف دينار سوى ما أغفل منها. وقيل إنه رحل إلى قرطبة واستفتى جميع من بها هل يخرج من جميع ماله وينقطع إلى الله - عز وجل - أم يبقى فيه وكيلا للفقراء والمساكين. توفي في حدود سنة 580.
وأبو جعفر أحمد بن محمد بن طلحة من بيت مشهور بجزيرة شقر، كتب عن بني عبد المؤمن، ثم استكتبه ابن هود، وربما استوزره، وكان شاعرا من فحول الشعراء، قتله أبو العباس السبتي، وكان بلغه أنه هجاه.
وأبو عبد الله محمد بن مسلم بن فتحون المخزومي، كان فقيها مشاورا، ولابنه إبراهيم رواية، ذكره ابن الأبار في التكملة.
وأبو عبد الله محمد بن ربيعة من أهل جزيرة شقر، سكن بلنسية، وكان مفتي أهل بلنسية في زمانه، مقدما في الشورى، حافظا للفقه، توفي يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر سنة 487، ذكره ابن بشكوال في الصلة.
ومحمد بن وضاح أبو القاسم الحاج، خطيب جزيرة شقر، كان فاضلا ورعا، مقرئا حسن التلاوة، أخذ القراءات السبع على ابن العرجا، إمام المقام بمكة المكرمة. قال ابن عميرة في بغية الملتمس: أول ما لقيته بمرسية في مجلس القاضي أبي القاسم بن حبيش، فلما خرج من عنده قال لي: هذا رجل لم يكذب قط. فأحببته وصحبته إلى أن مات سنة 587. (8) بني فيو
Benifayo
وغير بعيد من جزيرة شقر قرية يقال لها الآن «بني فيو»، يظن المستشرق ليفي بروفنسال أنها محرفة عن بني فيوم، ونحن لا نظن ذلك، بل نرجح تحريفها عن بني حيون؛ وذلك أن من عادة الإسبانيول قلب الحاء فاء؛ لأنهم لا يقدرون على لفظ الحاء كما لا يخفى، فكثيرا ما يجعلونها فاء مثل ما قالوا «البفيرة» في لفظهم للبحيرة، ثم ليس من عادة العرب أن يضيفوا لفظة بنو أو بني إلى بلدة ، وإنما يضيفونهما إلى قبيلة، ولم نسمع باسم قبيلة يقال لها فيوم، وإنما هي بلدة في مصر. فأما حيون فهو اسم معروف عند العرب للرجال وشاع في الأندلس، فالأرجح أن هذه البلدة اسمها بني حيون، ثم بالترخيم صارت بني حيو.
وفي تلك الناحية بلدة سكانها بضعة عشر ألفا يقال لها «قرقاجنت
Carcagente » ذات برتقال ونخيل، وفيها أيضا شجر التوت، ومن هذه البلدة فرع للخط الحديدي يذهب إلى دانية، وهناك بلدة أخرى على الضفة الغربية من نهر شقر يقال لها «البريك
Alberique »، وبالقرب منها نهير يقال له «البيضا
Abaida »، وبالقرب من هذا النهير حصن «شنتيانة
Sentana »، وقد مر بنا ذكر علماء يقال في نسبتهم الشنتياني، نظنهم منسوبين إلى هذا المكان، وجميع هذه البلاد التي ذكرناها واقعة بين بلنسية وشاطبة.
ومن مضافات بلنسية قصبة «أوليبة
Oliva »، فيها كثير من التوت والزيتون والبرتقال، وفيها أفخر أجناس العنب، وهي بين جبال: أحدها يقال له «جبل سيقاريا»، والآخر «جبل نيغرو»، وجبل «مونكو»، وهناك قرية يقال لها أنداره، معروفة من أيام العرب، ينتسب إليها أناس من أهل العلم، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المعافري الأنداري.
ومن أعمال بلنسية المشهورة في زمان العرب: (9) شارقة
Gérica
وكان العرب الأندلسيون يلفظونها بالإمالة كما هو شأنهم، وهي بلدة واقعة في آخر حدود ولاية بلنسية إلى الشمال بينهما وبين ولاية سرقسطة، وهي مشرفة على نهر بلنسية، وفيها حصن عربي عظيم استولى عليه جاك الأول - ملك أراغون - سنة 1235، وله برج عال ارتفاعه ثلاثون مترا. ومن شارقة
5
إلى الغرب واد خصيب، وهناك بلدة إشكرب التي مر ذكرها. وكان يقال لشارقة «قلعة الأشراف»، وقد ورد ذكر شارقة في معجم البلدان قال: حصن بالأندلس من أعمال بلنسية في شرقي الأندلس، ينسب إليها رجل من أهل القرآن يقال له الشارقي، اسمه أبو محمد عبد الله بن موسى، روى عن أبي الوليد يونس بن مغيث بن الصفا عن أبي عيسى عن عبد الله بن يحيى بن يحيى. انتهى.
وينسب إلى شارقة أبو المطرف عبد الرحمن بن العاصي الأنصاري الخزرجي من ولد سعد بن عبادة، روى عن أبي الوليد الباجي، سمع منه بسرقسطة صحيح البخاري سنة 463، كان فقيها جليلا، ولي الأحكام ببلده شارقة ولابنه محمد بن عبد الرحمن رواية أيضا، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن أبي العاصي بن يوسف بن فاخر بن عتاهية بن أبي أيوب بن حيون بن عبد الواحد بن عفيف بن عبد الله بن رواحة بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، ترجمه ابن الأبار وقال أنه قرأ نسبه بخطه ونقله منه، وهو من أهل شارقة قلعة الأشراف عمل بلنسية، صحب أبا الوليد الوقشي، وله رواية عن أبي محمد بن السيد، روى عنه ابنه العاصي الحكم بن محمد، وتوفي في نحو العشرين وخمسمائة.
من ينسب إليها من أهل العلم
وممن ينسب إلى شارقة ابن حبيش، وهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن أبي عيسى الأنصاري، يكنى أبا القاسم، انتقل جده عبد الله من شارقة إلى المرية، فنشأ المترجم في المرية، وتفقه بأبي القاسم بن ورد، وأبي الحسن بن نافع، وأخذ العربية عن أبي عبد الله بن أبي زيد، ورحل إلى قرطبة سنة 530، فسمع بها من بقايا رجالها أبي الحسن بن مغيث، وأبي عبد الله بن مكي، وأبي عبد الله بن أصبغ، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وسمع من القادمين إليها كالقاضي أبي بكر بن العربي وغيره، وأجاز له أبو الحسن شريح بن محمد، وأبو الوليد بن بقوة، وأبو بكر بن مدير، وأبو الفضل بن عياض، وكتب إليه من الإسكندرية أبو طاهر السلفي، وأقام بقرطبة نحوا من ثلاثة أعوام يسمع الحديث والغريب، ثم انصرف إلى وطنه المرية، فلما تغلب النصارى عليها أول مرة سنة 542 خرج منها إلى مرسية فأقام بها قليلا، ثم انتهى إلى جزيرة شقر فأوطنها وولي بها الصلاة والخطبة والأحكام نحوا من اثنتي عشرة سنة.
ثم إنه في سنة 556 نقل من جزيرة شقر إلى مرسية خطيبا بجامعها، فالتزم ذلك مناوبا لأبي عبد الله بن سعادة، وأبي علي بن عريب، وسنة 575 تولى قضاء مرسية، وكان محمود السيرة معروف النزاهة لا ينعى عليه إلا حرج في خلقه، وكان آخر أئمة المحدثين بالمغرب، والمسلم له في حفظ غريب الحديث، ولغات العرب وتواريخها ورجالها وأيامها، لم يكن أحد من أهل زمانه يجاريه في معرفة رجال الحديث وأخبارهم ومواليدهم ووفياتهم.
وكان خطيبا فصيحا حسن الصوت، وله خطب حسان في أنواع شتى، ونقل ابن الأبار عن أبي عبد الله بن عياد أنه كان صارما في أحكامه جزلا في أموره، مكرما لأصحابه منوها بهم، وكانت الرحلة إليه في وقته، وطال عمره حتى ساوى الأصاغر الأكابر في الرواية عنه، واقتضب صلة ابن بشكوال وعلق عليها، ولم يؤلف في الحديث على كثرة تقييده غير مجموع في الألقاب صغير، ولكن له كتاب في المغازي في مجلدات، وكانت ولادته في المرية في النصف من رجب سنة 504، وكان يكره أن يسأله أحد عن مولده، وكانت وفاته بمرسية على رأس الثمانين من عمره ضحى يوم الخميس الرابع عشر من صفر سنة 584، ودفن خارج باب ابن أحمد إزاء مسجد الجرف في موضع مطل هناك كان يرتاح إلى الجلوس فيه، وصلى عليه أبو حفص الرشيد - أمير مرسية - وكانت جنازة لم يشاهد مثلها حتى كاد يهلك فيها ناس من كثرة الزحام. عن ابن الأبار.
ومن مشهورات المدن التي كانت في عمل بلنسية مدينة البونت: (10) البونت
Funte la Higuero
وهي بلدة عالية بينها وبين بلنسية مائة كيلومتر، وأهلها اليوم لا يزيدون على أربعة آلاف، وهي في الجبل معدودة من الصرود، وبردها شديد في الشتاء، وليس فيها أشجار نظير الجروم والسواحل، بل أكثر غراسها الكرم، وطريق الحديد يصل إليها في نفق تحت الأرض طوله 1514 مترا، وقد مررت من هناك راجعا من بلنسية إلى مجريط في أثناء رحلتي إلى الأندلس سنة 1930، فرأيت أن البونت يصح أن تكون مصطاف بلاد بلنسية التي يشتد فيها الحر في فصل الصيف؛ لأن الجبال العالية في شرقيها وشماليها حاجز بينها وبين الهواء البارد، وقد ذكر ياقوت في معجم البلدان هذه البلدة في مكانين فقال: «بنت» - بالضم ثم السكون وتاء مثناة - بلد بالأندلس من ناحية بلنسية، ينسب إليها أبو عبد الله محمد البنتي البلنسي الشاعر الأديب. ا.ه. ثم قال في مكان آخر: «البونت» - بالضم والواو والنون ساكنان والتاء فوقها نقطتان - حصن بالأندلس، وربما قالوا: البنت، وقد ذكر. ينسب إليه أبو طاهر إسماعيل بن عمران بن إسماعيل الفهري البنتي، قدم الإسكندرية حاجا، ذكره السلفي، وكان أديبا أريبا قارئا. وعبد الله بن فتوح بن موسى بن أبي الفتح بن عبد الله الفهري البنتي أبو محمد، كان من أهل العلم والمعرفة، وله كتاب في الوثائق والأحكام، وله أيضا رواية، توفي في جمادى الآخرة سنة 462. انتهى.
6
من ينسب إليها من أهل العلم
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن سعيد بن عقال الفهري، وستأتي ترجمة والده أبي عبد الله محمد.
وأبو محمد عبد الله بن فتوح بن موسى بن عبد الواحد الفهري البونتي، قال ابن عميرة في بغية الملتمس: له كتاب حسن مفيد جمع فيه الوثائق والمسائل من كتب الفقهاء.
وأبو النصر فتوح بن موسى بن أبي الفتوح بن عبد الواحد الفهري، وهو والد الأول روى بطليطلة عن أبي نصر فتح بن إبراهيم، وأبي إسحاق بن شنظير، وصاحبه أبي جعفر، وأبي بكر محمد بن مروان بن زهر، وغيرهم، قال ابن بشكوال في الصلة: وقد أخذ عنه ابنه عبد الله.
وأبو عبد الله محمد بن سليمان بن مروان بن يحيى القيسي، يعرف بالبونتي، سكن بلنسية، روى عن أبي داود المقرئ، وأبي عبد الله بن فرج، وأبي علي الغساني، وأبي الحسن بن الروش، وأبي علي الصدفي وغيرهم، وكانت له عناية كثيرة بالعلم والرواية وأخبار الشيوخ وأزمانهم ومبلغ أعمارهم، وجمع من ذلك كثيرا. قال ابن بشكوال: ووصفه أصحابنا بالثقة والدين والفضل، وتوفي بالمرية ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر من سنة 536.
وأبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن سعيد بن عقال الفهري، ولي قضاء بلده للحاجب نظام الدولة أبي محمد عبد الله بن محمد بن قاسم، ثم لولاة لمتونة بعد ذلك، وهو من أهل المعرفة والنباهة، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة، ومن أهل العلم ابنه عبد الله، وقد تقدم ذكره.
وأبو بكر محمد بن عبد الله البونتي الأندلسي الأنصاري ترجمه المقري في نفح الطيب في جملة الراحلين إلى المشرق، قال: قدم مصر وأقام بالقرافة مدة، وكان شيخا صالحا زاهدا فاضلا، وتوجه إلى الشام فهلك. قال الرشيد العطار: وكان من فضلاء الأندلسيين ونبهائهم، ساح في الأرض ودخل بلاد العجم وغيرها من البلاد البعيدة، وكان يتكلم بألسنة شتى.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قاسم بن علي بن قاسم بن يوسف - أمير الأندلس قبل بني أمية - ابن عبد الرحمن الفهري، كان يلقب يمن الدولة، وكان رئيسا بقلعة البونت من أعمال بلنسية؛ مقر آبائه الرؤساء، وله صنع أبو محمد بن حزم رسالته في فضل أهل الأندلس وأطال الثناء عليه وعلى سلفه - رحمهم الله. ا.ه. من كلام ابن الأبار في التكملة. قلت: ومن سلالة هذا البيت بنو الجد الفهريون بفاس اليوم، وهم بيت مجد وعلم وفضل، ترجمهم مولاي سليمان - أحد سلاطين المغرب - في مؤلف خاص، ولا تزال إلى عهدنا هذا تظهر منهم النوابغ، ومنهم في هذا العصر السيد العبقري علال الفاسي - من أقطاب الحركة الوطنية المغربية - الذي نفته السلطة إلى القابون من بلاد خط الاستواء، ومنهم السيد محمد الفاسي - المدرس اليوم برباط الفتح - وهو من جلة أدباء العصر على الإطلاق.
وأبو محمد عبد الله بن الفضل بن عمر بن فتح اللخمي البونتي، سكن دانية، روى عن أبي الوليد الوقشي، وأبي عبد الله بن رولان، وتأدب بهما، وقعد لإقراء العربية ببلنسية، وكان أديبا جليلا ذا حظ من اللغة والنحو والشعر، بارع الخط، رائق الوراقة، أخذ عنه أبو عبد الله بن سعيد الداني وغيره، وتوفي بميورقة بعد التسعين والأربعمائة.
وأبو محمد عبد الله بن مفرج بن موسى بن أبي الفتح بن عبد الواحد الفهري، وهو ابن أخي فتوح بن موسى الفهري الذي تقدمت ترجمته . (11) قرى بلنسية
ومن قرى بلنسية قرية يقال لها: «شبرب»، قرأ بجامعها عبد الله بن أحمد بن نام الصدفي كتاب التمهيد لأبي عمر بن عبد البر سنة 483.
ومن قرى بلنسية قرية ذكرها ابن الأبار يقال لها: «شون»، لم نعلم حتى الآن كيفية لفظها عند الإسبانيين، وقد ورد في الإحاطة لابن الخطيب أنها قرية من إقليم ألبيرة، فيظهر أنها قرية أخرى بهذا الاسم؛ لأن لسان الدين بن الخطيب كان يعرف جيدا إقليم ألبيرة، وذلك أن إقليم ألبيرة هو إقليم غرناطة، ولسان الدين هو وزير غرناطة وأعلم الناس بأمرها، وكذلك ابن الأبار القضاعي صاحب التكملة هو أدرى الناس بأخبار بلنسية وإقليمها. هذا وقد انتسب إلى شون البلنسية أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن غزلون بن مطرف بن طاهر بن هارون بن عبد الرحمن بن هاجر بن الحسين بن حرب بن أبي شاكر الأنصاري، رحل حاجا سنة 563، وأدى الفريضة في السنة التي بعدها، وحج ثلاث حجات متواليات، ولقي في الإسكندرية أبا طاهر السلفي، وتوفي بمربيطر سنة 574 ودفن ببلنسية. وأما شون التي من إقليم ألبيرة فينسب إليها أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي القاسم الأزدي، تأتي ترجمته إن شاء الله عند الوصول إلى غرناطة.
ومن قرى بلنسية «شيركة»، ذكره ياقوت في المعجم وقال: إنه حصن بالأندلس من أعمال بلنسية.
ومن أعمال بلنسية «المنارة»، ذكرها ياقوت في معجم البلدان، وجعلها من ثغور سرقسطة، والذي أعلمه أنه يوجد قرية اسمها المنار بقرب «بلغي» من عمل لاردة، وهما اليوم من أعمال كتلونية، ولكن في زمان العرب كانت لاردة ومضافاتها تابعة لسرقسطة. وأما قول ياقوت إن المنارة بالتأنيث هي من ثغور سرقسطة، فلا يمنع أن تكون من أعمال بلنسية؛ فإن الثغور تكون دائما على الحدود بين مملكتين، وإن كثيرا من هذه الثغور كانت تتبع أحيانا المملكة الواحدة وأحيانا تكون تابعة للمملكة الأخرى. وعلى كل حال فقد ذكر ياقوت من أهل العلم أبا محمد عبد الله بن إبراهيم بن سلامة الأنصاري المناري، ذكره السلفي أنه كان يسمع عليه الحديث سنة 530، وأنه كان سمع بالأندلس على أبي الفتح محمد المناري. وذكر ياقوت أيضا رجلا اسمه علي بن محمد المناري، كان من أصحاب أبي عبد الله المغامي.
ومن قرى بلنسية «بتة» التي ينسب إليها أحمد بن عبد الولي البتي أبو جعفر، كاتب شاعر لبيب، أحرقه القمبيطور - لعنه الله - حين غلب على بلنسية سنة 488، ذكره الرشاطي في كتابه عن بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، لأحمد بن يحيى بن عميرة الضبي.
ومن قرى بلنسية «شريون» - بضم أوله وكسر ثانيه وتشديد الياء - حصن من حصون بلنسية، نسب إليها أبو طاهر السلفي المحدث المعمر المشهور الذي كان بالإسكندرية أبا مروان عبد الملك بن عبد الله الشريوني، تفقه على أبي يوسف الرياني على مذهب مالك.
وينسب أيضا إلى شريون أبو الحجاج يوسف بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عدبس الأنصاري، روى عن أبي عمر بن عبد البر، وسمع بطليطلة من أبي بكر جماهر بن عبد الرحمن وغيره، وسكن طليطلة مدة حدث عنه أبو عامر بن حبيب الشاطبي، توفي بفاس منتصف شوال سنة 505.
ومن البلاد المنسوبة إلى بلنسية «أندارة»، وقد ذكرنا في هذا الكتاب بعض العلماء المنسوبين إليها، وجاء ذكرها في التكملة لابن الأبار على أنها قرية من القرى، ولكن أبا عبد الله محمد بن عبد الله الحميري في كتابه «الروض المعطار» يقول إنها مدينة عظيمة في شرقي الأندلس خربها البربر.
هوامش
مذكرة بقلمنا عن رحلتنا إلى مرسية وبلنسية
وجدنا من جملة كناشاتنا دفتر جيب نقول فيه:
في 22 أغسطس (1930) الساعة الواحدة ونصف الساعة بعد الظهر، سار بنا القطار الحديدي من مرسية إلى قرطاجنة، وقد مررنا بجنان مرسية النادرة النظير في الدنيا بما فيها من التين والرمان والبرتقال ومزروعات الزعفران وغيرها. وأول محطة وصلنا إليها محطة يقال لها «بنياخان »، وأصل الاسم «بنياجان» بالجيم، ولكن الإسبانيين يقلبون الجيم خاء كما لا يخفى، فنصف الاسم عربي، وهو «بني» والنصف الآخر إسبانيولي، والأقرب أنه محرف عن اسم عربي قديم ، ومن الغريب اجتماع الضدين في تلك البقعة كما في دمشق، فإن الجبال فوقها كجبل قاسيون وغيره جبال جرد وهضاب صلع، لا يكاد يرى فيها الناظر أدنى نبات، وحذاءها غوطة دمشق التي تضرب بها الأمثال، وهنا الحالة بعينها، فإذا نظرت إلى ما فوقك عن الشمال رأيت جبالا جردا وهضابا صلعا لا يقع نظرك فيها على شجرة واحدة ولا على غصن أخضر، وإذا نظرت عن يمينك وقع نظرك على جنان يصح أن يقال فيها إنها جنان الله في أرضه في عظمة أشجارها والتفاف أدواحها وتهدل ثمارها وتفجر أنهارها.
ثم مررنا بمحطة يقال لها «القرية
Alqueria »، وهذه لفظة عربية لا جدال فيها، ولم نلبث أن خرجنا من وسط الجنان إلى أرض قاحلة، ومررنا بين أهاضيب جرد قليلة النبات، وإذا بنا وصلنا إلى محطة يقال لها «قنطرة
Cantera »، وما زلنا نسير في أرض جرداء بيضاء اللون لا نجد في أطرافها إلا بعض زياتين متفرقة إلى أن وصلنا إلى محطة يقال لها «ريكلمه
Riquelma »، ثم أفضينا إلى سهل أفيح فيه شجر زيتون صغير، ووقفنا في محطة يقال لها «بالسيكا
Balsiga »، ثم سرنا في هذا السهل وقد كثر فيه الشجر، ووقفنا في محطة «باشيقو
»، ثم في محطة أخرى يقال لها «بارو دو بارال
Barro De Paral »، ولم يزل السهل يتسع أمامنا، وقد كثر فيه الزرع والشجر.
وفي الساعة الثالثة والنصف دخلنا قرطاجنة.
قرطاجنة
وهي مرسى حربي في جون طبيعي محاط من كل الجهات بجبال عليها قلاع، وفي داخل الجون مدينة هي قرطاجنة
CARTHAGENA ، ولم أجد في هذه المدينة آثارا عربية ظاهرة مع أن العرب عمروها كسائر مدن الأندلس، ولم يتسع لي الوقت أن أنقب عن آثار العرب فيها؛ لأني بت فيها ليلة واحدة وثاني يوم 23 أغسطس رجعت على طريق مرسية قاصدا مدينة القنت، فوصلنا إلى محطة مرسية نفسها، ونزلنا من القطار، وركبنا قطارا آخر قاصدين القنت، فأول محطة وقف القطار بها اسمها «بنيال
Beniel »، والراجح أن اسمها من أصل عربي، ولكني لم أتبين هذا الأصل، ثم وصلنا إلى محطة أوريولة، وهي المدينة المشهورة، وكان لها اسم آخر، وهو تدمير، ومرجها هو الغاية في الخصب، والقنب فيه بكثرة، ثم مررنا بمحطة بلدة اسمها «قلوزة شقوره
Callosa Segira »، وقبل الوصول إلى هذا المحط رأيت غابة نخيل وقنبا كثيرا. وبعد اجتيازنا قلوزه هذه لم نزل نشاهد شجر النخل وكذلك الزيتون، وكيفما توجه الإنسان في الأندلس لا بد أن يرى الزيتون.
ثم وصلنا إلى «الباترة
Albatra »، والنخيل بها كثير إلى الغاية، والسهل مد النظر، والجبال الجرد محيطة بالمروج الغناء، وتسمى الجبال التي في الشمال جبال «كريفيلانت
Crevilente »، والتي في الجنوب جبال «قلوزة»، ولو لم يكن للعرب جاذب إلى هذه البلاد سوى هذا النخل الكثير لكفى، ويكثر أيضا في هذه البقعة شجر الرمان.
ثم وصلنا إلى كريفيلنت، ولها سهول خصبة وكروم متسعة وزيتون ورمان وخروب، وكل ذلك من الكثرة بمكان. ثم وصلنا إلى محطة «ألش
Elche »، وفيها غابة نخل لا يوجد مثلها في الأندلس، تخيل لك أنك في أفريقية أو في جزيرة العرب، ورأيت بين النخل أناسا يصنعون الحبال كما يصنعونها في مزة الشام وفي ألش خروب ورمان وزيتون، وكله لا ينقطع.
ثم وصلت إلى القنت الساعة الثانية عشرة ونصف الساعة، فرأيتها بلدة لطيفة خفيفة على الروح أخف جدا على الروح من قرطاجنة، وبمدخلها أيضا غابة من النخل، وللبلدة مرسى لطيف على البحر له رصيف منتسقة فيه صفوف من النخل. ووراء القنت جبل عليه حصون، وهو قريب من البحر يكاد يتدلى إلى الماء.
سافرت الساعة الثامنة والنصف من القنت إلى دانية في قطار حديدي صغير يجري على خط ضيق، فذهب بنا إلى الشمال على شاطئ البحر، ولم يمض إلا قليل حتى دخلنا في كروم زيتون وعنب يسقى بجداول، ومررنا بعد ذلك بغيضة نخل، ورأينا كثيرا من الخروب والسهل منبسط ترابه أبيض ينتهي إلى سلسلة جبال عالية، فالذي يرى هذا النخل كله لا يظن أنه في قارة أوروبة. وبعد نحو ساعة من مسيرنا دخلنا في أرض ذات آكام قاحلة وأودية يابسة، ثم لم تزل هذه الآكام تصاحبنا والبحر من جهة أخرى يصاقبنا، حتى رجعت الأشجار تظهر شيئا فشيئا، لا سيما الخروب والزيتون واللوز. وقد وقف بنا القطار في ثلاث محاط، وذلك في مسيرة ساعة واحدة، وكانت المحطة الثالثة عند مدينة صغيرة فوق البحر اسمها «فيلا كويوزا»، ثم عبرنا على جسر عال فوق نهر يابس عميق، وسرنا في أرض تربتها بيضاء، والخروب واللوز هناك بكثرة زائدة، وهذان الصنفان من الشجر يكثران في الأراضي الناشفة.
ثم سألت من رافقني في القطار من أهل فيلا كويوزا هل عندهم آثار عربية في بلدتهم، فقالوا: لا نعرف سوى أن الكنيسة كانت في الأصل جامعا. ثم وقفنا في محطة يقال لها «بني دورم
Beni Dorm »، ونظنها بني دارم في الأصل تحرف لفظها بلسان الإسبانيول، وفي الجوار قرى كثيرة أسماؤها بني وبني؛ أي أسماء عربية، وهي: بني منتل، وبني فايو، وبني أرطاة، وبني أرفيح، وبني اليوبة، وبني دوليش، وبني أرنبيش، وغيرها، مما ظهر لنا أصله العربي مثل بني أرطاة، ومما لم يظهر، وربما كانت هناك عائلات إسبانية من الأصل استعربت بجوار العرب، فأطلقوا عليها لفظة بني؛ ولهذا أمثال مثل بني «قسي» في شرقي الأندلس وبني «أنجلينو»، وبني «سباريكو» في إشبيلية وغير ذلك.
والأراضي في كل هذه المسافة ليست فيها مياه جارية وترابها أبيض، إلا أننا نحو الساعة العاشرة ونصف الساعة وصلنا إلى قرية لطيفة مشرفة على البحر لها آكام رفيعة تتخللها زرائع تسقى من عيون جارية، واسم هذه القرية «ألطيه
Altea »، ومن يدري فقد تكون محرفة عن آل طي، فإن المقري في النفح يقول: إن منازل طي بقبلي مرسية.
ثم وقفنا بمحطة قرية اسمها «قليوزه
Caliosa de Ensarria »؛ أي الأنصارية بلا شك؛ لأن القبائل التي كانت تنسب إلى الأنصار من عرب الأندلس لا تعد ولا تحصى، ولهم أماكن تعرف بهم. ثم دخل القطار في جبال صخرية قريبة من البحر، ووصلنا إلى محطة يقال لها «كلب
Calape »، وأمامها سهل صغير ممتد إلى البحر، ثم بعده جبل ناتئ من نفسه في البحر شاهق يرتفع عن البحر نحوا من أربعمائة متر كأنه جبل طارق صغير.
ثم وصلنا إلى محطة يقال لها «بنيسه
Benisa »، وأظنها محرفة عن بني سعد، وهي عذي، وفيها كروم وزياتين، ورأيت فيها نواعير تدور دواليبها على الحيوانات كنواعير ساحل الشام. ثم وقفنا بمحطة يقال لها «طولاذه
Teulada »، والإسبان يلفظونها بالذال المعجمة، ثم دخلنا في جبال صخرية بغاية الوعورة، ومررنا بنفق تحت الأرض، وشاهدنا بلدة اسمها «حافية» في سفح جبل اسمه «برنيا»، وسمعت الأهالي يلفظون الحاء كما نلفظها - نحن العرب - لا كما يلفظها الإفرنج؛ أي هاء.
ثم وصلنا إلى محطة بلدة اسمها «غاته
Gata »، فهل أصلها قاته أو هي محرفة لا نعلم أصلها. ثم مررنا وراء الجبل المشرف على البحر، وأخذت الأرض هناك تميل إلى الحمرة، لكن الخروب لا يزال كثيرا، وكذلك اللوز، وكذلك كروم العنب، وشاهدت مساطيح الزبيب كما هي عندنا في جبل لبنان.
وفي الساعة الثانية عشرة نهارا وصلت إلى دانية، وهي اليوم بلدة صغيرة لها حصن على رأس رابية مشرفة على البحر تعلو عنه 30 أو 40 مترا، وهذا الحصن من بناء العرب، ووراء دانية جبل يعلو خمسمائة متر عن البحر، وبسفوحه قرى عامرة وجنان زاهرة. علمت أنه انكشف مؤخرا في دانية مقبرة عربية، فنسفوها كلها وأهدوا حجارتها متحف بلنسية.
هذا الخط كله شديد الحرارة في الصيف: مرسية، وأوريولة، وقرطاجنة، والقنت، ودانية، إلا الأماكن الجبلية، وفي النهار قد تهب ريح تخفف الحرارة، إلا أن هذه الريح قد تنقطع ليلا فلا يمكن النائم أن يقبل الغطاء، وقد بت ليلة واحدة في مرسية، وليلة في قرطاجنة، وليلة في القنت، وليلة في دانية، وما أتذكر أنني قدرت أن ألقي على نفسي لحافا أو غطاء مهما كان رقيقا، وكنت مع ذلك أترك النوافذ مفتوحة، وأحيانا أترك الباب أيضا مفتوحا؛ حتى أتمكن من الرقاد، فلا عجب إن كان العرب أحبوا هذه السواحل وعمروها؛ لأنهم آتون من الأقاليم الحارة.
في 25 أغسطس ركبت الساعة الثامنة صباحا قطارا قاصدا شاطبة فبلنسية، فمررنا بكروم وزياتين كثيرة، وشاهدت مساطيح الزبيب، ثم أخذنا نمر ببساتين البرتقال، ووقفنا بثلاث محاط أهمها محطة «أوليفا
Oliva »، وهي بلدة صغيرة لطيفة تغطيها بساتين البرتقال، ووراءها إلى الشمال الجبل، ثم وصلنا إلى «كنديا
Gendia »، وأظنها البلدة التي يسميها العرب «أندة» المحفوفة بأجمل بساتين بلنسية، وهي على مسافة أربعة كيلومترات من البحر. ثم بعد أن تجاوزناها نحو بلنسية ضاق السهل بين الجبل والبحر، ثم وقفنا في محطة «جاراكو
Jaraco »، ثم وصلنا إلى طبرنة، وهي في سفح جبل تحف بها البساتين والكروم، ثم وقفنا في محطة «بلدينية
Valdiagna »، ثم في محطة «لابراقه
Labarraca » لعلها البراقة، ولكن لم أجد هذا الاسم في كتب العرب. ومن قبل أن نجتاز طبرنة كان الخروب متصلا، وكذلك حراج الصنوبر، ولم نزل كذلك نشاهد هذه الحراج إلى أن قاربنا بلنسية، فعندها دخلنا بين بساتين البرتقال، ورأينا كثيرا من شجر النخل، ونزلنا بمحطة «قرقاجنت
Carcagente ».
ثم سرنا بقطار آخر إلى بلنسية، فرأينا غوطة بلنسية الشهيرة، وهي كلها مغطاة بالبرتقال والتوت وأصناف الفواكه والزرائع، والماء يجري في الجداول من كل نواحيها، ثم وقفنا في جزيرة شقر ويقولون لها «السيرة
Alcira »، وهي على نهر صغير هو نهر شقر، ومرج بلنسية شبيه بمرج غرناطة في الخصب وكثرة الشجر والزراعات، لكنه أكثر دوحا من مرج غرناطة، وفيه القرى الكثيرة كما في غوطة دمشق، وتخيلت نفسي بإزاء بساتين البرتقال كأني في بساتين صيدا أو يافا أو طرابلس الشام، إلا أن رقعة بساتين بلنسية أوسع. ثم وقفنا بمحطة «الجنيت
Algenet »، وهناك خف الشجر، وصار أكثر المرج مباقل وزراعات حبوب متنوعة.
ثم وقفنا بمحطة يقال لها «بني فيو
Beni-Fayo » ظهر لنا منها برج عربي بقرب سكة الحديد، ورأيت برجا عربيا آخر في وسط البلدة. ولا أعلم أصل كلمة بني فيو، وإنما أظن أنها بني حيو، وأن حيو مرخم عن حيون، والترخيم كثير في العربي لا سيما في المغرب.
هذا ومن بعد أن تجاوزنا بني فيو قاصدين بلنسية انقطعت البساتين بعض الشيء، وصارت الأشجار من الخروب والزيتون، ولكن لم تلبث خضرة السقي أن رجعت وظهرت آثار الوادي الأبيض . ثم وقفنا بمحطة بلدة اسمها «سيلا
Silla »، ولا شك أنها أسيلة التي ذكرها ابن الأبار. ثم وقفنا في محطة بلدة اسمها «كاتاروجه»، ولم يظهر لي أصلها، ثم وقفنا بمحطة بلدة هي أقرب أرباض بلنسية إلى نفس المدينة، وهذه المحطة هي «الفافار
Alfafar » وبني توزر، فأما الفافار فأظنها محرفة عن الحفار أو الحفر؛ لأنهم يقلبون الحاء فاء، كما قالوا في البحيرة البفيرة، وأما توزر فهو اسم بلدة في إفريقية في نواحي الزاب الكبير من أعمال الجريد، وهي كثيرة النخل والبساتين، فلعل الذين عمروا هذه البلدة كانوا من ناقلة توزر، ثم وصلنا إلى بلنسية نحو الساعة الثانية عشرة، فكانت المسافة إليها من دانية بالقطار الحديدي أربع ساعات. وبلنسية ثالث مدينة في إسبانية من جهة العظمة، لا يوجد أعظم منها سوى مجريط وبرشلونة، وهي قد خلعت عنها الثوب العربي تماما، فإني لم أجد فيها آثارا عربية قديمة كما وجدت في طليطلة وإشبيلية وقرطبة وغرناطة، بل كل ما وجدته من آثار العرب أبراج وبوابات معدودة. ثم إني وجدت في المدن الأخرى - لا سيما في إشبيلية - أبنية محدثة قلدوا فيها طراز البناء العربي، ولكن لم أجد شيئا من ذلك في بلنسية، وإنما سمعت الموالية العربية باللغة الإسبانية في المقاهي بواسطة الحاكي؛ أي الكراموفون. ا.ه. فهذا ما وجدته في دفتر جيب محفوظ عندي عن انطباعات ذهني بما رأيته من مرسية إلى بلنسية.
ثم وجدت أيضا تقييدات في الدفتر نفسه عن مسيرتي من بلنسية إلى مجريط، وذلك بعد أن ذهبت من بلنسية إلى الجزائر الشرقية، وأقمت بميورقة نحوا من عشرين يوما، فرجعت إلى بلنسية، ومنها قصدت مجريط، وطريقها إلى مجريط هي غير طريق مرسية، فها أنا ذا أنقل ما قيدته يومئذ من لمحاتي؛ قلت: في الساعة العاشرة قبل الظهر ركبت القطار من بلنسية قاصدا مجريط، فبقي يخب بنا في غوطة بلنسية بين زرائع متنوعة وأشجار ملتفة الغالب عليها البرتقال، والجداول والأنهار تشق هذه الغوطة من كل جهة، ثم إنه بعد مسير ساعة بالسكة الحديدية وصلنا إلى أوعار تغير فيها النسق، وانقطعت النسبة، ولكن هذه الأوعار لم يطل أمرها حتى رجعنا إلى مرج أخضر ذي زرائع وكروم من عنب ورمان وتوت، والجداول تسقيها أيضا. ثم وقفنا في محطة شاطبة، وهي بلدة بين المرج والجبل، فالمرج أمامها والجبل وراءها، وعلى الجبل قلعتان شاهقتان، واسم الجبل «برنيسا
Bernisa »، والمرج كله من بلنسية إلى شاطبة معمور بالقرى أشبه بغوطة الشام. ثم انتهينا من المرج، وسرنا إلى الوعر، ووقفنا بمحطة بلدة فيها قلعة قديمة عظيمة يقال لها «منتيشة» وبالإسبانيولي
Montesa ، وقد ذكر هذه القرية صاحب نفح الطيب وقال: إنه ينسب إليها عدد من العلماء، لكنه لم يذكر منهم أحدا.
فأما ياقوت في معجم البلدان فقد ذكر منتيشه بالفتح ثم السكون وكسر التاء المثناة من فوقها وياء وشين معجمة، قال: إنها مدينة بالأندلس قديمة من أعمال كورة جيان، حصينة مطلة على بساتين وأنهار وعيون، وقيل إنها من قرى شاطبة (وهو الصحيح)، منها أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياض المخزومي الأديب المقرئ الشاطبي، ثم المنتيشي، روى عن أبي الحسن علي بن المبارك المقري الواعظ الصوفي المعروف بأبي البساتين، روى عنه أبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن الدباغ الحافظ. ا.ه.
ثم مررنا بقرية «الكدية»، وهي على 63 كيلومترا من بلنسية، ولا يخفى أن اسم الكدية عربي، ومعنى الكدية: الأرض الغليظة، وتأتي أيضا بمعنى الصفاة العظيمة الشديدة. ثم نحو الساعة الثانية عشرة وقفنا عند محطة بلدة اسمها «موجنتا»، وقد ورد في دليل بديكر أنها مدينة قديمة بناها العرب، وفيها حصن باقية آثاره، وهي على 82 كيلومترا من بلنسية، وأرضها في غاية الخصب، وقد كثر الزيتون هنا بدلا عن الخروب.
ثم وقفنا بمحطة في الوعر اسمها «باريلا
»، ثم صعدنا في الجبل وما برحنا في التصعيد حتى وصلنا إلى نفق طويل 1500 متر، ومن قبله مررنا بنفق قصير، والجبل هناك يقال له جبل مارياكا، فاصل بين «شارة إنقيرة
Sierra de Ingeurra » في الشمال الغربي، وشارة «غروزه
Grosa » في الجنوب الشرقي، وعلى مسافة مائة كيلومتر وصلنا إلى مدينة البونت، وسكانها اليوم أربعة آلاف نسمة ، وهي في مكان عال، والفرق بين البونت، وبلنسية هو فرق الصرود عن الجروم، وهناك الأشجار نادرة؛ فالأرض مغطاة بكروم العنب.
ونحو الساعة الثانية عشرة وثلاثة أرباع الساعة وصلنا إلى محطة «إنسينا
Encina »، وهي ملتقى الخطين: الخط الحديدي الآتي من بلنسية إلى مجريط، والخط الآخر الآتي من القنت إلى مجريط. ثم في الساعة الواحدة وربع الساعة وصلنا إلى بلدة يقال لها: «المنصا
Almansa »، وهي بلدة عربية يسير إليها طريق الحديد في جبال عالية، وأما نفس البلدة؛ فهي واقعة على بسيط من الأرض، والجبال تحيط بذلك البسيط، ولها صخرة مرتفعة مشرفة، فوقها حصن قديم، وفيها حوض ماء من بناء العرب طوله ألفا متر وعرضه ألفا متر وعمقه ثمانون مترا، وقد بني هذا الحوض على شكل سد بين الجبلين كلما ارتفع السد نحو الجبل انخفض البناء، فهذا الحوض يقال له في العربية: «المصنع»؛ ولذلك نقول بلا تردد: إن «المنصا» هي مقلوب مصنع، ويظهر أن الماء قليل هناك والأرض في غاية الخصب، فأحدث العرب هذا المصنع لأجل ري الأراضي، ولكنه الآن في حالة الخراب.
وقبل الساعة الثانية وصلنا إلى محطة بلد يقال له: «ألبيرة
Alpera »، وفي هذا البلد يوجد كهفان فيما سمعت منقوش فيهما على الصخور صور حيوانات ورجال يقال إنها باقية من العصر الجليدي، وفي تلك النواحي يكثر شجر البلوط، وقد بقينا نحو ساعتين في القطار نسير في بسائط من الأرض مرتفعة، وكلها من الأراضي الجيدة التي تزكو مزروعاتها. والساعة الثانية وثلاثة أرباع الساعة وصلنا إلى «شنجالة
Chinchilla »، وهي من المدن التي كانت عامرة في زمان العرب، وسيأتي ذكرها، وهي اليوم ملتقى سكتي الحديد اللتين إحداهما تذهب إلى مرسية والأخرى إلى قرطاجنة.
وفي الساعة الثالثة مررنا بقرية اسمها «سيلا»، ثم وصلنا إلى «البسيط»، وهي مدينة صغيرة منقسمة إلى قسمين: الأعلى والأدنى؛ فالحارة العليا هي الحارة القديمة والحارة السفلى هي الحارة العصرية. وأراضي هذه البلدة بسائط لا نهاية لها، فهي اسم على مسمى. وفي ما بعد البسيط إلى الشمال قناة ماء تسمى قناة «سان جورج»، وقناة أخرى تسمى قناة «ماريا كريستيا»، تنحدر مياهها إلى مستنقعات واقعة في أراضي البسيط، تتولد منها حميات. ثم وصلنا إلى «مينيا»، وفي الساعة الرابعة وصلنا إلى «الروضة»، ثم في الرابعة ونصف الساعة وصلنا إلى بلدة يقال لها: «فيلا روبلادو
Villarrobledo »، وفي هذه البلدة عشرة آلاف نسمة، وفيها شجر البلوط بكثرة، ومنه اشتق اسمها. والأرض هناك سهول مد النظر.
ثم وصلنا إلى بلدة اسمها «سوق وليم»، وبالإسبانيولي
Socuéllamos ، ثم مررنا ببلدة اسمها «كريبتانا
Criptana »، وهي قصبة فيها ثمانية آلاف نسمة، وفيها مطاحن كثيرة وزراعة، ولكن سوق وليم فيها حراج من شجر البلوط له ثمر حلو مرغوب فيه، ثم وصلنا إلى مدينة «القصر
Alcazar de San Juan »، منها يذهب الخط الحديدي إلى الأندلس؛ أي إلى جنوبي إسبانية. وسبب تسمية هذه البلدة بالقصر هو أن العرب كانوا بنوا فيها حصنا عظيما، ثم لما استرجع الإسبانيول بلاد الأندلس جعل فرسان ماريوحنا مقرهم في هذا الحصن، واليوم سكان هذه البلدة اثنا عشر ألفا، وفيها معامل لاستخراج البوتاس والسودا؛ لأن هذين المعدنين يوجدان في جوارها، وفيها تجارة عظيمة للخمر. ثم في نحو الساعة السادسة ونصف الساعة وقف بنا القطار في «عرنجويز» ا.ه.
وأضيف إلى ذلك أنه من بلدة القصر إلى الشمال يمر المسافر على بلدة يقال لها «فيلاكانا
Villacanas »، وهي صغيرة، ستة أو سبعة آلاف نسمة، معيشة أهلها من الغنم، وأرضها ليست بعذى، بل هي تشرب من الجداول، ومنها إلى الشمال بلدة يقال لها القصر أيضا
El Caser ، وعلى مقربة من هناك أعلى موقع تجري منه مياه نهر تاجه ونهر وادي آنة. ثم يصل المسافر إلى بلدة يقال لها «قسطيلاجو
Castillego »، وفي جوارها معدن الجفصين، وبعد ذلك إلى الشمال بلدة «قونكة»، وقد تقدم ذكرها.
جاء في جغرافية الشريف الإدريسي: من مدينة مرسية إلى مدينة بلنسية خمس مراحل، ومن مرسية إلى جنجالة خمسون ميلا، وقال: إن مدينة جنجالة متوسطة القدر حصينة القلعة منيعة الرقعة، ولها بساتين وأشجار، وعليها حصن حسن، ويعمل بها من وطاء الصوف ما لا يمكن صنعه في غيرها بإتقان الماء والهواء، ولنسائها جمال فائق. ومن جنجالة إلى قونكة يومان، وهي مدينة أزلية على منقع ماء مصنوع قصدا ولها سور وليس لها ربض، ويصنع بها من الأوطية المتخذة من الصوف كل غريبة. ا.ه.
وكثرة الصوف في تلك الجهات جعلت صناعة هذه الأوطية غاية في الإتقان. ثم إنه من عرنجويز إلى مجريط مسافة خمسين كيلومترا.
شاطبة
هي على مسافة 56 كيلومترا من بلنسية، ليس فيها اليوم أكثر من 13 ألف نسمة، ولها موقع بديع إلى الشمال بحذاء جبل «برنيسا»، وفيها جندل عظيم مشقوق، وعلى كل من شقيه حصن والبلدة أيبيرية، وكان الرومانيون يقولون لها «سيتابيس»
Soetabis ، وكان فيها مركز أسقفية في زمان القوط، وقد استرجعها من أيدي المسلمين جاك الأول - ملك أراغون - وذلك سنة 1244 للمسيح، ومن هذه البلدة خرج ألفونس بورجا
Borjia ، وجاء إلى إيطالية مستشارا للملك ألفونس الأول صاحب نابولي. ثم إنه في سنة 1455 انتخب هذا الرجل لكرسي البابوية وسمي كالكستس الثالث، وكان هو المؤسس للعائلة الشهيرة آل بورجيا
Borgia ، ومن هذه العائلة خرج رودريق بورجيا المولود في شاطبة سنة 1431، وهو الذي صعد على عرش البابوية باسم إسكندر السادس، وكان له تاريخ طويل عريض وأحوال في سيرته الشخصية لا محل هنا للإشارة إليها لخروجها عن موضوع هذا الكتاب. وكان له ولد اسمه يوحنا، ولد بغير صورة شرعية لأبيه البابا إسكندر. ويوحنا المذكور هو أصل العائلة المسماة عائلة دوق غانديا، ومن هذه العائلة خرج كثير من آباء الكنيسة الكاثوليكية أشهرهم القديس فرنسيس بورجيا.
وقد جاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية عن شاطبة
Jativa
ما يلي محصله: أن ارتفاع شاطبة عن سطح البحر لا يزيد على 115 مترا، وسكانها اليوم لا يزيدون على اثني عشر ألفا، وكانت في القرون الوسطى مشهورة بمعامل الكاغد، يحمل منها إلى كل إسبانية وإلى مصر، ولا تزال مخطوطات كثيرة يعرف ورقها بالورق الشاطبي، ويقال له في المغرب: الشاطبي، وهو نوع من الورق معروف. وبقيت في شاطبة آثار من زمان الرومان. ونقل المقري في النفح أبياتا لأبي عامر البرياني يصف فيها التمثال الذي كان بشاطبة (تقدم ذكر هذه الأبيات)، وشاطبة بموقعها الطبيعي كانت من أعظم حصون الأندلس، فكانت قابضة من أعالي صخرتها على ناصية ذلك المرج الفسيح الخصيب الذي بحذائها، ولا تزال بقايا حصن شاطبة تدل على عظمة أثرية عظيمة، بالرغم مما شال الإسبانيول وحطوا منذ استرجاعهم إسبانية إلى اليوم.
وقد ذكر أبو الفداء ثلاثة متنزهات في شاطبة: «البطحة» و«الغدير» و«العين الكبيرة». ولما كانت شاطبة على مقربة من بلنسية كان لا بد لها من أن تشاطر حظ بلنسية في مصيرها السياسي، وكانت هي المدينة الثانية في الخطة البلنسية، وكان أهلها في زمان العرب أكثر جدا مما هم اليوم، وبقيت طول مدة الخلافة الأموية ليس لها كبير ذكر إلى أن انحلت الخلافة وتولاها حفيد الحاجب الشهير المنصور بن أبي عامر، وهو عبد العزيز بعد الصقلبيين المبارك والمظفر.
ولما استولى القادر بن ذي النون على شاطبة بمعاونة ملك قشتالة أراد أن يستولي على شاطبة فساق إليها جيشا، فرجع عنها بخفي حنين، وجاء المنذر بن المقتدر بن هود - ملك لاردة ودانية وطرطوشة - فحمى شاطبة مدة من الزمن، ثم وقعت في يد ابن تاشفين - سلطان المرابطين - بعد وقعة الزلاقة. ثم استولى على شاطبة جاك الأول - ملك أراغون - سنة 1239 المسيحية، فأخرج المسلمين منها جميعا سنة 1247. ا.ه.
وقال الشريف الإدريسي في نزهة المشتاق: ومدينة شاطبة مدينة حسنة، ولها قصاب يضرب بها المثل في الحسن والمنعة، ويعمل بها من الكاغد ما لا يوجد له نظير بمغمور الأرض ويعم المشارق والمغارب. ا.ه.
ثم إن صاحب نفح الطيب ذكر شاطبة فقال: فمن أعمال بلنسية شاطبة التي يضرب بحسنها المثل، ويعمل بها الورق الذي لا نظير له، ثم قال في محل آخر:
نعم ملقى الرحل شاطبة
لفتى طالت به الرحل
بلدة أوقاتها سحر
وصبا في ذيله بلل
ونسيم عرفه أرج
ورياض غصنها ثمل
ووجوه كلها غرر
وكلام كله مثل
وقال ياقوت في المعجم: شاطبة - بالطاء المهملة والباء الموحدة - مدينة في شرقي الأندلس وشرقي قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة قد خرج منها خلق من الفضلاء، ويعمل الكاغد الجيد فيها ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس. يجوز أن يقال: إن اشتقاقها من الشطبة وهي السعفة الخضراء الرطبة، وشطبت المرأة الجريدة شطبا: إذا شققتها لتعمل حصيرا، والمرأة شاطبة، قال الأزهري : شطب: إذا عدل، ورمية شاطبة: عادلة عن القتل. وممن ينسب إلى شاطبة عبد العزيز بن عبد الله بن ثعلبة أبو محمد السعدي الأندلسي الشاطبي، قال ابن عساكر: قدم دمشق طالب علم، وسمع بها أبا الحسن بن أبي الحديد، وعبد العزيز الكتاني، ورحل إلى العراق، وسمع بها أبا محمد الصريفيني، وأبا منصور بن عبد العزيز العكبري، وأبا جعفر بن مسلمة، وصنف غريب حديث أبي عبد الله القاسم بن سلام على حروف المعجم، وجعله أبوابا، وتوفي في شهر رمضان سنة 465 في حوران.
ومنها أيضا أحمد بن محمد بن خلف بن محرز بن محمد أبو العباس المالكي الأندلسي الشاطبي المقرئ، قدم دمشق وقرأ بها القرآن المجيد بعدة روايات، وكان قرأ على أبي عبد الله الحسين بن موسى بن هبة الله المقرئ الدينوري، وأبي الحسن علي بن مكوس الصقلي، وأبي الحسن يحيى بن علي بن الفرج الخشاب المصري، وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد المالكي المحاربي المقري، وصنف كتاب المقنع في القراءات السبع، قال الحافظ أبو القاسم: وأجاز في مصنفاته وكتب سماعاته سنة 504، وكان مولده في رجب سنة 454 بالأندلس، وقال أبو بحر صفوان بن إدريس المرسي في وصف شاطبة:
شاطبة الشرق شر دار
ليس لسكانها فلاح
الكسب من شأنهم ولكن
أكثر مكسوبهم سلاح (بضم السين). ا.ه.
قلنا: ليس اشتقاق شاطبة من الشطبة ولا من الشطب؛ فإن هذا عربي واسم شاطبة في أصله ليس بعربي؛ إذ كان الرومانيون يقولون لهذه البلدة «سيتابي»، فلما جاء العرب، وكان يغلب عليهم تحويل السين إلى الشين، حرفوها إلى شاطبة تبعا للأوزان العربية.
وقال القلقشندي في صبح الأعشى: مدينة شاطبة - بفتح الشين المعجمة وألف بعدها طاء مهملة مكسورة ثم باء موحدة مفتوحة وهاء في الآخر - هي مدينة عظيمة لها معقل في غاية الامتناع وعدة مستنزهات منها البطحاء والغدير والعين الكبيرة، وإليها ينسب الشاطبي صاحب القصيدة في القراءات السبع، وقد صارت الآن مضافة إلى ملك برشلونة في يد صاحبها. ا.ه. وكان صاحب صبح الأعشى من أهل أواخر القرن الثامن للهجرة؛ أي إنه لما كتب صبح الأعشى كان قد مضى على سقوط شاطبة في أيدي أصحاب أراغون وبرشلونة نحو من مائة وثمانين سنة.
وأهم شارع في شاطبة هو المسمى بشارع منكادة، منه يفيض المسافر إلى المكان الذي يقال له «أوفالو
Ovalo »، فيرى العين المسماة «عين الخمسة والعشرين ميزابا»، وفيها كنيسة اسمها «سان فليو
San Feliu »، وهي كنيسة قديمة طرز بنائها عربي، وبالقرب منها دير اسمه «مونت سانت»، فيه صهريج من زمان العرب. وأما أعجوبة شاطبة فهي الحصن المشرف عليها، كانوا يعتقلون فيه مشاهير الرجال، ومن جملة من اعتقل فيه ورثة تاج أراغون عندما اعتدى عليهم شانجه الرابع سنة 1284، ثم دوق كالبره ولي عهد نابولي في زمان فرديناند الكاثوليكي زوج إيزابلا.
ومن شاطبة يذهب الخط الحديدي إلى الجنوب الغربي فيدخل في وادي منتيشة، ويقطع النهر على جسر طوله 56 مترا، ثم يمر على الكدية ومنتيشة، وعلى بلاد أخرى من جملتها البونت كما تقدم الكلام عليه، ومن هناك إلى مجريط.
من انتسب إلى شاطبة من أهل العلم
منهم أبو الربيع سليمان بن منخل النفزي، صحب أبا عمر بن عبد البر، وكان فقيها خطيبا، توفي سنة 456، ذكره ابن بشكوال في الصلة نقلا عن ابن مدير.
وسيد بن أحمد بن محمد الغافقي أبو سعيد، نزل شاطبة، سمع بقرطبة من أبي محمد الأصيلي، وأبي عمر بن المكوي، كان من أهل الأدب، أخذ عنه أبو القاسم بن مدير، وتوفي سنة 454.
وأبو زكريا يحيى بن أيوب بن القاسم الفهري، روى عن أبي الحسن طاهر بن مفوز، ورحل إلى المشرق سنة 475، وحج وأخذ عن أبي العز الجوزي وغيره بمكة، ترجمه ابن بشكوال في الصلة.
وأبو الحجاج يوسف بن القاسم بن أيوب الفهري، حدث عن أبي الحسن طاهر بن مفوز وعن غيره، وكان ثقة في روايته، وروى الناس عنه، وهو من بيت نباهة وديانة.
وأبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن جحدر الأنصاري، روى عن أبي الحسن طاهر بن مفوز، وأبي عبد الله محمد بن سعدون، وغيرهما، وكان حافظا للفقه بصيرا بالفتوى ثقة ضابطا، واستقضي ببلده شاطبة، وتوفي مصروفا عن القضاء سنة 514.
وأبو عبد الرحمن حيدرة بن مفوز بن أحمد بن مفوز بن عبد الله بن مفوز بن غفول بن عبد ربه بن صواب بن مدرك بن سلام بن جعفر الداخل إلى الأندلس المعافري، سمع أخاه أبا الحسن الطاهر بن مفوز، وكان من عباد الله الصالحين، يحسن تعبير الرؤيا، وابنه أبو بكر محمد بن حيدرة من مفاخر الأندلس، ترجمه ابن الأبار في التكملة.
وأبو القاسم خلف بن محمد بن غفول الشاطبي كان من أصحاب طاهر بن مفوز المختصين به، وسمع من غيره، وانتقل إلى فاس فسكنها إلى أن توفي بها بعد سنة 520، قاله ابن بشكوال.
وأبو بكر بيبش بن عبد الله بن بيبش القاضي بشاطبة، فقيه محدث عارف عدل في أحكامه معان على تغيير المنكر، قال ابن عميرة في بغية الملتمس: صحبته فحمدته، توفي بعد الثمانين وخمسمائة.
وأبو حامد شاكر بن خيرة العامري مولى لهم، نشأ بشاطبة، وقرأ على أبي عمرو المقرئ، وتوفي بعد السبعين والأربعمائة، رواه ابن بشكوال عن ابن مدير.
وأبو الحسن طاهر بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري، روى عن أبي عمر بن عبد البر الحافظ الكبير، واختص به، وهو أثبت الناس فيه، وسمع من أبي العباس العذري، وأبي الوليد الباجي، وأبي شاكر الخطيب، وأبي الفتح السمرقندي وغيرهم، عني بالحديث عناية كاملة، وشهر بحفظه وإتقانه، وكان حسن الخط جيد الضبط مع الفضل والصلاح والورع والانقباض والتواضع، وله:
عمدة الدين عندنا كلمات
أربع من كلام خير البريه
اتق المشبهات وازهد ودع ما
ليس يعنيك واعملن بنيه
وهارون بن أحمد بن عات من أهل شاطبة، فقيه عارف من أهل بيت جلالة وعلم، توفي بعد الخمسمائة عن بغية الملتمس لابن عميرة الضبي.
وخلف بن موسى بن أبي تليد الخولاني، واسم أبي تليد خصيب بن موسى من أهل شاطبة، وهو جد أبي عمران بن أبي تليد، سمع من عبد الوارث بن سفيان بقرطبة، وحدث عنه ابنه أبو المطرف عبد الرحمن ، ذكره ابن الدباغ، وقرأه ابن الأبار بخط ابن حبيش.
وأبو القاسم خلف بن مفرج بن سعيد الكناني من أهل شاطبة، يعرف بابن الجنان، روى عن أبي الوليد الباجي، وأبي عبد الله بن سعدون القروي، وأبي الحسن طاهر بن مفوز، وولي القضاء بإحدى الكور الشرقية لأبي أمية بن عصام، وكان فقيها مشاورا، حدث ودرس ببلده، روى عنه أبو عبد الله بن مغاور، وأبو محمد بن مكي، وغيرهما.
وأبو محمد طلحة بن يعقوب بن محمد بن خلف بن يونس بن طلحة الأنصاري، أهل شاطبة، وأصله من جزيرة شقر، روى عن أبيه وغيره، وكان كاتبا بليغا شاعرا، أخذ عنه الخطيب أبو محمد بن برتله وغيره، وتوفي في رمضان سنة 618، عن ابن الأبار في التكملة.
والطيب بن محمد بن عبد الله بن مفوز بن غفول المعافري، سمع من أبيه كثيرا، ورحل إلى قرطبة، فسمع من مشيخة وقته كالقاضي أبي عبد الله بن مفرج، ومسلمة بن بترى، وغيرهما، نقله ابن الأبار من خط طاهر بن مفوز.
وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن معافى، روى عن أبي عبد الله بن الفخار، وعن أبي عمر بن عبد البر، وله رحلة إلى المشرق حج فيها وصحب العلماء، وأخذ الناس عنه، وتوفي سنة 454، وقيل سنة 453، وتولى غسله والصلاة عليه أبو محمد بن مفوز الزاهد.
وأبو محمد عبد الله بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري، روى عن أبي عمر بن عبد البر كثيرا، ثم زهد فيه لصحبته السلطان، وأخذ عن أبي العباس العذري، وأبي تمام القطيني، وكان من أهل العلم والفهم والصلاح والورع والزهد مشهورا بذلك، توفي سنة 475، ترجمه ابن بشكوال.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن دري التجيبي المعروف بالركلي (نسبة إلى ركلة من قرى الثغر الأعلى)، سكن شاطبة، روى عن أبي الوليد الباجي، وأبي مروان بن حيان ، وغيرهما، وكان من أهل الأدب، قال ابن بشكوال: وسمع منه أصحابنا ووثقوه، وتوفي سنة 513، وقد ترجمه أيضا ابن عميرة في بغية الملتمس.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن أيوب الفهري، سمع من أبي الحسن بن مفوز، ومن أبي الحسن بن الروش، وسمع من جماعة من شيوخ شرق الأندلس، وسمع بقرطبة. قال ابن بشكوال: وحدثنا بحديث مسلسل عن أبي الحسن طاهر بن مفوز، وأخذ عنه الناس في كل بلد قدمه، ووفاته بشاطبة في شعبان سنة 530، أخبرني بوفاته أبو جعفر بن بقاء صاحبنا، وذكر لي أنه شاهدها. ا.ه.
وعبد الله بن يوسف بن ملحان كان خيرا فقيها رفيعا عند أهل بلده شاطبة، تولى القضاء عندهم، وتوفي عند الثلاثين والأربعمائة، نقله ابن بشكوال عن ابن مدير.
وأبو محمد عبد الله بن أيوب الشاطبي الفهري، فقيه محدث، توفي بشاطبة سنة 530 وقد قارب السبعين، ذكره ابن عميرة في بغية الملتمس.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن خلف بن موسى بن أبي تليد، روى عن أبي عبد الله بن الفخار، وسمع كثيرا من أبي عمر بن عبد البر، وتوفي سنة 475 بحسب قول ابن مدير، وقال أبو عمران بن المترجم: إنه توفي سنة 474.
وأبو محمد عبد الرحمن بن عبد العزيز بن ثابت الأموي، الخطيب بالمسجد الجامع بشاطبة، روى عن أبي عمر بن عبد البر، وعن أبي العباس العذري، وكان رجلا فاضلا زاهدا ورعا منقبضا، قال ابن بشكوال: سمع منه جماعة من أصحابنا، ورحلوا إليه، واعتمدوا عليه، ووصفوه بما ذكرنا من حاله، وقال لي بعضهم: توفي سنة 509، وقال ابن عميرة في «البغية»: إنه توفي سنة 510، ومولده سنة 446، وقال لي أبو الوليد صاحبنا وأملاه علي: قال لي أبو محمد الخطيب هذا: زارنا أبو عمر بن عبد البر في منزلنا فأنشد وأنا صبي صغير فحفظته من لفظه:
ليس المزار على قدر الوداد ولو
كانا كفيين كنا لا نزال معا
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن عبد الله بن الغازي، من أهل شاطبة، حدث بالمرية، وتوفي بها سنة 493، وكان قد سمع من طاهر بن مفوز، ومن أبي الوليد الكناني، وأجاز له ابن عبد البر.
وأبو الحسن علي بن سيد بن أحمد الغافقي، روى عن أبي القاسم بن عمر ، وتوفي سنة 475.
وأبو الحسن علي بن عبد الرحمن بني أحمد الأنصاري المقرئ المعروف بابن الروش من أهل شاطبة، أصله من قرطبة، روى عن أبي عمرو المقري، وعن أبي عمر بن عبد البر، وغيرهما، وأقرأ الناس القرآن، وأسمعهم الحديث، وكان ثقة ثبتا دينا فاضلا، قال ابن بشكوال في الصلة: قرأت بخط القاضي أبي عبد الله بن أبي الخير: توفي المقري أبو الحسن بشاطبة يوم الأربعاء ودفن يوم الخميس لأربع خلون من شعبان سنة 496.
وأبو الحسن عباد بن سرحان بن مسلم بن سيد الناس المعافري من أهل شاطبة، سكن العدوة، وكان روى ببلده عن طاهر بن مفوز، ورحل إلى المشرق حاجا، وأخذ بمكة عن أبي الحسين المبارك بن الصيرفي، وأبي محمد رزق الله التميمي، وأبي بكر ترخان، وأجاز له أبو عبد الله الحميدي. قال ابن بشكوال: قدم علينا قرطبة سنة 520 فسمعنا منه، وأجاز لنا بخطه ما رواه، وكانت عنده فوائد، وكان يميل إلى مسائل الخلاف ويدعي معرفة الحديث ولا يحسنه - عفا الله عنه - وكان مولده سنة 464، وتوفي بالعدوة في نحو سنة 543.
وأبو عامر محمد بن أحمد بن عامر الشاطبي، وكان لغويا أديبا نحويا محدثا، ألف كتبا كثيرة في اللغة والأدب والتاريخ والحديث، قال ابن عميرة في بغية الملتمس: حدثني عنه أبو محمد عبد المنعم بن محمد قال: جالسته وناولني بعضها.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن موسى بن عياض الشاطبي، فقيه محدث، يروي عن القاضي أبي علي بن سكرة.
وموسى بن عبد الرحمن بن خلف بن أبي تليد، فقيه حافظ، محدث مشهور، يروي عن أبي عمر بن عبد البر، ويروي عنه أبو الوليد بن الدباغ الحافظ، مولده سنة 444، وتوفي سنة 517.
وأبو بكر محمد بن حيدرة بن أحمد بن مفوز المعافري، روى عن عمه أبي الحسن طاهر بن مفوز، وأبي علي حسين بن محمد الغساني، وعن أبي مروان بن سراج، وأبي عبد الله بن فرج الفقيه، وأجاز له القاضيان أبو عمر بن الحذاء، وأبو الوليد الباجي، وكان حافظا للحديث وعلله، عارفا بأسماء رجاله متقنا لما كتبه، وكان من أهل المعرفة بالأدب والعربية، وأسمع الناس بالمسجد الجامع بقرطبة وأخذوا عنه، وتوفي في ربيع الآخر سنة 505، ودفن بالربض، وكان مولده سنة 463 عن ابن بشكوال.
وأبو عامر محمد بن حبيب بن عبد الله بن مسعود الأموي، روى عن أبي الحسن بن مفوز، وأبي داود المقري، وأبي عبد الله بن سعدون القروي، قال ابن بشكوال: كتب إلينا بإجازة ما رواه بخطه، وسمع منه أصحابنا، ووصفوه بالجلالة والنباهة والفضل والديانة، وتوفي بشاطبة سنة 528.
وأبو عمران موسى بن عبد الرحمن بن خلف بن موسى بن أبي تليد، روى عن أبي عمر بن عبد البر، وكان فقيها مفتيا ببلده شاطبة، أديبا شاعرا دينا فاضلا. قال ابن بشكوال: أنشدنا صاحبنا أبو عمرو زياد بن محمد، قال: أنشدنا أبو عمران لنفسه:
حالي مع الدهر في تقلبه
كطائر ضم رجله شرك
همه في فكاك مهجته
يروم تخليصها فتشتبك
حدث عنه جماعة من أصحابنا ورحلوا إليه ووثقوه، وكتب إلينا بإجازة ما رواه، وتوفي - رحمه الله - في ربيع الآخر سنة 519، ومولده سنة 444.
وأبو عبد الرحمن مطرف بن ياسين، سمع من ابن عبد البر، وابن معافى، وأبي محمد بن مفوز، وعني بالقرآن والحديث، وتوفي سنة 481 وقد قارب السبعين، ترجمه ابن بشكوال.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مفوز بن غفول بن عبد ربه بن صواب بن مدرك بن سلام بن جعفر الداخل إلى الأندلس المعافري، من أهل شاطبة، رحل إلى قرطبة، لازم أبا الحزم وهب بن مسرة وسمع منه سماعا كثيرا وأجاز له، ولما ودعه قال له: أوصني. قال له: أوصيك بتقوى الله العظيم وحزبك من القرآن وبر الوالدين. ثم رحل إلى المشرق حاجا، فكتب بالقيروان عن أبي العباس بن أبي العرب، ثم سار إلى بلده شاطبة، فكان منقطع القرين في الزهد والعبادة، متقللا من الدنيا، كثير الصلاة والصوم، دءوبا على تلاوة كتاب الله، وكان مجاب الدعوة، اشتهر بذلك، توفي - رحمه الله - سنة عشر أو أول سنة 411 وقد قارب المائة، نقل ابن الأبار خبره من خط طاهر بن مفوز، وعن ابن عبد السلام الحافظ، وقال: إن ابن بشكوال جعله من أهل قرطبة وغلط في ذلك.
وأبو عبد الله محمد بن أيوب بن القاسم الفهري، سمع أبا الحسن طاهر بن مفوز وصحبه، وأحضر ابنه أبا محمد عبد الله للسماع معه، وذلك بمسجد ابن وضاح من شاطبة سنة 483، وله سماع كثير من طاهر، وكان نبيها فاضلا، قاله ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن خلصة المعافري، سمع من أبي عمر بن عبد البر ونظرائه، ورحل حاجا فلقي بمكة أبا الحسن علي بن المفرج الصقلي، وسمع منه صحيح البخاري، ولقي بها أيضا أبا محمد هياج الحطيني؛ فأخذ عنه كتاب الزهد لهناد بن السري، وذلك في سنة 464، ثم لقي بالإسكندرية أبا القاسم شعيب بن سبعون العبدري الطرطوشي سنة 469، فسمع منه بها مشاهد ابن إسحاق، وصدر إلى الأندلس، وأخذ عنه الجلة مثل أبي الحسن طاهر بن مفوز، وأبي إسحاق بن جماعة، وأبي الحجاج بن أيوب، وغيرهم، وتوفي في نحو التسعين والأربعمائة، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن عياد، ومن خط طاهر بن مفوز.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري، يعرف بابن الصيقل صحب طاهر بن مفوز، وأبا عبد الله بن سعدون، وأبا علي الجياني، ودخل سجلماسة، فسمع بها من أبي محمد بن الغرديس صاحب أبي ذر الهروي، وتوفي بمدينة فاس بعد سنة خمسمائة، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن خلف، روى عن أبي الحسن بن الدوش وغيره، ذكره ابن الأبار في التكملة كما ذكر أكثر هؤلاء.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن موسى بن عياض المخزومي، يعرف بالمنتيشي نسبة إلى قرية مصاقبة لشاطبة، أخذ القراءات عن أبي داود المقري، وأبي الحسن بن الدوش، وغيرهما، وسمع الحديث من أبي علي الصدفي، وأبي بكر بن العربي، وغيرهما، وأخذ عن أبي بكر بن مفوز، وتصدر للإقراء بشاطبة فأخذ عنه الناس، وكان عالما بتفسير القرآن يقعد لذلك في كل جمعة، من الحظ الوافر من البلاغة، وتوفي بشاطبة سنة 519 وسنه فوق الأربعين، قال ابن الأبار: ونسبة المقامة العياضية إليه غلط، إنما هي لمحمد بن عيسى بن عياض القرطبي.
وأبو عبد الله محمد بن منخل، يعرف بالحداد، صحب طاهر بن مفوز وأكثر عنه، ذكره ابن الدباغ في شيوخه، وترجمه ابن الأبار في التكملة.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن منخل بن محمد بن مشرف النفزي، أخذ بقرطبة عن أبي القاسم بن النحاس قراءة نافع، وقرأ التيسير لأبي عمرو المقرئ على أبي محمد بن سعدون الوشقي الضرير، ولما اجتاز أبو علي الصدفي بشاطبة إلى غزوة كتندة التي فقد فيها أخذ المترجم عنه.
وأبو عبد الله محمد بن مغاور بن حكم بن مغاور السلمي من أهل شاطبة، وأصل سلفه من غرب الأندلس، روى عن أبيه، وأبي جعفر بن جحدر، وأبي عمران بن أبي تليد، وأبي علي الصدفي، وأبي محمد الركلي، وأبي بكر بن العربي، وأبي القاسم بن الجنان، وأبي الوليد بن قيرون اللاردي، وغيرهم، وأجاز له ابن الدوش، وابن ورد، وكان فقيها عالما بصيرا بعقد الشروط، رأسا في الفتوى، وصدرا في أهل الشورى، يتحقق بالفقه ويشارك بالحديث والأدب مع الحلم والوقار، توفي ثامن شوال سنة 536 وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن خلف بن أبي الفرج التجيبي المقرئ، أخذ القراءات عن ابن شفيع وبعضها عن ابن الدوش، وروى عنه ابنه عبد الله، وتوفي في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، ومولده حول سنة 460.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أبي العاصي النفزي الضرير، يكنى بابن اللايه، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد بدانية، وتصدر ببلده للإقراء. قال ابن الأبار: ومنه أخذ شيخنا أبو عبد الله بن سعادة المعمر، وأبو محمد قاسم بن فيروه ، وقال فيه القاضي أبو بكر مفوز بن مفوز: هو من شيوخي في القرآن، وكان من أهل الدين والفضل والمعرفة بالقراءات وطرقها.
وأبو بكر محمد بن عبد العزيز بن يونس بن ميمون اليحصبي، سكن شاطبة، وهو من «أنتنيان» من عملها، وكان ينسب إليها، له رحلة إلى الشرق حج فيها، روى بيتين لبعض المصريين لا بأس بنقلهما:
أكثرت من زوره فملك
وزدت في الوصل فاستقلك
لو كنت ممن يزور غبا
آثر في قلبه محلك
وأبو عامر محمد بن علي العكي، ويعرف بابن منكرال، روى عن ابن الدوش، وابن أبي تليد، وأبي محمد الركلي، وأبي علي الصدفي، وكان شيخا صالحا معنيا بالآداب والأخبار ثقة عدلا، وعنه أخذ أبو بكر بن مفوز، وكان من المعرفة والديانة بمكان، وتوفي بشاطبة سنة 541 عن ابن الأبار.
وأبو عامر محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن اليحصبي، من أهل شاطبة، يعرف بابن حنان، سمع أبا عمران بن أبي تليد، وأبا جعفر بن جحدر، وأبا علي بن سكرة في اجتيازه بهم غازيا إلى كتندة، وأبا الحسن طارق بن يعيش في بلنسية، وكانت له نباهة في بلده وعناية بالرواية، ولم يذكر ابن الأبار سنة وفاته.
وأبو عامر محمد بن يحيى بن محمد بن خليفة بن ينق، قرأ القرآن على أبي عبد الله محمد بن فرج المكناسي، وسمع الحديث من أبي علي الصدفي، ورحل إلى قرطبة، فروى بها عن أبي الحسين بن سراج وطبقته، ومال إلى الأدب والعربية والعروض؛ فمهر في ذلك وبلغ الغاية من البلاغة في الكتابة والشعر، ولقي أبا العلاء بن زهر فلازمه مدة، وأخذ عنه علم الطب وحذا حذوه؛ فمال الناس إليه، وساعده الجد فبعد صيته في الطب مع المشاركة في علوم عدة، وكان محببا في بلاده معظما جميل الرواء وافر المروءة، ما باع شيئا قط ولا اشترى مباشرا ذلك بنفسه، كثير اللزوم لداره، مشتغلا بالعلم، وله تأليف كبير في الحماسة، وآخر في ملوك الأندلس والأعيان والشعراء بها، وأنشأ خطبا عارض بها ابن نباتة، حدث عنه أبو عبد الله المكناسي، توفي آخر سنة 547، ومولده سنة 482، نقل ابن الأبار أكثر أخباره هذه عن ابن سفيان.
وأبو عامر محمد بن عبد الله بن خلف بن سوار، من أهل شاطبة، سكن دانية، له رواية عن الأستاذ أبي الحسن الشقاق أحد أصحاب أبي عمر بن عبد البر، وكان أديبا شاعرا من بيت نباهة وأدب، ترجمه ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن سليمان بن خلف النفزي، يعرف بابن بركة، سمع ببلده شاطبة من أبي عمران بن أبي تليد، وأبي محمد بن ثابت، وأبي جعفر بن جحدر، وأبي جعفر بن غزلون، وأبي القاسم بن الجنان، ورحل في شبابه إلى مرسية، فسمع بها من أبي علي الصدفي، وأخذ عن أبي الحسن مغاور بن حكم القراءات السبع، وكان فقيها حافظا للمسائل، بصيرا بالفتوى، نافذا في عقد الشروط، يسرد متون الأحاديث، ويستظهر المقدمات لابن رشد، تولى خطة الشورى ببلده ورأس فيها.
قال ابن عياد: سمعت ابن الدباغ أبا الوليد يقول: أبو عبد الله بن بركة حافظ للمسائل، فذكرت ذلك لابن بركة فسر به، وترحم على أبي الوليد. وكان المترجم متقللا من الدنيا على كثرة ما نال منها، مقتصرا على بلغة كانت بيده ورثها عن أبيه محببا إلى الخاصة والعامة، قال ابن الأبار: حدثنا عنه من شيوخنا عبد الله بن سعادة المعمر، وابن أخيه أبو عبد الله محمد بن أحمد النحوي، توفي سنة 552 على رواية ابن سفيان، وقال ابن عياد: محمد توفي سنة 553 لأربع مضين من جمادى الأولى منها، ومولده في جمادى الأولى سنة 481.
وأبو بكر محمد بن عبد الله بن سفيان بن سيداله التجيبي، من أهل شاطبة، أصله من قونكة، روى عن أبي القاسم بن الجنان، وأبي الوليد بن الدباغ، وغيرهما، وتفقه بصهره أبي بكر بن أسد ولازمه، وبأبي عبد الله بن مغاور، وكتب إليه أبو بكر بن العربي، وكان عارفا بالخبار، حافظا لأسماء الرواة، له مجموع في رجال الأندلس وصل به كتاب ابن بشكوال، ذكر ذلك ابنه أبو محمد عبد الله، وسماه في مشيخته، وقال : توفي سنة 558.
وأبو عبد الله محمد بن خلف بن عبد الرحمن، من أهل شاطبة، يعرف بالسلجماسي، روى عن أبي إسحاق بن جماعة، وكانت له رحلة حج فيها ، ولقي بالإسكندرية أبا القاسم بن جارة، فحمل عنه كتاب المصابيح لأبي محمد الخراساني، ذكره ابن عياد وقال: لم يكن له اعتناء بالحديث، توفي بشاطبة سنة 561، ومولده ببلنسية لسبع بقين من شوال سنة 504، قاله ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن فرج بن سليمان بن يحيى بن سليمان بن عبد العزيز القيسي من أهل شاطبة، يعرف بابن تريس، ويشهر بالمكناسي، سمع من أبي علي الصدفي، وأبي زيد بن الوراق، وأبي القاسم بن الجنان، وأبي عمران بن أبي تليد، وغيرهم، وأجاز له أبو بكر بن العربي، وأبو الوليد بن رشد، وأبو الحسن بن شفيع، وأبو القاسم بن ورد، وطارق بن يعيش، ومن أهل المشرق أبو المظفر الشيباني، وأبو علي بن العرجاء، وروايته متسعة، وله في شيوخه مجموع سماه التعريف، وقد سمع من ابن الدباغ، وحمل عن أبي إسحاق بن خفاجة منظومه ومنثوره، حدث عنه أبو الحجاج بن أيوب، وأثنى عليه أبو عمر بن عياد، ووصفه بالتقلل من الدنيا، وقال: إنه توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة أو اثنتي عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 561 وقد قارب السبعين، وروى ابن سفيان أن السلفي والمازري وغيرهما من أهل مصر والشام والحجاز كتبوا إليه، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن أبي العيش اللخمي، من أهل طرطوشة، سكن شاطبة، يعرف بابن الأصيلي، أخذ القراءات عن أبي علي منصور بن خير، وسمع من أبي عبد الله بن الحاج، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي القاسم بن ورد، وأبي محمد البطليوسي، وأبي الحجاج بن يسعون، وتصدر بشاطبة للإقراء والتعليم، وكان موصوفا بالمعرفة والفهم ضعيف الخط، حدث عنه أبو الحسين بن جبير، سمع منه الموطأ سنة 557، وذكره ابن سفيان وقال: إنه توفي سنة 566، وقال محمد بن عياد: إنه توفي سنة 567، ومولده بطرطوشة سنة 496.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن الزبير القيسي، من أهل شاطبة، يعرف بالأغرشي؛ نسبة إلى بعض أعمالها، روى عن أبي محمد بن جوشن وغيره، وولي الصلاة والخطبة بجامع شاطبة، وكان موصوفا بالزهد والخشوع والإخبات والبكاء، توفي سنة 567 عن ابن الأبار.
وأبو الوليد محمد بن عريب بن عبد الرحمن بن عريب العبسي، من أهل سرقسطة، سكن شاطبة، وتولى الصلاة والخطبة بها، وقد تقدمت ترجمته في الجزء الثاني من الحلل السندسية، وذلك عند الكلام على من انتسب من أهل العلم إلى سرقسطة.
وأبو عمر محمد بن أبي بكر بن يوسف بن عفيون الغافقي، روى عن أبي عبد الله بن بركة، وأبي محمد بن مكي، وأخذ عن هذا علم الشروط، وصحب أبا جعفر بن سلام، وأبا الحسين بن جبير، وغيرهما من الأدباء، وجمع شعر ابن جبير في صباه، وألف كتابا في عجائب البحر، وكتابا في أخبار الزهاد، وتوفي بعد سنة 584، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مطرف بن أبي سهل بن ياسين النفزي، روى عن أبيه أبي زيد عبد الرحمن وغيره، وكان معدودا من الفقهاء والأدباء، توفي في العشر الأول من رمضان سنة 590، قال ابن الأبار في التكملة: إن جد المترجم - وهو مطرف بن أبي سهل - مذكور في الصلة.
وأبو عبد الله محمد بن محمد بن مخلد النحوي من أهل شاطبة، انتقل من بلده إلى غرب الأندلس، وله شرح في كتاب الجمل للزجاجي روي عنه. وما قرأنا في ترجمته أكثر من هذا.
وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن بقاء اللخمي، من أهل شاطبة، يعرف بالجنجالي، أخذ القراءات عن أبي محمد قاسم بن فيروه الشاطبي قبل رحلته إلى المشرق، وعن ابن حميد وابن حبيش، وأجازوا له، وتصدر للإقراء بشاطبة، وممن أخذ عنه القراءات الفقيه الفاضل المتصوف أبو عبد الله محمد بن أبي الربيع سليمان بن محمد بن عبد الملك المعافري الشاطبي نزيل الإسكندرية، أجاز له في التاسع والعشرين لذي القعدة سنة سبع وستمائة.
وأبو بكر محمد بن سليمان بن عبد العزيز بن عمر السلمي، أخذ عن ابن مغاور وغيره من مشيخة شاطبة، وكان من أهل العلم والأدب عدديا فرضيا صاحب مساحة، ولي قضاء ألش من كور مرسية، وأقرأ مقامات الحريري، وسماه ابن برطله في شيوخه، وكان حسن النظر في فك المعمى، توفي بشاطبة في عقب رجب سنة 612.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن سعادة، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، وأبي بكر بن نمارة، وأبي بكر بن سيد بونه وغيرهم، وأخذ الحديث عن أبي عبد الله بن سعادة، وأبي محمد بن عاشر، وغيرهما، وأخذ العربية واللغة عن ابن النعمة، وابن حميد، وابن سعد الخير، وغيرهم، وكان مقرئا متصدرا نحويا محققا لغويا، أقرأ وأخذ الناس عنه. قال ابن الأبار: لقيته عند أبي - رحمه الله - وقد قصده زائرا، فأجاز لي جميع روايته بسؤال أبي ذلك منه، وتلفظ بالإذن في التحديث عنه، وذلك قبل سنة 612 بعد سماعي من عمه شيخنا المعمر أبي عبد الله بن سعادة. ا.ه. وتوفي المترجم سنة 614.
وأبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن سعادة، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، وأبي بكر بن نمارة، وأبي عبد الله الداني، وابن النعمة، وسمع من أبي عبد الله بن سعادة، وأبي حفص بن واجب، وأبي محمد بن عاشر، وأبي محمد بن عات، وكان من أهل الصلاح والقيام على كتاب الله، والإتقان للقراءة، وأسن وأخذ عنه الناس، قال ابن الأبار: قدم علينا بلنسية في أول شوال سنة 610؛ فأخذت عنه وأجاز لي ما رواه، وكان شيخنا أبو الخطاب بن واجب يوثقه، ويثني عليه، ويقول بفضله، ويقدم صحبته لأبي الحسن بن هذيل وغيره من الشيوخ، توفي بشاطبة يوم الثلاثاء التاسع من شوال سنة 614 عن سن عالية بلغت المائة أو أربت عليها يسيرا، وهو ممتع بجوارحه كلها، مولده سنة 514، وقيل سنة 516.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبيد الله النفزي، يعرف بابن قبوج، أخذ عن ابن هذيل، وتفقه بأبي محمد عاشر بن محمد، وبابن عات، وكان فقيها جليلا حافظا للرأي والمسائل، ثقة عدلا، روى عنه جماعة منهم ابنه أبو الحسين عبيد الله، وتوفي بعد سنة 616، عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن موسى بن محمد المعروف بالقطيني، سمع من أبي الخطاب بن واجب، وأبي عمر بن عات، وأبي محمد بن حوط الله، وغيرهم من شيوخ ذلك الوقت، ولقي بمدينة فاس أبا القاسم بن الملجوم، وأخذ عن أبي الحسن بن حريق الأدب والعربية، وتوفي سنة 621، قاله ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن مسعود بن عبد الرحمن الأزدي، يعرف بابن صاحب الصلاة، سمع كثيرا من ابن هذيل، واحتيج إليه بآخرة من عمره عند انقراض تلاميذ ابن هذيل، توفي ببلنسية سنة 625، ومولده بشاطبة في صفر سنة 542.
وأبو القاسم محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله الأنصاري، يعرف بالولي، أخذ عن أبيه، وعن أبي عبد الله بن سعادة، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي عمر بن عات، وأبي جعفر بن عميرة، وأبي القاسم الطرسوني، وأبي الحسن بن حريق، وتصدر للإقراء ببلده، وأخذ عنه، وتوفي سنة 636.
وأبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الملك بن محمد بن أبي الحسن الكناني الضرير، يعرف بابن الأحدب، أخذ عن أبي عبد الله بن نوح، وأبي زيد بن ياسين، وأبي زكريا بن سيد بونه الخزاعي، وأبي عبد الله بن سعادة، وغيرهم، وأقرأ القرآن دهره كله، وكان ضابطا ماهرا، توفي سنة ست أو سبع وثلاثين وستمائة.
وأبو عبد الله محمد بن لب بن محمد بن عبد الله بن حيرة، أخذ عن أبي عبد الله القطيني العربية وأقرأها ببلده شاطبة، وكانت وفاته فيها في نحو الأربعين وستمائة. هكذا قال ابن الأبار، وقد ترجمه المقري في النفح، فقال: إنه حدث بالقاهرة، وتوفي قريبا من سنة 640، وهو أحد أصحاب الشيخ أبي الحسن بن الصباغ، قال: ومن كلامه: اشتغالك بوقت لم يأت تضييع للوقت الذي أنت فيه.
وأبو الحسن مغاور بن حكم بن مغاور السلمي المكتب، من أهل شاطبة، أصله من غرب الأندلس، وحكم أبوه هو المنتقل إلى شاطبة، أخذ عن أبي الحسن بن الدوش، وعن ابن شفيع، وأدب بالقرآن وأقرأ بالسبع، وذكر في مسجده المنسوب بناؤه إلى واصل، حدث عنه ابنه محمد بن مغاور، وأبو عبد الله بن بركة، وأبو محمد بن مكي، وغيرهم، وتوفي بشاطبة سنة 509.
وأبو الحسن مكي بن أيوب بن أحمد بن رشيق التغلبي، أصله من بجاية، أخذ القراءات عن أبي داود المقري، وأبي عبد الله المغامي، وأبي القاسم بن مدير، وابن الدوش، وابن شفيع، وطاهر بن مفوز، أخذ عنه ابنه أبو محمد عبد الغني بن مكي، ولم نطلع على سنة وفاته.
وأبو بكر مفوز بن طاهر بن حيدرة بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري، قاضي شاطبة، وهو من أهلها، سمع أباه وأبا عامر بن حبيب، وأبا إسحاق بن جماعة، وأبا الوليد بن الدباغ، وأبا عبد الله بن سعادة، وأبا الحسن بن أبي العيش، وأبا عبد الله بن اللايه، وأبا محمد عاشر بن عاشر، وأبا عبد الله بن مغاور، وغيرهم من فحول وقته، وكتب إليه فحول آخرون من علماء الأندلس والمشرق مثل ابن مسرة، وابن هذيل، وابن نمارة، وابن بشكوال، وهؤلاء من الأندلس، وأبي الطاهر بن عوف، وأبي الفضل بن الحضرمي، وأبي الطاهر السلفي، وأبي القاسم بن جارة، ولما تولى قضاء شاطبة حمدت سيرته، وكان فقيها فصيحا بليغا، جميل الشارة، حسن السمت، جليل القدر، موصوفا بالبيان والإدراك، وله حظ من قرض الشعر، قال ابن الأبار: أخبرنا عنه من شيوخنا أبو عامر بن نذير، وأبو ربيع بن سالم، ومن شعره:
بماذا عسى أن يمدح الورد مادح
أليس الذي أضحى مبرا على الزهر
حكى لي في أوراقه وغصونه
خدود الغواني تحت أقنعة خضر
وله أيضا:
وقفت على الوادي المنعم دوحه
فأرسلت من دمعي هنالك واديا
وغنت به ورق الحمام عشية
فأذكرن أياما مضت ولياليا
قلت: أما البيت الأول في مدح الورد فهو أشبه بشعر فقيه منه بشعر شاعر. وأما الأبيات الأخرى، ولا سيما بيتا الوادي، فمن كلام الشعراء المجيدين، وفيه رقتهم وجزالتهم. توفي المترجم بشاطبة ضحى يوم الأربعاء الموفي عشرين لشعبان سنة 590، ودفن لصلاة العصر منه بمقبرة الربض، ومولده سنة 517 بعد أخيه عبد الله بعام واحد.
وأبو محمد عبد الله بن أبي القاسم الحجري المقرئ، قال عنه ابن الأبار: إنه كان زاهدا فاضلا، يقرئ القرآن، ويؤم في صلاة الفريضة، أخذ عنه أبو عبد الله المكناسي.
وأبو محمد عبد الله بن حيدرة بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري، سمع بقرطبة من أبي الحسن العبسي، وبدانية من أبي المقري، وأجاز له عمه أبو الحسن بن مفوز سنة 482، وسمع من أبي علي الصدفي سنة 501، قال ابن الأبار: وكان عريق البيت في العلم والنباهة، ولا أعلمه حدث، وقد حدث أخواه أبو بكر - الإمام العلم - وطاهر.
وأبو محمد عبد الله بن عيسى بن إبراهيم، يعرف بابن الأسير، صحب أبا الحسن طاهر بن مفوز، وأخذ عن أبي الحسين بن البياس، وحج في نحو الثمانين والأربعمائة، ثم قفل إلى الأندلس، وسمع أبا علي الصدفي سنة 503، وكان من أهل الصلاح والخير، حسن الخط، جيد الضبط، قال ابن الأبار: ولم أقف على تاريخ وفاته.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن خلف بن موسى بن أبي تليد الخولاني، يعرف بالحمصي، أخذ القراءات عن ابن الدوش والحديث عن طاهر بن مفوز، وأخذ عن ابن عمه أبي عمران بن تليد، وعن أبي محمد الركلي، وأبي عبد الله بن عبد الوارث التدميري، وتصدر لإقراء القرآن بشاطبة حياته كلها، وكان فاضلا مجاب الدعوة، وأخذ عنه أبو عمر بن عياد، وقال ابنه محمد بن عياد: إنه توفي سنة 533، وقال ابن الأبار: إنه نقل نسب المترجم من خط محمد بن عياد.
وأبو محمد عبد الله بن علي بن أحمد بن علي اللخمي، سبط أبي عمر بن عبد البر، سمع جده أبا عمر، وأجاز له روايته وتواليفه سنة 462، وسمع من أبي العباس العذري صحيحي البخاري ومسلم، ومن أبي الوليد الباجي صحيح البخاري ، قال ابن الأبار: إنهما لم يجيزا له شيئا من روايتهما ولا تواليفهما، قال: وقرأت بخط أبي عبد الله بن أبي البقاء أنه روى عن أبي الفتح السمرقندي ، وهذا أيضا لم يجز له، وتولى قضاء أغمات بالمغرب، وأخذ عنه جماعة هناك، وعمر حتى بلغ التسعين، وتوفي بأغمات وهو يتولى قضاءها سنة 532، وقيل سنة 533، وهذه رواية ابن بشكوال في معجم مشيخته ومولده ببلنسية سنة 443.
وأبو عبد الله بن يوسف بن أيوب بن القاسم بن بيرة بن عبد الرزاق بن غوصه بن سليمان بن صالح بن يزيد بن عبد الرحمن بن لبيب الداخل إلى الأندلس القرشي الفهري، سكن دانية، وأصله من شاطبة من قرية يقال لها «رغاط» قبلي الفج، وتلك القرية نزلها جدهم لبيب وذريته من بعده، سمع المترجم من أبيه أبي الحجاج، ومن أبي علي الصدفي، وأبي الحسن طاهر بن مفوز، وأجاز له أبو العباس العذري، وحدث عنه ابنه يوسف بن عبد الله وغيره، وتوفي بدانية يوم عاشوراء سنة 548، ومولده في شوال سنة 469.
وأبو محمد عبد الله بن طاهر بن حيدرة بن مفوز المعافري، من بيت العلم والفضل في شاطبة، أخذ القراءات عن ابن أبي العيش، وسمع الحديث من أبيه أبي الحسن طاهر، ومن أبي إسحاق بن جماعة، وأبي الوليد بن الدباغ، وتفقه بأبي عبد الله بن مغاور، وأبي بكر بن أسد، وكتب إليه من الإسكندرية أبو طاهر السلفي في رمضان سنة 536، وكان من أهل المعرفة بالفقه، حافظا لمسائل الرأي، بصيرا بالشروط، وقورا، رحب الصدر، عالي القدر، ولي قضاء بلده فحمدت سيرته، وجرى على سنن سلفه الصالح عدلا وزكاء وحلما وأناة وعفة نفس، قال أبو عمر بن عياد: قدم علينا لرية قاضيا عليها من قبل ابن سعد، وأفادنا كتاب الإمامة لأبي محمد بن مفوز الزاهد، كان يحمله عن أبيه طاهر، وكانت وفاته بجزيرة شقر، قدمها زائرا لبعض معارفه هناك، وكان قاضيا بشاطبة، فاحتمل إلى شاطبة ودفن بها إلى جانب سلفه - رحمهم الله - وأتبعه الناس ثناء جميلا، وكانت وفاته سنة 567، ومولده سنة 516، عن ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن خلف بن أبي الفرج التجيبي، أخذ القراءات عن أبيه أبي عبد الله بن محمد، وسمع الحديث من ابن جماعة، وابن الدباغ، وابن سعادة أبي عبد الله، وابن أسد أبي بكر، وابن عاشر، وابن مغاور، وأخذ الأدب عن ابن ينق، وأبي جعفر بن عبد الغفور الشاطبي، وولي الأحكام ببعض جهات شاطبة، وكان من أهل المعرفة بمسائل القضاء والبصر بالشروط، ولد سنة 512، وتوفي سنة 574، عن ابن الأبار.
وعبد الله بن محمد بن عبد الله بن سفيان التجيبي، من أهل شاطبة، وأصل سلفه من قونكة؛ ولذلك يعرف الواحد منهم بالقونكي، سمع جماعة من كبار العلماء؛ مثل ابن الدباغ، وابن هذيل، وابن النعمة، وابن سعادة، وابن بركة، وأبي العرب التجيبي، وأبي عامر بن ينق، وأبي محمد المكناسي، وأبي العلاء بن الجنان، وأبي الحسن بن سعد الخير، فتأدب بهم، وتفقه بهم وبغيرهم من تلك الطبقة العالية، وتولى قضاء لورقة، وكان بليغا مفوها صاحب نظم ونثر، توفي في حدود التسعين وخمسمائة، ذكره ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن موسى بن حفص الأنصاري من أهل دانية، سكن شاطبة، سمع بدانية من أبي بكر أسامة بن سليمان، وأبي القاسم بن إدريس، وأخذ العربية عن أبي عبد الله التجيبي، وعن عمه أبي الحسين يحيى بن عبد الله، وسمع بإشبيلية من أبي القاسم بن بقي موطأ مالك، ورحل إلى المشرق؛ فسمع بالإسكندرية ودمشق والموصل جماعة من كبار العلماء؛ منهم أبو عبد الله الحراني، وأبو نصر الشيرازي، وأبو عبد الله المقدسي، وأبو إسحاق إبراهيم الخشوعي، وغيرهم، وكتب إليه من مسندي بغداد طائفة منهم أبو صالح الجيلي، وأبو القاسم علي بن أبي الفرج الجوزي، وكان عنده شعر أبي العلاء المعري مسموعا على أبي إسحاق بن أبي اليسر عن والده عن جده عن أبي العلاء نفسه، ومال إلى علم الطب وعني به، وكان له حظ من الأدب، وكان معاصرا لابن الأبار القضاعي صاحب التكملة الحافظ الشهير والأديب الكبير، وقد زكاه في التكملة وقال عنه صاحبنا، وذكره بالتواضع والطهارة ونزاهة النفس ونباهة البيت، وقال: إنه صاحبه بتونس - وذلك بعد أن استولى العدو على بلنسية وهاجر ابن الأبار إلى تونس - ورحل المترجم إلى المشرق ثانية في أواخر ذي الحجة سنة 645، فتوفي بالقاهرة ظهر يوم الجمعة منسلخ شعبان، ودفن يوم السبت بعده مستهل رمضان من سنة 646، ومولده قبل التسعين وخمسمائة.
وأبو مروان عبد الله بن نجاح بن يسار، أخذ القراءات عن ابن الدوش، وسمع من أبي علي الصدفي في اجتيازه بشاطبة غازيا إلى كتندة في صفر سنة 514، وتصدر للإقراء بشاطبة وأخذ الناس عنه، قاله ابن الأبار.
وأبو الحسين بن عبيد الله محمد بن عبيد الله النفزي،
1
يعرف بابن قبوج، روى بشاطبة عن أبيه، وعن أبي عمر بن عات، وأبي الخطاب بن واجب، وغيرهم، وأخذ بإشبيلية الفقه عن ابن زرقون، ويقول ابن الأبار في التكملة إنه لقيه هناك سنة 618، ثم رجع إلى شاطبة، فلزم داره، واعتزل الناس، وأقبل على العبادة ودراسة العلم، وكان في شبيبته جود الشعر، ثم تنزه عنه زهادة بعد ذلك، وخرج من شاطبة بعد محاصرة الروم إياها وإفراجهم عنها على تملك بعضها، فركب المترجم البحر من دانية قاصدا بجاية من المغرب الأوسط، فتوفي عند وصوله، وذلك ليلة الخميس مستهل جمادى الأولى، ودفن لصلاة العصر منه سنة 642، وكانت له جنازة مشهورة، وكان الثناء عليه جميلا.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن عبد الله بن معافى المقرئ، روى عن أحمد بن نابت التغلبي، وروى عنه أبو المطرف عبد الرحمن بن موسى بن أبي تليد والد أبي عمران، وروى عنه أيضا ابنه عبد الرحمن بن معافى، ذكره ابن بشكوال.
وأبو محمد عبد الرحمن بن مروان العبسي، يعرف بابن الطوج، روى عن ابن عبد البر، وحدث عنه أبو عبد الله الحوضي المعروف بابن أبي أحد عشر، سمع منه كتاب التقصي لأبي عمر بن عبد البر، وذكره ابن بشكوال ووصفه بالصلاح، وروى أنه توفي سنة 507، وقال ابن الأبار : أحسبه من أهل شاطبة.
وأبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن نزار المرسي، قال ابن الأبار: لعله سكن مرسية ولو كان من شاطبة، روى عن طاهر بن مفوز، ورحل إلى قرطبة فأخذ عن أبي علي الغساني كتاب التقصي لابن عبد البر، وصحب في قرطبة القاضي المشهور والحكيم المعروف أبا الوليد بن رشد، وأبا محمد بن عتاب، وأبا بحر الأسدي، وأبا عبد الله بن الحاج، وأبا الحسن بن مغيث، وكان علم الرأي أغلب عليه من علم الحديث، وولي خطة الشورى بشاطبة، وكان فقيها حافظا حافلا، من أكثر الناس درسا، وكانت له مشاركة في أصول الفقه مع العدالة والتواضع، توفي سنة 540.
وأبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن يعيش المهري، روى عن أبي محمد بن عبد العزيز الأنصاري، وحدث عنه أبو الحسن ثابت بن أحمد بن عبد الولي الشاطبي، قاله أبو الحسن بن المفضل المقدسي. هكذا روى ابن الأبار.
وأبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن أحمد المكتب، من أهل شاطبة، نزل تلمسان، روى عن أبي محمد بن أيوب الحديث المسلسل في الأخذ باليد، وكان رجلا صالحا، حدث عنه أبو عبد الله بن عبد الحق التلمساني، ذكره ابن الأبار.
وأبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور بن حكم بن مغاور السلمي، سمع من أبيه ومن أبي علي الصدفي، وأبي جعفر بن غزلون، وأبي الوليد بن الدباغ، وله رواية عن القاضي الحسن بن واجب، وأبي بكر بن العربي، وأبي القاسم بن ورد، وأبي بكر بن مفوز، وكان في وقته بقية مشيخة الكتاب والأدباء بالأندلس، مع صدق اللهجة وكرم النفس، وكان بليغا مفوها مدركا له حظ وافر من قرض الشعر ومشاركة في الفقه، وله ديوان اسمه «نور الكمائم وسجع الحمائم» مشهور بأيدي الناس، وطال عمره، وحدث عنه الكثيرون، وهو آخر السامعين من أبي علي الصدفي؛ لأنه لما مات لم يكن بقي أحد ممن سمعوا من الإمام المذكور، وأمر أن يخط على قبره:
أيها الواقف اعتبارا بقبري
استمع فيه قول عظمي الرميم
أودعوني بطن الضريح وخافوا
من ذنوب كلومها بأديمي
قلت: لا تجزعوا علي فإني
حسن الظن بالرءوف الرحيم
واتركوني بما اكتسبت رهينا
غلق الرهن عند رب كريم
ولد بشاطبة سنة 502، وتوفي في صفر سنة 587، عن ابن الأبار.
وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الواحد بن سعيد بن يحيى بن إبراهيم بن محمد بن هارون بن غالب بن حرب بن أبي شاكر الأنصاري، سمع ببلنسية من أبي عبد الله بن بيبش الأندي أحاديث خراش. وروى عن ابن جماعة وابن الدباغ، وكان من أهل النباهة والعناية بالرواية.
وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله بن مطرف بن أبي سهل بن ياسين النفزي، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن عبادة الجياني، وأبي محمد قاسم بن فيروه الضرير، وغيرهما، وتصدى للإقراء ببلده شاطبة، وأخذ عنه ابنه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن. ذكره ابن الأبار، ولم يذكر تاريخ وفاته.
وأبو القاسم عبد الرحيم بن أحمد بن علي بن طلحة الأنصاري، من أهل سبتة، أصله من شاطبة، يعرف بابن عليم، سكن مراكش، ودخل الأندلس غازيا، ورحل حاجا سنة 613، وكتب الحديث بمصر ودمشق وبغداد وغيرها، ولقي السلفي وغيره من الأئمة، وبعد أن أقام بالشرق مدة قدم إلى تونس سنة 642، وسمع منه ابن الأبار بعد مهاجرته إلى تونس، وأجاز له وأخبره أن مولده عصر الجمعة السادس والعشرين لربيع الآخر سنة 535، وتوفي سنة 655، قلنا: إن لم يكن هناك خطأ في النسخ فيكون عمر المترجم 120 سنة، وليس هذا بقليل الوقوع في الدنيا، ولكن لو كان عمر إلى هذا الحد لكان ابن الأبار أشار إلى ذلك؛ فالأرجح عندنا أن هناك غلطا في الأرقام.
وأبو مروان بن عميرة الشاطبي يحدث عنه أبو عبد الله بن المعز اليفرني الميورقي لم يزد ابن الأبار في ترجمته على هذا السطر.
وأبو الحسن طاهر بن حيدرة بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري، من أهل بيت العلم الشهير بشاطبة، سمع أخاه أبا بكر، وأبا علي الصدفي، وأبا جعفر بن جحدر، وأجاز له عمه طاهر بن مفوز، وكان فقيها حافظا مقدما في علم الفرائض يلجأ إليه في ذلك. ولي قضاء شاطبة وجزيرة شقر جميعا فحمدت سيرته وشهرت عدالته، ثم استعفى من القضاء فأعفي، وتوفي في المحرم سنة 552، عن ابن الأبار.
وأبو عيسى لب بن محمد بن محمد، من أهل شاطبة، يعرف بالبلنسي؛ لأن أصله منها، صحب أبا عمر بن عات، وروى عن أبي الخطاب بن واجب، وأبي عبد الله بن سعادة، وغيرهما، وكان من أهل الثقة والعدالة، توفي في غرة جمادى الأولى سنة 631.
وإمام القراء أبو محمد القاسم بن فيره بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير. قال ابن خلكان: صاحب القصيدة التي سماها «حرز الأماني ووجه التهاني» في القراءات، وعدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا، وقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم، فقل من يشتغل بالقراءات ولا يقدم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنه سبق إلى أسلوبها، وقد روي عنه أنه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله - عز وجل - بها؛ لأني نظمتها لله تعالى مخلصا في ذلك. ثم إنه نظم قصيدة دالية في خمسمائة بيت من حفظها أحاط علما بكتاب التمهيد لابن عبد البر.
وكان عالما بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرا، وبحديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مبرزا فيه، وكان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه ويملي النكت على المواضع التي تحتاج إليها. وكان أوحد زمانه في علم النحو واللغة. ثم ذكر ابن خلكان أنه قرأ القرآن بالروايات على المقرئ أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي، وأبي الحسن علي بن محمد بن هذيل، وأنه سمع الحديث من أبي عبد الله بن سعادة، وأبي عبد الله محمد الخزرجي، والحافظ أبي الحسن بن النعمة، وغيرهم، وانتفع به خلق كثير.
قال: وأدركت من أصحابه جمعا كثيرا بالديار المصرية، وكان يجتنب فضول الكلام، ولا ينطق في سائر أوقاته إلا بما تدعو إليه ضرورة، ولا يجلس إلى الإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة وتخشع واستكانة. وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله قال: بعافية، لا يزيد على ذلك. وكانت ولادته في آخر سنة 538، وخطب ببلده على فتاء سنه، ودخل مصر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وكان نزيل القاضي الفاضل، ورتبه بمدرسته بالقاهرة متصدرا لإقراء القرآن وقراءة النحو واللغة، وتوفي يوم الأحد بعد صلاة العصر الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، ودفن يوم الاثنين في قرية القاضي الفاضل بالقرافة، وزرت قبره مرارا - رحمه الله تعالى - وصلى عليه الخطيب أبو إسحاق العراقي خطيب جامع مصر.
وفيره - بكسر الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها وتشديد الراء وضمها - وهو بلغة اللطيني من أعاجم الأندلس معناه في العربي الحديد. والرعيني - بضم الراء وفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون - هذه النسبة إلى ذي رعين، وهو أحد أقيال اليمن، نسب إليه خلق كثير.
والشاطبي - بفتح الشين المعجمة وبعد الألف طاء مكسورة مهملة وبعدها باء موحدة - هذه النسبة إلى شاطبة، وهي مدينة كبيرة ذات قلعة حصينة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء، استولى عليها الفرنج في العشر الأخير من رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة، وقيل: إن اسم الشيخ المذكور أبو القاسم، وكنيته اسمه، لكن وجدت في إجازات أشياخه له أبو محمد القاسم كما ذكرته هنا. ا.ه.
وأما صاحب نفح الطيب فقد رجح أن يكون اسمه أبا القاسم فقال: الإمام العلامة أبو القاسم الشاطبي صاحب حرز الأماني والعقيلة وغيرهما، وهو أبو القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي المقرئ الفقيه الضرير، إلى أن يقول: إنه دخل الديار المصرية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وحضر عند الحافظ السلفي، وابن بري وغيرهما، ثم ذكر ولادته سنة 538 ووفاته يوم الأحد الثامن والعشرين، وقيل: الثامن عشر من جمادى الآخرة سنة 590 بعد العصر، ودفن من الغد بالتربة الفاضلية بسفح المقطم.
وحكي أن الأمير عز الدين موسك الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له بعث إلى الشيخ الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه:
قل للأمير مقالة
من ناصح فطن نبيه
إن الفقيه إذا أتى
أبوابكم لا خير فيه
قال في النفح ما خلاصته: أن أبا الحسن بن خيره وصف الشاطبي من قوة الحفظ بأمر عجيب، وأنه كان موصوفا بالزهد والعبادة والانقطاع، وأن قبره بالقرافة يزار وترجى استجابة الدعاء عنده، وأن الشاطبي ترك أولادا منهم أبو عبد الله محمد، عاش نحو ثمانين سنة، وقال السبكي إنه كان قوي الحافظة، واسع المحفوظ، كثير الفنون؛ فقيها مقرئا محدثا نحويا زاهدا عابدا ناسكا، يتوقد ذكاء. قال السخاوي: أقطع أنه كان مكاشفا، وأنه سأل كتمان حاله. ا.ه.
وقد ترجمت الشاطبي الانسيكلوبيدية الإسلامية، فذكرت أن قصيدة الشاطبي في القراءات هي نظم كتاب التيسير لأبي عمرو الداني، وذكرت نقلا عن ياقوت أن القصدية المذكورة لا تخلو من صعوبة وتعقيد؛ لذلك كثر شراحها. ومن أشهر شارحيها برهان الدين بن عمر الجعبري المتوفى سنة 732، ولها شرح آخر لأحد تلاميذ الشاطبي، وهو أبو الحسن علي السخاوي، ولها شرح ثالث لأبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل، ولها شروح أخرى، وللشاطبي قصيدة ثانية اسمها «عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد»، وموضوع هذه قراءة القرآن على الوجه الأجمل لا ذكر أنواع القراءات. ثم للشاطبي قصيدة هي نظم التمهيد لابن عبد البر، وقد نقلت الانسيكلوبيدية عن ياقوت أنها قصيدة معقدة أيضا، ولكن لم يقدروا أن ينكروا أهمية كتب الشاطبي ورغبة الناس فيها.
وعبد العزيز بن ثابت بن سليمان بن سوار، من أهل شاطبة، ومن قرية بها تسمى بلاله، روى عن أبي عمر بن عبد البر، وصحبه سنين عدة، وسمع منه في سنة 453، وسمع بعد ذلك معه ابنه أبو محمد عبد الرحمن بن عبد العزيز في سنة 460، وذكره ابن الدباغ، قال ابن الأبار: قرأت بعضه بخط أبي الحسن طاهر بن مفوز. ولم يذكر في التكملة تاريخ وفاته.
وأبو محمد عبد العزيز بن عبد الله بن ثعلبة السعدي، رحل حاجا، وقدم دمشق، فسمع بها من أبي الحسن بن أبي الحديد، وعبد العزيز الكناني، ودخل العراق فسمع بها أبا محمد الصريفيني، وأبا منصور بن عبد العزيز العكبري ، وأبا جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة، ورتب شرح غريب الحديث لأبي عبيد، وسمع منه أبو محمد بن الأكفاني سنة 465، وقال: توفي بحوران من أعمال دمشق في رمضان سنة 465، ذكره ابن عساكر.
وأبو محمد عبد العزيز بن عبد الله بن سعيد بن خلف الأنصاري، روى عن أبي الحسن طاهر بن مفوز، سمع منه الحديث المسلسل في الأخذ باليد، حدث به عنه أبو زيد بن يعيش المهري، أفاد ذلك أبو الحسن بن المقدسي الحافظ، ذكره ابن الأبار في التكملة، ولم يذكر تاريخ وفاته.
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن محمد بن فرج بن سليمان بن يحيى بن سليمان بن عبد العزيز القيسي، يعرف بالمكناسي، أخذ القراءات عن أبيه، وأبي الحسن شريح بن محمد، وأبي علي منصور بن الخير، واستوطن غرناطة، وأقرأ بها الفرائض والحساب، وكان من أهل الأدب والعلوم الرياضية، مقرئا فقيها متكلما، عارفا بالوثائق، ولد بشاطبة سنة 452، وتوفي بغرناطة في صفر سنة 536، ذكره ابن أخيه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المكناسي، وحدث عنه.
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن خلف بن إدريس السلمي، روى عن أبي جعفر بن جحدر، وتفقه به ولازمه، وسمع الحديث من أبي عمران بن أبي تليد، وأبي علي الصدفي، وأبي القاسم بن الجنان، وكتب للقضاة، وولي خطة الشورى، وكان حافظا لمسائل الرأي عارفا بها، بصيرا بالوثائق، دربا بوجوه الفتيا وأحكام القضاء، نافذا في علم اللسان، وكانت في أخلاقه حزونة. روى عنه أبو جعفر بن أشكية، وأبو محمد بن سفيان، وتوفي بشاطبة سنة 541، عن ابن الأبار.
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العزيز، يعرف بابن النيبلش، سمع من أبي الوليد بن الدباغ موطأ مالك، ومن أبي عبد الله بن سعادة السير لابن إسحاق. قال ابن الأبار: وقيدت ذلك عن بعض شيوخنا، ثم وقفت بخطه على تسمية شيوخه ، وهم أبو الحسن بن هذيل، وأبو عبد الله بن سعيد الداني، وأبو الحسن بن النعمة، وأبو محمد عاشر بن محمد بن عاشر، وأبو عبد الله بن سعادة ، لم يذكر فيهم ابن الدباغ، وولي أحكام بلده للقاضي أبي القاسم بن إدريس، وكان فقيها حافظا، روى عنه أبو محمد بن خيرة، وأبو عبد الله بن أبي البقاء، أجاز له في سنة 603، وعاش بعد ذلك.
وأبو محمد عبد الوهاب بن إسحاق بن لب الفهري، يعرف بابن الحمري، منسوب إلى الحمرة - قرية بشاطبة - كذا قال ابن الدباغ، والصحيح في اسمها الحمراء وفي نسبه الحمراوي. أخذ عن صهره أبي جعفر بن جحدر، وتفقه به، وسمع من أبي محمد عبد الرحمن بن عبد العزيز بن ثابت الخطيب وغيره، وتوفي سنة 525.
وعبد الحق بن خلف من مفرج أبو العلا الكناني الشاطبي، يعرف بابن الجنان، سمع أباه، وصحب أبا إسحاق بن خفاجة، وكان من كبار الأدباء وجلة البلغاء والشعراء، وله بصر بالطب والعربية واللغة، توفي سنة 539 عن ستين سنة، وكان أبوه من فقهاء شاطبة، يروي عن الباجي، ذكره ابن الأبار في التكملة.
وأبو محمد عبد الغني بن مكي بن أيوب التغلبي، روى عن أبيه، وأبي عبد الله بن سيف، وسمع أبا بكر بن مفوز، وأبا عمران بن أبي تليد، وأبا علي الصدفي وجماعة. وتفقه بمرسية عند أبي محمد بن جعفر، وكان فقيها حافظا عالما شاعرا ماهرا في الشروط، ولي خطة الشورى ببلده، توفي سنة 555.
وأبو الحسن علي بن محمد بن أبي العيش الطرطوشي نزيل شاطبة، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن الدوش، وأبي المطرف بن الوراق، وأبي محمد بن جوشن، وتصدر للإقراء بشاطبة، وكان من أهل الصلاح والفضل مع التقدم في صناعة القراءات، أخذ عنه أبو بكر مفوز بن طاهر بن مفوز، وأخوه أبو محمد عبد الله، وأبو الحسين بن جبير الزاهد، وغيرهم. ولم يذكر ابن الأبار تاريخ وفاته.
وعلي بن عبد الله بن علي أبو الحسن الشاطبي بن البناد، روى عن أبي عبد الله بن سعادة، وأبي عبد الله بن عبد الرحيم، واختص بأبي بكر بن أبي جمرة، وكان فقيها مشاورا ذا ثروة وفضائل وتصانيف، توفي سنة أربع عشرة. هكذا ترجمه ابن الأبار في التكملة، واقتصر على قوله: توفي سنة أربع عشرة.
وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن محمد بن موسى جمال الدين التجيبي الأندلسي الشاطبي، نزيل دمشق، روى أبو عبد الله الفاسي عنه «الراية» بسماعه لها من المؤلف، وهو جد الجمال علي بن يحيى بن علي الشروطي.
وأبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن منخل النفزي الشاطبي، سمع من عبد المنعم بن الفرس، وأبي بكر بن أبي زمنين وحدث. توفي في آخر سنة 630، ترجمه ابن الأبار في التكملة.
وأبو محمد عاشر بن محمد بن عاشر بن خلف الأنصاري، سكن شاطبة، سمع من أبي علي بن سكرة، وأبي جعفر بن جحدر، وأبي عامر بن حبيب، وأبي عمران بن أبي تليد، وأبي بحر الأسدي وجماعة، وتفقه بأبي محمد بن أبي جعفر، وأخذ القراءات بقرطبة عن أبي العباس بن ذروة، وأخذ بعضها عن أبي القاسم بن النحاس، وسمع من أبي محمد بن عتاب وغيره، وأجاز له أبو عبد الله الخولاني، وكتب إليه من مكة رزين بن معاوية، ومن الإسكندرية أبو الحجاج بن نادر، وعني بعلم الرأي، وشهر بالفهم والحفظ، وولي خطة الشورى ببلنسية، ثم ولي قضاء مرسية وأقاليمها؛ فنال دنيا عريضة وحمدت سيرته، فلما انقضت الدولة اللمتونية سنة تسع وثلاثين صرف ونزل شاطبة يدرس ويحدث، وكان رأس الفتوى، وإليه ترد صعاب المسائل ومشكلاتها.
وكان متفننا في العلوم، روى عنه أبو الخطاب بن واجب، وأبو عبد الله بن سعادة، وابن أخته أبو محمد بن غلبون، وأبو عبد الله الأندرشي، وصنف «الجامع البسيط وبغية الطالب النشيط» دل به على مكانه من العلم، ووصل فيه إلى كتاب الشهادات، وتوفي قبل إتمامه، وهو كتاب مطول رجح فيه واستدل.
توفي في نصف شعبان سنة 567 بعد أن كف بصره، وولد بحصن يناشته سنة 484، قال ابن الزبير: قال ابن عات وأخذ عنه: أخبرني أنه رأى محمد بن فرج بقرطبة شيخا كبيرا، توفي في الجامع ليلة سبع وعشرين من رمضان. قال ابن الزبير: روى عن عاشر أبو محمد عبد المنعم بن الفرس ، والحاج أبو العباس بن عمرة، وأبو بكر بن أبي جمرة، وأبو محمد غلبون المرسي. قيل لأبي سليمان بن حوط الله: هل رأيت أحفظ من ابن الجد؟ قال: نعم، رأيت عاشرا، وكان أحفظ منه. في النسخة: توفي سنة سبع وسبعين، عن ابن الأبار.
وأبو محمد هارون بن أحمد بن جعفر بن عات النفزي الشاطبي، أخذ القراءات عن أبي مروان بن يسار صاحب ابن الدوش، وسمع من أبي الوليد بن الدباغ، ودرس الفقه على أبي جعفر الخشني، ولازمه سبع سنين وعرض عليه المدونة مرات، ومهر عنده، وكان فقيها مشاورا مستقلا بالفتاوى، فرضيا حاسبا، له تواليف، استقضي ببلده فحمدت سيرته، حدث عنه أبو عمر بن عياد، ومن شيوخنا ابنه أبو عمر، وأبو عبد الله بن سعادة، وتوفي في شعبان سنة 582 وله سبعون سنة.
وسليمان المعروف بالبيغي الشاطبي نزيل سبتة، لقي أبا عمر بن عبد البر، وأبا العباس العذري، وأبا الأصبغ بن سهل وغيرهم، وأجازوا له، سمع منه القاضي عياض، توفي في نحو سنة 520.
وأبو الحسين يحيى بن أحمد بن محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري، من ولد سعيد بن عبادة الداني، سكن شاطبة، وسمع من صهره أبي بكر بن أبي جمرة، وأبي الخطاب بن واجب، وجماعة كثيرة، وعني بهذا الشأن مع الحظ الوافر من البلاغة والكتابة والضرب بسهم في الشعر إلى نباهة البيت. قال ابن الأبار: سمعت «منه» وصحبته مدة صارت إليه في الفتنة رئاسة شاطبة وتدبير أمورها من قبل محمد بن يوسف بن هود والي الأندلس، وتوفي في شعبان سنة 634 عن خمس وخمسين سنة.
وأبو عبد الله محمد بن سراقة الشاطبي بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة محيي الدين، ويكنى أيضا أبا القاسم، وأبا بكر الأنصاري الشاطبي المالكي، ولد بشاطبة سنة 592، وسمع من أبي القاسم بن بقي، ورحل في طلب الحديث؛ فسمع ببغداد من الشيخ أبي حفص عمر السهروردي، وأبي طالب الغبيطي، وأبي جعفر الدينوري وجماعة، وسمع بحلب من ابن شداد وغيره، وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد وفاة ابن سهل القصري سنة 642، وبقي بها إلى أن توفي بالقاهرة في شعبان سنة 663، ودفن بسفح المقطم، وكان الجمع كبيرا
وهو أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل وكثرة العلم والجلالة والنبل، وأحد مشايخ الصوفية، له في ذلك إشارات لطيفة مع الدين والعفاف والبشر والوقار والمعرفة الجيدة بمعاني الشعر، وكان صالح الفكرة في حل التراجم مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق، واطراح التكليف، ورقة الطبع، ولين الجانب. ومن شعره قوله:
نصبت ومثلي للمكارم ينصب
ورمت شروق الشمس وهي تغرب
وحاولت إحياء النفوس بأسرها
وقد غرغرت يا بعد ما أنا أطلب
وأتعب إن لم تمنح الخلق راحة
وغيري إن لم تتعب الخلق يتعب
مرادي شيء والمقادير غيره
ومن عاند الأقدار لا شك يغلب
وقوله:
إلى كم أمني النفس ما لا تناله
فيذهب عمري والأماني لا تقضى
وقد مر لي خمس وعشرون حجة
ولم أرض فيها عيشتي فمتى أرضى؟
وأعلم أني والثلاثون مدتي
حر بمغاني اللهو أوسعها رفضا
فماذا عسى في هذه الخمس أرتجي
ووجدي إلى أوب من العشر قد أفضى
فيا رب عجل لي حياة لذيذة
وإلا فبادر بي إلى العمل الأرضى
وقال - رحمه الله تعالى:
وصاحب كالزلال يمحو
صفاؤه الشك باليقين
لم يحص إلا الجميل مني
كأنه كاتب اليمين
وهذا عكس قول المنازي:
وصاحب خلته خليلا
وما جرى غدره ببالي
لم يحص إلا القبيح مني
كأنه كاتب الشمال
ترجمه المقري في النفح.
وأبو الوليد بن الجنان محمد بن الشرف أبي عمرو بن الكاتب أبي بكر بن العالم الجليل أبي الملاء بن الجنان الكناني الشاطبي. قال ابن سعيد: توارثوا بشاطبة مراتب تحسدها النجوم الثاقبة، وأبو الوليد أشعرهم، وقد تجدد به في أقطار المشرق مفخرهم، وهو معروف هناك بفخر الدين، ومتصدر في أئمة النحويين، ومرتب في شعراء الملك الناصر صاحب الشام، ومقطعاته الغرامية قلائد أهل الغرام، صحبته بمصر ودمشق وحلب، وجريت معه طلق الجموح في ميادين الأدب، وأنشدني بدمشق:
أنا من سكر هواهم ثمل
لا أبالي هجروا أم وصلوا
فبشعري وحديثي فيهم
زمزم الحادي وسار المثل
إن عشاق الحمى تعرفني
والحمى يعرفني والطلل
رحلوا عن ربع عيني فلذا
أدمعي عن مقلتي ترتحل
ما لها قد فارقت أوطانها
وهي ليست لحماهم تصل
لا تظنوا أنني أسلو فما
مذهبي عن حبكم ينتقل
وقوله - رحمه الله تعالى:
بالله يا بانة الوادي إذا خطرت
تلك المعاطف حيث الشيح والغار
فعانقيها عن الصب الكئيب فما
على معانقة الأغصان إنكار
وعرفيها بأني فيك مكتئب
فبعض هذي لها بالحب أخبار
وأنتم جيرة الجرعاء من إضم
لي في حماكم أحاديث وأسمار
وأنتم أنتم في كل آونة
وإنما حبكم في الكون أطوار
ويا نسيما سرى تحدو ركائبه
لي بالغوير لبانات وأوطار
وله:
يا - رعى الله - إننا بين روض
حيث ماء السرور فيه يجول
تحسب الزهر عنده يتثنى
وتخال الغصون فيه تميل
وله:
هات المدام فقد ناح الحمام على
فقد الظلام وجيش الصبح في غلب
وأعين الزهر من طول البكا رمدت
فكحلتها يمين الشمس بالذهب
والكأس حلتها حمراء مذهبة
لكن أزرتها من لؤلؤ الحبب
كم قلت للأفق لما أن بدا صلفا
بشمسه عندما لاحت من الحجب
إن تهت بالشمس يا أفق السماء فلي
شمسان وجه نديمي وابنة العنب
قم اسقنيها وثغر الصبح مبتسم
والليل تبكيه عين البدر بالشهب
والسحب قد لبست سود الثياب وقد
قامت لترثيه الأطيار في القضب
وله:
عليك من ذاك الحمى يا رسول
بشرى علامات الرضا والقبول
جئت وفي عطفيك منهم شذا
يسكر من خمر هواه العذول
ومنها:
أحبابنا ودعتم ناظري
وأنتم بين ضلوعي نزول
حللتم قلبي وهو الذي
يقول في دين الهوى بالحلول
أنا الذي حدث عني الهوى
بأنني عن حبكم لا أحول
فليزد العاذل في عذله
وليقل الواشي لكم ما يقول
انتهى كلام النور بن سعيد. وقال غيره: ولد المذكور بشاطبة منتصف شوال سنة 615، ومات بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، وكان عالما فاضلا ، دمث الأخلاق، كريم الشمائل، كثير الاحتمال، واسع الصدر، صحب الشيخ كمال الدين بن العديم، وولده قاضي القضاة مجد الدين، فاجتذبوه إليهم وصار حنفي المذهب، ودرس بالمدرسة الإقبالية الحنفية بدمشق، وله مشاركة في علوم كثيرة.
وله أيضا:
قم اسقنيها وليل الهم منهزم
والصبح أعلامه محمرة العذب
والسحب قد نثرت في الأرض لؤلؤها
تضمن الشمس في ثوب من الذهب
انتهى. وقد تقدم عن ابن سعيد له ما يقارب هذا، وله - رحمه الله تعالى - في كاتب:
ولي كاتب أضمرت في القلب حبه
مخافة حسادي عليه وعذالي
له صنعة في خط لام عذاره
ولكن سها إذ نقط اللام بالخال
عن نفح الطيب للمقري.
وأبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري الشاطبي، نزيل إسكندرية، ويعرف بابن أبي الربيع، أحد أولياء الله تعالى، شيخ الصالحين، صاحب الكرامات المشهورة. جمع بين العلم والعمل والورع والزهد والانقطاع إلى الله تعالى، والتخلي عن الناس، والتمسك بطريقة السلف، قرأ القرآن ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله محمد بن سعادة الشاطبي وغيره، وقرأ بدمشق على الواسطي، وسمع عليه الحديث، ورحل فسمع من الزاهد أبي يوسف يعقوب خادم أضياف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين قبره ومنبره سنة 617، وسمع بدمشق على أبي القاسم بن صصري، وأبي المعالي بن خضر، وأبي الوفاء بن عبد الحق، وغيرهم، وانقطع لعبادة الله تعالى في رباط سوار من الإسكندرية بتربة أبي العباس الراسي، وتلمذ للشاطبي تلميذ الراسي.
وصنف كتبا حسنة، منها كتاب «المسلك القريب في ترتيب الغريب»، وكتاب «اللمعة الجامعة في العلوم النافعة» في تفسير القرآن العزيز، وكتاب «شرف المراتب والمنازل في معرفة العالي في القراءات والنازل»، وكتاب «المباحث السنية في شرح الحصرية»، وكتاب «الحرقة في إلباس الخرقة»، وكتاب «المنهج المفيد في ما يلزم للشيخ والمريد»، وكتاب «النبذ الجلية في ألفاظ اصطلح عليها الصوفية»، وكتاب «زهر العريش في تحريم الحشيش»، وكتاب «الزهر المضي في مناقب الشاطبي»، وكتاب «الأربعين المضية في الأحاديث النبوية»، ومولده بشاطبة سنة 585، ووفاته بالإسكندرية في رمضان سنة 672، ودفن بتربة شيخه المجاورة لزاويته - رحمهما الله تعالى ونفع بهما - عن المقري في النفح.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة مرسي، سكن شاطبة، ودار سلفه بلنسية، سمع أبا علي الصدفي ، واختص به وأكثر عنه، وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وأمهات كتبه الصحاح؛ لصهر كان بينهما، وسمع أيضا أبا محمد بن أبي جعفر، ولازم حضور مجلسه للتفقه به، وحمل ما كان يرويه ورحل إلى غرب الأندلس، فسمع أبا محمد بن عتاب، وأبا بحر الأسدي، وأبا الوليد بن رشد، وأبا عبد الله بن الحاج، وأبا بكر بن العربي، وغيرهم، وكتب إليه أبو عبد الله الخولاني، وأبو الوليد بن طريف، وأبو الحسن بن عفيف، وأبو القاسم بن صواب، وأبو محمد بن السيد، وغيرهم.
ثم رحل إلى المشرق سنة عشرين وخمسمائة، فلقي بالإسكندرية أبا الحجاج بن نادر الميورقي، وصحبه وسمع منه، وأخذ عنه الفقه وعلم الكلام، وأدى فريضة الحج في سنة إحدى وعشرين، ولقي بمكة أبا الحسن رزين بن معاوية العبدري؛ إمام المالكية بها، وأبا محمد بن صدقة المعروف بابن غزال؛ من أصحاب كريمة المروية، فسمع منها وأخذ عنها. وروى عن أبي الحسن علي بن سند بن عياش الغساني ما حمل عن أبي حامد الغزالي من تصانيفه.
ثم انصرف إلى ديار مصر؛ فصحب ابن نادر إلى حين وفاته بالإسكندرية، ولقي أبا طاهر بن عوف، وأبا عبد الله بن مسلم القرشي، وأبا طاهر السلفي، وأبا زكريا الزناتي، وغيرهم، فأخذ عنهم، وكان قد كتب إليه منها أبو بكر الطرطوشي، وأبو الحسن بن مشرف الأنماطي، ولقي في صدره بالمهدية أبا عبد الله المازري؛ فسمع منه بعض كتاب المعلم، وأجاز له باقيه، وعاد إلى مرسية في سنة ست وعشرين وقد حصل في رحلته علوما جمة ورواية فسيحة، وكان عارفا بالسنن والآثار، مشاركا في علم القرآن وتفسيره، حافظا للفروع، بصيرا باللغة والغريب، ذا حظ من علم الكلام، مائلا إلى التصوف مؤثرا له، أديبا بليغا خطيبا فصيحا، ينشئ الخطب مع الهدي والسمت والوقار والحلم، جميل الشارة، محافظا على التلاوة بالخشوع، راتبا على الصوم ، وولي خطة الشورى بمرسية مضافة إلى الخطبة بجامعها، وأخذ في إسماع الحديث وتدريس الفقه، ثم ولي القضاء بها بعد انقراض دولة الملثمة، ونقل إلى قضاء شاطبة فاتخذها وطنا، وكان يسمع الحديث بها وبمرسية وبلنسية، ويقيم الخطب أيام الجمع في جوامع هذه الأمصار الثلاثة متعاقبا عليها.
وقد حدث بالمرية، وهناك أبو الحسن بن موهب، وأبو محمد الرشاطي، وغيرهما، وسمع منه أبو الحسن بن هذيل جامع الترمذي، وألف كتابه «شجرة الوهم المرقية إلى ذروة الفهم»، ولم يسبق إلى مثله، وليس له غيره، وجمع فهرسة حافلة، ووصفه غير واحد بالتفنن في العلوم والمعارف، والرسوخ في الفقه وأصوله، والمشاركة في علم الحديث والأدب، وقال ابن عياد في حقه: إنه كان صليبا في الأحكام، مقتفيا للعدل، حسن الخلق والخلق، جميل المعاملة، لين الجانب، فكه المجالسة، ثبتا حسن الحظ، من أهل الإتقان والخط والضبط، وحكي أنه كانت عنده أصول حسان بخط عمه مع الصحيحين بخط السلفي في سفرين، قال: ولم يكن عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها، ولا كان فيهم من رزق عند الخاصة والعامة من الحظوة والذكر وجلالة القدر ما رزقه. وذكره ابن سفيان أيضا، وأبو عمر بن عات، ورفعوا جميعا بذكره، وتوفي بشاطبة مصروفا عن قضائها آخر الحجة سنة خمس، ودفن أول يوم من سنة ست وستين وخمسمائة، ودفن بالروضة المنسوبة إلى عمر بن عبد البر، ومولده في رمضان سنة 496.
والشيخ الفاضل المتقن أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف الأنصاري الشاطبي الأصل، البلنسي المولد في أحد ربيعي سنة أحد وستمائة، ولقبه المشارقة برضي الدين، وتوفي بالقاهرة سنة 684 - رحمه الله تعالى - وقد تقدمت ترجمته.
ونزيد ها هنا أنه حدث عن أبي المنير وغيره، واشتغل الناس عليه بالقاهرة، وله تصانيف مفيدة، وسمع من الحافظ أبي الربيع بن سالم، وكتب على صحاح الجوهري وغيره حواشي في مجلدات، وأثنى عليه تلميذه أبو حيان، رحم الله تعالى الجميع. ومن فوائده قوله: نقلت من خط أبي الوليد بن خيرة الحافظ القرطبي في فهرسة أبي بكر بن مفوز: قد أدركته بسني ولم آخذ عنه، واجتمعت به، أنشدني له أبو القاسم بن الأبرش يخاطب بعض أكابر أصحاب محمد بن حزم والإشارة لابن حزم الظاهري:
يا من تعنى أمورا لن يعانيها
خل التعاني وأعط القوس باريها
تروي الأحاديث عن كل مسامحة
وإنما لمعانيها معانيها
قال: وأنشدنا لبعضهم:
لا رعى الله عزمة ضمنت لي
سلوة الصبر والتصبر عنه
ما وفت غير ساعة ثم عادت
مثل قلبي تقول: لا بد منه
وقرأ الرضي ببلده على ابن صاحب الصلاة آخر أصحاب ابن هذيل، وسمع منه كتاب التلخيص للواني، وسمع بمصر من ابن المنير وجماعة، وروى عنه الحافظ المزني واليونيني والظاهري وآخرون، وانتهت إليه معرفة اللغة وغريبها. وكان يقول: أحرف اللغة على قمسين: قسم أعرف معناه وشواهده، وقسم أعرف كيف أنطق به فقط - رحمه الله تعالى. ومن فوائد الرضي الشاطبي المذكور ما ذكره أبو حيان في البحر قال: وهو من غريب ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لزينب بنت إسحاق النصراني الرسعيني، وقد سبق ذكر هذه الأبيات:
عدي وتيم لا أحاول ذكرهم
بسوء ولكني محب لهاشم
وما يعتريني في علي ورهطه
إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون: ما بال النصارى تحبهم
وأهل النهى من أعرب وأعاجم
فقلت لهم: إني لأحسب حبهم
سرى في قلوب الخلق حتى البهائم
ومن نظم الرضي المذكور:
منغص العيش لا يأوي إلى دعة
من كان في بلد أو كان ذا ولد
والساكن النفس من لم ترض همته
سكنى بلاد ولا سكنى إلى أحد
وله:
لولا بناتي وسيئاتي
لطرت شوقا إلى الممات
لأنني في جوار قوم
بغضني قربهم حياتي
وتحاكم إلى رضي الدين المذكور الجزار والسراج الوراق أيهما أشعر، وأرسل إليه الجزار شيئا فقال: هذا شعر جزل من نمط شعر العرب، فبلغ ذلك الوراق، فأرسل إليه شيئا، فقال: هذا شعر سلس، وآخر الأمر قال: ما أحكم بينكما - رحمه الله تعالى.
وأم العز بنت أحمد بن علي بن هذيل أخذت قراءة نافع عن أم معفر - حرم الأمير محمد بن سعد - وبرعت في حفظ الأشعار، وتوفيت بشاطبة إثر خروجها من حصار بلنسية سنة 636.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد حياز الشاطبي الأوسي، قدم مصر، وكان أخذ عن ابن برطله، وابن البراء، وغيرهما، وعمل فهرسة شيوخه على حروف المعجم، وحج وعاد إلى بلده، ومات يوم الجمعة حادي عشر رجب سنة ثماني عشرة وسبعمائة - رحمه الله تعالى وغفر له.
وأبو عثمان سعيد بن يونس بن عيال - قاضي شاطبة - توفي في المحرم سنة 440، ذكره ابن بشكوال في الصلة.
وأبو محمد عبد العزيز بن عبد الله بن ثعلبة السعدي الشاطبي، قدم مصر ودمشق طالب علم، وسمع أبا الحسن بن أبي الحديد، وأبا منصور العكبري، وغيرهما، وصنف غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام على حروف المعجم، وسمعه عليه أبو محمد الأكفاني، وتوفي بأرض حوران من أعمال دمشق في رمضان سنة 465 - رحمه الله تعالى ورضي عنه - عن المقري في النفح، وقد سبق بعض ترجمته نقلا عن ابن الأبار في التكملة.
هوامش
المدن القريبة من شاطبة
ومن أقرب المدن إلى شاطبة مدينة «أوليبة
Oliva »، وسكانها اليوم ثمانية آلاف، يحف بها شجر التوت والزيتون، ثم بلدة يقال لها «مولينل
Molinell »، وفي نواحيها كروم كثيرة، يصدر منها موسم زبيب معروف بالزبيب البلنسي، ثم بلدة يقال لها «فرجل
Vergel »، وبلدة يقال لها: «أنداره
Ondara »، وهذه البلدة الأخيرة (أندارة) سبق ذكرها، وقلنا: إنه ينسب إليها رجال من أهل العلم في زمن العرب، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المعافري، ذكره ابن الأبار في التكملة، يعرف بابن الأنداري
دانية
DENIA
ثم مدينة «دانية»
1
والسكة الحديدية من بلنسية إلى دانية تشق بساتين قرقاجنت
Carcagente ، ثم يدخل في وادي فالدينية
Valldigna ، ويمر بطبرنة وأندة وأوليبه، حتى ينتهي إلى دانية، وهذه البلدة قد سقطت اليوم عما كانت عليه في زمن العرب؛ فجميع سكانها بحسب قول دليل بديكر 12400 نسمة، وقد ورد في الدليل المذكور أنها بلغت في زمان العرب أوج عظمتها؛ فكان فيها سنة 715 الموافقة سنة 1253 نحو من خمسين ألف نسمة، ومنظرها بديع، ومسارح لمحاتها تبهج الناظر، ولها رابية مشرفة على البحر يعلوها حصن تداعى الآن إلى الخراب. والبلدة مبنية إلى الجهة الجنوبية الشرقية من هذه الرابية، وقد زرت هذه البلدة في سنة 1930 أثناء سياحتي في الأندلس، وبت فيها ليلة واحدة، وتذكرت أيام العرب الخالية في جملة ما تذكرته في هذه السياحة.
والإسبانيون يلفظون دانية بالإمالة، كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب، وقد نقلوا هذه الإمالة عن العرب الذين كانوا في الأندلس كلها يميلون الألف فيقولون للباب: بيب، ويقولون: «خمس ميه» لا خمسمائة، ويقولون: «كل سني» بدلا من «كل سنة»، وإذا قال الواحد منهم: «والدنا» كسر الواو وأسكن اللام؛ فتسمعه كأنه يقول: «ولدنا»، ويقولون: «الإمام الأوزيعي» بدلا من «الإمام الأوزاعي»، ويلفظون «الحكم» بكسر الكاف، و«فرقد» بكسر القاف، ويقولون: «كتيب» بدلا من «كتاب»، وهلم جرا مما لا يحصى.
وكان الرومانيون يقولون لدانية: «دانيوم»
Danium ، وهي في الأصل مدينة أيبيرية استعمرها اليونانيون أيام ما كانوا بمرسيلية، وكان بحذاء الحصن الذي في دانية هيكل منسوب إلى «ديانا
Diana »، ووراء دانية جبال ذات ارتفاع لها مناظر بهيجة أشهرها جبل مونغو
Mongo ، وعلوه 761 مترا، وفي رأس هذا الجبل آثار من وقت وجود الفرنسيس في إسبانيا في أوائل القرن الماضي؛ لأن العالمين الإفرنسيين بيوت
Biot
وأراغو
Arago
قاسا من هذه القمة سنة 1806 خط نصف النهار الباريزي.
وبالقرب من دانية رأس في البحر يقال له رأس «سان أنطونيو»، وعلى مسافة خمسة كيلومترات إلى غربي دانية قرية يقال لها «جابية
Javia »، وفي نواحيها كثير من الكروم، ويخرج منها موسم زبيب عظيم، ودانية اليوم مركز تجارة للزبيب الفاخر يصدرون منه كثيرا إلى إنكلترة.
جاء ذكر دانية في معجم البلدان؛ قال: دانية - بعد الألف نون مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت مفتوحة - مدينة بالأندلس من أعمال بلنسية، على ضفة البحر شرقا، مرساها عجيب يسمى السمان، ولها رساتيق واسعة كثيرة التين والعنب واللوز. وكانت قاعدة ملك أبي الحسن مجاهد العامري، وأهلها أقرأ أهل الأندلس؛ لأن مجاهدا كان يستجلب القراء ويفضل عليهم وينفق عليهم الأموال؛ فكانوا يقصدونه ويقيمون عنده؛ فكثروا في بلاده، ومنها شيخ القراء أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني - صاحب التصانيف في القراءات والقرآن. ا.ه.
وجاء في النفح: وأما شرق الأندلس ففيه من القواعد مرسية وبلنسية ودانية والسهلة والثغر الأعلى. فمن أعمال مرسية أوريولة والقنت ولورقة وغير ذلك، ومن أعمال بلنسية شاطبة التي يضرب بحسنها المثل، ويعمل بها الورق الذي لا نظير له، وجزيرة شقر، وغير ذلك. وأما دانية فهي شهيرة ولها أعمال. وأما السهلة فإنها متوسطة بين بلنسية وسرقسطة؛ ولذا عدها بعضهم من كور الثغر الأعلى، ولها مدن وحصون ... إلخ. وقد تقدم نقل ذلك عن نفح الطيب.
وجاء في صبح الأعشى ذكر دانية، قال: هي من شرق الأندلس، وموقعها في أوائل الإقليم الخامس من الأقاليم السبعة، قال ابن سعيد: حيث الطول تسع عشرة درجة وعشر دقائق، والعرض تسع وثلاثون درجة وست دقائق، وهي غربي بلنسية على البحر عظيمة القدر كثيرة الخيرات، ولها عدة حصون، وقد صارت الآن من مضافات برشلونة مع بلنسية. ا.ه.
وقال الشريف الإدريسي في نزهة المشتاق: ومدينة دانية على البحر عامرة حسنة لها ربض عامر، وعليها سور حصين، وسورها من ناحية المشرق في داخل البحر قد بني بهندسة وحكمة، ولها قصبة منيعة جدا، وهي على عمارة متصلة وشجرات تين كثيرة وكروم. وهي مدينة تسافر إليها السفن وبها ينشأ أكثرها؛ لأنها دار إنشاء السفن ومنها تخرج السفن إلى أقصى المشرق، ومنها يخرج الأسطول للغزو. وفي الجنوب منها جبل عظيم مستدير يظهر من أعلاه جبال «يابسة» في البحر، ويسمى هذا الجبل «جبل قاعون». ا.ه. يريد بيابسة جزيرة يابسة التي أعلى قمة في جبالها تعلو 475 مترا.
وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية بقلم المستشرق سيبولد
Seybold : دانية مركز كورة من الشمال الشرقي من مقاطعة القنت، وهي المقاطعة الجنوبية من المقاطعات الثلاث التي كانت تتشكل منها مملكة بلنسية، وهذه المقاطعات هي: قشتلون وبلنسية والقنت. فدانية التي عدد أهلها اليوم 14000 واقعة على الطرف الجنوبي الشرقي من خليج بلنسية، وإلى الشمال من جبل مونغو الذي كان العرب يقولون له جبل قاعون، وهو جبل ارتفاعه 712 مترا، وإلى الشمال الغربي من رأس سان أنطونيو مرسى دانية، وهو مرسى جيد، والمدينة هي من بناء اليونان الفوسيين الذين كانوا في مرسيلية وأمبورية، بنوها في القرن السادس قبل المسيح، وكان مبنيا على الأكمة المشرفة على دانية هيكل يقال له: «أرتميز»، وفي زمن الرومان قيل له: ديانيوم؛ أي مدينة ديانا، ثم جاء العرب فقالوا: دانية، ولفظوها بالإمالة، والإسبانيون يقولون لها دينية
Dinia .
وكانت دانية في القديم حليفة للرومانيين، ولكن القرطاجنيين لم يتعرضوا لها، وانتصر «كاتون» فيها على الإسبانيول قبل سنة 195، كما أن «سرتوريوس» - منقذ إسبانية - وجد فيها معقلا حصينا، وكانت في زمن الرومان إلى جانب بومبي
، فانتقم منها قيصر، ومع هذا فقد كانت في أيام الرومانيين زاهرة كما يستدل على ذلك من آثارها الحفرية، ولكن لم تبلغ في وقت من الأوقات ما بلغته من العظمة في أيام العرب؛ إذ كان فيها خمسون ألف نسمة. ولا يعلم كيف كانت دانية في أيام القوط.
وكان لدانية شأن في زمن عبد الرحمن الأول الأموي، ولكن تعاظم شأنها في أيام ملوك الطوائف بعد سقوط الخلافة سنة 1013؛ إذ جاءها مجاهد العامري مولى عبد الرحمن بن المنصور، وهو أبو الجيش مجاهد الموفق الذي استولى عليها سنة 1015 إلى سنة 1030 وعلى جزر الباليار، وأراد أن يستولي على سردانية، ثم خلفه ابنه علي إقبال الدولة، فملكها من سنة 1044 إلى سنة 1076، ولم يزل فيها إلى أن انتزعها من يده المقتدر بن هود - ملك سرقسطة - فبقيت إلى سنة 1081 تابعة لسرقسطة.
ثم عندما تقاسم أولاد المقتدر بن هود مملكة أبيهم خرجت دانية مع لاردة وطرطوشة في حصة المنذر من أولاد المقتدر، فبقيت تحت طاعته إلى سنة 1090، ثم وليها سليمان سيد الدولة تحت وصاية بني بتير إلى سنة 1092، ثم تعاقبت عليها الولاة من قبل المرابطين والموحدين، وكانت تقع فيها ثورات غير قليلة، وسنة 1244 استرجعها الإسبانيون من المسلمين على يد القائد الألماني كروس
Carroz ، الذي كان أمير جيش جاك الأول ملك أراغون. وسنة 1336 جعلها بطرس الرابع كونتية، كما أنه في زمن فرديناند وإيزابلا صارت مركيزية.
2
ثم إنهم في سنة 1610 طردوا منها المسلمين الذين كانوا هناك، من أهل العمل والصناعة، فسقطت دانية عن مكانتها بذهابهم، وكان ذلك في زمن فيليب الثالث - ملك إسبانية - وفي حرب الوراثة الإسبانية ظهر لها شأن وحاصرها فيليب الخامس ثلاث مرات، وأخذها سنة 1708، ثم إن الفرنسيس استولوا عليها سنة 1812. انتهى ملخصا. وقد ذكر سيبولد أن أشهر عالم عربي خرج من دانية هو المفسر الكبير أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني.
وجاء في كتاب «البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب» لأبي العباس بن عذارى المراكشي في الجزء الثالث من هذا الكتاب المطبوع على يد المستشرق لافي بروفنسال أن مجاهدا العامري المنتزي على مدينة دانية والجزائر الشرقية كان من فحول فتيان بني عامر، قدمه المنصور بن أبي عامر عليها، وكان عند وقوع الفتنة بقرطبة مقدما على هذه الجزائر الثلاث، فلما صح عنده وقوعها خرج إلى دانية وضبطها وجميع أعمالها المنضافة إليها وتسمى بالموفق بالله، وكتب بهذا اللقب عن نفسه، وكتب له به، وكان ذا نباهة ورئاسة، زاد على نظرائه من ملوك طوائف الأندلس بالأنباء البديعة، منها العلم والمعرفة والأدب، وكان مع ذلك من أهل الشجاعة والتدبير والسياسة، قصد هذه الجزائر ميورقة ومنورقة ويابسة؛ فانتزى على جميعها لنفسه، وتغلب عليها وحماها، وغزا منها جزيرة سردانية، فغلب على كثير منها. وكان مجاهد هذا من أهل العفاف والعلم فقصده العلماء والفقهاء من المشرق والمغرب، وألفوا له تواليف مفيدة في سائر العلوم فأجزل صلاتهم على ذلك بآلاف الدنانير، ومضى على ذلك طول عمره إلى أن حانت وفاته بعد أن ملكها ستا وثلاثين سنة، جرها في أمر ونهي.
قال حيان بن خلف:
كان مجاهد فتى أمراء دهره، وأديب ملوك عصره؛ لمشاركته في علوم اللسان ونفوذه في علوم القرآن، عني بذلك من صباه إلى حين اكتهاله، ولم يشغله عن ذلك عظيم ما مارسه من الحروب برا وبحرا حتى صار في المعرفة نسيج وحده، وجمع من دفاتر العلوم خزائن جمة، فكانت دولته أكثر الدول خاصة وأسراها صحابة، على أنه كان مع علمه أشد الناس في الشعر وأحرمهم لأهله وأنكدهم على نشيده، لا يزال يتعقبه كلمة كلمة كاشفا لما زاغ فيه من لفظة أو سرقة، فلا تسلم على نقده قافية، ثم لا يفوز المتخلص من مضماره على الجهد لديه بطائل ولا يحظى له بنائل، فأقصر الشعراء عن مدحه، وخلى الشاكرون ذكره، ولم يكن في الجود والكرم ينهمك فيعزى إليه، ولا قصر عنه فيوصف بضده، أعطى وحرم، وجاد وبخل، فكأنه نجا من عهدة الذم، ثم أكثر التخليط في أمره؛ فطورا كان ناسكا، وتارة يعود خليعا فاتكا، لا يساتر بلهو ولا لذة ولا يستفيق من شراب وبطالة. ا.ه.
وقال في ولده علي بن مجاهد المسمى إقبال الدولة:
كان على هذا أسره الروم في صباه حين وقعتهم على أبيه بجزيرة سردانية، ومكث عندهم سنين كثيرة، وقصته مذكورة مشهورة عند الروم الذين نشأ بينهم، وقد كان أبوه قبل فدائه من الأسر رشح للإمارة بعده ولده الأصغر حسن الملقب بسعد الدولة وصرف الأمر بعده لعلي هذا الطليق؛ فأورثهما العداوة بينهما، فلما فداه أبوه قلده الأمر بعده، فمضى أبو الجيش والدهما لسبيله وقد وطد الأمر لعلي هذا دون أخيه؛ فخير علي هذا أخاه أن يصرف له الأمر ويتخلى له عن الملك فلم يجسر على إظهار ما في نفسه، ولم ينصرم الحول حتى أحدث على أخيه ما نذكره.
وذلك أنه صار إلى المعتضد بن عباد وكان زوج أخته؛ فشكا إليه بثه، ودبر معه أمره، وقد وقع في نفسه الفتك بأخيه علي، فوجه المعتضد معه إلى مدينة دانية غلاما من غلمانه شجاعا، وجاء حسن معه على وجه الزيارة لأخيه، فدبر معه الرأي في غدر أخيه وزير أبيه في أي وقت ويوم يكون، فكان اتفاقهم على حين خروجه من صلاة الجمعة، وكانت عادته إذا خرج سار إلى ساحل البحر، فيقف عليه ساعة ثم ينصرف. وكان إذا ركب يكون حسن أخوه وراءه، فلما انصرف أخذ في زقاق ضيق، فعندما دخل فيه غمز غلام ابن عباد لحسن بن مجاهد أن يجرد السكين ويضرب به أخاه؛ فجرده وضربه ضربة دهش فلم يصنع بها شيئا، ثم ثنى عليه بضربة أخرى فلقيه أخوه بيده اليسرى، وأراد الغلام أن يطعنه بالرمح الذي كان بيده فحاول تقليبه إليه؛ فنشب في الحائط لضيق الزقاق، وندر بعض فتيان علي بن مجاهد فقتلوا الغلام، وفر حسن هذا على وجهه راكضا فرسه، ووقعت هوشة في الناس ودهشة ولم يعرفوا خبر الكائنة.
وخرج حسن فارا من باب المدينة يقول: غدرنا يا مسلمين، إلى أن وصل بلنسية وبها زوج أخته عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي عامر وقد خاب أمه، وحمل علي بن مجاهد إلى قصره على حاله؛ فأقام بقية يومه مطرحا لا يتكلم إلى غد ذلك اليوم، ثم عانى نفسه حتى رجعت قوته. وخرج ذلك الغادر من مدينة بلنسية إلى صهره المعتضد بن عباد فلم يمكنه من أمنيته، وشاعت قصته في بلاد الأندلس، فلم تكن له منزلة عند الناس، ثم رجع إلى بلنسية فكان في كنف أخته إلى أن فارق الدنيا، وبقي أخوه في بلاده، وتقدم في معاقدة قواده، واستوى على سرير ملكه، فلم يختلف عليه أحد من أهل عسكره، وتصرفت في إمارته أمور كثيرة يطول شرحها إلى أن أخرجه ابن هود منها. ا.ه.
ثم ذكر ابن عذارى في محل آخر أحمد بن سليمان بن هود المسمى بالمقتدر بالله، فقال إنه أحرج إقبال الدولة علي بن مجاهد من دانية بعد أن حاصره بها حتى بادر إليه بإرساله في أن يسلمه في نفسه وأهله وولده ويسلم إليه ملكه، وينزل له عن قصره بفرشه؛ فقبل منه ابن هود، وأمر برفع القتال عنه، فكان خروج ابن مجاهد من دانية في سنة ثمان وستين «وأربعمائة»، وأقطع له فيها إقطاعا لمؤنة عيشه فكان آخر العهد به.
قال الوراق: وقد كان علي بن مجاهد هذا وجه بمركب كبير مملوء طعاما إلى بلاد مصر سنة الجوع العظيم الذي كان بها، وذلك في عام سبعة وأربعين وأربعمائة؛ فرجع إليه المركب مملوءا ياقوتا وجوهرا وذهبا، فكان ذلك كله عند ابن مجاهد المذكور في خزائنه، فلما استولى ابن هود على دانية ظفر به. وبايع أهل دانية ابن هود خاصتهم وعامتهم، فاتسع عمله وزادت مملكته، وأقام في دانية ريثما نظر في أمرها، وأتقن ما رأى إتقانه منها، ورحل منها إلى حضرة سرقسطة وفي عسكره علي بن مجاهد في زي خشن. ا.ه. ببعض تصرف.
وذكر أحمد بن يحيى الضبي في كتابه بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس مجاهد بن عبد الله العامري أبا الجيش الموفق - مولى عبد الرحمن الناصر بن المنصور محمد بن أبي عامر - أنه كان من أهل الأدب والشجاعة والمحبة للعلوم وأهلها، نشأ بقرطبة، وكانت له همة وجلادة وجرأة، فلما جاءت أيام الفتنة، وتغلبت العساكر على النواحي بذهاب دولة ابن أبي عامر قصد هو في من تبعه الجزائر التي في شرق الأندلس، وهي جزائر خصب وسعة فغلب عليها وحماها. ثم قصد منها في المراكب إلى سردانية جزيرة من جزائر الروم كبيرة في سنة ست أو سبع وأربعمائة، فغلب على أكثرها وافتتح معاقلها، ثم اختلفت عليه أهواء الجند، وجاءت أمداد الروم، وقد عزم على الخروج منها طمعا في تفرق من يشغب عليه، فعاجلته الروم وغلبت على أكثر مراكبه. فأخبرني أبو الحسن نجبة بن يحيى قال: أنبأنا شريح بن محمد عن أبي محمد بن حزم قال: أخبرنا أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني قال: كنت مع أبي الجيش مجاهد لما غزا سردانية فدخل بالمراكب في مرسى نهاه عنه أبو خروب - رئيس البحريين - وهبت ريح فجعلت تقذف مراكب المسلمين مركبا مركبا إلى الريف والروم وقوف لا شغل لهم إلا الأسر والقتل للمسلمين، فكلما سقط مركب بين أيديهم جعل مجاهد يبكي بأعلى صوته لا يقدر هو ولا غيره على أكثر لارتجاج البحر وزيادة الريح، وكان أبو خروب يقول: قد كنت حذرته من الدخول ها هنا فلم يقبل، فبجريعة الذقن ما تخلصنا في يسير من المراكب. هذا آخر خبر ثابت بن محمد.
ثم عاد مجاهد إلى الجزائر الأندلسية التي كانت في طاعته، واختلفت به الأحوال حتى غاب على دانية وما يليها، واستقرت إقامته فيها، وكان من الكرماء على العلماء باذلا للرغائب في استمالة الأدباء، وهو الذي بذل لأبي غالب اللغوي تمام بن غالب ألف دينار على أن يزيد في ترجمة الكتاب الذي ألفه في اللغة مما ألفه لأبي الجيش مجاهد، على ما ذكرنا في باب التاء.
والذي ذكره ابن عميرة هو أن الأمير المذكور أبا الجيش مجاهدا وجه إلى تمام بن غالب أيام غلبته على مرسية - وأبو غالب ساكن بها - ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة كتابه في اللغة لأبي الجيش مجاهد، فرد الدنانير وأبى من ذلك، ولم يفتح في هذا بابا البتة، وقال: والله لو بذلت لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب؛ فإني لم أجمعه له خاصة لكن لكل طالب عامة. قال ابن عميرة: فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها، توفي أبو غالب تمام بن غالب بن عمر المعروف بابن التياني المرسي سنة 436، وفي السنة نفسها مات أبو الجيش مجاهد الموفق هذا. وفي أبي الجيش مجاهد المذكور يقول أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي، وقد استماله على البعد بخريطة مال ومركب:
أتتني الخريطة والمركب
كما اقترن السعد والكوكب
وحط بمينائه قلعة
كما وضعت حملها المقرب
على ساعة قام فيها الثنا
على هامة المشتري يخطب
إلى أن قال في آخرها:
مجاهد رضت إباء الشموس
فأصحب من لم يكن يصحب
فقل واحتكم بسميع الزمان
مصيخ إليك بما ترغب
وقد ألف مجاهد في العروض كتابا يدل على قوته فيه. ومن أعظم فضائله تقديمه للوزير الكاتب أبي العباس أحمد بن رشيق وتعويله عليه وبسطه يده في العدل، وحسن السياسة، وكان موته في دانية سنة 436، وقال ابن عميرة: إنه كان يروي عن عبد الوارث بن سفيان عن قاسم عن ابن قتيبة، ويروي عنه حاتم بن محمد وغيره.
وقد ذكرت الانسيكلوبيدية الإسلامية مجاهدا العامري بترجمة خاصة، وقالت : إن العامريين أرسلوه واليا على دانية في زمن هشام الثاني، وأنه عندما انحل أمر الخلافة في قرطبة كان أول من أعلن استقلاله من الأمراء، وذلك بين سنة 1009 و1010 وفق رأس القرن الخامس للهجرة. ثم استولى على جزر الباليار، وقليلا على طرطوشة، ونادى بخلافة رجل من بني أمية اسمه عبد الله المعيطي، وذلك سنة 405، وكان قد غزا سردانية وتوفق في أوائل غزاته، إلا أنه فشل في الآخر، ووقعت امرأته وابنه في الأسر. وقد وصفه مؤرخو العرب بالعلم والفضل وتنشيط العلوم والآداب، وكان مؤرخو النصارى في القرون الوسطى يسمونه بالملك «لوبو
Rey Lobo »، فكان له أقوى أسطول في البحر المتوسط ترتجف منه سواحل كتلونية وبروفنسة وإيطالية. ا.ه. ملخصا.
وقد ذكرنا هذا القدر من أخبار مجاهد العامري مع أنها متعلقة بالقسم التاريخي من الكتاب، ونحن الآن في القسم الجغرافي منه، والسبب في ذلك هو أن دانية اشتهرت بولاية مجاهد العامري وهو اشتهر بها، وفي زمانه عظم شأنها وغلظت شوكتها، وكان لها إقليم كبير من جملته قسنطانية، وهي اليوم بلدة صغيرة سكانها سبعة آلاف، وكانت عامرة في أيام العرب ذات قلاع وأسوار وأبراج، وقد نسب إليها رجال من أهل العلم.
وبين دانية وشاطبة تقع بلدة يقال لها بنو غانم على 13 كيلومترا من شاطبة وبلدة أخرى يقال لها «البيضاء» على نحو من ثلاثين كيلومترا، وبلدة «أونتنيان» وقد مر ذكرها في تراجم بعض العلماء الذين انتسبوا إلى شاطبة، وبلدة يقال لها اليوم «القوي
Alcoy »، وهي عامرة، فيها ثلاثون ألف نسمة، والطريق من القوي إلى القنت هي طريق عربات، وفي تلك المساحة بلدة يقال لها: «جيجونة» أهلها سبعة آلاف، وفيها حصن عربي قديم، وهاتيك البلاد في غاية الخصب وكثرة الخيرات.
ذكر من انتسب، من أهل العلم إلى دانية
أبو عبد الله محمد بن خلصة النحوي الكفيف، أصله من شذونة، وسكن دانية، وأخذ بها عن أبي الحسن بن سيده، وأقرأ العربية بدانية وببلنسية، وكان شاعرا مجودا متقدما في علوم اللسان، وشعره مدون، وممن أخذ عنه أبو عمر بن شرف، وأبو عبد الله بن مطرف التطيلي، وغيرهما، ذكره ابن عزيز، وقال الحميدي: كان من النحويين المتصدرين والأساتيذ المشهورين والشعراء المجودين، رأيته بدانية بعد الأربعين وأربعمائة، وقرأت أنا في ديوان شعره قصيدة له على روي الراء يهنئ فيها المقتدر أحمد بن سليمان بن هود بدخول دانية وتملكها سنة 438.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعود الأنصاري المقري، أخذ عن أبي عمرو المقري، وكان من كبار أصحابه، وتصدر للإقراء، وعنه أخذ أبو داود سليمان بن نجاح قراءة نافع من طريق قالون عند قدومه دانية للأخذ عن أبي عمرو سنة 432، وحكي أنه ساكنه ونسخ الأصول منه وهو غلام دون العشرين، ولابن سعود هذا تواليف منها كتاب «الاختلاف بين نافع من رواية قالون وبين الكسائي من رواية الدوري»، وكتاب «السنن والاقتصاد في الفرق بين السين والصاد»، وكتاب «الاقتضاء للفرق بين الذال والضاد والظاء»، قال ابن الأبار في التكملة: وقفت عليها، وبعضها مكتوب عنه قبل السبعين والأربعمائة.
وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن سليمان العبدري، أخذ القراءات عن أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني إمام القراء، وروى عنه تواليف، وحدث عنه أبو العباس بن عيشون بالتيسير والتلخيص من كتب أبي عمرو، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن خير.
وأبو عبد الله محمد بن أبي المسك يروي عن أبي الوليد الوقشي، وعن أبي داود المقري، حدث عنه أبو زكريا بن صاحب الصلاة - والد الأستاذ أبي محمد المعروف بعبدون - بعضه من خط محمد بن عياد الذي نقل عنه ابن الأبار.
وأبو بكر محمد بن عيسى بن محمد اللخمي، يعرف بابن اللبانة. كان من جلة الأدباء وفحول الشعراء، غزير الأدب، قوي العارضة، متصرفا في البلاغة، وله تواليف منها كتاب «مناقل الفتنة»، وكتاب «نظم السلوك في وعظ الملوك»، وكتاب «سقيط الدرر ولقيط الزهر»، سمع منه بعضها في حاضرة المرية، وشعره مدون، توفي بميورقة سنة 507، ودفن إزاء أبي العرب الصقلي. وكان هذا طوالا، وكان ابن اللبانة دحداحا، ذكر ذلك ابن الأبار في التكملة.
وابن اللبانة هذا هو الذي قال أحسن قصائده في المعتمد ابن عباد صاحب إشبيلية، وكتب عن آل عباد من النثر أيضا ما حفظه الناس حفظ النظم لنفاسته. ولما كان كل من نظمه ونثره فيهم قد شرق وغرب، وأبكى وأطرب، فلا بأس في ذكر بعض ما قاله فيهم، فمن ذلك رثاؤه لهم بعد انقراض ملكهم في إشبيلية، وهي قصيدة رثاء لا يماثلها في التاريخ إلا قصيدة رثاء عمارة اليمني للخلفاء الفاطميين بمصر. قال ابن اللبانة في بني عباد، والراثي والمرثي كل منهما من آل لحم منسوب إلى شرف عبل الذراع ضخم:
تبكي السماء بمزن رائح غاد
على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قواعدها
وكانت الأرض منهم ذات أوتاد
والرابيات عليها اليانعات ذوت
أنوارها فغدت في خفض أوهاد
عريسة دخلتها النائبات على
أساود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تخدمها
فاليوم لا عاكف فيها ولا باد
3
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ
في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم ليسكنه
خف القطين وجف الزرع بالوادي
4
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت
تختال في عدد منهم وإعداد
ألق السلاح وخل المشرفي فقد
أصبحت في لهوات الضيغم العادي
لما دنا الوقت لم تخلف له عدة
وكل شيء بميقات وميعاد
إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا
وقد خلت قبل حمص أرض بغداد
5
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا
سيقوا على نسق في حبل مقتاد
وأنزلوا عن متون الشهب واحتملوا
فويق دهم لتلك الخيل أنداد
وعيث في كل طوق من دروعهم
فصيغ منهن أغلال لأجياد
نسيت إلا غداة النهر كونهم
في المنشآت كأموات بألحاد
والناس قد ملئوا البرين واعتبروا
في لؤلؤ طافيات فوق أزباد
حط القناع فلم تستر مخدرة
ومزقت أوجه تمزيق أبراد
6
حان الوداع فضجت كل صارخة
وصارخ من مفداة ومن فاد
سارت سفائنهم والنوح يصحبها
كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت
تلك القطائع من قطعات أكباد
وله في قضية المعتمد بن عباد القصيدة التالية:
انفض يديك من الدنيا وساكنها
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها السفلي: قد كتمت
سريرة العالم العلوي أغمات
طوت مظلتها لا بل مذلتها
من لم تزل فوقه للعز رايات
من كان بين الندى والبأس أنصله
هندية وعطاياه هنيدات
رماه من حيث لم تستره سابغة
دهر مصيباته نبل مصيبات
أنكرت إلا التواءات القيود به
وكيف تنكر في الروضات حيات
غلطت بينهما بين عقدن له
وبينها فإذا الأنواع أشتات
وقلت: هن ذؤابات فلم عكست
من رأسه نحو رجليه الذؤابات
حسبتها من قناة أو أعنته
إذا بها لثقاف المجد آلات
دروه ليثا فخافوا منه عادية
عذرتهم فلعدو الليث عادات
لو كان يفرج عنه بعض آونة
قامت بدعوته حتى الجمادات
بحر محيط عهدناه تجيء له
كنقطة الدارة السبع المحيطات
لهفي على آل عباد فإنهم
أهلة ما لها في الأفق هالات
راح الحيا وغدا منهم بمنزلة
كانت لنا بكر فيها وروحات
أرض كأن على أقطارها سرجا
قد أوقدتهن بالأذهان أنبات
وفوق شاطئ واديها رياض ربا
قد ظللتها من الأنشام دوحات
كأن واديها سلك بلبتها
وغاية الحسن أسلاك ولبات
نهر شربت بعبريه على صور
كانت لها من قبيل الراح سورات
وربما كنت أسمو للخليج به
وفي الخليج لأهل الراح راحات
وبالغروسات لا جفت منابتها
من النعيم غروسات جنيات
وله أيضا قصيدة عملها في المعتمد وهو في الأسر بأغمات سنة 486، وهي من الطبقة الأولى:
تنشق بريحان السلام فإنما
أفض به مسكا عليك مختما
وقل لي مجازا إن عدمت حقيقة
لعلك في نعمى فقد كنت منعما
أفكر في عصر مضى بك مشرقا
فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما
وأعجب من أفق المجرة إذ رأى
كسوفك شمسا كيف أطلع أنجما
لئن عظمت فيك الرزية إننا
وجدناك منها في الرزية أعظما
قناة سعت للطعن حتى تقسمت
وسيف أطال الضرب حتى تثلما
ومنها:
بكى آل حمود ولا كمحمد
وأولاده صوب الغمامة إذ همى
حبيب إلى قلبي حبيب وقومه
عسى طلل يدنو بهم ولعلما
صباحهم كنا به نحمد السرى
فلما عدمناه سرينا على عمى
وكنا رعينا العز حول حماهم
فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى
وقد ألبست أيدي الليالي قلوبهم
مناسج سدى العيث فيها وألحما
قصور خلت من ساكنيها فما بها
سوى الأدم تمشي حول واقفة الدمى
تجيب بها الهام الصدى ولطالما
أجاب القيان الطائر المترنما
كأن لم يكن فيها أنيس ولا التقى
بها الوفد جمعا والخميس عرمرما
ومنها:
حكيت وقد فارقت ملكك مالكا
ومن ولهي أحكي عليك متمما
مصاب هوى بالنيرات من العلا
ولم يبق في أرض المكارم معلما
تضيق علي الأرض حتى كأنما
خلقت وإياها سوارا ومعصما
ندبتك حتى لم يخل لي الأسى
دموعا بها أبكي عليك ولا دما
وإني على رسمي مقيم فإن أمت
سأجعل للباكين رسمي موسما
بكاك الحيا والريح شقت جيوبها
عليك وناح الرعد باسمك معلما
ومزق ثوب البرق واكتست الضحى
حدادا وقامت أنجم الجو أفحما
وحار ابنك الإصباح وجدا فما اهتدى
وغار أخوك البحر غيظا فما طمى
وما حل بدر التم بعدك دارة
ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما
قضى الله أن حطوك عن ظهر أشقر
أشم وأن أمطوك أشأم أدهما
وكان قد انفكت عنه القيود فأشار إلى ذلك بقوله:
قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت
قيودك منهم بالمكارم أرحما
عجبت لأن لان الحديد وإن قسوا
لقد كان منهم بالسريرة أعلما
سينجيك من نجى من السجن يوسفا
ويؤويك من آوى المسيح ابن مريما
ومن شعر ابن اللبانة في بني عباد بعد نكبتهم قوله:
أستودع الله أرضا عندما وضحت
بشائر الصبح فيها بدلت حلكا
كان المؤيد بستانا بساحتها
يجني النعيم وفي عليائها فلكا
في أمره لملوك الدهر معتبر
فليس يغتر ذو ملك بما ملكا
نبكيه من جبل خرت قواعده
فكل من كان في بطحائه هلكا
ولابن اللبانة في بني عباد من النثر قوله:
بماذا أصفهم وأحليهم؟ وأي منقبة من الجلالة أوليهم؟! فهم القوم الذين تجل مناقبهم عن العد والإحصاء، ولا يتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء، ملوك بهم ازينت الدنيا وتحلت، وترقت حيث شاءت وحلت، إن ذكرت الحروب فعليهم يوقف منها الخبر اليقين، أو عدت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين، أصبح الملك بهم مشرق القسام، والأيام ذات بهجة وابتسام، حتى أناخ بهم الحمام، وعطل من محاسنهم الوراء والأمام، فنقل إلى العدم وجودهم، أو لم يرع بأسهم وجودهم، وكل ملك آدمي فمفقود، وما نؤخره إلا لأجل معدود، فأول ناشئة ملكهم، ومحصل الأمر تحت ملكهم، عظيمهم الأكبر، وسابقة شرفهم الأجل الأشهر، وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر، محمد بن عباد، ويكنى أبا القاسم، واسم والده إسماعيل.
إلى أن يقول في وصف المعتضد والد محمد الملقب بالمعتمد:
المعتضد أبو عمرو عباد - رحمه الله تعالى - لم تخل أيامه في أعدائه من تقييد قدم ولا عطل سيفه من قبض روح وسفك دم، حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رءوسا، ولا تنبت إلا رئيسا ومرءوسا، فكان نظره إليه أشهى مقترحاته وفي التلفت إليها استعمل جل بكره وروحاته، فأبكى وأرق، وشتت وفرق، ولقد حكي عنه من أوصاف التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع ولا يتعرض له بتصريح ولا إلماع. ا.ه.
ومن هنا يعلم أن ابن اللبانة لم يكن ممن تعميه العلائق عن الحقائق؛ فإن المعتضد بن عباد كان مشهورا بالقسوة، وكان يروى عنه في ذلك نوادر تشمئز النفوس من مطالعتها؛ مثل أنه كان يجعل رءوس الأعداء الذين ظفر بهم فقطع رءوسهم في معرض خاص يتلذذ بالاختلاف إليه من وقت إلى آخر، ويأخذ كل رأس بيده يقلبه بين أنامله تشفيا وتبريدا لإحنته التي لم تزل في صدره لم يخففها كون ذلك العدو قد ذهب وكانت منيته على يده، بل هو يريد أن يديم تذكار ذلك الظفر بمشاهدة تلك الرءوس المقطوعة بين يديه، ويتلذذ بحصول تلك الجماجم لديه، وهذه هي القسوة الوحشية التي جعلت مثل ابن اللبانة مع اجتماعه بآل عباد في النسب اللخمي، ومع تقلبه في نعم المعتمد التي أنطقته بتلك المدائح السائرة والأوابد التي لا تزول من الذاكرة، يشير إليها مع الاستنكار والاقشعرار.
ولنعد إلى ما قال الشاعر المذكور في آل عباد، فمن ذلك أنه كان للمعتمد ولد رشحه للملك من بعده ولقبه بالمؤيد بنصر الله؛ فعاقته الفتنة عن مراده، وخلع ونفي إلى أغمات في المغرب الأقصى، كما سيأتي الخبر عن ذلك في محله، فجاء محمد بن اللبانة إلى أغمات يفتقد ممدوحه القديم، فرأى ولده فخر الدولة هذا يشتغل في دكان صائغ بعد أن كان يحل من المجد أبراجا ويطلع في هالة الملك هلالا وهاجا، لا تسعه القصور الشامخة، والصروح الممردة، فأذكره ذلك من مجد هذا الشاب السالف ما أنطقه بهذه القصيدة الفريدة:
أذكى القلوب أسى أبكى العيون دما
خطب وجدناك فيه يشبه العدما
أفراد عقد المنا منا قد انتثرت
وعقد عروتنا الوثقى قد انفصما
شكاتنا فيك يا فخر العلا عظمت
والرزء يعظم فيمن قدره عظما
طوقت من نائبات الدهر مخنقة
ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما
وعاد كونك في دكان قارعة
من بعد ما كنت في قصر حكى إرما
صرفت في آلة الصواغ أنملة
لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يد عهدتك للتقبيل تبسطها
فتستقل الثريا أن تكون فما
يا صائغا كانت العليا تصاغ له
حليا وكان عليه الحلي منتظما
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى
هول رأيناك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به
لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى
ما حطك الدهر لما حط من شرف
ولا تحيف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكبا إن لم تلح قمرا
وقم بها ربوة إن لم تقم علما
واصبر فربتما أحمدت عاقبة
من يلزم الصبر يحمد غب ما لزما
والله لو أنصفتك الشهب لانكفأت
ولو وفى لك دمع المزن لانسجما
بكى حديثك حتى الدر حين غدا
يحكيك رهطا وألفاظا ومبتسما
وروضة الحسن من أزهارها عريت
حزنا عليك لأن أشبهتها شيما
بعد النعيم ذوى الريحان حين رأى
ريحانك الغض يذوي بعدما نعما
لم يرحم الدهر فضلا أنت حامله
من ليس يرحم ذاك الفضل لا رحما
شقيقك الصبح إن أضحى بشارقة
وأنت في ظلمة فالصبح قد ظلما
ولما ورد أبو بكر محمد بن اللبانة أغمات متفقدا المعتمد في أسره سر المعتمد بوروده سرور ملك منكوب ذهب ملكه وانتثر سلكه، بصديق قديم كان من خواصه ومن تأنس نفسه به، فأقام عنده ما أقام، فلما أزمع السفر استنفد المعتمد وسعه ووجه إليه بعشرين مثقالا وثوبين، وكتب إليه معها - وقد كان المعتمد سيد الشعراء كما كان سيد الأمراء:
إليك النزر من كف الأسير
فإن تقبل تكن عين الشكور
تقبل ما يذوب له حياء
وإن عذرته حالات الفقير
ولا تعجب لخطب غض منه
أليس الخسف ملتزم البدور
ورج لجبره عقبى نداه
فكم جبرت يداه من كسير!
وكم أعلت علاه من حضيض
وكما حطت ظباه من أمير!
وكم من منبر حنت إليه
أعالي مرتقاه ومن سرير
زمان تزاحفت عن جانبيه
جياد الخيل بالموت المبير
فقد نظرت إليه عيون نحس
مضت منه بمعدوم النظير
نحوس كن في عقبى سعود
كذاك تدور أقدار القدير
وكما أحظى رضاه من حظي
وكم شهرت علاه من شهير!
زمان تنافست في الحظ منه
ملوك قد تجور على الدهور
بحيث يطير بالأبطال ذعر
ويلفى ثم أرجح من ثبير
فامتنع ابن اللبانة عن قبول ذلك ورده إليه بجملته، وكتب مجيبا له:
سقطت من الوفاء على خبير
فذرني والذي لك في ضميري
تركت هواك وهو شقيق ديني
لئن شقت برودي عن غدور
ولا كنت الطليق من الرزايا
إذا أصبحت أجحف بالأسير
أسير ولا أصير إلى اغتنام
معاذ الله من سوء المصير
إذا ما الشكر كان وإن تناهى
على نعمى فما فضل الشكور
جذيمة أنت والأيام خانت
وما أنا من يقصر عن قصير
أنا أدرى بفضلك منك إني
لبست الظل منه في الحرور
غني النفس أنت وإن ألحت
على كفيك حالات الفقير
تصرف في الندى حيل المعالي
فتسمح من قليل بالكثير
أحدث منك عن نبع غريب
تفتح عن جنى زهر نضير
وأعجب منك إنك في ظلام
وترفع للعفاة منار نور
رويدك سوف توسعني سرورا
إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسوف تحلني رتب المعالي
غداة تحل في تلك القصور
تزيد على ابن مروان عطاء
بها وأنيف ثم على جرير
تأهب أن تعود إلى طلوع
فليس الخسف ملتزم البدور
فراجعه المعتمد بهذه الأبيات:
رد بري بغيا علي وبرا
وجفا فاستحق لوما وشكرا
حاط نزري إذ خاف تأكيد ضري
فاستحق الجفاء إذ حاط نزرا
فإذا ما طويت في البعض حمدا
عاد لومي في البعض سرا وجهرا
يا أبا بكر الغريب وفاء
لا عدمناك في المغارب ذخرا
أي نفع يجدي احتياط شفيق
مت ضرا فكيف أرهب ضرا
فأجابه ابن اللبانة:
أيها الماجد السميدع عذرا
صرفي البر إنما كان برا
حاش لله أن أجيح كريما
يتشكى فقرا وكم سد فقرا
لا أزيد الجفاء فيه شقوقا
غدر الدهر بي لأن رمت غدرا
ليت لي قوة أو آوي لركن
فترى للوفاء مني سرا
أنت علمتني السيادة حتى
ناهضت همتي الكواكب قدرا
ربحت صفقة أزيل برودا
عن أديمي بها وألبس فخرا
وكفاني كلامك الرطب نيلا
كيف ألقي درا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت
لا سقى الله الارض بعدك قطرا
قال عبد الواحد المراكشي في المعجب:
وابن اللبانة هذا هو أبو بكر محمد بن عيسى، من أهل مدينة دانية، وهي على ساحل البحر الرومي، كان يملكها مجاهد العامري وابنه علي. ولابن اللبانة هذا أخ اسمه عبد العزيز وكانا شاعرين إلا أن عبد العزيز منهما لم يرض الشعر صناعة ولا اتخذه مكسبا، وإنما كان من جملة التجار. وأما أبو بكر فرضيه بضاعة وتخيره مكسبا وأكثر منه وقصد به الملوك فأخذ جوائزهم، ونال أسنى الرتب عندهم، وشعره نبيل المأخذ، وهو فيه حسن المهيع، جمع بين سهولة الألفاظ ورشاقتها، وجودة المعاني ولطافتها، كان منقطعا إلى المعتمد، معدودا في جملة شعرائه، لم يفد عليه إلا آخر مدته؛ فلهذا قل شعره الذي يمدحه به. وكان - رحمه الله - مع سهولة الشعر عليه وإكثاره منه قليل المعرفة بعلله، لم يجد الخوض في علومه، وإنما كان يعتمد في أكثره على جودة طبعه وقوة قريحته، يدل على ذلك قوله في قصيدة له:
من كان ينفق من سواد كتابه
فأنا الذي من نور قلبي أنفق
7
ولما خلع المعتمد على الله وأخرج من إشبيلية لم يزل أبو بكر هذا يتقلب في البلاد إلى أن لحق بجزيرة ميورقة، وبها مبشر العامري المتلقب بالناصر؛ فحظي عنده وعلت حاله معه، وله فيه قصائد أجاد فيها ما شاء، فمنها قصيدة ركب فيها طريقة لم أسمع بها لمتقدم ولا لمتأخر؛ وذلك أنه جعلها من أولها إلى آخرها صدر البيت غزل وعجزه مدح، وهذا لم أسمع به لأحد، وأول القصيدة:
وضحت وقد فضحت ضياء النير
فكأنما التحفت ببشر مبشر
وتبسمت عن جوهر فحسبته
ما قلدته محامدي من جوهر
وتكلمت فكأن طيب حديثها
متعت منه بطيب مسك أذفر
هزت بنغمة لفظها نفسي كما
هزت بذكراه أعالي المنبر
أذنبت فاستغفرتها فجرت على
عاداته في المذنب المستغفر
جادت علي بوصلها فكأنه
جدوى يديه على المقل المقتر
ولثمت فاها فاعتقدت بأنني
من كفه سوغت لثم الخنصر
سمحت بتعنيفي فقلت: صنيعة
سمحت علاه بها فلم تتعذر
نهد كقوة قلبه في معرك
وحشا كلين طباعه في محضر
ومعاطف تحت الذوائب خلتها
تحت الخوافق ما له من سمهري
حسنت أمامي في خمار مثل ما
حسن الكمي أمامه في مغفر
وتوشحت فكأنه في جوشن
قد قام عثيره مقام العنبر
غمزت ببعض قسيه من حاجب
ورنت ببعض سهامه من محجر
أومت بمصقول اللحاظ فخلته
يومي بمصقول الصفيحة مشهر
وضعت حشاياها فويق أرائك
وضع السروج على الجياد الضمر
من رامة أو رومة لا علم لي
أأتت عن النعمان أم عن قيصر
بنت الملوك فقل لكسرى فارس
تعزى وإلا قل لتبع حمير
عاديت فيها غر قومي فاغتدوا
لا أرضهم أرضي ولا هم معشري
وكذلك الدنيا عهدنا أهلها
يتعافرون على الثريد الأعفر
طافت علي بجمرة من خمرة
فرأيت مريخا براحة مشتري
فكأن أنملها سيوف مبشر
وقد اكتست علق النجيع الأحمر
ملك أزرة برده ضمت على
بأس الوصي وعزمة الإسكندر
هذا ما اخترت له منها. ومن نسيبه المليح الخفيف الروح. قوله يتغزل ويمدح مبشرا هذا:
هلا ثناك علي قلب مشفق
فترى فراشا في فراش يحرق
قد صرت كالرمق الذي لا يرتجى
ورجعت كالنفس الذي لا يلحق
وغرقت في دمعي عليك وغمني
طرفي فهل سبب به أتعلق
هل خدعة بتحية مخفية
في جنب موعدك الذي لا يصدق
أنت المنية والمنى فيك استوى
ظل الغمامة والهجير المحرق
لك قد ذابلة الوشيح ولونها
لكن سناؤك أكحل لا أزرق
ويقال: إنك أيكة حتى إذا
غنيت قيل: هو الحمام الأورق
يا من رشقت إلى السلو فردني
سبقت جفونك كل سهم يرشق
لو في يدي سحر وعندي أخذة
لجعلت قلبك بعض حين يعشق
لتذوق ما قد ذقت من ألم الجوى
وترق لي مما تراه وتشفق
جسدي من الأعداء فيك لأنه
لا يستبين لطرف طيف يرمق
لم يدر طيفك موضعي من مضجعي
فعذرته في أنه لا يطرق
جفت عليك منابتي ومنابعي
فالدمع ينشع
8
والصبابة تورق
وكأن أعلام الأمير مبشر
نشرت على قلبي فأصبح يخفق
وفيها يقول يصف لعب الأسطول في يوم المهرجان:
بشرى بيوم المهرجان فإنه
يوم عليه من احتفائك رونق
طارت بنات الماء فيه وريشها
ريش الغراب وغير ذلك سوذق
9
وعلى الخليج كتيبة جرارة
مثل الخليج كلاهما يتدفق
وبنو الحروب على الجواري التي
تجري كما تجري الجياد السبق
ملأ الكماة ظهورها وبطونها
فأتت كما يأتي السحاب المغدق
خاضت غدير الماء سابحة به
فكأنما هي في سراب أينق
عجبا لها ما خلت قبل عيانها
أن يحمل الأسد الضواري زورق
هزت مجاديفا إليك كأنها
أهداب عين للرقيب تحدق
وكأنها أقلام كاتب دولة
في عرض قرطاس تخط وتمشق
وله فيها إحسان كثير. وله من قصيدة يتغزل:
فؤادي معنى بالحسان منعت
وكل موفى في التصابي موقت
ولي نفس يخفي ويخفت رقة
ولكن جسمي منه أخفى وأخفت
وبي ميت الأعضاء حي دلاله
غرامي به حي وصبري ميت
جعلت فؤادي جفن صارم جفنه
فيا حر ما يصلى به حين يصلت
أذل له في هجره وهو ينتمي
وأسكن بالشكوى له وهو يسكت
وما انبت حبل منه إذ كان في يدي
لريحان ريعان الشبيبة منبت
ومن جيد ما له من قصيدة يمدح بها مبشرا ناصر الدولة أولها:
راق الربيع ورق طبع هوائه
فانظر نضارة أرضه وسمائه
واجعل قرين الورد فيه سلافة
يحكي مشعشعها مصعد مائه
لولا ذبول الورد قلت بأنه
خد الحبيب عليه صبغ حيائه
هيهات أين الورد من خد الذي
لا يستحيل عليك عهد وفائه
الورد ليس صفاته كصفاته
والطير ليس غناؤها كغنائه
يتنفس الإصباح والريحان من
حركات معطفه وحسن روائه
ويجول في الأرواح روح ما سرت
رياه من تلقائه بلقائه
صرف الهوى جسمي شبيه خياله
من فرط خفته وفرط خفائه
ومن أحسن ما على خاطري له بيتان يصف بهما خالا وهما:
بدا على خده خال يزينه
فزادني شغفا فيه على شغف
كأن حبة قلبي عند رؤيته
طارت فقال لها في الخد منه: قفي
انتهى ما انتخبناه من شعر ابن اللبانة نقلا عن نفح الطيب وعن كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي، وقد قال صاحب النفح: وعاش أبو بكر بن اللبانة المعروف بالداني بعد المعتمد، وقدم ميورقة آخر شعبان سنة 489، ومدح ملكها مبشر بن سليمان بقصيدة مطلعها:
ملك يروعك في حلى ريعانه
راقت برونقه صفات زمانه
قال المقري: وأين هذا من أمداحه في المعتمد؟ قلت: يظهر أن المقري لم يطلع على قصائد ابن اللبانة في مبشر صاحب ميورقة، ولو اطلع عليها لرآها مع أمداح المعتمد من نسج واحد، ثم قال: وتذكرت هنا من أحوال الداني أنه دخل على ابن عمار في مجلس، فأراد أن يندر به، قال له: اجلس يا داني بغير ألف. فقال له: نعم يا ابن عمار بغير ميم، وهذا هو الغاية في سرعة الجواب والأخذ بالثأر في المزاح.
وممن ينسب إلى دانية، من أهل العلم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن معيون الزهري الفارض، له رواية عن ابن سيده، وكان من أهل المعرفة بالعربية والتقدم في علم الفرائض والحساب، روى عنه أبو بكر بن أبي الدوس وغيره، قاله ابن الأبار .
وأبو بكر محمد بن علي بن بشري، رحل حاجا، ودخل بغداد فسمع بها من أبي بكر بن طرخان سنة 513، وسمع أيضا أبا محمد بن عمر السمرقندي وغيرهما، وقفل إلى بلده دانية، فحدث، وسمع منه زاوي بن مناد وغيره، عن ابن الأبار.
ومحمد بن حسين بن أبي بكر الحضرمي، يعرف بابن الحناط، ويكنى أبا بكر، كان من بيت علم وصلاح، تفقه بأبيه، وسمع من أبي داود المقري، وأبي علي الغساني، وأبي علي الصدفي، ودرس الفقه ببلده دانية، وأخذوا عنه، وتوفي ليلة الاثنين مستهل جمادى الآخرة سنة 514، قال ابن الأبار: قرأت ذلك في رخامة بإزاء قبره.
وأبو بكر محمد بن سعيد بن زكريا بن عبد الله بن سعد، كان عالما بالطب، وألف كتاب التذكرة، وتعرف بالسعدية نسبة إليه، وأنشد فيها قصيدة للوقشي، قال ابن الأبار: وأحسبه لقيه، وكان حيا في سنة 516.
ومحمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا عبد الله، وهو أخو أبي العباس بن عيسى، سمع ببلده دانية من أبي داود المقري، قال ابن الأبار: ووجدت سماعه لكتاب التقصي لأبي عمر بن عبد البر مع أخيه وأبي الحسن بن هذيل في سنة 494، ولقي أبا الحسن الحصري، ثم خرج حاجا سنة 504، وأقام مدة بدمشق بقرى العربية، وكان شديد الوسوسة في الوضوء، ذكره ابن عساكر، وقال: أنشدني أخي أبو الحسين هبة الله بن الحسن الفقيه قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري الأندلسي الداني بدمشق قال: أنشدنا أبو الحسن علي بن عبد الغني المقري القيرواني المعروف بالحصري لنفسه:
يموت من في الأنام طرا
من طيب كان أو خبيث
فمستريح ومستراح
منه كذا جاء في الحديث
قال: وأنشدنا الحصري لنفسه:
لو كان تحت الأرض أو فوق الذرا
حر أتيح له العدو ليوذا
فاحذر عدوك وهو أهون هين
إن البعوضة أردت النمروذا
قال ابن عساكر: وقد رأيته وأنا صغير ولم أسمع منه شيئا، وخرج إلى بغداد فأقام بها إلى أن توفي سنة 519.
ومحمد بن إبراهيم بن مختار اللخمي، يكنى أبا عبد الله، كان فقيها مشاورا، وله سماع من أبي بكر بن برنجال في سنة 529، عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن عطية العبدري، له رحلة حج فيها وسماع من أبي العباس بن عيسى في سنة 531، ذكره ابن الأبار.
ومحمد بن الحسن بن محمد بن سعيد المقري، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن غلام الفرس، والفرس لقب لرجل من تجار دانية اسمه موسى المرادي، كان سعيد - مولاه - أخذ القراءات عن أبي داود بن نجاح، وأبي الحسن بن الدوش، وغيرهما، وسمع من أبي علي الصدفي، وأبي محمد البطليوسي، وأبي بكر الفرضي، وغيرهم، وكتب إليه من أعلام الأندلسيين أبو بكر بن العربي، وأبو عبد الله بن الحاج، وأبو عبد الله البلغي وسواهم، ورحل حاجا من دانية يوم الاثنين التاسع من جمادى الآخرة سنة 527، فأدى الفريضة، وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السلفي وغيره في أثناء رحلته إلى الشرق، حيث أقام ثلاثة أعوام ونيفا.
ثم رجع إلى دانية فدخلها ليلة عيد الأضحى سنة 530، وتصدر للإقراء، وإسماع الحديث، وتعليم العربية، وكان إماما فاضلا ضابطا متقنا، مشاركا في علوم جمة، حسن الخط، أنيق الوراقة، رحل الناس إليه للقراءة عليه لعلو روايته واشتهار عدالته، وانتهت إليه الرئاسة في القراءات وعللها، وولي بآخرة من عمره الخطبة بجامع بلده من قبل القاضي مروان بن عبد العزيز المتأمر عند خلع دولة المرابطين، وروى عنه ابن بشكوال، وأبو العباس الأقليشي، وأبو عمر بن عياد، قال ابن الأبار: وحدثنا عنه من شيوخنا أبو عبد الله بن سعادة المعمر، وحكى ابن عياد عنه قال: أنشدني أبو الحسن بن الدوش الشاطبي لما أتيت إليه للقراءة عليه متمثلا في معرض التواضع:
لعمر أبيك ما نسب المعلى
إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت
وصوح نبتها رعي الهشيم
قال ابن الأبار: توفي ابن سعيد بدانية عصر يوم الأحد الثالث عشر من المحرم سنة 547، وصلي عليه يوم الاثنين بعده، ودفن بقبلي جامعها الأكبر أثناء سماء مدرار كثر عنها الماء في قبره، فاحتيج إلى امتياحه وفرش الرمل عند إنزاله فيه، وكان مولده في 21 رمضان سنة 472.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الأموي الداني ، نزيل سبتة، يعرف بالأشقر، أخذ القراءات عن ابن شفيع، وأبي محمد بن إدريس وغيرهما، وأقرأ القرآن بسبتة، وكان فاضلا عالي الرواية، توفي في 19 جمادى الآخرة سنة 559.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعيد بن يوسف الحضرمي، يعرف بابن الخسراته، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد، واقتصر عليه، وخلفه في الإقراء، وكان ضعيف الخط، توفي حول سنة 564 وقد قارب الثمانين، ومولده سنة 487، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن حاضر بن منيع العبدري، صحب الأستاذ أبا الحسن طاهر بن سبيطة، وأخذ عنه تأليفه في البروج والمنازل، حدث عنه به عليم بن عبد العزيز الحافظ، ذكره ابن الأبار ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو عبد الله محمد بن محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري الخزرجي، تفقه بأبيه أبي العباس، وبأبي بكر الحناط، وأخذ القراءات عن ابن سعيد، وقدم للشورى، قال ابن الأبار: وكان جليلا نبيها فاضلا نزيها، توفي بمرسية سنة 566، واحتمل إلى دانية فدفن بها، ومولده سنة 500.
وأبو بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن خلف بن جماعة بن مهدي البكري، سمع من أبيه ومن ابن سعيد، وأجاز له أبو المظفر الشيباني، وأبو علي بن العرجاء، وأبو طاهر السلفي، وأبو عبد الله المازري، وولي قضاء دانية بلده، وكان عارفا بالأحكام مقدما في عقد الشروط، حسن الخط، مشكور السيرة، امتحن في آخر عمره؛ فقبض عليه واعتقل بمرسية، وتوفي بها على تلك الحال في العشر الأول من ربيع الأول سنة 581، وصلي عليه بها، وسيق إلى قسطنطانية فدفن فيها مع سلفه، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدري، روى عن أبي العباس بن عيسى، وأبي إسحاق بن جماعة، قال ابن الأبار: حدث عنه شيخنا أبو عامر الفهري، لقيه ببلنسية، وأجاز له في سنة 580.
وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن خلف بن جهور القضاعي، من أهل بيران، عمل دانية، سمع من أبي عبد الله بن بركة الشاطبي في سنة 537، وسمع منه أبو عبد الله بن أبي البقاء ، وتوفي في نحو السبع والتسعين والخمسمائة، عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عمر بن علي بن عبيد الله بن عامر المعافري، من بيت نباهة وعلم وأدب في دانية، روى عن مشيخة بلده، وتولى الأحكام بدانية، وكان له حظ من قرض الشعر، توفي في نحو سنة 610، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الجبار بن محمد بن خلف القيسي، من أهل دانية، سكن بلنسية، سمع من أبي الحسن بن النعمة كثيرا، وأخذ القراءات عن ابن طارق، وكان من أهل الضبط، شديد الأخذ على القارئ، متعنتا في ذلك، حتى كان يعاب به، وكان ورعا منقبضا مع حدة كانت فيه، أقرأ بمسجد ابن عيشون من داخل بلنسية، وأم في صلاة الفريضة به، توفي في رمضان سنة 611، قال ابن الأبار: استجازه لي عبد الكريم بن عمار صاحبنا.
وأبو عبد الله محمد بن الحسن بن علي اللخمي، يعرف بابن التجيبي، سمع من أبي القاسم بن حبيش، وأبي محمد بن الفرس، وأجاز له أبو طاهر السلفي، وقرأ كتاب سيبويه على الذهبي، وكان أديبا كاتبا بليغا، عالما بالعربية، تولى قضاء بلده، وكان سمحا جوادا، كريم العشرة، واسع المروءة. قال ابن الأبار: لقيته ببلنسية ثم بدانية، وأخذت بها عنه كتاب «جذوة المقتبس» للحميدي بين سماع ومناولة، توفي صدر الأربعاء 16 رمضان سنة 618، ومولده سنة 560.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عطية بن موسى بن عبد العزيز الأنصاري. قال ابن الأبار: سمع من أبي الخطاب بن واجب وأبي عمر بن عات من شيوخنا، وأجاز له أبو القاسم بن حبيش، وأبو بكر بن أبي زمنين، وغيرهما، ثم رحل حاجا وسمع بمكة من أبي عبد الله بن أبي الصيف اليمني وغيره، ولقي بالإسكندرية أبا عبد الله الحضرمي، وأبا الثناء الحراني، وجماعة، وكتب إليه أبو الطاهر الخشوعي سنة 595 وغيره. قال ابن الأبار: وكتب كثيرا على رداءة خطه، وقفل إلى بلده دانية وحدث بيسير، وسمعت من يغمزه فتركت الأخذ عنه، وتوفي سنة 623، نقلنا هذا عن ابن الأبار ملخصا.
ومفرج مولى إقبال الدولة علي بن مجاهد - صاحب دانية - يروي عن أبي عمرو المقري، ذكره ابن نقطة، ونقل ذلك ابن الأبار.
وأبو علي الحسن بن خلف بن يحيى بن إبراهيم بن محمد الأموي، المعروف بابن برنجال، سمع من أبي بكر بن صاحب الأحباس، وأبي عثمان طاهر بن هشام وغيرهما. وله رحلة حج فيها، وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن صالح القروي، وببيت المقدس من أبي الفتح نصر بن إبراهيم سنة 465، وبعسقلان من أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد التجيبي، أخذ عنه كتاب الوقف والابتداء لابن الأنباري بسماعه من عبد العزيز الشعيري عن مؤلفه، وكان فقيها على مذهب مالك، وولي الأحكام ببلده دانية، توفي في نحو الخمسمائة، ذكره ابن الأبار، ونقل بعض خبره عن ابن عياد.
وأبو العلي حسن بن علي بن محمد بن فرج الكلبي، يعرف بابن الجميل، أصله من دانية، سكن سبتة، كان من أهل النباهة، وهو والد أبي الخطاب عمر وأبي عمرو عثمان المحدثين، توفي في رمضان سنة 571 وهو ابن ثمانين سنة.
وأبو علي حسين بن أبي بكر الحضرمي، يعرف بابن الحناط، سمع أبا عبد الله بن مبارك الصائغ، ودرس الفقه، وكان فاضلا زاهدا، تفقه به ابنه محمد، وروى عنه عبد الله بن سعيد، وحدث عن أبي علي هذا أبو عبد الله الخولاني البلغي بكتاب «حياة القلوب» لابن أبي زمنين عن ابن مبارك عن أبي عمرو المقري عن مؤلفه، قال ابن الأبار: وقرأت في لوح رخام بإزاء قبره أنه توفي ليلة الاثنين لعشر بقين لربيع الأول سنة 500، وكان وقوفي على ذلك أيام اشتغالي بقضاء دانية.
وأبو القاسم خلف بن سعيد بن خلف بن أيوب اليحصبي، يعرف بالمارمي، روى عن أبي عمرو المقري، سمع منه تأليفه في الفتن والأشراط عام وفاة أبي عمرو المذكور، ذكره ابن الأبار.
وأبو القاسم خلف بن أفلح الأموي، لقي أبا عمرو المقري بدانية وأخذ عنه بها، وأقرأ، وهو أحد شيوخ ابن سعدون الوشقي، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر وفاته.
وأبو القاسم خلف بن مجرب، كان ممن أقرأ القرآن وعلم به، ومن الآخذين عنه أبو عبد الله بن عبد الجبار الداني، ذكره ابن الأبار.
وأبو القاسم خليفة بن أبي بكر القروي، سكن دانية ودرس الفقه بها، وكان بصيرا بمذهب مالك يشاوره القضاة، تفقه به جماعة منهم ابن سماحة، توفي بدانية يوم الثلاثاء 19 ذي القعدة سنة 514، ذكره ابن الأبار.
وأبو الربيع سليمان بن سعيد بن محمد بن سعيد العبدري الداني، يعرف باللوشي، سمع من أبيه، وأبي داود المقري، وأبي علي الصدفي، وولي قضاء دانية سنة 530، وعزل سنة 540، وكان فاضلا مع غفلة كانت فيه، توفي بدانية في ربيع الآخر سنة 545.
وأم العز بنت محمد بن علي بن أبي غالب العبدري الداني، تروي عن أبيها، وأبي الطيب بن برنجال، وعن زوجها أبي الحسن بن الزبير، وأبي عبد الله بن نوح، وكانت تحسن القراءات السبع، قال ابن الأبار: وسمعت بقراءتها مرتين صحيح البخاري من أبيها، وتوفيت سنة 616.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى بن فرج بن الزهيري العبدري، قال ابن الأبار: كذا قرأت اسمه بخطه، نشأ بالمرية، وأخذ بدانية في جامعها القديم عن أبي داود المقرئ سنة 492، وسمع من أبي علي الصدفي رياضة المتعلمين لأبي نعيم سنة 495، ولقي ابن الطراوة فأخذ عنه العربية، وحدث عنه في حياته بالغريب المصنف لأبي عبيد، ونزل قلعة حماد من العدوة، فأقرأ بها نحوا من عشرين عاما، ثم انتقل إلى بجاية وأقرأ بها أيضا نحوا من ذلك، وتوفي في بجاية سنة 540، ودفن بغار العابد منها، ذكره ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن خلف بن سعادة الأصبحي، أخذ عن أبي بكر بن نمارة، ولازم ببلنسية أبا الحسن بن سعد الخير، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من أبي الطاهر بن عوف، وأبي طاهر السلفي وأكثر عنه، وسمع من غيره، وكان نازلا في الإسكندرية بالمدرسة العادلية، قاله أبو عبد الله التجيبي الذي هو من تلاميذه، كما أن من تلاميذه أيضا أبا مروان عبد الملك بن محمد بن الكردبوس التوزري، وأبا محمد جعفر بن ميمون الشاطبي، وكان ابن سعادة هذا مقرئا محدثا ورعا فاضلا، روى التجيبي المار الذكر أنه مات غريقا في البحر شهيدا، ذكره ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فتوح بن محمد بن يحيى بن عبد الله الحضرمي النحوي، من أهل دانية، أصله من قرية «بالمة» من جزء «بيران»، كان يعرف بابن صاحب الصلاة، ويشهر بعبدون، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد، وقرأ عليه الأدب وعلى أبيه يحيى، وتعلم العربية على طاهر بن سبيطة، ونزل شاطبة، فأقرأ بها ودرس الأدب والنحو، ثم نقله السلطان إلى بلنسية واستأدبه لبنيه لما كان عليه من التصاون والعدالة، فكان يعلم أولاد السلطان العربية بالقصر، ويعلم الناس بمسجد رحبة القاضي من بلنسية، وكان أديبا مبرزا مشاركا في الفقه ظاهر التواضع طاهر الخلق، وكان أبو القاسم بن حبيش يثني على تعليمه، وكان له شعر كثير اعتنى بتدوينه، وأخذ عنه جلة من المحدثين والأدباء، توفي ببلنسية بعد صلاة الظهر من يوم الأحد مستهل رجب سنة 578، وحمل إلى دانية فدفن بقريته بالمة، ومولده سنة 517، كما ذكر ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن موسى بن حفص الأنصاري، من أهل دانية، سكن شاطبة، وقد قدمنا ترجمته بين علماء شاطبة، ونقلنا عن ابن الأبار أنه توفي بالقاهرة سنة 646.
وأبو محمد عبد الله بن إسماعيل بن أبي إسحاق الجبنياتي، يعرف بابن أبي الطاهر، نشأ بسفاقس من أعمال إفريقية، ودخل الأندلس، واتصل بالموفق مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، كان من ذوي النباهة والنزاهة، قال ابن الأبار: وتوفي هنالك ذبيحا سنة 415، ولم يعين محل وفاته ذبيحا أفي دانية أم في ميورقة أم في إحدى أخواتها؟
وأبو المطرف عبد الرحمن الألبيري من ألبيرة، سكن دانية، رحل وحج ورابط، وكان جارا لابن أبي زمنين الفقيه بغرناطة، وسلك طريقة الزهاد والعباد، ولما كان في دانية بسيف البحر بأسفل قاعون جبل دانية رباط معروف لازم المترجم هذا الرباط ، وغرس الشجر الذي يرى هناك، وجعل قبره في هذا المحل، ذكره ابن الأبار نقلا عن أبي داود المقرئ.
وأبو زيد عبد الرحمن بن عامر بن عبد العظيم المعافري، أخذ عن أبي عبد الله بن خلصة الكفيف وغيره، وكان أديبا شاعرا عالما بالعربية حسن الخط جيد الضبط، أخذ عنه ابن أخيه أحمد بن عبد الله بن عامر المعافري، ذكره ابن الأبار نقلا عن أبي الحجاج بن أيوب وعن محمد بن عياد.
وأبو محمد عبد الرحمن المعروف بابن أوريا، ولي قضاء دانية، وتوفي بعد صلاة الجمعة للنصف من شعبان سنة 515، عن ابن الأبار عن ابن عياد.
وأبو زين عبد الرحمن بن محمد بن تقي الحضرمي، روى عن أبي العباس بن عيسى الداني، سمع منه صحيح مسلم في سنة 531، عن ابن الأبار.
وعبد العزيز بن خلف بن محمد المعافري، روى بدانية عن أبي داود المقري سنة 494، وقدم دمشق فحدث بها عنه بموطأ مالك، وسمع منه فيها أبو محمد بن الأكفاني، وأبو الحسين هبة الله بن عساكر، وجماعة، ذكره ابن عساكر وقال: سئل عن مولده فقال: عند طلوع الفجر من يوم الثلاثاء لثمان خلون من رجب سنة 448، وكان مقدمه دمشق سنة 502، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن محمد بن أحمد العبدري، كان معتنيا بلقاء الشيوخ ودراسة الرأي، كتب بقرطبة عن أبي الحسن بن الوزان نوازل أبي الوليد بن رشد، سمعها منه سنة 534، وكان حسن الخط، ذكره ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الجبار بن خلف بن لب اللاردي، من لاردة، سكن بلنسية ودانية، قرأ جميع البخاري على الباجي بدانية، وقد تقدمت ترجمته في الجزء الثاني من هذا الكتاب عند الكلام عن لاردة.
وعمر بن محمد بن عبد الرحمن بن بيبش أبو حفص البكري الداني، يقال له: ابن أبي رطلة، سمع بدانية من أبي الحسن بن عز الناس، وأبي بكر بن جماعة، ورحل إلى مالقة، وسمع من علمائها. قال ابن الأبار: وكان مضعفا إلا أنه كان صدوقا في ما يرويه ، توفي في شوال سنة 606.
وعمر بن حسن بن علي بن محمد بن فرج الكلبي أبو الفضل الداني الأصل، السبتي الدار، ثم كنى نفسه أبا الخطاب، يعرف بابن الجميل، يذكر عنه أنه من ولد دحية بن خليفة الكلبي وسبط ابن البسام الفاطمي، نزيل ميورقة، سمع بالأندلس أبا القاسم بن بشكوال، وأبا بكر بن الجد، وأبا القاسم بن حبيش، وهذه الطبقة، وحدث بتونس بصحيح مسلم عن طائفة من هؤلاء وعن آخرين، وكان بصيرا بالحديث، حسن الخط، معروفا بالضبط، له حظ وافر من اللغة، ولي قضاء دانية مرتين، ثم صرف عنه لأمور نعيت عليه، فرحل إلى العدوة، ولقي بتلمسان قاضيها ابن حيون، وحدث بتونس سنة 595، ثم حج وكتب بالمشرق عن جماعة بأصبهان ونيسابور، وعاد إلى مصر فاستأدبه الملك العادل بن أيوب أخو صلاح الدين لابنه الملك الكامل محمد الذي تولى الديار المصرية، وهو الذي أخرج الإفرنج من دمياط بعد حرب مشهورة في التاريخ، فنال المترجم في ظل بني أيوب دنيا عريضة، وله تآليف منها «أعلام النص المبين في المفاضلة بين أهل صفين»، قال ابن الأبار: كتب إلي بالإجازة سنة 613، ومات في ربيع الأول سنة 633.
وعلي بن الدراج النحوي أبو الحسن الداني، أخذ العربية عن أبي تمام القطيني، وقعد للتعليم، أخذ عنه أبو القاسم بن محمد الخزرجي، وأبو عبد الله بن سعيد الداني، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر تاريخ وفاته.
وأبو الحسن علي بن محمد بن لب بن سعيد القيسي المقرئ الشهيد، يعرف بالباغي نسبة إلى باغة من دانية، سكن إشبيلية، روى عن أبي عبد الله المغامي، وأبي داود المقرئ، وأخذ عنه أبو بكر بن رزق وغيره. قال ابن الأبار: استشهد بعد سنة 535، ولم يذكر كيف استشهد.
وأبو الحسن علي بن يوسف بن خلف بن غالب العبدري، روى عن أبي بكر بن الحناط، وأبي بكر بن برنجال، وغيرهما، وكان فقيها، مشاورا، مفتيا كبيرا، متضلعا من العلوم، ولد سنة 482، وتوفي في آخر سنة 562.
وعلي بن صالح بن أبي الليث بن أسعد العبدري أبو الحسن بن عز الناس الداني الدار، الطرطوشي الأصل، سمع أبا محمد بن الصيقل، وأبا بكر بن العربي، وأبا القاسم بن ورد، وكان فقيها متقنا عالما بالأصول والفروع، دقيق النظر، جيد الاستنباط، لسنا فصيحا، وكان كبير فقهاء دانية ورأس الفتوى فيها، وله مصنفات، قال ابن الأبار: وقتل مظلوما بدانية سنة 566، وقال محمد بن عياد: قتل لسعاية عند السلطان محمد بن سعد سنة 567، وكان مولده سنة 508 بطرطوشة.
وعلي بن أحمد بن قوة الأزدي الداني، أخذ القراءات عن أبيه، وعن أبي القاسم بن حبيش، وأبي الحسن بن كوثر، وكان أديبا شاعرا، كتب أبو القاسم الملاحي كثيرا من شعره، قال ابن الأبار: وكانت وفاته سنة 608.
وأبو الحسن علي بن يوسف بن محمد بن أحمد الأنصاري الضرير الداني، يعرف بابن الشريك، كف بصره في صباه؛ فأقبل على العلم، واستفاد بتعليم العربية مالا جليلا، وكان أخذه للعلم في مرسية، حيث سمع من أبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، وكذلك كان أخذ في دانية عن أبي القاسم بن تمام، وأبي إسحاق بن محارب، ولد سنة 555، وتوفي في رجب سنة 619، قاله ابن الأبار.
وأبو الحسن عليم بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبيد الله العدوي الحافظ، سمع أبا عبد الله بن مغاور، ومن أبي جعفر بن جحدر، ومن أبي عبد الله بن سعيد الداني، وابن جماعة، ورحل إلى المرية سنة 538، حيث سمع من أبي القاسم بن ورد، وأبي الحجاج القضاعي، وكان من العلماء الزهاد كثير المحفوظات إلى الغاية، وكان يقول: ما حفظت شيئا فنسيته. وكان كثير الميل إلى الآثار والسنن، وله حظ عظيم من علم العربية، وكان ورعا متواضعا معظما في النفوس، ولد بشاطبة سنة 509، وتوفي ببلنسية سنة 564، وإنما ترجمناه هنا لأنه بدأ بطلب العلم في دانية.
وأبو يحيى زكريا بن محمد، لقي أبا عمرو المقرئ بدانية، وأخذ عنه أبو عبد الله بن باسه المقري الخطيب بجامع بلنسية، وسمع منه بدانية أبو عبد الله البلغي، وقال في اسمه أبو زكريا يحيى بن محمد لا أبو يحيى زكريا بن محمد، قاله ابن الأبار.
وأبو محمد الزبير بن محمد الفرضي، له سماع من أبي علي الصدفي، وكان من أهل العلم بالفرائض والحساب، أخذ عنه أبو عبد الله بن سعيد المقرئ الداني.
وأبو بكر زاوي بن مناد بن عطية الله بن المنصور الصنهاجي، يعرف بابن تقسوط، سمع ببلده دانية أبا داود المقري، وأبا بكر بن برنجال، وبمرسية أبا علي الصدفي، وبقرطبة أبا محمد بن عتاب وغيره، وأجاز له جلة من العلماء، وكان رجلا صالحا فاضلا، قعد لإسماع الحديث، ولد بدانية، وتوفي بها ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة 539، وفي آخر هذه السنة انقرضت دولة قومه المرابطين أو الملثمين بالأندلس، نقل ابن الأبار عن ابن عياد.
وأبو بشر طاهر بن عبد الرحمن بن سعيد بن أحمد الأنصاري، يعرف بابن سبيطة، كان من كبار تلاميذ أبي محمد البطليوسي، أقرأ العربية والآداب، وكان له حظ من علم النجامة، وألف فيه، روى عنه أبو الحجاج بن أيوب، وابن سيدبونه، وابن منيع، وغيرهم، وتوفي بدانية بعد سنة 540، ذكره ابن الأبار عن ابن عياد.
وأبو محمد القاسم بن علي بن صالح الأنصاري المقرئ المرلي، نزيل دانية، أخذ القراءات عن أبي العباس القصبي، وأبي الحسن بن اليسع، وابن العريف الزاهد، وابن غلام الفرس، وأبي الوليد بن الدباغ، وتصدر بدانية للإقراء، وأخذ عنه الكثيرون، منهم أبو بكر أسامة بن سليمان الداني، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر تاريخ وفاته.
وأبو بكر يحيى بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي الداني، كان من أهل العلم بالعربية، متقدما فيها، وسكن المرية، وأخذ عنه ابن يسعون، وأبو عبد الله بن سعيد، قال ابن الأبار: كان حيا في سنة 491.
وأبو زكريا يحيى بن عبد الله بن فتوح الحضرمي، يقال له ابن صاحب الصلاة، روى عن البطليوسي أبي محمد، وعن أبي بكر بن اللبانة وغيرهما، وكان أديبا لغويا، روى عنه ابنه الأستاذ أبو محمد عبدون، توفي سنة 550، قاله ابن الأبار.
وأبو زكريا يحيى بن أحمد بن يحيى بن سيدبونه الخزاعي من قسطنطانية، عمل دانية، روى عن أبيه، وعن أبي إسحاق بن جماعة، وأخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد، وحج فلقي بالإسكندرية أبا عبد الله بن أبي سعيد الأندلسي وغيره، سمع منه محمد بن عمر بن عامر الداني سنة 578، عن ابن الأبار.
ويحيى بن عبد الله بن محمد بن حفص الأنصاري أبو الحسين الداني، سمع أبا القاسم بن حبيش، وعبد المنعم بن الفرس، وجماعة، وكتب للولاة، وخطب ببلده دانية، وكان جوادا مضيافا، قال ابن الأبار: لقيته بدار الإمارة، وسمعت منه، وتوفي بدانية في شوال سنة 623، وكان مولده سنة 564.
وأبو الحسين الداني، وهو يحيى بن أحمد بن محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري، من ولد سعد بن عبادة، سكن شاطبة، سمع من أبي الخطاب بن واجب وجماعة كثيرة، وعني بالعلم، وكان ذا حظ من البلاغة والكتابة إلى نباهة البيت. قال ابن الأبار: صحبته مدة، ولما جرت الفتنة صارت إليه رئاسة شاطبة وتدبير أمورها من قبل محمد بن يوسف بن هود والي الأندلس، وتوفي في شعبان سنة 634 عن خمس وخمسين سنة.
وأبو الحجاج يوسف بن محمد بن سماحة الداني، سمع من أبي علي الصدفي، وأبي محمد بن أبي جعفر، وتفقه به، وكان مائلا إلى علم الكلام وأصول الفقه، ولي قضاء دانية ثم قضاء بلنسية بعد جعفر بن ميمون، وتوفي يوم عيد الفطر من سنة 561 وهو قاض ببلنسية.
وأبو الحجاج يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أيوب الفهري، كان يقال له: أبو الحجاج الداني، سكن بلنسية، وكانت قراءته على أبيه وعلى ابن برنجال، وأخذ القراءات عن ابن سعيد الداني، والعربية عن أبي العباس بن عامر، وتفقه بابن بقي، وأجاز له ابن عتاب، وكان متقدما في الآداب، إماما في معرفة الشروط، كاتبا بليغا شاعرا، ناب في الأحكام، وتوفي في شعبان سنة 592، وولد سنة 516، ذكره ابن الأبار.
ويوسف بن أحمد بن عباد التميمي أبو الحكم الملياني، تجول في الأرض، ولقي السهروردي بمدينة ملطية سنة 590 وأخذ عنه، وسكن دانية ونوظر عليه بها، وأخذ عنه أبو إسحاق بن المناصف، وأبو عبد الرحيم بن غالب، قال ابن الأبار: ورأيته مرارا، وكان شاعرا مجودا، شيعيا غاليا، توفي بدانية ليلة عاشوراء سنة 621.
وأبو الوليد يونس بن أبي سهولة بن فرج بن بنج اللخمي، يقال له: الشنتجالي، سكن دانية قريبا من أربعين سنة، وأخذ عن أشياخ طليطلة، وكان فقيها مشاورا مدرسا، أخذ عنه ابن برنجال، وابن سعيد الداني، وأبو إسحاق بن خليفة، وأبو الحسن بن أبي غالب، توفي بدانية في ربيع الأول سنة 514.
وأبو عبد الله محمد بن مبارك، يعرف بابن الصايغ، من أهل دانية، قال ابن بشكوال في «الصلة»: كان فقيها حافظا، أخذ عن أبي عمرو المقري وغيره، وقد أخذ عنه ابن مطاهر، وأبو محمد بن أبي جعفر شيخنا، وتوفي سنة 476.
وأبو بكر محمد بن الحسن بن خلف بن يحيى الأموي، يعرف بابن برنجال، له رحلة إلى المشرق بعد الخمسمائة، سمع فيها من أبي عبد الله الحضرمي، وأبي بكر بن الوليد الفهري، وكان من أهل الدراية والرواية، تولى خطة القضاء بصعيد مصر، ثم زاده والي عيذاب قضاء أخميم ولقبه بقاضي القضاة، ثم رجع إلى الأندلس، وتوفي ببلده دانية يوم الأحد الثالث والعشرين من رجب سنة 536، وقد نيف على الخمسين، ذكره ابن بشكوال في الصلة، وابن عميرة في بغية الملتمس، وقال ابن عميرة عنه إنه فقيه عارف مشهور.
وأحمد بن طاهر بن علي بن عيسى، فقيه مشهور، يروي عن القاضي أبي علي بن سكرة وغيره، توفي بدانية سنة 531، ذكره ابن عميرة في بغية الملتمس.
وأبو العباس أحمد بن عثمان بن سعيد الأموي، والد أبي عمرو المقرئ الحافظ المشهور، وأصلهم من قرطبة، روى عن أبيه وعن غيره، وأقرأ الناس القرآن بالروايات، وتوفي يوم الاثنين لثمان خلون من رجب سنة 471، ذكره ابن بشكوال في الصلة.
وأبو العباس أحمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري، روى عن أبي داود المقرئ، وأبي علي الغساني، وأبي محمد بن العمال، وغيرهم، وله رحلة وله تصنيف، وولي الشورى ببلده دانية، وامتنع من ولاية قضائها، وتوفي في نحو العشرين وخمسمائة، ترجمه ابن بشكوال في الصلة.
وأبو القاسم خلف بن إبراهيم بن محمد القيسي المقرئ الطليطلي، سكن دانية، روى عن أبي عمرو المقرئ، وأبي الوليد الباجي وغيرهما، وأقرأ الناس القرآن. قال ابن بشكوال: وسمع منه بعض شيوخنا، وتوفي يوم الاثنين عقب ربيع الأول سنة 477.
وأبو داود سليمان بن أبي القاسم نجاح - مولى أمير المؤمنين هشام المؤيد بالله - سكن دانية وبلنسية، روى عن أبي عمرو عثمان بن سعيد المقرئ المشهور، وهو أثبت الناس به، وروى عن ابن عبد البر، وعن أبي العباس العذري، وعن ابن سعدون القروي، وأبي شاكر الخطيب، وأبي الوليد الباجي، وهذه الطبقة العالية، وكان من جلة المقرئين وأهل الفضل والدين، وله تواليف كثيرة في معاني القرآن العظيم، وكان حسن الخط جيد الضبط، روى الناس عنه كثيرا. وقال ابن بشكوال في الصلة أنه قرأ بخطه رواية عن أبي عمرو المقرئ عن أبي الحسن علي الربعي بالقيروان عن سعيد بن يوسف السدري عن عيسى بن مسكين: أن الإجازة قوية، وهي رأس مال كبير، وجاز له أن يقول: حدثني فلان. وقال ابن بشكوال أنه سمع ذلك من طريق آخر نقلا عن أبي داود سليمان هذا. قال: وكانت وفاته يوم الأربعاء بعد صلاة الظهر، ودفن الخميس لصلاة العصر بمدينة بلنسية، واحتفل الناس لجنازته، وتزاحموا على نعشه، وذلك في رمضان لست عشرة ليلة خلت منه سنة 496، وكان مولده سنة 413.
وأبو عثمان سعيد سليمان الهمداني، أندلسي، يعرف بنافع، أخذ القراءة عن أبي الحسن الأنطاكي، وضبط عنه حرف نافع بن أبي نعيم، وأقرأ به، وكان من أهل العربية ومن ذوي الإتقان مع الستر، قال ابن بشكوال: توفي بساحل الأندلس بمدينة دانية يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة 421، ذكره أبو عمرو المقرئ.
وأبو محمد عبد العظيم بن سعيد اليحصبي المقرئ، من أهل دانية، بلد القراءة في الأندلس، روى عن أبي سهل المقري، وعن أبي الوليد الباجي، وأبي الحسن بن الخشاب، وأبي القاسم الطليطلي. قال ابن بشكوال في الصلة: وروى عن أبي عبد الله الخولاني شيخنا - رحمه الله - قال: وأقرأ الناس ببلده، وأخذ عنه بعض أصحابنا، وتوفي في نحو العشرين وخمسمائة.
وأبو الحسن علي بن أحمد بن أبي الفرج الأموي، صحب أبا عمرو المقرئ، وأخذ عن أبي عمر الطلمنكي، وعن مكي بن أبي طالب. قال ابن بشكوال إنه كان من أهل التقييد والاعتناء بالعلم، وذكر أنه من دانية.
وأبو محمد عامر بن خليفة الأزدي، كان راوية للعلم فقيها بصيرا بالشروط، توفي قريبا من الستين والأربعمائة، ذكره ابن بشكوال في الصلة، نقلا عن ابن مدير.
وأبو بكر عتيق بن محمد بن أحمد بن عبد الحميد الأنصاري، روى عن أبي داود المقري، وأبي الوليد الوقشي، وأبي علي الغساني، وأبي علي بن سكرة، وطاهر بن مفوز، وتولى الصلاة والخطبة بجامع دانية بلده، وكان فاضلا ثقة. قال ابن بشكوال: أخبرنا عنه صاحبنا أبو عمرو، وأثنى عليه.
وأبو تمام غالب بن عبد الله القيسي القطيني المقري، من أهل دانية، وأصله من قطين؛ قرية بميورقة، قال ابن بشكوال في الصلة إنه روى عن أبي عمر بن عبد البر، وأبي عمرو المقرئ، وأبي الوليد الباجي، وإن الحميدي ذكره وقال: إنه مقرئ شاعر أديب، وأنشد له أبو عبد الله بن عمر الأشبوني:
يا راحلا عن سواد المقلتين إلى
سواد قلب عن الأضلاع قد رحلا
بي للفراق جوى لو مر أبرده
بجامد الماء مر البرق لاشتعلا
قال ابن بشكوال: إنه توفي بدانية سنة 466، وإنه كان رجلا زاهدا قاضيا. وترجمه ابن الأبار في التكملة، فقال عنه: غالب بن عبد الله بن أبي اليمن القيسي أبو تمام النحوي، يعرف بالقطيني، وقطين قرية بميورقة، سكن دانية، سمع غريب الحديث لابن قتيبة، وغريب القرآن ومشكله لابن قتيبة أيضا، سمعه من أبي عبد الله حبيب بن أحمد، وكان هذا قد قارب التسعين، وأجاز له ما رواه عن قاسم بن أصبغ، وأبي علي القالي وغيرهما. ثم رحل إلى قرطبة سنة 414، فلقي أبا العلاء صاعدا اللغوي وقد أسن؛ فقرأ عليه، وأخذ عن ثابت بن محمد الجرجاني، وقعد لتدريس العربية، وأخذ عنه أبو بكر الفرضي، وأبو الأصبغ بن شفيع، وأبو الحسن بن أفلح، قال ابن الأبار: إن مولده سنة 393، وإنه توفي في رمضان سنة 465.
وأشهر قراء دانية هو المشهور بأبي عمرو المقرئ، واسمه عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد الأموي، كان يقال له ابن الصيرفي، وهو من قرطبة، من أحد أرباضها، سكن دانية، روى في قرطبة عن أبي المطرف عبد الرحمن القشيري الزاهد، وعن أبي بكر البزاز، وأبي عثمان بن القزاز، وأبي بكر التجيبي، وابن أبي زمنين، وجماعة، وسمع بأستجة من أعمال قرطبة، ورحل إلى بجانة وسرقسطة وسمع بهما وببلاد أخرى من الثغر، وذهب إلى المشرق، وسمع بمكة من ابن فراس العبقسي وغيره، وسمع بمصر من أبي محمد بن النحاس، وأبي القاسم بن منير وغيرهما، وسمع بالقيروان من أبي الحسن القابسي وغيره. وعاد إلى الأندلس وألقى عصا التسيار في دانية؛ ولذلك كان يقال له: أبو عمرو الداني، ولم يكن مثله في علم القرآن وتفسيره وإعرابه وطرقه، وله فيه تصانيف كثيرة مفيدة، وكذلك كانت له معرفة تامة بالحديث وطرقه ورجاله، هذا مع حسن الخط وجودة الضبط والدين والورع، وكان مالكي المذهب، ذكره الحميدي فقال: محدث مكثر ومقرئ متقدم، سمع بالأندلس والمشرق، وله في القراءات أرجوزة مشهورة.
قال ابن بشكوال في الصلة: قال أبو عمرو: سمعت أبي - رحمه الله - غير مرة يقول: إني ولدت سنة 371، وابتدأت بطلب العلم وأنا ابن 14 سنة، وتوجهت إلى المشرق لأداء فريضة الحج سنة 97، وحججت سنة ثمان وتسعين، وانصرفت إلى الأندلس سنة 99، وهي سنة ابتداء الفتنة الكبرى، ووصلت إلى قرطبة في ذي القعدة سنة 99.
قال ابن بشكوال: وقرأت بخط أبي الحسن المقري قال: توفي أبو عمرو المقرئ بدانية يوم الاثنين في النصف من شوال سنة 444، وكان دفنه بعد صلاة العصر في اليوم الذي توفي فيه، ومشى السلطان أمام نعشه، وكان الجمع في جنازته عظيما.
وقد ترجمه المقري في النفح فقال إنه الحافظ المقرئ الإمام الرباني أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي، مولاهم القرطبي صاحب التصانيف، التي منها «المقنع» و«التيسير»، ثم ذكر رحلته إلى المشرق سنة 397، وأنه مكث بالقيروان أربعة أشهر وفي مصر سنة، وحج ورجع إلى الأندلس، وأنه أخذ عن عبد العزيز بن جعفر الفارسي، وأبي الحسن بن غلبون، وخلف بن خاقان المصري، وأبي الفتح بن أحمد، وأبي مسلم الكاتب، وهو أكبر شيخ له، وذكر أنه سمع من القشيري، وحاتم البزاز والقابسي، وأنه خلف كتبه بالحجاز ومصر والمغرب والأندلس، ونقل عن بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصر الحافظ أبي عمرو الداني ولا بعد عصره أحد يدانيه في حفظه وتحقيقه.
وكان يقول: ما رأيت شيئا قط إلا كتبته ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته فنسيته. وقال بعض أهل مكة: إن أبا عمرو الداني إليه المنتهى في علم القراءات، والقراء خاضعون لتصانيفه واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك، له مائة وعشرون مصنفا، وروى عنه بالإجازة رجلان أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمزة، وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - بدانية في نصف شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة.
وأبو مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الأيادي، من أهل إشبيلية، نذكره هنا لأنه انتهى إلى دانية ومات ودفن فيها. قال ابن الأبار في تكملة الصلة: هو والد أبي العلاء بن زهر، كان من أهل العلم والفقه، سلك طريقة أبيه في ذلك، ومال إلى التفنن في أنواع التعاليم، ورحل إلى المشرق لأداء الفريضة، ودخل القيروان ومصر، وأخذ في تعلم الطب هنالك زمانا طويلا، وبرع فيها براعة شهر بها هو وعقبه بعد ذلك، ثم قفل إلى الأندلس، وفيها توفي، وبها قبره وقبر أبي الوليد الوقشي بإزاء الجامع القديم، إلا أنهما لا يعرفان، ذكره السالمي ولم يذكر تاريخ وفاته، وأحسبها في نحو السبعين وأربعمائة. ا.ه.
وترجمة هذا الرجل واردة في نفح الطيب، قال المقري عنه: صاحب البيت الشهير بالأندلس، وتولى رئاسة الطب ببغداد ثم بمصر ثم بالقيروان ، ثم استوطن مدينة دانية وطار ذكره فيها إلى أقطار الأندلس والمغرب، واشتهر في علم الطب، وفاق أهل زمانه، ومات في مدينة دانية.
ووالده محمد بن مروان كان عالما بالرأي، حافظا للأدب، فقيها حاذقا بالفتوى، متقنا للعلوم، جامعا للدراية والرواية، توفي بطلبيرة سنة 422، وهو ابن ست وثمانين سنة، حدث جماعة من علماء الأندلس، ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل - رحمه الله تعالى.
وأما أبو العلاء زهر بن عبد الملك المذكور، فقال ابن دحية فيه إنه كان وزير ذلك الدهر وعظيمه، وفيلسوف ذلك العصر وحكيمه، توفي ممتحنا من «نغلة» بين كتفيه سنة 525 بقرطبة؛ فلذلك نترك ترجمة زهر هذا إلى أن يأتي الكلام على علماء قرطبة.
هوامش
قسطنطانية
وقد تقدم أن من البلاد المضافة إلى دانية بلدة قسطنطانية التي نبغ فيها أيضا أناس من أهل العلم، وقد ذكرها ياقوت وسماها «قسنطانة»، وقال عنها: حصن عجيب من عمل دانية بالأندلس،
1
منها أبو الوليد بن خميس القسنطاني؛ من وزراء بني مجاهد العامري. ا.ه.
وأبو عامر محمد بن إسماعيل بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن أمية بن مطرف بن خميس الجمحي، يقول أهل بيته إنهم من ولد عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - سمع من ابن أبي تليد، وأبي علي الصدفي، وأبي جعفر بن جحدر، وأبي القاسم بن الجنان وطبقتهم، وكتب لقاضي بلنسية أبي الحسن بن عبد العزيز، وكان ذا معرفة بالمسائل وعقد الشروط، متصرفا في الآداب، توفي سنة 543، ذكره ابن الأبار نقلا عن ابن سفيان.
ومن قسطنطانية أبو زكريا يحيى بن أحمد بن يحيى بن سيدبونه الخزاعي، تقدمت ترجمته بين علماء دانية.
وأبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونه الخزاعي الولي الشهير، ذكر لسان الدين بن الخطيب، أنه كان من أعلام الهداية، كثير الأتباع، بعيد الصيت، توجب حقه حتى الأمم الدائنة بغير الإسلام، انتقل إلى غرناطة هو وأهله وأذياله بعد تغلب العدو على شرق الأندلس، فسكنوا بغرناطة ربض البيازين على دين وانقباض وصلاح، توفي - رضي الله عنه - سنة 624 وقد نيف على الثمانين، ودفن بالموضع المعروف بزناته.
ومن دانية إلى الجنوب الغربي بلاد ساحلية منها بلدة يقال لها «بنيسة
Benisa »، ويجوز أن تكون مرخمة من بني سعد، وبلدة أخرى يقال لها «كلب
Calpe »، وبلدة ثالثة يقال لها «ألتاية
Altea »، ولما نعثر على شيء في الكتب العربية يتعلق ببنيسة وكلب، ولكن عثرنا على ذكر ألتاية في معجم البلدان؛ قال: ألتاية، ألفه قطعية مفتوحة واللام ساكنة والتاء فوقها نقطتان وألف وياء مفتوحة، اسم قرية من نظر دانية من إقليم الجبل بالأندلس، منها أبو زيد عبد الرحمن بن عامر المعافري الألتائي النحوي، كان قرأ كتاب سيبويه على أبي عبد الله محمد بن خلصة النحوي الكفيف الداني، وسمع الحديث من أبي القاسم بن فتحون الأريولي وغيره، وكان أوحد في الآداب، وله شعر جيد، ومن تلامذته ابن أخيه أبو جعفر عبد الله بن عامر المعافري الألتائي، وقرأ أبو جعفر هذا على أبي بكر اللباني النحوي أيضا وعلى آخرين، وهو حسن الشعر، قرأ القرآن بالسبع على أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد الداني، وهو يصلح للإقراء إلا أن الأدب والشعر غلبا عليه. انتهى.
ومن البلاد الساحلية بين دانية والقنت بلدة يقال لها «بني دورم
Beni Dorm »، والغالب على الظن أنها لفظة عربية محرفة، لعل أصلها بني دارم، فإن هذا اسم معروف عند العرب. فدارم بن أبي دارم صحابي يروي ابنه أشعث عنه، ودارم بن مالك بن حنظلة من مالك بن زيد مناة أبو حي من تميم، ويجوز أن يكون بني الدرم، وهو جمع الأدرم، وبنو الأدرم حي من قريش الظواهر، وهم بنو تميم بن غالب بن فهر بن مالك، قيل له الأدرم؛ لأن أحد لحييه أنقص من الآخر. ويوجد في العرب بنو درماء أولاد عمرو بن عوف بن ثعلبة بن سالامان بن ثعل الطائي، ودرماء أمهم، وهم بالشام بقلعة الداروم وما يجاورها وهي قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر. ثم يصل القاصد وهو ذاهب إلى الجنوب بغرب إلى مدينة «لقنت».
هوامش
لقنت
وقد يقال لها: اليقنت
Alicante
أو القنت
Alkant ، وقد ذكر الشريف الإدريسي أن من مدينة دانية إلى مدينة القنت
1
غربا على البحر سبعين ميلا، قال: ولقنت مدينة صغيرة عامرة، وبها سوق ومسجد جامع ومنبر، ويتجهز منها بالحلفاء إلى جميع بلاد البحر، وبها فواكه وبقل كثير وتين وأعناب، ولها قصبة منيعة جدا في أعلى جبل يصعد إليه بمشقة وتعب، وهي أيضا مع صغرها تنشأ بها المراكب السفرية والحراريق، وبالقرب من هذه المدينة جزيرة تسمى «إبلناصة»،
2
وهي على ميل من البر، وهي مرسى حسن، وهي مكمن لمراكب العدو، وهي تقابل «طرف الناظور»، ومن طرف الناظور إلى مدينة القنت 10 أميال، ومن مدينة القنت في البر إلى مدينة ألش مرحلة خفيفة، ومن مدينة القنت إلى «حلوق بالش» 57 ميلا. ا.ه.
تقدم نقل هذا من جملة كلام الإدريسي، فأما القنت اليوم فهي مدينة بحرية ذات بال، سكانها يزيدون على خمسين ألفا، وهي مركز مقاطعة، وأصل اسمها في القديم «لوسانتم
Lucentune »، يظن أنها كانت إلى الشمال مما هي اليوم، وهي واقعة على فرضة يحدها من الشرق الرأس المسمى «هويرتاس
Huertas »، ومن الجنوب رأس «سانتابولا
Santa Pola »، وهو الذي كان العرب يسمونه بطرف الناظور، وأما من الجنوب فالمرسى مفتوح يشرف عليه الحصن العالي المنيع الذي يقول له الإسبانيون اليوم «سانتا بربارة
Santa Barbara »، والشتاء في القنت لطيف إلا أن الهواء كثير التغير، وفي الصيف يشتد الحر إلا أنه يبقى أخف من حر مرسية، وقد ساقوا إليها الماء سنة 1898، ومن حاصلات القنت الخمر والزبيب واللوز والزيت.
ومرسى القنت في غاية الجمال، وله رصيف طويل، ووراء هذا الرصيف ساحة فسيحة عليها صفان من النخل. وفي القنت ساحة عمومية بديعة. وعلو الحصن المسمى سانتا بربارة نحو من 160 مترا، وله منظر من أبدع ما يتصور العقل، تسرح منه العيون في غياض القنت وسواحلها المريعة إلى حد طرف الناظور من جهة وفي البحر من جهة أخرى. وللقنت ربض يسمى ربض «سان أنطون».
وإلى الشمال الشرقي من القنت على مسافة 17 كيلومترا مصحة يقال لها: «بوزوه»
Busot
ارتفاعها نحو من خمسمائة متر مشرفة من جميع الجهات تحيط بها غابة من الصنوبر، وتكثر حواليها بساتين النخل والبرتقال وكروم العنب.
وقد عرفت مدينة القنت بنفسي في أثناء سياحتي إلى الأندلس، ووجدت في كناشي أنني وصلت إليها في 23 أغسطس الساعة الثانية عشرة زوالية، وبت فيها ليلة لا أتذكر أنني قبلت فيها الغطاء؛ وذلك من شدة الحر، ومع هذا فمذكور في كناشي أنها بلدة لطيفة خفيفة على الروح أخف جدا على الروح من قرطاجنة التي كنت قد زرتها قبل ذلك بيوم. وعند مدخل القنت غابة نخيل في غاية اللطف، وللبلدة مرسى على البحر عليه رصيف لطيف، وراءه ساحة فيها سطران من شجر النخل، وفوق القنت جبل عليه قلاع، وهو مشرف على البحر. وكان سفري إلى دانية في قطار حديدي صغير ذهب بنا شمالا على شاطئ البحر، ولم يمض إلا قليل حتى دخل بنا بين كروم الزيتون والعنب ورأينا جداول تسقي البساتين، ثم مررنا بغيضة نخل ورأينا كثيرا من شجر الخروب، والسهل هناك أفيح تربته تميل إلى البياض، وتشرف عليه جبال عالية، ومن رأى هذا النخل وهذا الخروب وهذا الزيتون لا يظن أنه في أرض أوروبة.
3
هذا وقد انتسب إلى القنت أناس من أهل العلم، ترجم منهم ابن الأبار محمد بن أحمد بن محمد بن سفيان السلمي، يكنى أبا بكر، نزل مدينة تلمسان، روى عن أبي محمد بن أبي جعفر، وأبي القاسم بن الجنان، وكان متقدما في عقد الشروط، له بعض النفوذ في الشعر والكتابة، أجاز لأبي عبد الله بن عبد الحق التلمساني سنة 757.
وأبو زيد عبد الرحمن بن علي بن محمد بن سليمان التجيبي، من أهل القنت، سكن أوريولة من عمل مرسية، يعرف بابن الأديب، حج سنة 529، ورجع إلى الأندلس فتولى الصلاة والخطبة بجامع أوريولة مدة طويلة، ودعي إلى القضاء قلم يقبل، وحمل عليه في ذلك فاشتغل به نحو شهرين ثم استعفى منه فأعفي، وكان من أهل العلم والفضل والورع، حافظا لكتاب الله حسن الصوت به، إذا سمعت صوته عرفت أنه يخشى الله، متقللا من الدنيا، له بضاعة يتعيش من فضلها، فصيح الخطابة غزير الدمع، يبكي ويبكي إذا خطب، أخذ عن أبي محمد بن أبي جعفر في مرسية هو وبلديه أحمد بن محمد بن سفيان السلمي، ولما حج كان معه ابن عمه أبو أحمد محمد بن معطي التجيبي، وكانت حجته سنة 529، وكانت وفاته بأوريولة بعد سنة 540.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن سليمان التجيبي، نزيل تلمسان، من أهل القنت، سكن أبوه أريولة، أخذ القراءات بمرسية عن نسيبه أبي أحمد بن معطي، وأبي الحجاج النفزي، وأبي عبد الله بن الفرس، ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة وأطال الإقامة هناك، وكتب العلم عن جماعة كثيرة أزيد من مائة وثلاثين من أعيان المشارقة، منهم أبو طاهر السلفي المشهور الذي اختص به، وحكي أنه لما ودعه قافلا إلى المغرب سأله عما كتب عنه، فأخبره أنه كتب كثيرا من الأسفار ومئين من الأجزاء؛ فسر بذلك وقال له: تكون محدث المغرب إن شاء الله، قد حصلت خيرا كثيرا.
قال المترجم: ودعا لي بطول العمر حتى يؤخذ عني ما أخذت عنه. وممن أخذ عنهم أيضا أبو محمد العثماني، وأخوه أبو الطاهر، وأبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله بن الحضرمي، وأخوه أبو الفضل، وأبو القاسم بن جارة، وأبو الثناء الحراني، وأبو الحفص الميانشي، وغيرهم، ومن الأندلسيين أبو محمد عبد الحق الإشبيلي، وأبو جعفر بن مضاء، وأبو عبد الله بن الفخار، وأبو محمد اليسع بن حزم وغيرهم. وله في شيوخه تأليف مفيد جمع فيه أسماءهم على حروف المعجم، ذكر ابن الأبار أنه وقع إليه بخطه في سنة 640 وهو بتونس، وأنه نقل عنه في التكملة ما نسبه إليه، وقال إنه انتهى إلى تلمسان واتخذها وطنا له.
وذكر من جملة تآليفه برنامجه الأكبر، وبرنامجه الأصغر، ومعجم شيوخه، والفوائد الكبرى، والفوائد الصغرى كل منها جزء، ومناقب السبطين الحسن والحسين، والأربعون حديثا في المواعظ، والأربعون في الفقر وفضله، وجزء في الحب في الله، وجزء في فضل الصلاة على النبي - عليه السلام - وكتاب الترغيب في الجهاد خمسون بابا في مجلد، والمواعظ والرقائق سفران، وكتاب مشيخة السلفي، وروى عنه ابن الأبار نقلا عن أبي طاهر السلفي المذكور قال: أنشدنا أبو المكارم الأبهري قال: أنشدنا أبو العلاء التنوخي بالمعرة لنفسه:
توحد فإن الله ربك واحد
ولا ترغبن في عشرة الرؤساء
يقل الأذى والعيب في ساحة الفتى
وإن هو أكدى قلة الجلساء
فأف لعصريهم نهار وحندس
وحنسي رجال منهم ونساء
وليت وليدا مات ساعة وضعه
ولم يرتضع من أمه النفساء
قال المترجم: وسمعت شيخنا الحافظ أبا طاهر (أي السلفي) - رحمه الله - بالإسكندرية يقول: سمعت القاضي أبا محمد الموحد بن محمد بن عبد الواحد بتستر يقول: سمعت محمد بن علي الكازروني المقرئ بالأهواز يقول: دخلنا على أبي العلاء المعري منصرفنا من مكة ونحن جماعة، فسألنا عن أسمائنا وبلداننا وصنايعنا، فانتسب كل واحد منا، فلما سألني عن صناعتي قلت: أنا قارئ. قال: فاقرأ لي آية من كتاب الله تعالى، فقرأت
يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ؛ فبكى المعري بكاء شديدا (إلى أن قال): فسألناه أن ينشدنا شيئا من الشعر فأنشدنا:
يغدو الفقير وكل شيء ضده
والأرض تغلق دونه أبوابها
فتراه محقوقا وليس بمذنب
ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا بزة
هشت إليه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوما فقيرا بائسا
نبحت عليه وكشرت أنيابها
مولد المترجم بلقنت الصغرى في نحو الأربعين وخمسمائة، وتوفي بتلمسان في جمادى الأولى سنة 610، قال ابن الأبار: كتب لي وفاته بخطه شيخنا أبو زكريا بن عصفور التلمساني منها. ا.ه.
وقد ذكر ياقوت في معجم البلدان مدينة لقنت فقال: بفتح أوله وثانيه وسكون النون وتاء مثناه؛ حصنان من أعمال لاردة بالأندلس لقنت الكبرى ولقنت الصغرى، وكل واحدة تنظر إلى صاحبتها. ا.ه.
قلت: ليست لقنت من عمل لاردة؛ لأن هذه هي في الثغر الأعلى من عمل سرقسطة، وهي الآن من عمل كتلونية لا من عمل أراغون التي حاضرتها سرقسطة، فالذي يظهر لنا أنه وقع خطأ في النسخ، فبدلا من أن يكتب من عمل دانية كتب الناسخ: من عمل لاردة، وهذا وجه، وثمة وجه آخر، وهو أن يكون ياقوت كتب هذا بناء على ما كان يعلم من أن ابن هود صاحب سرقسطة ولاردة والثغور العليا، استولى على دانية وملحقاتها، وأخرج علي بن مجاهد العامري عنها.
هوامش
ألش
وعلى مقربة من القنت مدينة ألش
Elche ، متصلة بالقنت بخط حديدي يضرب إلى الجنوب الغربي مارا بأرض شديدة الحرارة، حتى إنهم يحصدون الشعير من شهر مارس قبل أن يدرك ويطعمونه المواشي. وألش
1
بلدة ساحلية يسكنها نحو من ثلاثين ألفا من النفوس، وهي بلدة أيبيرية كان يقال لها في زمن الأيبيريين: «هيليك
Helike »، وسماها الرومان «إيليشي
Illici »، وفيها كنيسة سانتا ماريا التي لها برج يعلو 39 مترا، إذا صعد الإنسان إلى أعلاه أشرف على جميع المدينة، ورأى بيوتها البيض، وأجدر شيء بالذكر في ألش هي غابة النخيل التي لا يوجد لها نظير في جميع الأندلس، عدد أشجارها مائة وخمسة عشر ألف نخلة، وهي مملوكة لأصحابها، تشرب من ماء سيق إليها من واد يقال له: «فينالوبو
Vinalopo »، والنخلات طوال ارتفاع الواحدة من 20 إلى 25 مترا؛ فلذلك قال عنها العرب: إن أرجلها في الماء ورءوسها في النار لشدة حرارة الجو هناك، والناس يزرعون بين النخل أنواع البقول والخضروات، وعندهم رمان كثير، وهم يؤبرون النخل فيصعد المؤبر بواسطة حبل يربطه بوسطه، فيرقى تدريجا، وهكذا يصنعون عند اختراف النخل، وهو لا يحمل كل سنة، ومعدل ثمر النخلة الواحدة كل سنتين من 34 إلى 35 كيلو، وليس بسر نخل ألش كبسر نخيل الصحراء في أفريقية من جهة اللذة. وهم يبيعون سعف النخل اليابسة، وللناس اعتقاد هناك بأنها تقي من الصواعق؛ فلذلك يعلقونها في الرواشن.
وقد كانت ألش من المدن المعدودة في زمان العرب، قال عنها ياقوت في معجم البلدان: ألش - بفتح أوله وسكون ثانيه وشين معجمة - اسم مدينة بالأندلس من أعمال تدمير، لزبيبها فضل على سائر الزبيب ، وفيها نخيل جيدة لا تفلح في غيرها من بلاد الأندلس، وفيها بسط فاخرة لا مثال لها في الدنيا حسنا. انتهى.
وقد بنى أهل ألش سدا للمياه يقولون له سد «تيبي
Tibi » قامت ببنائه شركة من أصحاب الأملاك، وهم يبيعون من هذه المياه لمن يحتاج إلى سقيا أرضه في المعاطش، ولمصلحة هذا السد ديوان خاص بها، وأهل ألش يبيعون جرائد النخل الذي عندهم في كل إسبانية، ويستفيدون منها أكثر مما يستفيدون من الثمرات. وألش موصوفة بكثرة الغبار وشدة الحر في الصيف، ليس بذلك لها نظير في إسبانية مع كون الحر شديدا في أكثر أنحاء إسبانية.
2
ذكر من انتسب إلى ألش من أهل العلم، منهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن إسماعيل بن سماعة التجيبي، من أهل ألش، سكن مرسية، كان ذا عناية بالرواية، بصيرا بالحديث، مشاركا في العربية، توفي معتبطا سنة 610.
وأبو عبد الرحمن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الجليل بن غالب بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن خلف بن القاسم بن غالب بن حمدون النصاري الخزرجي، سمع بمرسية من أبي بكر بن أبي جمرة، وأبي عمرو بن عيشون، وببلنسية من أبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب بن واجب، وفي شيوخه كثرة، كان فقيها بصيرا بالحديث ذا حظ من الأدب، ولي قضاء المرية فحمدت سيرته، وتوفي بغرناطة سنة 636.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الواحد أصله من ألش، سكن مرسية، يعرف بابن التيان، كان من أهل الحديث، ذكره السلفي وقال: روى لنا عن أبي عبد الله بن الطلاع، وأبي علي الجياني. هؤلاء ترجمهم ابن الأبار.
وممن انتسب إلى ألش بسبب سكناه بها عيسى بن محمد العبدري، أديب شاعر، سمعه أحد ينشد على قبر الفقيه أبي عمرو خفاجة بن عبد الرحمن أبياتا يرثيه بها منها:
أيا حسرتا ماذا تواريه بالأرض
من الوجنة الحسناء والبدن الغض
تكاثرت الأموات والطين فوقها
خواتم حتى يأذن الله بالفض
وأبو محمد عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل، يعرف بابن قمرة، تفقه بأبي جعفر بن أبي جعفر، وسمع الحديث من أبي الوليد بن الدباغ، وأبي الحسن بن فيد القرطبي، ولي قضاء بلده ألش، وكان مشاركا في حفظ المسائل ، دربا بالأحكام، ذا حظ من الأدب، توفي سنة 559 أو 560، ذكره ابن الأبار في التكملة، وقال ابن عميرة في البغية: ألشي فقيه حسن الخط.
وأبو عمرو خفاجة بن عبد الرحمن بن أحمد الأسلمي من ألش، روى أيضا عن أبي الوليد بن الدباغ، وأبي الحسن بن فيد، وكان فقيها متصرفا في الوثائق، عارفا بالأحكام، مات سنة 574.
وعبد الله بن إبراهيم بن معزول الألشي، يكنى أبا محمد، يروي عن أبي علي الصدفي، ذكره ابن عميرة في البغية.
وممن ينسب إلى ألش آل الألشي في دمشق الشام، منهم صاحبنا المرحوم الشيخ زاهد الألشي، وكان من أهل الفقه والفضل، فصيحا مفوها، سريع البادرة، موقد الذهن، بديع الفكاهة. كان أظرف الظرفاء في عصره، تقصد الناس مجالسه للتمتع بمحاضرته، وتولى القضاء في دوما وفي بعلبك، وابنه جميل بك الألشي كان من ضباط الجيش العثماني، وكان متميزا بالبراعة والمقدرة، وقد تولى رئاسة الحكومة في دمشق بعد الحرب العامة في أثناء الاحتلال الإفرنسي، وكنت غفلت عن سؤال والده - رحمه الله - عن سبب تسميتهم «بالألشي» مع كثرة معاشرتي له، فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب تنبهت إلى أنه قد يجوز أن يكونوا منسوبين إلى ألش هذه؛ فأرسلت إلى جميل بك الألشي أسأله عن ذلك؛ فأجابني بما يؤيد ظني بأنهم من مدينة ألش بالأندلس، وأنه كان يسأل أباه فيقول له: أصلنا من الغرب.
هوامش
أوريوله
إن مدينة «كريفيلنت» واقعة بحذاء سلسلة جبال جرد على ضفة نهير يشرب منه نخيلها، وسكان هذه البلدة اليوم عشرة آلاف نسمة، ومن القصبات المعدودة في تلك الناحية بلدة يقال لها: «توريفيجا
Torrevija »، وهي بحرية سكانها ثمانية آلاف، متصلة بالقنت بترام كهربائي. وقرية يقال لها «غرانجة
Granja Rocamora » يمر بها الخط الحديدي إلى مرسية، ولها جندل كبير في رأسه أطلال قصر عربي، وأما فلوزة شقورة فهي مدينة صغيرة يظنها الإنسان عربية إلى يومنا هذا، وهي واقعة بحذاء صخور وجنادل كبار، وفيها منازل كثيرة منحوتة في الصخر، وفيها من البرتقال والنخل شيء كثير، ومن هناك يدخل المسافر في أرض أوريولة
Orihuela
1
التي هي المثل البعيد في الخصب، ويقال لهذه البلدة: أوريولة وأوريوالة، وأريول ولها أيضا اسم آخر، وهو تدمير، وهو اسم أميرها الذي سيأتي ذكره، وسكانها اليوم نحو من عشرين ألف نسمة، وهي واقعة على الضفة اليمنى من نهر شقورة.
وجاء ذكر أوريولة في معجم البلدان، قال ياقوت: أوريولة - بالضم ثم السكون وكسر الراء وياء مضمومة ولام وهاء - مدينة قديمة من أعمال الأندلس من ناحية تدمير، بساتينها متصلة ببساتين مرسية. منها خلف بن سليمان بن خلف بن محمد بن فتحون الأريولي، يكنى أبا القاسم، روى عن أبيه، وأبي الوليد الباجي، وغيرهما، وكان فقيها أديبا شاعرا مفلقا، واستقضي بشاطبة ودانية، وله كتاب في الشروط، وتوفي سنة 505، وابنه محمد بن خلف بن سليمان بن خلف بن محمد بن فتحون الأريولي أبو بكر، روى عن أبيه وغيره، وكان معنيا بالحديث، منسوبا إلى فهمه، عارفا بأسماء رجاله، وله كتاب الاستلحاق على أبي عمر بن عبد البر في كتاب الصحابة في سفرين، وهو كتاب حسن جليل، وكتاب آخر أيضا في أوهام كتاب الصحابة المذكور، وأصلح أيضا أوهام المعجم لابن قانع في جزء، ومات سنة 520، وقيل سنة 519. ا.ه.
وجاء ذكر أوريولة في صبح الأعشى، وقد عدها في مضافات مرسية. وذكرها الشريف الإدريسي، وقال: إنها من كورة تدمير. وقال ياقوت في معجم البلدان على تدمير ما يلي: تدمير بالضم ثم السكون وكسر الميم وياء ساكنة وراء كورة بالأندلس، تتصل بأحواز كورة جيان، وهي شرقي قرطبة، ولها معادن كثيرة ومعاقل ومدن ورساتيق تذكر في مواضعها، وبينها وبين قرطبة سبعة أيام للراكب القاصد، وبسير العساكر أربعة عشر يوما، وتجاور تدمير الجزيرتان وجزيرة يابسة (يريد بالجزيرتين ميورقة ومينورقة اللتين ثالثتهما يابسة)، قال أبو عبد الله محمد بن الجداد الشاعر المفلق الأندلسي:
يا غائبا خطرات القلب محضره
الصبر بعدك شيء لست أقدره
تركت قلبي وأشواقي تفطره
ودمع عيني آماقي تقطره
لو كنت تبصر في تدمير حالتنا
إذن لأشفقت مما كنت تبصره
فالنفس بعدك لا تخلى للذتها
والعيش بعدك لا يصفو مكدره
أخفي اشتياقي وما أطويه من أسف
على البرية والأشواق تظهره
وقال الأديب أبو الحسن علي بن جودي الأندلسي:
لقد هيج النيران يا أم مالك
بتدمير ذكرى ساعدتها المدامع
عشية لا أرجو لنأيك عندها
ولا أنا أن تدنو مع الليل طامع
وينسب إليها جماعة منهم أبو القاسم طيب بن هارون بن عبد الرحمن التدميري الكناني، مات بالأندلس 328. وإبراهيم بن موسى بن جميل التدميري - مولى بني أمية - رحل إلى العراق، ولقي ابن أبي خيثمة وغيره، وأقام بمصر إلى أن مات بها في سنة ثلاثمائة، وكان من المكثرين. انتهى.
وكتب ليفي بروفيسال في الانسيكلوبيدية الإسلامية ما يلي: تدمير
Todmir
اسم كورة من الأندلس كانت قاعدتها مرسية إلى أن انحلت الخلافة الأموية هناك، وإذا أخذنا بقول مؤلفي العرب يكون هذا الاسم مأخوذا من «تيودومير
Thiodomir » الوالي القوطي الذي كان في أيام فتح العرب للأندلس يمثل في بلاد مرسية سلطة لذريق ملك طليطلة. وأشهر ما اشتهر به هذا الرجل المعاهدة التي عاهده بها عبد العزيز بن موسى بن نصير، وقد ذكرها الضبي وعبد المؤمن الحميري، ونشرها المستشرق كازيري
Casiri ، وعلق عليها بحثا طويلا العالم كاسبار رميرو
Remiro
في كتابه تاريخ مرسية لعهد المسلمين.
وكورة تدمير عند العرب تجاور كورتي جيان وألبيرة، وأشهر مدنها لورقة وأوريولة وألقنت وقرطاجنة ومرسية،
2
وإذا شئت أن تعلم تاريخ هذه الكورة في أيام العرب، فانظر إلى الفصل المتعلق بمرسية من هذه المعلمة.
وقال المقري في نفح الطيب في أثناء كلامه على فتح الأندلس في أول الأمر: ومضى الجيش إلى تدمير، وتدمير اسم العلج صاحبها سميت به، واسم قصبتها أوريولة، ولها شأن في المنعة، وكان ملكها علجا داهيا، وقاتلهم مضحيا، ثم استمرت عليه الهزيمة في فحصها، فبلغ السيف في أهلها مبلغا عظيما أفنى أكثرهم، ولجأ العلج إلى أوريولة في يسير من أصحابه لا يغنون شيئا، فأمر النساء بنشر الشعور وحمل القصب والظهور على السور في زي القتال متشبهات بالرجال، وتصدر قدامهن في بقية أصحابه يغالط المسلمين في قوته على الدفاع عن نفسه، فكره المسلمون مراسه لكثرة ما عاينوه على السور وعرضوا عليه الصلح؛ فأظهر الميل إليه ونكر زيه، فنزل إليهم بأمان على أنه رسول، فصالحهم على أهل بلده ثم على نفسه وتوثق منهم، فلما تم له من ذلك ما أراد عرفهم بنفسه واعتذر إليهم بالإبقاء على قومه، وأخذهم بالوفاء بعهده، وأدخلهم المدينة فلم يجدوا فيها إلا العيال والذرية، فندموا على الذي أعطوه من الأمان، واسترجحوه فيما احتال به، ومضوا على الوفاء له، وكان الوفاء عادتهم ... إلخ.
وجاء في كتاب «أخبار مجموعة» في فتح الأندلس وذكر أمرائها - رحمهم الله - والحروب الواقعة بها بينهم، ذكر قضية تدمير هذه، وهذا الكتاب أقدم ما كتب في فتح العرب للأندلس، يظن أن تأليفه كان في أيام الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر، جاء في هذا الكتاب على الجيش الفاتح: ثم مضى إلى تدمير، وإنما سميت تدمير باسم صاحبها، إنما كان يقال لها أوريولة، فلقيهم صاحبها في جيش جحفل فقاتلهم قتالا ضعيفا، ثم انهزم في فحص لا يستر شيئا؛ فوضع المسلمون فيهم السلاح حتى أفنوهم، ولجأ من بقي إلى المدينة أوريولة وليست فيهم بقية ولا عندهم مدفع، وكان تدمير صاحبهم مجربا شديد العقل، فلما رأى أن لا بقية في أصحابه أمر النساء فنشرن شعورهن وأعطاهن القصب وأوقفهن على سور المدينة، وأوقف معهم بقية من بقي من الرجال في وجه الجيش حتى عقد على نفسه، ثم هبط بنفسه كهيئة الرسول، فاستأمن فأمن، فلم يزل يراوض أمير ذلك الجيش حتى عقد على نفسه الصلح وعلى أهل بلده، فصارت تدمير صلحا كلها ليس منها عنوة قليل ولا كثير، وعاملهم على ترك أمواله في يديه، فلما فرغ أبرز لهم اسمه وأدخلهم المدينة، فلم يروا فيها أحدا عنده مدفع، فندم المسلمون، ومضوا على ما أعطوه، وكتبوا بالفتوح إلى طارق، وأقام بتدمير مع أهلها رجال، ومضى عظم الجيش إلى طليطلة ... إلخ . وسيرد هذا وما هو أوسع منه عند تاريخ الفتح العربي أيام طارق بن زياد وموسى بن نصير.
3
ذكر من انتسب إلى أوريولة، من أهل العلم
منهم أبو القاسم خلف بن محمد بن خلف بن سليمان بن خلف بن محمد بن فتحون، سمع أباه أبا بكر محمدا، وأبا علي الصدفي، وأبا جعفر بن بشتغير، وأبا بكر بن العربي، وأجاز له جده أبو القاسم خلف بن سليمان في صغره، وأخذ القراءات عن أبي بكر بن عمار اللاردي، وعن أبي الحسن بن ميمون، وكتب إليه أبو عبد الله الخولاني، وابن رشد، وابن عتاب، وغيرهم، ومن أهل المشرق أبو الحسن بن مشرف والسلفي، وولي القضاء بمرسية للأمير أبي محمد بن عياض فحمدت سيرته، وتوجه عنه رسولا إلى المغرب فأقام بمراكش مدة، وانصرف سنة 543 بعد موت ابن عياض، ثم نقل إلى قضاء بلده أوريولة، وتولاه مدة طويلة مقتصرا على جار من طيب المستخلص القديم الذي لا شبهة فيه.
وكان من قضاة العدل، صارما في أحكامه، مهيبا وقورا، معروف السلف بالنباهة والعلم، وكان الأمير أبو عبد الله بن سعد يميزه في رجاله من غيره، ويوجب له الحظ؛ إذ كان المنظور إليه بمكانه، وأحد الأفراد في زمانه رجاحة وجلالا وقولا بالحق وعملا به؛ قال ابن عياد: ولي قضاء أوريولة مرتين؛ إحداهما سنة أربعين؛ أي 540، وأعيد ثانية بعد موت أبي العباس بن الحلال، ووصفه بالتيقظ والتحفظ والورع والنزاهة، وبأنه لم يتغير له ملبس ولا مركب عما عهد منه قبل الولاية، وتوفي في جمادى الأولى سنة 557، عن ابن الأبار.
وجده أبو القاسم خلف بن سليمان بن خلف، هو الذي ذكره ياقوت في المعجم، وقد تقدم نقل ذلك، وقد وردت ترجمة المذكور في صلة ابن بشكوال، كذلك ترجمة محمد بن خلف بن سليمان بن فتحون ولد أبي القاسم خلف واردة في صلة ابن بشكوال، ويظهر أن صاحب معجم البلدان نقل أقواله عنهما من كتاب الصلة؛ لأنه يذكر الألفاظ نفسها.
وأبو عمرو زياد بن محمد بن أحمد بن سليمان التجيبي، سمع من القاضي أبي علي الصدفي، وأخذ عن بعض رجال المشرق، قال ابن بشكوال إنه سمع بقرطبة من شيوخه وصحبه وأخذ عنه؛ أي عن ابن بشكوال، وأخذ ابن بشكوال عنه، وتوفي ببلده أوريولة في صدر ذي الحجة سنة 526.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان بن عبد الله التجيبي، صاحب الأحباس بأوريولة، يعرف بابن الصفار، وهو والد أبي عمرو زياد بن محمد، سمع من أبي علي بن سكرة سنة 496، ولقي أبا عبد الله بن الحداد، وأبا بكر بن اللبانة، وغيرهما من كبار الأدباء، ذكره ابن الدباغ في مشيخته.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن فيره الجذامي، أصله من لاردة، له رواية عن أبي الحسن بن عقال الشنتمري، وأبي عبد الله بن نوفل الأنصاري، حدث عنهما بالتيسير لأبي عمرو المقرئ في سنة 525، قال ابن الأبار: قرأت ذلك بخطه.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن عميرة الأنصاري، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن فرج المكناسي وغيره، وسمع الحديث من أبي علي الصدفي، وأبي محمد بن أبي جعفر، وأخذ بقرطبة عن أبي بحر الأسدي، وأبي بكر بن العربي، وابن مغيث، وابن عتاب، وكان عالما بالفرايض والحساب، توفي بأوريولة سنة 549.
وظافر بن إبراهيم بن أحمد بن أمية بن أحمد المرادي، يكنى أبا الحسن، صحب القاضي أبا علي الصدفي وسمع منه ومن غيره، توفي يوم الاثنين الخامس لصفر سنة 523، ومولده سنة 481.
وبقي بن قاسم بن عبد الرءوف، يكنى أبا خالد نزل أوريولة، أخذ عن أبي محمد مكي بن أبي طالب المقري، والأستاذ أبي القاسم الخزرجي وغيرهما، ترجمه ابن بشكوال في الصلة.
وأبو عبد الله محمد بن صاف بن خلف بن سعيد بن مسعود الأنصاري، روى عن أبيه وعن أبي محمد بن أبي جعفر، وأبي علي الصدفي، وأبي بكر بن العربي، وأبي مروان بن غردي، وغيرهم، وأجاز له أبو الوليد بن رشد المدونة والمقدمات من تأليفه خاصة، وولي قضاء بلده أوريولة بعد أبي القاسم بن فتحون في إمارة ابن سعد، روى عنه ابن عياد وقال: توفي مصروفا عن القضاء في ذي القعدة سنة 552، ومولده بعد الثمانين وأربعمائة، ذكره ابن الأبار.
وأبو أحمد محمد بن أحمد بن معطي التجيبي، أخذ القراءات ببلده أوريولة عن أبي بكر بن عمار اللاردي، ورحل حاجا؛ فلقي بمكة أبا العلي بن العرجاء، وقفل إلى بلده أوريولة، وتصدر للإقراء، وأم في المسجد المعروف به عند باب القنطرة حياته كلها، وكان شيخا صالحا ثقة، من أهل الورع والعدالة مقرئا مجودا. قال ابن الأبار: أخذ عنه أبو عبد الله التجيبي شيخنا، وهو ابن عم والده، تلا عليه القرآن بما تضمنه التيسير لأبي عمرو المقرئ، ولازمه سنين، وأجاز له في شهر رمضان سنة 565.
وأبو عبد الله محمد بن سليمان من برطله (برطله اسم علم محرف عن برتلو
Bertelot ، وهو من الأسماء الإفرنجية التي سمى بها العرب). قال ابن عميرة: فقيه تدميري، من أهل الفضل والورع، توفي سنة 563.
وعتيق بن أحمد بن عبد الرحمن الأزدي أبو بكر بن جزيقر، حج سنة 489، وسمع بمكة من أبي الفوارس طراد الزينبي، وحج أيضا سنة 520، وسمع من رزين بن معاوية، وزاهر الشحامي، وغيرهما، وحدث عنه السلفي في المجاز والمجيز، وصدر إلى بلده بروايات عالية وفوائد كان يقصد لأجلها، وهو آخر من حدث بالمغرب عن أبي الفوارس الزينبي. قال ابن الأبار: روى عنه أبو بكر بن أبي ليلى، وأبو القاسم بن بشكوال، وأبو عمر بن عياد، ولد سنة 467 بأوريولة، وبها توفي سنة 551.
وأبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن فيره الجذامي، ولي خطة الشورى بأوريولة، وكان فيه صلاح وتواضع، توفي سنة 569.
وأبو الحسن علي بن محمد بن يبقى بن جبلة الأنصاري الخزرجي، من أوريولة وصاحب الخطبة بها، سمع سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة من السلفي وغيره، وتوفي بأوريولة سنة 630، عن ابن الأبار.
وأبو بكر يحيى بن عبد الرحمن الأزدي، يعرف بابن «مصالة»، خطب بجامع بلده أوريولة، وناب في القضاء، وكان من أئمة العربية، قال التجيبي: كان شيخي في العربية واللغة، وصحبته عدة سنين، وعرضت عليه كتبا كثيرة، قال: وأخبرت أنه حي إلى الآن؛ يعني سنة خمس وتسعين «وخمسمائة»، قال ابن الأبار في التكملة: فإن كان ذلك صحيحا فقد استوفى مائة عام أو نيف عليها.
وأبو عبد الله محمد بن عبد السلام الأديب المعروف بالتدميري، سكن قرطبة، أخذ عن أبي عبد الله بن مفرج وغيره، ذكره أبو عبد الله بن عابد، وقال: إنه كتب عنه المناسك لسحنون بن سعيد، وقال: إنه فقد في وقعة «فنتيش» سنة أربعمائة مع أبي عثمان بن القزاز الأديب - رحمهما الله - وذكره ابن حيان، وقال: كان خيرا، ورعا، عابدا، متقشفا، متفننا في العلوم، ذا حظ من الأدب والمعرفة، وكان قد نظر في شيء من الحدثان. انتهى نقلا عن الصلة. وما ذكره من النظر في علم الحدثان يعني به هذه الحسابات التي يعملها بعضهم ويتنبئون بها عما سيحصل من الحوادث.
وأبو عبد الله محمد بن يحيى التدميري، روى عن أبي بكر بن صاحب الأحباس وغيره، وكان عارفا بالأحكام والشروط، وكان من المشاورين بمرسية، وتوفي بها سنة 511 عن سن عالية، نقلا عن الصلة.
ورجاء بن فرنكون (وفرنكون هذا من الأسماء الإفرنجية التي استعملها العرب)، من أهل تدمير، سمع ببلده من أبي الغصن، ومن عبيد الله بن يحيى، ومات بالقيروان في قصده إلى الحج، عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن وضاح التدميري، نزيل المرية، قال عنه ابن عميرة الضبي في بغية الملتمس: فقيه محدث، توفي بالمرية سنة 537.
وأبو بكر محمد بن محمد بن يبقى بن جبلة الخزرجي، من أهل أوريولة، سكن القاهرة، سمع من أبي طاهر السلفي، وأبي عبد الله المسعودي.
ومروان بن عبد الملك بن أبي جمرة، يروي عن أبيه عن سحنون بن سعيد، روى عنه ابنه وليد بن مروان، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو بكر ملك بن حمير، ذكره ابن سفيان، ووصفه بالأدب والمشاركة في الكتابة والشعر، وقال: توفي ببلده سنة 561، وأنشد له أبو عمر بن عياد هذين البيتين:
رحلت وإنني من غير زاد
وما قدمت شيئا للمعاد
ولكني وثقت بجود ربي
وهل يشقى المقل مع الجواد
وأبو القاسم أحمد بن إبراهيم بن محمد بن خلف بن إبراهيم بن محمد بن أبي ليلى تدميري، كان قاضيا بشلب، قال ابن عميرة الضبي في بغية الملتمس: فقيه محدث، توفي بشلب عام 514، يروي عن أبي الوليد الباجي، وأبي العباس العذري، وطاهر بن مفوز، وخلف بن مدير، قرأ عليه القراءات السبع.
وخلف بن سليمان بن فتحون الأوريوالي (تقدم أنه يقال لأوريولة أوريوالة كما يقال تدمير)، فقيه عارف، فاضل ورع، كان قاضيا بشاطبة، ثم ولي قضاء دانية ثم استعفى فأعفي، فلزم الانقباض، فكان لا يخرج من منزله إلا إلى الجمعة، وكان يصوم الدهر، فقالت له خالته، وهي جدة أبي محمد الرشاطي أم أبيه، في ذلك، فقال: كان أبي - رحمه الله - في آخر عمره التزم صيام الدهر، فلما توفي رأيت أن أرث ذلك عنه، فقالت له خالته: أنت الذي أنت ولدي تصوم وأنا لا أصوم؟ فالتزمت صيام الدهر من حينئذ إلى أن توفيت.
روى المترجم عن القاضي أبي الوليد الباجي، وصحبه، وقرأ عليه بأوريوالة كتاب البخاري مرتين؛ إذ كان قاضيا بها، ولقي بشاطبة أبا الحسن طاهر بن مفوز وغيره، توفي بأوريوالة في ذي القعدة سنة 505، ذكره ابن عميرة في البغية.
وأبو القاسم طيب بن محمد بن هارون بن عبد الرحمن بن الفضل بن عميرة الكناني، ثم العتقي، من أهل تدمير من شرق الأندلس، روى عن الصباح بن عبد الرحمن ويحيى بن عون بن يوسف الخزاعي، وغيرهما، مات سنة 328، ذكره ابن عميرة.
ومروان بن عبد الله بن مروان الزجاج، يروي عن أبي علي الصدفي، ذكره ابن عميرة الضبي، وقال: تدميري.
وأبو الفضل عميرة بن عبد الرحمن بن مروان العتقي، روى عن أصبغ بن الفرج، وسحنون بن سعيد، توفي عام 238.
وأبو العالية فضل بن عميرة بن راشد بن عبد الله بن سعيد بن شريك بن عبد الله بن مسلم بن نوفل بن ربيعة بن ملك بن مسلم الكناني ثم العتقي، سمع عبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن قاسم، وولي قضاء تدمير في إمارة الحكم بن هشام، ومات سنة 197.
وأبو العافية - وقيل أبو العالية - فضل بن الفضل بن عميرة بن راشد، وهو ولد المترجم السابق، كان قد تركه أبوه حملا، فسمي باسمه وكني بكنيته، سمع عبد الملك بن حبيب السلمي، ويحيى بن يحيى، ولي القضاء أيضا ببلده تدمير، ومات سنة 265.
وأبو الفضل عميرة بن الفضل بن الفضل بن عميرة بن راشد العتقي، روى عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيره، مات سنة 284، وهو ولد الذي تقدمت ترجمته عليه، ذكره ابن عميرة الضبي أيضا.
وأبو القاسم مسعود بن عمر الأموي، روى عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، مات بالأندلس سنة 307، ذكره ابن عميرة الضبي، وقال: تدميري.
وأبو شمر نصر بن عبد الله الأسلمي، رحل ودخل إفريقية ومصر ومكة، وسمع من أهل بلده ومن بعض أهل الشرق، ذكره ابن عميرة الضبي، وقال: تدميري، ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو حفص التدميري، يعرف بابن القيساري، شاعر أديب، ذكره أبو الوليد بن عامر وقال: أخبرني أبو الحسن بن علي الفقيه قال: كان في داري بقرطبة حاير صنع فيه مرج بديع وظلل بالياسمين، فنزهت إليه أبا حفص التدميري في زمن الربيع، فقال: ينبغي أن يسمى هذا المرج بالسندسة، وصنع على البديهة أبياتا وهي:
نهار نعيمك ما أنفسه
ورجع سرورك ما آنسه!
بحاير قصرك من صوغه
دنانير قد قارنت أفلسه
وأسطار نور قد استوسقت
وسطر على العمد قد طلسه
ونبت له مدرع أخضر
بسفرة أسياعه ورسه
فأبدع ما شاء لكنه
أجل بدائعه السندسه
مدارعها خضر غضة
أعار النعيم لها ملبسه
كأن الظلال علينا بها
أواخر ليل على مغلسه
كأن النواير في أفقها
نجوم تطلعن في حندسه
ومهما تأملت تحسينها
فعيني بقرتها معرسه
محل لعمرك قد طيب ال
إله ثراه وقد قدسه
وأبو الأدهم متوكل بن يوسف، من أهل تدمير، مات بالأندلس، ذكره محمد بن حارث الخشني، ونقل ذلك ابن عميرة في البغية.
وخطاب بن محمد بن مروان بن خطاب بن عبد الجبار بن خطاب بن مروان بن نذير، مولى مروان بن الحكم، من أهل تدمير، رحل حاجا إلى المشرق مع أبيه وأخيه عميرة سنة 222؛ فسمعوا جميعا بالقيروان من سحنون بن سعيد المدونة، ذكر ذلك ابن الفرضي عن وليد بن عبد الملك. قال ابن الأبار في التكملة: وقرأت بخط أبي عمر بن عبد البر أنهم أدركوا أصبغ بن الفرج وأخذوا عنه.
وأبو الحسن ظافر بن إبراهيم بن أحمد بن أمية بن أحمد المرادي، من أهل أوريولة، يعرف بابن المرابط، صحب القاضي أبا علي الصدفي، وسمع منه ومن غيره، توفي يوم الاثنين 5 صفر سنة 523، ومولده سنة 481.
ومحمد بن عبد الله بن عصام تدميري، يروي عن القاضي أبي علي الصدفي، ذكره ابن عميرة في البغية.
ومحمد بن عبد الله بن أبي جعفر الخشني تدميري، من أهل بيت فقه وجلالة ورئاسة، توفي سنة 494، ذكره ابن عميرة.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن خندف العتقي، تدميري، فقيه أديب، يروي عن أبي الحجاج يوسف بن علي بن محمد القضاعي وغيره، ذكره أيضا ابن عميرة.
وأبو بكر محمد بن الطيب العتقي، تدميري، فقيه، كان قاضيا بلورقة، وتوفي وهو خطيب جامع مرسية وصاحب الصلاة به بعد ابن طرافش في سنة 595.
وأبو عبد الله التدميري محمد بن أبي الحسام طاهر القيسي الزاهد المعروف بالشهيد، كان ورعا فاضلا، فقيها عالما، خيرا، ناسكا متبتلا، من أهل بيت جلالة وصلاح، طلب العلم في حداثة سنه في بلده أوريولة، ثم رحل إلى قرطبة فروى الحديث بها وتفقه بفقهائها، وباحث أهل الورع من علماء قرطبة في أموال بلده تدمير، وسقاهم ووجوه مستغلاتهم، وأخذ فيها أجوبتهم فجاءت مفيدة نافعة، ورسخ المترجم في علم السنة، ونافس في صالح العمل والحسبة، ثم ارتحل إلى المشرق لتمام ثلاثين سنة من عمره، وسكن الحرمين ثمانية أعوام يتعيش فيها من يده، وكان يرحل إلى بيت المقدس، وذهب إلى العراق ليلقى الشيخ أبا بكر الأبهري الفقيه المالكي، فأخذ عنه وعن غيره.
وصحب الأخيار والنساك، واقتدى بهم، ولبس الصوف، وقنع بالقرص ، وتورع جدا، وأعرض عن شهوات الدنيا؛ فأصبح عالما عاملا منقطع القرين، وكانت دعواته مستجابة. وقال ابن عميرة الضبي: إنه كانت له كرامات ظاهرة يطول القول في تعدادها، حملها عنه رواة صدق، قال: ثم انصرف مجيبا دعوة والده أبي الحسام؛ إذ كان لا يزال يستدعيه مع حاج الأندلس، فقدم تدمير في سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة، ولكنه تنكب - رحمه الله - النزول بمدينة مرسية - قاعدة تدمير - وطنه، ونزل خارجا منها بالقرية المنسوبة إلى بني طاهر، وكان لا يرى سكن مرسية ولا الصلاة في مسجدها الجامع لداخلة تتبعها فيه، وابتنى هناك لنفسه بيتا سقفه بحطب الشعراء والطرفاء يأوي إليه، وكانت له هناك جنينة يعمرها بيده ويقتات بما يتخذه فيها من البقل والثمر، وكان لا يدع في خلال ذلك الجهاد مع محمد بن أبي عامر وقواده، وشهد معه فتح مدينة سمورة وفتح مدينة قلمرية من قواعد جليقية، ثم ترك سكنى قريته هذه ورحل إلى الثغر، وواصل الرباط بفروجه المخوفة، وكان له بأس وشدة وشجاعة وثقافة، تحدث عنه فيها أهل الثغر بحكايات عجيبة، ولم يزل مرابطا بطلبيرة إلى أن استشهد مقبلا غير مدبر، حميد المقام، وذلك في سنة 379 أو السنة التي قبلها، روى كل ذلك ابن عميرة.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن وضاح التدميري، نزيل المرية، فقيه محدث، توفي فيها سنة 537، ذكره ابن عميرة.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن الفضل بن عميرة بن راشد الكناني العتقي، ولي القضاء بتدمير، روى عن عبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وغيرهما، ومات سنة 227.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن الفضل بن الفضل بن عميرة بن راشد العتقي، يروي عن أبيه، وهو ابن أخي المترجم قبله، مات بالأندلس سنة 294، ذكر هذين، وذكر الأربعة الذين سبقت تراجمهم من هذه العائلة ابن عميرة الضبي في بغية الملتمس.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الوارث التدميري يروي عن أبي المطرف بن سلمة، حدث عنه أبو محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي تليد الشاطبي، ذكره ابن الأبار في التكملة نقلا عن ابن عياد.
ومحمد بن مروان بن خطاب بن عبد الجبار بن خطاب بن مروان بن نذير، مولى مروان بن الحكم، كان يعرف بأبي جمرة، قال ابن الأبار في التكملة: المعروف بأبي جمرة على ما ألفيت بخط شيخنا أبي بكر بن أبي جمرة، رحل حاجا هو وابناه خطاب وعميرة في سنة 222، وسمعوا ثلاثتهم من سحنون بن سعيد المدونة بالقيروان، ذكر ذلك ابن الفرضي في تاريخه، وسمى عميرة منهم في بابه، وأغفل أباه وأخاه، وقرأت بخط أبي عمر بن عبد البر: حج محمد بن مروان مع ابنيه عميرة وخطاب، وسمع معهما المدونة من سحنون، وأدركوا أصبغ بن الفرج وأخذوا عنه.
وأبو بكر محمد بن مفضل بن حسن بن عبد الرحمن بن محمد بن مهيب اللخمي، أصله من طبيرة، وولد بأوريولة، وسكن المرية. قال ابن الأبار: سمع من ابن عمه الحاج أبي إسحاق بن علي بن مهيب، ومن أبي الحسين بن زرقوق شيخنا، وأبي إسحاق بن الحاج الزاهد، وأصهر إليه، وولي الخطبة بقصبة المرية، وكان أديبا شاعرا مكثرا، مائلا إلى التصوف، لقيته بتونس في وفادته عليها، وسمعت منه وسمع مني، وأجاز لي بلفظه، وأجزت له كذلك، ويروي عنه كتاب «الجواهر الثمينة» أبو عبد الرحمن بن غالب، وتوفي بسبتة في رجب، وقيل أول ليلة من جمادى الآخرة سنة 645، وكانت جنازته مشهودة، وولد بأوريولة سنة 581.
وعبد الرحمن بن أبي أمية بن عصام، من أهل تدمير، سمع من أبي الغصن، ومحمد بن هارون، ومحمد بن عمر بن لبابة، ذكره ابن حارث، وترجمه ابن الأبار في التكملة.
وصاف بن خلف بن سعيد بن مسعود الأنصاري، من أهل أوريولة، وصاحب الأحكام بها، يكنى أبا الحسن، وكان من أهل المعرفة بالقراءات، روى عن أبي الوليد الباجي، وروى عنه ابنه أبو عبد الله محمد بن صاف القاضي، ذكره ابن عياد، قال ذلك ابن الأبار في التكملة. وقد تقدمت ترجمة ابنه المذكور. انتهى ما اطلعنا عليه من أخبار أهل العلم المنسوبين إلى أوريولة.
وقد ذكرنا أن أوريولة واقعة على نهر شقورة
Segura ، والخط الحديدي يعبر بهذا النهر، فيكون على شماليه الشارة المسماة «قولمبارس
Columbares »، وعلى 59 كيلومترا قرية «بنيال»، وعلى 64 كيلومترا قرية «زناتة»، وعلى الضفة اليمنى من نهر شقورة جبل «أغودو
Agudo » على رأسه آثار قصر عربي، وعلى 65 كيلومترا المحطة المسماة «مرسية القرية
Murcia Alquerias »، وفيها مجمع الخطين بين مرسية وقرطاجنة، وعلى 70 كيلومترا «بني آجان
Beniajan » إلى الشمال، وعلى 76 كيلومترا مدينة مرسية.
هوامش
شقورة
ولنذكر الآن مدينة شقورة
Segura ، ذكرها ياقوت في معجمه فقال: شقورة - بفتح أوله وبعد الواو الساكنة راء - مدينة بالأندلس شمالي مرسية، وبها كانت دار إمارة همشك - أحد ملوك تلك النواحي - ينسب إليها عبد العزيز بن علي بن موسى بن عيسى الغافقي الشقوري، ساكن قرطبة، يكنى أبا الأصبغ، روى عن أبي بكر علي بن سكرة، وكان فقيها حافظا عارفا بالشروط، توفي بقرطبة سنة 531، ومولده سنة 487، قال ابن بشكوال: وكان من كبار أصحابنا وأجلتهم. انتهى.
1
وينتسب إلى شقورة، من أهل العلم أبو محمد عبد الله بن علي بن عتبة اللواتي، من شقورة، من قرية بها يقال لها «شقوبس»، توفي بعد سنة 625، روى عن أبي الحسن بن كوثر في غرناطة، وأقرأ ببلده.
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن بشير الغافقي، من أهل فرغليط عمل شقورة، كان من أهل الطب والرواية، أجاز له أبو القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي، والحسين بن الإمام أحمد بن الحسين البيهقي، وأبو الحسن سعد الخير بن محمد الأنصاري البلنسي، وغيرهم، ولابن ابنه نصر بن عبد الله بن عبد العزيز رواية وعناية.
وأبو عمرو نصر بن علي بن عيسى بن سعيد بن مختار الغافقي، من أهل شقورة، روى عن أبي علي الصدفي، واستجاز له أبو الحسن الفرغليطي سنة 528، أبا عبد الله الفراوي، وأبا كرب بن أبي كرب الجرجاني، ويروي عن أحمد البيهقي كتابه في السنن، ولي القضاء بشقورة، حدث عنه ابن أخيه أبو الحسن محمد بن عبد العزيز بن علي الشقوري، وابن ابنته أبو عمرو نصر بن عبد الله بن بشير، وغيرهما، ذكرهم ابن الأبار في التكملة.
وأبو عمرو نصر بن إدريس التجيبي، روى بقرطبة عن أبي بحر الأسدي، وأبي الحسن بن مغيث، وأبي عبد الله بن الحاج، وغيرهم، وولي الأحكام بشاطبة لأبي العباس بن الأصغر، وكان شيخا صالحا مشاركا في الفقه، له معرفة بعقد الشروط ودربة بالأحكام وحفظ للتواريخ، توفي بشقورة سنة 560، ذكره ابن الأبار.
وأبو عمرو نصر بن عبد الله بن عبد العزيز بن بشير الغافقي، أصله من فرغليط عمل شقورة،
2
وسكن «قيشاطة»، سمع من جده لأمه أبي عمرو نصر بن علي بن عيسى الشقوري، ومن أبي الحسن حنون بن الحكم اليعمري الأبذي، وأبي محمد بن سهل الكفيف وغيرهم، وسمع بقرطبة من أبي الحسن بن بقي، وأبي القاسم بن بشكوال، وسمع بمرسية من أبي عبد الله بن عبد الرحيم، وأبي بكر بن أبي جمرة، وأجاز له أبو الحسن بن هذيل، وأبو الحسن بن النعمة، ومن أهل الإسكندرية أبو طاهر السلفي، وأبو الطاهر بن عوف، وتصدر بقيشاطة للإقراء، وكان زاهدا فاضلا، ولما تغلب الروم على قيشاطة في عقب رمضان سنة 621، أخذوه أسيرا، ثم تخلص من الأسر، وقدم قرطبة فأخذ عنه أبو القاسم بن الطيلسان، وقال: توفي بلورقة عام 623، وقال ابن فرتون إنه توفي سنة 633، ومولده سنة 535، وقال ابن فرقد: كتب لي ولابنيه محمد وأحمد في آخر جمادى الأولى سنة 627 من حصن التراب، قال: وسنه الآن اثنتان وتسعون سنة. ا.ه. فيكون وقد مات سنة 633 قد بلغ 98 سنة.
وأبو عبد الله محمد بن مسعود بن أبي الخصال الغافقي، من أهل شقورة، سكن قرطبة، كان مفخرة وقته، كاتبا بليغا، عالما أديبا، من أهل الخصال الباهرة والأذهان الثاقبة، وله تواليف حسان ظهر فيها نبله، وكان حسن العشرة، واسع المبرة، مليح المنظر والمخبر، فصيح اللسان، حلو الكلام، أحد رجال الكمال في عصره، واستشهد - رحمه الله - ودفن يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحجة سنة 540، ودفن بمقبرة ابن عباس. ترجمه ابن بشكوال في الصلة وقال: وكان مولده في ما أخبرني به سنة 465.
وأبو مروان عبد الملك بن محمد بن أبي الخصال الغافقي، من أهل قرطبة، أصله من شقورة، سمع أباه أبا عبد الله وغيره، ورحل حاجا فأدى الفريضة، وتوفي شهيدا - رحمه الله - وثكله أبوه ورثاه. قال ابن الأبار في التكملة: ووجدت سماعه من أبيه في نسخة من رسالته التي رد فيها على ابن غرسية في جمادى الآخرة سنة 528، وبعد ذلك كانت وفاته، وكان من نجباء الأبناء، وأحسبه مدفونا بالمرية.
وأبو عبد الله محمد بن عتيق بن علي بن عبد الله بن محمد التجيبي، من أهل شقورة، سكن غرناطة، ويعرف باللاردي؛ لأن أصل سلفه منها؛ أي لاردة، روى عن أبيه أبي بكر عتيق، وعن أبي عبد الله بن حميد، سمع منه ببلنسية، وولي القضاء، ومن تواليفه «أنوار الصباح في الجمع بين الستة الصحاح»، وكتاب «الأنوار ونفحات الأزهار في شمائل النبي المختار»، وكتاب «المسالك النورية إلى المقامات الصوفية»، وكتاب «النكتة الكافية والنغبة الشافية في الاستدلال على مسائل الخلاف بالحديث»، وكتاب «الاعتماد في خطبة الإرشاد»، وكتاب «منهاج العمل في صناعة الجدل»، وكتاب «الدرر المكللة في الفرق بين الحروف المشكلة»، ترجمه ابن الأبار في التكملة، وقال: مولده في العشر الوسطى لصفر سنة ثلاث وستين وخمسمائة.
وأبو المطرف أحمد بن عبد الله بن محمد بن حسن بن عميرة المخزومي، قال فيه لسان الدين بن الخطيب: بلنسي شقوري الأصل، وأطنب في الإحاطة بوصف علمه وفضله وأدبه، وقال إنه كان في الكتابة علما، ونقل عن ابن عبد الملك قوله: وأما الكتابة فهو علمها المشهور وواحدها الذي عجزت عن ثانيه الدهور. ثم أردف لسان الدين كلام ابن عبد الملك بقوله: وعلى الجملة فذات أبي المطرف في ما ينزع إليه ليست من ذوات الأمثال؛ فقد كان نسيج وحده، إدراكا وتفننا، بصيرا بالعلوم، محدثا مكثرا، راوية ثبتا، متبحرا في التاريخ والأخبار، ريان مضطلعا بالأصلين، قائما على العربية واللغة، كلامه كثير الحلاوة والطلاوة، جم العلوم، غزير المعاني والمحاسن، شفاف اللفظ، حر المعنى، ثاني بديع الزمان في شكوى الحرفة وسوء الحظ، ورونق الكلام، ولطف المأخذ، وتبريز النثر على النظم، والقصور في السلطانيات. ا.ه.
ثم روى أنه مما يذكر أن أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي هذا رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
في المنام، فناوله أقلاما، فكان يرى أن تأويل هذه الرؤيا ما أدركه من التبريز في الكتابة وارتفاع الذكر، وقد تقدمت ترجمة المذكور بين علماء بلنسية.
وأبو عبد الله محمد بن مسعود بن خلصة بن فرج بن أبي الخصال الغافقي، ترجمه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة، فقال: الإمام البليغ المحدث الحجة، أصله من فرغليط من قطر شقورة من كروة جيان، وسكن قرطبة وغرناطة. ا.ه.
قلت: إن نهر شقورة ينحدر من الجبال ويجري مسافة بعيدة إلى أن ينصب في البحر بقرب أوريولة، فمن الناس من ينسب إلى هذا القطر ويكون ساحليا، ومنهم من ينسب إليه ويكون جبليا. هذا ونقل لسان الدين عن ابن الزبير في حق المترجم قوله: ذو الوزارتين أبو عبد الله، من أهل المعارف الجمة، والإتقان لصناعة الحديث والمعرفة برجاله والتقييد لغريبه، وإتقان ضبطه، والمعرفة بالعربية والأدب، والنسب والتاريخ، متقدما في ذلك كله. أما الكتابة والنظم فهو إمامهما المتفق عليه والمتحاكم فيهما إليه، ولما ذكره أبو القاسم الملاحي بنحو ذلك قال: لم يكن في عصره مثله مع دين وفضل وورع.
قال أبو عمر بن الإمام الأشجعي في «سمط الجمان» لما ذكره: البحر الذي لا يجتاح ولا يشاطر، والغيث الذي لا يساجل ولا يقاطر، والروض الذي لا يفاوح ولا يعاطر، والطود الذي لا يزاحم ولا يخاطر ... إلخ. وذكره الفتح في «قلائد العقيان»، فقال إنه وإن كان خامل المنشأ فقد تميز بنفسه، وتميز من أبناء جنسه، وظهر بذاته وفخر لداته. ونقل لسان الدين عن أبي جعفر بن الزبير أن المترجم أخذ عن الغساني، وابن البادش، وأبي عمران بن أبي تليد، وأبي بحر الأسدي، وغيرهم، قال: وأما كتبه وتواليفه الأدبية فكل ذلك مشهور متبادل بأيدي الناس، وقل من يعلم بعده ممن يجتمع له مثله رحمه الله. روى عنه ابن بشكوال، وابن جيش، وابن مضاء، ومن شعره مخمسا، وكتبها من مراكش يتشوق إلى قرطبة :
بدت لهم بالغور والشمل جامع
بروق بأعلام العذيب لوامع
فباحت بأسرار الضمير المدامع
ورب غرام لم تنله المسامع
ودام بها من فيضها المتصوب
وإليك هذا الأنموذج من نثره ، وهو كتابة منه إلى الوزير أبي بكر بن عبد العزيز عن رسالة كتب بها إليه مع حاج يضرب بالقرعة:
أطال الله بقاء وليي الذي له إكباري وإعظامي، وفي سلكه اتسامي وانتظامي، للفضائل محييا ومبتديا، وللمحامد مشتملا ومرتديا، وللغرائب متحفا ومهديا، وصل كتابه صحبة عراف اليمامة، وحادي نجد وتهامة، الظهور يقرطسه ويحليه، والخفاء يظهره ويبديه، ولعله رائد لابن صياد، أو معاند للمسيح الدجال معاد، فأبدى شهادة إنصاف أن عنده أصداف، ولو كان هناك نظر صادق صاف، لقلت هو باد غير خاف، من بين كل ناعت وصاف، وسأخبرك أيدك الله بما اتفق، وكيف طار ونعق، وتوسد الكرامة وارتفق، فامتدت نحوه النواظر، واستشرفه الغائب والحاضر، وتسابق إليه النابه والخامل، وازدحم عليه العاطل والعامل؛ هذا يلتمس مزيدا، وذاك يبتغي شيئا جديدا ... إلخ.
ثم قال من جملة هذه الرسالة: ألم يأن أن تدينوا لي بالإكبار، وتعلموا أني من الجهابذة الكبار؟ فقلنا: منك الإسجاح فقد ملكت، ومنك ولك النجاح أية سلكت؛ فأطرق زهوا، وأعرض عنا لهوا، وقال: اعلموا أن القرعة لو طوت أسرارها وغيبتني أخبارها لمزقت صدارها وذروت غبارها، ولكان في أوسع منتدح وأنجد زناد يقتدح؛ أين أنتم عن صدى الأملاك وعليات الأفلاك؟! أنا في موج الموج وأوج الأوج، والمنفرد بعلم الفرد والزوج، مسترط السرطان، ومستدبر الدبران، وبائع المشتري بالميزان ... إلخ.
ثم نقل لسان الدين عن كيفية وفاة المترجم قال: من خط الحافظ المحدث أبي القاسم بن بشكوال: كان ممن أصيب في أيام الهرج بقرطبة؛ فعظم المصاب به، الفقيه الشيخ الأجل، ذو الوزارتين، السيد الكامل، الشهير الأثير، الأديب الكاتب البليغ، معجزة زمانه وسابق أقرانه، ذو المحاسن الجمة الجليلة الباهرة، والأدوات الرفيعة الزكية الطاهرة، المجمع على تناهي نباهته، وحمد خصاله وفصاحته؛ أبي عبد الله بن أبي الخصال - رحمه الله تعالى ونضر وجهه - ألفي مقتولا قرب باب داره بالمدينة وقد سلب ما كان عليه بعد نهب داره واستئصال حاله، وذلك يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي الحجة من سنة أربعين وخمسمائة، فاحتمل إلى الربض الشرقي بحومة الدرب ؛ فغسل هنالك وكفن، ودفن بمقبرة ابن عباس عصر يوم الأحد بعده، ونعي إلى الناس وهم مشغولون بما كانوا بسبيله من الفتنة، فكثر عند ذلك التفجع لفقده؛ لأنه كان آخر رجال الأندلس علما وحلما، وفهما ومعرفة، وذكاء وحكمة، ويقظة وجلالا، ونباهة وتفننا في العلوم، كان صاحب لغة وتاريخ ومعرفة برجال الحديث، عارفا بوقائع العرب وأيام الناس وبالنثر والنظم، جزل القول، عذب اللفظ، حلو الكلام، فصيح اللسان، بارع الخط، كان في جميع ذلك واحد عصره مع جمال منظر وحسن خلقة وكرم فعال ومشاركة إخوان، جميل التواضع، حسن المعاشرة لأهل العلم، نهاضا بتكاليفهم، حافظا لولائهم، جم الإفادة، له تصانيف رفيعة القدر نبيهة. ا.ه. ملخصا.
وقال غيره: قتل بدرب الفرعوني بقرب رحبة أبان داخل قرطبة قرب باب عبد الجبار يوم دخلها النصارى مع أميرهم ملك طليطلة يوم قيام ابن حمدين، وقتاله مع يحيى بن غانية من المرابطين، يوم الأحد لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة عام أربعين وخمسمائة، قتله بربر المصامدة لحسن ملبسه ولم يعرفوه، وقتلوا معه محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن مسعود، وكان أزوجه ابنته، فقتلا معا.
وأبو مروان عبد الملك بن أبي الخصال مسعود بن فرج بن خلصة الغافقي الكاتب، من أهل شقورة، ومن قرية بها يقال لها فرغليط، وسكن قرطبة، روى عن أبي الحسن الأسدي وغيره من شيوخ قرطبة، وسمع منه أبو عبد الله بن العريض، وكان أديبا حافلا كاتبا بليغا مدركا فصيحا، واستعمله ولاة لمتونة وأمراؤها في الكتابة بمراكش وبفاس وغيرهما، وله رسائل بديعة، وتوفي لست بقين لشهر ربيع الأول سنة 539، قال ابن الأبار في التكملة: قرأت وفاته بخط ناقلها من خط أبي عبد الله بن أبي الخصال، وذكرها ابن حبيش ولم يذكر الشهر. وفي آخر هذه السنة انقرضت دولة اللمتونيين من الأندلس. ا.ه، يريد باللمتونيين المرابطين .
هوامش
شنجالة
ولنذكر الآن المهم من بلاد شقورة فنقول: إن المسافر إذا جاء بالخط الحديدي من مجريط قاصدا إلى قرطاجنة، فلا بد له من أن يمر بشنجالة
Chinehilla ، وهي مدينة معروفة بالأندلس، وتكتب بأشكال مختلفة؛ منها شنجالة، ومنها شنشالة، ومنها شنتجالة، ومنها شنت جاله، ومنها شنشيلة، وهذا لفظ الإسبانيول لها اليوم، وذكرها ياقوت في المعجم قال: شنتجالة بالأندلس.
وبخط الأشتري: شنتجيل بالياء، ينسب إليها سعيد بن سعيد الشنتجالي أبو عثمان، حدث عن أبي المطرف بن مدرج، وابن مفرج وغيرهما، وحدث عنه أبو عبد الله محمد بن سعيد بن بنان. قال ابن بشكوال: وعبد الله بن سعيد بن لباج الأموي الشنتجالي المجاور بمكة، وكان من أهل الدين والورع والزهد، وأبو محمد رجل مشهور، لقي كثيرا من المشايخ وأخذ عنهم، وروي أنه صحب أبا ذر عبد الله بن أحمد الهروي الحافظ، ولقي أبا سعيد السجزي وسمع منه صحيح مسلم، ولقي أبا سعد الواعظ صاحب كتاب «شرف المصطفى» فسمعه منه، وأبا الحسين يحيى بن نجاح صاحب كتاب «سبل الخيرات» وسمعه منه، وأقام بالحرم أربعين عاما لم يقض فيه حاجة الإنسان تعظيما له، بل كان يخرج عنه إذا أراد ذلك. ورجع إلى الأندلس في سنة 430، وكانت رحلته سنة 391، وأقام بقرطبة إلى أن مات في رجب سنة 436. ا.ه.
وينسب من أهل العلم إلى شنجالة الآتي ذكرهم:
أبو الوليد يونس بن أبي سهولة بن فرج بن بنج اللخمي، من شنجالة، سكن دانية، وتوفي بها سنة 514، ترجمه ابن الأبار في التكملة، وكان يكنى أبا الوليد، وكان قد أخذ عن أشياخ طليطلة؛ لأن شنجالة واقعة في خط تلك المدينة، وحدث عن المذكور أبو عبد الله بن برنجال، وأبو عبد الله بن سعيد الداني وغيرهما، وكانت إقامته بدانية أربعين سنة.
وأبو الحسن مفرج بن فيره، من أهل شنتجالة، أخذ عن أبي الوليد الوقشي، وأبي عبد الله بن خلصة الكفيف وغيرهما، وكانت له معرفة بالعربية والأخبار والأشعار، وعلم بها أحيانا، وتوفي حول الثمانين والأربعمائة، ترجمه ابن الأبار.
وأبو عثمان سعيد بن سعيد الشنجالي قد ذكره ياقوت الحموي، وجاءت ترجمته في الصلة لابن بشكوال، وقال إنه حدث عنه أبو عبد الله محمد بن سعيد بن نبات، وإنه - أي المترجم - أخذ عن أبي المطرف عبد الرحمن بن مدراج.
وأبو عثمان سعيد بن عيسى بن أبي عثمان كان يعرف بالشنجيالي، ترجمه ابن بشكوال أيضا، وهو يذكره بجيمين؛ أي بقوله «الجنجيالي»، سكن طليطلة، روى أيضا عن عبد الرحمن بن مدراج، وكان حافظا للمسائل عارفا بالوثائق.
وخديجة بنت أبي محمد عبد الله بن سعيد الشنتجيالي، سمعت مع أبيها من أبي ذر الهروي صحيح البخاري، وسمعت مع أبيها من شيوخ آخرين بمكة حرسها الله. قال ابن بشكوال في الصلة: ورأيت سماعها في أصول أبيها بخطه، وقدمت معه بالأندلس وماتت بها رحمها الله.
وأبو عبد الله بن الشنتجالي يروي عن أبي المطرف بن مدراج، حدث عنه محمد بن بكير - قاضي قلعة رباح - وزكريا بن غالب التملاكي. من خط ابن الدباغ، قاله ابن الأبار.
هذا ومن شنجالة
1
يخرج القطار الحديدي فيمر بالقمة الفاصلة بين نهر بلنسية
Turia
ونهر شقورة، وعلى نحو من أربعين كيلومترا يجد بلدة يقال لها «طوبارة
Tobarra » علوها عن البحر 631 مترا، وفيها ثمانية آلاف نسمة وموقعها بديع، وبالقرب منها جبل يقال له «شارة الكرز» ارتفاعه 1800 متر، وجبال أخرى أقل منه ارتفاعا، وعلى خمسين كيلومترا بالخط الحديدي مدينة «هلين
Hellin » فيها عشرة آلاف نسمة إلى الجنوب منها على مسافة عشرين كيلومترا معدن الصفر. ثم ينزل الخط الحديدي في واد عميق يقال له «المندو
Mundo »، وهناك جسر على المكان الذي يقال له رملة شلتبار
Rambla de Saltavar ، ثم يدخل القطار في نفق تحت الأرض، ثم يصل إلى مصب نهر مندو في نهر شقورة، وهناك أيضا معادن الصفر، ثم إن القطار الحديدي يتبع نهر شقورة في تعاريجه حول شارة قابشة
Cabeza ، وعلى 87 كيلومترا محطة يقال لها «قلعة بارة
Cala Parra »، وعلى مسافة 112 كيلومترا بلدة يقال لها «سيزا
Cieza » علوها عن البحر مائة وثمانون مترا، وأهلها 13 ألفا في موقع بديع تحيط بها آكام مشرفة على الضفة اليسرى من نهر شقورة ، وحولها جنان غناء، وهناك قرية يقال لها «بلانكا
Blanca » على الضفة اليسرى من شقورة، وفيها قصر عربي دارس، وهناك بساتين برتقال.
وعلى 135 كيلومترا بلدة «أرشنة
Archena »، وهي على الضفة اليمنى ، وبالقرب منها حمامات معدنية يقال لها «حمامات أرشنة»، وعلى 141 كيلومترا من شنجالة مدينة «لوركي»، وكان العرب يقولون لها لورقة، وإلى شماليها بحيرة من النترون، ثم هناك بلدة يقال لها «مولينا
Molina »، وهي ذات ملاحات، ثم يمر الخط الحديدي برملة يقال لها «سالادا
Salada »، وإلى الشمال مكان يقال له «جبلي نوفو
Jibali Nuevo »، وعلى مسافة 155 كيلومترا من شنجالة بلدة «القنطرية
Alcantarilla »، سكانها خمسة آلاف نسمة هي في أول بساتين مرسية، ولا تبعد المدينة عنها أكثر من بضعة عشر مترا.
وقد ورد في مذكراتي المحفوظة عندي ذكر مسيري إلى مرسية، وقد جئت هذه المرة من غربي الأندلس إلى الشرق، آتيا من ناحية إشبيلية، مارا على أندوجر، ثم على مياسة، وفي نصف الليل نزلت في محطة يقال لها «القصر
Alcasar »، وركبت قطارا ذاهبا إلى مرسية؛ فسرى بنا القطار إلى شنجالة حيث كنا الساعة السادسة من صبيحة 21 أغسطس، وفي الساعة السابعة وصلنا إلى محطة «طويارا»، وفي الساعة السابعة وربع الساعة إلى محطة «أغرامون»، ثم إلى محطة «ميناس»، وكنا نساير نهرا يقال له «الموندو» جاريا في تعاريج بين الجبال، ثم وصلنا إلى محطة اسمها «كالاسبارا»، وهذه هي أظنها محرفة عن «قلعة بارة»، وهناك زراعة الأرز.
ثم في الساعة الثامنة وربع الساعة وصلنا إلى محطة بلد يقال له «سيزا»، ثم إلى بلد اسمها «بلانكا» على ضفة شقورة، وفيها حصن عربي قديم، وفي الساعة التاسعة وصلنا إلى «أرشانة»، وفيها حمامات معدنية، ثم إلى «لورقة»، ثم إلى «كوتيلاس»، وهذه البلدان الأخيرة ذات بساتين وكروم كثيرة، وعليها جداول من نهر شقورة، وقد شاهدت في كوتيلاس من شجر التوت والتين والمشمش ما لم أعهد له مثيلا في الكبر؛ مما يدل على التناهي في جودة الأرض، فأما الجبال المحيطة بهذه الرياض فهي جرد خالصة. وفي الساعة التاسعة والنصف وصلنا إلى «قنطرية»، وفيها معامل كثيرة لحفظ الثمار، ثم وصلت إلى مرسية في 21 أغسطس سنة 1930 نهار الخميس، ووجدت البلدة حارة، وهذا بالرغم من النهر والبساتين والأشجار والأدواح. انتهى.
ثم نعود إلى ذكر البلاد المعروفة من زمن العرب في ناحية شنجالة، فنقول: إنه غير بعيد إلا نحوا من عشرين كيلومترا عن شنجالة توجد بلدة «البسيط»، جاء ذكرها في الانسيكلوبيدية الإسلامية، وقيل فيها: إنها ناحية الشمال الغربي من مملكة مرسية، واقعة في الجنوب الشرقي من قشتالة الجديدة وفي وسط إسبانية، وارتفاعها عن البحر سبعمائة متر، ولم يعرف اسم «البسيط» إلا من كلام الضبي القرطبي، وكلام ابن الأبار البلنسي بمناسبة المعركة الكبرى التي وقعت في 20 شعبان سنة 540 للهجرة وفق 11 فبراير سنة 1146، ولم يذكر مؤرخو الإسبانيول ولا غيرهم من الإفرنج شيئا تقريبا عن هذه القوعة التي وقعت بين الأذفونش السابع - ملك قشتالة - وسيف الدولة المستنصر أحمد بن هود، الذي انهزم يومئذ هو وحليفه عبد الله بن محمد بن سعد؛ ولهذا يقول العرب لابن سعد هذا «صاحب البسيط»؛ أي الذي استشهد فيها، ويقولون أيضا للوقعة المذكورة «وقعة اللج»؛ فإن ابن الأبار يقول عنها إنها وقعت بالموضع المعروف باللج وبالبسيط على مقربة من جنجالة، فهل اللج هذه هي نهر «لزوزة
Leziza » إلى الغرب أو «الأتوز
Alatoz » إلى الشرق من البسيط؟ لا يمكن الجزم، وقد ذكر فحص اللج ابن الكردبوس في تاريخه.
ومن المدن التابعة لإقليم تدمير التي كانت معروفة في زمان العرب مدينة لورقة؛ وهي بلدة سكانها اليوم ثلاثون ألف نسمة واقعة إلى الشمال الغربي من شارة «كانيو»، يخترقها واد يسمى بوادي «الأنطين»، وهي قسمان: المدينة العتيقة، وشوارعها ضيقة، ولها حصن عربي لا يزال أكثره محفوظا. والمدينة الجديدة؛ وفيها كنيسة سنتامريا مبنية في المكان الذي خيم فيه ألفونس الملقب بالحكيم، عندما استولى على لورقة سنة 1234.
وأطراف لورقة كثيرة الثمار والفواكه، وسقيا أرض لورقة من خزان ماء كبير في جنوبي البلدة يأتي ماؤه من الجبل، وقد تم بناؤه سنة 1789، ومن لورقة يمتد الخط الحديدي إلى بسطة. وهي مدينة كانت في زمان بني الأحمر الدولة الأخيرة الإسلامية في الأندلس هي الحد بين ممالك النصارى ومملكة غرناطة؛ فلذلك أبقينا الكلام على بسطة ووادي آش والمرية وغيرها من ذلك الخط إلى أن نكون دخلنا في مبحث مملكة بني الأحمر المذكورة.
هوامش
لورقة
وجاء في معجم البلدان لياقوت عن مدينة لورقة
Lorca
1
ما يلي:
لورقة، بالضم ثم السكون والراء مفتوحة والقاف، ويقال لرقة، بسكون الراء بغير واو، وقد ذكر في موضعه، وهي مدينة بالأندلس من أعمال تدمير، وبها حصن ومعقل محكم، وأرضها جزر لا يرويها إلا ما ركض عليها من الماء كأرض مصر، فيها عنب يكون العنقود منه خمسين رطلا بالعراقي، حدثني بذلك شيخ من أهلها والله أعلم، وبها فواكه كثيرة. ا.ه.
وجاء في نفح الطيب نقلا عن «مباهج الفكر» أن بلورقة حجر اللازورد.
وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية عن لورقة ما ترجمته:
بالعربي لورقة
Luraka
مدينة بإسبانية إلى الشرق بين غرناطة ومرسية، سكانها اليوم ستة وعشرون ألفا وسبعمائة، وكان يقال لها في القديم: «اللورو
Iluro »، أو «هليوكروكا
Heliocroca »، هكذا عند الرومان، وأما دليل بديكر فيقول: إن الرومان كانوا يقولون للورقة: إلوكرو
Ilucro ، وقد كانت في عصر الإسلام بالأندلس تابعة لكورة تدمير، مشهورة بجودة أرضها وجودة ما تحت أرضها من المعادن وبحصانة موقعها؛ فإن حصنها كان من أمنع مواقع الأندلس، والبلدة على ارتفاع 350 مترا عن سطح البحر في سفح شارة كانو المشرفة على وادي الانتين، وقد كانت لورقة في مصيرها تتبع دائما مرسية، وقد كان استرجاع المسيحيين لها سنة 1266. انتهى، بقلم ليفي بروفنسال. ا.ه.
وقد ذكر ياقوت الحموي هذه المدينة في معجمه مرة ثانية دون واو، بل بالضم ثم السكون والقاف، وقال: إنها حصن في شرقي الأندلس غربي مرسية وشرقي المرية، وبينهما ثلاثة أيام، ينسب إليها خلف بن هاشم اللرقي أبو القاسم، روى عن محمد بن أحمد العتبي.
ذكر من انتسب إلى العلم من أهل لورقة
منهم أبو الحسن علي بن هشام الجذامي خطيب لورقة، أخذ القراءات عن ابن هذيل، وكان صالحا أديبا شاعرا، روى عنه ابن حوط، وأبو الحسن بن حفص، بقي إلى سنة 578.
وأحمد بن عبد الملك بن عميرة الضبي، قال ابن عميرة صاحب بغية الملتمس: هو ابن عم أبي، يكنى أبا جعفر، كان - رحمه الله - عالما عاملا زاهدا فاضلا، متقللا من الدنيا، كثير الصيام، وكان - رحمه الله - إماما في طريقة التصوف، وكنت لا تكاد تراه في الليل إلا قائما، توفي سنة 577، وقد أناف على التسعين. ولما اجتمع معه شيخي القاضي أبو القاسم بن حبيش بلوقة رأيته قد بكى، فسألته: مم بكاؤك؟ فقال: ذكرتني رؤية ابن عم أبيك هذا من تقدم، هكذا كان زيهم وسمتهم.
ولقد بت عنده ليالي ذوات عدد، فما كان يوقظني في أكثر الليالي إلا بكاؤه في السجود، وما كان ينام من الليل إلا قليلا، فلما وصلت من عنده مرسية حدثت بذلك بعض جيرانه قديما بلورقة فقال لي: هكذا أعرفه مذ أزيد من ثلاثين سنة. ا.ه. ما قاله ابن عمه ملخصا. وجاء في نفح الطيب أنه رحل حاجا وكان منقبضا زاهدا صواما قواما، وممن حدث عنه أبو سليمان وأبو محمد ابنا حوط الله، ولقيه أبو سليمان بلورقة سنة 575.
وأبو جعفر أحمد بن سعيد بن خالد بن بشتغير اللخمي، روى عن أبي العباس العذري، وأبي عثمان بن هشام، وأبي محمد المأموني، وأبي الحسن بن الخشاب، وأجاز له أبو عمر بن عبد البر، وأبو الوليد الباجي وغيرهما، وكان ثقة في روايته عاليا في إسناده، قال ابن بشكوال في الصلة: أخذ عنه جماعة من أصحابنا، وكتب إلينا بإجازة ما رواه، وتوفي - رحمه الله - سنة 516.
وأبو القاسم أحمد بن محمد بن بطال بن وهب التميمي، من أهل لورقة، رحل مع أبيه إلى المشرق، ولقي أبا بكر الآجري، وروى أيضا عن أبيه، وكان من أهل العلم مشاورا ببلده، توفي سنة 412، ذكره ابن بشكوال في الصلة.
وعلم الدين أبو محمد المرسي اللورقي، وهو قاسم بن أحمد بن موفق بن جعفر العلامة المقرئ الأصولي النحوي، ولد سنة 575، وقرأ بالروايات قبل الستمائة على أبي جعفر الحصار، وأبي عبد الله المرادي، وأبي عبد الله بن نوح الغافقي، وقرأ بمصر على أبي الجود غياث بن فارس، وبدمشق على التاج بن زيد الكندي، وببغداد على أبي محمد بن الأخضر، ولقي الجزولي بالمغرب، وكان متقدما في العربية وفي علم الكلام والفلسفة؛ يقرئ ذلك ويحققه، وأقرأ بدمشق، وشرح المفصل في النحو في أربعة مجلدات فأجاد، وشرح الجزولية والشاطبية، وكان مليح الشكل حسن البزة، توفي سابع رجب سنة 661 وكان معمرا. وسماه بعضهم أبا القاسم، والأول أصح. انتهى ملخصا عن نفح الطيب.
ورفاعة بن محمد، من أهل بلس عمل لورقة، روى عن محمد بن عمر بن لبابة، وأسلم بن عبد العزيز، ذكره ابن حارث، وترجمه ابن الأبار بجملة قصيرة.
وأحمد بن محمد بن أحمد بن «زاغنه»، من أهل لورقة، يروي عن الحافظ بن سكرة، ذكره ابن عميرة الضبي في البغية.
وأبو جعفر أحمد بن يحيى بن بشتغير، من أهل لورقة، سمع هو وأخوه من الحافظ السابق الذكر، ذكره أيضا صاحب البغية.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الأنصاري، يعرف بابن زاغنو، كذا بخط ابن الدباغ، سمع من أبي علي الصدفي وغيره، وولي القضاء ببلده فحمدت سيرته، وتوفي سنة 560، ذكره ابن الأبار.
وأبو مروان عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الملك التجيبي، يعرف بابن العراء، أخذ عن أبي الحسن شريح بن محمد وغيره، وتصدر للإقراء ببلده لورقة، وأخذ عنه أبو بكر بن أبي نصير قاضي المرية، وأبو عبد الله محمد بن رشيد بن عيسى بن أحمد بن محمد بن علي بن باز، أخذ عنه حماسة حبيب بشرح الجرجاني، وأجاز له عن شيوخه في غرة ربيع الأول سنة 558، ذكره ابن الأبار.
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن الحسن القيسي، كان أستاذا في القراءات، وله فيها تأليف مستحسن استعمله الناس، رواه عنه ابنه عمر بن عبد العزيز، وابن ابنه عبد العزيز بن عمر، ذكره أيضا ابن الأبار.
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن الحسن القيسي، أخذ القراءات عن أبيه أبي حفص عمر بن عبد العزيز، الذي أخذها عن أبيه عبد العزيز بن الحسن القيسي ، وتصدر للإقراء، وكان شيخا صالحا، قال ابن الأبار إنه أخبره عنه من استجازه في سنة 604.
وعبد الله بن أسود، ذكره ابن عميرة في البغية، ولم يزد في ترجمته على هذه الجملة: عبد الله بن أسود، لورقي، توفي سنة 363.
ومحمد بن أبي الأسود البلسي، فقيه محدث، ذكره ابن الوليد الفرضي، وهو ينسب إلى بلس عمل لورقة.
ومحمد بن باز أبو عبد الله، من أهل بلس، أديب شاعر فقيه، كان قاضيا ببلده، وبه مات في سنة 587، ذكرناه هنا لأنه عمل لورقة. قال ابن عميرة الضبي: أنشدني - رحمه الله - من قوله في لابس ثوبا أخضر:
وكم قائل لم يدر وجدي ولوعتي
أرى لك في خضر الملابس مذهبا
فقلت له بل فاض دمعي صبابة
فعادت ثيابي من بكائي طحلبا
ثم قال ابن عميرة: وصل الحضرة الإمامية في سنة 567، ومدحها بقصائد مطولة، أنشدني منها قصيدة منها:
نهضوا ليوم الفتح في صيابة
بلغوا من الأبطال ألف ملثم
لم يجتمع لقبيلة أمثالهم
فهم الرجاء لمنجد ولمتهم
ومحمد بن بطال بن وهب اللورقي، توفي سنة 366، ذكره ابن عميرة، ولم يزد على مجرد ذكر اسمه، ولكن يجب أن يلاحظ أن ابن عميرة يتوخى الاختصار في أكثر الأحيان بخلاف ابن الأبار.
ويوجد للورقة ميناء على البحر يقال له «آقلة
Aguilas »، والمسافة بينهما 31 كيلومترا، وهناك معدن حديد، ثم بلدة اسمها «نوريا
Las Norias »؛ أي النواعير، وهي على مسافة مائة كيلومتر تقريبا من مرسية إلى الغرب، ثم يمر الخط الحديدي ببلدة يقول لها الإسبان «أوفيرة
Overa »، وكان العرب يقولون لها بيرة، وهي اليوم مدينة صغيرة أهلها خمسة آلاف، وقد ذكر الشريف الإدريسي حصن آقلة، ويقال إنه حصن صغير على البحر وهو فرضة لورقة، وبينهما في البر 25 ميلا، وقال: إن من حصن آقلة إلى وادي بيرة في قعر الجون 42 ميلا، وعلى مصب النهر جبل كبير، وعليه حصن بيرة المطل على البحر. وقد كانت هذه البلدة هي الحد الفاصل بين ممالك المسيحيين ومملكة ابن الأحمر آخر ممالك المسلمين بالأندلس.
وأما الجبل العالي الذي يشير إليه الإدريسي فهو شارة فيلبرة
Filabra ، وهناك واد يقال له: وادي المنصورة، عنده معدن رصاص قلعي، وعلى مسافة 150 كيلومترا من مرسية مدينة برشانة، وهذه هي وألبيرة كانتا داخلتين في مملكة بني الأحمر، لكنهما محل اصطدام الجيوش؛ لذلك قال لسان الدين بن الخطيب: مثلومة الأعراض والأسوار، مهطعة لداعي البوار، خاملة الدور، قليلة الوجوه والصدور، كثيرة المشاجرة والشرور، وذهل أهلها في الصلاة شائع في الجمهور.
وقال عن برشانة: حصن مانع وجناب يانع، أهلها أولو عداوة لأخلاق البداوة (إلى أن يقول): إلا أن جفنها
2
ليس بذي سور يقيه مما يتقيه، وعدوها يتكلم بملء فيه. وقال عن بليش التي هي من عمل لورقة: «ثغر قصي على الأمن عصي، ويتيم ليس عليه غير العدو وصي، ماؤه معين وحوره عين، وخلوته على النسك وسواه تعين، ولأهله بالصيادة اهتمام، وعسله إذا اصطفت العسول إمام، إلا أنها بلدة منقطعة بائنة، وبأحواز العدو كائنة، ولحدود لورقة - فتحها الله - مشاهدة معاينة، وبرها الزهيد القليل يتحف به العليل، وسبيل الأمن إليها غير سبيل، ومرعاها لسوء الجوار وبيل.» انتهى.
وسنذكر تلك الأطراف عند وصولنا إلى الكلام على مملكة بني الأحمر التي كانت قاعدتها غرناطة. وأما الآن فلا يبقى علينا في هذا الجزء، الذي هو الجزء الثالث من الحلل السندسية، سوى الكلام على قرطاجنة ومرسية، وسنقدم قرطاجنة ونؤخر مرسية؛ نظرا لما تقتضيه هذه الحاضرة من الاستقصاء، فنقول ...
هوامش
قرطاجنة
قال عنها ياقوت بعد أن ذكر قرطاجنة
Cartagena
الكبرى التي بإفريقية: مدينة أخرى بالأندلس تعرف بقرطاجنة الحلفاء، قريبة من ألش من أعمال تدمير، خربت أيضا لأن ماء البحر استولى على أكثرها فبقي منها طائفة، وبها إلى الآن قوم، وكانت عملت على مثال قرطاجنة التي بإفريقية. ا.ه.
وقال الشريف الإدريسي: ومدينة قرطاجنة هي فرضة مدينة مرسية، وهي مدينة قديمة أزلية، لها مرسى ترسى بها المراكب الكبار والصغار، وهي كثيرة الخصب والرخاء المتتابع، ولها إقليم قليل ما يوجد مثاله في طيب الأرض وجودة نمو الزرع فيه. ويحكى أن الزرع فيه يثمر بسقي مرة واحدة.
وجاء في نفح الطيب عن خصب الأرض في قرطاجنة أن الزرع في بعض أقطارها يكتفي بمطرة واحدة، ونقل عن صاحب «مباهج الفكر» في حق قرطاجنة: وهي على البحر الرومي، مدينة قديمة، بقي منها آثار، ولها فحص طوله ستة أيام وعرضه يومان معمور بالقرى.
وجاء في دليل بديكر أن قرطاجنة هذه بلدة سكانها نحو من خمسين ألفا، ولها أحسن مرفأ في سواحل إسبانية، وهي أعظم موقع حربي إسباني على شواطئ البحر الرومي، وفيها حصنان مبنيان على صخور بركانية شامخة، وهما مالكان للمرسى، وكان معدل عدد البواخر التي ترسو في ميناء قرطاجنة 1380 في السنة، محمولها ما يقرب من مليوني طن. ويرفأ إليها أيضا نحو من 350 سفينة شراعية في دور السنة، وهذا كان في السنين التي سبقت الحرب العامة بقليل.
ويقال إن باني هذه البلدة هو أسدروبال
1
خلف هاملكار القرطاجني الإفريقي الذي في سنة 221 قبل المسيح، بنى هنا قلعة جديدة وأطلق عليها اسم قرطاجنة وطنه، وقد افتتحها الرومان سنة 309 قبل المسيح، وأقام فيها «بوليب» وهو وسيبيون سنة 151، ووصفها بوليب وذكر ما هي عليه من المنعة، وكان فيها هيكل يقال له «أسكولاب أشمون» في مكان الحسن المسمى اليوم بحصن «الحبل بلادنس»، وحصن آخر يقال له حصن «بارسيد» مبني على الأكمة الشمالية بالقرب من باب «سرته».
وكانت قرطاجنة في أوائل أيام الرومانيين تعد أعظم مدينة وأغنى مدينة في إسبانية، ثم تدنت أحوالها بعض الشيء في زمان «طاراكوا» الروماني، ولكنها بقيت مدينة تجارية عظيمة، وفي سنة 589 بعد المسيح في زمن الإمبراطور موريس أجريت فيها تحصينات لوقايتها ممن كان يغير عليها من الإفريقيين، ولما استولى العرب على إسبانية كانت ذات شأن، وكان فيها مركز إمارة مستقل، وكان استرجاع الإسبانيول إياها سنة 1243 المسيحية، إلا أن العرب طردوا الإسبان منها واستردوها، ثم عاد الإسبان فاستولوا عليها نهائيا في زمن جاك الأول ملك أراغون. ومن قرطاجنة هذه خرج الغزاة الإسبانيون الذين استولوا على وهران في بلاد الجزائر، وذلك سنة 1509.
وفي قرطاجنة رصيف على الميناء ينتهي من جهة الشمال بحائط يقال له سور البحر، وأعظم شارع في البلدة يمتد من ساحة «سانتا كتالينا» إلى الشمال الغربي منها، وفي هذا الشارع حركة التجارة، وللبلدة باب شرقي تمتد منه طريق تمر على حصن يقال له حصن العرب
Castillo de los Moros ، وإلى الشمال الغربي باب يقال له باب مجريط القديم، وهناك ساحة يقال لها إسبانية، وغيضة نخيل، وفي قرطاجنة دار صنعة أنشئت سنة 1876، تبنى فيها المراكب البحرية. وأمام مرسى قرطاجنة إلى الجنوب الشرقي جزيرة صغيرة يقال لها «إسكيمومبريرا
Iscombrera »، وعلى تسعة كيلومترات من قرطاجنة مدينة «الأونيون
Union »، يزيد أهلها على عشرين ألفا، فيها معادن رصاص قلعي معروفة من زمن القرطاجنيين الإفريقيين والرومانيين.
ولم نعثر على أسماء رجال من أهل العلم منسوبين إلى قرطاجنة، ولا شك في أنها كانت كغيرها من مدن الأندلس في الاعتناء بالعلم والأدب؛ لأن الحركة العقلية في الأندلس كانت عامة؛ فإن لم نكن عثرنا على أسماء علماء منسوبين إلى بعض البلاد فيكون ذلك لفقد الوثائق لا غير. وقد وجدنا مترجما في تكملة الصلة لابن الأبار محمد بن حسن بن محمد بن خلف بن حازم الأنصاري، من أهل قرطاجنة عمل مرسية، أصله من سرقسطة، ولي القضاء في قرطاجنة زيادة على أربعين سنة، وكان له حظ من الفقه والأدب، وتوفي سنة 632.
هوامش
مرسية
قال ياقوت الحموي: مرسية
Murcia ،
1
بضم أوله والسكون وكسر السين المهملة وياء مفتوحة خفيفة وهاء، مدينة بالأندلس من أعمال تدمير، اختطها عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وسماها تدمير بتدمر الشام، فاستمر الناس على اسم موضعها الأول، وهي ذات أشجار وحدائق محدقة بها، وبها كان منزل ابن مردنيش، وانعمرت في زمانه حتى صارت قاعدة الأندلس، وإليها ينسب أبو غالب اللغوي المرسي، يعرف بابن البناء، صنف كتابا كبيرا في اللغة. ا.ه.
وجاء في صبح الأعشى أن الأندلس عدة قواعد: الأولى غرناطة، والثانية أشبونة، والثالثة بطليوس، والرابعة إشبيلية، والخامسة قرطبة، والسادسة طليطلة، والسابعة جيان، والثامنة مرسية، والتاسعة بلنسية، والعاشرة سرقسطة، والحادية عشرة طرطوشة، والثانية عشرة برشنونة (أي برشلونة).
فمرسية هي القاعدة الثامنة ، ونقل صبح الأعشى عن تقويم البلدان أن موقعها في أوائل الإقليم الخامس من الأقاليم السبعة. قال ابن سعيد: حيث الطول ثماني عشرة درجة والعرض تسع وثلاثون درجة وعشر دقائق. قال في تقويم البلدان: وهي مدينة إسلامية محدثة، بنيت في أيام الأمويين الأندلسيين. قال: وهي من قواعد شرق الأندلس، وهي تشبه إشبيلية في غرب الأندلس بكثرة المنازه والبساتين، وهي في الذراع الشرقي الخارج من عين نهر إشبيلية، ولها عدة متنزهات منها «الرشاقة» و«الزنقات» وجبل «إيل»، وهو جبل تحته البساتين، وبسيط تسرح فيه العيون، ولها مضافات منها مدينة «موله»، وهي في غربي مرسية، ومنها أوريولة وغير ذلك. ا.ه.
وجاء في نفح الطيب: ومن كور الأندلس الشرقية تدمير، وتسمى مصر أيضا؛ لكثرة شبهها بها؛ لأن لها أرضا يسيح عليها نهر في وقت مخصوص من السنة ثم ينضب عنها، فتزرع كما تزرع أرض مصر، وصارت القصبة بعد تدمير مرسية، وتسمى البستان لكثرة جناتها المحيطة بها، ولها نهر يصب في قبليها. (ثم يقول): وأما شرق الأندلس ففيه من القواعد مرسية وبلنسية ودانية والسهلة والثغر الأعلى، فمن أعمال مرسية أوريولة والقنت ولورقة وغير ذلك. ا.ه.
قلت: أما النهر الذي في ناحية تدمير يشبه نيل مصر في فيضه بيوم مخصوص من السنة، فهو الذي بناحية «بيره» فإن لسان الدين بن الخطيب يقول عنها: «وواديها نيلي الفيوض والمدود، مصري التخوم والحدود، إن بلغ إلى الحد المحدود فليس رزقه بالمحصور ولا بالمعدود.» قلنا: وأما مرسية نفسها فلا غوطة غرناطة ولا غوطة بلنسية أسبح من غوطتها في بحر الخضارة والنضارة.
وعلوها عن سطح البحر 43 مترا، ونفس البلدة لا يزيد أهلها اليوم على 32 ألفا، ولكن مجموع سكان البلدة وسكان القرى الداخلة تحت إدارة بلدية مرسية 125 ألفا، ويمر في وسط مرسية نهر شقورة الذي كان يسمى عند القدماء نهر «تادر
Tader »، وهو من أجمل الأنهر، لا يبعد كثيرا عن محطة السكة الحديدية، وعليه طواحين باقية من أيام العرب، إحدى هذه المطاحن يدور فيها ثلاثون رحى، ومرسية شبيهة أيضا بدمشق من جهة استبحار خضارتها ونصوع نضارتها، وكون الجبال التي تعلوها مجردة من كل نبات كأنها صخرة صماء محاطة بجنة غناء، وأما هواؤها فكثير التقلب، وقد تبلغ درجة الحرارة فيها بعض أيام الصيف 44 بميزان سنتيغراد، وقد بت فيها ليلة واحدة دون غطاء أصلا والنوافذ مفتوحة، وكان الحر في الليل شديدا كما في النهار وربما أشد.
وكان نزولي في فندق على ضفة النهر اليسرى، وأمام هذا الفندق ساحة فسيحة، وأمامها جسر معقود على النهر، فبالرغم من شدة الحر انشرح صدري بمشاهدة هذا النهر الفياض الذي لتدفق مياهه في وسط تلك الحرارة لذة عظيمة. ولما أقبل العصر وضع أصحاب الفندق كراسي كثيرة في تلك الساحة مما يلي الفندق، فكان الجلوس هناك شهيا، وكانت سورة الحر قد انكسرت عما كانت في الظهيرة كما لا يخفى، ووجدت في مرسية أنسا لم أشعر بمثله في غيرها، لعل السبب في ذلك اعتقادي أنها كانت مدينة عربية صرفة. وأما في الشتاء فقد يشتد البرد في مرسية إلى حد أن بعض نباتها يموت من شدة الصقيع، فإنه يهب عليها في ليالي مارس رياح شمالية قارسة البرد.
وفي مرسية
2
بلدة جديدة على الضفة اليمنى من شقورة وشوارع رحبة وحديقة يقال لها: «جنة فلوريدا بلنقه
Floridablanca »، وفي البلدة القديمة ساحة يقال لها «ساحة الدستور
Constitucion » تنعقد فيها سوق يومي الأربعاء والسبت من كل أسبوع، فيتداعى إلى السوق الفلاحون من القرى. وأما الكنيسة الجامعة سانتا ماريا فقد كان بناؤها سنة 1358، بناها المطران ابن يارندة في مكان جامع، وأهم ما فيها برج علوه 95 مترا بناه الكردينال «ماثيو دولنقة
de’ Langa »، واشترك في عمله عدة من المهندسين، وإذا صعد الإنسان إلى رأس هذا البرج رأى منظرا عجبا يندر نظيره في العالم، فإنه يشرف على وادي شقورة ووادي سنقونيره
Sangonera ، ويسرح النظر منه حتى لورقة، ويرى الجبال المسماة «فونسانطا
fuensanta »، والشارع الأعظم في مرسية يفضي إلى الساحة المسماة «سانتو دومينيقو» عليها صفوف الأشجار. وفي مرسية شارع يقال له: بلاتيريا
، وهو شارع ضيق فيه المخازن الكثيرة، وفي أيام الصيف يسدلون من فوقه ستائر بيضاء للوقاية من أشعة الشمس المحرقة.
وفي مرسية كنائس كثيرة منها سان نيقولا وسان جوان وسان ميكال وغيرها، وهي في ذلك لا تختلف عن سائر مدن إسبانية التي لا شيء فيها أكثر من الكنائس والأديار والمعاهد الدينية، وأظن أن كثرة هذه المعاهد قد جعلت عند الشعب ما يقال له رد فعل؛ فسئم الأهلون - لا سيما في العصر الحديث - كثرة الكنائس والأديار زيادة على احتياج الناس. ولما أعلن الحكم الجمهوري في إسبانية من سبع سنوات أحرق الشعب كثيرا من هذه الكنائس، ولما نشبت الحرب الداخلية من سنتين فتك الشعب بالرهبان والقسيسين وقتلوا منهم ألوفا مؤلفة، وهدموا من الكنائس ما لا يحصى عدده.
ثم في مرسية دار تحف فيها نفائس أثرية ومسكوكات وتصاوير، وأفخر ما رأيت من المباني في مرسية «الكازينو»؛ فإنه لا يوجد مثله في المدن التي هي أكبر بكثير من مرسية؛ وذلك لأن في مرسية عائلات عريقة في الثروة تملك أكثر هذه البساتين والجنان المدهشة التي لا نظير لها في الدنيا، فهؤلاء الأغنياء من أبناء البيوتات القديمة بنوا هذا الكازينو لأنفسهم، وجعلوا إنشاءه على الطرز العربي، ونقشوا على جدرانه وسقوفه كتابات عربية أشبه بالأزهار.
وفي مرسية شارع اسمه شارع «المنارة» وشارع آخر اسمه «السوقو»؛ أي السوق، وشارع اسمه «الزوقاقي»؛ أي الزقاق، وتوجد قرى كثيرة أسماؤها عربية، بعضها تحرف عن أصله وبعضها باق على أصله العربي، مثل «البركة» و«القرية» وغيرهما، وشاهدت في مرسية حماما قديما باقيا من زمان العرب ينزل الإنسان إليه في درج، ولم يكن هذا الحمام كما هو اليوم، بل كان مساويا لأرض الشارع الذي يشرع بابه إليه، وربما كان أعلى منه، غير أن توالي الخراب بكرور الأيام جعل طبقة من التراب ترتفع في الشوارع شيئا فشيئا، بحيث إن الأبنية التي كانت على مستوى الطرق قد أصبحت منحطة عنها. وهذا يحصل في جميع المدن القديمة التي عندما يحفر الإنسان في وسطها يجد طبقات من التراب قد تكاثفت مع الدهر فعلت مترا ومترين وثلاثة، ويجد تحتها الجدران والأبنية. وقد كانت هذه من قبل على سطح الأرض. وفي مرسية خزانة آثار عربية دخلتها فلم أجد فيها كبير أثر، بل كل ما هناك أربع أو خمس بلاطات عليها كتابات عربية، منها ما هو بالخط الكوفي، ومنها ما هو بالخط النسخي، وقد أصبح كثير منها غير مستطاع القراءة.
ورأيت في أحد شوارع مرسية صورة للعذراء مريم - عليها السلام - فلما وصلنا ومعي الدليل أمام هذه الصورة، روى لي الدليل قصة تتعلق بهذه الصورة؛ وهي أن النصارى كانوا استولوا على مرسية صلحا كما هو مذكور في التواريخ (هذا الصلح وقع بواسطة أحمد بن محمد بن هود قصد به حقن الدماء واجتناب خراب مرسية، ودخلها النصارى ظهر الخميس 10 شوال سنة 636)، وكان هذا الصلح على شروط معينة مبينة كما جرى في غرناطة بعد ذلك بثلاثمائة سنة، وكما جرى في غرناطة أيضا نقضها ملوك النصارى وقلبوا للمسلمين ظهر المجن.
والخلاصة أن مرسية بعد استيلاء النصارى عليها، صارت حارتين؛ حارة للمسلمين وحارة للمسيحيين، فوضع هؤلاء هذه الصورة في حارة المسلمين، وكان المسلمون اشترطوا للصلح حرمة شعائرهم الدينية، فاعترضوا على وضع هذه الصورة في حارتهم، وذهبوا إلى الأمير النصراني الذي في البلدة وطلبوا إليه رفع الصورة من هناك بحجة أنها مخالفة لشروط الصلح الذي وقع؛ فماطلهم الأمير في رفعها، وفي أثناء ذلك توفي وقام مقامه ابنه؛ فذهب المسلمون إليه يتقاضونه قلع هذه الصورة من حارتهم، فأجابهم بأن عملا لم يعمله والده لا يريد أن يعمله هو. فذهب المسلمون إلى أميرهم، ولعله ابن هود الذي عن يده وقع الصلح، فأجابهم أن هذه القصة لا تستحق أن نثير من أجلها شقاقا. سمعت هذه القصة في مرسية.
ولا شك في أن مرسية
3
كانت موجودة في زمن الأيبيريين، ولكنها لم تكن شيئا مذكورا إلا بعد فتح العرب للأندلس، وكانت تابعة للخلافة في قرطبة إلى أن انحلت الخلافة الأموية وصار الأمر إلى ملوك الطوائف، فمن ذلك العهد صارت تتبع تارة إمارة المرية وطورا إمارة طليطلة وربما تبعت إشبيلية. وفي سنة 1172 المسيحية استولت عليها دولة الموحدين، ثم صارت مركز إمارة مستقلة في زمن الأمير عبد الله العادل، وذلك سنة 1224، ولم يطل الأمر حتى استولى عليها النصارى بقيادة صاحب قشتالة الأذفونش فرديناند الثالث، وكان ذلك سنة 1243، ثم عاد المسلمون فأخرجوا النصارى منها، وبقيت في أيديهم ثلاثا وعشرين سنة، وعند ذلك زحف النصارى إليها بقيادة جاك الأول ملك أراغون، وانتهى الأمر بدخولهم إياها صلحا على شروط كما تقدم.
وكان بناء العرب لمرسية في زمن عبد الرحمن الثاني الأموي سنة 209 للهجرة الموافقة 824 للمسيح، ثم ازدادت عمرانا وأصبحت من حواضر الأندلس في زمن عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر، ففي أيامهما بنيت هذه السدود والحواجز التي بها جرى توزيع المياه على البساتين من جدولين كبيرين، وتتشعب الجداول كلها من هذين الجدولين، ولولا هذه الحواجز وهذه القني لم تكن مرسية هذه الجنة العجيبة التي هي ما عليه الآن. وقد ذكروا لي أنه في زمن استئثار «ريفيرا» بالأمر؛ أي منذ عشر سنوات، أرسلت الحكومة من مجريط إلى مرسية لجنة من المهندسين لأجل فحص قضية المياه وسدودها وأقنيتها لعل هذه اللجنة تلحظ شيئا من الخلل لم يلحظه العرب، فبعد أن طافت هذه اللجنة في تلك الأرض بالطول والعرض، قررت أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأنه حسب مرسية أن تحفظ نظام توزيع المياه كما كان في زمن العرب. سمعت هذا من الإسبانيين أنفسهم.
وأما لذة فواكه مرسية وكثرتها فهما مما يكل عن وصفه القلم، فهي في ذلك كدمشق، وفيها كدمشق المشمش الذي لا نظير له، وهو يحفظ في معامل حفظ الثمار، ويصدر إلى الخارج، وفيها البرتقال الجيد الكثير، ومن أهم غلاتها الحرير، فإنه يخرج منها مليون كيلو من الفيالج، وفيها ثمر كثير في بساتينها، ومما شاهدته فيها معمل لهذا النبات المسمى بالفليفلاء، وهو ذو لون أحمر ساطع يسخنونه في هذا المعمل، ويصدرون منه مقادير إلى أميركا وغيرها، وفيها نوع من العنب كالعنب الحلواني المعروف في دمشق. (1) تلخيص تاريخ مرسية لضون فيلكس
ولنبدأ الآن بتلخيص تاريخ مرسية في زمن العرب الذي ألفه «ضون فيلكس بونسواسبريان» المتقدم الذكر، المطبوع سنة 1845 في المطبعة القومية بمدينة بالمه (ميورقة)، فإنه تاريخ خاص بمرسية، وجدنا فيه من التدقيقات ما لم نجده في غيره؛ فآثرنا تلخيصه في هذا الكتاب نصحا بالعلم وزيادة في التحري، مع عزو النقل إلى صاحب الكتاب والذين روى عنهم؛ فإن مقصدنا من الأول إلى الآخر إيصال القارئ إلى الحقائق ونشدان الروايات أنى وجدناها لا لإظهار البراعة والاستطالة بسعة العلم، وقد سبق لنا أننا أخرجنا تأليفا في غزوات العرب لفرنسة وسويسرة وإيطالية وجزائر البحر المتوسط، ولما كنا أول من أفرد هذا الموضوع بالتصنيف، ولم يكن هناك كتاب عربي مستقل بذكر هذه الفتوحات، التزمنا نقل روايات الإفرنج عن هذه الحوادث، وأكثرنا من الأخذ عن تأليف المستشرق الإفرنسي رينو
Reinaud
الذي سماه «غارات العرب على بروفنسا وسويسرة وبيامون»، فوجد من قال: إن كتابنا هذا لا يقال له تأليف، وإنما هو ترجمة كتاب رينو المذكور. ولقد كان من السهل علينا أن نذكر ما ذكره رينو دون أن ننسب الروايات إليه ودون أن ننقل بالأمانة العلمية الواجبة ما أورده في كتابه، وكان على تلك الصورة يعجب هذا النمط من القراء بتحقيقاتنا، إلا أننا نحن في واد وإظهار البراعة والتزيد بالعلم في واد، وضالتنا المنشودة الوحيدة هي إحراز الحقيقة بجميع ما يمكن من الوسائل؛ ولذلك عندما اطلعنا على ذلك الانتقاد في إحدى جرائد العراق نشرنا تحت عنوان «دفع نقد» ردا هذا نصه:
الاعتراض على كتابنا غزوات العرب في أوروبة والبحر المتوسط هو غير وارد، فإننا نحن لخصنا كتاب المستشرق الإفرنسي رينو قصدا وعمدا، وكذلك كتاب المؤرخ الألماني الدكتور فرديناند كلر. وقد كان يمكننا أن نسرد التاريخ جاعلين ذلك من عندنا كما يفعل الكثيرون في ما ينقلونه أو يترجمونه، ولكننا توخينا عمدا الترجمة والإسناد إلى مؤرخين أوروبيين معروفين، مع ذكر أسماء الكتب التي نقلوا عنها وأسماء الرواة الذين حضروا تلك الوقائع أو عاصروا الدهر الذي وقعت فيه، وذلك حتى تزداد ثقة القراء في هذه الروايات، فإن هذا الموضوع لما يطرقه أحد كتاب العرب .
وهذا الكتاب الذي صنفناه هو بكر في بابه؛ فإن مؤرخي العرب لم يفردوا بالتأليف غير تواريخ الأندلس، فأما تاريخ فتح العرب لجنوبي فرنسة وشمالي إيطالية وقسم من سويسرة وجزائر البحر المتوسط، فلم يخصص به تأليف قبل تأليفنا هذا، فكنا نرى لأجل زيادة التوثيق وجوب نقل روايات الإفرنج بعينها؛ حتى لا يظن ظان أننا وضعنا من عند أنفسنا مآثر للعرب أو أننا بالغنا فيها.
وزد على ذلك أن ناشئتنا مع الأسف مولعة بتصديق روايات الإفرنج دون العرب، وإذا جاءت رواية عربية غير مقرونة بروايات أوروبية ضعفت ثقتهم بها فلأجل معرفتنا هذه الحالة الروحية عندهم تعمدنا في هذا الكتاب النقل عن الأوروبيين وعن المآخذ التي اعتمدوا عليها، وعلقنا على روايات من نقلنا عنهم حواشي يعرف قيمتها من له بصر بالتاريخ، وهذه الحواشي أخذناها من بعض كتب العرب الذين جاءت هذه الوقائع في تضاعيف سطورهم، وطبقناها على روايات مؤرخي الإفرنج، بحيث حصل اليقين بصحة تلك الروايات.
إذن ليس بصحيح أننا نحن لم يكن لنا في الكتاب سوى الترجمة، بل من قرأ الكتاب علم ما فيه من مقدمات وحواش وجمل معترضة وذيول، هي كلها من قلمنا، وليس ثمة تناقض بين ترجمتي لكلام رينو وكلر وقولي في المقدمة: «إنني خصصت بهذا الموضوع كتابا مستقلا، وجعلت هذا الكتاب أشبه بجزء من أجزاء كتابي الذي أنا مباشر تأليفه عن الأندلس ... إلخ.»
فأما كوننا نقلنا إحدى الروايات المستغربة بدون أن نعلق عليها ما ينقضها، وأنه كان الواجب أن نرد قول ابن القوطية من أن طارق بن زياد شوى لحم بعض أعدائه وأطعمه جنوده ليلقي الرعب في قلوب الأعداء، فالجواب عنه: ليس كل ما ينقله الإنسان يجب أن يرد عليه، لا سيما إذا كان الرد معتمدا فيه على مجرد العقل، بينما التاريخ هو عبارة عن نقل، ولا يرد المؤرخون منه بدليل العقل سوى ما يبدو لهم مستحيلا أو بالغا من الغرابة ما يقرب من المستحيل، وليست هذه المسألة من هذا الباب، والسلام. انتهى.
أما كتاب «ضون بونسوا سبيريان»، فله مقدمة يقول المؤلف فيها: إن إحراق كتب العرب أنى وجدت في إسبانية بأمر الكردينال شيميناس قد كان السبب في الجهالة التي أحاطت بتاريخ العرب والإسلام عند الإسبانيين، وقد تتبع ديوان التفتيش المشهور كتب المسلمين بالإحراق والإتلاف بإغراء أساقفة النصارى إلى الحد الذي أضر ضررا فاحشا بالصناعة والزراعة والمعارف والفنون مما كان خلفه لنا العرب الحكماء العاملون على درجة عالية، فجرى في إسبانية بعد سقوط الدولة العربية ما جرى فيها بعد سقوط الدولة الرومانية من التدني والانحطاط مع الفرق بأنه جاء بعد الرومان قبائل القوط العاتية، الذين لا ينتظر من مثلهم إحياء المدنية، وأنه جاء بعد العرب النصارى الكاثوليكيون الذين يزعمون أنهم محبون للعلم وناشرون للأنوار.
ثم قال: إن بعض المؤرخين حاولوا الاستقاء من منابع العرب، فكان يحول بينهم وبين علوم العرب الحجر الواقع من قبل أخبار الكنيسة. والمؤرخ الوحيد المعاصر للعرب، وهو «أزيدور الباجي
Isidore de Beja »، لم يكتب من التاريخ ما يتجاوز سنة 754 (للمسيح)، وجاء بعده المسمى «بالسلمانتيسنس
Salmanticenese » الذي أراد أن يكمل تاريخ الباجي فلم يتجاوز سنة 886، ثم جاء الراهب فاجيلا
Vegila
فوصل إلى سنة 975، ثم جاء سامبيرو
Sampiro
الأستوري فوصل إلى سنة 982، ثم جاء المؤرخ «أوفيدوبيلاج»
Oviedo Pelage
فوصل بالتاريخ إلى سنة 1109. ولم تكن كتابات هؤلاء المصنفين الأربعة إلا مجرد تقييد وقائع.
ثم جاءت تقييدات قلعة أيوب فوصلت إلى سنة 1119، وبعدها قيود شنت ياقب فبلغت سنة 1248، ثم قيود طليطلة فبلغت سنة 1290، وكلها كانت على النمط الذي تكلمنا عليه، ثم إن «رويز غيمينار
Ruiz Gimenez » - رئيس أساقفة طليطلة - كتب تاريخا لعرب إسبانية باللاتيني، ولكنه كان بغاية الاختصار. وكذلك المؤرخ العربي الرازي الذي ترجمه «جيل بيريز
Gil Perez » كان أيضا قاصرا جدا، وما ورد سوى ذلك من التواريخ يتضمن حكايات خرافية كثيرة.
فلما جاء «كاسيري
Cassiri » وحاول كتابة تاريخ العرب في إسبانية كان هو المؤرخ الأول الذي عول على الكتب العربية التي كان قد بقي منها شيء في خزانة الإسكوريال، وجاء من بعده «أنطيونيو كوندي
Conde »، فرقي في معرفة التاريخ العربي عدة درجات وكسب شهرة واسعة. ثم ذكر المؤلف الوثائق التي عول عليها في كتابة تاريخ مرسية، فقال إنه اعتمد على جغرافية الشريف الإدريسي، وكتاب الزراعة
4
لابن الأبان
Ebn El Aban
الذي ترجمه بانكيري
Banqueri ، وكتب كسيري، وتاريخ «ماسدو
Masdeu »، وتاريخ مرسية المنسوب إلى «كاسكاليس»
Cascales ، وتاريخ «دولوزانو
de Lozano »، والكتاب المسمى «بأوامر غرناطة» تأليف «دوهيتا
de Hita »، و«حياة القديس فريد نياند» تأليف «كاستر
de Castro ».
ثم أورد صاحب هذا الكتاب - تاريخ مرسية - أسماء البلاد والأماكن، فجعل لها جدولا مشتملا على ثلاثة حقول: الأول يشتمل على الأسماء كما كان يتلفظ بها الرومانيون، والحقل الثاني يشتمل على الأسماء كما كان ينطق بها العرب، والثالث على الأسماء كما ينطق بها الإسبانيون، وهي هذه:
الأسماء الرومانية
الأسماء بالعربية
الأسماء بالإسبانيولية
أرسيلازيس
Arcilasis
مورسيا
Murcia
مرسية
مرسية (بالإمالة)
أسكياتو
Askayato
القنطرة
Cantara
الكنترية
Alcantarilla
ليبراله
Libralla
ليبراله
Librela
ليبريلة
Lebrilla
أيضا
الحامه
Alhama
آلآمه
Alama
أيضا
توتانه
Tutana
توتانه
Totana
اليوكراتا
Eliocrata
لورقه
Lurcat
لوركا
Lorca
سوغانا
Sogana
صوحانه
Sohana
بلايابورتوس
بورتمان
بورتمان
سان جينيس
San Gines
تادمير
Tadmir
قاره بارقه
Cara-Vaca
كاراباكا
Carabaca
أيضا
جنجالي (بالإمالة)
Ghenghalet
شنشيلا
Chinchilla
أيضا
أنجباله
Angebala
أبانيلا
Abanilla
أيضا
ألونه صانت
Alona-Sant
غواردامار
Guardamar
ألونه أولوصنتم
Alona Olucentum
القنت
Alacant
أليكنت
Alicante
أكسيس
Accis
وادي آش
Guad-Aix
غواديس
Guadix
أيضا
ابن عطاف
Ben ataf
بتاتيا
Benatea
أيضا
شجانه
Chadjena (هذا الاسم محرف هنا)
كاراباكا
Carabaca
أيضا
برجيله
Vergilat (كالعربي)
جيزن
Gesen
ياسن-لبيت
Gasen-Lebit
يست
Yeste
تيبونا
Taibona
طيبيلة
Taibilla (طيباله مع الإمالة)
نربيو
Nerpio
برغولا
Bergula
الزرب (؟)
Azarab
مورتلا
Mortalla
فيكاريا
Ficaria
الماصروف
Almazarrov
مازرون
Mazarron
برغولا أيضا
سقاطين
Zakatin
زكاتين
Zacatin
أيضا
قاجباروه
Gaschbarro
كالاسبارا
Calasparra
سجيزا
Segisa
سجن (؟)
Sehegin
سهيجين
Gehegin
سجيزا
Segisa
بلكور
Balkur
بولاس
Bullas
سجيزا
Segisa
الكور
AlKor
كوي
Coy
سجيزا
Segisa
زيته
Zethu
أوسيت
Ocete
سجيزا
Segisa
الغوشاري
Elcucharet
أوجوس لوشينا
Ojis de Luchena
موان
Muan
مولات
Mulat
مولا
Mula
موان
Muan
ياكات
Yakat
بليكو
سبتي
Cepti
زبيت
Zebit
ساتي
Ceuti
سبتي
Cepti
المنصورة
Almanzora
دولوركي
de Lorqui
سبتي
Cepti
بلشيد
Valschid
بلشيد
Belchid
سبتي
Cepti
حماد
Hemad
كاستيلو أي بابلو دو مرسية
Castilo y pueblo de Murcia
سبتي
Cepti
بني حسن
Beni Hazan
بنياجان
Beniajan
سبتي
Cepti
سانت عميرة
Sant-omera
سانتو ميرا
Santomera
سبتي
Cepti
لقنت
Lecant
دومرسيه
de Murcia
سبتي
Cepti
بارتس
Berts
بيكاسترو
Bigastro
سبتي
Cepti
بني علي أو علا
Beni-Eli o’Alé
بنيل
Beniel
سبتي
Cepti
بقتس
Bacats
الكرياس
Alquerias
سبتي
Cepti
الذنية
Adzenet
زاناتا
Zeneta
سبتي
Cepti
سانت عارن
Sant-Aren
ريا أي بابلا
Raya y Puebla
سبتي
Cepti
سلنت
Sallent
دو مرسية
de Murcia
آ آيو
Aaeo
علالاهت
Alalahet
أليدو
Aledo
آ آيو
Aaeo
إليبات
Elibat
جيكينا
Jiquena
آ آيو
Aaeo
البيت
Albet
البوديت
Albudeite
آ آيو
Aaeo
ألبونتي
Alponti
كيدبار
Quidpar
آ آيو
Aaeo
فرغليط
Forgiolieti
دوسكورا
de Segura
أوتا
Ota
ألست
Alzet
دو أوريولا
De Oriheula
مورجيس
Murgis
مورقه
Mnrga
موراتا
Morata
تيبار
Tebar
تباعه
Tebaa
كامبوتيبار
Campo Tebar
تيبار
Tebar
جومالة
Giomala
فيلانوفا
Villanueva
توربيلا
Turbula
تيبالة
Tibala
توبارا
Tobarra
توربيلا
Turbula
البطانة
Albatana
دوانتور
de Ontur
جيمينا
Gemina
جيمينالة
Gheminalet
جوميله
Jumilla
كوامبرا
Coimbra
جوميلة
Jumillat
سالتيسي
Saltici
شنجالة
Cinxela
شنشيلا
Chinchilla
بوتيا
شنجاله
Cixela
بوزولورنت
فالابونكا
Valeponga
والونشة
Walonxa
فالديكانكا
Valdeganga
كارتاكونوفا
Cartago Nova
قرطاجنة
Carthagent
كارتاجنا
Cartagena
موروس
Morus
كمبوجارة
Campojara
أيضا
أورسي
Vrucu
آقلة
Acle
أكسيلاس
Aguilas
فيلاريكوس
Villaricos
أرسيلا
Arcila
أرشيله
Arxilla
أرشينا
Archena
بوكارا
Bugarra
الكدية
Alcaudete
كودات
Caudat
أوريولا
Auriola
أوريولة
Auriolet
آيورا
Ayora
أورسيلس
Orcelis
أوريوله
Oriola
أوريوالا
Orihuela
أورسيلس
Orcelis
ميكه
Meca
المنصا
Almansa
أبياريوم
Apiarium
بيار
Biar
ألبيرا
Alpera
توبولا
Tubbulla
بلياريه
Veliaria
بيلينا
Vilena
فكاسورا
Vacasora
أيضا
دوبيلينا
de Villena
سالاريا
Salaria
ساكسونه
Saxona
ساكس
Sax
أبولا
Abula
البسيط
Abasit
البسيط
Albacete
أسو
Asso
إيسو
Isso
إيزو
Iso
إيلونوم
Illunum
فلين
Felin
هلين
Hellin
كاسكا
Kaska
كركه
Carca
الكارش
Elcarche
مانيتون
Mainieton
أيضا
فونت ألامو
Fuente Alamo
جنجالا
Gingela
شنكله
Singla
سنكلا
Cingla
إيلوتانا
Elotana
البطانة
Albatana
أيضا
إيلوتانا
Elotana
ركشه
Raxa
دو جونيلا
Junilla
إيلوتانا
Elotana
رومان
Roman
أيضا
إيكلازو
Yeklazo
تقله
Takla
يكلا
Yecla
إيكلازو
Yeklazo
عربي
Arabi
أيضا
إيكلازو
Yeklazo
أفرد
Afred
فريز
Ferez
موندا
Munda
أيضا
لاتور
Lietoer
كاستروم التوم
Castrum Altum
شقوره
Xecura
سيكورا
Sequra
كاستروم التوم
Castrum Altum
قنطار
Quntar
دويست
de Yeste
إيليسي
Illici
إلش
Helch
إلش الشاره
Elche de la Sierra
كاتينا
Catina
زيزه
Zieza
سيزا
Cieza
أسكول
Ascul
كوا
Coa
كمبو كوي
Campo Coy
إيلورسيز
Illorcis
لورقه
Lorki
لوركي
Lorqui
إيلورسيز
Illorcis
موله
Mola
مولينا
Molina
إيلورسيز
Illorcis
وادروقوت
Guab-Rocot
ريكوت
Ricote
مون أكوتوس
Mons-Acutus
مونتا كوت
Montacut
مونتاكادو
Montiagudo
مون أكوتوس
Mons-Acutus
مونوبار
Monovar
أيضا
مون أكوتوس
Mons-Acutus
المرادي
Almoradi
أيضا
أبديرا
Abdera
المرية
Almeria
أيضا
أبديرا
Abdera
الشقر
Algucer
أيضا
أبديرا
Abdera
الباتر
Albater
الباتيرا
Albaterra
أبديرا
Abdera
ابن رزين
البراسين
Albarracin
أبديرا
Abdera
الغلاب
Algelab
الجزارس
Algezares
أبديرا
Abdera
المدور
Almodovar
أيضا
هذا هو الجدول الذي يقابل فيه المؤلف بين الأسماء القديمة، والأسماء التي كانت معروفة عند العرب، والأسماء التي كانت معروفة عند الإسبان، وقد لحظنا أن فيها محلا للاعتراض في بعض أماكن، وذلك أنه كان العرب يقولون: «لشنت مرية ابن رزين» «السهلة» يقولون: «سهلة بن رزين»، وكان الإسبانيون يقولون لهذا المكان نفسه «البراسين»، ولا يزالون يقولون ذلك إلى اليوم. ومؤلف هذا الكتاب يجعل «البراسين» هي اللفظة التي كان يقولها العرب، وكذلك اسم «شنجالة» أو «جنجالة»، فقد كان العرب يلفظونها بالجيم أو بالشين، وقد كتبها المؤلف بالشين، وغير ذلك.
وجاء بعد ذلك تعليله لاسم «مرسية» فقال - وقد أصاب - إن هذه اللفظة هي لفظة يونانية
Murtia
معناها الآس، وهو هذه الشجيرة التي كانت عند الأقدمين منسوبة إلى الزهرة. وكون الآس يقال له عند اليونان «مورسيا» أو «مورتيا» قاله مؤلف هذا الكتاب، ثم رأيت في «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» للإمام السيوطي - ص290 من الجزء الثاني من الطبعة المصرية التي تاريخها سنة 1299 - نقلا عن كتاب مباهج العبر: اليونان تسمي الآس «مرسينا» وتسميه العامة «المرسين». ا.ه.
وقد سألت بعض أدباء الأتراك عن اشتقاق اسم مدينة مرسين في ولاية أضنة التي يقال لها «قيليقية» فقالوا لي: إنه مكان كان يكثر فيه شجر الآس، وهو المرسين، فمنه جاء اسم هذه البلدة. ثم إن صاحب هذا التأليف تاريخ مرسية قال إنه لما فتح المسلمون إسبانية كانت مرسية قاعدة الولاية المسماة «تدميرة»، وإن العرب اصطلحوا على تسمية هذه الولاية بتدمير تسمية لها باسم تدمر التي كانت من حواضر سورية.
والذي نعلمه أنهم سموا ناحية أوريولة أو أوريوالة بتدمير اسم الأمير الذي كان يليها عندما جاء العرب، وكانوا يقولون لها تارة أوريولة، وتارة أوريوالة، وأحيانا تدمير - بضم أول الاسم - وربما لفظوها بالفتح. ثم قال المؤلف: إن هذه الولاية كانت تشتمل على ست مدن: مرسية، وأوريولة، وقرطاجنة، ولورقة، وموله، وأنجبالة، وكان فيها عدة قصبات وقرى ومرافئ بحرية وحصون وقلاع، وكانت مرسية واقعة في سهل أفيح على ضفة نهر يقال له «تادر
Tader »، وكان يحيط بها سور من زمن الرومانيين، ثم تداعى إلى الخراب في زمن القوط. وكان لمرسية حصن روماني يقال له «مونتي غودو»، فسماه العرب «مونتاقوت»، وأما الأمير تدمير فهو تدمير بن غبدوش
Tadmir ben Gabdos
من بقايا ملوك القوط، وهو الذي خلف الملك لذريق آخر ملوك القوط في إسبانية. ثم إنه لما استولى العرب على مرسية أداروا عليها سورا منيعا ذا أبراج، وكان لمرسية في زمانهم باب يقال له باب «إفريقية»، وهو الباب الذي بقرب الجسر الحاضر. وكان السور يمتد من هذا الباب إلى الشرق إلى الباب الآخر المسمى «بالقبلة» أو «بيب
5
المؤمن» الذي كان بقرب التياتر الحالي، وبين هذين البابين كان القصرالمسمى «بالنعاير
Naair »، الذي كان يقيم فيه ولاة العرب وملوكهم، وكان السور من باب القبلة إلى الشرق يمتد إلى باب أوريولة، وكان هذا في الساحة المنسوبة إلى القديسة «أولاليه»، ثم يتوجه السور من هناك نحو الشمال فالغرب حتى يصل إلى مكان الكنيسة التي يقال لها اليوم كنيسة الرحمة.
وكان على أبواب السوق بيت محصن يقولون له «دار الصغير»، وباب صغير يسمى «ابن عمادي»، ومن هذه النقطة كان السور يمتد إلى شارع «بورسل
» حيث كان الباب المسمى بالكوفية، ثم ينعطف السور نحو الجنوب إلى باب شقورة الذي يطابق اليوم الباب المسمى «باب بيلار
»، ثم إن السور يعود إلى الشرق فيتصل بالقصبة المسماة «بالقصر الكبير
Alcazar Quivir »، وهو المقر المعتاد لملوك العرب في مرسية، واعتماد هذا القصر على باب «إفريقية».
وكانت المياه تدافع عن السور، فمن جهتي الجنوب والشرق كان السور على ضفة نهر شقورة الذي يقول له العرب «وادي الأبيض
Guadalabiad »، وأما من جهتي الشمال والغرب؛ فقد كان العرب احتفروا خندقا أجروا فيه المياه، ولا يزال هذا الخندق إلى يومنا هذا والأهالي تسميه «بالوال» (أظنه محرفا عن الواد)، وهذا الخندق تنحدر إليه مياه الأمطار.
وكان الوادي الأبيض عليه جسر من الخشب، والمظنون أن العرب وجدوا على النهر جسرا رومانيا خربا، وكان هذا الجسر الروماني من الحجر، وكان في مرسية مبان فاخرة شامخة أشرفها القصر الكبير والمسجد الأعظم الذي كان في الساحة المسماة اليوم «بساحة كادناس
Cadenas ».
وكان باب إفريقة يشرع على سكة قرطاجنة وسكة لورقة، وأما طرق «زينيتة وبني أيل وبني حسن»، فكانت تنتهي إلى بيب المؤمن. وطريق أوريولة كانت تنتهي عند باب أوريولة، وكان يقال له أيضا: «بالنطولة
Valentola »، وأما طرق «مونتاقوط والإعراش
Alarach » فكانت تؤدي إلى «ابن عمادي»، وأما طرق الأندلس الجنوبية فكانت هي وطريق «قنطرة أسقيه
Askeya »، وهي البلدة المعروفة الآن «بالقنطرية
Alcantarilla » تنتهي بباب شقورة، كما أن طريق قشتالة كانت تؤدي إلى باب الكوفية.
هذا، وبعد عدة سنوات لا غير من استيلاء العرب على قطر تدميرة صير العرب مدينة مرسية وضواحيها جنة غناء، فبنوا محكمة بهندسة دقيقة في ساحات مرسية التي كان طولها ستة عشر ميلا وعرضها أربعة أميال. وكانت معارف العرب السامية، ولا سيما خبرتهم الزائدة في الزراعة قد صيرت ذلك الوادي من أبدع ما يكون لأجل خير الإنسانية.
وكان القوط في نواحي قنطرة الأسقية قد استخدموا مضيقا بين جبلين يخرج منه بهدير عظيم النهر الهدار الذي يقال له «تادر»، وكان صالحا لسير الزوارق إلى ذلك المضيق، فالعرب اختاروا هذا المضيق لحصر مياه النهر الأبيض، وشقوا منه أقنية وجداول وزعوا مياهها على الأرضين فأحيوها جميعا وأسعدوا بها تلك البلاد. قال بنكيري
Banqueri : إنهم ثقبوا الجبال لأجل إمرار المياه منها، وكان يوجد محل يقال له قنطرة «بردة» تتوزع منه القني العديدة التي كانت تشرب منها ضواحي بلنسية.
وفي الفصل الأول من هذا الكتاب أطلس جغرافي لمدينة بلنسية نشره القس «جوان لوزانو» في كتابه المسمى:
6
Batistania Y Contestania del Remo de Murcia .
وأما الفصل الثاني من هذا الكتاب فهو يتعلق بتدمير ملك مرسية الذي يقول المؤلف: إن اسمه تدمير
Tadmir ؛ أي بفتح أوله أو توديمار
Teudimire
أحد سلالة ملوك القوط ومن أقارب المسكين الملك لذريق الذي ختمت به دولة القوط في واقعة وادي لكة. وكان تدمير قائدا من قواد لذريق، وقبل ذلك كان واليا على بلاد مرسية في أيام فيتيشة
Viticha
وإيجيره
Egira ، فلما وقعت واقعة وادي لكة وانهزم فيها الجيش الإسباني رجع تدمير بعساكره والجنود التي لم تشأ أن تفر إلى بلاد أستوريش في الشمال أقام في تدمير مركز ولايته.
فلما أكمل عبد العزيز بن موسى بن نصير فتح الأندلس؛ أي الولايات الجنوبية من إسبانية، توجه لفتح ولاية تدمير؛ فأخذ تدمير يناوش العرب القتال، فنهد إليه عبد العزيز من جهة لورقة وقائد عربي آخر اسمه حبيب من الجهة الثانية؛ فتقهقر تدمير إلى مرسية، ولما رأى نفسه غير قادر على الثبات في مرسية تحول إلى أوريولة لمنعة حصونها وقرب الجبال منها. فزحف عبد العزيز إلى مرسية، ومنها قصد إلى تدمير في أوريولة؛ فحاصره وضيق عليه الخناق، فدافع تدمير دفاعا شديدا إلى أن وهنت قوته. فأرسل إلى عبد العزيز يطلب الصلح فتم التراضي على الصلح بموجب الكتاب الذي تقدم نشر صورته العربية نقلا عن بغية الملتمس ونشر ترجمته عند الكلام على مدينة أوريولة فلا لزوم لإعادة ذلك.
ثم يقول المؤرخ سيبريان: إنه بعد فتح عبد العزيز بن موسى لمرسية بسنتين تنصر.
7
فقتل سنة 716 المسيحية.
ثم بعد موت عبد العزيز آلت إمارة العرب في مرسية إلى حبيب الفهري الذي أعلن الحرب استئنافا على الملك تدمير؛ فطالبه هذا بالعهد المنعقد بينه وبين عبد العزيز فلم يقتنع؛ فذهب تدمير إلى دمشق يشكو أمره إلى الخليفة فأعطاه الخليفة الحق وبقي ملكا مدة ثلاثين سنة، ومات سنة 743 للمسيح، وكان فصيح اللسان عارفا بالكتب المقدسة محترما حتى عند المسلمين، وكان قد انتقل من مرسية إلى بلدة «قاراباقة» وجعلها مركزه.
وفي الفصل الثالث يذكر الملك «أتاناهيلد»
Atanahailde
الذي خلف تدمير، فقال إنه كان أقرب الناس نسبا إلى الملك المتوفى؛ فلذلك صار خلفا له وأقام بمدينة قاراباقة، فجماعة حبيب الفهري أمير العرب هناك لم يريدوا العمل بمعاهدة تدمير، وجرت فتنة في مرسية كان فيها النصارى الذين تهودوا أشد الناس شغبا، وإن أحد زعمائهم المسمى جيزان أبو الإيثار
Jesan Abu El Iithar
تولى كبر هذه الثورة؛ فطرده أتاناهيلد فالتجأ إلى مرسية، واستقروا بها وخربت مرسية بتلك الفتنة التي استمرت عشر سنوات إلى أن حضر عبد الرحمن الأول من الشام، فدخل الأندلس ووجد ما وجد من الشقاق بين أصحاب الملك أتاناهيلد وأصحاب يوسف الفهري.
وفي زمن يوسف هذا ضرب العرب السكة في إسبانية، وكان درهم الفضة مكتوبا عليه بالإسبانيولي هذه العبارة: بسم الله هذا الدرهم ضرب بالأندلس. وقد بقيت الفتنة في بلاد تدمير تشتد إلى أن الملك القوطي أتاناهيلد ومن بقي معه هجروا أوطانهم، والتجئوا إلى جبال أستوريش وليون، ومات أتاناهيلد سنة 755؛ فخلفه الملك بيلاي
الذي تلقب بأمير إسبانية.
وتولى عبد الله بن عبد الرحمن مملكة قاراباقة، كما أن زهيرا - ملك المرية - استولى على مرسية.
وفي الفصل الرابع ذكر المؤلف أن الحسين بن ظهار - أحد ولاة مرسية - عندما سكنت الفتنة في قرطبة سنة 743 صرف همته إلى إتقان الزراعة، وفي أيامه جاء عرب كثيرون من أرباب الخبرة التامة بعمارة الأرض فاستقروا بمرسية، وتقاسموا فيما بينهم المرج الخصيب الذي على ضفاف وادي الأبيض. وجاء أيضا كثير من سراة العرب ونزلوا بمرسية، وبنوا فيها القصور العالية، وأخذت هذه البلدة مع ضواحيها ترقى في سلم الحضارة، فكانت السكنى في تلك الجنة من أعظم رغائب العرب. وكان الحسين المذكور يستقدم إلى بلده أقدر الناس على العمل في الأرض؛ فسعدت بهم تلك البلاد إلا أنها لم تكن تخلو في الأحايين من الفتن.
وفي سنة 785 ثار أحد أولاد يوسف الفهري وأثار أهل مرسية على عبد الرحمن الأول - ملك قرطبة - فاضطر هذا أن يزحف إلى مرسية وخيم في القنطرية، وأخذ ينصح للثائرين بالسكون ويستعمل الحكمة إلى أن تمكن من إدخالهم في الطاعة دون سفك دم، فدخل إلى مرسية وقد اجتمعت عليه الكلمة، فبقي في المدينة مدة من الزمن حتى وطد الراحة فيها، ثم عاد إلى قرطبة، حيث مات في 30 سبتمبر سنة 788، وقد ترحم عليه جميع سكان الأندلس، لا سيما أهل مرسية، وكان وزيره رجلا اسمه الحسن بن مالك الدمشقي (؟).
وفي الفصل الخامس يذكر أن السلام استقر في مرسية إلى سنة 800؛ إذ نشبت هناك وقائع دموية في غاية الشدة. وتحرير الخبر أنه بعد وفاة الملك هشام بن عبد الرحمن الداخل، قام بالأمر ابنه الحكم؛ فثار اثنان من أعمامه سليمان وعبد الله، وطلبا الملك وقاتلاه، ثم انحاشا إلى نواحي بلنسية، واعصوصب حولهما عدد كثير؛ فزحف الحكم إليهما، وتلاقى الفريقان في مرسية؛ فاعتصم سليمان وعبد الله بالبلدة إلا أن الحكم - وكان شديد البأس حازما صارما - تغلب عليهما، وقتل سليمان في المعركة، وانهزم عبد الله شريدا، ودخل الحكم مرسية وأمر عليها قائدا من خواصه اسمه «فضله بن عميسة» وكنيته أبو فلتة.
8
الذي توفي في سنة 813 فأقام الحكم ابن هذا القائد مقام أبيه أميرا على مرسية، أما عبد الله عم الحكم، فإنه عاد فخضع لابن أخيه وأقطعه هذا تدمير. وقد جاء في حاشية هذا الفصل أن الملك الحكم ضرب السكة باسمه، وكان مكتوبا عليها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. بسم الله، ضرب هذا الدرهم في مدينة الزهراء سنة 352.
الأمير الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين. انتهى كلامه.
قلنا: إن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي تغلب على عميه سليمان وعبد الله هو غير الحكم المستنصر الذي ضربت باسمه السكة المذكورة، فإن الحكم الأول لم تكن في زمانه بنيت الزهراء، وكان عهده من سنة 180 للهجرة إلى سنة 206، فالذي ضرب هذه السكة هو الحكم الثاني الملقب بالمستنصر، ابن الخليفة عبد الرحمن الناصر، وقد كانت وفاته سنة 366.
ثم يقول في هذا الفصل: إن الصلح الذي وقع بين الحكم وعمه عبد الله كان بردا وسلاما على مرسية فازداد عمرانها وكثر سكانها، وفي تلك الأيام بنيت القني والسدود، وجرى توزيع المياه على الأرضين ولا يزال على ما هو عليه من ذلك العهد.
وفي الفصل السادس تكلم صاحب هذا الكتاب على موت الحكم، وقيام ابنه عبد الرحمن الثاني بالإمارة مقامه، وكان عبد الله المار الذكر عم الحكم أميرا على مرسية، فأراد الانتقاض على الملك الجديد ابن أخيه؛ فزحف عبد الرحمن إلى مرسية لقتال عبد الله، وتأهب هذا لملاقاته، وقبل أن تقع المعركة ابتهل عبد الله إلى السماء قائلا: تعلم يا رب ما عندي من كراهية أهوال الحرب، وإنما أنا أريد إنفاذ مشيئتك فانصرني في القتال إن كان حقي في الملك أرجح من حق ابن أخي، وأما إذا كان ابن أخي هو الأحق فلا تجعل على يدي أيها الرحمن الرحيم سفك دماء إخواني.
وما أنهى هذه الكلمات حتى ثارت عاصفة شديدة قلبته عن ظهر جواده وأصابه سكات، فاحتمله قواد جيشه إلى القصر وأغلقوا أبواب المدينة؛ فجاء عبد الرحمن وحصر المدينة، ولم يزد شيئا على حصارها، فمضت أربعة أيام، فأفاق الأمير عبد الله وعادت إليه قوة الكلام فأعلن أصحابه أن الله تعالى لا يريد هذه الحرب، وأنه معترف بإمارة عبد الرحمن؛ فوقع الصلح بين الاثنين، وأقر عبد الرحمن عمه عبد الله على إمارة تدمير، وما أريق في هذه الواقعة ولا نقطة دم.
وعاد الأمير عبد الرحمن إلى قرطبة بجيشه فائزا سالما، وعاش الأمير عبد الله بعد ذلك مدة سنتين؛ إذ كانت وفاته في «قراباكا» سنة 823.
وفي الفصل السابع ذكر المؤلف ازدهار غوطة مرسية مدة ثمانين سنة متوالية، وذلك بعمل المسيحيين الذين كان أتانايلد نفاهم من قراباكه سنة 745، والمغاربة المسلمين الذين جاء بهم حسام بن ظهار من قرطبة، وهم الذين جاء بهم الأمير عبد الله، وقد وصلت إلينا بالتواتر أسماء الزراع الأولين، الذين حولوا ذلك الوادي إلى جنان وفراديس، وشقوا الجداول وبنوا القرى والدساكر، فعرفت بهم وخلدت أسماءهم من ذلك في ناحية الجنوب المسماة بالقبلة
Alkibla ، ومنجلاقو
Menjalaco ، وبني أبطه
BeniAbta ، وبني علال
BeniAlel ، والفوز
Alfoz ، والبلاط
Albalate ، والمهاجر
Almohajar ، وبني منيت
BeniManete ، والبادل
IlBadel ، والقاتل
Alcatel ، وبني قوتو
Beni Coto ، وبني كومال
Beni Combal ، وبني هشام
Beni Haxam ، والقوازة
Alguaza ، ورميه
Rumia ، والفند
Alfande ، والحرثة
Alhartta ، وبني عزور
Beni Azor ، وبني إيل
Beni Ehl ، والزنيت
Azenete ، هذا من جهة الجنوب. وأما من الجهة الأخرى من النهر؛ أي ناحيته الجوفية
9
فيوجد شبوط
Xaibote ، والفتيقو
Alfatego ، والنجار
Alnajar ، والبطالتة
Albatalta ، وزرايع
Zaraich ، والساقل
Alzaquiel ، والجدا
Aljada ، وبني بطروش
Beni Potroix ، والأبراج
Alabrache ، وبني توزر
Beni Tuzer ، وبني أفيار
Beni Afiar ، وبني منجي
Beni Monji ، وبني زابل
Beni Zabel ، والفندارين
Alfendarin .
10
هذا وبالرغم من كثرة الحروب والفتن التي كانت تتوالى على إسبانية كان أهل مرسية يتمتعون من السلام بما يمكنهم من المضي في عمرانهم الزراعي وإيصال الفلاحة وتوزيع المياه إلى الدرجة القصوى من الإتقان، وفي ذلك الوقت رضيت العناية الإلهية عن تلك الجداول الفياضة التي كانت مياهها تنقسم بهندسة فائقة إلى أن عمت خيراتها جميع هاتيك السهول، ولم يزل نظامها إلى يومنا هذا قائما ناطقا بأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان.
على أنه كان قد جرى في مرسية فتنة اقتضت مجيء عبد الرحمن
11
بنفسه إليها ومعه حاشيته، وذلك سنة 917، فأعاد السلام إلى نصابه، وكانت الرعية تحب هذا الملك حبا جما، وفي زمانه وقع خلاف بين ملوك النصارى برمودة وغرسية، فتنة امتدت إلى ما بين العرب، وأحدثت بعض القلق، ثم آل الملك في قرطبة إلى الأمير هشام
12
الذي وسد أمور المملكة إلى رجل من خواصه يقال له حاجي محمد.
13
كان متصفا بصفات باهرة، إلا أنه كان عظيم الأطماع، فحجر على هشام المؤيد وتسلم بيده زمام الحكم، فعرف العرب أن المنصور اختلس الملك؛ فثار الكثيرون وجرت فتن، وانتقض عرب كتلونية وبلاد أخرى، فزحف المنصور إلى مرسية وأقام بها ريثما وافته النجدات، وكان نزوله بمرسية عند رجل من الرؤساء الموسرين اسمه أحمد الخطيب الذي قام بجميع النفقات اللازمة للمنصور وحاشيته؛ ولذلك أعفاه المنصور من جميع أنواع الضرائب. وكانت زيارة المنصور هذه لمرسية سنة 984 بحسب رواية المؤرخ كوندي. وأما المؤرخ لوزانو فقال إنها كانت سنة 989.
وفي الفصل الثامن ذكر صاحب هذا الكتاب ولاية زهير أمير مرسية فقال إنه سنة 1010 وقعت حروب داخلية طاحنة بين المسلمين، فاشتبك في هذه الحروب ملوك إشبيلية وطليطلة وقرطبة وسرقسطة وبرشلونة، وكان ملك قرطبة سليمان،
14
وكان عنده قائد يقال له المرتضى، فأرسل اثنين من خواصه وهما حيدر ومنذر، فاستوليا على مدينة مرسية، وقيل بالخديعة؛ فلم يقبله الأهالي، وفي سنة 1016 عمت الفتنة كل البلاد، وازداد النفور من الملك سليمان المستعين، وانتقض عليه وزيره علي بن حمود، واستبد هذا بمدينة أوريولة، وذهب إلى مرسية فاستنفر أهلها وزحف بهم على البربر الذين كانوا في بسطة وأرجونة وجيان والمرية، فتكدرت موارد السلم في مرسية.
وفي سنة 1027 كانت الفوضى عامة، وعلم الناس أن السبب في عمومها هو التغالب على أخذ تاج قرطبة، فاستولى أخيرا على الحكم في قرطبة الوزير أبو الحسن بن جهور. وكان هناك فتى اسمه زهير
15
أصله من «دلماسية»
16
استولى على مرسية وأعلن إمارته عليها، وبايعه أهلها برضاهم، وذلك سنة 1043، وبقي ملكا على مرسية إلى سنة 1051؛ إذ توفي قيل خارجا عن مرسية.
وفي زمن زهير هذا اشتهر أمر الشيخ أبي بكر أحمد بن إسحاق، وكان من أبناء البيوتات العريقة وذوي الثروة الواسعة، محبوبا عند قومه، فاضلا ملهما عمل الخيرات؛ فولاه زهير أمر مدينة مرسية. وفي تلك المدة اشتدت الحرب بين ذي النون ملك طليطلة، والمعتضد بن عباد ملك إشبيلية، فأضرت بمرسية وضواحيها؛ لأن عرب طليطلة اتفقوا مع عرب بلنسية على قتال صاحب إشبيلية. إلا أن أبا بكر أحمد بن إسحاق والي مرسية ومعه أحمد بن طاهر وغيره من الرؤساء انحازوا إلى ابن عباد صاحب إشبيلية، فشن ابن ذي النون الغارة على بلاد تدمير، وجاء ابن عباد، وهو المعتمد بن المعتضد، ومعه ابن عمار، فدخلا مرسية، وانضم أهلها إلى المعتمد الذي أقام يومين ورجع إلى إشبيلية حاضرة ملكه، وبقي ابن عمار وزيره في مرسية. ثم ذهب منها إلى برشلونة للاستعانة بصاحبها الكونت ريموند، فعندما أراد السفر إلى برشلونة زوده أحمد بن طاهر - من رؤساء مرسية - بعشرة آلاف ذهب، فنجح ابن عمار في مهمته، وجاء ومعه عساكر من قبل مملكة كتلونية؛ لمنع المأمون بن ذي النون من الاستيلاء على مرسية، فوجد مع المأمون عساكر بلنسية ومربيطر ودانية وشاطبة وقونكة، ومعهم عساكر غاليشية وقشتالة وقد اجتاحوا مرسية وجوانبها الخصبة وحطموا زروعها.
فلما رأى الكونت ريموند البرشلوني كثرة الأعداء، اعتقد أن ابن عمار خدعه وجره إلى صفقة خاسرة؛ فقبض على باديس بن المعتمد ملك إشبيلية واعتقله كرهينة عنده. ثم إن الجيش القشتالي هاجم الجيش البرشلوني وحليفه الجيش الإشبيلي؛ فدارت الدائرة على هؤلاء، ودخل المأمون بن ذي النون مرسية، وخضع له واليها ابن طاهر، وكان الوالي السابق أبو بكر أحمد بن إسحاق أبى أن يخلف الأمير زهيرا في الإمارة، ومات وقد ناهز التسعين، وكانت وفاته سنة 1064 المسيحية.
وفي الفصل التاسع يذكر المؤلف عبد الرحمن الثاني الطاهري ملك مرسية الذي جاء من بعد الفتى زهير الصقلبي الدلماسي، فتولى مدة ثلاثين سنة؛ أي من سنة 1051 إلى سنة 1081، وهو ابن أبي بكر بن طاهر، وقد كانت سياسته كسياسة أبيه كلها حكمة وعدالة؛ ولذلك سعدت مرسية في زمانه، ورجع إليها هناؤها الأول.
وكانت الأحوال في إشبيلية على غير استقامة، فأخذ ابن عمار يكيد لمولاه المعتمد؛ فأحب هذا إبعاده عن إشبيلية؛ فأشار عليه بفتح مملكة مرسية، ولما كان ابن عمار شديد الطموح أقبل على مرسية راغبا، واتفق مع أمير يقال له عبد الله بن رشيق، وقصد إلى مرسية، وعاثا في جنانها، وحصرا المدينة وضيقا عليها إلى أن فتحت أبوابها لجيش ابن عباد، فدخل ابن عمار إلى مرسية سنة 1079، وخلع ابن طاهر واعتقله في قلعة مونتاقوط، وكان أبو بكر بن عمار المذكور ناقما في الباطن على مولاه المعتمد، وربما مد يد الولاء إلى الأذفونش السادس صاحب قشتالة؛ فأجمع الاستيلاء على مرسية، ففي أول الأمر قاتله أهلها وهزموه؛ فعاث في أرضها واجتاح بساتينها وأفسد زروعها، ونشأ عن ذلك مجاعة شديدة تمكن بواسطتها من الرجوع إلى مرسية، ودخلها عنوة، وقتل أميرها ابن طاهر، وما زال يعسف الرعية حتى ثارت به وأخرجته من مرسية؛ فالتجأ إلى شقورة نزيلا على رجل من خواصه أسرع بإخبار المعتمد بن عباد أن ابن عمار صار في قبضة يده، فسار ابن عباد وقبض على ابن عمار - وزيره الخائن - وقتله فيما بعد، وكانت مدة ولايته على مرسية ثلاث سنوات.
17
وفي الفصل الحادي عشر يذكر المؤلف ذا الوزارتين الرابع من أمراء مرسية. بعد قتل ابن عمار جاء محمد بن هاجد - أمير لورقة - بجماعة من رجاله الأشاوس إلى مرسية، واتفق مع أهلها على تولية أحمد أبي عبد الله الملقب بذي الوزارتين من بني طاهر، وكان هذا الأمير عالما فاضلا عادلا صلحت مرسية وسعدت في أيامه، واعتنى بنشر العلم والأدب والأخلاق الفاضلة، وأعاد إلى مرسية العمران الذي كانت فقدته بظلم ابن عمار، واستمر في الولاية عشر سنوات إلى أن مات، وفي سنة 1090 أقبل يوسف بن تاشفين - ملك المرابطين - من إفريقية، واتفق مع ابن عباد على الأذفونش صاحب قشتالة، وهو الأذفونش السادس، فزحف جماعة من أهل مرسية منضمين إلى ابن تاشفين وابن عباد تحت قيادة شاب من أمرائهم اسمه عبد العزيز، ثم وقع الشقاق بين قواد العسكر الإسلامي، فشهر عبد العزيز هذا سيفه في وجه ابن عباد؛ فقبض ابن عباد على عبد العزيز وحبسه، فرأى أهل مرسية في ذلك إهانة لهم، فانفضوا من حول ابن عباد وابن تاشفين.
وفي سنة 1094 عاد الأذفونش السادس يحاول الاستيلاء على بلنسية، فاستنجد أهل بلنسية بأهل مرسية فتغلب على بلنسية القادر يحيى بن ذي النون بمساعدة الأذفونش، وانهزم جيش مرسية وقتل قائده وأسر ذو الوزارتين، وقد كانت ولاية ذي الوزارتين على مرسية من سنة 1084 إلى 1094، وبقيت مرسية في ذلك الوقت دون ملك يليها، فكان يوسف بن تاشفين يرسل إلها ولاة من قبله، فتأخرت حالها، وبعد موت يوسف وولاية ابنه علي ازدادت حال مرسية سوءا ، وسنة 1144 كان يتنازع مرسية ثلاثة أحزاب: أحدها حزب محمد بن عبد الرحمن بن طاهر القيسي، والثاني حزب أبي محمد بن الحاج، والثالث حزب عبد الرحمن بن جعفر بن إبراهيم ؛ فابن طاهر استنجد ابن هاجد - قاضي لورقة - فذهب هذا القاضي برجاله وولى على مرسية قائدا اسمه ابن حمدين، وكان قائد قونكة، وهي مدينة عزيزة كثيرة العدد، كان اسم قائدها عبد الله بن فطن، وكان خصما لابن حمدين؛ فاتفق مع ابن طاهر وابن جعفر وزحفوا إلى مرسية ودخلوها، وصار الوالي على مرسية أبو جعفر بن أبي جعفر، ثم إن هذا انتقض على المرابطين، وقام الأهالي عليهم في مرسية وأوريولة، وقتلوا كل من وجدوه منهم، وأعلن صاحب قونكة نفسه أميرا على مرسية باسم الناصر لدين الله.
وفي الفصل الثاني عشر والثالث عشر تكلم المؤلف على ولاية ابن هود، فقال: إن أبا جعفر عندما انهزم من مرسية جند جنودا جاء بهم لاسترجاعها؛ فثار الأهالي بالملك الجديد الذي كان غلب عليها، وولوا أميرا من قرطبة اسمه سيف الدولة بن هود، وتمادت الفتنة في مرسية حتى كادت البلد تخرب، فزحف أمير أوريولة بجيش وأقر أبا جعفر ملكا على مرسية، وأخذ الملك الذي كان فيها أسيرا؛ فاستمرت ولاية أبي جعفر سنة وبضعة أشهر، وكان ابن طاهر وابن الحاج قد ذهبا إلى المرابطين في بلنسية واستوليا على شاطبة. وفي هذه المدة ثار أهل مرسية بأميرهم الجديد، وأخرجا ابن فطن من الاعتقال، ثم عاد أبو جعفر فهزمهم وفر ابن فطن، واستولى أبو جعفر على شاطبة وأوريولة، وتعاقبت على مرسية عدة فتن وجرت بين أهلها وأهل غرناطة معركة انهزم فيها أهل مرسية تحت قيادة أبي جعفر محمد بن عبد الله بن طاهر.
وفي الفصل الرابع عشر يذكر سقوط دولة بني طاهر، قال: إن ابن حمدين عاد يطالب بملك مرسية، وزحف إليها بجيش؛ فانهزم والتجأ إلى قاضي أوريولة، فجمع جموعا أخرى وقصد مرسية؛ فانهزم مرة ثانية، إلا أنه تمكن من أخذ البلدة فيما بعد بالخدعة، وهرب عبد الرحمن بن طاهر منها ومات، وقد وجدت مسكوكات عربية مكتوب عليها: «الغالب أمير المؤمنين حمدين بن عبد الله»، وكان قد تولى البلدة شيخ اسمه عبد الرحمن بن طاهر، وكان ذا علاقة ببني هود ، فاقتنع أهل مرسية بمبايعة سيف الدولة بن هود، وجعل نفسه نائبا عنه، وجعل أخاه أبا بكر قائدا للفرسان؛ فانهزم الأحزاب الأخرى إلى قرطبة ملتجئين إلى ابن حمدين، فأرسل هذا جيشا عليه ابن أخيه وابن عمه لاسترجاع مرسية، فابن طاهر نائب مرسية استصرخ ابن عياض أبا محمد صاحب بلنسية، فجاء هذا واتفق مع صاحب أوريولة، ودخلا مرسية، واستوليا عليها، وعزلا ابن طاهر، إلا أنهما لم يقتلاه.
وكان سيف الدولة بن هود لم يعلم بدخول ابن عياض؛ فجاء إلى مرسية بجيش، فخرج ابن عياض للقاء سيف الدولة وخضع له؛ فأقره واليا على مرسية. ثم إن ابن فطن اتفق مع النصارى واجتاحوا جميعا شاطبة ونواحيها؛ فاستصرخ أميرها عبد الله بن سعد سيف الدولة بن هود؛ فزحف هذا لنجدتها، فنشبت معركة في غاية الشدة قتل فيها سيف الدولة بن هود، وفر خليفة بن عياض هاربا، وانهزم الجيش المرسي هزيمة شنعاء، وكان ذلك سنة 1145، وفي هذه الواقعة نفسها قتل ابن حمدين ملك مرسية السابق الملقب بالمستنصر.
وفي الفصل السادس عشر يذكر هزيمة عرب مرسية في معركة البسيط
Albacete ، وسقوط أهم قوادهم قتلى، وكيف رجعت فلول جيشهم إلى مرسية بخبر هذه المصيبة؛ فارتدت مرسية ثوب الحداد.
وكان ابن عياض عندما خرج مع أميره سيف الدولة بن هود قد خلف على مرسية محمد بن سعد بن مردنيش، فلما وصلت أخبار الهزيمة إلى ابن مردنيش وتحقق مقتل سيف الدولة بن هود نزل إلى باب القصر وخطب الناس محرضا إياهم على الاستبسال، وأخذ الثأر؛ فعاهده الجمع على الطاعة، وتحفزوا لأخذ الثأر، ثم إن أدلفونس والمسيحيين الذين معه وحليفهم المسمى بالثغري
Crograi
وصلوا إلى مرسية، وأحاطوا بأسوارها، فخرج أهلها لمقاتلتهم، فلم يكن لهم قبل بهم؛ فانهزموا وابن مردنيش معهم، والتجئوا إلى لقنت، ودخل الثغري مرسية ظافرا، لكنه أشار على رجاله بمعاملة أهلها بالحسنى ؛ أملا بتألف قلوبهم؛ فذهبت مساعيه سدى؛ فالمرسيون لبثوا غضابا لا يخفف حنقهم شيء.
وفي أثناء ذلك أراد المسيحيون أن يدخلوا مرسية لينهبوها فلم يوافقهم الثغري على مرادهم؛ فدخلوها بالقوة وارتكبوا فيها ألوان الفظائع.
وكان ابن عياض يطوف في أرجاء البلاد ويجند الجنود لاستنقاذ مرسية؛ فجمع من بلنسية ولورقة ولقنت جيشا جرارا زحف به إلى مرسية، فلما علم المرسيون بزحفه ثاروا في داخل المدينة وانقضوا على أعدائهم ففتكوا بهم، ورأى الثغري أنه واقع في أيديهم إن لم يلذ بالفرار، فخرج من باب إفريقية هاربا يصحبه قليل من فرسانه؛ فتعقبه جيش ابن عياض وهجم عربي شجاع اسمه ابن فدا
Aben Feda
فاحتز رأسه وركز الرأس على قناة وسار به إلى ابن عياض، وبذلك ختمت حياة عبد الله بن فطن الملقب بالثغري. ودخل ابن عياض المدينة فوجد الشوارع مغطاة بجثث القتلى من المسيحيين والمسلمين؛ فاستأصل أعداءه، لا سيما المسيحيين الذين كانوا قد أسرفوا في القتل؛ فعوقبوا بمثل ما عاقبوا، وجددت مرسية مبايعة ابن عياض، وتبعها جميع شرق الأندلس.
وفي الفصل السابع عشر يذكر المؤلف أن ابن عياض بعد أن استنقذ مرسية سار فيها سيرة حسنة، امتد بها عليها رواق الأمن، ورأب من أحوالها - ولا سيما من زراعتها - ما كان قد انصدع بالحروب المتوالية، وتمتعت مرسية بنعمة السكون مدة من الزمن، ولكن الفتنة أسرع شيء إلى أهل الأندلس، فما لبثت أن ظهرت من جديد عند بني جميل
Moros Beni Giomail
في نواحي «عقيل
Ekils »، فإنهم هناك شقوا عصا الطاعة، وثاروا في وجه الأمير ابن عياض؛ فخرج لقتالهم، فناوشوه القتال وخاموا عن لقائه في حرب فاصلة، فنهد إليهم في ليلة حالكة السواد يريد أن يكبسهم بياتا، ولم يكن أمامه إلا طريق واحد، وهو مضيق بين جبلين؛ فتقدم ومعه نخبة من فرسانه وأراد العبور، فكان الثوار كامنين على حافتي المضيق، فرموه بالسهام والصخور؛ فسقط مثخنا جراحا، ومات في ذلك اليوم، فانتقم المرسيون من الثوار انتقاما هائلا، وكانت لابن عياض جنازة حافلة ونقلت جثته إلى بلنسية.
وكان الحزن عليه عاما، وكان ذلك سنة 1147، وكانت ولايته على مرسية سنتين وتسعة أشهر وعشرين يوما، وكان قد عهد بالإمارة بعده لابن مردنيش؛ فبويع ابن مردنيش بالإمارة، ثم إن ابن عياض كان قد جعل نائبا عنه في مرسية علي بن عبيد الله أبا الحسن، فاستطاع هذا بحسن تدبيره أن يوطد السكينة في مرسية، وكان بعض المفسدين أشاعوا أنه يريد أن يستبد بالأمر ولا يعترف بإمارة محمد بن سعد بن مردنيش، إلا أن هذا الوالي عندما قدم ابن مردنيش إلى مرسية خرج للقائه، وقدم له مفاتيح البلدة، وكان يوما مشهودا اجتمعت فيه الوفود بحاضرة مرسية، وكان من جملة الوافدين ابن همشك
Aben Hemsek
الأمير، وكان واليا على شقورة، فجعله الأمير نائبا عنه في مرسية، وعاد إلى بلنسية وولى ابن همشك نائبا عنه في شقورة رجلا عادلا خافض الجناح اسمه ابن سعد أيضا. وأثنى صاحب الكتاب على إدارة ابن همشك في مرسية، وهو كلام في غاية الغرابة؛ نظرا لما اشتهر به ابن همشك من الظلم والعسف وسفك الدماء مما هو مستفيض في كتب الأندلس. قال: وبقي السلام مستتبا في مرسية إلى سنة 1165.
وفي الفصل الثامن عشر يذكر المؤلف أنه بعد عدة أعوام مضت بسلام، نشبت الحرب بين ابن مردنيش - ملك شرق الأندلس - وبين الموحدين أصحاب غرناطة. وروى كندي المؤرخ الإسباني أن ابن مردنيش خرج بجيش من بلنسية فمر بمرسية واستنفر للقتال صهره ابن همشك وأعيان مرسية، وكاشفهم بما في نفسه من نية الاستيلاء على غرناطة، فوافقوه وانضموا إليه، وساروا جميعا بجحفل جرار قاصدين إلى غرناطة، وكان مع ابن همشك عدد كبير من المسيحيين يبلغ ثلاثة عشر ألف مقاتل معظمهم من الفرسان، وكان منهم يتألف الحرس الخاص بابن مردنيش، فاصطلت الحرب بين رجال شرق الأندلس ومن معهم من النصارى وبين الموحدين؛ فانهزم الموحدون واستولى ابن مردنيش على غرناطة.
ولكن الغرناطيين لم يلبثوا أن جمعوا فلولهم وألفوا جيشا قويا تحت قيادة القائد الشهير أبي زيد بن عبد الرحمن، فكروا على غرناطة، واشتعلت الحرب، وكانت بين الفريقين ملحمة فظيعة ارتوت فيها الأرض بسيول الدماء ، ودارت فيها الدائرة على جيوش ابن مردنيش وابن همشك، فتمزقت كل ممزق، واستؤصل المسيحيون الذين كانوا مع ابن مردنيش وابن همشك، وعرف المكان الذي دارت فيه المعركة باسم «فحص الأغلب»، وهو مكان يقع بين مدينتي القنطرية والقصر.
وسنة 1170 تولى ابن لب (أي ابن مردنيش الذي كان الإسبانيون يسمونه بابن لب) أميرا على مرسية، واتفق مع ملك قشتالة، وعقد المعاهدات مع ملك آراغون، وفي سنة 1171 تحالف ابن لب مع بيرو رويس الصخرة
صاحب إمارة «إستيلا
Estilla »، وفي سبيل هذا الحلف نزل ابن لب لحليفه المذكور عن مدينة ابن رزين
Albarracin
التي كانت من جملة أملاكه.
وفي تلك السنة نفسها ساءت علاقات ابن همشك بصهره ابن مردنيش من أجل أمور عائلية، وسفر الجو بينهما إلى أن مات ابن مردنيش في جزيرة ميورقة سنة 1172، ولما شعر أولاده بضعفهم عن أن يقاوموا المسيحيين والموحدين معا جاءوا إلى سلطان الموحدين وسلموه البلاد التي كانت في أيديهم واستظلوا بظله.
وقد ذكر لسان الدين بن الخطيب هذه الواقعة في كتابه الإحاطة، وقال ما محصله أنه في سنة ست وخمسين وخمسمائة في جمادى الأولى منها قصد إبراهيم بن همشك بجمعه مدينة غرناطة، وداخل طائفة من ناسها وقد تشاغل الموحدون بما دهمهم من اختلاف الكلمة عليهم، وتوجه الوالي بغرناطة السيد أبو سعيد إلى العدوة، فاقتحمها ابن همشك ليلا، واعتصم الموحدون بقصبتها فنصب لهم المجانيق وقتلهم بأنواع من القتل، فبادر السيد أبو سعيد وأجاز البحر، والتف به السيد أبو محمد وأبو حفص بجميع جيوش الموحدين والأندلس، ووصل الجميع إلى ظاهر غرناطة؛ فأصحر إليهم ابن همشك، فالتقى الفريقان بمرج الرقاد من خارجها، فانهزم جيش الموحدين، واعترضت الفل تخوم الفدادين وجداول المياه التي تتخلل المرج، فاستولى عليهم القتل، وقتل في الوقيعة السيد أبو محمد، ولحق السيد أبو سعيد بمالقة، وعاد ابن همشك إلى غرناطة فدخلها بجملة من أسرى الموحدين أفحش فيهم المثلة بمرأى من إخوانهم المحصورين، واتصل الخبر بالخليفة في مراكش؛ فجهز جيشا أصحبه السيد أبا يعقوب ولده وأبا يوسف بن سليمان داهية زمانه ، فأجازوا البحر والتقوا بالسيد أبي سعيد بمالقة، واتصل منهم السير إلى قرية دلق من غرناطة، فانهزم ابن همشك.
وقال لسان الدين في ترجمة ابن مردنيش: إن ابن همشك يومئذ استصرخ ابن مردنيش، فخرج بنفسه في العسكر الكثير، من أهل الشرق والنصارى، فوصل إلى غرناطة واضطربت محتله بالربوة السامية المتصلة بربض البيازين، وتعرف إلى اليوم بكدية مردنيش، فلحق بجيان، واتصلت عليه الغلبة من لدن منتصف عام 560، فلم يكن له بعد ذلك ظهور، واستخلص الموحدون معظم ما بيده وحصروه بمرسية، ومات أثناء الحصار في عاشر رجب سنة إحدى وستين وخمسمائة وله ثمانية وأربعون عاما. انتهى. وجاء في كتاب الاستقصا أنه لما مات محمد بن مردنيش جاء أولاده وإخوته إلى أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن وهو بإشبيلية، فسلموا إليه بلاد شرقي الأندلس التي كانت لأبيهم؛ فأحسن إليهم أمير المؤمنين وتزوج أختهم، وأصبحوا عنده في أعز منزلة. ا.ه.
وقال لسان الدين في الإحاطة: إن محمد بن سعد بن مردنيش استولى على شرق الأندلس: مرسية وبلنسية وشاطبة ودانية، ثم اتسع نطاق ملكه فملك جيان وبسطة ووادي آش وقرمونة وأستجة وغرناطة، ونازل قرطبة وإشبيلية. قال: ثم فسد ما بينه وبين صهره ابن همشك، فكان سبب إدبار أمره، واستولى العدو في زمانه على طرطوشة عام ثلاث وأربعين وخمسمائة، وعلى حصن إفليج وحصن شرانية. ا.ه.
وقد وقع خلاف في مكان وفاة الأمير المذكور، فصاحب تاريخ مرسية الإسبانيولي يقول إنه مات سنة 1172، ولسان الدين بن الخطيب يقول: إنه مات وهو محصور بمرسية سنة 561.
ثم نعود إلى تلخيص تاريخ مرسية الإسباني فنقول إنه في الفصل التاسع عشر منه يذكر أن مرسية عاشت بعد وفاة ابن مردنيش فترة غير قصيرة في الفتنة والاضطراب، ولم تستطع أن تعود إلى رخائها السابق إلا بعد زمن طويل، وكانت الحروب في ذلك الدور ناشبة في الممالك الأخرى من إسبانية، ولا يذكر المؤرخون شيئا عن مرسية في هذه الفترة، ولا نعلم من أخبارها سوى أن خلف بن لب من أولاده اتبع سياسة والده في مهادنة ملك أراغون إلى أن انتهت مدة المهادنة، فتقرر في سنة 1179 بموجب اتفاق بين مملكتي أراغون وقشتالة أن يحتل مرسية ملك قشتالة آلونز
Alonso ، وزحف الإسبانيون للاستيلاء على مرسية ، ولا نعلم هل استولوا عليها ذلك الوقت أم لا؛ فالمؤرخون سكوت عن حوادث تلك الحقبة البالغة نحوا من أربعين عاما، حتى إن المؤرخ «ماريانا» نفسه لم يذكر عنها شيئا.
وفي سنة 1219 المسيحية كانت حملة صليبية على مرسية زحف فيها مئتا ألف مقاتل من المسيحيين، فهل استولوا بالفعل على مرسية؟ إننا لا نعلم عن ذلك شيئا. فإن كانوا قد استولوا عليها فيكون استيلاء قصير الأمد، يستدل على ذلك من وصف الكتب العربية للاحتفالات الفخمة التي جرت في مرسية عند مبايعة الأمير ابن هود الثاني، وذلك سنة 1228، وتلقب ابن هود بالمتوكل على الله، وكان اسمه أبا عبد الله محمد بن يوسف الجذامي،
18
وقيل له ابن هود الثاني؛ لأنه سبق وجود أمير آخر من هذه العائلة بهذا الاسم، وكان ابن هود متصفا بالدهاء والمكر، وبالدهاء والمكر حقق كثيرا من مطامعه، وكان يتظاهر بالتدين استرضاء للشعب الإسلامي، وأقنع المسلمين بأن المصائب التي حلت بهم كانت ناشئة من فساد سياسة الموحدين.
وتمكن ابن هود من فتح غرناطة، فدخلها بجيش عظيم، واستولى أيضا على مدينة أستجة، وخشي سطوته سان فرناندو ملك قشتالة، وكذلك الدون خايمي ملك أراغون، الذي كان متطلعا إلى بلنسية. إلا أن جيوش قشتالة ظفرت بابن هود في معركة شريش الشهيرة. وفي ذلك الوقت اشتهر الدون «رونسو سوارس دو فيجيروا» الذي خلع العقيدة الكاثوليكية، وأظهر الإسلام؛ فوثق به ابن هود، وصار يعول عليه، فعرض الدون فيجيرو هذا على ابن هود أن يذهب إلى جيش المسيحيين متجسسا ويعود إليه بجلية الخبر عن حقيقة قوتهم، ولم يدر في خلده أن الرجل الذي خان دينه الأصلي لا يتورع عن خيانة دينه الجديد؛ فأذن ابن هود له في الذهاب إلى ملك قشتالة، فكانت نتيجة سفارته هذه أنه دل الملك القشتالي على عورات المسلمين ومواقع ضعفهم، وعاد إلى ابن هود فوصف له قوة المسيحيين بأكثر مما هي بكثير تهويلا عليه وتثبيطا له عن الوقوف في وجههم.
وقد أصغى ابن هود إلى كلامه فانكفأ بجيشه تاركا الدفاع عن قرطبة التي كان ممكنا ذلك الوقت الدفاع عنها. وجاء ابن هود إلى المرية قاصدا منها ركوب البحر إلى بلنسية التي كانت أعلام أراغون الكاثوليكية أخذت ترتفع فوق حصونها وأبراجها.
وكان ابن هود من شيعة المرابطين، هواه معهم لا مع الموحدين أعدائهم. فلما وصل إلى المرية ألقاه قائدها عبد الرحمن بمزيد الاحتفال وبالغ في إجلاله، ولكنه كان يضمر له الشر لما بينهما من اختلاف المشرب؛ فإن عبد الرحمن هذا كان من جماعة الموحدين فقدر أن ينام هذان الرجلان تحت سقف واحد، فانتظر عبد الرحمن حتى تيقن أن ابن هود استغرق في نومه فخنقه بيده وهو نائم، ويذكر المؤرخ كندي أن هذا الحادث وقع سنة 1238، وعندما مات ابن هود أعلن أمير بلنسية زيد أبو زيد نفسه أميرا على بلنسية ومرسية.
وكان من حسنات ابن هود أنه أوجد الألفة بين المسلمين والمسيحيين في مرسية. فلما تولى أبو زيد خالف سياسة ابن هود وعسف المسيحيين عسفا شديدا، وقبض عليهم جميعا، وسجنهم في قصر حماد خارج أسوار المدينة، وأكرههم على ترك دينهم أو يقتلوا تقتيلا.
قال صاحب تاريخ مرسية المذكور: إن كثيرا من هؤلاء المسيحيين استقبلوا الشهادة فرحين مسرورين. ثم ثار المسلمون بمرسية على أبي زيد هذا فالتجأ إلى قلعة قراباقة، وكان في القلعة عدد كبير من المسيحيين أراد أبو زيد أن يفعل بهم ما فعل بإخوانهم في مرسية، ولكن حال دون ذلك حادث قد يكون من تدبير العناية الإلهية لأجل إنقاذ هؤلاء المساكين وإنقاذ روح نفس الطاغية الذي كان يريد لهم الهلاك.
قال المؤرخ الإسبانيولي: وهذا الحادث لا يخطر بالبال، وسأقصه على القارئ بمثل البساطة والإخلاص اللذين قصه بهما غيري من المؤرخين، دون أن أثبته أو أنفيه حتى لا أتعرض لغلط بإزاء العقيدة الكاثوليكية، قالوا: اجتمع المسيحيون بحضرة الأمير أبي زيد منتظرين مصيرا كمصير إخوانهم في مرسية ، فخاطبهم الأمير قائلا إنه يحب أن يرى كلا منهم متعاطيا أمامه المهنة التي من عادته تعاطيها؛ فامتثلوا أمره، وكان بينهم قسيس من قونكة يقال له «جينس بيريس كيرينو
Gines Perez Guirino »، فهذا لم يعمل أي عمل أمام الأمير، فسأله الأمير عن ذلك، فأجابه القسيس بأنه أمين الله، وأن عمله إقامة الصلوات، فأمره الأمير بأن يقيم الصلاة بحضرته، وهيئ معبد في أحد جوانب القلعة، وأعد كل شيء للصلاة، لكن تبين في النهاية أن الصلاة لا تمكن دون وجود صليب؛ فأخذوا يبحثون عن صليب فلم يجدوا، وبينما هم في حيرة إذا بالصليب يرى داخلا إلى المعبد يحمله ملكان من الملائكة، فوضعاه في مكانه، فوقف الأمير أبو زيد والثلاثون رجلا الذين معه بإزاء هذه المعجزة في أماكنهم جامدين، وفي تلك اللحظة آمنوا جميعا بعقيدة المسيح، ويذكر المؤرخ «بليدا» أن هذا الحادث وقع في 3 مايو سنة 1231؛ فتنصر أبو زيد، وتسمى «فيسنتي دوبلفيس
Vicente de Belvis »، وتزوج في سرقسطة «بدومينيكا لوبين»، ورزق ابنة سميت «ألدا»، تزوجت بعد بلوغها «بخيمين دوتراسونة»، ومات أبو زيد في 3 مايو سنة 1247 ودفن في بلنسية.
ثم في الفصل العشرين ذكر المؤرخ المذكور أنه لما خرج أبو زيد من مرسية إلى قراباقة سادت الفوضى في مرسية، فاضطر الأهلون إلى مبايعة أمير تستقر به الأحوال، فانتخبوا علي بن يوسف بن هود، وتلقب بعضد الدولة، فتبعه أناس كثيرون، ولكن ثار عليه أبو جميل بن مظفر بن يوسف بن سعد الجذامي، فزحف على رأس جيش عظيم ودخل مرسية، وانضم إليه الفرقة الناقمة من المرسيين. فتغلب أبو جميل على الأمير علي بن يوسف بن هود، وأمر بقطع رأسه علانية أمام الشعب، وصار أبو جميل الجذامي هو السيد المطلق. ولكن الفتنة لم تسكن بذلك؛ لأن حزب ابن هود بايعوا ابنه هذيلا، وعدوه الوارث الشرعي لأبيه، واشترطوا في بيعته أن يحارب ابن الأحمر صاحب غرناطة جزاء له على استغلال فتنة مرسية والعبث في أراضيها ونهب غلاتها وتخطف أنعامها؛ فقبل هذيل الإمارة بهذا الشرط وخرج بالجيوش التي جمعها لمحاربة الغرناطيين، وما كان يغادر المدينة حتى ساد الهرج والمرج وعمت الفوضى وشنت الغارات من كل جهة، فلما رأى المرسيون زحف الغرناطيين واستيلاءهم على مرسية وما أحدق بهم من الخطر، عقدوا مجلسا عاما حضره الشيوخ والرؤساء وتذاكروا فيما وصلت إليه البلاد من الفوضى، وفي خطر استيلاء غرناطة على مرسية؛ فقرر المجلس أخيرا إدخال مرسية وتوابعها في طاعة الملك المسيحي صاحب قشتالة، وهو المسمى سان فرناندو، وكان في ذلك الحين في مدينة برغش، فتألف وفد من أعيان مسلمي مرسية يحمل إلى الملك المذكور تاج مرسية.
وكان سان فرناندو قد علم بما هي عليه أحوال مرسية من الاضطراب؛ فانتهز فيها الفرصة وسرح جيشا قويا تحت قيادة ابنه الدون ألفونسو للاستيلاء عليها، فتلاقى الوفد المرسي مع الأمير الدون ألفونسو في طليطلة وأبلغوه ما استقر عليه رأي أهالي مرسية من الدخول في طاعة والده، وذلك بالشروط الآتية: (1)
أن يبقى ابن هذيل أميرا على مرسية تابعا للملك سان فرناندو. (2)
أن تلقى شئون التسليح والذخيرة على عاتق ملك قشتالة. (3)
أن يتسلم ملك قشتالة بمقابلة ذلك نصف ريع إمارة مرسية، ويبقى النصف الثاني للأمير العربي يستغله ما دام حيا. (4)
يكون على ملك قشتالة في مقابلة هذه الطاعة أن يوطد الأمن داخل الإمارة، ويحارب أعداء ابن هذيل، ويزحف لقتال ابن الأحمر ملك غرناطة إذا اعتدى على مرسية.
فتلقى الأمير ألفونسو اقتراحات المرسيين بالقبول، وأمضى المعاهدة من جهة، وأمضاها من الجهة الثانية محمد بن علي بن هود وقواد لقنت وأوريولة والحمة وأليدة وأثيكة وشنشالة. وامتنع من إمضاء الاتفاق أمير لورقة عزيز بن عبد الملك بن محمد بن الخطيب أبو بكر؛ لأنه كان طامحا إلى إمارة مرسية معتمدا في هذا الأمر على معاونة قائدي قرطاجنة وموله اللذين كانا من حزبه.
ثم إنه على أثر هذا الاتفاق توجه الأمير ألفونسو إلى مرسية، فاستقبل استقبالا فخما جدا، واجتمع القواد والرؤساء والأجناد واصطفوا لديه، واحتفلوا احتفالا عظيما بتسليمه مفاتيح مرسية، وابن هذيل في مقدمتهم.
قال المؤرخ الإسبانيولي: وقعت هذه الحوادث في أوائل سنة 1241، وهو تاريخ ذو شأن خاص فيما يتعلق بمرسية. وقفل الأمير ألفونسو إلى برغش مبشرا والده بهذه المملكة الجديدة الغنية التي غنمتها قشتالة دون أن يراق في سبيلها قطرة دم. وكان الأمير ألفونسو ولى على مرسية ولاة من المسيحيين بجانب الأمير العربي، وأخذ يتعرف أحوال لورقة وقرطاجنة استعدادا لفتحها فيما بعد، واستولى على موله بقلاعها وأبراجها، وعاد إلى والده بالفتح والنصر. انتهى.
قلنا: وهذا مثال من أمثلة عديدة مما كان يصنعه المسلمون بعضهم ببعض في الأندلس حتى صاروا إلى الانقراض بما كسبت أيديهم. قال الله تعالى:
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين .
وفي الفصل الواحد والعشرين يذكر أن الملك سان فرناندو عندما جاء ابنه إليه حاملا بشرى دخول مرسية في مملكة قشتالة كان في مدينة طليطلة، فبالغ بالاحتفال والابتهاج بهذا الفتح المبين، ولما كان يعلم ما يمتاز به العرب من سرعة التقلب وعدم الاستقرار وجه عنايته إلى الاحتفاظ بملك مرسية خاصة؛ لما في دخولها تحت طاعة قشتالة من زيادة قوة الجيش القشتالي، وفتح مجال جديد لانتشار المسيحية؛ فبادر بالسير إلى مرسية مستصحبا كبار رجال دولته وقواد جيشه من القشتاليين والليونيين، وكان معه ابنه الدون ألفونسو. فلما وصل إلى مرسية احتفل بوصوله المسلمون والمسيحيون معا، وأعلن الملك للمرسيين أنه سيسير فيهم بالعدالة التي يتبعها في سائر مملكته، وأنه سيعمل لتوطيد السلام والنظام عندهم، وأنه سيحمي مرسية من كل اعتداء خارجي ومن مطامع ملك غرناطة ابن الأحمر.
وحدث في أثناء وجود الملك بمرسية أن الأمير زيدا أبا زيد الذي سبق ذكر تنصره ترجى الملك تعميد ولديه اللذين كان يريد إدخالهما في النصرانية، فرأى الملك سان فرناندو من باب السياسة أن تكون حفلة التعميد حفلة شعبية عامة؛ ليكون عمل الأمير أبي زيد بمثابة مثال يحتذى ويدخل المسلمون في دين المسيح أفواجا. وهكذا تم وتسمى الولدان فرناندو وألفونسو باسم ملك قشتالة واسم ولي عهده.
ثم أخذ الملك بتنظيم حكومة مرسية وجعل ابن هذيل أميرا عليها بالتبعية له، وعاد إلى برغش بعد أن خلف في مرسية الدون رودريق ألفونسو قائدا لحاميتها، ولما كان المقصد هو مقاتلة ابن الأحمر جمع الدون رودريق جيشا من المسلمين والمسيحيين وزحف به قاصدا إلى غرناطة، لكنه لقي هزيمة منكرة في شيريبل
Chirivel ، وترك أهم رجاله من العرب والإسبانيين قتلى في الميدان، فلما وصل خبر هذه الهزيمة إلى سان فرناندو خاف مغبة تأثيرها، فسار بنفسه لمحاربة ابن الأحمر، وأمر ولده الدون ألفونسو أن يحافظ على مرسية، فظهر جيش فرناندو على جيش ابن الأحمر، وكان ذلك سببا في تمكينه وتسهيل أمور ولده في إمارة مرسية؛ فاستولى على لورقة وقرطاجنة، واستصفى تلك الإمارة كلها.
ثم إن الأعمال العسكرية في قشتالة وفي المقاطعات الأندلسية اقتضت أن يستدعي الملك ابنه الدون ألفونسو من مرسية ويعهد بولايتها إلى أخيه الأمير دون مانويل، وفي أثناء ذلك تزوج الأمير ألفونسو بابنة ملك أراغون؛ فتوطدت بذلك روابط الصداقة بين المملكتين قشتالة وأراغون، ثم رجع الأمير دون ألفونسو إلى مرسية، فما كاد يستقر بها حتى جاءه نداء من والده يستدعيه إلى إشبيلية، حيث كان قد ضيق عليها الخناق ولكنه لم يتمكن منها بالنظر لشدة المقاومة التي أبداها عرب إشبيلية؛ فزحف الدون ألفونسو من مرسية بجيش جرار، وفي الوقت نفسه وصل مدد آخر من ملك أراغون الذي كان مساعدا لملك قشتالة في حصار إشبيلية؛ فضغطت هذه الجيوش كلها مجتمعة على إشبيلية فلم يبق أمامها إلا التسليم؛ فسقطت إشبيلية في يد الملك سان فرناندو صاحب قشتالة في 22 ديسمبر سنة 1248.
وفي الفصل الثاني والعشرين ذكر الإسباني مؤرخ مرسية أن استيلاء مملكة أراغون على بلنسية سنة 1233 كان سببا في خروج جميل بن زيان بن مردنيش من تلك البلدة ببقايا جيشه ملتجئا إلى بلاد مرسية. فأقام بقرية من قراها، واعصوصب حوله رجال كثيرون، وأخذ شأنه يعظم؛ فاختل نظام الأمن في القرى المجاورة التي كانت بفضل إدارة الأمير ألفونسو القشتالي قد ذاقت طعم الراحة زمنا. ثم أخذ عرب بلنسية يهاجرون أوطانهم، فانضوى منهم كثير تحت لواء جميل هذا، فصار تحت يده جيش قوي الشكيمة، واحتل بعض المعاقل، فسرح إليه والي مرسية جيشا مؤلفا من العرب والإسبانيين تحت قيادة القائد العربي عزيز بن عبد الملك؛ لأجل القضاء على ثورة ابن زيان المذكور، فكان نصيب هذه الحملة الفشل التام وسقوط القائد عزيز بن عبد الملك قتيلا في المعركة.
فزاد هذا النشاط ابن زيان ومد سلطته على قرطاجنة ولورقة، ووجد في أمير لورقة محمد بن علي بن عبد الله خير عضد، وكان هذا من مهاجرة بلنسية، خرج منها مع ابن زيان، وتولى أمر لورقة؛ فأصلح شئونها وقام فيها بمصالح عمرانية مهمة، وأخذ في ذلك الوقت مكان ابن زيان يعلو وأمره يغلظ حتى في مرسية نفسها. وشعر ابن هذيل بضعف ملك قشتالة عن حمايته لما كان مشغولا به من الحروب في غربي الأندلس، وأخذ المسلمون المرسيون يراقبون الخلاف الناشب بين مملكتي قشتالة وأراغون، ويتتبعون سير الحوادث لتحقيق مطامعهم في إخراج المسيحيين من مرسية.
وفي ذلك الوقت توفي الملك سان فرناندو، وكانت وفاته في إشبيلية سنة 1252، وخلفه ابنه دون ألفونسو العاشر، وبايعه المسلمون والمسيحيون معا، ولكن لم تمض على هذه البيعة ثلاث سنوات حتى صارت مرسية على أتم الاستعداد للانتقاض والانقضاض على المسيحيين، فرأى ملك غرناطة ابن الأحمر أن الفرصة سانحة لإدخال مرسية في طاعته، فاتفق مع ابن هذيل على مقاومة ملك قشتالة؛ فاندلع لهيب الثورة في جميع تلك الجهات، وجرت على المسيحيين مذابح لم تشهد بلاد مرسية مثلها من قبل، ثم نادى المرسيون بمبايعة ابن الأحمر ملكا على مرسية كما هو ملك على غرناطة.
فلما بلغ الخبر ملك قشتالة الدون ألفونسو جمع زعماء مملكته واستشارهم في ما يجب أن يعمل؛ فأجمعوا الغارة على ملك غرناطة؛ لأنه هو قوة الظهر لعرب مرسية؛ فتوجه الملك ألفونس إلى إشبيلية وسرح جيشا في البر وأسطولا في البحر لمحاصرة قرطاجنة، فاستولى عليها، وبعد استيلائه عليها وجه حملاته على مرسية؛ فاستنجد ابن الأحمر وحليفه ابن هذيل يعقوب بن يوسف ملك المغرب، وقاومت مرسية مقاومة شديدة عجزت جيوش الملك ألفونس عن التغلب عليها.
وفي الفصل الثالث والعشرين ذكر المؤرخ الإسباني أنه لما عجز الملك ألفونسو عن أخذ مرسية كتب إلى ملك أراغون الدون خيمي يلتمس منه النجدة، فوعده ملك أراغون بالنصرة؛ لأنهما يد واحدة على المسلمين، غير أن ملك قشتالة كان يفكر في تتويج أخيه الدون مانويل ملكا على مرسية بعد تمهيد أمرها، ولم يكن ملك أراغون مرتاحا إلى هذه الفكرة، فحصل الأخذ والرد بينهما، وانحلت العقدة على وجه أن يتزوج الدون مانويل بابنة ملك أراغون. وكانت ملكة قشتالة؛ أي زوجة الدون ألفونسو، هي ابنة ملك أراغون أيضا، فكانت تغار من شقيقتها ولا تقدر أن تتصور هذه واضعة على رأسها تاج مرسية ملقبة بلقب ملكة؛ فبلغت الغيرة بين الشقيقتين أن راسلت ملكة قشتالة سلطان غرناطة ابن الأحمر على أن يترك المرسيين وشأنهم ويكون في مقابلة ذلك آمنا على مملكته غرناطة وتوابعها، وأن يسلم تاج مرسية إلى ملك قشتالة على شريطة أن يبقى على رأس مرسية أمير مسلم، وتم الاتفاق على ذلك، وأمضى هذا العهد ابن الأحمر وولي عهده، وأمضاه أيضا ملك قشتالة.
وبذلك وصلت الملكة إلى ما تريد، واستقامت العلاقات بين ملكي قشتالة وغرناطة، وأقبل كل منهما على شأنه. ولم ينس ابن الأحمر أن يأخذ الوعد من ملك قشتالة بالعفو عن ابن هذيل إذا غلب الملك على مرسية، فزحف ملك قشتالة ألفونسو على مرسية من جهة وزحف خيمي ملك أراغون من جهة أخرى، وكل منهما يريد مرسية، وخيف من القتال بينهما، ورأى ابن هذيل أنه واقع في يد أحد هذين الملكين المسيحيين، وأجمع أن يلوذ بابن الأحمر؛ فأفهمه هذا أن المقاومة عبث، وأنه هو أخذ على ملك قشتالة عهدا بأن يمن عليه بالعفو، ونصح له بتسليم مرسية دون مقاومة تجنبا لسفك الدماء.
وكان ملكا قشتالة وأراغون قد تفاديا الحرب بينهما على وجه أن ملك قشتالة يتابع فتوحاته في غربي الأندلس، وأن ملك أراغون يفتح مرسية، وانتهى الأمر على ذلك، واستسلمت مرسية لملك أراغون دون مقاومة، وذلك سنة 1295 فمن ملك أراغون على ابن هذيل بالحياة وفاء بعهد ملك قشتالة، لكنه اشترط عليه أن يعيش بين المسيحيين.
وفي هذا التاريخ سقطت مرسية العربية سقوطا نهائيا في أيدي المسيحيين، ولم تعد من بعدها إلى الإسلام أصلا.
وفي الفصل الرابع والعشرين يذكر المؤرخ الإسباني حالة مرسية وملحقاتها بعد أن استولى النصارى عليها الاستيلاء النهائي، قال: عز على عرب مرسية أن يروا أنفسهم خاضعين لأعدائهم بعد أن كانوا سادة البلاد، وأن يروا أموالهم وأملاكهم نهبا مقسما بين أعدائهم على مرأى ومسمع منهم، فكانت في قلوبهم جمرات تضطرم بالعداوة والبغضاء نحو المسيحيين (ونسوا أنهم هم جنوا على أنفسهم بالفرقة والخلاف ومحاربة ابن الأحمر والاستظهار بالطاغية عليه)، وكانوا يتحفزون للثورة، وكانت حاضرة مرسية على شيء من الهدوء، أما الأرباض والقرى المجاورة فكانت الثورة فيها علنية.
وكان ملك قشتالة يدرك خطورة الحالة، ويحرص على إبقاء مرسية في أيدي المسيحيين مهما يكلفه الأمر، فرجع إلى برغش وعزز جيشه فيها، ثم جاء وقابل ابن الأحمر، والتمس منه بحسب الهدنة التي بينهما أن يسير معه إلى مرسية لنصح المسلمين هناك بالسكون والتزام الطاعة لملك قشتالة. فسار الملكان المسلم والمسيحي معا، وأخذ ابن الأحمر يبين للمسلمين سفه الرأي بمقاومة الملكين المسيحيين ملك قشتالة وملك أراغون وهما على اتفاق تام بجميع قوتهما لاستبقاء مرسية في أيدي النصارى. فلما وصل ملك قشتالة وملك غرناطة معه إلى «سان استيفان» خرج ابن هذيل أمير مرسية البائس وترامى على أقدام ملك قشتالة طالبا العفو، فأطلق الملك سراحه بعد أن نزع عنه لقب ملك، وهكذا انتهت إمارة ابن هذيل.
وتابع الملكان سيرهما إلى مرسية ودخلاها بسلام، وولى ملك قشتالة عليها أبا عبد الله محمد بن هود أميرا بدلا من ابن هذيل، ولبث الملك المذكور في مرسية أربعة عشر شهرا ينظم أمورها، ويوزع أملاك المسلمين على رجاله من النصارى، ووقف كثيرا من هذه الأملاك على الكنائس والملاجئ. ثم رأى أن اختلاط مساكن العرب والمسيحيين يؤدي إلى دوام النزاع والشحناء بين الفريقين، فأصدر أمره المؤرخ في 5 يونيو سنة 1304 بنقل جميع مسلمي الحاضرة إلى مدينة «أريخاكا»، وذلك في مدة أربعين يوما، وكان لهم أن ينقلوا معهم أمتعتهم وأثاثهم إلى مساكنهم الجديدة، بشرط أن لا يحدثوا أي ضرر في المساكن التي يغادرونها في مرسية. وكذلك أمر جميع المسيحيين الساكنين في أريخاكا أن ينتقلوا إلى مرسية، وظن أنه إذا سكنت كل فئة منهما على حدة تقل حوادث النزاع بين الفريقين، فلما نفذ هذا الأمر لم يبق للمسلمين شأن يذكر في مرسية، وانكسرت شوكتهم، وكذلك كان شأن الأمير ابن هود بعد أن فارق المسلمون مرسية إلى أريخاكا، فقد أصبحت إمارته صورية أكثر منها عملية؛ فلذلك لم يذكر المؤرخون عنها شيئا ولا تكلموا على أحواله ولا على وفاته.
وفي الفصل الخامس والعشرين يذكر صاحب هذا التاريخ أن الخطة التي اتبعها الدون ألفونسو - ملك قشتالة - بعد سقوط مرسية في يده من نقل العرب إلى أريخاكا وإبعادهم عن الاختلاط بالمسيحيين كانت خطة سديدة رشيدة ظهرت نتائجها في استقرار الأمن، وانقطاع النزاع بين الفريقين، وأصبحت مرسية خالصة للمسيحيين، بل صار سكانها أشد رعايا قشتالة إخلاصا للملك وللمسيحية، وأخلد العرب إلى السكون بسبب هيبة الملك ألفونسو الذي كانوا يخشونه كثيرا.
ولكنه بعد أن مات الملك المشار إليه تجرأ العرب فعادوا إلى شأنهم الأول، وصاروا يكرون على الحدود المرسية فيخربون الديار ويدمرون الحصون ويحرقون المزارع، ويعودون إلى غرناطة بالأسلاب والأسرى من النصارى. فاضطر ملوك قشتالة الذين جاءوا بعد ألفونسو أن يسلكوا بإزاء عرب مرسية خطة الحزم والصرامة، وأن يوقعوا بهم وينكلوا تنكيلا؛ فأخذ شأنهم يضعف شيئا فشيئا، وما زالوا ينحطون يوما بعد يوم حتى وصلوا إلى حالة العجز التام، وأصبحوا لا يستطيعون أدنى حركة، لكنهم بالرغم من ذلك لم يستطيعوا الاتصاف بتلك الفضيلة اللازمة لكل شعب مغلوب على أمره، وهي فضيلة الرضا والتسليم، بل كانوا من وقت إلى آخر يرتكبون أعمالا تسوغ المعاملة القاسية التي كان يعاملهم بها المسيحيون، فمن ذلك ما حدث سنة 1353، وهو أن عربيا اسمه محمد أبو اللجا هام بحب مسيحية حسناء اسمها «ماريا هرناندس»، وأراد التزوج بها، فلم يجد إلى ذلك سبيلا إلا بواسطة مسيحي يقال له «الدون خوان دو ديوس»، فأمكن العربي بهذه الواسطة أن يتصل بالفتاة المسيحية، فلما ذاع الخبر قام المسيحيون وقعدوا لهذا الأمر، ووصلت القضية إلى المحاكم وإلى الملك، فصدر أمره بقتل العربي والمسيحي الذي توسط له، وأصبح هذا الأمر شريعة في مرسية من ذلك العهد.
وكان نشوب الفتن بين المسيحيين واشتعال الحروب الأهلية بين ملوكهم مما يسر عرب مرسية؛ لأنهم كانوا في أثناء هذه الفتن أحسن حالا، فكان لهم دور في النزاع الذي قام بين الملك ألفونسو والأمير دون خوان، وحاربت طائفة منهم إلى جانب الأمير خارجة عن طاعة الملك. وكان لا يزال في أريخاكا أمير عربي حتى بعد سقوطها في يد ملك قشتالة، وذلك كان ناشئا عن شغف الملك ألفونسو العاشر ببقاء أمراء من العرب في تبعيته وعن العهد الذي كان قد أخذه على نفسه بإبقاء ملك عربي في جوار مرسية. وفي الحقيقة لم يكن هذا الملك العربي إلا لقبا مجردا، ولم يكن في يده شيء من الحل والعقد، وكان المسلمون أنفسهم لا يبالونه.
وفي الفصل السادس والعشرين يذكر واقعة يقال لها واقعة «البورشوينس»؛ ففي سنة 1452 زحف من غرناطة جيش عظيم تحت قيادة محمد بن عبد البر الذي كان وزيرا لملك غرناطة محمد بن عثمان، فدخلوا أرض مرسية، والتقاهم المسيحيون في مكان يعرف بالبورشوينس، فبعد قتال شديد انهزم المسلمون وسقط كثير من قوادهم قتلى، ونجا ابن عبد البر ومعه ثلاثمائة من جنوده، فلما وصل بين يدي مولاه وقص عليه الفاجعة، وذكر له أسماء الذين فقدوا في المعركة استعظم الخسارة وقال لابن عبد البر: أما وقد جبنت عن الموت في ميدان الحرب ولم تمت كما مات أولئك الأبطال، فستموت موتة شنيعة كما يموت الأنذال، وأمر بقطع رأسه.
وفي الفصل السابع والعشرين يذكر حوادث الموريسك، وهم العرب الذين بقوا تحت حكم النصارى، وسنفرد جزءا كبيرا بأخبار الموريسك المذكورين إن يسر المولى، ونجعله الجزء الأخير من الكتاب، ولكننا أحببنا أن نذكر هنا خلاصة ما قاله المؤرخ المذكور عن موريسك مرسية، قال: عاش الموريسك في إمارة مرسية من بعد سقوطها في أيدي النصارى إلى الجلاء الأخير في ذل وهوان ليس عليهما مزيد، وكان المسيحيون يعاملونهم أقسى معاملة؛ فأخذ المسلمون يراسلون مسلمي المغرب ويأتمرون معهم على مملكة قشتالة؛ فصدر أمر فيليب الثالث بإجلاء هؤلاء القوم عن البلاد واستئصال شأفتهم منها، وفي الخطب التي نشرت من قلم السنيور فرنسيسكو كسكاليس - مؤرخ مرسية - وثائق مهمة تتعلق بجلاء العرب عن بلاد مرسية وغيرها من بلدان إسبانية التي كان قد بقي فيها منهم بقايا. فمن ذلك المنشور الذي صدر من الملك إلى الأمة الإسبانية مبينا فيه «دسائس العرب على الدولة وعلاقاتهم بكفار البلدان الأخرى»، وفيه الأمر بإخراج العرب بأجمعهم مع تعيين الأشخاص الذين عهد إليهم الملك بإتمام هذه المهمة في المرافئ الجنوبية والمقاطعات الداخلية.
ومن ذلك الأمر الملكي الذي نشر في ذلك الحين، وجاء فيه ما يأتي: في مدة ثلاثة أيام من نشر هذا الأمر يكون على جميع موريسك المملكة رجالا ونساء أن يغادروا البلاد، ويتوجهوا إلى قرطاجنة؛ ليكون منها خروجهم، ولهم أن يحملوا من متاعهم ما يستطيع كل فرد حمله بنفسه، وسينقلون إلى بلاد البربر في سفن تخصص لهذا الغرض، ومن خالف منهم الأمر يعاقب بالقتل.
كل مسلم يوجد بعد ثلاثة أيام في غير المكان الذي عين له، فيكون لأي شخص حق في القبض عليه وتقديمه إلى الحكومة؛ فإن امتنع وعارض فله أن يقتله.
كل مسلم يخفي ثروته لعدم استطاعته أن يحملها معه أو يحرقها أو يحرق مزرعته أو بيته يعاقب بالقتل.
للأطفال الذين لا يبلغ عمرهم الرابعة البقاء في البلاد إذا وافق على ذلك آباؤهم، فإن كانوا يتامى فأولياء أمورهم.
الأطفال الذين لا يبلغ عمرهم ست سنوات والذين آباؤهم من أصل مسيحي يجب أن يبقوا في البلاد، وتبقى معهم أمهاتهم، ولو كن موريسكيات. انتهى.
قال كسكاليس إنه بمجرد أن اطلع العرب الموريسكيون على هذا الأمر استولى عليهم أشد الحزن والألم لمفارقة الوطن الذي كانوا ألفوه، ولفقد المال والمتاع اللذين كان لا بد لهم من تركهما، وكان الرئيس الأول الذي أسند الملك إليه مهمة إجلاء العرب من إمارة مرسية هو «دون لويس فخاردو»، وصدر له الأمر بذلك بتاريخ 13 يناير سنة 1610، فخرج من مرفأ قرطاجنة من تاريخ 18 يناير سنة 1610 إلى 22 مارس من تلك السنة 6552 نفسا من العرب.
ومن تاريخ 26 أبريل سنة 1610 إلى أغسطس سنة 1611 خرج من نفس المرفأ 15189 نفسا، ثم في عاشر نوفمبر 1611 صدر أمر جديد أشد من سابقه بإخراج العرب أجمعين؛ لأنه بالاستعلامات السرية قد ثبت أنهم ما داموا موجودين في البلاد فلا يمكن الأمان لا على الدين ولا على العرش ولا على الوطن ولا على راحة السكان. وفي سنة 1618 أصدر الملك أمرا جديدا إلى الكونت «دوسالاسار» بالذهاب إلى مرسية وإخراج كل من بقي فيها من الموريسك، وأن يسفرهم من ثغر قرطاجنة فنفذ الأمر بتمامه. وكان هؤلاء يرفعون الصليب فوق منازلهم وأكواخهم إيهاما بأنهم مسيحيون وأملا أن يغضوا النظر عنهم، لكن الحكومة كانت عندها جداول بأسمائهم فلم تنفعهم هذه الحيل كلها، وكانت صفة إجلائهم مؤلمة جدا؛ فمنهم من كان يدفعه اليأس إلى تخريب منزله أو إضرام النار فيه وفي كل ما يملك، ومنهم من كان يصل به القنوط إلى أبعد من ذلك، فكانوا يقتلون أولادهم ثم ينتحرون.
وكان الكونت دوسالاسار يعاقب الذين تصدر منهم أفعال كهذه ويسهل للذين يطيعون الأوامر نقل أمتعتهم، ويأمر المسيحيين بأن لا يهينوهم. وكانوا يحشرونهم في أماكن معينة منتظرين أن يأتي دور كل فئة منهم في ركوب البحر، فمات منهم كثير في أثناء ذلك، منهم من مات جوعا، ومنهم من ماتوا بالأمراض، ومنهم من ماتوا جزعا من مفارقة وطنهم إلى بلاد أخرى لا يعرفونها، وإن عدد المسلمين الذين أجلوا عن مرسية وتوابعها في تلك النوبة يقدر بمائتين وستين ألف نسمة.
هكذا كانت نهاية العرب في مرسية بعد أن أقاموا فيها وفي البلاد التابعة لها ثمانية قرون، وبهذه الصورة تخلصت البلاد ونجا الدين من الخطر الذي كان يهددهما. انتهى كلام المؤرخ الإسباني.
ثم ذكر هذا المؤرخ أسماء مشاهير عرب مرسية، فوضع في رأسهم اسم عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي زعم أنه تنصر، وأن الجند العربي قتلوه من أجل ذلك.
وحبيب الفهري من قواد عبد العزيز بن موسى بن نصير، وهو الذي تولى مكانه بعد قتله.
وإحسان أبو قطن عدو الملك المسيحي «أتانايلد»، وهو الذي أجبر هذا الملك على الخروج من مرسية، وعبد الله بن رجمان الذي تتوج في قلعة قراباقة، وزهير ملك المرية الذي غلب على مرسية أيضا، وحسام بن ظهار عالم مرسية الكامل المولع بالزراعة، وهشام بن مالك الدمشقي فاتح مرسية الذي تولى الكتابة فيما بعد لعبد الرحمن ملك قرطبة، وسليمان شقيق هشام ملك قرطبة، وعبد الله شقيق هشام وسليمان السابق الذكر، والفضل بن عميسة أبو أفالية (لعله أبو العالية) قائد مرسية الفيلسوف الذي مات فيها سنة 812، وأفالية بن الفضل بن عميسة الذي خلف والده على مرسية، وعبد الرحمن ملك قرطبة؛ أول ملك في قرطبة بهذا الاسم من سلالة الخلفاء، ومحمد المنصور ملك قرطبة أيضا.
وأحمد بن الخطيب من أعيان مرسية وأغنيائها الذي أضاف ملكي قرطبة عبد الرحمن والمنصور، والمرتضي أبا محمد، هو أحد المسلمين الثلاثة الذين تغلبوا على مرسية سنة 1016، وعلي بن حمود الذي كان وزيرا لسليمان، والشيخ أبا بكر أحمد بن إسحاق الملقب بالمدلين الذي عرف في مرسية بعدله وسعة نفوذه، وأبا الهيثم أحد الذين غلبوا على مرسية سنة 1016، وأحمد بن طاهر الذي شارك أبا بكر أحمد بن إسحاق في حكم مرسية، وابن عباد والي إشبيلية الذي اشتهرت شجاعته ومقدرته في إمارة مرسية، والراضي بن عباد الذي غلب على مرسية واشتهر بخبرته بالفنون الحربية، وابن منذر أحد الذي تغلبوا أيضا على مرسية سنة 1016، وعبد الرحمن الطاهري الصقلبي ملك مرسية الذي استولى عليها مدة ثلاثين سنة، وعبد الله بن رشيق الذي غلب على مرسية أيضا وكان موفقا في حروبه، وأبا بكر الذي تولى أيضا مرسية وحصل على الملك بطريقة التزوير (أظنه يعني أبا بكر بن عمار الشاعر الذي قتله المعتمد بن عباد بيده).
والمعتمد بن إسماعيل الصاحب المزيف لأبي بكر، وأبا محمد بن الهاجد أمير لورقة الذي كان معنيا بالزراعة، وذا الوزارتين أحمد أبا عبد الله الذي ملك مرسية عشر سنوات، وعبد العزيز الذي اشتهر بالبسالة وكان محبوبا جدا في مرسية، وابن طاهر الوزير قائد جيش مرسية، وابن لب ملك مرسية الذي غادر العرش أثناء المدة التي استمرت فيها الفتن، ومحمد بن عبد الرحمن بن طاهر القيسي من سلالة تدمير أمير مرسية الإسباني، وأبا محمد بن الحاج الذي اشتهر بشجاعته ومعرفته بفنون الحرب، وعبد الرحمن بن جعفر بن إبراهيم محبوب المرسيين الذين انضموا إلى حزبه، وعبد الله بن فطن الثغري الطاغية الذي لقي حتفه في النهر (في أثناء معركة تقدم ذكرها)، وأبا جعفر بن أبي جعفر أمير مرسية، والمستنصر بن حمدان أمير مرسية الذي مات في معركة البسيط، وأبا العباس بن هذيل قاضي مرسية المحارب الشجاع، وسيف الدولة بن هود ملك قرطبة ثم مرسية، وذا النون الذي كان أميرا في أوريولة، وشارك في قيادة الجيوش المرسية.
وعبد الرحمن بن عبد الرحمن الظالم الذي تولى مرسية، وأبا محمد صاحب ابن حمدين الحميم والمدافع عنه، وابن سوار الذي انهزم في معركة البسيط، وهو رفيق السابق، والفلفلي الأموي من أنصار ابن طاهر من سلالة بني هود، وابن عياض أبا محمد قاضي بلنسية الذي صار أميرا على مرسية، ومحمد بن سعد بن مردنيش نائب أمير مرسية، وعبد الله بن سعد نائب بلنسية، وابن فداء قاتل الثغري، وعلي بن عبيد الله أبا الحسام والي مرسية، وابن همشك أمير شقورة وقلاعها، وابن همشك وزير مرسية الثاني، وابن هود الجذامي ملك مرسية، وزيدا أبا زيد ملك مرسية، وعبد الله العلي الذي عرف بمرسية بملابسه الفاخرة، وعلي بن يوسف عضد الدولة ملك مرسية، وأبا جميل بن مظفر الذي حارب مع المرسيين في معركة أقليش.
وابن هذيل من ذرية بني هود ملك مرسية، وعزيز بن عبد الملك وزير مرسية، وابن الأحمر ملك غرناطة، ومحمد بن علي أبا عبد الله والي لورقة الشجاع القوي المزارع الكبير المحبوب عند جيرانه، ومحمد بن هود الذي انتخب ملكا على مرسية برأي خيمي الأول ملك أراغون، وأبا بكر بن عامر الذي استولى على «موله» سنة 1079، ومحمد بن أحمد الذي اعتزل في حصن «مونقوده» سنة 1094، ومحمد بن رافع أبا العباس العالم الشهير المولود في مرسية الذي نال الحظوة لدى ملوك العرب، ومات في سن الأربعين، وأبا عمر إبراهيم التجيبي الفلكي قاضي مرسية. وابن عتالة رئيس مرسية أصله من غرناطة، وهو حيسوبي ومزارع كبير، وعبد الرحمن بن عبد العزيز الخطيب السرقسطي المستشار المرعي في مرسية، وأحمد أبا جعفر نائب مرسية من الذين أصلحوا الزراعة فيها، وعبد الملك من مرسية الذي كان مثالا للفضيلة، وكان خطيبا وشاعرا وفيلسوفا وعالما بفن الزراعة، وعاشر بن مرقية (كذا) أصله من بسطة حاكم مرسية، وكان مؤلفا ممتازا في فنون شتى، وابن عياض العالم الحاكم واسع الثروة الذي كان المرسيون يحبونه حبا جما، ومحمد بن أبي ناصر خطيب مرسية أصله من طبالة، وأبا الفضل المرسي العالم الشاعر الذي مات في مرسية فأظهر المرسيون في جنازته عظيم آلامهم لفقده.
وعبد الجبار بن موسى المرسي من قراء القرآن، توفي سنة 871 المسيحية، وفضل بن فضل بن عميسة من مرسية مستشار الملوك المتوفى سنة 872، وشمس الدين المرسي رئيس جماعة العلماء في غرناطة، وأبا جمرة المرسي مؤلف الكتب العشرة في العربية في إسبانيا، ولا تزال كتب أبي جمرة مستمرة في المغرب، وابن الشنجالي من فقهاء مرسية الذي كان من أبرع علماء مرسية في علم الكلام، وابن حافد الأمين النحوي الفقيه من علماء مرسية، وابن برطله المرسي المتوفى سنة 1181 المسيحية، ومولده عام 1092، وعبد الله الضراع الكاتب الحسابي المرسي، توفي سنة 1176، ومحمد التجيبي المرسي حاكم أوريولة الذي كان عالما شاعرا مؤلفا في الفقه، توفي سنة 1212، ومحمد اللخمي المؤرخ، توفي في مرسية سنة 1124، وحسن الكتاني الشاعر المرسي، توفي سنة 1236، وتونس بن إسحاق الشاعر المرسي الذي كان كاتبا للخليفة أبي عبد الله، وأبا الرجال بن غالب المرسي الوزير الشاعر، وأبا موسى بن عبد الواحد الشاعر المؤلف، والحزمي العالم المتضلع من إمارة مرسية.
والبخاري المرسي الذي كان متفوقا في الشعر، ومحمد بن جهور من أعيان مرسية، وأبا جعفر القطان من مشاهير مرسية توفي سنة 1236، والصنهاجي المولود في قلعة حماد المتوفى سنة 1231، وأبا جعفر الخمار الشاعر المرسي، وابن عبد السلام المرسي الطبيب المؤلف في الطب، ومحمد التجيبي المرسي الكاتب المؤلف (ألف كتاب فياتوريس)، والمرادي المولود في «جمالة» مؤرخ مرسية، وعلاش بن شاهين (كذا) الكاتب المتكلم المتصوف المرسي مفسر القرآن، الذي تناظر مع العلماء المسيحيين (لعله يعني ابن سبعين)، ومحمد بن لبون أمير لورقة الذي استطاع أن ينال لقب ملك، وأبا القاسم ذا الوزارتين الذي تلقب بملك لورقة الشاعر النبيل، وأبا الحسن الأنصاري بن محمد، أصله من قرطاجنة من شعراء مرسية، العالم المتضلع، الذي نظم قصيدة ألف بيت، وابن عطاف أصله من قرية بني عطاف من سلالة بني عطاف الذين اشتهروا بهذا الاسم نسبة إلى موطنهم.
والمؤلف يعتذر عما عسى أن يكون قد وقع في أسماء الأشخاص والأماكن من غلط، فيقول إنه بذل كل مجهوده بتصحيح الأسماء، وأن السماء قد تختلف من عصر إلى عصر؛ لأن الخصومات السياسية تؤدي إلى حذف الألقاب وتغييرها؛ مما يؤدي إلى حيرة المؤرخ واضطرابه بين الأسماء والألقاب المختلفة بشخص واحد. انتهى.
قلت: ونحن بسبب اختلاف اللفظ بين العرب والإسبانيين، وما يمكن أن يطرأ من وهم على مؤرخيهم في أسماء رجالنا لم نحاول إبداء ملاحظات على هذا الجدول إلا قليلا. على أن قسما كبيرا ممن ذكرهم وارد في أسماء علماء مرسية الذين سيرد ذكرهم كما ترى. (2) ذكر من انتسب إلى مرسية من أهل العلم
نبغ في مرسية من العلماء والأدباء والمتصوفة والأولياء عدد كبير يجعل هذه المدينة في الدرجة العليا من الترقي الفكري، لا في العالم الإسلامي وحده، بل في العالم كله على الإطلاق. وإذا قيل إن مرسية كانت أول بلدة علمية وأول بلدة زراعية في الغرب لم يكن في هذا القول شيء من المبالغة.
نبغ في مرسية محمد بن محمد بن يبقى، كان فقيها، أخذ عن ابن ورد وعن أبيه محمد، وكان يكتب الشروط بمرسية، وبها توفي بعد سنة 570، ذكره ابن عميرة في بغية الملتمس، كذلك ذكره ابن الأبار في تكملة الصلة، وقال إنه سمع داود بن يزيد، وأبا الحسين بن الضحاك، وكان موصوفا بالصلاح والعدالة يعقد الشروط، وأخذ عنه ابن مسدي.
ومحمد بن طرافش الهاشمي أبو عبد الله، فقيه مقرئ فاضل، تولى الأحكام بمرسية، وتوفي وهو خطيب جامعها وصاحب الصلاة به في سنة 592، ذكره ابن عميرة في البغية، وكذلك ذكره ابن الأبار في التكملة، وضبط اسمه بفتح الطاء وتشديد الراء وألف وفاء مفتوحة بعدها شين قائلا: هكذا قرأت اسمه بخطه، وهو من أهل شنتمرية الشرق، وسكن مرسية، يكنى أبا عبد الله، كان من الصلحاء الفضلاء مع التيقظ وبراعة الخط، وولي الصلاة والخطبة بجامع مرسية، قال ابن الأبار: ووقفت على ما أشهده به القاضي أبو عبد الله بن حميد في رمضان سنة 579، ولا أدري أله رواية عنه أم لا.
وأبو عبد الله محمد بن طاهر الحاج. قال ابن عميرة في البغية: القاضي صاحبنا سمع بمصر من محمود بن أحمد بن علي المحمودي الصابوني بقراءتي عليه، وبالإسكندرية من أبي عبد الله الحضرمي، توفي بمرسية سنة 591.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الخزرجي، يعرف بابن الفرس، فقيه عارف محدث، كان يفتي بمرسية، وأقرأ بها مدة، روى عن جماعة أئمة أعلام، منهم غالب بن عطية، وعلي بن أحمد بن خلف، وأبو بحر سفيان بن العاصي، وعلي بن أحمد بن كرز، وأبو محمد بن عتاب، وعبد القادر بن الحناط، وأبو الوليد محمد بن رشد، وموسى بن عبد الرحمن بن خلف بن جوشن، وأبو بكر بن العربي، وأبو الحسن بن مغيث، وابن زغيبة، وغيرهم، ذكر في فهرسته أنه روى عن خمسة وثمانين رجلا. قال ابن عميرة في البغية: ولم يزل يقرئ الحديث والفقه إلى أن توفي، وقد أدركته ورأيته، لكني لم أقرأ عليه.
وأبو عبد الله محمد بن عمر الصدفي صاحب أحكام القضاء بمرسية فقيه يروي عن أبي علي بن سكرة وغيره، ذكره ابن عميرة.
وأبو عبد الله محمد بن مالك بن محمد الغافقي القاضي، فقيه عارف، تفقه بقرطبة، وروى عن أبي بكر بن العربي، وحضر إملاءه لكتاب «القبس في شرح موطأ مالك بن أنس»، وكان يكتب الشروط بمرسية، وبها توفي سنة 586، ذكره ابن عميرة في البغية، وذكره أيضا ابن الأبار في التكملة، وقال إنه محمد بن مالك بن محمد بن مالك، من أهل مرسية، يعرف بالمولي نسبة إلى بعض أعمالها،
19
لقي أبا بكر بن العربي وسمع منه مسلسلاته، قال: ولا أعلم له رواية عن غيره. وكان فقيها على مذهب مالك حافظا له، بصيرا به، مقدما في علم الرأي، وولي قضاء بعض الكور الشرقية، وتولى النيابة عن أبي القاسم بن حبيش أيام قضائه بمرسية، وقد أخذ عنه، وتوفي بمرسية في حدود التسعين وخمسمائة.
ومحمد بن مفرج بن أبي العافية أبو عبد الله، كان يكتب الشروط بمرسية، وكان من أهل الفهم والذكاء والمعرفة بأنساب أهل مرسية بلده وأخبارهم، وكان مكسرا عارفا بأملاك مرسية كلها، حافظا لكتاب الله، أديبا. قال ابن عميرة في البغية: روى عن أكثر أشياخي، وعن ابن مدرك وغيره، توفي بمرسية سنة 587.
ومحمد بن يبقى الأموي، من أهل مرسية، فقيه حافظ عارف متفنن، كان له مجلس بمرسية في طريقة الوعظ مشهور، توفي بمرسية، ذكره ابن عميرة في البغية.
وأحمد بن محمد بن زيادة الله الثقفي، المعروف بالحلال، قال ابن عميرة فيه: قاضي قضاة الشرق، فقيه محدث، من أهل بيت جلالة ورئاسة وفضل واشتمال على الغرباء، قرأ على الحافظ أبي علي الصدفي وغيره، وحدث بمرسية، وكان كهفا للغرباء في وقته، ولد سنة 498، وتوفي سنة 554.
وأحمد بن أبي عمر أحمد بن محمد الأزدي القاضي أبو الحسن، يعرف بابن القصير، غرناطي فقيه مشاور محدث، يروي عن أبي الأصبغ بن سهل، وأبي علي الغساني، وأبي بكر محمد بن سابق الصقلي المتكلم، وأبي عبد الله بن فرج، وأبي عبد الله بن علي بن حمدين، وأبي عبد الله بن سليمان بن خليفة، وأبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب، قال ابن عميرة في البغية: قيدت فهرسته بخط يدي، وقرأتها بمرسية على ابنه الفقيه الأديب أبي جعفر.
وأبو العباس أحمد بن رشيق الكاتب، وكان أبوه من موالي بني شهيد، ونشأ هو بمرسية، وانتقل إلى قرطبة، وطلب الأدب فبرز فيه وبسق في صناعة الرسائل مع حسن الخط المتقن إلى النهاية، وشارك في سائر العلوم، وبلغ من رئاسة الدنيا أرفع منزلة، وقدمه الأمير الموفق أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامري على كل من في دولته لأسباب أكدت له ذلك عنده من المودة والثقة والنصيحة، فكان ينظر في أمور الجهة التي كان فيها نظر العدل والسياسة، ويشتغل بالفقه والحديث، ويجمع العلماء والصالحين ويؤثرهم، ويصلح الأمور جهده.
قال الحميدي: وما رأينا من أهل الرئاسة من يجري مجراه مع هيبة مفرطة وتواضع وحلم عرف به مع القدرة، مات بعد الأربعين وأربعمائة عن سن عالية. وله رسائل مجموعة متداولة، منها الرسالة إلى أبي عمران موسى بن عيسى بن أبي الحاج الفاسي وأبي بكر بن عبد الرحمن فقيهي القيروان في الإصلاح بينهما. وله كلام مدون على تراجم كتاب الصحيح لأبي عبد الله البخاري ومعاني ما أشكل من ذلك.
قال الحميدي: وقد رأيته غير مرة إذا غضب في مجلس الحكم أطرق ثم قام ولم يتكلم بين اثنين، فظننته كان يذهب إلى حديث أبي بكرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لا يحكم حاكم بين اثنين وهو غضبان. قال الحميدي: حدثنا الرئيس أبو العباس أحمد بن رشيق الكاتب، قال: كنت في سن المراهقة بتدمير أول طلبي للنحو إذ دخل إلينا على البحر رجل أسمر ذكر أنه من بني شيبة حجبة البيت، وأنه يقول الشعر على طبعه ولا يقرأ ولا يكتب، وكان يقول إنه دخل عليه اللحن بدخول الحضر، وكان يسأل أستاذنا أن يصلح له اللحن، ويسألني كثيرا أن أكتب أشعاره بمدائح القائد ... ومما بقي في حفظي من شعره:
يا خليلي من دون كل خليل
لا تلمني على البكا والعويل
إن لي مهجة تكنفها الشو
ق وعينا قد وكلت بالهمول
كلما عودت هتوف العشايا
والضحى هيجت كمين غليلي
ذات فرخين في ذرى أثلاث
هدلات غضف الذوائب ميل
لم يغيبا عن عينها وهي تبكي
حذر البين والفراق المديل
أنا أولى لغربتي وانتزاحي
واشتياقي منها بطول العويل
حل أهلي بالأبطحين وأصبح
ت مع الشمس عند وقت الأفول
وأبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن إدريس، صاحب الأحكام بمرسية، فقيه محدث عارف، يروي عن العبسي أبي الحسن، وأبي محمد بن أبي جعفر، وغيرهما، توفي سنة 563.
وأبو عامر أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد، أشجعي النسب، من ولد الوضاح بن رزاح الذي كان مع الضحاك يوم المرج.
20
وهذا الوضاح هو جد بني وضاح، من أهل مرسية وإليه ينتسبون، فبنو وضاح من أشجع، وأشجع من قيس بن عيلان بن مضر، وأبو عامر هذا من العلماء بالأدب ومعاني الشعر، وله حظ من ذلك بسق فيه، ولم ير لنفسه في البلاغة أحدا يجاريه، وله كتاب «حانوت عطار»، وسائر رسائله وكتبه نافعة الجد كثيرة الهزل، وشعره كثير مشهور، وقد ذكره أبو محمد بن علي بن أحمد مفتخرا به فقال: ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد، ومن أبياته المختارة قوله:
وما ألان قناتي غمز حادثة
ولا استخف بحلمي قط إنسان
أمضي على الهول قدما لا ينهنهني
وأنثني لسفيهي وهو حردان
ولا أقارض جهالا بجهلهم
والأمر أمري والأعوان أعوان
أهيب بالصبر والشحناء ثائرة
وأكظم الغيظ والأحقاد نيران
وما لساني عند القوم ذو ملق
ولا مقالي إذا ما قلت إدهان
ولا أفوه بغير الحق خوف أخي
وإن تأخر عني وهو غضبان
ولا أميل على خلي فآكله
إذا غرثت وبعض الناس ذؤبان
إن الفتوة فاعلم حد مطلبها
عرض نقي ونطق فيه تبيان
بالعلم يفخر يوم الحفل حامله
وبالعفاف غداة الجمع يزدان
ود الفتى منهم لو مت من يده
وإنه منك ضخم الجوف ملآن
وقوله:
ألمت بالحب حتى لو دنا أجلي
لما وجدت لطعم الموت من ألم
وزادني كرمي عما ولهت به
ويلي من الحب أو ويلي من الكرم
وقوله:
كتبت لها أنني عاشق
على مهرق الكتم بالناظر
فردت علي جواب الهوى
بأحور في مائه حائر
منعمة نطقت بالجفون
فدلت على دقة الخاطر
كأن فؤادي إذا أعرضت
يعلق في مخلبي طائر
وقوله - وقد أصاب لعمري جدا:
أقل كل قليل جد ذي أدب
بين الورى وأقل الناس إخوان
وما وجدت أخا في الدهر يذكرني
إذا سما وعلا يوما به الشان
قال أبو محمد علي بن أحمد: توفي أبو عامر بن شهيد ضحى يوم الجمعة آخر يوم من جمادى الأولى سنة 426 بقرطبة، ودفن يوم السبت ثاني يوم وفاته في مقبرة أم سلمة، وصلى عليه جهور بن محمد بن جهور أبو الحزم. وكان حين وفاته حامل لواء الشعر والبلاغة، ولم يخلف لنفسه نظيرا في هذين. وكان مولده سنة 342، ولم يعقب، وانقرض عقب الوزير ابنه بموته. وكان جوادا لا يأسى على فائت، عزيز النفس، مائلا إلى الهزل. وكان له من علم الطب نصيب وافر. ومات وهو حافظ ذهنه يدعو الله - عز وجل - ويتشهد شهادة التوحيد والإسلام. وكان أوصى أن يصلي عليه أبو عمر الحصار الرجل الصالح. كل هذا عن ابن عميرة.
وأبو جعفر أحمد بن علي بن خلف بن طرشيل الأستاذ بمرسية، نحوي أديب لغوي، توفي سنة 473، ترجمه ابن عميرة.
وأحمد بن مسلمة بن وضاح أبو جعفر، أديب شاعر من فحول الشعراء، مرسي الأصل، من جملة شعره:
ولما شارف الميدان أضحى
يعلم لحظه شق الصفوف
ثنى أعطافه قبل العوالي
وسل لحاظه قبل السيوف
وله في شجر السرو:
أيا سرو لا يعطش منابتك الحيا
ولا مر عن أغصانك الورق النضر
لقد كسيت أعطافك الملد مثلما
تلف على الخطي راياته الخضر
ترجمه ابن عميرة في البغية.
وأبو أمية إبراهيم بن عصام القاضي بمرسية، فقيه أديب شاعر، من أهل بيت جلالة ووزارة، يروي عن القاضي أبي علي بن سكرة، وقد قال فيه أبو محمد بن سفيان قطعة أولها:
امرر بقاضي القضاة إن له
حقا على كل مسلم يجب
وكان بليغا متصرفا في أنواع البلاغة، كتب إليه أبو الحسن بن الحاج:
ما زلت أضرب في علاك بمقولي
دأبا وأورد في رضاك وأصدر
فاليوم أعذر من يطيل ملامة
وأقول: زد شكوى فأنت مقصر
فأجابه:
الفخر يأبى والسيادة تحجر
أن يستبيح حمى الوفاء مزور
ولدي إن نفث الصديق لراحة
صدق الوفاء وشيمة لا تغدر
وعليك أن ترضى فسمع ملامة
عين الثناء وعهدة لا تخفر
وكتب إليه أبو العباس القرباقي:
21
أما ترى اليوم يا ملاذي
يحكيك في البشر والطلاقه
والبحر يرتج مثل قلب
راقب من إلفه فراقه
فامنن بمشي إلي إني
ما لي على الصبر عنك طاقه
فأجابه:
عندي لما تشتهي بدار
يشهد أني على علاقه
فاخبر بما شئت صدق عهدي
تجد دليلا على الصداقه
واسكن إلى رأي ذي احتفاء
يعجز من رامه لحاقه
ترجمه ابن عميرة في البغية، وقال إنه توفي سنة 516.
والطيب بن محمد بن هارون العتقي، مرسي فقيه، توفي سنة 328، ذكره ابن عميرة.
وبشر بن محمد أبو الحسن، محدث زاهد فاضل، توفي بمرسية بعد الخمسمائة، ذكره ابن عميرة أيضا.
وأبو غالب تمام بن غالب بن عمر المعروف بابن التياني المرسي، كان إماما في اللغة وثقة فيها، مذكورا بالديانة والعفة والورع، وله كتاب مشهور جمعه في اللغة لم يؤلف مثله، وله فيه قصة تدل على فضله مضافا إلى علمه؛ أخبر أبو محمد علي بن أحمد قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي أن الأمير أبا الجيش مجاهد بن عبد الله العامري، وجه إلى تمام بن غالب أيام غلبته على مرسية، وأبو غالب ساكن بها، ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد؛ فرد الدنانير، وأبى من ذلك، ولم يفتح في هذا بابا البتة، وقال: والله لو بذلت لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه له خاصة، لكن لكل طالب علم. قال ابن عميرة في البغية وقد روى هذه القصة: فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها. توفي أبو غالب تمام سنة 436، وفيها مات أبو الجيش المجاهد الموفق بدانية.
وخطاب بن أحمد بن خطاب فقيه عارف، من أهل مرسية، روى عن الحافظ أبي بكر بن العربي وغيره، وتفقه بقرطبة. قال ابن عميرة في البغية: وكان ذكيا، جالسته كثيرا، توفي قبل الثمانين وخمسمائة.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الخشني، واحد وقته بشرق الأندلس حفظا ومعرفة وعلما بالفروع وسبقا فيها غير منازع، مشهور بالفضل، محافظ على نشر العلم وصونه، تعظمه الأمراء وتعرف له حقه، وتتبرك به وبصالح دعائه، ولم يكن قبله ولا بعده بمرسية أكثر صدقة منه، قاله ابن عميرة في البغية، وأردف ذلك بقوله: ولم يزل كذلك طول حياته إلى أن توفي. أخبرت عنه أنه اشترى ذات يوم فرسا في السبيل لبعض المجاهدين، واجتمع عنده البائع والمشترى له، وحضر الثمن فبكى البائع، فقال له: ما يبكيك؟ ترانا نقصناك من ثمن فرسك؟ قال: لا، ولكني أبيعه في افتكاك ابن لي مجاهد أسره العدو قصمه الله. فقال له: وبكم افتككته؟ فقال: بكذا، لعدد أكثر من ثمن الفرس؛ فأخرج له فدية ابنه ودفع إليه فرسه، وأمر باشتراء فرس آخر لذلك المجاهد بثمن ذلك الفرس. ومن هذا كثير جدا.
روى عن حاتم بن محمد الطرابلسي وغيره، ورحل فحج وانصرف، ولم يزل يقرئ الحديث والفقه بمرسية إلى أن توفي بها سنة 526، ومولده سنة 447، قال ابن عميرة: حدثني عنه ابن عم أبي، قرأ عليه سنة 513، وقد جاءت ترجمة هذا الفاضل في الصلة لابن بشكوال، ذكر أنه روى عن أبي الوليد الباجي، وأبي عبد الله بن سعدون القروي، وأنه أخذ بطليطلة عن أبي المطرف عبد الرحمن بن محمد بن سلمة، قال: ورحل إلى المشرق فحج وسمع صحيح مسلم بن الحجاج من أبي عبد الله الحسين الطبري، وكان حافظا للفقه على مذهب مالك، مقدما فيه على جميع أهل وقته، بصيرا بالفتوى، عارفا بالتفسير، وانتفع طلاب العلم بصحبته وعلمه، وكان رفيعا عند أهل بلده مرسية، كثير الصدقة والذكر لله تعالى، كتب إلينا بإجازة ما رواه بخطه، وتوفي - رحمه الله - لثلاث خلون من شهر رمضان سنة 526 بمرسية، ومولده سنة 447. انتهى ملخصا عن ابن بشكوال.
وعبد الله بن محمد النفزي المرسي أبو محمد الخطيب، توفي سنة 538، ذكره ابن عميرة في البغية، وذكره ابن بشكوال في الصلة، وقال فيه إنه كان رجلا صالحا.
22
وعبد الرحيم الشموقي أقرأ بمرسية القرآن والعربية والحساب. قال ابن عميرة في البغية: قرأت عليه بها أشهرا، وخطب بجامع مرسية مدة، وله تأليف في القراءات وأرجوزة عارض فيها أرجوزة ابن سيده. وكان - رحمه الله - فاضلا، إذا خرج من منزله لا يلقى صغيرا ولا كبيرا إلا سلم عليه، أخبرني بعض أصحابنا أنه سلم عنده ذات يوم على جماعة من الفتيان فقاموا كلهم إجلالا للفقيه، فوقف وأنشد:
لما مررت بماجد جلساؤه
أبناء قوم أسسوا الأفضالا
قاموا إلي ولست أكرم منهم
عما ولا جدا ولا أخوالا
لكنهم نظروا إلى أحسابهم
فأرتهم الإجلال والإجمالا
وعبد العزيز بن محمد اليحصبي المعروف بالبلبي، كان صاحب الأحكام والحسبة بمرسية مدة، وكان نحويا عارفا بأبيات المعاني ذكيا، توفي على خير عمله بمرسية في سنة 580.
وعبد الجبار بن موسى بن عبيد الله الجذامي ثم السماني، أقرأ بمرسية القرآن والنحو والآداب، وكان مشهورا، من أهل الحذق والنباهة والدين والفضل، ذكره ابن عميرة.
وأبو محمد عاشر بن محمد بن عاشر، فقيه عارف شروطي موثق، ولي القضاء بمرسية، وكان من أعرف الناس بكتب الوثائق، ألف في شرح المدونة. قال ابن عميرة: حدثني عنه عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم، يروي عن أبي علي الصدفي وغيره.
وعيسى بن عبد الرحمن السالمي المقرئ بمرسية، توفي سنة 498.
وعلي بن محمد بن زيادة الله الثقفي، يعرف بابن الحلال، من أهل بيت وجلالة وفقه وفضل، فقيه عارف، كان يقرئ المدونة بمرسية، وتوفي بعد الخمسمائة، ذكره ابن عميرة، وكان ذكر قبله أحمد بن محمد بن زيادة الله من بني الحلال.
وأبو الخيار مسعود بن خلف بن عثمان العبدري، من علماء مرسية، ذكره ابن عميرة، وقال إن له رحلة، وكان يروي كتاب الشهاب عن القضاعي، ورواه عنه أبو محمد بن أبي جعفر.
وأبو الحجاج يوسف بن إبراهيم العبدري المعروف بالثغري، فقيه محدث، راوية عارف أديب، انتقل إلى مرسية في الفتنة، وصار خطيبا بقليوشة من قرى مدينة أوريولة، واقتنع ولم يتعرض لظهور. قال ابن عميرة: وكان لمعرفته قد غص به جماعة من الفقهاء بمرسية حين وصلها، فسعوا له في الخطبة بجامع قليوشة المذكورة، وانتقل إليها، سمعت عليه بعض كتاب الموطأ، وكان يروي عن جماعة، منهم الحافظ أبو بكر (أي ابن العربي)، وأبو الحسن بن مغيث، وأبو الوليد بن رشد.
وأبو القاسم أحمد بن إبراهيم بن محمد، يعرف بابن أبي ليلى، من أهل مرسية، روى عن أبي الوليد هشام بن أحمد بن وضاح المرسي، وأبي الوليد الباجي، وأبي العباس العذري، وغيرهم، وكانت عنده معرفة بالأحكام وعقد الشروط. قال ابن بشكوال في الصلة: كتب إلينا بإجازة ما رواه بخطه، واستقضي بشلب، وتوفي بها فجأة سنة 514، ومولده سنة 449.
وإسماعيل بن سيده، والد أبي الحسن بن سيده، من أهل مرسية، لقي أبا بكر الزبيدي، وأخذ عنه مختصر العين، وكان من النحاة ومن أهل المعرفة والذكاء، وكان أعمى، وتوفي بمرسية بعد الأربعمائة بمدة، ذكر ذلك ابن بشكوال في الصلة.
وأبو عبد الله الحسن بن إسماعيل المعروف بابن خيزران، من أهل مرسية، روى عن أبي بكر بن معاوية القرشي وغيره، حدث عنه أبو عبد الله بن عابد، وقال: لقيته بتدمير. وذكر أنه استقضي بالجزائر الشرقية أعمال ابن مجاهد، ذكره ابن بشكوال في الصلة.
وأبو بكر الحسن بن علي بن محمد الطائي المرسي، يعرف بالفقيه الشاعر؛ لغلبة الشعر عليه، روى عن أبي عبد الله بن عتاب، وأبي عمر القطان، وأبي محمد بن المأموني، وأبي بكر ابن صاحب الأحباس، وأبي العباس العذري، وغيرهم، وله كتاب في النحو سماه المقنع في شرح كتاب ابن جني. وتوفي في رمضان سنة 497، ومولده سنة 412، قاله ابن بشكوال في الصلة.
والحسين بن إسماعيل بن الفضل العتقي، من أهل مرسية، له رحلة إلى الشرق، لقي فيها أبا محمد بن أبي زيد وغيره، وكان عالما بالأخبار والأشعار، وتوفي سنة 412، ذكره ابن بشكوال نقلا عن ابن مدير.
وأبو عثمان سعيد بن هارون بن سعيد، من أهل مرسية، يعرف بابن صاحب الصلاة، روى عن أبي عمر الطلمنكي وغيره، وتوفي عند الثلاثين والأربعمائة، ذكره ابن بشكوال في الصلة.
وأبو محمد عبد الله بن سيد العبدري، يعرف بابن سرحان المرسي، روى عن أبي الوليد بن ميقل وغيره. وكان يتقن عقد الشروط ويعرف عللها، وله كتاب فيها سماه المفيد قد عول الناس عليه، وله كتاب حسن في شرحه. روى عنه أبو عبد الله محمد بن يحيى وغيره، ذكره ابن بشكوال في الصلة.
وأبو محمد عبد الله بن سعيد بن هارون المرسي، روى عن أبي عمر الطلمنكي، وأبي الوليد بن ميقل، وغيرهما، وتوفي سنة 461، ذكره ابن بشكوال في الصلة.
وأبو محمد عبد الله سهل بن يوسف الأنصاري المرسي، أخذ عن أبي عمرو المقري، وأبي عمر الطلمنكي، وأبي محمد مكي بن أبي طالب. ورحل إلى المشرق، وأخذ بالقيروان عن أبي عبد الله محمد بن سفيان، وأبي عبد الله محمد بن سليمان الأبي. وكان ضابطا للقراءات عارفا بطرقها، أخذ الناس عنه. قال ابن بشكوال في الصلة: وسمعت شيخنا أبا بحر يعظمه ويذكر أنه أخذ عنه، وتوفي برندة من نظر قرطبة سنة 480.
وأبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن طاهر، روى ببلده مرسية عن أبي الوليد بن ميقل، وبقرطبة عن أبي القاسم بن الأفليلي، وأبي عبد الله بن عتاب، وأبي عمر بن القطان وغيرهم، ورحل إلى المشرق وحج، وأخذ عن أبي ذر الهروي، وكريمة المروزية، وغيرهما. وكان فقيها مشاورا ببلده، وتوفي سنة 469 عن اثنتين وستين سنة، ترجمه ابن بشكوال في الصلة، ونقل تاريخ وفاته عن ابن مدير.
وأبو الحسن علي بن إسماعيل، يعرف بابن سيده الأندلسي المرسي، روى عن أبيه، وعن أبي عمر الطلمنكي، وصاعد اللغوي، وغيرهم، وله تواليف حسان منها كتاب المحكم في اللغة، وكتاب المخصص، وكتاب الأنيق في شرح الحماسة، وغير ذلك. وذكر الوقشي عن أبي عمر الطلمنكي قال: دخلت مرسية فتشبث بي أهلها ليسمعوا علي غريب المصنف، فقلت لهم: انظروا من يقرأ لكم وأمسك أنا الكتاب. فأتوني برجل أعمى، يعرف بابن سيده فقرأه علي من أوله إلى آخره؛ فعجبت من حفظه، وكان أعمى ابن أعمى. وذكره الحميدي وقال: إمام في اللغة والعربية، حافظ لهما، على أنه كان ضريرا، وله في الشعر حظ، ومات بعد خروجي من الأندلس قريبا من سنة 460، وقال القاضي صاعد بن أحمد: توفي سنة 458، وقد بلغ ستين سنة ونحوها.
23
قلنا: إن ابن سيده الأندلسي مفخرة من مفاخر العرب في الشرق والغرب، وكتابه المخصص في اللغة لم يؤلف مثله في بابه، وهو معجم لغوي مرتب على المعاني، فكل موضوع من موضوعات الحياة البشرية من مادي ومعنوي يذكره مفردا له بابا خاصا، ويذكر جميع ما ورد فيه عن العرب من الألفاظ والجمل، ومن هذا الكتاب تظهر مزايا هذه اللغة الشريفة، سواء في دقة التعبير أو في سعة مذاهب الكلام أو في اشتقاق المعاني بعضها من بعض، أكثر من كل كتاب عرفناه.
وقد طبع «المخصص» بالمطبعة الكبرى الأميرية بمصر سنة 1316، وهو 17 جزءا، وأوله: قال أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي المعروف بابن سيده: الحمد لله المميت ذي العزة والملكوت، ملهم الأذهان إلى الاستدلال على قدمه، ومعلمها أن وجوده لم يك واقعا بعد عدمه، ثم معجزها بعظيم قدرته على ما منحها من لطيف الفكرة ودقيق النظر والعبرة عن تحديد ذاته، وإدراك محمولاته وصفاته، نحمده ما ألهمنا إليه وفطر أنفسنا عليه من الإقرار بألوهيته والاعتراف بربوبيته، ونسأله تخليص أنفسنا حتى يلحقنا بعالمه الأفضل لديه وبجواره الأزلف إليه. ثم الصلاة على عبده المصطفى ورسوله المقتفى سراجنا النير الثاقب ونبينا الخاتم العاقب؛ محمد خيرة هذا العالم، وسيد جميع ولد آدم، والسلام عليه وعلى آله الطيبين المنتخبين - صلى الله عليه وعليهم أجمعين. أما بعد فإن الله - عز وجل - لما كرم هذا النوع الموسوم بالإنسان وشرفه بما آتاه من فضيلة النطق على سائر أصناف الحيوان، وجعل له رسما يميزه وفضلا يبينه على جميع الأنواع فيحوزه أحوجه إلى الكشف عما يتصور في النفوس من المعاني القائمة فيها المدركة بالفكرة، ففتق الألسنة بضروب من اللفظ المحسوس؛ ليكون رسما لما تصور وهجس من ذلك في النفوس، فعلمنا بذلك أن اللغة اضطرارية وإن كانت موضوعات ألفاظها اختيارية، فإن الواضع الأول المسمى للأقل جزءا وللأكثر كلا وللون الذي يفرق شعاع البصر فيبثه وينشره بياضا، وللذي يقبضه فيضمه ويحصره سوادا، لو قلب هذه التسمية فسمى الجزء كلا والكل جزءا والبياض سوادا والسواد بياضا لم يخل بموضوع، ولا أوحش أسماعنا من مسموع.
ونحن مع ذلك لا نجد بدا من تسمية جميع الأشياء لتحتاز بأسمائها، وينماز بعضها عن بعض بأجراسها وأصدائها، كما تباينت أول وهلة بطباعها وتخالفت قبل ذلك بصورها وأوضاعها، ونعما ما سددت الحكماء إليه في ذلك من دقيق الحكمة ولطيف النظر والصنعة لما حرصوا عليه من الإيضاح، وأغذوا إليه من إيثار الإبانة والإفصاح. فأما اللفظة التي تدل على كميتين مختلفتين منفصلتين أو متصلتين كالبشر الذي يقع على العدد الكثير والقليل، والجلل الذي يقع على العظيم والصغير، واللفظة التي تدل على كيفيتين متضادتين كالنهل الواقع على العطش والري، واللفظة الدالة على كيفيات مختلفة كالجون الواقع على السواد والبياض والحمرة، وكالسدفة المقولة على الظلمة والنور وما بينهما من الاختلاط، فسآتي على جميعها مستقصى في فصل الأضداد من هذا الكتاب مثبتا له غير جاحد، ومضطرا إلى الإقرار به على كل ناف معاند، ومبرئا للحكماء المتواطئين على اللغة أو الملهمين إليها من التفريط، ومنزها لهم عن رأي من وسمهم في ذلك بالذهاب إلى الإلباس والتخليط. وكذلك أقول على الأسماء المترادفة التي لا يتكثر بها نوع ولا يحدث عن كثرتها طبع، كقولنا في الحجارة: حجر وصفاة ونقلة، وفي الطويل طويل وسلب وشرحب، وعلى الأسماء المشتركة التي تقع على عدة أنواع كالعين المقولة على حاسة البصر وعلى نفس الشيء، وعلى الربيئة، وعلى جوهر الذهب، وعلى ينبوع الماء، وعلى المطر الدائم، وعلى حر المتاع، وعلى حقيقة القبلة، وغير ذلك من الأنواع المقولة عليها هذه اللفظة، ومثل هذا الاسم المشترك كثير، وكل ذلك ستراه واضحا أمره مبينا عذره في موضعه إن شاء الله.
وقد اختلفوا في اللغة أمتواطأ عليها أم ملهم إليها. وهذا يحتاج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي ولا توقيف. إلا أن أبا علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن سليمان الفارسي النحوي قال: هي من عند الله. واحتج بقوله سبحانه:
وعلم آدم الأسماء كلها ، وهذا ليس باحتجاج قاطع؛ وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله أقدر آدم على أن واضع عليها. وهذا المعنى من عند الله - سبحانه - لا محالة، فإذا كان ذلك محتملا غير مستنكر سقط الاستدلال به. (إلى أن يقول): فإذا قد بينا ما اللغة أمتواطأ عليها أو موحى بها وملهم إليها، فلنقل على حدها وهو عام لجميع اللغات؛ لأن الحد طبيعي، ثم لنردف ذلك بالقول على اشتقاق الاسم الذي سمته العرب به، وهو خاص بلسانها؛ لأن الأسماء تواطئية، أما حدها - ونبدأ به لشرف الحد على الرسم - فهو أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وهذا حد دائر على محدوده محيط به لا يلحقه خلل؛ إذ كل صوت يعبر به عن المعنى المتصور في النفس لغة، وكل لغة فهي صوت يعبر به عن المعنى المتصور في النفس.
وأما وزنها وتصريفها وما تحلل إليه من الحروف وتتركب عنه، فهي فعلة متركبة من حرف ل غ و ه وإليها تنحل؛ لأن التحلل إنما هو إلى مثل ما يقع عليه التركب، يقال: لغوت؛ أي تكلمت، وأصلها لغوه، ونظيرها قله وكره وثبه، كلها لامها واو؛ لقولهم: قلوت بالقله، وكروت بالكره؛ ولأن الثبه كأنها من مقلوب ثاب يثوب، والجمع لغات ولغون ككرات وكرين، يجمعونها بالواو والنون إشعارا بالعوض من المحذوف مع الدلالة على التغيير.
فلما رأيت اللغة على ما أريتك من الحاجة إليها لمكان التعبير عما نتصوره وتشتمل عليه أنفسنا وخواطرنا، أحببت أن أجرد فيها كتابا يجمع ما تنشر من أجزائها شعاعا وتنثر من أشلائها حتى قارب العدم ضياعا، ولا سيما هذه اللغة المكرمة الرفيعة المحكمة البديعة، ذات المعاني الحكيمة المرهفة والألفاظ اللدنة القويمة المثقفة، مع كون بعضها مادة كتاب الله تعالى الذي هو سيد الكلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ا.ه.
ثم ذكر ابن سيده أن القدماء ألفوا في هذه اللسان الفصيحة كتبا أورثوا فيها علوما جمة نفيسة، ولكن وجد ذلك نشرا غير ملتئم؛ إذ كان لا كتاب نعلمه إلا وفيه من الفائدة ما ليس في صاحبه، وقال إنه لم ير لهم فيها كتابا مشتملا على جلها فضلا عن كلها، وأن المؤلفين فيها حرموا الارتياض بصناعة الإعراب، فلا يبينون ما قلبت فيه الألف عن الياء مما انقلبت الواو فيه عن الياء، ولا يحدون الموضع الذي انقلاب الألف فيه عن الياء أكثر من انقلابها عن الواو مع عكس ذلك، ولا يميزون مما يخرج على هيئة المقلوب ما هو منه مقلوب وما هو من ذلك لغتان، وذلك كجذب وجبذ، ويئس وأيس، ورأى وراء، ولا ينبهون على ما يسمعونه غير مهموز مما أصله الهمز، ولا يفرقون بين القلب والإبدال ولا بين ما هو جمع يكسر عليه الواحد وبين ما هو اسم للجمع، وغير ذلك؛ مما حمله على جمع كتاب مشتمل على جميع ما سقط إليه من اللغة إلا ما لا بال به، وأن يضع على كل كلمة قابلة للنظر تعليلها ويحكم تفريعها وتأصيلها، وإن لم تكن الكلمة قابلة لذلك وضعها على ما وضعوه وتركها على ما ودعوه.
قال: ولم تزل الأيام به عن هذا الأمل قاطعة بما يستغرق زمنه من جواهد الأشغال، ويأتر متن قوته من لواهد الأعباء والأثقال حتى نفذ ما لوى من عنانه إليه، وهو أمر الموفق الملك الأعظم والهمام الأكرم، يريد به أبا الجيش الموفق العامري الذي كان استولى على الجزائر الشرقية وعلى مرسية ونواحيها ، وأثنى عليه ثناء جما وقال: إنه أحيا ميت الفضل، وأقام منآد السياسة بالعدل، وملأ الخافقين ذكره أرجا، وعم قلوب الثقلين حبه لهجا.
ولما كان الملك الموفق المشار إليه ذا ملكة ذكرها المؤرخون في العلم والفضل ومادة اعترف له بها المعاصرون من جهتي العقل والنقل أشار ابن سيده إلى ذلك فقال: إنه لما شرح الله صدره لقبول مشروعه، وتصفح هذا اللسان العربي فرأى العلم به معينا على جميع العلوم عامة وعلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه خاصة، أراد حصر ما حكت منه ثقات الأئمة، وتأمل ما صنفته أعيان رواتهم ومشاهير ثقاتهم، فجلت له دقة نظره عن مثل ما جلت لابن سيده من أنهم لم يضعوا في اللغة كتابا جامعا، ولا أبانوا موضوعات الأشياء بحقائقها، ولا تحرزوا من سوء العبارة وإبانة الشيء بنفسه وتفسيره بما هو أغرب منه، وأنه تأمل فوجد غير ابن سيده لا يقوم بهذا العمل، وقال هذا القول في حق نفسه: «وكلا عجم؛ فوجدني أعتق تلك القداح جوهرا، وأشرفها عنصرا، وأصلها مكسرا، وأوفرها قسما، وأعلاها عند الإجالة اسما، فأهلني لذلك واستعملني فيه، وأمرني باللزوم له والمثافنة عليه بعد أن هداني سواء السبيل إلى علم كيفية التأليف، وأراني كيف توضع قوانين التصريف، وعرفني كيف التخلص إلى اليقين عند تخالج الأمر لما يعترض من الظنون من تعاضد وتعاند، وعقد علي في ذلك إيجاز القول وتسهيله وتقريبه من الأفهام بغاية ما يمكن؛ فدعا مني إلى كل ذلك سميعا وأمر به مطيعا.»
ومهما يكن ابن سيده مبالغا في بيان معارف الملك الموفق مجاهد العامري على عادة علماء كل عصر في إطراء ملوكهم، فلا شك في أن لذلك أصلا أصيلا، وأن الملك الموفق مجاهدا العامري كان ملكا عالما جليلا. ثم ذكر ابن سيده بعض فضائل المخصص فقال: إن منها تقديم الأعم فالأعم على الأخص فالأخص، والإتيان بالكليات قبل الجزئيات، والابتداء بالجواهر والتقفية بالأعراض، وتقديم كم على كيف، وشدة المحافظة على التقييد والتحليل. قال: مثال ذلك ما وصفته في صدر هذا الكتاب حين شرعت في القول على خلق الإنسان، فبدأت بتنقله وتكونه شيئا فشيئا، ثم أردفت بكلية جوهره، ثم بطوائفه، وهي الجواهر التي تأتلف منها كليته، ثم ما يلحقه من العظم والصغر، ثم الكيفيات كالألوان إلى ما يتبعها من الأغراض والخصال الحميدة والذميمة. ا.ه.
وقال إنه كان قد صنف كتابه المحكم مجنسا ليدل الباحث على مظنة الكلمة المطلوبة، فأراد هذه المرة أن يعدل به كتابا يضعه على الأبواب؛ أي على المواضيع؛ لأنه رأى ذلك أجدى؛ فإنه إذا كانت للمسمى أسماء كثيرة وللموصوف أوصاف عديدة تنقى الخطيب والشاعر منها ما أراد، واتسعا في ما يحتاجان إليه من سجع أو قافية على مثال البساتين تجمع أنواع الرياحين، فإذا دخلها الإنسان أهوت يده إلى ما استحسنته حاستا نظره وشمه. وقال على المصنفين في اللغة قبله إنهم إذا أعوزتهم الترجمة لاذوا بأن يقولوا «باب نوادر»، وربما أدخلوا الشيء تحت ترجمة لا تشاكله.
ثم عاد فأثنى على كتابه كما كان قد أثنى في صفحة سابقة على نفسه؛ مما يؤخذ دليلا على أن بعض الأئمة لم يستنكفوا عن تبيين محاسن آثارهم، وقد رأينا طائفة منهم يتحدثون بنعم الله، ويذكرون ما آتاهم الله من فضله، وربما ترجموا أنفسهم بأقلامهم، وذلك مثل الإمام السيوطي، وياقوت الحموي في معجم الأدباء، ولسان الدين بن الخطيب، والحافظ بن حجر، وابن شامة، وغيرهم، ومن الأدباء ابن الأثير صاحب المثل السائر، وابن حجة الحموي صاحب خزانة الأدب، وغيرهما.
والخلاصة أنه قال: وكتابنا من كل ذلك بحيث الشمس من العيب والنجم من الهرم والشيب. ومن طريف ما أودعته إياه بغاية الاستقصاء ونهاية الاستقراء وإجادة التعبير والتأنق في محاسن التحبير الممدود والمقصور والتأنيث والتذكير، وما يجيء من الأسماء والأفعال على بناءين وثلاثة فصاعدا، وما يبدل من حروف الجر بعضها مكان بعض. ا.ه.
ثم ذكر من محاسن تأليفه إضافة الجامد إلى الجامد، والمنصرف إلى المنصرف، والمشتق إلى المشتق، والمرتجل إلى المرتجل، والمستعمل إلى المستعمل، والغريب إلى الغريب، والنادر إلى النادر. وذكر ابن سيده الكتب التي أخذ عنها مثل كتاب أبي حنيفة في الأنواء والنبات، وكتاب يعقوب في النبات، وكتب أبي حاتم في الأزمنة وفي الحشرات وفي الطير، وكتب الأصمعي في السلاح وفي الإبل وفي الخيل، وكتاب أبي زيد في الغرائز والجرائم. وقال إنه أخذ أيضا عن المصنف وغريب الحديث لأبي عبيد، وكتب يعقوب كالإصلاح والألفاظ والفرق والأصوات والزبرج والمكنى والمبني والمد والقصر ومعاني الشعر، وكتابي ثعلب الفصيح والنوادر، وكتب الفراء، والمبرد، وكراع، والنضر، وابن الأعرابي، واللحياني، وابن قتيبة. وقال إنه أخذ من الكتب المجنسة؛ أي المرتبة على حروف الهجاء؛ كالجمهرة والعين، وكتاب البارع لأبي علي القالي، والزاهر لأبي بكر الأنباري، وكتاب سيبويه، وكل ما سقط إليه من كتب أبي علي الفارسي؛ كالإيضاح والحجة والإغفال، ومسائله المنسوبة كالحلبيات والقصريات والبغداديات والشيرازيات، وكتاب أبي سعيد السيرافي في شرح كتاب سيبويه، وكتب أبي الفتح بن جني؛ مثل التمام والمعرب والخصائص وسر الصناعة والمتعاقب، وشرح شعر المتنبي، وتفسير شعر الحماسة، وكتب أبي الحسن بن الرماني، وهي الجامع في تفسير القرآن والمبسوط في كتاب سيبويه، وشرح موجز أبي بكر بن السري.
قال وإنه أودع المخصص كتابه هذا ما لم يسبق إليه من تعاريف المنطق، ورد الفروع إلى الأصول، وحمل الثواني على الأوائل، وكيفية اعتقاب الألفاظ الكثيرة على المعنى الواحد، وقصد من الاشتقاق أقربه إلى الكلمة المشتقة وأدله عليها بقول بليغ شاف، وقد وجد في ذلك اختلافا كثيرا، فإما اقتصر على أصحه عنده وإما ذكر اختلافهم. قال: وهو مع ذلك لا يدعي الإحاطة؛ فالله وحده هو الذي أحاط بكل شيء علما، لكنه أعمل في ذلك الاجتهاد، فإن كان قد أصاب فهو ما إليه قصد، وإن تكن الأخرى فقد قيل: إن الذنب عن المخطئ بعد التحري موضوع، وقال: إنه ربما وقعت أثناء كتابي هذا كلمة متغيرة عن وضعها؛ فإن كان ذلك فإنما هو موقوف على الحملة ومصروف إلى النقلة؛
24
لأني وإن أمليته بلساني فما خطته بناني، وإن أوضعت في مجاريه فكري فما أرتعت فيه بصري.
25
مع أني لا أتبرأ أن يكون ذلك قبلي، وأن يكون موضعا قد ألوى فيه بثباتي زللي، فإن ذوات الألفاظ لا تؤخذ بالقياس ولا يستدل عليها بالعقل والإحساس، إنما هي نغم تقيد وكلم تسمع، فتقلد هؤلاء أهل اللغة حملتها وحماتها ونقلتها ورواتها مشافهو الفصحاء ومفاوهو الصرحاء الأصمعي، والمفضل، وأبو عبيدة الشيباني، قد غلطوا بأشياء تسكعوا منها في عمياء هذا ولا يعرفون علما سواها ولا يتحملون من العلوم شيئا خلاها، فكيف بي مع تأخر أواني وبعد مكاني ومصاحبتي للعجم وكوني من بلادي في مثل الرجم.
26
ا.ه.
ولعمري ليس في هذا ما يعترض عليه؛ فالخطأ لا يسلم منه أحد من العالمين؛ قال الله تعالى:
إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ، ولكن بالرغم من جلالة قدر ابن سيده في اللغة، وأنه البحر الذي لا تنزحه الدلاء، وأن الإنسان حقيق بأن يتحدث بما من الله عليه من نعم وآلاء يستهجن منه أن يقول في مقدمة المخصص مثل هذه العبارة: «ضمنته ما يدل على تقدمي في جميع أبواب الأدب كالنحو، والعروض والقافية، والنسب، والعلم بالخبر، إلى غير ذلك من العلوم الكلامية، التي بها بدأ أبذ المؤلفين، وأشذ عن المصنفين.» فإنه لا يمتنع أن يكون قوله هذا في ذاته صحيحا، ولكن يكون أكمل لو تجنب ذكره وتجانف عن تزكية نفسه بنفسه، لا سيما أن المخصص تستغني حاله عن الإشادة به، وهو مما يقال فيه عينه فراره، وكفى بمطالعته تعظيما لقدره. وما أطلنا هذه الإطالة في الكلام على ابن سيده ومخصصه إلا تنبيها لناشئة العرب وطلاب العربية على ما في هذا الكتاب من الكنوز المدفونة واللآلئ المكنونة التي تعوزهم في التعبير عن المعاني الكثيرة التي جدت في زمانهم، وضاقوا في الإبانة عنها ذرعا بقلة حفظهم وعدم اعتمادهم على أمهات العربية، كالمخصص وما في ضربه.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن بيبش
27
المفتي، أخذ عن أبي جعفر بن مغيث، وأبي المطرف بن سلمة، وغيرهما، وتوفي بمرسية سنة 484، قاله ابن بشكوال.
وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الخشني، من أهل مرسية، سمع من أبي حفص الهوزني وغيره، وكان مفتيا في الأحكام، حدث عنه ابنه عبد الله، وتوفي بمرسية سنة 494، ذكره ابن بشكوال في الصلة، وقد تقدمت ترجمة ابن أبي محمد عبد الله الذي انتقل إلى سبتة، وتوفي بقرطبة سنة 538.
وأبو عبد الرحمن محمد بن إسحاق بن طاهر، من أهل مرسية، روى عن أبي الوليد بن ميقل، وأجاز له ما رواه، وكانت له عناية ورواية. قال ابن بشكوال في الصلة: وقد أخذ عنه بعض أصحابنا، وتوفي ببلنسية، وسيق إلى مرسية ميتا، ودفن بها سنة 508.
وأبو القاسم محمد بن هشام بن أحمد بن وليد الأموي، روى ببلده مرسية عن أبي علي بن محمد الصدفي، وصحب أبا محمد بن أبي جعفر الفقيه، وتفقه به، وأخذ بقرطبة عن أبي محمد بن عتاب وغيره، قال ابن بشكوال: وكان من أهل الحفظ والعلم والمعرفة والذكاء والفهم، واستقضي بغرناطة فنفع الله به أهلها؛ لصرامته ونفوذ أحكامه وجمود يده وقويم طريقته، وتوفي - رحمه الله - بمرسية صدر رمضان المعظم سنة 530.
وأبو عبد الله محمد بن موسى بن وضاح، من أهل مرسية، أخذ عن أبي علي الصدفي كثيرا، وله رحلة إلى المشرق حج فيها، ولقي أبا بكر الطرطوشي وابن مشرف وغيرهما. وكان فاضلا عفيفا معتنيا بالعلم، قال ابن بشكوال في الصلة: كتب إلينا بإجازة ما رواه بخطه، وشوور بالمرية، وتوفي - رحمه الله - في سنة 539.
وأبو الوليد هشام بن أحمد بن عبد العزيز بن وضاح، من أهل مرسية، روى عن أبي الوليد بن ميقل، وأبي عبد الله بن نبات، وأبي عمر الطلمنكي، وغيرهم، روى الناس عنه، وكان ثقة فاضلا، توفي سنة 469، ذكر وفاته ابن مدير، قال ابن بشكوال في الصلة: أخبرنا عنه أبو محمد بن أبي جعفر الفقيه وغيره من شيوخنا - رحمهم الله.
وأبو موسى هارون بن سعيد، من أهل مرسية وصاحب صلاتها وخطيبها، روى عن أبي محمد الأصيلي، وروى عنه أبو عبد الله بن عابد، وقال: كتبت عنه من خطبه ومن غرائب روايته. ذكره ابن بشكوال في الصلة.
وأبو الحسين يحيى بن إبراهيم بن أبي زيد اللواتي، يعرف بابن البياز، من أهل مرسية، روى عن أبي محمد مكي بن أبي طالب، وأبي عمرو المقري، ورحل إلى المشرق، وحج، ولقي عبد الوهاب القاضي بمصر ، وأخذ عنه كتاب التلقين من تأليفه، وعمر وأسن، قال ابن بشكوال: وسمعت بعضهم يضعفه وينسبه إلى الكذب، وأنه ادعى الرواية عن أقوام لم يلقهم، ويشبه أن يكون ذلك في وقت اختلاطه، والله أعلم؛ لأنه اختلط في آخر عمره. قال: وقرأت بخط القاضي محمد بن عبد العزيز شيخنا: توفي أبو الحسين المقري - رحمه الله - بمرسية يوم السبت بعد صلاة العصر لثلاث خلون من المحرم، ودفن يوم الأحد عند صلاة العصر سنة 496، ومولده سنة 406.
وأبو أيوب يعقوب بن موسى بن طاهر بن أبي الحسام، روى عن أبي الوليد بن ميقل، وبقرطبة عن أبي عبد الله بن عتاب، وحاتم بن محمد، وأبي عمر بن القطان، وكان فقيها حافظا متفننا مفتيا ببلده مرسية، قال ابن بشكوال: توفي في صفر سنة 461، ذكره ابن مدير.
وأبو علي حسن بن عبد الرحمن بن محمد الكناني المرسي، يعرف بالرفاء، أخذ القراءات عن أبي محمد الشمنتي، وسمع من أبي عبد الله بن حميد، ولقي ببلنسية أبا عبد الله بن نوح، وأبا بكر عتيق بن القاضي، وأخذ عنهما. قال ابن الأبار في التكملة: لقيته غير مرة، وكان أديبا صاحب مقطعات وتذييلات حسنة، مشاركا في العربية وعلم العروض، فكه المجلس، حسن الخلق، توفي سنة 633.
وأبو الحسن بن عزيز المقري، من أهل مرسية، أخذ عنه القاضي أبو عبد الله بن سعادة، ووصفه بالفضل والصلاح، وقال: قرأت عليه مدة كتاب الله تعالى بطريق التجويد وضبط الرواية، وكان أضبط من لقيته للقراءات، وأحسنهم لها تجويدا، وأعلاهم رواية، ذكره ابن الأبار في التكملة.
وأبو الحسن بن ميمون المقري، من أهل مرسية، أخذ عن أبي محمد بن سهل، وتصدر للإقراء، وأخذ عنه، ومن جملة من أخذ عنه أبو القاسم بن فتحون، ذكره ابن الأبار نقلا عن ابن عياد.
وحبيب بن سيد الجذامي، من أهل «بقسرط» عمل مرسية ، وصاحب الصلاة بها، كان من خيار الناس وصلحائهم، موصوفا بالزهادة والانقطاع. وهو الذي صلى على أبي عمر بن عفيف عند وفاته بلورقة في شهر ربيع الآخر سنة 420، ذكره ابن الأبار في التكملة، وقال: إن ابن بشكوال أغفله، وقد أورد كثيرا من صنفه.
وأبو مروان خطاب بن أحمد بن موسى بن خطاب الغافقي، من أهل «موله» عمل مرسية، سمع بقرطبة من أبي عبد الله بن أصبغ، وأبي بكر بن العربي عند انتقاله إليها، ومن أبي مروان بن مسرة، وأبي مروان بن قزمان وغيرهم، وعني بسماع الحديث، وكتب بخطه كثيرا، وكان حسن الوراقة والتقييد، فقيها مشاورا، ذكره ابن الأبار في التكملة.
وأبو الحكم رشيد، مولى القاضي أبي أمية بن عصام، روى عن القاضي المذكور، وعن أبي علي الصدفي، وشريح بن محمد، وأبي الحسن بن هذيل، وأبي الوليد بن الدباغ، وكان حسن الخط معنيا بالرواية، ذكره ابن الأبار في علماء مرسية.
وأبو رجال بن غلبون الكاتب، أخذ ببلده مرسية عن أبي جعفر بن وضاح، ورحل إلى أبي إسحاق بن خفاجة الشاعر المشهور فحمل عنه ديوان شعره. وكان أديبا بليغا ناظما ناثرا، تأدب به أبو بحر صفوان بن إدريس، ترجمه ابن الأبار في التكملة، وقال: أخذ عنه شيخنا أبو الربيع بن سالم، وقال: أذن لي في التحديث عنه بشعر ابن خفاجة، وتوفي ابن غلبون هذا ليلة الخميس الثاني عشر لذي الحجة سنة 589.
وأبو زكريا الحصار المقري المرسي، يروي عن أبي الحسين بن البياز، وأبي الحسن بن شفيع، أخذ عنه أبو عبد الله بن تحيا المرسي، ذكره ابن الأبار.
وأبو الحسن زيادة الله بن محمد بن زيادة الله الثقفي، يعرف بابن الحلال، وقد تقدمت ترجمة اثنين من هذه العائلة، سمع من أبي الوليد بن الدباغ، وأجاز له أبو بكر بن أسود، وأبو بكر بن العربي، وتفقه بشيوخ بلده مرسية، وتولى خطة الشورى فيها، واستقضاه أخوه أبو العباس بمدينة بلنسية، فتولى ذلك محمود السيرة، توفي بمرسية سنة 552، قاله ابن سفيان. وقال ابن عياد: توفي في جمادى الأولى سنة 548، ورجح ابن الأبار رواية ابن عياد.
وأبو القاسم الطيب بن محمد بن الطيب بن الحسين بن هرقل العتقي الكناني، سمع ابن حبيش وأكثر عنه، وتفقه بأبي بكر بن أبي جمرة، وكتب إليه ابن بشكوال، والسهيلي، وابن الفخار، وابن مضاء، وأبو بكر بن جزي البلنسي، وغيرهم، وكان من أهل المعرفة الكاملة والنباهة مع المشاركة في الأدب، وتقدم أهل بلده مرسية رئاسة ورجاحة. قال ابن الأبار: رأيته في رمضان سنة 616 ولم آخذ عنه شيئا، وأخذ عنه أصحابنا، وتوفي وأنا بثغر بطليوس ليلة الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى سنة 619، أفادني ذلك أبو عمرو بن عيشون صاحبنا. ومولده سنة 556 أو نحوها، عن ابن سالم.
ومحمد بن وليد بن مروان بن عبد الملك بن أبي جمرة، من أهل مرسية، حدث عن أبيه بالمدونة لسحنون، وحدث عنه ابنه وليد بن محمد، ذكره ابن الأبار في التكملة.
وأبو بكر محمد بن علي بن خلف، يعرف بابن طرشميل، أخذ عن أبي الحسن بن سيده، وعلم بالعربية هو وأخوه أبو جعفر أحمد، وتوفي بمرسية سنة 473 على رواية ابن حبيش، وقال ابن عزير وذكره وأخاه: توفي أسنهما - يعني محمدا هذا - ببلنسية، ذكره ابن الأبار.
ومحمد بن عبد الملك بن علي بن نصير الغافقي، سمع من أبي علي الغساني صحيح البخاري، وسمع من أبي علي بإشبيلية سنة 496، ذكره ابن الأبار في التكملة.
وأبو بكر محمد بن أغلب بن أبي الدوس المرسي، روى عن أبي الحجاج الأعلم، وأبي الحسن المبارك بن الخشاب، وأبي علي الغساني وغيرهم، وكان عالما بالعربية من أحسن الناس خطا وأصحهم نقلا وضبطا، وشهر بالإقراء، وأدب الراضي يزيد والمأمون الفتح ولدي المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية. سكن المرية وقتا، وأجاز البحر إلى المغرب فنزل مدينة فاس، واستقر أخيرا بأغمات، وتوفي بمراكش سنة 511، ترجمه ابن الأبار في التكملة، قال: وله شعر صالح.
وأبو عبد الله محمد بن مسعود بن خلف بن عثمان العبدري، من أهل شنتمرية الشرق، سكن مرسية، كانت له رحلة حج فيها، وبعد صدره منها سمع من أبي علي الصدفي، قال ابن الأبار: وأبوه مسعود من شيوخ أبي علي المذكور.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن جزي الضرير المرسي، لازم أبا علي الصدفي ، وكان مقرئا، ذكره ابن الأبار.
وأبو بكر محمد بن عيسى بن محمد بن بقي الغافقي المرسي، روى عن ابن عتاب، وأبي بكر بن العربي، وأبي الأصبغ الزهري، وأبي عبد الله القلعي، وحدث عن جميعهم بالموطأ، روى عنه ابنه عبد الكبير بن محمد نزيل إشبيلية وغيره، قال ابن الأبار: ووجدت السماع منه في سنة 529.
وأبو يحيى محمد بن علي بن أحمد بن جعفر من بيت نباهة وأصالة من مرسية، سمع كثيرا من أبي علي الصدفي، وكان متحريا في التقييد حسن الخط، ذكره ابن الأبار.
ومحمد بن عبد الملك بن أحمد الطائي المرسي، كان بارع الخط أنيق الوراقة، روى عن أبي الحسن بن مغيث، وأبي إسحاق بن ثبات القرطبي، سمع منه سنة 530، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الواحد، من أهل مرسية، وأصله من ألش عملها، يعرف بابن التيان، ذكره السلفي، وقال: روى لنا عن أبي عبد الله بن الطلاع، وأبي علي الجياني، وغيرهما، وهو من أهل المسائل والحديث، ذكره ابن الأبار.
وأبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مهلب الأسدي، من أهل مرسية، قال ابن الأبار: كان أديبا كاتبا، وله سماع من ابن الدباغ في سنة 535 وقفت عليه، وكان من بيت رواية وعناية بالحديث.
وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن سعدون، من أهل مرسية، وصاحب الأحكام بها، كان عارفا بالشروط. قال ابن الأبار: أخذ عنه شيخنا أبو بكر بن أبي جمرة وتدرب معه، وأجاز له ما رواه، وتوفي سحر ليلة السبت الرابع عشر من ربيع الآخر سنة 536.
وأبو الحكم محمد بن يزيد بن سمحون، من أهل مرسية، سمع من أبي علي الصدفي، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد العتقي، من أهل مرسية، كانت له رحلة حج فيها، وروى عن أبي بكر بن العربي، ذكره ابن الأبار، وقد تقدم لأناس من هذه العائلة تراجم.
وأبو جعفر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن موسى الخشني ، يعرف بابن أبي جعفر، روى عن أبيه، وأخذ العربية عن أبي بكر بن الجزار، ولقي ابن الدباغ، وكان فقيها حافظا قائما على المدونة في تدريسه، مستبحرا في علم الرأي، حكي عن أبي محمد بن محمد القلني أنه كان يثني عليه ويقول: هو أفهم من أبيه، تفقه به أبو محمد بن عات، وأبو بكر بن أبي جمرة، وتولى قضاء بلده مرسية عند انقراض دولة المرابطين، ثم تأمر بمرسية، وكان يقول في قيامه بالإمارة: ليست تصلح بي ولست لها بأهل، ولكني أريد أن أمسك الناس بعضهم عن بعض حتى يجيء من يكون لها أهلا. وتوجه إلى غرناطة في حرب فانهزم جيشه وقتل هو، وذلك في صدر سنة 540، قيل: إنه لما قتل لم يكن تجاوز خمسا وثلاثين سنة، ترجمه ابن الأبار في التكملة. وآل الخشني بيت مشهور في مرسية.
وأبو بكر محمد بن يوسف بن سليمان بن محمد بن خطاب القيسي، من سرقسطة، سكن مرسية، يعرف بابن الجزار، أخذ العربية عن أبي بكر بن الفرضي، وأبي محمد البطليوسي، وسمع الحديث من أبي علي الصدفي، وأبي محمد بن أبي جعفر، وقعد للتعلم بالعربية، وكان أديبا كاتبا شاعرا، وجرت بينه وبين أبي عبد الله بن خلصة مسائل في إعراب آيات من القرآن ظهر عليه فيها، وضمن ذلك رسالة أخذها عنه أبو عبد الله المكناسي في اختلافه إليه لقراءة النحو عليه، وقال: قتل بناحية غرناطة سنة 540، وذكره ابن عياد وقال: أقرأ بمرسية، وحكى أنه أصيب مع أبي جعفر - وكان معلمه - وحمل إلى غرناطة مثبتا فمات بها، ومن الرواة عنه أبو محمد بن عات، وأبو العباس بن اليتيم. ذكر كل ذلك ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن زيادة الله الثقفي، يعرف بابن الحلال، وهو والد القاضي أبي العباس، سمع من أبي علي الصدفي الذي لا تحصى تلاميذه في عصره بالأندلس، وكان ابن زيادة الله هذا شيخا جليلا فاضلا عاقلا معظما في بلده مرسية. توفي في ذي القعدة سنة 546، نقل ابن الأبار تاريخ وفاته عن أبي عمر عيشون المرسي.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الوارث، كان من أهل العلم والدين، وولي الصلاة والخطبة بجامع بلده مرسية، فكان أخشع الناس في خطبته، وتوفي سنة 447 بحسب رواية ابن عياد. وقال ابن سفيان إنه توفي سنة 445، ذكر ذلك ابن الأبار.
وأبو بكر محمد بن فتحون بن غلبون الأنصاري، من أهل مرسية، سمع من أبي علي الصدفي واتصل به. قال ابن الأبار: وهو قرابة لشيخنا أبي محمد غلبون بن محمد، وكان ذا عناية ورواية.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن سعد الفهري، يعرف بابن الصيقل، وكان يلقب أبا هريرة؛ لتتبعه الآثار وعنايته بها، أخذ عن أبي محمد بن أبي جعفر الموطأ، وكتاب الملخص للقابسي، وانتفع كثيرا بأبي الوليد بن الدباغ، وسمع أبا بكر بن أبي ليلى، وأبا عبد الله بن وضاح، وكتب إليه كبار العلماء مثل أبي بكر بن أسود، وأبي القاسم بن بقي، وأبي الحسن بن مغيث، وأبي الحسن شريح، وأبي بكر بن العربي، وأبي محمد الرشاطي، وأبي القاسم بن ورد، وأبي الفضل بن عياض، وغيرهم من الأندلسيين، ومن أهل المشرق أبو طاهر السلفي، وأبو محمد العثماني، وأبو المظفر الشيباني. قال ابن الأبار في التكملة: وقيد كثيرا على رداءة خطه فأفاد. قال: وفي هذا الكتاب من فوائده ما نسبته إليه، وتوفي بمرسية بلده بعد الخمسين وخمسمائة.
وأبو بكر محمد بن أحمد بن عصام، يعرف بابن اليتيم، ذكره ابن سفيان، وأثنى عليه ووصفه بالأدب والبلاغة، وقال: توفي ببلده مرسية سنة 553، ذكر ذلك ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي العافية اللخمي، يعرف بالقسطلي؛ لأن أصله من القسطل التي ينسب إليها الشاعر ابن دراج، كان مدرسا للفقه، صدرا في أهل الشورى، جليلا في بلده مرسية، عدلا رضا، معروفا بالنزاهة، موصوفا بالحفظ، تفقه به أبو عبد الله محمد بن سليمان بن برطلة
Berthelot
وغيره، وتوفي أول ذي الحجة سنة 558، نقل ابن الأبار ترجمته هذه عن ابن سفيان وابن حبيش.
وأبو عامر محمد بن أحمد بن عامر البلوي، من أهل طرطوشة، سكن مرسية، وأصله من مدينة سالم بشمالي الأندلس؛ فلذلك كان يعرف بالسالمي، كان من أهل الأدب والعلم والتاريخ، وله كتاب اسمه «درر القلائد وغرر الفوائد»، قال ابن الأبار في التكملة إنه نقل عنه فيها، وله أيضا في اللغة كتاب حسن وفي الطب كتاب اسمه الشفاء، وكتب للأمير محمد بن سعد، وكان له حظ من قرض الشعر، توفي سنة 559.
وأبو عبد الله محمد بن سليمان بن موسى بن سليمان الأزدي المرسي، يعرف بابن برطلة، سمع من أبي عبد الله بن سعادة، وتفقه بأبي عبد الله القسطلي، وأبي عبد الله بن عبد الرحيم، ولازم القاضي أبا العباس بن الحلال، وكان متقنا لمسائل الفقه، معروفا بالفهم مع الصون والعفاف، توفي قبل اكتهاله سنة 563، روى ابن الأبار قال إن قريبه الخطيب أبا محمد ذكر له أن والد المترجم - وهو سليمان بن موسى الأزدي - ولي القضاء.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة مولى سعيد بن نصر مولى عبد الرحمن الناصر، من أهل مرسية، سكن شاطبة، ودار سلفه بلنسية، سمع أبا علي الصدفي - أستاذ الأندلس في وقته - واختص به، وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وأمهات كتبه الصحاح لصهر كان بينهما. وتفقه أيضا بمحمد بن أبي جعفر، ورحل إلى غرب الأندلس فسمع أعاظم العلماء كأبي محمد بن عتاب، وأبي بحر الأسدي، وأبي الوليد بن رشد، وأبي عبد الله بن الحاج، وأبي بكر بن العربي، وكتب إليه أبو عبد الله الخولاني، وأبو الوليد بن طريف، وأبو محمد الركلي، وأبو محمد بن السيد، وغيرهم.
ثم رحل إلى المشرق سنة 520، فلقي بالإسكندرية أبا الحجاج بن نادر الميورقي، وصحبه، وأخذ عنه الفقه وعلم الكلام، وحج سنة 521 فلقي بمكة أبا الحسن رزين العبدري إمام المالكية بها، وأبا محمد بن غزال من أصحاب كريمة المروزية، وروى عن أبي الحسن بن سند بن عياش الغساني ما حمل عن أبي حامد الغزالي من تصنيفه. ثم انصرف المترجم إلى ديار مصر فلازم ابن نادر الميورقي في الإسكندرية إلى حين وفاته، ولقي أبا الطاهر بن عوف، وأبا عبد الله بن مسلم القرشي، وأبا طاهر السلفي - محدث الدنيا في وقته - وأبا زكريا الزناتي، وكان قد كتب إليه من الإسكندرية أبو بكر الطرطوشي، وأبو الحسن بن مشرف الأنماطي، ولقي في صدره إلى المغرب بالمهدية أبا عبد الله المازري، فسمع منه بعض كتاب «المعلم» وأجاز له الباقي.
وكان إيابه إلى مرسية سنة 526، وولي خطة الشورة بمرسية مضافة إلى الخطبة بجامعها، وأخذ في التحديث، وتدريس الفقه، ثم ولي القضاء بمرسية بعد انقراض دولة المرابطين أو الملثمين. ثم نقل إلى قضاء شاطبة فاتخذها وطنا، وكان يسمع الحديث بشاطبة وبمرسية وبلنسية، ويقيم الخطبة أيام الجمع في جوامع هذه الأمصار الثلاثة متعاقبا عليها. وقد حدث بمرسية وهنالك أبو الحسن بن موهب، وأبو محمد الرشاطي، وألف كتاب «شجرة الوهم المترقية إلى ذروة الفهم» لم يسبق إلى مثله وليس له غيره.
قال ابن الأبار في التكملة عنه ما محصله: كان عارفا بالسنن والآثار، مشاركا في علم القرآن وتفسيره، حافظا للفروع، بصيرا باللغة والغريب، ذا حظ من علم الكلام، مائلا إلى التصوف، أديبا بليغا خطيبا فصيحا، ينشئ الخطب مع الهدي والوقار والحلم وجميل الشارة، محافظا على التلاوة، بادي الخشوع، راتبا على الصوم.
وذكره ابن عياد ووصفه بالتفنن في المعارف، والرسوخ في الفقه وأصوله، والمشاركة في علم الحديث وفي الأدب، وقال: كان صليبا في الأحكام، مقتفيا للعدل، حسن الخلق والخلق، جميل المعاملة، لين الجانب، فكه المجالسة، ثبتا، حسن الخط، من أهل الإتقان والضبط، كانت عنده أصول حسان بخط عمه مع الصحيحين بخط الصدفي في سفرين، قال: ولم يكن عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها، ولا كان فيهم من رزق عند الخاصة والعامة من الحظوة والذكر وجلالة القدر ما رزقه، وذكره ابن سفيان أيضا، وأبو عمر بن عات، ورفعوا جميعا بذكره.
وقال القاضي أبو بكر بن مفوز: كان حسن التقييد والضبط، ثقة مأمونا في ما حمل ونقل، سمعت القاضي محمد بن عاشر يقول يوم موته: رحم الله أبا عبد الله، كان من أهل العلم والعمل، أو كان عنده العلم والعمل، وتوفي بشاطبة مصروفا عن قضائها في منسلخ ذي الحجة سنة 565، ودفن أول يوم من سنة 566. قال ابن الأبار: وقرأت بخط شيخنا أبي الخطاب بن واجب أنه توفي ليلة الاثنين، ودفن يوم الاثنين أول يوم من محرم سنة 566 بالروضة المنسوبة إلى أبي عمر بن عبد البر، ومولده بمرسية في رمضان سنة 496.
وأبو بكر محمد بن عبيد الله بن عفان الغافقي، من أهل مرسية، كان يسكن الحمة من أعمالها، وكان حافظا للفقه، عارفا بالمسائل وبالاتفاق والاختلاف، مشاركا في غير ذلك من أدب ونسب وسواهما، ذكره ابن سفيان وقال: توفي سنة 566، وترجمه ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد الأزدي، يعرف بابن عسكر، كانت له رحلة حج فيها وسمع «الشهاب» للقضاعي من أبي القاسم بن الفحام عنه، وقفل فحدث به، ذكره ابن الأبار ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن طاهر القيسي، من أهل مرسية ورئيسها في الفتنة، تفقه ببلده عند أبي جعفر بن أبي جعفر، ورحل إلى قرطبة فلقي أبا مروان بن مسرة وطبقته، وسمع من أبي الوليد بن الدباغ، وأبي القاسم بن ورد، وأبي محمد بن عطية، وأبي بكر بن برنجال، وأجاز له ابن العربي وغيره، وكان يذهب في جميع ما يحمله إلى الدراية. ثم طالع العلوم القديمة؛ أي الفلسفية، فبرز فيها وصار إماما من أئمتها، ورأس بمرسية يسيرا بعد انقراض دولة الملثمين. قال ابن الأبار: ثم تخلى عن ذلك وتلون للناس رغبة في السلامة، وتوفي بمراكش سنة 574، عن ابن سفيان. ا.ه. وقد ورد ذكر بني طاهر هؤلاء في تاريخ مرسية للمؤلف الإسباني مما تقدم ترجمته.
وأبو عبد الله محمد بن رافع بن محمد بن حسن بن رافع القيسي، من أهل مرسية، سمع أبا القاسم بن حبيش واختص به، وأبا محمد بن عبيد الله، وأبا عبد الله بن حميد، وأبا عبد الله بن مالك المولي (نسبة إلى مولة من ملحقات مرسية)، وتفقه بأبي عمر البشيجي، وأخذ العربية عن أبي جعفر أحمد بن مفرج الملاحي، وأجاز له أبو القاسم بن بشكوال وغيره، وكان حسن المشاركة في علم القرآن والعربية له عناية بالحديث، وكان من أكرم الناس خلقا وأجملهم سمتا، وتولى القضاء بمولة، ولما جرت هزيمة الأذفونش بن شانجه في وقعة الأرك على مقربة من قلعة رباح في تاسع شعبان سنة 591، وكانت هزيمة متناهية في النكاية ظهر فيها المسلمون ظهورا عظيما على الإسبانيين الذين زحفوا بأعظم جيش وقتئذ، قيل خمسة وعشرين ألف فارس ومائتي ألف راجل، وكان معهم جماعات من تجار اليهود قد جاءوا لاشتراء أسرى المسلمين وأسلابهم، وأعدوا لذلك أموالا؛ فخابت آمالهم، وحاز الموحدون جميع ما احتوت عليه محلة النصارى.
قلنا: لما جرت تلك الهزيمة على الإسبان ذهبت وفود المسلمين لتهنئة أمراء الموحدين في إشبيلية بهذه البطشة الكبرى - التي كانت آخر بطشة من نوعها لمسلمي الأندلس - وكان أبو عبد الله محمد بن رافع في وفد مرسية، فبعد وصوله إلى إشبيلية توفي إلى رحمة ربه، وذلك في ذي الحجة سنة 591، ومولده سنة 554، ذكر هذا ابن الأبار.
وأبو بكر محمد بن محمد بن الطيب بن الحسين بن هرقل العتقي، من أهل مرسية، سمع أبا القاسم بن حبيش، وأبا عبد الله بن حميد وغيرهما، وولي القضاء في مواضع عدة من كور مرسية، وولي قضاء شاطبة فاستعفى وأعفي، وتقدم للخطبة في جامع مرسية، وكان حسن السمت معروفا بالعدالة متقدما بين أهل بلده، وهو أخو أبي القاسم الطيب بن محمد وكبيره. توفي يوم السبت 28 رجب سنة 594 وقد نيف على الأربعين، قاله ابن الأبار.
ومحمد بن أحمد بن عبد الملك بن موسى بن عبد الملك بن وليد بن محمد بن وليد بن مروان بن عبد الملك بن محمد بن مروان بن خطاب بن عبد الجبار، قال ابن الأبار في التكملة: هكذا وجدت نسبته بخط يده، وكثيرا ما يختصره فيقول بعد عبد الملك الثالث: «ابن أبي جمرة»، وعبد الجبار هذا هو ابن خطاب بن مروان بن نذير مولى مروان بن الحكم. ومحمد بن مروان هو أبو جمرة ومنتماهم في الأزد من أهل مرسية.
وكان المترجم يكنى أبا بكر، سمع من أبيه كثيرا، وتفقه به وبقريبه أبي القاسم محمد بن هشام بن أحمد بن وليد، وبالقاضي أبي بكر بن أسود، قرأ عليه تأليفه في تفسير القرآن، وقرأ على أبي محمد بن أبي جعفر الخشني، وأخذ عن أبي عامر بن شروية خطبة مناولة، وسمع منه الحديث المسلسل في الأخذ باليد. واستجاز له قريبه أبو القاسم محمد بن هشام علماء ذلك العصر، كأبي الوليد بن رشد، وأبي بحر الأسدي، واستجاز هو لنفسه أبا القاسم بن ورد، وأبا بكر بن العربي، وأبا الحسن شريح، وأبا محمد الرشاطي، وأبا الفضل بن عياض، وهذه الطبقة العليا، ومن غير الأندلسيين أبا عبد الله المازري، وأبا طاهر السلفي محدث الدهر، ولقي أبا محمد عبد الحق بن عطية في قصده مرسية.
قال ابن الأبار: وصده حينئذ عن دخولها وماشاه في طريقه وناوله تأليفه في التفسير، وأذن له في الرواية عنه، ولقي أيضا أبا الحسن بن هذيل، وأبا الوليد بن الدباغ، وأبا بكر بن رزق، وأبا الحسن بن النعمة، وأبا عبد الله بن سعادة، وأبا بكر بن الجد، فأخذ عنهم وأجازوا له إلا ابن هذيل وابن النعمة منهم. وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن صالح المقرئ كتاب الشهاب ومسنده للقضاعي، وناظر في المسائل عند أبي جعفر بن أبي جعفر أعواما، وتدرب مع أبي محمد عاشر بن محمد، وسمع منه جملة من تأليفه الكبير في شرح المدونة، ومع أبي عبد الله محمد بن يحيى بن سعدون وأجازوا له، وعني بالرأي وحفظه، وولي خطة الشورى وسنه لا يزيد على إحدى وعشرين، وقدم للفتيا مع شيوخه في تاسع ذي الحجة سنة 536 أيام تأمر ابن أبي جعفر. ثم جدد له الأمير محمد بن سعد تقديمه إلى خطة الشورى، وأول من شاوره من القضاة أبو الحسن سليمان بن موسى بن برطلة؛ فظهرت براعته في أول قضية.
ونص تقديم ابن أبي جمرة للشورى عن أبي جعفر: هذا كتاب تنويه وترفيع، وإنهاض إلى مرقى رفيع، أمر بكتبه الأمير الناصر للدين أبو جعفر بن أبي جعفر - أدام الله تأييده ونصره - للوزير الوجيه الأجل المشاور الحسيب الأكمل أبي بكر بن أبي جمرة - أدام الله عزه - أنهضه به إلى الشورى؛ ليكون عندما يقطع بأمر أو يحكم في نازلة يجري الحكم بها على ما يصدر عن مشورته ومذهبه؛ لما علمه من فضله وذكائه، وجده في اكتساب العلم واقتنائه؛ ولكون هذه المرتبة ليست طريفة له بل تليدة متوارثة عن أسلافه الكريمة وآبائه؛ فليتحملها تحمل المستقل بأعبائها، اللحن
28
بأنبائها، العالم بمقاصدها المتوخاة المعتهدة وأنحائها، والله يزيده تنويها وترفيعا ويبوئه من حظوته وتمجيده مكانا رفيعا، وكتب في التاسع لذي حجة 539 (الثقة بالله عز وجل) هذه علامة ابن أبي جعفر.
قال ابن الأبار: وتقلد قضاء مرسية وبلنسية وشاطبة وأوريولة في مدد مختلفة، وامتحن بآخرة من عمره في امتناعه من قضاء مرسية نفعه الله بذلك. وكان فقيها حافظا بصيرا بمذهب مالك، عاكفا على تدريسه، فصيح اللسان، حسن البيان، عدلا في أحكامه، جزلا في رأيه، عريقا في النباهة والوجاهة.
وله تواليف منها كتاب «نتائج الأبكار ومناهج النظار في معاني الآثار»، ألفه بعد الثمانين وخمسمائة عندما أوقع السلطان بأهل الرأي، وأمر بإحراق المدونة وغيرها، وله كتاب «إقليد التقليد المؤدي إلى النظر السديد»، وغير ذلك، وبرنامجه المقتضب من كتاب «الإعلام بالعلماء الأعلام من بني أبي جمرة» و«الإنباء بأنباء بني خطاب» هو الذي وقفت عليه، وباختلاف نسخه وجد منافسوه السبيل إليه، فأنكروا علو رايته واستبعدوا إسناده وتعدوا ذلك إلى آبائه وتحديث بعضهم عن بعض، وأكثرهم من تلاميذ أبي القاسم بن حبيش، ولعل ذلك للتباعد الذي كان بينهما في الحياة، وإلا فهذا أبو عمر بن عياد، وله بحث ونظر، وقوله عند من أدركناه معتبر ، قد روى عنه وسماه في مشيخته، على أنه كان أسن منه ثم توفي قبله، وما عرض له بما يريب ولا نحله ما ينكر، بل نص في ما قرأت بخط ابنه أبي عبد الله - وهو أيضا ممن يحتج به في هذه الصناعة - على روايته عن أبي عبد الله المازري، وأبي بحر الأسدي، وأبي القاسم بن ورد وغيرهم، وقال متصلا بهذا: لقيته وأنا صغير مع أبي بمرسية وجالسته، ثم لقيته بعد ذلك بزمن وحضرت مجلسه وتدريسه، واستجزته فأجازني جميع روايته، وكتب لي بذلك خط يده في سنة 582، وحكي أنه استقضي بالبلاد المتقدمة الذكر ودرس وشوور في الأحكام ببلده، قال: وهو كان رئيس المفتين به وأسمع الناس، وأخذ عنه هذا آخر كلامه. ولم يكن هو ولا أبوه أبو عمر نعم ولا ابن حبيش ليدعو الإفصاح بحاله لو ارتابوا بمقاله إلى غير ذلك من كلام ابن الأبار في الدفاع عن آل أبي جمرة هؤلاء.
وقال: إن أبا الوليد بن الفرضي ذكر في تاريخه منهم عميرة بن محمد بن مروان بن خطاب، وذكر أيضا منهم وليد بن عبد الملك بن محمد بن مروان بن خطاب، وهو أخو مروان بن عبد الملك من جدود أبي بكر هذا، إلا أن ابن الفرضي قال في نسبه «العتقي»، ونسب عميرة إلى ولاء مروان بن الحكم، وكذلك قال أبو بكر الرازي في كتاب «أعيان الموالي بالأندلس» من تأليفه. وقد ذكر في صدره عبد الجبار بن خطاب بن مروان بن نذير مولى مروان بن الحكم، قال: وقيل مولى معاوية بن مروان بن الحكم. والأكثر أنه مولى مروان بن الحكم، وإليه نسب باب المدينة الشرقي المعروف بباب عبد الجبار، يعني بقرطبة، وهو جد بني خطاب التدميريين، منهم مروان بن خطاب بن عبد الجبار بن خطاب بن مروان بن نذير. هذا ما أورد الرازي عند ذكرهم.
وفي تدمير جماعة من العتقيين، فلعل ابن الفرضي نسب وليدا إليهم غلطا منه، قال: والعتقاء جماع من حجر حمير ومن سعد العشيرة وكنانة مضر، فالتقول على هذا الشيخ لا يؤثر عند حملة الآثار، ولا يقابلون المتعارف من حاله بالإنكار إلى ما عضده به من تقييد الوفيات والمواليد، وإن حكى شيخنا أبو الربيع بن سالم في كتاب الأربعين حديثا من جمعه أنه ظهر منه في باب الرواية اضطراب طرق الظنة إليه، وأطلق الألسنة عليه، والله أعلم بما لديه، فقد أسند بعقب ذلك عنه عن أبيه عن أبي عمر بن عبد البر، وحدث أيضا عنه عن أبي بحر الأسدي عن أبي الوليد الوقشي بمختصره لكتاب ابن حبيب في القبائل، وأجازه ابن أبي جعفر له، وكثير من خبره بخطه وجدته ومنه وعنه معولا عليه ومستندا إليه قيدته، وفي ذلك ما لا يخفى على من تأمل، فإنه صحح من حيث علل.
ثم قال ابن الأبار: ولو اكتفينا بهذا وحده في إبطال تلك الأقوال لكفى وشفى إلى ما ينضاف إليه من رواية جلة شيوخنا عنه كأبي عمر بن عات، وأبي عبد الله الشوني. وسرد ابن الأبار أسماء بضعة عشر شيخا من المشهورين، ثم قال: إنه توفي بمرسية مصروفا عن القضاء ضحوة يوم السبت الموفي ثلاثين من المحرم سنة 599، ودفن صلاة العصر من يوم الأحد بعده مستهل صفر، ودفن بالبلاط الغربي من المسجد المنسوب إلى ابن أبي جعفر بإزاء داره. ومولده عشي يوم الأربعاء الخامس لشهر ربيع الآخر سنة 512.
وأبو القاسم محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي المرسي، سمع من أبيه أبي العباس، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي بكر بن أبي ليلى، وأبي عبد الله بن الفرس، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، وأجاز له أبو القاسم بن بشكوال، وصحب القاضي أبا الوليد بن رشد ولازمه بقرطبة، وأخذ عنه واستقضاه في غير ما جهة من قرطبة. ولم يزل ينهض به حتى ولي قضاء الجزيرة الخضراء، ومنها ولي قضاء شاطبة، ثم صرف عنه عند محنة أبي الوليد وتتبع أصحابه، ثم ولي قضاء دانية، قال ابن الأبار: وكان عالما متفننا، أديبا ماهرا، ناظما ناثرا، وقد سمع منه شيخنا أبو الربيع بن سالم يسيرا وقال فيه: فاضل على الإطلاق، متقدم في نزاهة النفس وكرم الأخلاق، وأنشدني له صاحبنا أبو محمد بن أبي بكر الداني:
يا موقظ النفس علمنها
ولا تكلها إلى الجهاله
فالنفس بدر والعلم شمس
والجهل فيها سواد هاله
مولده سنة 550، وتوفي وهو يلي قضاء دانية في ربيع الأول سنة 601.
وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن محمد المرادي، من أهل مرسية، أخذ عن أبي الحسن بن هذيل، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي بكر بن أبي ليلى، وأبي محمد بن عاشر، وأبي عبد الله بن الفرس، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، وأجازوا له جميع روايتهم إلا ابن أبي ليلى منهم. وكتب إليه أبو الحسن بن النعمة، وأبو القاسم بن بشكوال، وغيرهما، وكان خيرا فاضلا، أقرأ القرآن وأسمع الحديث وأخذ عنه الناس. قال ابن الأبار: وتوفي بمرسية نصف ليلة الجمعة الحادي والعشرين لرمضان سنة 606، ودفن ببني محمد على مقربة من مسجد إقرائه المنسوب إلى عبد العزيز بن غلبون جد شيخنا أبي محمد غلبون بن محمد بن عبد العزيز، ومولده سنة 542.
وأبو عبد الله محمد بن أبي الخليل، من أهل مرسية، أخذ عن أبي عبد الله بن الفرس، وتفقه، وولي قضاء شاطبة، وكان له حظ وافر من العربية وبصر بعقد الشروط ودربة بالأحكام، وقد أخذ عنه، وتوفي يوم الأربعاء الرابع لصفر سنة 607، ودفن لصلاة العصر من يوم الخميس بعده، ذكره ابن الأبار.
ومحمد بن محمد بن موسى بن تحيا التجيبي، من أهل مرسية، أخذ القراءات عن أبي زكريا الحصار، وسمع من أبي عبد الله بن سعادة، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن الفرس، وتفقه به وبأبي العباس بن الأصفر، وأجاز له أبو الحسن بن هذيل، وأبو الحسن بن النعمة، وغيرهما، وولي قضاء أوريولة ثم قضاء ألش، وكان فقيها، مولده سنة 532، وتوفي غداة الأربعاء الثامن والعشرين لربيع الآخر سنة 607، ودفن لصلاة العصر من يوم الخميس بعده، ذكر ذلك ابن الأبار نقلا عن ابن عيشون.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد التجيبي، من أهل مرسية، يعرف بالرباط، أقرأ القرآن، وكان صالحا فاضلا، روى عنه ابن المرابط، وذكره ابن الأبار.
وأبو القاسم محمد بن عبد الله بن سليمان بن حوط الله الأنصاري الحارثي، سمع أباه، وأبا جعفر بن المضاء، وأبا محمد بن الفرس، وأجاز له أبو القاسم بن بشكوال، وأبو عبد الله بن الفخار، وأبو زكريا الدمشقي، وغير واحد من شيوخ أبيه. وكان من النجباء النبهاء، ولي الأحكام بمرسية وبقرطبة نيابة عن أبيه، وكان كاتبه مدة قضائه، وتوفي يوم الأربعاء الثاني عشر لذي قعدة سنة 607، ودفن ظهر اليوم المذكور، وثكله أبوه، نقل ابن الأبار ترجمته عن ابن سالم وابن عيشون.
وأبو بكر محمد بن محمد بن عبد السلام بن محمد بن يحيى المرادي، يعرف بالجملي، «وجملة» من أعمال مرسية، تفقه بأبي عبد الله بن عبد الرحيم، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، وغيرهم، وسكن مراكش، وولي بها خطة المناكح دهرا، وكان فقيها أديبا فكها، ناظما ناثرا، ترجمه وترجم أباه من قبله ابن الأبار، وقال إنه توفي سنة 608.
وأبو عبد الله محمد بن الزبير، من أهل مرسية، أصله من جنجالة، سمع أبا بكر بن حسنون، وأبا محمد بن حوط الله، وغيرهما، وأقرأ القرآن وعلم العربية، وكان صالحا فاضلا، توفي سنة 610، ذكره ابن الأبار.
وأبو عمرو محمد بن محمد بن عيشون بن عمر بن صباح اللخمي، من أهل مرسية، أصله من «يكة» من أعمالها، وبالنسبة إليها كان يعرف، سمع أبا العباس بن إدريس، وأبا عبد الله بن سعادة، وغيرهما، وأجاز له أبو الحسن بن هذيل، وأبو الحسن بن النعمة، وأبو القاسم السهيلي، وأبو القاسم بن حبيش، وغيرهم من علماء الأندلس، وأجازه من أهل المشرق أبو الفضل محمد بن يوسف الغزنوي، وأبو محمد بن بري النحوي، وأبو القاسم هبة الله بن علي البوصيري، وأبو يعقوب بن الطفيل الدمشقي، وكان يروي بالإجازة العامة عن أبي طاهر السلفي، وكان يعقد الشروط ويبصرها ويجيد فك المعمى. قال ابن الأبار في التكملة: وله تقييد مفيد في الوفيات اعتمد عليه في هذا الكتاب، وحدثني به عنه ابنه أبو عمر عيشون بن محمد وغيره من أصحابنا، وتوفي مستهل ذي القعدة سنة 614، ودفن بروضة ابن فرج بربض سرحان من داخل مرسية وهو ابن ست وسبعين سنة.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى الأنصاري، سمع من أبي القاسم بن حبيش، وأبي بكر بن أبي جمرة، وأبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن علوش، وغيرهم، ورحل حاجا فسمع بمكة من أبي عبد الله بن أبي الصيف، وأبي محمد يونس بن يحيى الهاشمي، وغيرهما، وعاد إلى مرسية بلده فلزم بها إقراء القرآن، وكان شيخا صالحا مقلا صابرا، قال ابن الأبار: وحدثني بعض أهل بلده بصحبته لأبي القاسم الطرسوني وقعوده معه في دكانه، قال لي: وربما غلط في فتياه فيرد عليه ابن يحيى هذا، وكان يخضب، وتوفي سنة 619 أو قبلها بيسير.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن هشام الفهري، من أهل المرية، أصله من مرسية، يعرف بابن الشواش وبالذهبي، سمع من أبي عبد الله بن سعادة، وأبي بكر بن أبي ليلى، وأبي عبد الله بن الفرس، وأبي القاسم بن حبيش، وغيرهم، وأخذ عن أبي موسى الجزولي النحوي، وقعد لإقراء القرآن وإسماع الحديث وتدريس العربية، وكان فاضلا متواضعا مشاركا في فنون من العلم، من أبرع الناس خطا وأجودهم ضبطا، وتردد مرارا على مرسية فأخذ عنه بها، وتوفي بالمرية سنة 618، وقال ابن فرقد: توفي سنة 619، وكذا قال ابن فرقد، وزاد أنه دفن بمقبرة الأخرس بالربض.
وأبو بكر محمد بن محمد بن حبون المعافري، سمع ببلده مرسية أبا القاسم بن حبيش، وأبا عبد الله بن حميد، ولقي أبا بكر بن الجد، وأبا الوليد بن رشد، وأبا الحسن نجبة بن يحيى، وأبا العباس بن مضاء، وأبا موسى الجزولي النحوي فسمع منهم، وأقرأ العربية، وكان له حظ من قرض الشعر، وتوفي في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة 623، رواه ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن موسى بن هشام الهمداني، من أهل مرسية، ومن «ملينة» منها، سمع من أبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، وغيرهما ، وعني بعقد الشروط، وكان كريم العشرة، حلو النادرة، محمود الأحوال، ولي قضاء بسطة بآخرة من عمره، وتوفي وهو في القضاء، وذلك في أول سنة 624، قاله ابن الأبار.
وأبو بكر محمد بن محمد بن يوسف بن أحمد بن جهور الأزدي، سمع ببلده مرسية من أبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، ورحل إلى قرطبة، فصحب بها أبا الوليد بن رشد، ولقي أبا بكر بن الجد، وأبا الحسن نجبة بن يحيى، وأبا عبد الله بن الفخار، وغيرهم، فأخذ عنهم، وأجاز له أبو طاهر السلفي، ولقي بتونس أبا الطاهر بن الدمنة من أصحاب عبد الله المازري، فأخذ عنه، وكان له حظ من النظم والنثر، وتوفي سنة 629، عن ابن الأبار.
وأبو القاسم محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد العزيز، يعرف بابن «حمنال»، سمع من أبي محمد بن حوط الله، وأبي الخطاب بن واجب، وولي الصلاة والخطبة ببلده مرسية، واستأدبه بعض الأكابر لبنيه، وكان يكتب المصاحف ويعرف رسمها مع براعة الخط وحسن الوراقة، وتوفي في أول شوال سنة 633.
وأبو بكر محمد بن علي بن محمد الطائي الصوفي، من أهل إشبيلية، أصله من مرسية، يعرف بابن العربي، أخذ عن مشيخة إشبيلية، ومال إلى الأدب، وكتب لبعض الولاة، ثم رحل إلى المشرق حاجا فأدى الفريضة، ولم يعد بعدها إلى الأندلس، وسمع الحديث من أبي القاسم الحرستاني وغيره، وكان يحدث بالإجازة العامة عن أبي طاهر السلفي، وبرع في علم التصوف، وله فيه تآليف جليلة، وتوفي بعد الأربعين وستمائة.
29
وأبو عيسى محمد بن محمد بن أبي السداد، واسمه موفق مولى زاكن اللمتوني، سمع أبا القاسم بن حبيش واختص به، ولازمه من سنة 578 إلى حين وفاته، وسمع من غيره وأجاز له جماعة من كبار العلماء كأبي بكر بن الجد، وأبي الحسن نجبة بن يحيى، وأبي محمد بن بونه، وأبي عبد الله بن الفخار، وغيرهم. وكان يتولى الأحكام بالنيابة في بلده مرسية، ثم تولى القضاء فيها، قال ابن الأبار في التكملة: وكان من أهل المعرفة والثقة والعدالة وسكون الطائر ولين الجانب، لقيته بجامع مرسية في أول ذي القعدة سنة 636 عند صدري من الرسالة التي وجهت فيها إلى تونس منتصف السنة المذكورة، وجالسته بدار الإمارة بمرسية مرارا، وقد أجاز لي غير مرة جميع روايته، وأخذ عنه جماعة من أصحابنا وكان أهلا لذلك، وإن لم يكن يبصر الحديث، وعمر وتوفي غداة الاثنين الثاني لجمادى الآخرة سنة 642، ودفن يوم الثلاثاء بعد صلاة العصر بحومة مسجد الجرف، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن يحيى بن محمد الأنصاري الخزرجي، يعرف بالغلاظي، من أهل مرسية، أخذ عن ابن حبيش، واستجاز له أبو جعفر بن عميرة الضبي في رحلته إلى الشرق أبا يعقوب بن الطفيل الدمشقي، وأبا محمد بن بري النحوي، وأبا الفضل بن يوسف الغزنوي، وأبا القاسم هبة الله بن علي البوصيري، فأجازوا له ولجماعة معه من أهل بلده جميع روايتهم ومصنفاتهم سنة 579، واستشهد يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي القعدة سنة 642، قتله الروم عند تغلبهم على المركب الذي ركب فيه من ساحل قرطاجنة.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الملك الأزدي، من أهل «قيجاطة»، يعرف بالقارجي، نزل بمرسية، وكانت وفاته فيها يوم الثلاثاء 23 محرم سنة 643، أخذ عن أبي عبد الله بن يربوع في بلده قيجاطة. وسنة 595 رحل حاجا؛ فسمع بالقاهرة أبا عبد الله القرطبي، وذكر أنه لقي بطبرية من بلاد الشام أبا الحسن علي بن محمد التجيبي، فأخذ عنه القراءات السبع في ختمة واحدة؛ قال ابن الأبار: في ذلك نظر. قال: وأخذ بدمشق من أبي الطاهر الخشوعي، وأبي محمد هبة الله بن عساكر، ولقي بمصر الإمام الطوسي. انتهى ملخصا.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل السلمي، من أهل مرسية، رحل إلى الشرق سنة 607 أو نحوها، ولقي بنيسابور أبا الحسن المؤيد بن محمد الطوسي صاحب أبي عبد الله الفراوي مسند وقته، فسمع منه صحيح مسلم، ويروي عنه ابن نقطة، قال ابن الأبار: وأجاز لنا في سنة ثلاث عشرة؛ أي بعد الستمائة.
30
وأبو بكر محمد بن غلبون بن محمد بن عبد العزيز بن غلبون بن عمر الأنصاري، سمع من أبيه، وأجاز له أبو القاسم بن حبيش، وجماعة من علماء الأندلس، وجماعة من علماء المشرق، وكان ذا عناية بالرواية، حسن التقييد والخط، مشاركا في فنون، وتولى حسبة السوق ببلده مرسية، قال ابن الأبار: أجاز لي غير مرة، ولقيته بمرسية في آخر سنة 636، ووقف على «التكملة» هذه من تأليفي، وكانت له خزانة مملوءة أصولا عتيقة ودفاتر أنيقة ضاعت لاختلاله قبل وفاته بمدة، وبيع أكثرها وهو لا يشعر، ونكب هو وابنه في ما بلغني إلى أن توفي على تلك الحال من الاختلال في شعبان سنة 650، ونعي إلي في رمضان بعده، وذلك بمدينة بجاية.
وأبو محمد بن يحيى المرسي، توفي سنة 566، قال ابن الأبار: ذكره ابن حبيش، ولا أعرفه.
وأبو بحر صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي الكاتب، أخذ عن أبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، وأبي العباس بن مضاء، وأبي رجال بن غلبون وغيرهم، وأجاز له ابن بشكوال. وكان من جلة الأدباء ومهرة الكتاب، ناقدا مدركا، مفوها، متقدما في النظم والنثر، وجمع مما صدر عنه كتابا سماه «عجالة المتحفز وبداهة المستوفز»، وكان من الفضل والدين بمكان، توفي ليلة الاثنين السادس عشر من شوال سنة 598، وثكله أبوه، وهو صلى عليه، ودفن بإزاء مسجد الجرف من غربي بلده مرسية وهو دون الأربعين، ذكره ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن مفرج الضرير، أندلسي، من أهل مرسية، ذكره ابن الأبار نقلا عن ابن عساكر؛ ذلك لأنه قدم دمشق ولقي بعض علمائها وأخذ عنهم وأخذ عنه. وقال إنه ولد سنة 417 في تدمير.
وأبو محمد عبد الله بن محمد الصريحي، يعرف بابن مطحنة، تأدب بأبي بكر بن الفرضي النحوي ، ورحل حاجا فلقي في المشرق أبا محمد العثماني وغيره، وقعد لتعليم الأدب، وأخذ عنه أبو عبد الله المكناسي وغيره، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو محمد عبد الله المعروف بابن القربلياني، من أهل مرسية، صحب الأستاذ أبا بكر بن الجزار، وتقدم في تلاميذه، وخلفه في حلقته معلما بعده العربية وآدابها، أخذ عنه ابن سفيان وقال: توفي سنة 555، روى ذلك ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن موسى بن سليمان بن علي بن عبد الملك بن يحيى بن عبد الملك بن الحسن بن محمد بن عميرة بن طريف بن أشكورنه الأزدي، يعرف بابن برطله، سمع أبا علي الصدفي، ورحل حاجا في سنة 510، فأدى الفريضة وسمع من كبار العلماء مثل أبي عبد الله الرازي، وأبي بكر الطرطوشي، وأبي الحسن بن مشرف الأنماطي، وأبي طاهر السلفي، وغيرهم، وانصرف إلى مرسية بلده فولي صلاة الفريضة بجامعها، وتزوج حينئذ بنت شيخه أبي علي، فولدت له ابنه أبا بكر عبد الرحمن بن عبد الله، وكان شيخا فاضلا جليلا متواضعا، من أهل النباهة والنزاهة، تخيره أهل بلده للإمامة بهم، فأقام على ذلك حياته كلها، ولقيه أبو عمر بن عياد، وهو من جلة مشايخه، وتوفي ابن برطله المترجم بمرسية سنة 563، ومولده سنة 481، ذكره ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن موسى بن عبد الله الخزرجي، يعرف بابن غرفلعة (كذا)، روى عن مشيخة بلده مرسية وغيرهم، وكان ذا حظ من العربية، وكان منقبضا عن الناس، تاركا ما لا يعنيه. قال ابن الأبار: ذكره لي أبو محمد بن برطله الخطيب - وهو جده لأمه - وقال: توفي قبل التسعين وخمسمائة.
وأبو محمد عبد الله بن حامد بن يحيى بن سليمان بن أبي حامد المعافري، أخذ عن أبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، وأبي محمد بن حوط الله، وأخذ العربية عن أبي الحسن بن الشريك، والأدب عن أبي بحر صفوان بن إدريس، وكان من رجالات الأندلس وجاهة وجلالا، مع التحقق بالكتابة والمشاركة في القريض، وإليه كانت رئاسة بلده مرسية، وتوفي بعد صدره عن إشبيلية في آخر سنة 621.
وأبو زيد عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي، رحل حاجا فأدى الفريضة ولقي بمكة أبا الحسن علي بن المفرج الصقلي، فسمع منه موطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري، ولقي أبا عبد الله بن علي الطبري فسمع منه صحيحي البخاري ومسلم، وأبا عبد الله بن اللجالة النحوي الأندلسي، فحدث عنه بالملخص للقابسي عن مؤلفه. وقفل إلى بلده مرسية وأقرأ التفسير والحديث، حدث عنه ابنه صاحب الأحكام أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن، نقل ابن الأبار خبره هذا عن ابنه وعن ابن عياد، وقال إنه توفي بعد العشرين وخمسمائة.
وأبو بكر عبد الرحمن بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن خلف بن إبراهيم بن محمد بن أبي ليلى الأنصاري، من ولد أبي عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، أصله من غرناطة، سمع أباه أبا القاسم، ولازم أبا علي الصدفي واختص به، وهو أثبت الناس فيه وأحفظهم لأخباره وأضبطهم لرواياته، وقلما فاته مجلس من مجالسه، وكان هو القارئ عليه في أثناء تدريسه. وللمترجم أشياخ آخرون مثل أبي محمد بن أبي جعفر، وأبي عمران بن أبي تليد، وأبي بكر بن العربي، وأبي محمد بن عتاب، وأبي الحسن بن الباذش وغيرهم، وأدى فريضة الحج سنة 529، فلقي في مكة أبا المظفر الشيباني، وأبا علي بن العرجاء، وسمع بالإسكندرية كثيرا من أبي طاهر السلفي، وأبي محمد العثماني، ورجع إلى الأندلس.
وكان عدلا موصوفا بصحة التقييد واتساع الرواية، متقللا منقبضا عن الناس، وكان القاضي أبو عبد الله بن سعادة يثني عليه ويصفه بالضبط، وكان من أصحاب الشيخ أبي علي الصدفي روى عنه كثيرا، وأراده أبو العباس بن الحلال على القضاء فامتنع وآثر الاعتزال ولزم مزرعة له بخارج مرسية. ثم رغب إليه الناس في آخر عمره أن يجلس للإقراء فأجاب إلى ذلك، وتنافس الناس في حضور درسه؛ لأنه آخر المكثرين من الرواة عن أبي علي الصدفي. قال ابن الأبار: وسماه ابن بشكوال في معجم مشيخته، وروى عنه جلة من شيوخنا وغيرهم، مولده بمرسية في المحرم سنة 490، وتوفي بها في شعبان أو رمضان سنة 566، وقيل سنة 567.
وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن محمد السلمي الكاتب، من أهل مرسية، يعرف بالمكناسي، روى عن أبي عبد الله بن سعادة، وعني بالأدب فرأس في الكتابة وشارك في قرض الشعر، وديوان رسائله بأيدي الناس يتنافس فيه، وكتب للأمير أبي عبد الله بن سعد بن مردنيش، وكتب لغيره من الأمراء، ذكره ابن سفيان وقال: به ختمت البلاغة في الأندلس. وأخذ عنه أبو القاسم الملاحي كثيرا من نظمه ونثره، توفي بمراكش سنة 571 وهو دون سن الاكتهال، قاله ابن الأبار.
وأبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله بن موسى بن سليمان الأزدي، يعرف بابن برطله، تقدمت ترجمة والده عبد الله، وعبد الرحمن المترجم هنا هو سبط القاضي أبي علي الصدفي، أخذ القراءات عن أبي علي بن عريب، وسمع ابن أبي ليلى، وأبا عبد الله بن سعادة، وأبا القاسم بن حبيش، وغيرهم، وقرأ بشاطبة وببلنسية وبقرطبة، فممن أخذ عنهم في بلنسية أبو الحسن بن النعمة، وبقرطبة أبو القاسم بن بشكوال، وأخذ بإشبيلية عن أبي بكر بن الجد، وولي قضاء دانية مدة ثم صرف عنه حميد السيرة معروف النزاهة، وولي صلاة الفريضة والخطبة بجامع مرسية دهرا طويلا.
وكان فقيها محدثا أديبا مع جمال الشارة والجلالة والسراوة والفصاحة ونباهة البيت، توفي ببلده مرسية ليلة الاثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول سنة 599، وصلي عليه عصر ذلك اليوم، ودفن إلى جانب أبيه لصق دارهم بمقربة من الباب الحديد، ومولده سنة 547، أكثر خبره عن ابن سالم، قاله ابن الأبار.
وعبد الملك بن وليد بن محمد بن وليد بن مروان بن عبد الملك بن محمد بن مروان بن خطاب، يعرف بابن أبي جمرة، وبيتهم في مرسية شهير، روى عن أبيه وليد بن محمد، وروى عنه ابنه موسى بن عبد الملك، قاله ابن الأبار.
وأبو مروان عبد الملك بن موسى بن عبد الملك بن وليد بن أبي جمرة هو حفيد المترجم قبله، سمع من أبيه موسى، وأبي عمرو المقري، وغيرهما، وحدث عنه ابنه أبو العباس أحمد بن عبد الملك، توفي بمرسية لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة 485.
وأبو الأصبغ عبد العزيز بن يوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن إبراهيم بن فيره بن عمر اللخمي، من أهل مرسية، سكن تلمسان، وأصله من أندة، يعرف بابن الدباغ، روى عن أبيه الحافظ أبي الوليد، وعن جده لأمه أبي عبد الله محمد بن أحمد بن وضاح القيسي، وأجاز له العلماء الجلة كأبي عبد الله بن الحاج، وأبي الحسن شريح، وأبي بكر بن العربي، وغيرهم، وشيوخه أزيد من سبعين، وكان أبوه من أئمة المحدثين. عن ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الجبار بن موسى بن عبد الله الجذامي المعروف بالشمنتي، كان من أهل المعرفة بالقراءات والعربية، وكان يقرؤها جميعا بمرسية، وكان من أهل الدين والفضل، أخذ عنه أبو محمد بن الفرس، جاء ذكره في التكملة لابن الأبار، ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو محمد عبد الحق بن محمد بن عبد الرحمن القيسي المرسي، سبط عبد الحق بن عطية، أخذ عن أبي محمد بن سهل الضرير، وأبي القاسم بن حبيش، وكان متفننا في العلوم الشرعية والنظر بها، ولد سنة 539، وتوفي في المحرم سنة 598.
وعبد الحق بن محمد بن عبد العزيز بن سعد أبو محمد الجمحي المرسي، نزيل غرناطة، أخذ عن أبي بكر بن العربي، وأبي الحسن شريح، وأخذ عنه أبو القاسم الملاحي، وأبو عبد الله بن الحلا من علماء غرناطة، توفي سنة 601.
وعبد الكبير بن محمد بن عيسى بن محمد بن بقي أبو محمد الغافقي المرسي، نزيل إشبيلية، روى عن أبيه، وعن أبي عبد الله بن سعادة، وجماعة، وأجاز له أبو الحسن بن هذيل وغيره، وكان فقيها، قال ابن الزبير: كان شيخ الفقهاء في وقته، ولي القضاء برندة، وكان متقدما في صناعة التوثيق، وناب عن القاضي أبي الوليد بن رشد بقرطبة وأخذ عنه. كانت ولادته سنة 536، ووفاته في صفر سنة 617.
وعثمان بن محمد بن عيسى بن عثمان اللخمي أبو عمرو المرسي البشيجي؛ نسبة إلى بعض الثغور، روى عن أبي الحسن بن هذيل، وأبي عبد الله بن سعادة، وغيرهما، وروى عنه أبو سليمان بن حوط الله ، وأبو عيسى بن أبي السداد، وكان فقيها مدرسا، توفي سنة 580، ذكره ابن الأبار.
وعلي بن أحمد بن عبد الملك بن حمدوس الخولاني أبو الحسن المرسي، سمع من أبي علي الصدفي، وأجاز له غالب بن عطية، ذكره ابن الأبار.
وعلي بن محمد بن ديسم أبو الحسن المرسي، أخذ عن أبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، وأبي الحسن بن الشريك، وأقرأ القرآن وعلم العربية، وكان يعيش من الوراقة، وكان بديع الخط، توفي سنة 624، عن ابن الأبار.
وعلي بن محمد بن أبي العافية اللخمي المرسي أبو الحسن القسطلي، سمع من أبي عبد الله بن سعادة، وأبي عبد الله بن عبد الرحيم، وأبي القاسم بن حبيش صهره، وولي قضاء مرسية وبلنسية وشاطبة، وكان جزلا مهيبا، وأضر بآخر عمره، وأثار فتنة في مرسية جرت إلى هلاكه؛ فقتل فيها، وذلك في جمادى الأولى سنة 626.
وعلي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم التجيبي أبو الحسن الحرالي؛ نسبة إلى قرية بمرسية، ولد بمراكش، وأخذ عنه ابن خروف، ورحل إلى الشرق، ومال إلى النظريات وعلم الكلام، ومات بحماة من الشام سنة 637.
وأبو بكر عتيق بن أسد بن عبد الرحمن بن أسد الأنصاري، نشأ بمرسية، وأخذ الحديث عن أبي علي الصدفي، والفقه عن أبي محمد بن جعفر، وبرع في الفقه حتى قال ابن الأبار في التكملة إنه كان نسيج وحده بالفقه وجودة الفتاوى، وولي قضاء شاطبة ودانية، وكانت وفاته في جمادى الآخرة سنة 538.
وأبو بكر عزيز بن عبد الملك بن محمد بن خطاب، رئيس مرسية في وقته، أخذ عن أبي محمد بن حوط الله وغيره، ونظر في العلوم وتحقق بكثير منها، وكان بليغا في النظم والنثر. ومال إلى الزهد في أول أمره وأقبل على الآخرة، ثم استهوته الدنيا وقدم لولاية مرسية فلم تحمد سيرته فصرف عنها، ثم صارت إليه رئاستها فدعا لنفسه؛ فقتل في رمضان سنة 636 بعد التراويح عن سبع وستين سنة، ونقل ابن الأبار عن ابن الزبير أنه قتل في رمضان عام ثمانية وثلاثين وستمائة صبرا ، وطيف بجسده في البلد.
وغالب بن محمد بن غالب اللخمي المرسي أبو عمر بن حبيش بالفتح، سمع من أبي القاسم بن حبيش بالضم، وله رحلة إلى الشرق سمع فيها من بعض علماء دمشق، وأخذ بعضهم عنه، وقال ابن الأبار توفي سنة 629.
وغلبون بن محمد بن عبد العزيز بن فتحون بن غلبون الأنصاري أبو محمد المرسي، سمع من ابن هذيل، وابن سعادة، وابن عاشر، وجماعة، وأخذ عنه الناس، وكان فاضلا جليلا متقنا، قال ابن الأبار: كتب إلينا بإجازة ما روى، وتوفي في رابع عشر ربيع الآخر سنة 613.
وسهيل بن محمد بن سهيل بن محمد بن سهيل الزهري أبو محمد، إمام جامع مرسية مدة طويلة، كان من أهل الصلاح والزهادة، محببا إلى الخاصة والعامة، توفي سنة 616، ذكره ابن الأبار.
وأبو بكر يحيى بن محمد السرقسطي نزيل مرسية، يعرف باللباني، أخذ عن أبي الوليد الوقشي، وأبي الحسن بن أفلح النحوي، ومهر في العربية، وأقرأ بمرسية وغيرها، وأخذ الناس عنه، وتوفي سنة 520 أو نحوها.
وأبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مجبر الفهري، نشأ بمرسية وتأدب بشيوخها، وسكن إشبيلية، وكان شاعر الأندلس في وقته، بل شاعر المغرب غير مدافع، مدح الأمراء وكتب لبعضهم، وسارت قصائده مسير الأمثال، ومن شعره:
إن الشدائد قد تغشى الكريم لأن
تبين فضل سجاياه وتوضحه
كمبرد القين إذ يعلو الحديد به
وليس يأكله إلا ليصلحه
وله:
لا يغبط المجدب في علمه
وإن رأيت الخصب في حاله
إن الذي ضيع من نفسه
فوق الذي ثمر من ماله
توفي بمراكش ليلة الأضحى سنة 588، وقيل قبلها بسنة، ذكره ابن الأبار.
وأبو زكريا يحيى بن عبد الملك بن أبي غصن اللخمي المولي، نزيل مرسية، وموله بلدة من أعمالها، حج وسمع من يونس بن يحيى الهاشمي وغيره بمكة، وأخذ عنه ابن الزبير، ذكره ابن الأبار.
وخديجة بنت أبي علي حسين بن محمد الصدفي المرسي، نشأت صالحة زاهدة، تحفظ القرآن، وتذكر كثيرا من الحديث، وتطالع زوجها عبد الله بن موسى بن برطله صاحب الصلاة بمرسية. وتوفيت بعد التسعين وخمسمائة وقد نيفت على الثمانين.
وأبو بكر محمد بن أحمد بن حبون المعافري المرسي، سمع أبا القاسم بن حبيش، وأبا عبد الله بن حميد، وجماعة، وأقرأ العربية، وكان له حظ من قرض الشعر، ذكر ابن الأبار وفاته في ذي الحجة سنة 627.
ومحمد بن يخلفتن بن أحمد بن تنفليت اليجفشي أبو عبد الله الفازازني التلمساني، سمع من أبي عبد الله التجيبي، وكان فقيها أديبا مقدما في الكتابة والشعر، ولي قضاء مرسية ثم قضاء قرطبة، وكان حميد السيرة شديد الهيبة، توفي بقرطبة سنة 621، ذكره ابن الأبار.
ومحمد بن إسماعيل بن محمد المتيجي، من ناحية بجاية بالمغرب الأوسط، نزل مرسية وصار خطيبها، ولقي ابن بشكوال فأخذ عنه، وكان مليح الخط والضبط، فاضلا زاهدا، يقول الشعر، توفي في ربيع الأول سنة 625 عن نحو سبعين سنة.
وأبو عمران موسى بن سعادة مولى سعيد بن نصر، من أهل مرسية، سمع صهره أبا علي بن سكرة المشهور بأبي علي الصدفي، وكانت بنته عند أبي علي، وكان يتولى القيام بجميع ما يحتاج إليه صهره من دقيق الأشياء وجليلها. وكان أبو عمران المترجم من الأفاضل والأجواد، وكان يؤم الناس في صلاة الفريضة، وحج وسمع السنن من الطرطوشي، وانتسخ صحيحي البخاري ومسلم بخطه، وسمعهما على صهره أستاذ الأندلس في الحديث، وكانا أصلين لا يوجد مثلهما في الصحة. وكانت له مشاركة في اللغة والأدب، حدث عنه ابن أخيه القاضي محمد بن يوسف بن سعادة بكتاب أدب الكتاب لابن قتيبة وبالفصيح لثعلب، وجاءت ترجمته في نفح الطيب.
وعلم الدين أبو محمد المرسي اللورقي العلامة المقرئ الأصولي النحوي، أخذ عن أبي جعفر الحصار، وأبي عبد الله المرادي، وأبي عبد الله بن نوح الغافقي من علماء الأندلس، ورحل إلى الشرق فقرأ بمصر على أبي الجود غياث بن فارس، وبدمشق على التاج بن زيد الكندي، وببغداد على أبي محمد بن الأخضر، وأخذ عن الجزولي النحوي بالمغرب، وبرع في العربية وفي علم الكلام والفلسفة، وكان يقرئ هذه العلوم، وأقام بدمشق ودرس فيها، وشرح المفصل في النحو في أربع مجلدات، وشرح الجزولية والشاطبية، وكان مليح الشكل حسن البزة، توفي سابع رجب سنة 661، جاءت ترجمته في نفح الطيب.
وأبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر الشهير بابن سبعين العكي المرسي، كان يلقب من الألقاب المشرقية بقطب الدين، قال المؤرخ ابن عبد الملك: درس العربية والآداب بالأندلس، ثم انتقل إلى سبتة، وانتحل التصوف وعكف برهة على مطالعة كتبه والتكلم على معانيها فمالت إليه العامة. ثم رحل إلى المشرق وحج حججا وشاع ذكره وعظم صيته، وكثر أشياعه وصنف أوضاعا كثيرة تلقوها منه ونقلوها عنه، ويرمى بأمور الله تعالى أعلم بها وبحقيقتها. وكان حسن الأخلاق صبورا على الأذى آية في الإيثار. ا.ه.
وقيل إنه كان يكتب عن نفسه: «ابن 5» يعني الدارة التي هي كالصفر، وهي في حساب المغاربة سبعون؛ فشهر لذلك بابن دارة، ولما ذكروا هذا الشريف الغرناطي تمثل بالبيت المشهور:
محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا
ترجمة وافية لابن سبعين
نقل المقري في نفح الطيب عن صاحب «درة الأسلاك» في حوادث سنة 669 وفاة الشيخ قطب الدين أبي محمد عبد الحق بن سبعين المرسي، صوفي متفلسف متزهد متقشف، يتكلم على طريق أصحابه، ويدخل البيت ولكن من غير أبوابه، شاع أمره واشتهر ذكره، وله تصانيف وأتباع وأقوال تميل إليها بعض القلوب وتملها بعض الأسماع، وكانت وفاته بمكة المشرفة عن نحو خمسين سنة، تغمده الله برحمته. ا.ه.
ونقل صاحب النفح رسالة لأحد تلاميذ ابن سبعين يظن اسمه يحيى بن محمد بن أحمد بن سليمان، واسم الرسالة «الوراثة المحمدية والفصول الذاتية»، قال فيها: فإن قيل ما الدليل على أن هذا الرجل الذي هو ابن سبعين هو الوارث المشار إليه؟ قلنا: عدم النظير، واحتياج الوقت إليه، وظهور الكلمة المشار إليها عليه، ونصيحته لأهل الملة، ورحمته المطلقة للعالم المطلق ، ومحبته لأعدائه وقصده لراحتهم مع كونهم يقصدون أذاه، وعفوه عنهم مع قدرته عليهم، وجذبهم إلى الخير مع كونهم يطلبون هلاكه، وهذه كلها من علامات الوراثة والتبعية المحضة التي لا يمكن أحدا أن يتصف بها إلا بمجد أزلي. (ثم أخذ يعد مزايا ابن سبعين) فقال: إن الله خلقه من أشرف البيوت التي في بلاد المغرب، وهم بنو سبعين، قرشيا هاشميا علويا، وأبوه وجدوده يشار إليهم ويعول في الرئاسة عليهم، والثاني كونه من بلاد المغرب، والنبي - عليه السلام - قال: لا يزال طائفة، من أهل المغرب ظاهرين إلى قيام الساعة. وما ظهر من بلاد المغرب رجل أظهر منه، فهو المشار إليه بالحديث. (إلى أن يقول): انظر في بدايته وحفظ الله - سبحانه - له في صغره، وضبطه له من اللهو واللعب، وإخراجه من اللذة الطبيعية التي هي في جبلة البشرية، وتركه للرئاسة العرضية المعول عليها عند العالم مع كونه وجدها في آبائه، وهي الآن في إخوته، وخروجه عن الأهل والوطن، وانقطاعه إلى الحق، تعلم تخصيصه وخرقه للعادة.
ثم انظر في تأيده وفتحه من الصغر، وتأليفه كتاب «بدء العارف» وهو ابن خمس عشرة سنة، وفي جلالة هذا الكتاب وكونه يحتوي على جميع الصنائع العلمية والعملية، تجده خارقا للعادة، وفي نشأته بالأندلس ولم يعلم له من قبل كثرة نظر وظهوره مع ذلك بالعلوم التي لم تسمع قط تعلم أنه خارق للعادة، وفي تواليفه واشتمالها على العلوم كلها وانفرادها، وخصوصيتها بالتحقيق الشاذ عن أفهام الخلق، تعلم أنه مؤيد بروح القدس، وفي شجاعته وقوة توكله ونصره لصنائعه وإقامة حقه وبرهانه وفصاحة كلامه وبيان سلطانه تعلم أن ذلك بقوة إلهية. (ومضى صاحب هذه الرسالة في هذه المبالغات إلى أن انتهى وقد جعل ابن سبعين شخصا خارقا للعادة في بني آدم.)
ونقل صاحب النفح عن أبي الحسن بن برغوش التلمساني شيخ المجاورين بمكة - وكانت له معرفة تامة بهذا الرجل - أنه كان إذا قرب من باب من أبواب مسجد المدينة - على ساكنها الصلاة والسلام - يهراق منه دم كدم الحيض. والله تعالى أعلم بحقيقة أمره. وحدث مع ذلك أصهاره بمكة أنه زار النبي
صلى الله عليه وسلم
مستخفيا على طريق المشاة.
وقال لسان الدين بن الخطيب: أما شهرته ومحله من الإدراك والآراء والأوضاع والأسماء، والوقوف على الأقوال، والتعمق في الفلسفة، والقيام على مذاهب المتكلمين، فمما يقضي منه بالعجب، وقال الشيخ أبو البركات بن الحاج البلقيني: حدثني بعض أشياخنا من أهل المشرق أن الأمير أبا عبد الله بن هود سالم طاغية النصارى، فنكث به ولم يف بشرطه، فاضطره ذلك إلى مخاطبة القس الأعظم برومية - أي البابا - فوكل أبا طالب بن سبعين أخا أبي محمد عبد الحق بن سبعين في التكلم عنه والاستظهار بين يديه، قال: فلما بلغ ذلك الشخص رومية - وهو بلد لا يصل إليه المسلمون - ونظر إلى ما بيده وسئل عن نفسه فأخبر بما ينبغي، كلم ذلك القس من دنا منه بكلام معجم ترجم لأبي طالب بما معناه: اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه. ا.ه.
ومما ينسب إلى ابن سبعين قوله - وقد جرى ذكر أبي مدين الولي الشهير - هذه الجملة: شعيب عبد عمل ونحن عبيد حضرة. وذكر ابن خلدون في تاريخه الكبير في ترجمة السلطان المستنصر أبي عبد الله محمد بن السلطان زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص ملك إفريقية أن أهل مكة بايعوه وخطبوا له بعرفة وأرسلوا له بيعتهم، وهي من إنشاء ابن سبعين، وسردها ابن خلدون بجملتها، وهي طويلة، وفيها من البلاغة والتلاعب بأطراف الكلام ما لا مطمع وراءه. قال في النفح: غير أنه يشير فيها إلى أن المستنصر هو المهدي المبشر به في الأحاديث، الذي يحثو المال ولا يعده، وحمل حديث مسلم وغيره عليه، وفي ذلك ما لا يخفى.
ولابن سبعين من رسالة: سلام عليك ورحمة الله، سلام عليك ثم سلام، مناجاتك سلام الله ورحمة الله الممتدة على عوالمك كلها، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته، وصلى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك، وكصلاة أعز ملائكتك من حيث حقيقتك، وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته. السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا قياس الكمال ومقدمة العلم ونتيجة الحمد وبرهان المحمود، ومن إذا نظر الذهن إليه قرأ نعم العبد. السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء وأسرار مشروطات الأذكياء الأتقياء، السلام عليك يا من جاور في السماوات مقام الرسل والأنبياء، وزادك رفعة واستعلاء على ذوات الملأ الأعلى، وذكر قوله تعالى:
سبح اسم ربك الأعلى
انتهى.
قال بعضهم عند إيراده جملة من رسائل ابن سبعين التي منها هذه: إنها تشتمل على ما يشهد له بتعظيم النبوة وإيثار الورع. ونقل صاحب نفح الطيب عن بعض كبار العلماء أن ابن سبعين ولد سنة 614، ودرس العربية والأدب بالأندلس، ونظر في العلوم العقلية، وأخذ عن أبي إسحاق بن دهاق، وبرع في طريقه، وجال في البلاد، وقدم القاهرة، ثم حج واستوطن مكة، وطار صيته وكثر أتباعه، وله كتاب «الدرج»، وكتاب «السفر»، وكتاب «الكد»، وكتاب «الإحاطة»، ورسائل كثيرة في الأذكار وترتيب السلوك والوصايا والمواعظ والغنائم، ومن شعره:
كم ذا تموه بالشعبين والعلم
والأمر أوضح من نار على علم
وكم تعبر عن سلع وكاظمة
وعن زرود وجيران بذي سلم
ظللت تسأل عن نجد وأنت بها
وعن تهامة هذا فعل متهم
في الحي حي سوى ليلى فتسأله
عنها سؤالك وهم جر للعدم
ونشأ ترفا مبجلا في ظل جاه ونعمة لم تفارق معها نفسه البأو، وكان وسيما جميلا، ملوكي البزة، عزيز النفس، قليل التصنع، وكان آية من الآيات في الإيثار والجود بما في يده - رحمه الله تعالى - ونقل صاحب نفح الطيب عن لسان الدين بن الخطيب أنه لما وردت على سبتة المسائل الصقلية، وكانت جملة من المسائل الحكمية وجهها علماء الروم تبكيتا للمسلمين، انتدب ابن سبعين للجواب المقنع عنها على فتاء من سنه وبديهة من فكرته رحمه الله تعالى. ونقل صاحب النفح عن كتاب «عنوان الدراية» أن ابن سبعين رحل إلى العدوة، وسكن بجاية مدة، وأخذ الناس عنه في فنون خاصة، وكانت له مشاركة في المعقول والمنقول، وفصاحة لسان، وطلاقة قلم، وفهم جنان، وله أتباع كثيرون من الفقراء ومن عامة الناس، وله موضوعات كثيرة موجودة بأيدي أصحابه له فيها ألغاز وإشارات بحروف أبجد، وله تسميات مخصوصة في كتبه هي من نوع الرموز، وله شعر في التحقيق وفي مراقي أهل الطريق، وكتابته مستحسنة في طريق الأدباء، وله من الفضل والمزية ملازمته لبيت الله الحرام، والتزامه الاعتمار على الدوام، وحجه في كل عام.
ولقد مشى به للمغاربة في الحرم الشريف حظ لم يكن له في غير مدته، وكان أهل مكة يعتمدون على أقواله، ويهتدون بأفعاله، توفي - رحمه الله - يوم الخميس تاسع شوال سنة 669. انتهى ببعض اختصار.
ومما رواه صاحب النفح عنه أن أبا الحسن الششتري - من تلاميذ ابن سبعين - كان بعض الطلبة يرجحونه على شيخه أبي محمد بن سبعين، فكان يقول: إنما ذلك لعدم اطلاعهم على حال الشيخ وقصور باعهم. ومن تآليف ابن سبعين كتاب «الفتح المشترك».
فهذه هي خلاصة ما وجدنا عن هذا الرجل الذي اختلف فيه الناس كما اختلفوا في محيي الدين بن عربي؛ فبعضهم غلا في المدح وبعضهم غلا في القدح، وقال صديقنا العلامة السيد رشيد رضا - رحمه الله - ونقلنا ذلك عنه في كتابنا «السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة»: «ومن أولئك المفتونين بوحي الشياطين من ظن أنه تجاوز درجة الأنبياء، ومنهم ابن سبعين الذي قال: لقد تحجر ابن آمنة واسعا بقوله «لا نبي بعدي». ومثل هذا الكلام هو الذي جرأ ميرزا غلام القادياني على ادعاء النبوة.» ا.ه. ولم أعلم أين عثر السيد رشيد - رحمه الله - على هذه الرواية عن ابن سبعين، وإن كنت لا أشك في أن مثل السيد رشيد لا يرميها جزافا.
وجاء في «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» للمؤرخ الشهير أبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، المتوفى سنة 1089، ذكر وفاة ابن سبعين سنة تسع وستين وستمائة، وقال فيه: ابن سبعين الشيخ قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر الإشبيلي المرسي الرقوطي
31
الأصل الصوفي المشهور، قال الذهبي: كان من زهاد الفلاسفة ومن القائلين بوحدة الوجود، له تصانيف وأتباع يقدمهم يوم القيامة. ا.ه.
وقال الشيخ عبد الرءوف المناوي في طبقاته: درس العربية والآداب بالأندلس، ثم انتقل إلى سبتة، وانتحل التصوف على قاعدة زهد الفلاسفة وتصرفهم، وعكف على مطالعة كتبه، وجد واجتهد، وجال في بلاد المغرب. ثم رحل إلى المشرق وحج حججا كثيرة، وشاع ذكره وعظم صيته وكثرت أتباعه على رأي أهل الوحدة المطلقة، وأملى عليهم كلاما في العرفان على رأي الاتحادية، وصنف في ذلك أوضاعا كثيرة، وتلقوها عنه وبثوها في البلاد شرقا وغربا. انتهى.
وقد سبق نقل هذه العبارات عن نفح الطيب عن ابن عبد الملك، لكن مع اختلاف قليل وتصرف، وهنا هي مروية عن عبد الرءوف المناوي. ثم إنه في شذرات الذهب ينقل عن ابن حبيب قوله عن ابن سبعين: صوفي متفلسف متزهد متعبد متقشف، يتكلم على طريق أصحابه، ويدخل البيت لكن من غير أبوابه، شاع أمره واشتهر ذكره، وله تصانيف وأتباع وأقوال تميل إليها بعض القلوب وتنكرها بعض الأسماع. ا.ه. وفي نفح الطيب الجمل بعينها مع اختلاف قليل في اللفظ منسوبة لصاحب درة الأسلاك.
ثم ذكر أيضا صاحب شذرات الذهب نقلا عن عبد الرءوف المناوي أن ابن سبعين قال لأبي الحسن الششتري عندما لقيه وقد سأله عن وجهته، فأخبره بقصده الشيخ أبا أحمد: إن كنت تريد الجنة فشأنك ومن قصدت وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلينا. ثم نقل المناوي عن البسطامي قوله في ابن سبعين: كان له سلوك عجيب على طريق أهل الوحدة، وله في علم الحروف والأسماء اليد الطولى، وألف تصانيف منها «كتاب الحروف الوضعية في الصور الفلكية»، وشرح كتاب إدريس - عليه السلام - الذي وضعه في علم الحروف وهو نفيس. ومن وصاياه لتلاميذه وأتباعه: عليكم بالاستقامة على الطريق، وقدموا فرض الشريعة على الحقيقة، ولا تفرقوا بينهما؛ فإنهما من الأسماء المترادفة، واكفروا بالحقيقة التي في زمانكم هذا، وقولوا عليها وعلى أهلها اللعنة. انتهى.
وأغراض الناس متباينة بعيدة عن الاعتدال؛ فمنهم المرهق المكفر، ومنهم المقلد ، ومما شنع عليه به أنه ذكر إمام الحرمين فقال: إذا ذكر أبو جهل وهامان فهو ثالث الرجلين، وأنه قال في شأن الغزالي: إدراكه في العلوم أضعف من خيط العنكبوت . فإن صحت نسبة ذلك إليه فهو من أعداء الشريعة المطهرة بلا ريب. وقد حكي عن قاضي القضاة ابن دقيق العيد أنه قال: جلست معه من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاما تعقل مفرداته ولا تفهم مركباته، والله أعلم بسريرة حاله. وقد أخذ عن جماعة منهم الحراني والبوني، مات بمكة. انتهى كلام المناوي بحروفه، هكذا جاء في شذرات الذهب.
قلت: إنه ورد في النفح نقلا عن أحد العلماء - ولم يذكر المقري اسمه - أن ابن سبعين أخذ عن أبي إسحاق بن دهاق.
فإليكم الآن ترجمة أبي إسحاق بن دهاق، نقلا عن لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة.
إبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهاق الأوسي، يكنى أبا إسحاق، ويعرف بابن المرأة، سكن مالقة دهرا طويلا، ثم انتقل إلى مرسية باستدعاء المحدث أبي الفضل المرسي والقاضي أبي بكر بن محرز، وكان متقدما في علم الكلام، حافظا للحديث والتفسير والفقه والتاريخ وغير ذلك، وكان الكلام أغلب عليه، فصيح اللسان والقلم، ذاكرا لكلام أهل التصوف، يطرز مجالسه بأخبارهم، وكان شيخ الجمهور بمالقة، بارعا في ذلك، حسن الفهم لما يلقيه، وثوبا على التمثيل والتشبيه في ما يقرب للفهم، مؤثرا للخمول، قريبا من كل أحد، حسن العشرة، مؤثرا بما لديه، وكان بمالقة يتجر في سوق الغزل.
قال الأستاذ أبو جعفر وقد وصمه: كان صاحب حيل ونوادر مستظرفة يلهي بها أصحابه ويؤنسهم، ومطلعا على أشياء غريبة من الخواص وغيرها فتن بها بعض الطلبة، واطلع كثير ممن شاهده على بعض ذلك، وشاهد منه بعضهم ما يمنعه الشرع من المرتكبات فنافره وباعده بعد الاختلاف إليه، منهم شيخنا القاضي العدل المسمى بالفاضل ابن المرابط رحمه الله. أخبرني من ذلك بإشهاده ما يقبح ذكره، وتبرأ منه من كان سعى في انتقاله إلى مرسية، والله أعلم بغيبه.
ومن تآليفه شرحه كتاب «الإرشاد» لأبي المعالي، وشرح الأسماء الحسنى، وألف جزءا في إجماع الفقهاء، وشرح «محاسن المجالس» لأبي العباس أحمد بن العريف، وألف غير ذلك، قال لسان الدين بن الخطيب: وتآليفه نافعة في أبوابها ، حسنة الرصف والمباني، ثم ذكر وفاته بمرسية سنة إحدى عشرة وستمائة.
ومن مفاخر مرسية ومفاخر الأندلس - بل الإسلام بأجمعه - السيد العارف الشهير أبو العباس أحمد المرسي، دفين الإسكندرية، وهو من أكابر الأولياء، صحب القطب الشهير السيد أبا الحسن الشاذلي، وقد عرف به ابن عطاء الله في كتابه «لطائف المنن في مناقب الشيخ سيدي أبي العباس وشيخه سيدي أبي الحسن»، وقال الصفدي في الوافي بالوفيات: أحمد بن عمر بن محمد الشيخ الزاهد الكبير العارف أبو العباس الأنصاري المرسي، وارث شيخه الشاذلي تصوفا، الأشعري معتقدا، توفي بالإسكندرية سنة 686، ولأهل مصر ولأهل الثغر فيه عقيدة كبيرة، وقد زرته لما كنت بالإسكندرية سنة 738.
قلت: وقد زرت أنا أيضا أبا العباس المرسي في الإسكندرية سنة 1308، وصليت الجمعة في مسجده بالقرب من الخديوي المرحوم محمد توفيق باشا بن إسماعيل خديوي مصر، وحضرت أيضا مولد المرسي في ذلك الثغر، فاجتمع فيه ألوف وعشرات ألوف من الأهالي، وأنشدني المرحوم السيد عبد القادر الغرياني - من أعيان الإسكندرية - أبياتا للسيد القصبي حفظت منها من أول دور:
توجه في الخطوب بحسن نيه
وزر أبطال ثغر سكندريه
ثم يقول:
أبا العباس إن سفين حظي
تكاد تطيح في لجج المنيه
وأنت السيد المرسي فهلا
رخاء أنت ترسيها هنيه
وهذا مما يدلك على عظيم اعتقاد أهل القطر المصري في السيد المرسي المشار إليه - رضي الله عنه - ولكن قول السيد القصبي - رحمه الله - أن أبا العباس هو المرسي لسفن الحياة لا يصح إلا بتأويل أنه بجاهه لدى الله تعالى وتوسله إليه يمكنه أن ينجي تلك السفن من الغرق، ولكن برغم هذا التأويل الذي لا يوجد غيره عند أهل السنة لتأويل الاستغاثة بالأولياء نجد الفرقة التي يقال لها السلفية، الآخذين بأقوال ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن عبد الوهاب يكفرون كل من يقول هذا القول أو ما يشبهه كائنا من كان، ويقولون: إن الاستغاثة لا تجوز إلا بالباري تعالى رأسا، وكل تأويل في أمرها غير نافع.
ونعود إلى ترجمة أبي العباس المرسي رحمه الله. جاء في نفح الطيب أنه كان يكرم الناس على نحو رتبهم عند الله تعالى، حتى إنه ربما دخل عليه مطيع فلا يحتفل به، وربما دخل عليه عاص فأكرمه؛ لأن ذلك الطائع أتى وهو متكثر بعمله ناظر لفعله وذلك العاصي دخل بكسر معصيته وذل مخالفته. وكان شديد الكراهة للوسواس في الصلاة والطهارة، ويثقل عليه شهود من كان على هذه الصفة. وذكر عنده يوما شخص بأنه صاحب علم وصلاح إلا أنه كثير الوسوسة، فقال: وأين العلم؟ العلم هو الذي ينطبع في القلب كالبياض في الأبيض والسواد في الأسود.
وله كلام بديع في تفسير القرآن العزيز، فمن ذلك قوله: قال الله - سبحانه وتعالى:
الحمد لله رب العالمين ، علم الله عجز خلقه عن حمده فحمد نفسه بنفسه في أزله، فلما خلق الخلق اقتضى منهم أن يحمدوه بحمده، فقال:
الحمد لله رب العالمين ؛ أي الحمد الذي حمد به نفسه بنفسه هو له لا ينبغي أن يكون لغيره، فعلى هذا تكون الألف واللام للعهد. وقال في قوله تعالى:
إياك نعبد وإياك نستعين : إياك نعبد شريعة، وإياك نستعين حقيقة. إياك نعبد إسلام، وإياك نستعين إحسان. إياك نعبد عبادة، وإياك نستعين عبودية. إياك نعبد فرق، وإياك نستعين جمع.
وقال في قوله تعالى:
اهدنا الصراط المستقيم : أي بالتثبيت في ما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل؛ فإنهم حصل لهم التوحيد بالإيمان وفاتهم درجات الصالحين. والصالحون يقولون:
اهدنا الصراط المستقيم ؛ أي نسألك التثبيت في ما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل؛ لأنهم حصل لهم الصلاح ولكن فاتهم درجات الشهداء. والشهداء يقولون:
اهدنا الصراط المستقيم ؛ أي بالتثبيت في ما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل؛ فإنهم حصلت لهم درجة الشهادة وفاتهم درجة الصديقية. والصديق كذلك يقول:
اهدنا الصراط المستقيم ؛ إذ حصلت له درجة الصديقية وفاتته درجة القطبانية. والقطب كذلك يقول:
اهدنا الصراط المستقيم ؛ فإنه حصلت له رتبة القطبانية وفاته علم إذا شاء الله تعالى أن يطلعه عليه أطلعه.
وقال: الفتوة الإيمان؛ قال الله تعالى:
إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، وقال في قوله تعالى حاكيا عن الشيطان:
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم
الآية: ولم يقل من فوقهم ولا من تحتهم؛ لأن فوقهم التوحيد وتحتهم الإسلام. وقال - رضي الله عنه: التقوى في كتاب الله على أقسام: تقوى النار؛ قال الله - سبحانه وتعالى:
واتقوا النار ، وتقوى اليوم؛ قال تعالى:
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، وتقوى الربوبية؛ قال تعالى:
يأيها الناس اتقوا ربكم ، وتقوى الألوهية وتقوى الأنية:
واتقون يا أولي الألباب ، وقال في قول الرسول - عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر.» أي: لا أفتخر بالسيادة، وإنما الفخر لي بالعبودية لله.
وكان كثيرا ما ينشد:
يا عمرو ناد عبد زهراء
يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي
وقال: الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا. وقال: العارف لا دنيا له؛ لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه.
والحسين بن عتيق بن الحسن بن رشيق التغلبي، يكنى أبا علي، مرسي الأصل سبتي الاستيطان.
قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة: كان نسيج وحده وفريد دهره إتقانا ومعرفة، ومشاركة في كثير من الفنون اللسانية والتعليمية، متجرا في التاريخ، ريان من الأدب، شاعرا مفلقا عجيبا، قادرا على الاختراع والأوضاع، جهم المحيا، موهش الشكل، يضم برداه طويا،
32
لا كفاء له، برز بمدينة سبتة، وكتب عن أميرها، وجرى بينه وبين الأديب أبي الحكم مالك بن المرجل من الملاحات والمهاترات أشد ما يجري بين متناقضين، آل به إلى الحكاية الشهيرة، وذلك أنه نظم قصيدة نصها (أوردها لسان الدين كلها ونحن نورد بعضها):
لكلاب سبتة في النباح مدارك
وأشدها دركا لذلك مالك
شيخ تفانى في البطالة عمره
وأجال فكيه الكلام الآفك
وألذ شيء عنده في محفل
لمز لأستار المحافل هاتك
يغشى مخاطرة اللئيم تفكها
ويعاف رؤيته الحليم الناسك
نبذ الوقار لصبية يهجونه
فسباله فرش لهم وأرائك
يبدي لهم سوآته ليسوءهم
بمسالك لا يرتضيها سالك
يا ابن المرحل لو شهدت مرحلا
وقد انحنى بالرحل منه الحارك
لشغلت عن ذم الأنام بشاغل
وثناك خصم من أبيك مماحك
لأقول للمغرور منك بشيبة
بيضاء طي الصحف منها حالك
عار على الملك المعظم أن يرى
في ذلك الصقع المقدس مالك
وما أشبه ذلك من الشعر الذي تنبو عن بعضه الأسماع. قال لسان الدين: وهي طويلة تشتمل من التعريض والتحريض على كل غريب، واتخذ لها كنانة خشبية كأوعية الكتب، وكتب عليها «رقاص معجل إلى مالك بن المرجل»، وعمد إلى كلب وجعلها في عنقه وأوجعه ضربا حتى لا يأوي إلى أحد ولا يستقر، وذهب الكلب وخلفه من الناس أمة، وقرئ مكتوب الكنانة واحتمل إلى أبي الحكم، ونزعت من عنق الكلب ودفعت إليه، فوقف منها على كل فاقرة كفت من طماحه، وتحدث الناس بها مدة، ولم يغب عنه أنه من حيل ابن رشيق ففوق سهام المراجعة، وفي ذلك يقول:
كلاب المزابل آذينني
بأبوالهن على باب داري
وقد كنت أوجعها بالعصا
ولكن عوت من وراء الجدار
واستدعاه بآخرة أمير المغرب السلطان أبو يعقوب فاستكتبه واستكتب أبا الحكم ضده، فيقال إنه جر عليه خجلة كانت سبب وفاة أبي علي. (إلى أن قال): وأوضاعه غريبة، واختراعاته عجيبة، تعرفت أنه اخترع في سفرة الشطرنج شكلا مستديرا، وله الكتاب الكبير في التاريخ والتلخيص المسمى «بميزان العمل»، وهو من أظرف الموضوعات وأحسنها شهرة. قال: كان حيا سنة أربع وسبعين وستمائة.
ومن الرجال الذين يناسب ذكرهم عند ذكر مرسية زهير العامري، فتى الحاجب الغازي العظيم المنصور بن أبي عامر، قال عنه لسان الدين في الإحاطة: كان شهما داهية شديد المذهب، ولي بعد خيران صاحب المرية، وقام بأمره أحمد قيام سنة تسع عشرة وأربعمائة يوم الجمعة لثلاث خلون من جمادى الأولى، وكان أميرا لمرسية فوجه إليه خيران حين أحس الموت، فوصل إليه، وكان عنده إلى أن مات، فخرج زهير إلى الناس فقال لهم: أما خيران فقد مات وقد أقام أخاه زهيرا هذا فما تقولون؟ فرضي الناس به؛ فدامت مدة ولايته عشرة أعوام ونصف عام إلى أن قتل.
ثم ذكر لسان الدين خبر نهاية زهير العامري بالمعركة التي جرت بينه وبين باديس صاحب غرناطة، ودارت فيها الدائرة على زهير وقتل، وذلك عقب شوال سنة تسع وعشرين وأربعمائة، نقل ذلك عن ابن عذارى.
ومحمد بن محمد بن أحمد الأنصاري، يعرف بابن الجنان، ويكنى أبا عبد الله، من أهل مرسية. قال في الإحاطة: كان محدثا راوية ضابطا، كاتبا بليغا، شاعرا بارعا، رائق الخط، دينا فاضلا، خيرا زكيا، استكتبه بعض أمراء الأندلس، فكان يبرح من ذلك ويضيق منه، ثم خلصه الله تعالى منه، وكان من أعاجيب الزمان في إفراط القماءة
33
حتى يظن رائيه الذي استدبره أنه طفل ابن ثمانية أعوام. وكان متناسب الخلقة، لطيف الشمائل، وقورا، خرج من بلده حين تمكن العدو سنة 604؛ فاستقر بأوريولة إلى أن استدعاه بسبتة الرئيس أبو علي بن خلاص، فوفد عليه فأجل وفادته وأجزل إفادته، وحظي عنده حظوة تامة.
ثم توجه إلى إفريقية فاستقر ببجاية، وكانت بينه وبين كتاب عصره مكاتبات ظهرت فيها براعته، أخذ العلم ببلده، قال لسان الدين: إنه روى في مرسية عن أبي بكر بن خطاب، وأبي الحسن سهل بن مالك، وابن قطرال، وأبي الربيع بن سالم، وأبي عيسى بن أبي السداد، وأبي علي الشلويين النحوي الشهير وغيرهم.
ونقل لسان الدين عن القاضي أبي عبد الله بن عبد الملك أنه كان له في الزهد ومدح النبي
صلى الله عليه وسلم
بدائع ونظم في المواعظ، فمن ذلك قوله في توديع رمضان وليلة القدر:
مضى رمضان أو كأني به مضى
وغاب سناه بعد أن كان أومضا
فيا عهده قد كان أكرم معهد
ويا عصره أعزز علي أن انقضى
ألم بنا كالضيف في الطيف زائرا
فخيم فينا ساعة ثم قوضا
فيا ليت شعري إذ نوى غربة النوى
أبالسخط عنا قد تولى أم الرضا
قضى الحق فينا بالفضيلة جاهدا
فأي فتى فينا له الحق قد قضى
وكم من يد بيضاء أسدى لذي التقى
بثوب وفيها للصحائف بيضا
وقال في ليلة القدر:
فيا حسنها من ليلة جل قدرها
وحض عليها الهاشمي وحرضا
لعل بقايا الشهر وهي كريمة
تبين سرا في الأواخر أغمضا
وقال اطلبوها تسعدوا بطلابها
فحرك أرباب القلوب وأنغضا
جزاه إله العرش خير جزائه
وأكرمنا بالعفو منه وبالرضا
وصلى عليه من نبي مبارك
رءوف رحيم للرسالة مرتضى
له غرة أعلا من الشمس منزلا
وعزمته أمضى من السيف منتضى
عليه سلام الله ما انهل ساكب
وذهب موشي الرياض وفضضا
قال لسان الدين: وكتابته شهيرة تضرب بها الأمثال، قالوا: لما جعل أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد بن يوسف البيعة لابنه الواثق بالإمارة من بعده تولى إنشاءها، وجعل الحاء المهملة سجعها، مردفا إياها بالألف نحو صباحا وصلاحا، وما أشبه ذلك، وطال مجموعها فناهزت الأربعين، وطاب مسمعها فأحرزت بغية المستمعين، فكتب إليه أبو المطرف بن عميرة برسالته الشهيرة يداعبه في ذلك، وهي:
تحييك الأقلام تحية كسرى، وتقف الأفهام دون مداك حسرى. (ثم يقول): وما لك أمنت تغير الحالات فشننت غارتك على الحاءات، ونفضت عنها المهارق، وبعثت في طلبها السوابق، ولقطتها من الأفواه، وطلبتها بين الشفاه، حتى شهد أهل الشام بتزحزحها عن ذلك المكان، وتوارت بالحلوق، ولو تغلغلت إلى العروق لآثرتها جيادك واقتنصها قلمك ومدادك.
فأجابه بما نصه:
ما هذه التحية الكسروية؟ وما هذا الرأي وهذه الروية؟ أتنكيت من الأقلام أو تبكيت من الأعلام أو كلا الأمرين توجه القصد إليه؟! وهو الحق مصدقا لما بين يديه، وإلا فعهدي بالقلم يتسامى عن عكسه، ويترامى للغاية البعيدة بنفسه، فمتى لانت أنابيبه للعاجم ودنت أعاريبه للأعاجم، وا عجبا لقد استنوق الجمل واختلف القول والعمل، لأمر ما جدع أنفه قصير، وارتد على عقبه الأعمى أبا بصير، أمس أستسقي من سحابه فلا يسقيني، وأستشفي بأسمائه فلا يشفيني، واليوم يحلني محل أنوشروان، ويشكو مني شكوى الزيدية من بني مروان، ويزعم أني أبطلت سحره ببئر ذروان، ويخفي في نفسه ما الله مبديه، ويستجدي بالأثر ما عند مستجديه، فمن أين جاءت هذه الطريقة المتبعة والشريعة المبتدعة؟ أيظن أن معماه لا ينفك، وأنه لا ينجلي هذا الشك. هل ذلك منه إلا إمحاض التيه، وإحماض تفتيه، ونشوة من خمر الهزل. ونخوة من ذي ولاية أمن من العزل. (ومنها):
وإنما يستوجب الشكر جسيما، والثناء الذي يتضوع نسيما، الذي شرف إذ أهدى أشرف السحاءات، وعرف بما كان من انتحاء تلك الحاء المذمومة في الحاءات. فإنه وإن ألم بالفكاهة بما أملى من البداهة، وسمى باسم السابق السكيت، وكان من أمر مداعبته كيت وكيت، وتلاعب بالصفات تلاعب الصبا بالبانة، والصبا بالعاشق ذي اللبانة، فقد أغرب بفنونه، وأغرى القلب بفتونه، ونفث بخفية الأطراف، وعبث بالكلام المشقق الأطراف، وعلم كيف يمحض البيان ويخلص العقيان، فمن الحق أن أشكره على أياديه البيض، وأن آخذ لفظه من معناه في طرف النقيض ... (إلى آخر هذه الرسالة التي استقصاها لسان الدين وعقبها بقوله: ومحاسنه عديدة وآماده بعيدة). وكانت وفاته في بجاية في عشر وستمائة.
ومحمد بن عبيد الله بن داود بن خطاب، ترجمه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة فقال: من صلة ابن الزبير كان كاتبا بارعا شاعرا مجيدا، له مشاركة في أصول الفقه وعلم الكلام وغيرهما، مع نباهة وحسن فهم وحسن سمت. ورد على غرناطة واستعمل في الكتابة السلطانية، وكان عظيم القدر معظما عند الكافة، ثم إنه رجع إلى مرسية وقد ساءت أحوالها فأقام بها مدة، ثم انفصل عنها واستقر بالعدوة بعد مكابدة. قلت: وأخبرني شيخنا أبو الحسن بن الجياب - رحمه الله - قال: كان شكس الأخلاق متقاطبا زاهيا بنفسه (ثم ذكر له حادثة تدل على سوء خلقه)، وانصرف واستقر بتلمسان كاتبا عن سلطانها أبي يحيى يغمراسن بن زيان. وزعموا أن المستنصر أبا عبد الله بن الأمير أبي زكريا استقدمه على عادته في استقدام الكتاب المشاهير واستدعائه لحضرته العلماء، وبعث إليه ألف دينار من الذهب العين، ورد عليه المال، فكان ذلك أشق ما مر على المستنصر، وظهر له علو شأوه وبعد همته.
ومن المنسوبين إلى مرسية الشيخ الأكبر الأشهر صاحب الشهرة العالمية الشيخ محيي الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي، من ولد عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الصوفي الفقيه الظاهري ، ولد بمرسية يوم الاثنين سابع عشر رمضان سنة 560، قرأ القرآن على أبي بكر بن خلف بإشبيلية بكتاب الكافي، وسمع على أبي بكر محمد بن جمرة كتاب التيسير للداني عن أبيه عن المؤلف، وسمع على ابن زرقون، وأبي محمد عبد الحق الإشبيليي الأزدي، وكان انتقاله من مرسية إلى إشبيلية سنة 568، فأقام بها إلى سنة 598، ثم ارتحل إلى المشرق، وأجازه جماعة منهم الحافظ السلفي، وابن عساكر، وأبو الفرج بن الجوزي، ودخل مصر وأقام بالحجاز مدة، ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم، ومات بدمشق سنة 638 ليلة الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر، ودفن بسفح جبل قاسيون؛ أي حارة الصالحية. زرت قبره سنة 1311، ورأيت مكتوبا على قبره بيتين من الشعر:
قبر محيي الدين بن العربي
كل من لاذ به أو زاره
قضيت حاجاته من بعدما
غفر الله له أوزاره
ترجمة وافية لمحيي الدين بن العربي
قلت: هذان البيتان هما من قبيل البيتين اللذين تقدم ذكرهما عند ترجمة أبي العباس المرسي بلدي محيي الدين بن عربي، رحم الله الاثنين.
قال ابن الأبار إنه أخذ عن مشيخة إشبيلية ومال إلى الآداب وكتب لبعض الولاة، ثم رحل إلى المشرق حاجا ولم يعد بعدها إلى الأندلس. ورأى المنذري أنه سمع بقرطبة من أبي القاسم بن بشكوال وجماعة، وطاف البلاد، وسكن بلاد الروم،
34
وذكروا أنه قدم بغداد سنة 608 وكان الغالب عليه التصوف، وكانت له قدم في الرياضة والمجاهدة، ووصفه غير واحد بالتقدم في هذا الشأن، وكانت له أتباع، وسلك طريق الفقر، وحج وجاور، وكتب في علم القوم وفي أخبار مشايخ المغرب، وله أشعار حسنة وكلام مليح. قال ابن النجار: اجتمعت به في دمشق في رحلتي إليها، وكتبت عنه شيئا من شعره، ونعم الشيخ هو! ذكر لي أنه دخل بغداد سنة 601 فأقام بها اثني عشر يوما، ثم دخلها ثانيا مع الحجاج سنة 608، وأنشدني لنفسه:
أيا حائرا ما بين علم وشهوة
ليتصلا ما بين ضدين من وصل
ومن لم يكن يستنشق الريح لم يكن
يرى الفضل للمسك الفتيق على الزبل
وسألته عن مولده فقال: ليلة الاثنين 17 رمضان سنة 560 بمرسية من بلاد الأندلس. وقال ابن مسدي: إنه كان جميل الجملة والتفصيل، محصلا لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق، سمع ببلاده من ابن زرقون والحافظ بن الجد، وأبي الوليد الحضرمي وبسبتة من أبي محمد بن عبد الله، وقدم عليه إشبيلية أبو محمد عبد المنعم بن محمد الخزرجي فسمع منه، وذكر أنه لقي عبد الحق الإشبيلي، وفي ذلك عندي نظر. ا.ه. قال المقري: لا نظر في ذلك؛ فإن سيدي الشيخ محيي الدين ذكر في إجازته للملك المظفر غازي بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ما معناه أو نصه: «ومن شيوخنا الأندلسيين أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي - رحمهم الله تعالى - حدثني بجميع مصنفاته في الحديث، وعين لي من أسمائها «تلقين المهتدي»، و«الأحكام الكبرى والوسطى والصغرى»، و«كتاب التهجد»، و«كتاب العاقبة»، ونظمه ونثره، وحدثني بكتب الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح عنه.». ا.ه.
وكان ظاهري المذهب في العبادات باطني النظر في الاعتقادات، ولما أقام ببلاد الروم أمر له الملك بدار تساوي مائة ألف درهم، فلما نزلها مر به سائل فقال له: شيء لله. فقال له ابن عربي: ما لي غير هذه الدار، فتسلمها السائل وصارت ملكه. قال الذهبي في حقه إن له توسطا في الكلام، وذكاء وقوة خاطر، وحافظة، وتدقيقا في التصوف، وتواليف جمة في العرفان لولا شطحه في كلامه وشعره. ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته فيرجى له الخير.
35
ا.ه. ومن نظم الشيخ محيي الدين:
بين التذلل والتدلل نقطة
فيها يتيه العالم النحرير
هي نقطة الأكوان إن جاوزتها
كنت الحكيم وعلمك الإكسير
وقوله:
يا درة بيضاء لاهوتية
قد ركبت صدفا من الناسوت
جهل البسيطة قدرها لشقائهم
وتنافسوا في الدر والياقوت
وحكى العماد بن النحاس الأطروش: أنه كان في سفح جبل قاسيون على مستشرف وعنده الشيخ محيي الدين بن عربي، والغيث والسحاب عليهم، ودمشق ليس عليها شيء. قال: فقلت للشيخ: أما ترى هذه الحال؟ فقال: كنت بمراكش وعندي ابن خروف الشاعر - يعني أبا الحسن علي بن القرطبي - وقد اتفقت حال مثل هذه، فقلت له مثل هذه المقالة فأنشدني:
يطوف السحاب بمراكش
طواف الحجيج ببيت الحرم
يروم نزولا فلا يستطيع
لسفك الدماء وهتك الحرم
جاء في نفح الطيب أن المقريزي حكى في ترجمة عمر بن الفارض أن الشيخ محيي الدين بن عربي بعث إلى ابن الفارض يستأذنه في شرح التائية فأجابه: كتابك المسمى بالفتوحات المكية شرح لها. ا.ه. وقال بعض من عرف به: إنه لما صنف الفتوحات المكية كان يكتب كل يوم ثلاث كراريس حيث كان، وحصلت له بدمشق دنيا كثيرة فما ادخر منها شيئا. وقيل: إن صاحب حمص رتب له كل يوم مائة درهم، وابن الزكي كل يوم ثلاثين درهما، فكان يتصدق بالجميع. واشتغل الناس بمصنفاته، ولها ببلاد اليمن والروم صيت عظيم، وهو من عجائب الزمان.
وكان يقول: أعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب. وذكر صفي الدين حسين بن الإمام جمال الدين أبي الحسن علي بن الإمام كمال الدين أبي منصور ظافر الأزدي الأنصاري في رسالته المتضمنة من رأى من سادات عصره قال: ورأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي، وكان من أكبر علماء الطريق، جمع بين سائر العلوم الكسبية وما وقر له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة، وتصانيفه كثيرة، وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا، لا يكترث بالوجود مقبلا كان أو معرضا. وله علماء أتباع أرباب مواجيد وتصانيف، وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الخراز إخاء ورفقة في السياحات، ومن نظم ابن عربي:
يا من يراني ولا أراه
كم ذا أراه ولا يراني
قال رحمه الله: قال لي بعض إخواني لما سمع هذا البيت: كيف تقول إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك، فقلت له مرتجلا:
يا من يراني مجرما
ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعما
ولا يراني لائذا
قال المقري في النفح: قلت: من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ مؤول، وأنه لا يقصد ظاهره، وإنما له محامل تليق به، وكفاك شاهدا هذه الجزئية الواحدة، فأحسن الظن به ولا تنتقد بل اعتقد. وللناس في هذا المعنى كلام كثير، والتسليم أسلم، والله سبحانه بكلام أوليائه أعلم.
وولد للشيخ محيي الدين ابنه محمد المدعو سعد الدين بملطية من بلاد الروم، وذلك في رمضان سنة 618، وسمع الحديث ودرس، وقال الشعر الجيد، وله ديوان مشهور، وتوفي بدمشق سنة 656، وهي السنة التي دخل فيها هولاكو بغداد وقتل الخليفة المستعصم، ودفن محمد بن محيي الدين بن عربي إلى جانب والده بسفح قاسيون، ومن شعره:
لما تبدى عارضاه في نمط
قيل ظلام بضياء اختلط
وقيل سطر الحسن في خديه خط
وقيل نمل فوق عاج انبسط
وقيل مسك فوق ورد قد نقط
وقال قوم إنها اللام فقط
ومن نظمه:
سهري من المحبوب أصبح مرسلا
وأراه متصلا بفيض مدامع
قال الحبيب بأن ريقي نافع
فاسمع رواية مالك عن نافع
وقوله:
لك والله منظر
قل فيه المشارك
إن يوما نراك في
ه ليوم مبارك
وله:
وعلمت أن من الحديد فؤاده
لما انتضى من مقلتيه مهندا
آنست من وجدي بجانب خده
نارا ولكن ما وجدت بها هدى
وله:
ساءلتني عن لفظة لغوية
فأجبت مبتدئا بغير تفكر
خاطبتني متبسما فرأيتها
من نظم ثغرك في صحاح الجوهري
وكتب إلى أخيه عماد الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:
ما للنوى رقة ترثي لمكتئب
حران في قلبه والدمع في حلب
قد أصبحت حلب ذات العماد بكم
وجلق إرم هذا من العجب
وتوفي الشيخ عماد الدين بالصالحية سنة 667، ودفن بسفح قاسيون عند والده بتربة القاضي ابن الزكي، رحم الله تعالى الجميع.
ومن نظم الشيخ محيي الدين قوله:
ما فاز بالتوبة إلا الذي
قد تاب قدما والورى نوم
فمن يتب أدرك مطلوبه
من توبة الناس ولا يعلم
قال صاحب نفح الطيب: وبالجملة فهو حجة الله الظاهرة وآيته الباهرة، ولا يلتفت إلى كلام من تكلم فيه، ولله در السيوطي الحافظ؛ فإنه ألف «تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي» انتهى. قلت: إني قد طالعت كتاب «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة»، تأليف الإمام جلال الدين السيوطي - رحمه الله - وقرأت ترجمته لنفسه في آخر تراجم علماء مصر، وهي في الجزء الأول من صفحة 188-195، وقرأت بتدقيق أسماء مؤلفاته التي قال عنها المستشرق «سديو
Sedillout »: إنها أكثر مما قرأ كثير من أدباء الأوروبيين من الكتب على العموم، وقد أحصيت بنفسي عدد تآليف الإمام السيوطي بحسب ما هو وارد في ترجمته لنفسه في كتاب حسن المحاضرة المذكور، فوجدتها نحوا من مائتين وستين تأليفا، ولم أجد بين هذه الكتب كتابا يسمى «تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي»، نعم يجوز أن يكون له تآليف أخرى ألفها بعد تأليفه لحسن المحاضرة منها تنبيه الغبي في تنزيه ابن عربي، وكنت أحصيت تآليف الجلال السيوطي التي ذكرها صاحب كشف الظنون، فبلغت حسبما أتذكر يوم أحصيتها نحوا من 460 كتابا؛ أي بزيادة مائتين على ما هي في حسن المحاضرة، وقد راجعت هذه المرة كشف الظنون فوجدت في الجزء الأول في حرف التاء اسم كتاب «تنبيه الغبي في تنزيه ابن عربي» للجلال السيوطي. قال: رسالة كتبها ردا على من رد عليه في الفصوص، وللسيد علي بن ميمون المغربي المتوفى سنة 917. ا.ه.
ثم نعود إلى ما جاء في نفح الطيب فنقول إنه ذكر من علماء الأندلس رجلا آخر يعرف بابن العربي، وهو القاضي أبو بكر بن العربي؛ فلأجل التفريق بين الاثنين ورفع الالتباس اصطلح أهل المشرق على أن يكتبوا اسم الشيخ الأكبر «ابن عربي» دون ألف ولام، ثم إنه جاء في كتاب «مزية المرية» لابن خاتمة ما نصه: محمد بن علي بن محمد الطائي الصوفي، من أهل إشبيلية، وأصله من مرسية، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن العربي وبالحاتمي أيضا، أخذ عن مشيخة بلده، ومال إلى الآداب، وكتب لبعض الولاة بالأندلس. ثم رحل إلى المشرق حاجا فأدى الفريضة، ولم يعد بعدها إلى الأندلس، وسمع الحديث من أبي القاسم الجرستاني ومن غيره، وسمع صحيح مسلم من أبي الحسن بن أبي نصر سنة 606، وكان يحدث بالإجازة العامة عن أبي طاهر السلفي ويقول بها، وبرع في علم التصوف، وله في ذلك تواليف كثيرة منها «الجمع والتفصيل في حقائق التنزيل»، و«الجذوة المقتبسة والخطرة المختلسة»، وكتاب «كشف المعنى في تفسير الأسماء الحسنى»، وكتاب «المعارف الإلهية»، وكتاب «الإسرا إلى المقام الأسرى»، وكتاب «مواقع النجوم ومطالع أهلة أسرار العلوم»، وكتاب «عنقاء مغرب في صفة ختم الأولياء وشمس المغرب»، وكتاب في فضائل مشيخة عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي، والرسالة الملقبة «بمشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية» في كتب أخر عديدة.
وقدم على المرية من مرسية مستهل شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وبها ألف كتابه الموسوم «بمواقع النجوم». ا.ه.
قال المقري: ولا خفاء أن مقام الشيخ أعظم بعد انتقاله من المغرب، وقد ذكر في بعض كتبه أن مولده بمرسية، ثم ذكر أنه توجه سؤال إلى القاضي مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزأبادي الصديقي صاحب القاموس، وهو: ما تقول السادة العلماء - شد الله تعالى بهم أزر الدين ولم بهم شعث المسلمين - في الشيخ محيي الدين بن عربي في كتبه المنسوبة إليه، كالفتوحات والفصوص، هل تحل قراءتها وإقراؤها ومطالعتها؟ وهل هي الكتب المسموعة المقروءة أم لا؟ أفتونا مأجورين جوابا شافيا لتحوزوا أجمل الثواب من الله الكريم الوهاب، والحمد لله وحده. (فأجاب بما صورته): الحمد لله، اللهم أنطقنا بما فيه رضاك. الذي أعتقده في حال المسئول عنه وأدين الله تعالى به أنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما، وإمام الحقيقة حقيقة ورسما، ومحيي رسوم المعارف فعلا واسما.
إذا تغلغل فكر المرء في طرف
من بحره غرقت فيه خواطره
وهو عباب لا تكدره الدلاء، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء، كانت دعواته تخترق السبع الطباق ، وكانت بركاته تفترق فتملأ الآفاق، وإني أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته، وناطق بما كتبته، وغالب ظني أني ما أنصفته.
وما علي إذا ما قلت معتقدي
دع الجهول يظن العدل عدوانا
والله والله والله العظيم ومن
أقامه حجة للدين برهانا
بأن ما قلت بعض من مناقبه
ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا
وأما كتبه ومصنفاته فالبحار الزواخر التي جواهرها وكثرتها لا يعرف لها أول ولا آخر، ما وضع الواضعون مثلها، وإنما خص الله - سبحانه - بمعرفة قدرها أهلها، ومن خواص كتبه أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها وتأمل ما في مبانيها، انشرح صدره لحل المشكلات وفك المعضلات، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصه الله تعالى بالعلوم اللدنية الربانية.
ووقفت على إجازة كتبها للملك العظيم فقال في آخرها: وأجزته أيضا أن يروي عن مصنفاتي، ومن جملتها كذا وكذا، حتى عد نيفا وأربعمائة مصنف، منها التفسير الكبير الذي بلغ فيه إلى سورة الكهف عند قوله تعالى:
وعلمناه من لدنا علما ، وتوفي ولم يكمل، وهذا التفسير كتاب عظيم كل سفر منه بحر لا ساحل له. ولا غرو فإنه صاحب الولاية العظمى والصديقية الكبرى في ما نعتقد وندين الله تعالى به. وثم طائفة في الغي حائفة يعظمون عليه النكير، وربما بلغ بهم الجهل إلى حد التكفير، وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها، ولم تصل أيديهم لقصرها إلى اقتطاف مجانيها.
علي نحت القوافي من معادنها
وما علي إذا لم تفهم البقر
هذا الذي نعلم ونعتقد وندين الله تعالى به في حقه، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. كتبه محمد الصديقي الملتجئ إلى حرم الله تعالى - عفا الله عنه. ا.ه. لا يخفى أن صاحب القاموس أقام زمنا بمكة المكرمة. ثم إن بعض الناس ذكروا أنه جرى تكفير ابن عربي في مجلس شيخ الإسلام في وقته عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله - وقيل عنه إنه زنديق، وأن الشيخ لم يرد عنه؛ فكان سكوته إقرارا. فذكر خادم للشيخ أنه كان ذلك اليوم صائما؛ فاتفق أن سيده دعاه للإفطار معه. يقول الخادم: وجدت منه إقبالا ولطفا فقلت له: يا سيدي، هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا؟ فقال: ما لك ولهذا كل. فعرفت أنه يعرفه، فتركت الأكل وقلت له: لوجه الله تعالى عرفني به من هو. فتبسم - رحمه الله - وقال لي: الشيخ محيي الدين بن عربي. فأطرقت ساكتا متحيرا، فقال: ما لك؟ فقلت: يا سيدي قد حرت. قال: لم؟ قلت: أليس اليوم قال ذلك الرجل إلى جانبك ما قال في ابن عربي وأنت ساكت؟ فقال: اسكت ذلك مجلس الفقهاء. هذا الذي روي لنا بالسند الصحيح عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام.
وكان الشيخ كمال الدين الزملكاني من أجل مشايخ الشام، يقول: ما أجهل هؤلاء ينكرون على الشيخ محيي الدين بن عربي لأجل كلمات وألفاظ وقعت في كتبه قد قصرت أفهامهم عن درك معانيها! فليأتوني لأحل لهم مشكله، وأبين لهم مقاصده بحيث يظهر لهم الحق.
وهذا القطب سعد الدين الحموي سئل عن الشيخ محيي الدين بن عربي لما رجع من الشام إلى بلده: كيف وجدت ابن عربي؟ فقال: وجدته بحرا زخارا لا ساحل له. وهذا الشيخ صلاح الدين الصفدي له كتاب جليل وضعه في تاريخ علماء العالم في مجلدات كثيرة، تنظر في باب الميم ترجمة محمد بن عربي لتعرف مذاهب أهل العلم الذين باب صدورهم مفتوح لقبول العلوم اللدنية. وقيل إن ابن عربي صنف بعض كتبه بأمر من الحضرة الشريفة النبوية. قال الشيخ محيي الدين الذهبي حافظ الشام، وكان من أعظم المنكرين على الصوفية: ما أظن محيي الدين يتعمد الكذب أصلا.
ثم إن ابن عربي كان مظهره بدمشق، وأخرج هذه العلوم فيها ولم ينكر عليه ذلك أحد من علمائهم. وكان قاضي قضاة الشافعية في عصره شمس الدين أحمد الجوبي يخدمه، وقاضي قضاة المالكية زوجه بابنته، وترك القضاء بنظرة وقعت عليه من الشيخ. قال المقري في نفح الطيب إنه نقل ما نقله من ترجمة ابن عربي من كلام العارف بالله عبد الوهاب الشعراني - رضي الله عنه - ونحن نقلنا في كتابنا هذا ما ذكره المقري ملخصا، ثم راجعنا ما قال الشعراني في الطبقات الكبرى فلم نجد هذه الروايات في الطبقات المذكورة، فلعله نقلها عنه من كتاب آخر. أما في الطبقات فالشعراني يقول عن ابن عربي: الشيخ العارف الكامل المحقق المدقق، أحد أكابر العارفين بالله، سيدي محيي الدين بن العربي - رضي الله عنه - بالتعريف - أي بوضع الألف واللام على لفظه عربي - كما رأيته بخطه، وقال: أجمع المحققون من أهل الله - عز وجل - على جلالته في سائر العلوم كما تشهد بذلك كتبه، وما أنكر من أنكر عليه إلا لدقة كلامه لا غير، فأنكروا على ما يطالع كلامه من غير سلوك طريق الرياضة خوفا من حصول شبهة في معتقده يموت عليها ولا يهتدي لتأويلها على مراد الشيخ.
وقد ترجمه الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور، فقال: هو الشيخ الإمام المحقق رأس أجلاء العارفين والمقربين، صاحب الإشارات الملكوتية، والنفحات القدسية، والأنفاس الروحانية، والفتح المؤنق، والكشف المشرق، والبصائر الخارقة، والسرائر الصادقة، والمعارف الباهرة، والحقائق الزاهرة، له المحل الأرفع من مراتب القرب في منازل الأنس (إلى آخر ما نحله إياه من الصفات والألقاب). ونقل الشعراني أن العارف بالله محمد بن أسعد اليافعي - رضي الله عنه - ذكر ابن عربي بالعرفان والولاية، وأن العارف الشهير الشيخ أبا مدين - رضي الله عنه - لقب ابن عربي بسلطان العارفين. قال الشعراني: إن كتبه مشهورة بين الناس، لا سيما بأرض الروم؛ فإنه ذكر في بعض كتبه صفة السلطان جد السلطان سليمان بن عثمان وفتحه القسطنطينية في الوقت الفلاني، فجاء الأمر كما قال، وبينه وبين السلطان نحو مائتي سنة، وقد بني عليه قبة عظيمة وتكية شريفة بالشام.
قلت: إن السلطان الذي فتح القسطنطينية هو السلطان محمد الثاني بن مراد الثاني، وكان فتحه لها سنة 853 للهجرة. وعاش ابن عربي إلى سنة 638؛ فإن كان قال شيئا في صفة السلطان محمد الفاتح قبل ظهوره بنحو مائة وخمس وثمانين سنة فيكون من الخوارق. وأما القبة التي بنيت على ضريح ابن عربي - رحمه الله - فيقال إنها من بناء السلطان سليم بن بايزيد بن محمد الفاتح، وكانت ولاية سليم سنة ثماني عشرة وتسعمائة، وقد ذكر الشيخ مرعي الحنبلي في كتابه «نزهة الناظرين» ونقل ذلك صاحب «شذرات الذهب»، ونقلته أنا في تاريخ أمة الترك الذي علقته في حاشيتي على تاريخ ابن خلدون، وطبع من سنتين؛ أن السلطان سليما والد السلطان سليمان - فاتح الشام ومصر - عندما دخل الشام أمر بعمارة قبة على مقام الشيخ محيي الدين بن عربي بصالحية دمشق، ورتب عليها أوقافا كثيرة.
ونعود إلى ما قال الشعراني عن ابن عربي، فمن ذلك أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام شيخ الإسلام بمصر كان يحط عليه كثيرا، فلما صحب الشيخ أبا الحسن الشاذلي - رضي الله عنه - وعرف أحوال القوم صار يترجمه بالولاية والعرفان والقطبية. قال الشعراني: وقد سطرنا الكلام على علومه وأحواله في كتابنا «تنبيه الأغبياء على قطرة من بحر علوم الأولياء» فراجعه، فيظهر أن الذي نقله المقري في النفح عن الشعراني نقله عن هذا الكتاب.
وأما ابن خلكان فلم يذكر الشيخ محيي الدين بن عربي في «وفيات الأعيان»، وإنما ذكره صاحب «فوات الوفيات» محمد بن شاكر بن أحمد الكتبي، المتوفى سنة 764، وقال: إنه ولد بمرسية، وإنه أخذ فيها عن ابن بشكوال، وذكر من تصانيفه ما لم يرد ذكره في نفح الطيب مثل «التدبيرات الإلهية والتنزلات الموصلية»، و«الأجوبة المسكتة عن سؤالات الحكيم الترمذي»، و«تاج الرسائل ومنهاج الوسائل»، وكتاب «التجليات»، و«مفاتيح الغيب»، و«الإعلام بإشارات أهل الإلهام»، و«المدخل إلى معرفة الأسماء»، و«العبادة والخلوة»، و«كنه ما لا بد منه»، و«النقباء»، و«حلية الأبدال»، و«عقيدة أهل السنة»، و«المقنع في إيضاح السهل الممتنع»، و«مناصحة النفس»، و«تاج التراجم»، و«مشكاة الأنوار»، و«الجلال والجمال»، و«محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار» خمسة مجلدات، وغير ذلك من الكتب والرسائل، وذكر من شعره:
ليت شعري هل دروا
أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى
أي شعب سلكوا
أتراهم سلموا
أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى
في الهوى وارتبكوا
وله:
سلام على سلمى ومن حل بالحمى
وحق لمثلي رقة أن يسلما
وماذا عليها أن ترد تحية
علينا ولكن لا احتكام على الدمى
سروا وظلام الليل أرخى سدوله
فقلت لها: صبا غريبا متيما
فأبدت ثناياها وأومض بارق
فلم أدر من شق الحنادس منهما
وقالت أما يكفيه أني بقلبه
يشاهدني من كل وقت أما أما
وله:
درست عهودهم وإن هواهم
أبدا جديد في الحشا ما يدرس
هذي طلولهم وهذي أدمعي
ولذكرهم أبدا تذوب الأنفس
ناديت خلف ركابهم من حبهم
يا من غناه الحسن ها أنا مفلس
يا موقدا نارا رويدك هذه
نار الصبابة شأنكم فلتقبسوا
وله:
ناحت مطوقة فحن حزين
وشجاه ترجيع لها وحنين
جرت الدموع من العيون تفجعا
لحنينها فكأنهن عيون
طارحتها ثكلى بفقد وحيدها
والثكل من فقد الوحيد يكون
بي لاعج من حب رملة عالج
حيث الخيام بها وحيث العين
من كل فاتكة اللحاظ مريضة
أجفانها لظبى اللحاظ جفون
ما زلت أجرع دمعتي من غلتي
أخفي الهوى عن عاذلي وأصون
هذا شعر يدل على طول باع ورقة طباع، ويسجل لابن عربي بأنه كان من رءوس الأدباء، منضما إلى قول مريديه إنه من رءوس العارفين. ومما رواه المقري في النفح نقلا عن الإمام اليافعي اليمني أن ابن عربي اجتمع مع الشهاب السهروردي فأطرق كل واحد منهما ساعة ثم افترقا من غير كلام، فقيل للشيخ ابن عربي: ما تقول في السهروردي؟ فقال: مملوء سنة من قرنه إلى قدمه. وقيل للسهرودي: ما تقول في الشيخ محيي الدين؟ فقال: بحر الحقائق. ثم قال اليافعي ما ملخصه: إن بعض العارفين كان يقرأ عليه كلام الشيخ ويشرحه، فلما حضرته الوفاة نهى عن مطالعته، وقال: إنكم لا تفهمون معاني كلامه.
وقال صاحب «عنوان الدراية»: إن الشيخ محيي الدين كان يعرف بالأندلس بابن سراقة، وهو فصيح اللسان بارع فهم الجنان، رحل إلى العدوة، ودخل بجاية في رمضان سنة 597، وبها لقي أبا عبد الله العربي وجماعة. قال: ثم رحل إلى المشرق وألف تواليف فيها ما فيها، إن قيض الله تعالى من يسامح ويتأول سهل المرام، وإن كان ممن ينظر بالظاهر فالأمر صعب. وقد نقد عليه أهل الديار المصرية وسعوا في إراقة دمه؛ فخلصه الله تعالى على يد الشيخ أبي الحسن البجائي؛ فإنه سعى في خلاصه وتأول كلامه، ولما وصل إليه بعد خلاصه قال له؛ أي البجائي: كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت؟ فقال له ابن عربي: يا سيدي، تلك شطحات في محل سكر، ولا عتب على سكران.
وممن ذكر ابن عربي الإمام شمس الدين محمد بن مسدي في معجمه البديع المحتوي على ثلاثة مجلدات، وترجمه ترجمة عظيمة قال فيها إنه كان ظاهري المذهب في العبادات باطني النظر في الاعتقادات، خاض بحار تلك العبارات، وتحقق بمحيا تلك الإشارات، وتصانيفه تشهد له عند أولي البصر بالتقدم والإقدام. ومواقف النهايات في مزالق الأقدام؛ ولهذا ما ارتبت في أمره، والله تعالى أعلم بسره. قال المقري: ونقلت من خط ابن علوان التونسي من شعر الشيخ محيي الدين ما يأتي:
بالمال ينقاد كل صعب
من عالم الأرض والسماء
يحسبه عالم حجابا
لم يعرفوا لذة العطاء
لولا الذي في النفوس منه
لم يجب الله في الدعاء
لا تحسب المال ما تراه
من عسجد مشرق الضياء
بل هو ما كنت يا بني
به غنيا عن السواء
فكن برب العلا غنيا
وعامل الخلق بالوفاء
وقال:
نبه على السر ولا تفشه
فالبوح بالسر له مقت
على الذي يبديه فاصبر له
واكتمه حتى يصل الوقت
وقال وهو في المقام النبوي الشريف:
يا حبذا المسجد من مسجد
وحبذا الروضة من مشهد
وحبذا طيبة من بلدة
فيها ضريح المصطفى أحمد
صلى عليه الله من سيد
لولاه لم نفلح ولم نهتد
قد قرن الله به ذكره
في كل يوم فاعتبر ترشد
عشر خفيات وعشر إذا
أعلن بالتأذين في المسجد
فهذه عشرون مقرونة
بأفضل الذكر إلى الموعد
وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية ذكر الإمام محيي الدين بن عربي فقالت فيه: إنه متصوف شهير قائل بوحدة الوجود ، ولد بمرسية في 28 يوليو سنة 1195 المسيحية، ثم رحل إلى إشبيلية حيث أقام ثلاثين سنة، وقرأ الفقه والحديث في إشبيلية وسبتة، ثم ذهب إلى تونس، ثم ذهب إلى الشرق، فوصل إلى مكة، وزار بغداد، ثم رجع إلى مكة، وذهب إلى حلب، ثم إلى الموصل، ثم إلى الأناضول، وكان صيته سابقا له في كل مكان، وكان يقدم إليه المال فينفقه في الصدقات، واستقر أخيرا بدمشق، وتوفي في أكتوبر سنة 1240 المسيحية وفق ربيع الثاني سنة 638، ودفن في سفح قاسيون، حيث دفن إلى جانبه ابناه في ما بعد.
وأما من جهة الشرع فكان ابن عربي ظاهريا على مذهب ابن حزم الأندلسي، ولكنه لم يكن مقلدا، ومع أنه كان يوصي بممارسة شعائر الدين على الوجه الأكمل كان في الحقيقة يسير بحسب نور وجدانه الباطني الذي كان يعتقد أنه ينيره، وكان يقول بوحدة الكائنات وأنها كلها مظاهر الألوهية فالأديان جميعها في نظره تختلف اختلافا نسبيا وكان يعتقد أنه رأى محمدا، وأنه يعرف اسم الله الأعظم وأنه يعرف الكيمياء بالتنزيل لا بالتعليم واتهم بالزندقة وهو في مصر وكادوا يقتلونه.
ثم ذكرت المعلمة الإسلامية كتابه «الفتوحات المكية»، وقالت إنه طبع في بولاق سنة 1274 للهجرة، وفي القاهرة سنة 1329، وذكرت كتابه «فصوص الحكم» الذي أكمله في دمشق سنة 627 للهجرة، وقد طبع في بولاق مع تفسيره بالتركية، وقالت: إن ابن عربي لما كان في مكة تعرف بامرأة من العالمات الفاضلات، وفارق مكة، ثم رجع إليها فنظم شعرا غزليا يذكر فيها محاسن تلك السيدة وهيامه بها، ولكنه بعد ذلك بسنة عاد فشرح أغزاله بها شرحا يجعل فيه لهذه الأغزال معاني صوفية، وقد ترجمت هذه الأشعار إلى الإنكليزية بقلم «نيقولسن»، وهي ترجمة ديوان «ترجمان الأشواق»، ولم يشتهر في أوروبة من تآليف ابن عربي سوى هذا الكتاب، وكتاب آخر في اصطلاحات الصوفية، وكتاب آخر اسمه كتاب «الأجوبة» ترجم إلى الإنكليزية.
ومما طبع من كتب ابن عربي «محاضرات الأبرار»، فقد طبع في مصر سنة 1282 للهجرة ثم سنة 1305، وقد طبع ديوان شعره في بولاق سنة 1271، ثم في بومباي. وله تفسير للقرآن طبع بالقاهرة سنة 1283، وطبع له كتاب «الأخلاق» مع ترجمة له بالتركية وكتاب «الأمر المحكم»، كلاهما طبع في استانبول، وأيضا طبع في استانبول «تحفة السفرة إلى حضرة البررة» مع ترجمة تركية له. وطبع له «مجموع الرسائل الإلهية» في القاهرة سنة 1325، و«مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم» في السنة نفسها، والمحفوظ من تآليف ابن عربي 150 تأليفا، ويقال إنه نصف عدد تآليفه هذا، وكثير من العلماء يطعنون عليه ويتهمونه بالقول بالحلول، وله أنصار كثيرون، فبينما ابن تيمية والتفتازاني وإبراهيم بن عمر البقاعي يشنعون عليه ويكفرونه، نجد الفيروزآبادي والسيوطي وغيرهما يؤيدونه وينصرونه. انتهى.
قلنا: وقد كان أشد الناس على ابن عربي بين علماء السنة الإمام ابن تيمية كما هو معلوم. ثم إنه ظهر في هذه المدة تأليف خاص بابن عربي من قلم الكاتب المصري الكبير الأستاذ زكي مبارك اشتمل على فوائد جليلة ومعان طريفة فنوصي الناس بمطالعته.
ومن مفاخر بلنسية الإمام الحافظ الكاتب الناظم الناثر المؤلف الراوية أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي البلنسي الشهير، أبوه من أندة بلد القضاعيين من أعمال بلنسية، وقد تقدمت ترجمة أبيه نقلا عنه من كتابه «التكملة» الذي جعله تتمة لكتاب «الصلة» لأبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال، وهو الكتاب الذي وصل به ابن بشكوال كتاب القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي المعروف بابن الفرضي، المؤلف في تاريخ علماء الأندلس من الرواة والفقهاء والقضاة والنبهاء والمقرئين والأدباء، والقادمين عليها من غير أهلها، فتكون هذه الكتب الثلاثة أشبه بكتاب واحد، التالي منها تكملة للسابق. وأحدثها عهدا وأغزرها مادة تكملة ابن الأبار القضاعي هذا، وعنه أخذنا تلخيصا تراجم أكثر رجال العلم الذين نبغوا في الأندلس بين القرنين السادس والسابع للهجرة، كما هو مبين في هذه التراجم، وأما ترجمة صاحب التكملة نفسه فقد جاء منها في نفح الطيب قوله إنه كتب ببلنسية عن السيد أبي عبد الله بن السيد أبي حفص بن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي، ثم عن ابنه السيد أبي زيد، ثم كتب عن الأمير أبي مردنيش، ولما نازل الطاغية بلنسية بعثه الأمير زيان بن مردنيش مع وفد أهل بلنسية بالبيعة للسلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن حفص (صاحب تونس)، وفي ضمن ذلك استصرخه لدفع عادية العدو، فأنشد السلطان قصيدته السينية التي مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا
إن السبيل إلى منجاتها درسا
وقد أوردناها كلها في آخر هذا الجزء. ثم لما قضي الأمر ولم ينجع في أمر بلنسية علاج، واستولى الإسبانيون عليها وعلى مملكتها الاستيلاء النهائي، هاجر ابن الأبار بأهله إلى تونس. قال المقري في النفح: إن ذلك كان غبطة بإقبال السلطان عليه، فنزل منه بخير مكان ورشحه لكتب علامته في صدور مكاتباته مدة. ثم أراد السلطان صرفها لأبي العباس الغساني؛ لكونه يحسن كتابتها، فكتبها مدة بالخط المشرقي، وكان آثر عند السلطان من المغربي، فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه، وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى موضع العلامة منه لكاتبها، فجاهر بالرد ووضعها استبدادا وأنفة، وعوتب على ذلك فاستشاط غضبا ورمى بالقلم، وأنشد متمثلا:
اطلب العز في لظى وذر الذل
ل ولو كان في جنان الخلود
فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته. ثم استعتب السلطان بتأليف رقعة إليه عد فيه من عوتب من الكتاب وأعتب، وسماه «إعتاب الكتاب»، واستشفع فيه بابنه المستنصر؛ فغفر السلطان له وأقال عثرته وأعاده إلى الكتابة. ولما توفي السلطان رفعه أمير المؤمنين المستنصر إلى حضور مجلسه، ثم حصلت له أمور معه كان آخرها أنه تقبض عليه وبعث إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع، وألفي أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أولها:
طغى بتونس خلف
سموه ظلما خليفه
فاستشاط السلطان لها، وأمر بامتحانه ثم بقتله، فقتل قعصا بالرماح وسط محرم سنة 658، ثم أحرق شلوه، وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه، وكان مولده ببلنسية سنة 595، وقال في حقه ابن سعيد في «المغرب» ما ملخصه: حامل راية الإحسان، المشار إليه في هذا الأوان، ومن شعره يصف الياسمين:
حديقة ياسمين لا
تهيم بغيرها الحدق
إذا جفن الغمام بكى
تبسم ثغرها اليفق
فأطراف الأهلة سال
في أثنائها الشفق
وهو حافظ متقن، له في الحديث والأدب تصانيف، وله كتاب في متخير الأشعار، سماه «قطع الرياض»، وله «تكملة الصلة» لابن بشكوال، و«هداية المعترف في المؤتلف والمختلف»، وكتاب التاريخ، وبسببه قتله صاحب إفريقية؛ قال في نفح الطيب: وأحرقت كتبه على ما بلغنا - رحمه الله تعالى - وله «تحفة القادم» في شعر الأندلس، و«الحلة السيراء في أشعار الأمراء». انتهى ملخصا.
هوامش
خاتمة الجزء الثالث
قد توخينا في هذا الجزء إشباع الكلام على شرق الأندلس بما لا تبقى معه حاجة في نفس يعقوب، وجعلنا بداية الإقليم الذي وصفناه ثغر طرطوشة الذي كانت فيه دار الصناعة البحرية، وبقي مدة طويلة هو الفاصل بين مملكتي المسلمين والنصارى، وكان يقيم فيه ناظر خاص للمسافرين الذين يطرءون من بلاد النصارى إلى بلاد المسلمين، وقد تولى هذا المنصب في جملة من تولوه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الذي صار قاضي الجماعة في قرطبة.
فقد بدأنا جغرافية شرقي الأندلس ببلدة طرطوشة، وتقدمنا منها إلى الجنوب والجنوب الغربي مارين ببنشكلة وعقبة أبيشة إلى مربيطر فبلنسية مع توابعها الغربية والجنوبية والشرقية التي منها شارقة والجوفية بحسب قولهم، ومنها البونت. ومن هناك جئنا إلى شاطبة فدانية فمرسية مع توابعها، ومن هذه إلى البسيط وشنجالة من جهة الجوف، وانتهينا بلورقة، ولم نتقدم إلى المرية ووادي آش وبسطة مع أنها صارت مصاقبة لعمل مرسية. والسبب في ذلك هو أن حجم هذا الجزء قد زاد على الكفاية، ثم إن هذه المدن كانت هي الحدود الشرقية والجوفية لمملكة غرناطة بقية ممالك الإسلام في الأندلس، وبقيت نحوا من مائتين إلى ثلاثمائة سنة هي الحد الفاصل بين الإسلام والنصرانية بعد أن سقط حكم الإسلام عن بلنسية ومرسية في أواسط القرن السابع للهجرة والثالث عشر للمسيح.
فهذه المدن ستدخل معنا إن فسح الله في الأجل بالجزء الذي سيختص بمملكة ابن الأحمر؛ أي مملكة غرناطة، وكذلك لم ندخل في هذا الجزء جيان وعملها؛ لأن إقليم جيان هو في الوسط لا يعد شرقيا كمرسية وبلنسية ولا غربيا كإشبيلية وبطليوس، بل هو في وسط الجزيرة الأندلسية مثل قرطبة؛ ولذلك سندخله إن شاء الله مع إقليم قرطبة في جزء خاص بهما. وليعلم القارئ اللبيب أن هذا الجزء الثالث هو الجزء المودع للإسلام في شرقي الأندلس؛ فجميع ما فيه من ذكر ملوك وأمراء وعلماء مسلمين ومساجد وحصون إسلامية قد انتهى في هذا الجزء الذي يتكلم على الإسلام وآثاره وأشخاصه وأشيائه في شرقي الأندلس إلى حد سنة 660 بالكثير؛ إذ بعدها خرج الحكم في تلك البقاع من يد الإسلام، وأخذ المسلمون الذين فيها بالمهاجرة إلى مملكة ابن الأحمر؛ أي غرناطة وتوابعها. ومنهم من هاجر إلى إفريقية رأسا كتونس والجزائر وتلمسان وفاس والرباط وتطوان وغيرها، وبقية منهم بقيت هناك، كانوا يلقبون بالمدجنين، ويقول لهم الإفرنج «الموريسك»، فقد كانوا يعملون في المزارع التي استولى عليها الإسبانيون، وكانت الزراعة زاهرة على أيديهم، فكان الإسبانيون لا يستغنون عنهم بحال؛ فبقيت بقاياهم تحت الدجن؛ أي حكم الإسبانيول، من أواسط القرن السابع للهجرة إلى القرن العاشر للهجرة؛ إذ أخرجوا عند ذلك بأسرهم، ولم يبق منهم إلا من تنصر وتفرنج واندمج اندماجا تاما في أمم النصرانية.
وإليك الآن وصف مختصر لما كانت عليه مملكة المسلمين قبل استصفاء الإسبانيول لها في شرقي الأندلس بقليل، ننقله عن «المعجب في تلخيص أخبار المغرب»، تأليف عبد الواحد المراكشي، فهو يقول في آخر كتابه: وأنا ذاكر بعد هذا ما بقي بأيدي المسلمين من البلاد، وعدد المراحل التي بينها، وقربها من البحر وبعدها؛ حتى يتبين ذلك إن شاء الله تعالى. فأول شيء يملكه المسلمون بجزيرة الأندلس اليوم حصن صغير على شاطئ البحر الرومي يسمى «بنشكلة» بينه وبين مدينة بلنسية ثلاث مراحل، وهذا الحصن مما يلي بلاد الروم، بينه وبين طرطوشة مرحلتان أو أكثر قليلا. ثم مدينة بلنسية، وهي مدينة في غاية الخصب واعتدال الهواء، كان أهل الأندلس يدعونها في ما سلف من الزمان مطيب الأندلس، والمطيب عندهم حزمة يعملونها من أنواع الرياحين، ويجعلون فيها النرجس والآس وغير ذلك من أنواع المشمومات؛ سموا بلنسية بهذا الاسم لكثرة أشجارها وطيب ريحانها.
وبين بلنسية هذه وبين البحر الرومي قريب من أربعة أميال، ثم بعدها مدينة تدعى شاطبة بينها وبينها مرحلتان. وبينهما مدينة صغيرة تدعى جزيرة الشقر، وسميت جزيرة لأنها في وسط نهر عظيم قد حف بها من جميع جهاتها، فلا طريق إليها إلا على القنطرة. ومن شاطبة هذه إلى مدينة دانية التي على ساحل البحر الرومي يوم تام. ومن شاطبة إلى مدينة مرسية ثلاثة أيام. ومن مرسية إلى البحر الرومي عشرة فراسخ. ومن مدينة مرسية إلى مدينة غرناطة سبع مراحل، وبين ذلك بلاد صغار أولها مما يلي مرسية حصن لرقة، ثم حصن آخر يدعى بلس، ثم حصن آخر يدعى قلية، ثم بليدة صغيرة تسمى بسطة، ثم بليدة أخرى على مسيرة من غرناطة تسمى وادي آش، ويقال لها أيضا: وادي الأشي، هكذا سمعت الشعراء ينطقون بها في أشعارهم؛ فهذه هي البليدات التي بين غرناطة ومرسية. انتهى.
قلت: هذا ما ذكره عبد الواحد المراكشي صاحب كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب، الذي انتهى من تأليفه لست بقين من جمادى الآخرة من سنة 621؛ أي قبل سقوط شرق الأندلس في أيدي الإسبان ببضع عشرة سنة، نقلنا منه أسماء البلاد المشهورة في شرق الأندلس الذي هو موضوع هذا الجزء.
ثم إننا نحب أن نذكر من سكن من بطون العرب وأفخاذها في شرق الأندلس، فمن هؤلاء بنو قاسم الأمراء الفضلاء، مرجعهم إلى فهر من قريش الظواهر، وكانوا في مدينة البونت عمل بلنسية. ومنهم أناس من بني كنانة، الذين منهم ابن جبير صاحب الرحلة، كانوا في شرقي الأندلس أيضا. وكان في أوريولة من بني هذيل ابن مدركة بن إلياس بن مضر، وبجوفي بلنسية من ينتسب إلى هوازن، وكل هؤلاء من العرب العدنانية. وكان في بلنسية كثير من المضرية.
وأما عرب اليمن فمنهم في شقورة بنو غافق من الأزد، وفي قبلي مرسية حي من طيء، وفي شرقي الأندلس كثير من جذام، منهم بنو هود الذين ملكوا سرقسطة مدة من الزمن. ومنهم بنو مردنيش يقولون إنهم من جذام، وبعض مؤرخي الإفرنج يرجحون أنهم من أصل إسبانيولي، وأن أصل مردنيش هو مرتينيس
Martinez ، ولكنهم جعلوا أنفسهم بطول الوقت عربا؛ لتكون لهم عصبية تساعدهم على الملك. وفي أندة بالقرب من بلنسية كثير من قضاعة. وفي مرسية كثير من عرب حضرموت. وكان الجنس البربري قليلا جدا في شرق الأندلس، وأكثرهم كانوا في الجبال؛ فكانت العروبة التامة غالبة على الشرق، وكان مع ذلك أكثر البربر قد استعربوا واندمجوا في العرب حتى لا يفرق الإنسان بين العرب والبربر. وجاء في كتاب «الجمان في أخبار الزمان» أن بربر الأندلس كان منهم أمراء وقواد وقضاة وعلماء وكتاب للملوك وكثير من رجال الشرع. وأشهر قبائلهم في الأندلس صنهاجة وزناتة ويفرن وهيلان وبنو الخزر وبنو عوسجة وبنو زروال وبنو رزين أمراء شنتمرية الشرق، وفي تطوان اليوم عائلة يقال لها بنو رزين يترجح أنهم من ذريتهم.
وفي شرقي الأندلس كثير من الأزد؛ فإن كثيرا من العلماء والأعيان يأتي في نسبته «الأنصاري»، وإذا قرأ القارئ تراجم علماء بلنسية ومرسية وشاطبة ودانية وغيرها من مدن شرقي الأندلس، تجلى له وشيج عروق العربية في ذلك الصقع بشكل عجيب، فضلا عما يتجلى له من كثرة عدد العلماء، والأدباء، والشعراء، وحفاظ كتاب الله والقراء، وفحول اللغة، مما قد زال كله تدريجا بتقلص ظل الإسلام عن الأندلس، ورجوعه من حيث أتى، وانحطاطه من حيث علا، بما كسبت أيدي أبنائه واستولى عليهم من التنازع والتخاذل، كما سيأتي تفصيله في باب التاريخ؛ فقضوا على أنفسهم بأنفسهم
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال .
مراثي الأندلس
والآن نختم هذا الفصل الذي هو خاتمة هذا الجزء بذكر مراثي الأندلس، بادئين بمراثي بلنسية، التي أشهرها سينية صاحب التكملة ابن الأبار القضاعي، وهي التي أنشدها السلطان أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس، موفدا من قبل البلنسيين إلى الملك الحفصي بالصريخ؛ فاهتز لها وأرسل أسطوله إلى بحر بلنسية، إلا أنه لم يفز بطائل، واستولى العدو على تلك البلد
وكان أمر الله قدرا مقدورا .
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا
إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست
فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وحاش مما تعانيه حشاشتها
فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا
للحادثات وأمسى جدها تعسا
في كل شارقة إلمام بائقة
يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكل غاربة إجحاف نائبة
تثني الأماني حذارا والسرور أسى
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم
إلا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها وقرطبة
ما يذهب النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلها الإشراك مبتسما
جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا
وصيرتها العوادي العائثات بها
يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا
فمن دساكر كانت دونها حرسا
ومن كنائس كانت قبلها كنسا
يا للمساجد عادت للعدا بيعا
وللنداء غدا أثناءها جرسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها
مدارسا للمثاني أصبحت درسا
وأربعا نمنمت أيدي الربيع لها
ما شئت من خلع موشية وكسى
كانت حدائق للأحداق مونقة
فصوح النضر من أدواحها وعسا
وحال ما حولها من منظر عجب
يستجلس الركب أو يستركب الجلسا
سرعان ما عاث جيش الكفر وا حربا
عيث الدبا في مغانيها التي كبسا
وابتز بزتها مما تحيفها
تحيف الأسد الضاري لما افترسا
فأين عيش جنيناه بها خضرا
وأين غصن حنيناه بها سلسا
محا محاسنها طاغ أتيح لها
ما نام عن هضمها حينا ولا نعسا
ورج أرجاءها لما أحاط بها
فغادر الشم من أعلامها خنسا
خلا له الجو فامتدت يداه إلى
إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا
وأكثر الزعم بالتثليث منفردا
ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
صل حبلها أيها المولى الرحيم فما
أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا
وأحي ما طمست منها العداة كما
أحييت من دعوة المهدي ما طمسا
أيام صرت لنصر الحق مستبقا
وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا
وقمت فيها بأمر الله منتصرا
كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا
تمحو الذي كثف التجسيم من ظلم
والصبح ماحية أنواره الغلسا
وتقتضي الملك الجبار مهجته
يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا
هذي رسائلها تدعوك من كثب
وأنت أفضل مرجو لمن يئسا
وافتك جارية بالنجح راجية
منك الأمير الرضا والسيد الندسا
خاضت خضارة يعليها ويخفضها
عبابه فتعاني اللين والشرسا
وربما سبحت والريح عاتية
كما طلبت بأقصى شدة الفرسا
تؤم يحيى بن عبد الواحد بن أبي
حفص مقبلة من تربه القدسا
ملك تقلدت الأملاك طاعته
دينا ودنيا فغشاها الرضا لبسا
من كل غاد على يمناه مستلما
وكل صاد إلى نعماه ملتمسا
مؤيد لو رمى نجما لأثبته
ولو دعا أفقا لبى وما احتبسا
أمارة يحمل المقدار رايتها
ودولة عزها يستصحب القعسا
يبدي النهار بها من ضوئه شنبا
ويطلع الليل من ظلمائه لعسا
ماضي العزيمة والأيام قد نكلت
طلق المحيا ووجه الدهر قد عبسا
كأنه البدر والعلياء هالته
تحف من حوله شهب القنا حرسا
تدبيره وسع الدنيا وما وسعت
وعرف معروفه وأسى الورى وأسا
قامت على العدل والإحسان دولته
وأنشرت من وجود الجو ما رمسا
مبارك هديه باد سكينته
ما قام إلا إلى حسنى وما جلسا
قد نور الله بالتقوى بصيرته
فما يبالي طروق الخطب ملتبسا
يرى العصاة وراش الطائعين فقل
في الليث مفترسا والغيث مرتجسا
فرب أصيد لا تلفى به صيدا
ورب أشوس لا تلقى له شوسا
إلى الملائك ينمى والملوك معا
في نبعة أثمرت للمجد ما غرسا
من ساطع النور صاغ الله جوهره
وصان صيقله أن يقرب الدنسا
له الثرى والثريا خطتان فلا
أعز من خطتيه ما سما ورسا
حسب الذي باع في الأخطار يركبها
إليه محياه أن البيع ما وكسا
إن السعيد امرؤ ألقى بحضرته
عصاه محترما بالعدل محترسا
فظل يوطن من أرجائها حرما
وبات يوقد من أضوائها قبسا
بشرى لعبد إلى الباب الكريم حدا
آماله ومن العذب المعين حسا
كأنما يمتطي واليمن يصحبه
من البحار طريقا نجوه يبسا
فاستقبل السعد وضاحا أسرته
في صفحة فاض منها النور وانعكسا
وقبل الجود طفاحا غواربه
من راحة غاص فيها البحر وانغمسا
يا أيها الملك المنصور أنت لها
علياء توسع أعداء الهدى تعسا
وقد تواترت الأنباء أنك من
يحيي بقتل ملوك الصفر أندلسا
طهر بلادك منهم إنهم نجس
ولا طهارة ما لم تغسل النجسا
وأوطئ الفيلق الجرار أرضهم
حتى يطأطئ رأسا كل من رأسا
وانصر عبيدا بأقصى شرقها شرقت
عيونهم أدمعا تهمي زكا وخسا
هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت
داء متى لم تباشر حسمه انتكسا
فاملأ هنيئا لك التأييد ساحتها
جردا سلاهب أو خطية دعسا
واضرب بها موعدا بالفتح ترقبه
لعل يوم الأعادي قد أتى وعسا
مرثية مجهولة القائل
وهذه المرثية التي لم يذكر في نفح الطيب قائلها:
نادتك أندلس فلب نداءها
واجعل طواغيت الصليب فداءها
صرخت بدعوتك العلية فاحبها
من عاطفاتك ما يقي حوباءها
واشدد بجلبك جرد خيلك أزرها
تردد على أعقابها أرزاءها
هي دارك القصوى أوت لإيالة
ضمنت لها مع نصرها إيواءها
وبها عبيدك لا بقاء لهم سوى
سبل الضراعة يسلكون سواءها
خلعت قلوبهم هناك عزاءها
لما رأت أبصارهم ما ساءها
دفعوا لأبكار الخطوب وعونها
فهم الغداة يصابرون عناءها
وتنكرت لهم الليالي فاقتضت
سراءها وقضتهم ضراءها
تلك الجزيرة لا بقاء لها إذا
لم يضمن الفتح القريب بقاءها
رش أيها المولى الرحيم جناحها
واعقد بأرشية النجاة رشاءها
أشفى على طرف الحياة ذماؤها
فاستبق للدين الحنيف ذماءها
حاشاك أن تفنى حشاشتها وقد
قصرت عليك نداءها ورجاءها
طافت بطائفة الهدى آمالها
ترجو بيحيى المرتضى إحياءها
واستشرفت أمصارها لإمارة
عقدت لنصر المستضام لواءها
يا حسرتى لعقائل معقولة
سئم الهدى نحو الضلال هداءها
إيه بلنسية وفي ذكراك ما
يمري الشئون دماءها لا ماءها
كيف السبيل إلى احتلال معاهد
شب الأعاجم دونها هيجاءها
وإلى ربا وأباطح لم تعر من
حلل الربيع مصيفها وشتاءها
طاب المعرس والمقيل خلالها
وتطلعت غرر المنى أثناءها؟!
بأبي مدارس كالطلول دوارس
نسخت نواقيس الصليب نداءها
ومصانع كسف الضلال صباحها
فيخاله الرائي إليه مساءها
ناحت به الورقاء تسمع شدوها
وغدت ترجع نوحها وبكاءها
عجبا لأهل النار حلوا جنة
منها تمد عليهم أفياءها
أملت لهم فتعجلوا ما أملوا
أيامهم لا سوغوا إملاءها
بعدا لنفس أبصرت إسلامها
فتوكفت عن حزبها إسلاءها
أما العلوج فقد أحالوا حالها
فمن المطيق علاجها وشفاءها
أهدى إليها بالمكاره جارح
للكفر كره ماءها وهواءها
وكفى أسى أن الفواجع جمة
فمتى يقاوم أسوها أسواءها
مولاي هاك معادة أنباءها
لتنيل منك معادة أبناءها
جرد ظباك لمحو آثار العدا
تقتل ضراغمها وتسب ظباءها
واستدع طائفة الإمام لغزوها
تسبق إلى أمثالها استدعاءها
لا غرو أن يعزى الظهور لملة
لم يبرحوا دون الورى ظهراءها
إن الأعاجم للأعارب نهبة
مهما أمرت بغزوها أحياءها
تالله لو دبت لها أدبابها
لطوت عليها أرضها وسماءها
ولو استقلت عوفها لقتالها
لاستقبلت بالمقربات عفاءها
أرسل جوارحها تجئك بصيدها
صيدا وناد لطحنها أرحاءها
هبوا لها يا معشر التوحيد قد
آن الهبوب وأحرزوا علياءها
إن الحفائظ من خلالكم التي
لا يرهب الداعي بهن خلاءها
هي نكتة المحيا فحيهلا بها
تجدوا سناها في غد وسناءها
أولوا الجزيرة نصرة إن العدا
تبغي على أقطارها استيلاءها
نقصت بأهل الشرك من أطرافها
فاستحفظوا بالمؤمنين نماءها
حاشاكم أن تضمروا إلغاءها
في أزمة أو تضمروا إقصاءها
خوضوا إليها بحرها يصبح لكم
رهوا وجوبوا نحوها بيداءها
وافي الصريخ مثوبا يدعو لها
فلتعلموا قصد الثواب ثواءها
دار الجهاد فلا تفتكم ساحة
ساوت بها أحياؤها شهداءها
هذي رسائلها تناجي بالتي
وقفت عليها ريثها ونجاءها
ولربما أنهت سوالب للنهى
من كائنات حملت إنهاءها
وفدت على الدار العزيزة تجتني
آلاءها أو تجتلي آراءها
مستسقيات من غيوث غياثها
ما وقعه يتقدم استسقاءها
قد أمنت في سبلها أهواءها
إذ سوغت في ظلها أهواءها
وبحسبها أن الأمير المرتضى
مترقب بفتوحها آناءها
في الله ما ينويه من إدراكها
بكلاءة يفدي أبي أكلاءها
بشرى لأندلس تحب لقاءه
ويحب في ذات الإله لقاءها
صدق الرواة المخبرون بأنه
يشفي ضناها أو يعيد رواءها
إن دوخ العرب الصعاب مقادة
وأبى عليها أن تطيع إباءها
فكأن بفيلقه العرمرم فالقا
هام الأعاجم ناسفا أرجاءها
أنذرهم بالبطشة الكبرى فقد
نذرت صوارمه الرقاق دماءها
لا يعدم الزمن انتصار مؤيد
تتسوغ الدنيا به سراءها
ملك أمد النيرين بنوره
وأفاده لألاؤه لألاءها
خضعت جبابرة الملوك لعزه
ونضت بكف صغارها خيلاءها
أبقي أبو حفص إمارته له
فسما إليها حاملا أعباءها
سل دعوة المهدي عن آثاره
تنبيك أن ظباه قمن إزاءها
فغزا عداها واسترق رقابها
وحمى حماها واسترد بهاءها
قبضت يداه على البسيطة قبضة
قادت له في قده أمراءها
فعلى المشارق والمغارب ميسم
لهداه شرف وسمه أسماءها
تطمو بتونسها بحار جيوشه
فيروز زاخر موجها زوراءها
وسع الزمان فضاق عنه جلالة
والأرض طرا ضنكها وفضاءها
ما أزمع الإيغال في أكنافها
إلا تصيد عزمه زعماءها
دانت له الدنيا وشم ملوكها
فاحتل من رتب العلاء سماءها
ردت سعادته على أدراجها
ليل الزمان ونهنهت علداءها
1
إن يعتم
2
الدول العزيزة بأسه
فالآن يولي جوده إعطاءها
تقع الجلائل وهو راس راسخ
فيها يوقع للسعود جلاءها
كالطود في عصف الرياح وقصفها
لا رهوها يخشى ولا هوجاءها
سامي الذوائب في أعز ذؤابة
أعلت على قمم النجوم بناءها
بركت بكل محلة بركاته
شفعا يبادر بذلها شفعاءها
كالغيث صب على البسيطة صوبه
فسقى عمائرها وجاد قواءها
ينميه عبد الواحد الأرضي إلى
عليا فتمنح بأسها وسخاءها
في نبعة كرمت وطابت مغرسا
وسمت وطالت نضرة نظراءها
ظهرت لمحتدها السماء وجاوزت
لسرادقات فخارها جوزاءها
فئة كرام لا تكف عن الوغى
حتى تصرع حولها أكفاءها
وتكب في نار القرى فوق الذرا
من عزة ألويها
3
وكباءها
قد خلقوا الأيام طيب خلائق
فثنت إليهم حمدها وثناءها
ينضون في طلب النفائس أنفسا
حبسوا على إحرازها إمضاءها
وإذا انتضوا يوم الكريهة بيضهم
أبصرت فيهم قطعها ومضاءها
قوم الأمير فمن يقوم بمالهم
من صالحات أفحمت شعراءها
صفحا جميلا أيها الملك الرضي
عن محكمات لم نطق إحصاءها
تقف القوافي دونهن حسيرة
لا عيها تخفي ولا إعياءها
فلعل علياكم تسامح راجيا
إصفاءها ومؤملا إغضاءها
وفي فاجعة بربشتر يقول الفقيه الزاهد ابن العسال من قصيدة:
ولقد رمانا المشركون بأسهم
لم تخط لكن شأنها الإصماء
هتكوا بخيلهم قصور حريمها
لم يبق لا جبل ولا بطحاء
جاسوا خلال ديارهم فلهم بها
في كل يوم غارة شعواء
باتت قلوب المسلمين برعبهم
فحماتنا في حوبهم جبناء
كم موضع غنموه لم يرحم به
طفل ولا شيخ ولا عذراء
ولكم رضيع فرقوا من أمه
فله إليها ضجة وبغاء
ولرب مولود أبوه مجدل
فوق التراب وفرشه البيداء
ومصونة في خدرها محجوبة
قد أبرزوها ما لها استخفاء
وعزيز قوم صار في أيديهم
فعليه بعد العزة استخذاء
لولا ذنوب المسلمين وأنهم
ركبوا الكبائر ما لهن خفاء
ما كان ينصر للنصارى فارس
أبدا عليهم فالذنوب الداء
فشرارهم لا يختفون بشرهم
وصلاح منتحلي الصلاح رياء
نثر ابن الأبار فى التأسف على سقوط بلنسية
ولما سقطت بلنسية في أيدي الإسبان، واستولى عليها ملك أراغون، أكثر أدباؤها بكاءها والتأسف عليها نظما ونثرا؛ فمن ذلك قول الكاتب أبي المطرف بن عميرة، خاطب به الكاتب أبا عبد الله بن الأبار، جوابا عن رسالة (ورد ذلك في الروض المعطار):
طارحني حديث مورد جف وقطين خف، فيا لله لأتراب درجوا وأصحاب عن الأوطان خرجوا، قصت الأجنحة، وقيل: طيروا. وإنما هو القتل أو الأمر أو تسيروا. فتفرقوا أيدي سبا، وانتشروا ملء الوهاد والربا؛ ففي كل جانب عويل وزفره، وبكل صدر غليل وحسره، ولكل عين عبرة لا ترقأ من أجلها عبره. داء خامر بلادنا حين أتاها، وما زال بها حتى سجى على موتاها، وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها. وأنذر بها في القوم بحران أنيجه، يوم أثاروا أسدها المهيجه. فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب. أثكلتنا إخوانا أبكانا نعيهم، فلله أحوذيهم وألمعيهم. ذاك أبو ربيعنا، وشيخ جميعنا، سعد بشهادة يومه، ولم ير ما يسوءه في أهله وقومه.
وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق. وما لبث أن خرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان؛ فبرح الخفاء، وقيل على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاء. وأودت الخفة والحصافه. وذهب الجسر والرصافه ، ومزقت الحلة والسهله، وأوحشت الحرف والرمله، ونزلت بالحارة وقعة الحره، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظباءها على طول الحسره. فأين تلك الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها، والأصائل وشحوب معتلها؟ دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها.
ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطت بجزيرة شقرها؛ فآها لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كلمه! وبالجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها، وروضة أجاد أبو إسحاق نعتها، وإنما كانت داره التي فيها دب، وعلى أوصاف محاسنها ألب، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب، ولم يعد بعد محبين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه.
وله من رسالة أخرى في المعنى:
ثم ردف الخطاب الثاني بقاصمة المتون، وقاضية المنون، ومضمرة نار السجون، ومذرية ماء الشئون. وهو الحادث في بلنسية دار النحر، وحاضرة البر والبحر، ومطمح أهل السياده، ومطرح شعاع البهجة والنضاده. أودى الكفر بإيمانها، وأبطل الناقوس صوت أذانها. ودهاها الخطب الذي أنسى الخطوب، وأذاب القلوب. وعلم سهام الأحزان أن تصيب، ودموع الأجفان أن تصوب، فيا ثكل الإسلام! ويا شجو الصلاة والصيام! يوم الثلاثاء، وما يوم الثلاثاء؟ يا ويح الداهية الدهياء، وتأخير الأقدام عن موقف العزاء! أين الصبر وفؤادي أنسيه، لم يبق لقومي على الرمي سيه، هيهات تجد لما مضى من تنسيه، من بعد مصاب حل في بلنسية.
يا طول هذه الحسره! ألا جابر لهذه الكسره؟ أكل أوقاتنا ساعة العسره؟ أخي! أين أيامنا الخوالي؟ وليالينا على التوالي؟ ولأية عيش نعم بها الوالي؟ ومسندات أنس يعدها الرواة من الغوالي؟ بعدا لك يا يوم الثلاثاء من صفر، ما ذنبك عندي بشيء يغتفر، قد أشمت بالإسلام حزب من كفر، من أين لنا المفر؟ كلا لا مفر.
كل رزء في هذا الرزء يندرج، وقد اشتدت الأزمة فقل لي متى تنفرج. كيف انتفاعنا بالضحى والأصائل؟ إذا لم يعد ذلك النسيم الأرج، ليس لنا إلا التسليم، والرضا بما قضاه الخلاق العليم.
وقال في رسالة أخرى في المعنى:
وأجريت خبر الحادثة التي محقت بدر التمام، وذهبت بنضارة الأيام، فيا من حضر يوم البطشه، وعزي في أنسه بعد تلك الوحشه! أحقا أنه دكت الأرض، ونزف المعين والبرض، وصوح روض المنى، وصرح الخطب وما كنى؟ أبن لي كيف فقدت رجاحة الأحلام، وعقدت مناحة الإسلام، وجاء اليوم العسر، وأوقدت نار الحزن فلا تزال تستعر. حلم ما نرى؟ بل ما رأى ذا حالم. طوفان يقال عنده لا عاصم. من ينصفنا من الزمان الظالم؟ الله بما يلقى الفؤاد عالم. بالله أي نحو تنحو، ومسطور تثبت وتمحو؟! وقد حذف الأصلي والزائد، وذهبت الصلة والعائد، وباب التعجب طال، وحال البائس لا تخشى الانتقال، وذهبت علامة الرفع، وفقدت سلامة الجمع، والمعتل أعدى الصحيح، والمثلث أردى الفصيح. وامتنعت العجمة من الصرف، وأمنت زيادتها من الحذف. ومالت قواعد المله، وصرنا إلى جمع القله. وللشرك صيال وتخمط، ولقرنه في شركه تخبط. وقد عاد الدين إلى غربته، وشرق الإسلام بكربته. كأن لم يسمع بنصر ابن نصير، وطرق طارق بكل خير، ونهشات حنش.
4
وكيف أعيت الرقى، وأزالت بليل السليم يوم الملتقى. ولم تخبر عن المروانية وصوائفها، وفتى معافر
5
وتعفيره للأوثان وطوائفها. لله ذلك السلف! لقد طال الأسى عليهم والأسف.
وقال في رسالة أخرى:
وما الذي نبغيه، وأي أمل لا نطرحه ونلغيه، بعد الحادثة الكبرى، والمصيبة التي كل كبد لها حرى، وكل عين من أجلها عبرى؟! لكن هو القضاء لا يرد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ومما قاله في ذلك من المنظوم قوله:
ما بال دمعك لا يني مدراره
أم ما لقلبك لا يقر قراره
أللوعة بين الضلوع لظاعن
سارت ركائبه وشطت داره
أم للشباب تقاذفت أوطانه
بعد الدنو وأخفقت أوطاره
أم للزمان أتى بخطب فادح
من مثل حادثه خلت أعصاره
بحر من الأحزان عب عبابه
وارتج ما بين الحشا زخاره
في كل قلب منه وجد عنده
أسف طويل ليس تخبو ناره
أما بلنسية فمثوى كافر
حفت به في عقرها كفاره
زرع من المكروه حل حصاده
عند الغدو غداة لج حصاره
وعزيمة للشرك جعجع بالهدى
أنصارها إذ خانه أنصاره
قل كيف تثبت بعد تمزيق العدا
آثاره أم كيف يدرك ثاره
ما كان ذاك المصر إلا جنة
للحسن تجري تحته أنهاره
طابت بطيب بهاره آصاله
وتعطرت بنسيمه أشجاره
أما السرار فقد غداه وهل سوى
قمر السماء يزول عنه سراره
قد كان يشرق بالهداية ليله
والآن أظلم بالضلال نهاره
ودجا به ليل الخطوب بصحبه
أعيا على أبصارنا أسفاره
ومما صدر عن الكاتب أبي عبد الله محمد بن الأبار في ذلك من رسالة:
وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد أسلمها الإسلام وانتظمها الانتثار والاصطلام حين وقعت أنسرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن.
كزعزع الريح صك الدوح عاصفها
فلم يدع من جنى فيها ولا غصن
واها وواها يموت الصبر بينهما
موت المحامد بين البخل والجبن
أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد ورقها وأغانيها؟ أين حلي رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها؟ أين أفياؤها تندى غضاره، وركاؤها تبدو من خضاره؟ أين جداولها الطفاحة وخمائلها؟ أين جنائبها النفاحة وشمائلها. شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرها، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها، فأية حيلة لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان؟ وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان؟! ثم لم يلبث داء عقرها أن دب إلى جزيرة شقرها، فأمر عذبها النمير، وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها، ومع ذلك اقتحمت دانية، فنزحت قطوفها وهي دانية، وبالشاطبة وبطائحها، من حيف الأيام وإنحائها، وا لهفاه ثم لهفاه على تدمير وتلاعها، وجيان وقلاعها، وقرطبة ونواديها، وحمص وواديها، كلها رعي كلؤها، ودهي بالتفريق والتمزيق ملؤها، عض الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها، وتلك ألبيرة بصدد البوار وريه، في مثل حلقة السوار لا مرية في المرية وخفضها على الجوار إلى بنيات لواحق بالأمهات، ونواطق بهاك لأول ناطق بهات.
ما هذا النفخ بالمعمور؟ أهو النفخ في الصور، أم النفر عاريا من الحج المبرور؟ ومالأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها، قوض عن صوامعها الأذان، وصمت بالنواقيس فيها الآذان؟ أجنت ما لم تجن الأصقاع؟! أعقت الحق فحاق بها الإيقاع؟! كلا بل دانت للسنه، وكانت من البدع في أحسن جنه. هذه المروانية مع اشتداد أركانها وامتداد سلطانها، ألقت حب آل النبوة في حبات القلوب، وألوت ما ظفرت من خلعة ولا قلعة بمطلوب، إلى المرابطة بأقاصي الثغور والمحافظة على معالي الأمور، والركون إلى الهضبة المنيعة، والروضة المريعة، فليت شعري بم استوثق تمحيصها، ولم تعلق البلوى تخصيصها؟ اللهم غفرا! طالما ضر ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر، جرى بما لم تقدره المقدور، فما عسى أن ينفث به المصدور، وربنا الحكيم العليم. فحسبنا التفويض له والتسليم. ويا عجبا لبني الأصفر! أنسيت مرج الصفر ورميها يوم اليرموك بكل أغلب غضنفر؟ دع ذا فالعهد به بعيد، ومن اتعظ بغيره فهو سعيد.
نونية أبي البقاء الرندي
وهذه النونية التي فاقت في الشهرة قفا نبك، ولم يعهد الناس مرثية بلغت ما بلغته من إثارة الحفائظ، وإرهاف العواطف، فضلا عن إبداع النظم وإحسان السبك، للعلامة خاتمة أدباء الأندلس صالح بن شريف الرندي المعروف بأبي البقاء الرندي:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
يمزق الدهر حتما كل سابغة
إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو
كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن
وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شاده شداد في إرم
وأين ما ساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهب
وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له
حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من ملك ومن ملك
كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على دارا وقاتله
وأم كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب
يوما ولا ملك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة
وللزمان مسرات وأحزان
وللحوادث سلوان يسهلها
وما لما حل بالإسلام سلوان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له
هوى له أحد وانهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فارتزأت
حتى خلت منه أقطار وبلدان
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية
وأين شاطبة أم أين جيان؟
وأين قرطبة دار العلوم فكم
من عالم قد سما فيها له شان!
وأين حمص وما تحويه من نزه
ونهرها العذب فياض وملآن؟
قواعد كن أركان البلاد فما
عسى البقاء إذا لم تبق أركان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف
كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية
قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما
فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
حتى المنابر ترثي وهي عيدان
يا غافلا وله في الدهر موعظة
إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشيا مرحا يلهيه موطنه
أبعد حمص تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها
وما لها مع طول الدهر نسيان
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة
كأنها في مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة
كأنها في ظلام النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة
لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس
فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم
قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ما ذا التقاطع في الإسلام بينكم
وأنتم يا عباد الله إخوان
ألا نفوس أبيات لها همم
أما على الخير أنصار وأعوان؟
يا من لذلة قوم بعد عزهم
أحال حالهم كفر وطغيان!
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم
واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم
عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم
لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما
كما تفرق أرواح وأبدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت
كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة
والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
مرثية أبي جعفر بن خاتمة
ومن مراثي الأندلس الجديرة بالحفظ هذه المرثية للأديب أبي جعفر بن خاتمة، تاريخ نظمها 904 أو 905 للهجرة؛ أي في أثناء سقوط غرناطة، وكانت رندة قد سقطت من قبل. وقد أصبت هذه القصيدة عند الأخ الفاضل السيد عز الدين علم الدين التنوخي ناموس المجمع العلمي العربي، وذلك عند حصولي بدمشق سنة 1356.
أحقا خبا من جو رندة نورها
وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت
منازلها ذات العلا وقصورها
أحقا خليلي أن رندة أقفرت
وأزعج عنها أهلها وعشيرها
وهدت مبانيها وثلت عروشها
ودارت على قطب التفرق دورها
منازل آبائي الكرام ومنشئي
وأول أوطان غذاني خيرها
فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة
قد استفرغت ذبحا وقتلا حجورها
وجزت نواصيها وشلت يمينها
وبدل بالويل المبين سرورها
وقد كانت الغربية الجنن التي
تقيها فأضحى جنة الحرب سورها
وبلش
6
قطت رجلها بيمينها
ومن سريان الداء بان فطورها
وضحت على تلك الثنيات حجرها
فأقفر مغناها وطاشت حجورها
وبالله إن جئت المنكب
7
فاعتبر
فقد خف ناديها وجف نضيرها
وقد رجفت وادي الأشى
8
فبقاعها
سكارى وما استاكت بخمر ثغورها
وبسطة
9
ذات البسط ما شعرت بما
دهاها وأنى يستقيم شعورها
وما أنس لا أنس المرية
10
إنها
قتيلة أدجال أزيل عذيرها
ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم
قد ارتج باديها وضج حضورها
بدار العلا حيث الصفات كأنها
من الخلد والمأوى غدت تستطيرها
محل قرار الملك غرناطة التي
هي الحضرة العليا زهتها زهورها
ترى للأسى أعلامها وهي خشع
ومنبرها مستعبر وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها
وزائرها في مأتم ومزورها
وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا
جيوش كموج البحر هبت دبورها
علامات أخذ ما لنا قبل بها
جنايات أخذ قد جناها مثيرها
فلا تنمحي إلا بمحو أصولها
ولا تنجلي حتى تحط أصورها
معاشر أهل الدين هبوا لصعقة
وصاعقة وارى الجسوم ظهورها
أصابت منار الدين فانهد ركنه
وزعزع من أكنافها مستطيرها
ألا واستعدوا للجهاد عزائما
يلوح على ليل الوغى مستنيرها
بأسد على جرد من الخيل سبق
يدع الأعادي سبقها وزئيرها
بأنفس صدق موقنات بأنها
إلى الله من تحت السيوف مصيرها
فوا حسرتا كم من مساجد حولت
وكانت إلى البيت الحرام سطورها
ووا أسفا كم من صوامع أوحشت
وقد كان معتاد الأذان يزورها
فمحرابها يشكو لمنبرها الجوى
وآياتها تشكو الفراق وصورها
وكم طفلة حسناء فيها مصونة
إذا أسفرت يسبي العقول سفورها
تميل كغصن البان مالت به الصبا
وقد زانها ديباجها وحريرها
فأضحت بأيدي الكافرين رهينة
وقد هتكت بالرغم منها ستورها
قد وصف صاحب هذه القصيدة سقوط مملكة بني الأحمر مدينة بعد مدينة، وكانت صبابة كأس الأندلس، فذكر رندة، ثم مالقة وبلش، ثم المنكب، ثم وادي آش، ثم بسطة، ثم المرية، وختم ابن خاتمة مناحته بذكر غرناطة أم البلاد. ومن نسق نظمها يظهر أنه كان مشاهدا تلك الحوادث القاصمة للظهور، وأن البيان كان عن عيان.
وبينما أنا أختم هذا الجزء وأهيئه للطبع إذ اطلعت في جريدة الصفاء سنة 1939 على قصيدة مؤثرة في رثاء الأندلس، وذكرى أيامها الخالية لأبي الفضل الوليد بن طعمة من أدباء إخواننا المسيحيين اللبنانيين، فأحببت تخليدها في هذا الكتاب لمكانها من النخوة الأدبية والنزعة العربية، وهي:
يا أرض أندلس الخضراء حيينا
لعل روحا من الحمراء تحيينا
عادت إلى أهلها تشتاق فتيتها
فأسمعت من غناء الحب تلحينا
كانت لنا فعنت تحت السيوف لهم
لكن حاضرها رسم لماضينا
في عزنا اكتسبت منا فصورتنا
محفوظة أبدا فيها تعزينا
لا بدع إن نشقتنا من أزاهرها
طيبا فإنا ملأناها رياحينا
وإن طربنا لألحان نرددها
فإنها أخذت عنا أغانينا
في البرتغال وإسبانية ازدهرت
آدابنا وسمت دهرا مبانينا
وفي صقلية الآثار ما برحت
تبكي التمدن حينا والعلا حينا
كم من قصور وجنات مزخرفة
فيها الفنون جمعناها أفانينا
وكم صروح وأبراج ممردة
زدنا بها الملك توطيدا وتمكينا
وكما مساجد أعلينا مآذنها
فأطلعت أنجما منها معالينا
تلك البلاد استمدت من حضارتنا
ما أبدعته وأولته أيادينا
فيها النفائس جاءت من صناعتنا
ومن زراعتنا صارت بساتينا
فأجدبت بعدنا واستوحشت زمنا
تصبو إلينا وتبكي من تنائينا
أيام كانت قصور الملك عالية
كان الفرنج إلى الغابات آوينا
وحين كنا نجر الخز أردية
كانوا يسيرون في الأسواق عارينا
جاءت من الملأ الأعلى قصائدنا
والروم قد أخذوا عنا قوافينا
لم يعرفوا العلم إلا من مدارسنا
ولا الفروسة إلا من مجارينا
أعلى الممالك داستها جحافلنا
وسرحت خيلنا فيها سراحينا
تلك الجياد بأبطال الوغى قطعت
جبال برنات وانقضت شواهينا
في أرض إفرنسة القصوى لها أثر
قد زاده الدهر إيضاحا وتبيينا
داست حوافرها ثلجا كما وطئت
رملا وخاضت عبابا في مغازينا
كسرى وقيصر قد فرت جيوشهما
للمرزبان وللبطريق شاكينا
حيث العمامة بالتيجان مزرية
من يوم يرموك حتى يوم حطينا
وللعروش طواف بالسرير إذا
قام الخليفة يعطي الناس تأمينا
بعد الخلافة ضاعت أرض أندلس
وما وفى العرب الدنيا ولا الدينا
الملك أصبح دعوى في طوائفهم
واستمسكوا بعرى اللذات غاوينا
وكل طائفة قد بايعت ملكا
لم يلف من غارة الإسبان تحصينا
وهكذا يفقد السلطان هيبته
إن أكثر الناس بالفوضى السلاطينا
تلك المساجد صارت للعدا بيعا
بعد الأئمة لا تهوى الرهابينا
هل ترجعن لنا يا عهد قرطبة
فكيف نبكي وقد جفت مآقينا
ذبلت زهرا ومن ذياك نشوتنا
وإن ذكراك في البلوى تسلينا
ما كان أعظمها للملك عاصمة
وكان أكثرها للعلم تلقينا
لم يبق منها ومن ملك ومن دول
إلا رسوم وأطياف تباكينا
والدهر ما زال في آثار نعمتها
يروي حديثا به يشجو أعادينا
أين الملوك بنو مروان ساستها
يصحون قاضين أو يمسون غازينا
وأين أبناء عباد ورونقهم
وهم أواخر نور في دياجينا
يا أيها المسجد العالي بقرطبة
هلا تذكرك الأجراس تأذينا
تلك القصور من الزهراء طامسة
وبالتذكر نبنيها فتبنينا
على الممالك منها أشرفت شرف
والملك يعشق تشييدا وتزيينا
وعبد رحمانها يلهو بزخرفها
والفن يجمع فيها الهند والصينا
كانت حقيقة سلطان ومقدرة
فأصبحت في البلى وهما وتخمينا
عمائم العرب الأمجاد ما برحت
على المطارف بالتمثيل تصبينا
وفي المحاريب أشباح تلوح لنا
وفي المنابر أصوات تنادينا
يا برق طالع قصورا أهلها رحلوا
وحي أجداث أبطال منيخينا
أهكذا كانت الحمراء موحشة
إذ كنت ترقب أفواج المغنينا
وللبرود حفيف فوق مرمرها
وقد تضوع منها مسك دارينا
ويا غمام افتقد جنات مرسية
ورد من زهرها وردا ونسرينا
وأمطر النخل والزيتون غادية
والتوت والكرم والرمان والتينا
أوصيك خيرا بأشجار مباركة
لأنها كلها من غرس أيدينا
كنا الملوك وكان الكون مملكة
فكيف بتنا المماليك المساكينا
وفي رقاب العدا انفلت صوارمنا
واليوم قد نزعوا منا السكاكينا
وكان الفراغ من طبع هذا الجزء الثالث من كتابنا «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية» في رجب سنة 1358 وفق أغسطس سنة 1939، وذلك بمطبعة السادة عيسى البابي الحلبي وشركائه بمصر. ويليه الجزء الرابع الذي هو أهم أجزاء هذا التأليف؛ ففيه سيدور الكلام على قرطبة أم الأندلس وعلى أواسط الجزيرة الأندلسية كجيان وبياسة وبيانة وماردة وقلعة رباح، وغيرها من البلاد المتوسطة. وكما أحسن الله فيما مضى يحسن فيما بقي بكرمه تعالى ومنه.
هوامش
صفحه نامشخص